surah_name
stringclasses 113
values | revelation_type
stringclasses 2
values | ayah
stringlengths 2
1.15k
| tafsir_book
stringclasses 84
values | tafsir_content
stringlengths 0
644k
|
---|---|---|---|---|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) | قوله عَزَّ وَجَلَّ: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }؛ أي شكٌّ ونفاق، وسمي النفاق مرضاً لأنه يهلكُ صاحبه؛ ولأنه يضطربُ في الدِّين يوالِي المؤمنينَ باللسان؛ والكفارَ بالقلب؛ فحاله كحالِ المريض الذي هو مضطربٌ بين الحياة والموت. وقيل: إنَّ الشكَّ؛ أي بالقول: ألَمُ القلبِ، والمرضَ: ألَمُ البدنِ. فسُمِّيَ الشكُّ مرضاً لِما فيه من الْهَمِّ والحزنِ. وقيل: سُمي النفاقُ مرضاً؛ لأنه يضعفُ الدِّين واليقينَ كالمرض الذي يضعفُ البدنَ وينقص قواهُ؛ ولأنه يؤدِّي إلى الهلاكِ بالعذاب كما أن المرضَ في البَدَنِ يؤدِّي إلى الهلاكِ بالموتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }؛ أي شَكّاً ونِفَاقاً وعذاباً وهَلاَكاً. والفاءُ في { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ } بمعنى الْمُجَازَاةِ. وقِيْلَ: على وجهِ الدُّعاءِ، { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ }؛ أي موجعٌ يخلصُ وَجَعُهُ إلى قُلُوبهم؛ وهو بمعنى مؤلِم. قَوْلُهُ تَعَالَى: { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }؛ قال بعضُهم: الباءُ في { بمَا } صلةٌ؛ أي لَهم عذابٌ ألِيْمٌ بكذبهم وتكذِيبهم اللهَ ورسولَهُ في السرِّ؛ فيكون (مَا) مصدريةٌ؛ والأَولَى إعمالُ الحروف. و(مَا) وُجد لَها مُساغ؛ أي بالشَّيء الذي يكذِّبون.
وفي قولهِ: { يَكْذِبُونَ } خلافٌ بين القرَّاء، فقرأ أهلُ الكوفةِ بفتحِ الياء وتخفيفِ الذَّال؛ أي بكذبهم إذْ قالوا: آمَنَّا، وهم غيرُ مؤمنين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ) | وقوله: { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، أي مؤلم.
وجمع " أليم " فيه ثلاثة أوجه:
إن شئت: " إلام " كَكَريم وكِرَامٍ، وإن شئت: أُلَماء كَظَريفٍ وَظُرَفَاء وإن شئت " أَلاْمٌ " كَشَرِيف وأَشْرافٍ.
و " فعيل " يأتي على ضربين: اسم وصفة؛ فإذا كان اسماً، فجمعه في أقل العدد على " أَفْعِلة " ، وفي أكثره على " فَعُل " كَرَغِيفٍ وأَرْغِفَةٍ ورُغفٍ. وقد يأتي في الكثير على " فُعْلانٍ " ، قالوا: " رُغْفَانٌ وقُضْبَانٌ وكُثْبَانٌ " ، وقد أتى على " أفْعِلاَء " ، نصيبٌ وأنصباءٌ، وخميسٌ وأخْمِساءٌ ".
فإن كان " فَعيلٌ " صفة، فهو على نوعين: سالم ومعتل:
- فالسالم يجمع على " فُعَلاء " نحو " كرماء " ، و " عُلَماء " وقد قالوا: كِرامٌ وشِرافٌ.
- والمعتل يجمع على أفعلاء نحو " أَوْلِياء " و " أَصْفِياءَ ".
وكذلك المضاعف نحو " أَشِدَّاء " و " أَشِحَّاء " ، وقد قالوا: أَنبياءٌ يجمع على أفعلاء على تقدير لزوم تخفيف الهمزة فيصير " كَتَقي وأَتْقِياء ". ومن همز قال: نَبِئاء على " فُعلاَءَ " ويجوز على مذهب من همز أنبياء [بجعله نادراً] " كخميس وأخمساء ". وقد قالوا: [في جمع] جليل: جلّة، وهو نادر استغنوا به عن " أَجِلاّء ".
وقوله: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }. أي: شك ونفاق.
{ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }.
الزيادة هنا هي نزول القرآن بالفروض فلا يتبعونها، فيزدادون شكاً، ويزداد المؤمنون بعمل الفرائض إيماناً كما قال:**{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ \* وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً }** [التوبة: 124-125].
وقوله: { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }. أي بتكذيبهم الرسل.
وقيل: بتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم. وهذا التفسير يدل على صحة قراءة من قرأ { يَكْذِبُونَ } بالتشديد، ويدل على قوة التشديد أن الكذب لا يوجب العذاب الأليم، إنما يوجبه التكذيب. وأيضاً فإنه تعالى أخبر عنهم بالشك في أول الكلام، ومن شك في شيء فقد كذب به، فالتكذيب أولى بآخر الآية على هذا القول.
ومما استدل به من قرأه { يَكْذِبُونَ } / بالتخفيف؛ أن الله جل ذكره أخبر أنهم يقولون: { آمَنَّا } وقال: { مَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }. فأخبر عنهم بالكذب في قولهم: { آمَنَّا }. وتوعَّدهم عليه بالعذاب الأليم، وهو من الكذب أولى من أن يكون من التكذيب إذ لم يتقدم في صدر الآية إلا الإخبار عنهم بالكذب، لا بالتكذيب.
والقراءتان قويتان متداخلتان حسنتان لأن المَرَض الشك ومن شك في شيء فقد كذب به.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) | المرض: السقم، وهم نقيض الصحة، بسبب ما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخلل في أفاعيله، استعير ههنا لعدم صحة يقينهم، وضعف دينهم - وكذا توصف قلوب المؤمنين بالسلامة التي هي صحة اليقين، وعدم ضعفه، كما قال تعالى:**{ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }** [الشعراء: 89] أي: غير مريض بما ذكرنا - أو استعير لشكهم، لأن الشك تردُّد بين الأمرين، والمنافق متردد كما في الحديث **" مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين "** والمريض متردد بين الحياة والموت.
{ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } بأن طبع على قلوبهم، لعلمه تعالى بأنه لا يؤثر فيها التذكير والإنذار.
وقال القاشاني: أي مرضاً آخر - حقداً وحسداً وغِلاًّ - بإعلاء كلمة الدين، ونصرة الرسول والمؤمنين - ثم قال: والرذائل كلها أمراض قلوب، لأنها أسباب ضعفها وآفتها في أفعالها الخاصة، وهلاكها في العاقبة.
{ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: مُؤلِمٌ - بكسر اللام - فعيل بمعنى فاعل - كسميع وبصير.
قال في المحكم: الأليم من العذاب الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ. ومنه، يُعلم وجه إيثاره في عذاب المنافقين - على " العظم " المتقدم في وصف عذاب الكافرين - ويؤيده:**{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً }** [النساء: 145].
{ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } الباء للسببيّة أو للمقابلة - أي: بسبب كذبهم أو بمقابلته - وهو قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم غير مؤمنين. وفيه رمز إلى قبح الكذب، وسماجته، وتخييل أن العذاب الأليم لاحقٌ بهم من أجل كذبهم - مع إحاطة علم السميع بأنَّ لحوق العذاب بهم من جهات شتى - ونحوه قوله تعالى:**{ مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ }** [نوح: 25] - والقوم كفرة - وإنما خصّت الخطيئات استعظاماً لها، وتنفيراً عن ارتكابها.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير كتاب نزهة القلوب/ أبى بكر السجستاني (ت 330هـ) | { مَّرَضٌ } أي في قلوبهم شك ونفاق. ويقال: أصل المرض الفتور. ويقال: المرض في القلب الفتور عن الحق؛ والمرض في الأبدان: فتور الأعضاء؛ والمرض في العين: فتور النظر. { أَلِيمٌ }: مؤلم أي موجع.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير تذكرة الاريب في تفسير الغريب/ الامام ابي الفرج ابن الجوزي (ت 597 هـ) | والمرض الشك
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير البرهان في تفسير القرآن/ هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ) | 333/ [1]- قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): **" إن رسول الله (صلى الله عليه و آله) لما اعتذر إليه هؤلاء بما اعتذروا به، تكرم عليهم بأن قبل ظواهرهم و وكل بواطنهم إلى ربهم، لكن جبرئيل أتاه، فقال: يا محمد، إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، و يقول لك: أخرج هؤلاء المردة الذين اتصل بك عنهم في علي و نكثهم لبيعته، و توطينهم نفوسهم على مخالفتهم عليا، ليظهر من العجائب ما أكرمه الله به، من طاعة الأرض و الجبال و السماء له و سائر ما خلق الله- بما أوقفه موقفك، و أقامه مقامك- ليعلموا أن ولي الله عليا غني عنهم، و أنه لا يكف عنهم انتقامه إلا بأمر الله، الذي له فيه و فيهم التدبير الذي هو بالغه، و الحكمة التي هو عامل بها، و ممض لما يوجبها.** **فأمر رسول الله (صلى الله عليه و آله) الجماعة- من الذين اتصل به عنهم ما اتصل في أمر علي (عليه السلام) و المواطأة على مخالفته- بالخروج، فقال لعلي (عليه السلام)- لما استقر عند سفح بعض جبال المدينة-: يا علي، إن الله تعالى أمر هؤلاء بنصرتك و مساعدتك، و المواظبة على خدمتك، و الجد في طاعتك، فإن أطاعوك فهو خير لهم، يصيرون في جنان الله ملوكا خالدين ناعمين، و إن خالفوك فهو شر لهم، يصيرون في جهنم خالدين معذبين.** **ثم قال رسول الله (صلى الله عليه و آله) لتلك الجماعة: اعلموا أنكم إن أطعتم عليا سعدتم، و إن خالفتموه شقيتم، و أغناه الله عنكم بما سيريكموه، و بما سيريكموه ".** قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): **" يا علي، سل ربك- بجاه محمد و آله الطيبين، الذين أنت بعد محمد سيدهم- أن يقلب لك هذه الجبال ما شئت، فسأل ربه تعالى ذلك، فانقلبت فضة.** **ثم نادته الجبال: يا علي، يا وصي رسول رب العالمين، إن الله قد أعدنا لك إن أردت إنفاقنا في أمرك، فمتى دعوتنا أجبناك، لتمضي فينا حكمك، و تنفذ فينا قضاءك.** **ثم انقلبت ذهبا كلها، و قالت مقالة الفضة ثم انقلبت مسكا و عنبرا و عبيرا و جواهر و يواقيت، و كل شيء منها ينقلب إليه يناديه: يا أبا الحسن، يا أخا رسول الله (صلى الله عليه و آله)، نحن مسخرات لك، ادعنا متى شئت.** **ثم قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): يا علي، سل الله- بمحمد و آله الطيبين، الذين أنت سيدهم بعد محمد رسول الله- أن يقلب لك أشجارها رجالا شاكي السلاح، و صخورها أسودا و نمورا و أفاعي ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
فدعا الله علي بذلك، فامتلأت تلك الجبال و الهضبات و قرار الأرض من الرجال الشاكي السلاح الذين لا يفي بواحد منهم عشرة آلاف من الناس المعهودين، و من الأسود، و النمور، و الأفاعي، حتى طبقت تلك الجبال و الأرضون و الهضاب بذلك، كل ينادي: يا علي، يا وصي رسول الله، ها نحن قد سخرنا الله لك، و أمرنا بإجابتك- كلما دعوتنا- إلى اصطلام كل من سلطنا عليه، فمتى شئت فادعنا نجبك، و بما شئت فمرنا به نطعك.
يا علي، يا وصي رسول الله، إن لك عند الله من الشأن العظيم ما لو سألت الله أن يصير لك أطراف الأرض و جوانبها هيئة واحدة كصرة كيس لفعل، أو يحط لك السماء إلى الأرض لفعل، أو يرفع لك الأرض إلى السماء لفعل، أو يقلب لك ماء بحارها الأجاج ماء عذبا أو زئبقا أو بانا، أو ما شئت من أنواع الأشربة و الأدهان لفعل، و لو شئت أن يجمد البحار، أو يجعل سائر الأرض مثل البحار لفعل، فلا يحزنك تمرد هؤلاء المتمردين، و خلاف هؤلاء المخالفين، فكأنهم بالدنيا قد انقضت بهم كأن لم يكونوا فيها، و كأنهم بالآخرة إذا وردت عليهم كأن لم يزالوا فيها.
يا علي، إن الذي أمهلهم- مع كفرهم و فسوقهم و تمردهم- عن طاعتك، هو الذي أمهل فرعون ذا الأوتاد و نمرود بن كنعان، و من ادعى الألوهية من ذوي الطغيان، و أطغى الطغاة إبليس رأس الضلالات.
ما خلقت أنت و هم لدار الفناء، بل خلقتم لدار البقاء، و لكنكم تنقلون من دار إلى دار، و لا حاجة لربك إلى من يسومهم و يرعاهم، لكنه أراد تشريفك عليهم، و إبانتك بالفضل فيهم، و لو شاء لهداهم.
قال: فمرضت قلوب القوم لما شاهدوا من ذلك، مضافا إلى ما كان من مرض حسدهم له و لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال الله تعالى عند ذلك: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي في قلوب هؤلاء المتمردين الشاكين الناكثين، لما أخذت عليهم من بيعة علي (عليه السلام) { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } بحيث تاهت له قلوبهم، جزاء بما أريتهم من هذه الآيات و المعجزات { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } في قولهم: إنا على البيعة و العهد مقيمون ".
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) | وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيب للـمنافقـين فـي دعواهم إذا أمروا بطاعة الله فـيـما أمرهم الله به، ونُهوا عن معصية الله فـيـما نهاهم الله عنه. قالوا: إنـما نـحن مصلـحون لا مفسدون، ونـحن علـى رشد وهدى فـيـما أنكرتـموه علـينا دونكم لا ضالون. فكذبهم الله عزّ وجلّ فـي ذلك من قـيـلهم، فقال: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } الـمخالفون أمر الله عزّ وجل، الـمتعدّون حدوده الراكبون معصيته، التاركون فروضه وهم لا يشعرون ولا يدرون أنهم كذلك، لا الذين يأمرونهم بـالقسط من الـمؤمنـين وينهونهم عن معاصي الله فـي أرضه من الـمسلـمين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) | قوله عز وجل: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } ردّاً عليهم وتكذيباً لقولهم. قال أرباب المعاني: من أظهر الدعوى كذب، ألا ترى أن الله عز وجل يقول: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } وهذا صحيح. وكُسرت إنّ لأنها مبتدأة قاله النحاس. وقال علي بن سليمان. يجوز فتحها كما أجاز سيبويه: حقاً أنك منطلق، بمعنى ألا. و «هُمْ» يجوز أن يكون مبتدأ و «الْمُفْسِدُونَ» خبره والمبتدأ وخبره خبر «إنّ». ويجوز أن تكون «هم» توكيداً للهاء والميم في «إنهم». ويجوز أن تكون فاصلة ـ والكوفيون يقولون عماداً ـ و «المفسدون» خبر «إنّ» والتقدير ألا إنهم المفسدون، كما تقدّم في قوله: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }. قوله تعالى: { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } قال ٱبن كَيْسان يقال: ما على من لم يعلم أنه مفسد من الذم، إنما يذم إذا علم أنه مفسد ثم أفسد على علم قال: ففيه جوابان: أحدهما: أنهم كانوا يعملون الفساد سراً ويظهرون الصلاح وهم لا يشعرون أن أمرهم يظهر عند النبيّ صلى الله عليه وسلم. والوجه الآخر: أن يكون فسادهم عندهم صلاحاً وهم لا يشعرون أن ذلك فساد، وقد عصوا الله ورسوله في تركهم تبيين الحق وٱتباعه. «وَلَكِنْ» حرف تأكيد وٱستدراك ولا بدّ فيه من نفي وإثبات إن كان قبله نفي كان بعده إيجاب، وإن كان قبله إيجاب كان بعده نفي. ولا يجوز الاقتصار بعده على ٱسم واحد إذا تقدّم الإيجاب، ولكنك تذكر جملة مضادة لما قبلها كما في هذه الآية، وقولك: جاءني زيد لكن عمرو لم يجىء ولا يجوز جاءني زيد لكن عمرو ثم تسكت لأنهم قد ٱستغنوا ببل في مثل هذا الموضع عن لكن، وإنما يجوز ذلك إذا تقدّم النفي كقولك: ما جاءني زيد لكن عمرو.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) | { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } رد لما ادعوه أبلغَ رد للاستئناف به وتصديره بحرفي التأكيد: (ألا) المنبهة على تحقيق ما بعدها، فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقاً، ونظيره { أليس ذلك بقادر } ، ولذلك لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يلتقي به القسم، وأختها أما التي هي من طلائع القسم: وإن المقررة للنسبة، وتعريف الخبر وتوسيط الفصل لرد ما في قولهم (إنما نحن مصلحون) من التعريض للمؤمنين، والاستدراك بـ { لاَّ يَشْعُرُونَ }. { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ } من تمام النصح والإرشاد فإن كمال الإيمان بمجموع الأمرين: الإعراض عما لا ينبغي وهو المقصود بقوله: { لاَ تُفْسِدُواْ } ، والإتيان بما ينبغي وهو المطلوب بقوله: { ءامَنُواْ }
{ كَمَا ءامَنَ ٱلنَّاسُ } في حيز النصب على المصدر، وما مصدرية أو كافة مثلها في ربما، واللام في الناس للجنس والمراد به الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل، فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقاً يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه، ولذلك يسلب عن غيره فيقال: زيد ليس بإنسان، ومن هذا الباب قوله تعالى:**{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ }** [البقرة: 18] ونحوه وقد جمعهما الشاعر في قوله:
| **إذ الناسُ ناسٌ والزمانُ زمان** | | |
| --- | --- | --- |
أو للعهد، والمراد به الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه. أو من آمن من أهل جلدتهم كابن سلام وأصحابه، والمعنى آمنوا إيماناً مقروناً بالإخلاص متمحضاً عن شوائب النفاق مماثلاً لإيمانهم، واستدل به على قبول توبة الزنديق وأن الإقرار باللسان إيمان وإن لم يفد التقييد.{ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء } الهمزة فيه للإنكار، واللام مشار بها إلى الناس، أو الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم، وإنما سَفَّهُوهُم لاعتقادهم فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي: كصهيب وبلال، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه. والسفه: خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل، والحلم يقابله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ) | { ءَلآ } للتنبيه { إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } بذلك
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ) | قال الله تعالى { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } في الأرض وليسوا بمصلحين لأن عداوتهم مع الفريقين لأن كل فريق منهم يعلم أنهم ليسوا معهم. وقد قيل: معناه لا تفسدوا في الأرض [بتفريق] الناس عن - محمد صلى الله عليه وسلم - أي لا تصرفوا الناس عن دينه، قالوا: إنما نحن مصلحون [بتفريقنا] عن دينه. { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } ألا: كلمة تنبيه فنبه المؤمنين وأعلمهم نفاقهم، فكأنه قال: ألا أيها المؤمنون: اعلموا أنهم هم المفسدون العاصون ويكون تكرار كلمة هم على وجه التأكيد، والعرب إذا كررت الكلام تريد به التأكيد قال تعالى: { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } أنهم مفسدون.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) | قوله تعالى: { ألا إِنهم هم المفسدون } قال الزجاج. ألا: كلمة يبتدأُ بها: ينبه بها المخاطب، تدل على صحة ما بعدها. و«هم»: تأكيد للكلام.
وفي قوله تعالى: { ولكن لا يشعرون } قولان.
أحدهما: لا يشعرون أن الله يطلع نبيه على فسادهم.
والثاني: لا يشعرون أن ما فعلوه فساد، لا صلاح.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ) | قوله تعالى: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ... }
قال ابن عرفة: أَلاَ تنبيه والتنبيه لا يؤتى إلا في الأمر الغريب وكونهم لا يشعرون من الأمر الغريب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ) | { وإذا لقُوا الذينَ آمنُوا } حكاية لنفاقهم اللازم لحصول استعدادين فيهم الفطريّ النوريّ، الضعيف المغلوب، القريب من الانطفاء، الذي ناسبوا به المؤمنين، والكسبيّ الظلماني القويّ الغالب الذي تألفوا به الكفار، إذ لو لم يكن فيهم أدنى نور لم يقدروا على مخالطة المؤمنين ومصاحبتهم أصلاً كغيرهم من الكفار لتنافي الضروري بين النور والظلمة من جميع الوجوه. والشيطان فيعال من الشطون، الذي هو البعد، وشياطينهم المتعمقون في البعد وهم المطرودون، ورؤساؤهم البالغون في النفاق واستهزاؤهم بالمؤمنين يدلّ على ضعف جهة النور وقوّة جهة الظلمة فيهم، إذ المستخف بالشيء هو الذي يجد ذلك الشيء في نفسه خفيفاً، قليل الوزن والقدر. فهم يستخفون النورانيين لخفة النور عندهم، إذ بالنور يعرف قدر النور، وبرجحان الظلمة فيهم أووا إلى الكفار وألفوهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) | التفسير:
ألا: فيها تنبيه، ومعناها لاستفتاح الكلام، ومثله: ألا ترى؟ أما تسمع؟ وأصلها (لا) دخل عليها ألف الاستفهام والألف اذا دخل على الجحد أخرجه إلى الايجاب نحو قوله: { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى }؟ لأنه لا يجوز للمجيب إلا الاقرار ببلى.
والهاء والميم في موضع النصب بأن. وهم فصل عند البصريين ويسميه الكوفيون عمادا. وقوله { لا يشعرون } قد فسرناه وفيها دلالة على من قال: بان الكفار معاندون عالمون بخطاياهم وان المعرفة مزوّرة ووصفهم بانهم { هم المفسدون } لا يمنع من وصف غيرهم بانه مفسد،لأن ذلك دليل الخطاب
وحكي عن ابن عباس: أن معنى قوله { إنما نحن مصلحون } انما يريد الاصلاح بين الفريقين من المؤمنين واهل الكتاب وحكي عن مجاهد انهم اذا ركبوا معصية الله قيل لهم: لا تفعلوا هذا. قالوا: إنما نحن مصلحون أي: انما نحن على الهدى وكلا الأمرين محتمل لأنهما جميعاً عندهم أنه إصلاح في الدين وإن كان ذلك إفساداً عند الله، ومن حيث أنه خلاف لما أمرهم به، وإنما جاز تكليف ما لا يشعر أنه على ظلال؛ لأن له طريقاً إلى العلم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) | ردٌّ لما ادّعوه، وإنكارٌ لما صوّروه من الانتظام في جملة المصلحين، بأبلغ ردّ وأشدّ إنكار، وأدلّهِ على سخطٍ عظيم، حيث وقع الاستيناف والتصدير: (بألاَ) و (إنّ) حرفي التأكيد والتحقيق، وعرّف الخبر ووسّط الفصل مع الاستدراك " بلا يشعرون " ، فإنّ الأولى منهما مركّبة من حرفي الاستفهام والنفي لافادة التحقيق كقوله:**{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ }** [القيامة:40] ولكونها في هذه المرتبة من التحقيق، لا يكاد تقع الجملة بعدها إلاّ مصدّرة بنحو ما يتلقّى به القسَم، واختها " أما " التي هي من طلائع اليمين ومبادئ القسَم، والثانية هي المقرِّرة للتنبيه والتحقيق.
تنبيه
[الجهّال المنتسبون الى العلم]
إعلم أنّ هؤلاء المنافقين الذين ذكَرهم الله، كانوا من المنتسبين ظاهراً الى العلْم والصلاح، مع وفور الجهل، وقلّة الورَع، ورداءة الاعتقاد، وسوء الخُلق، وعند أنفسهم - لغاية الحُمق والسفاهة - أنّهم من أهل الصلاح والاصلاح لنفسهم ولغيرهم، ونظائرهم موجودون في كلّ زمان، مضادّون في أطوارهم وآرائهم لأهل الحقّ في كل أوان، واكثرهم من مجادلة أهل الكلام، والمتعصّبة لمذاهب أخذوها تلقّفاً وتقليداً من غير بصيرة. وليس من الطوائف المنتسبة الى العلْم والأدب شرٌّ على العلماء المحقّين، ولا أضرّ على الأنبياء الهادين، ولا أشدّ عداوة للمؤمنين بالحقيقة، ولا أفسد للعقول السليمة، من كلام هؤلاء المجادلة، وخصوماتهم وتعصّباتهم في الآراء والمذاهب.
وذلك لأنّهم إن كانوا في زمن الأنبياء (عليهم السلام)، فهم الذين لا يصدّقون ولا يؤمنون كسائر الناس، بل يطالبونهم بالحجج والمعجزات، ويعارضونهم بالخصومات، ويشوّشون عقائد المسلمين بابداء الشُّبهات، ويزيّفون قلوبَهم بالضلالات، مثل ما قالوا لنبيّنا (صلّى الله عليه وآله):**{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً [\* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً \*] أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً }** [الإسراء:90 - 92] وما قالوا لنوح:**{ وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ }** [هود:27].
وهم الذين كانوا إذا مرّوا بالمؤمنين يتغامزون، وقال تعالى في ذمّهم وتوبيخهم:**{ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }** [الزخرف:58]. فهذه حال من كان منهم في زمان الأنبياء (عليهم السلام).
وأما إذا كانوا في غير أزمانهم، فهم الذين يجادلون أهل الدين والورع بالشبهات، وينبذون كتبَ الله وراء ظهورهم، ويفرغون الى الآراء والمذاهب بعقولهم السخيفة، وآرائهم الفاسدة، ويضعون لمذاهبم قياسات متناقضة، واحتجاجات مغالطيّة مموّهة، فيضلّون العقول السليمة عن سنَن الحقّ ومسلك الدين، والعلّة في ذلك أسباب شتّى:
منها: شدّة تعصّبهم فيما اعتقدوه تقليداً من غير بصيرة، وأخذوه من آبائهم وأسلافهم في أوائل العمر.
ومنها أعجابُهم بأنفسهم في حالهم وعلْمهم.
ومنها: اعتقادهم لأصول خفيَ فيها خطأوها عليهم وهي ظاهر الشناعة فيما يترتّب عليها ويتفرّع عنها، فيلتزمون تلك الشناعات في الفروع، مخافة أن تنتقض عليهم الأصول، ويطلبون لها وجوهاً من المراوغة من التزام الحجّة، تارةً بالشغَب، وتارةً بالتمويه، وتارةً بالمنازعة هرباً عن الجواب والإقرار بالحقّ، وتأنّفاً عن أن يقولوا: لا ندري الله وروسوله أعلم، إقتداءً بأدب الله كما قال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
**{ وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ }** [الشورى:10]**{ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }** [النساء:83].
وانّك لتجد مَن فيهم جودة عبارة، وفصاحة بيان، وسحر كلام، ما يقدر أن يصوّر الباطل في صورة الحقّ بالوصف البليغ، ويصوّر الحق في صورة الباطل، وهو مع ذلك جاهل القلب، ميّت النفس عن إدراك حقائق الأشياء، بعيد الذهن عن فهم المعارف العقليّة، كما قال تعالى: { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }. وقوله:**{ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ }** [النمل:80].
وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه كان يقول: **" أخوفُ ما أخافُ على أمّتي منافقُ القلبِ، عليمُ اللسان، غير حكيم القلب، يغترّهم بفصاحة بيانه، ويضلّهم بجهله ".** وتجد فيهم مَن يجادلُ ويحتجّ وهو عاقل في أشياء كثيرة من أمور الدنيا، فإذا فتّشت عن اعتقاده في أشياء اعتقاديّة متعلّقة بأمور الدين، وجدتَ رأيه واعتقاده أسخف وأقبح من رأي كثير من الصبيان والعلة ما ذكرنا أولاً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) | { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } قابل انكارهم المؤكّد باسناد الافساد اليهم مؤكّداً باداة الاستفتاح وانّ واسميّة الجملة وضمير الفصل وافادة الحصر وأتى فى مقابلة حصرهم شؤنهم فى الاصلاح بحصر شؤنهم فى الافساد { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } اتى هاهنا باداة الاستدراك لاقتضاء المقام استدراك توهّم الخلاف والبسط فى الكلام كما مضى آنفاً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ) | { أَلآ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ } هذا رد لقولهم { إِنمَّا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } الذى ردوا به على من قال لهم**{ لا تفسدوا فى الأرض }** بوجه أبلغ من الوجه الذى ردوا به، لأنه مصدر بألا التى يفتتح بها الكلام، وهى تفيد السببية، والتنبيه نوع من الاهتمام ومن التوكيد، وتفيد التوكيد مضمون الجملة كما قال ابن هشام، وذلك مستفاد منها بالذات فيها، قيل وقال القاضى والزمخشرى تفيد تحقيق ما بعدها من حيث تركبها من همزة الاستفهام ولا النافية، وهمزة الاستفهام الإنكارى إذا دخلت على النفى أفادت التحقق كقوله عز وعلا**{ أليس ذلك بقادر على }** ولأنه قررت النسبة فيه بأن والجملة الاسمية، وتوسيط ضمير الفصل وصيغة الحصر التى هى تعريف المسند والمسند إليه، ولأنه أتى به على طريق الاستئناف على على طريق العطف، والعدول عن العطف إلى الاستئناف يقصد به تمكن الحكم فى ذهن السامع فضل تمكن لحصوله بعد السؤال والطلب تحقيقاً أو حكماً، ولأنه أكده بلكن المذكورة بعد، فإنها تفيد التأكيد بالذات أو بتركبها من أن، وتفيد الاستدراك، وفى الاستدراك نوع من التأكيد بيانه تدل على أن كونهم مفسدين مما ظهر ظهور المحسوس، لكن لا إحساس لهم فيدركوه، والحصر فى قولهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } ، وفى قوله عز وجل { أَلا إِنَّهم هُمْ المُفْسِدُونَ } قصر موصوف على صفة قصر قلب، وقد يكون تعريف المسند والمسند إليه لقصر الصفة على الموصوف، وهو محتمل هنا فالمعنى على قصر الموصوف عليها أنهم لا يجاوزون الإفساد إلى غيره، وعلى قصر الصفة عليه أن الإفساد لم يتجاوزهم، فتخلق أفعالهم التى فيها عنه، بل لم تخل عنه قط، ومفيد الحصر هو تعريف المسند إليه، وأما ضمير الفصل فإنما هو حينئذ لتأكيد الحصر. { وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنهم هم المفسدون لاعتقادهم أن ذلك منهم إصلاح، هذا ما قلته، وقال بعض المفسرين، لا يشعرون أن الله يفضحهم، وقال بعض لا يشعرون ما أعد الله لهم من العذاب، وبه قال الشيخ هود، وعلى هذا يكون استدراكاً لقوله**{ ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون }** وعلى القول الذى قيل هذا يكون استدراكاً لقوله { قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } على أنهم قالوا إنما نحن مصلحون إسراراً لما أبطنوه وخداعاً، وقد علموا أنهم مفسدون لما قالوه خداعاً وإسراراً ظانين أنهم لا يفتضحون، استدراك الله عليهم لأنهم يفتضحون، هذا ما ظهر لى فى توجيه القولين، وما ذكرته أولى لقرب المستدرك عليه، وهو { ألاَ إِنَّهُمْ هُمْ المُفْسِدُونَ } وسلامته من فصل وتكلف.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ) | { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ } انتبهوا أيها الناس قد تأكد أن هؤلاء مفسدون دون المؤمنين، فالحصر إضافى، وإن فسرنا الفساد بالنفاق كان حقيقيا، لأنه لا نفاق إلا فيهم بخلاف مطلق الفساد، فى غيرهم من المشركين أيضا. والوجهان فى أنهم هم السفهاء. { وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ } بأنهم المفسدون، أو بوبال كفرهم، أو لا شعور لهم ألبتة، هكذا، ولو استعملوا عقولهم لشعروا. ذكر هنا الشعور لأن الفساد يعرف بلا تأمل. والسفة يعرف بالتأمل، فذكر معه العلم كما قيل:
| **يُقْضَى عَلَى الْمَرْءِ فِى أَيْامِ مِحْنَتِهِ** | | **حَتَّى يَرَى حَسَناً مَا لَيْسَ بِالْحَسَنِ** |
| --- | --- | --- |
وَلم يذكر لكن فى المخادعة لأنه لم يتقدم عليها ما يتوهم منه الشعور.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) | رد لدعواهم المحكية على أبلغ وجه حيث سلك فيه مسلك الاستئناف المؤدي إلى زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع مع تأكيد الحكم وتحقيقه (بإن، وألا) بناءً/ على تركبها من همزة الاستفهام الإنكاري الذي هو نفي معنى و(لا) النافية فهو نفي نفي فيفيد الإثبات بطريق برهاني أبلغ من غيره ولإفادتها التحقيق كما قال ناصر الدين: لا يكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم (كان، واللام، وحرف النفي) والذي ارتضاه الكثير أنها بسيطة لا لأنها تدخل على أن المشددة و(لا) النافية لا تدخل عليها إذ قد يقال: انفسخ بعد التركيب حكمها الأصلي بل لأن الأصل البساطة، ودعوى لا يكاد الخ لا تكاد تسلم كيف وقد دخلت على رب وحبذا ويا النداء في ـ ألا رب يوم صالح لك منهما ـ و ـ ألا حبذا هند وأرض بها هند ـ و ـ ألا يا قيس والضحاك سيرا ـ وضم إلى ذلك تعريف الخبر وتوسيط الفصل وأشار بـ { لاَّ يَشْعُرُونَ } على وجه إلى أن كونهم من المفسدين قد ظهر ظهور المحسوس بالمشاعر وإن لم يدركوه، وأتى سبحانه بالاستدراك هنا ولم يأت به بعد المخادعة لأن المخادعة هناك لم يتقدمها ما يتوهم منه الشعور توهماً يقتضي تعقيبه بالرفع بخلاف ما هنا فإنهم لما نهوا عما تعاطوه من الفساد الذي لا يخفى على ذوي العقول فأجابوه بادعاء أنهم على خلافه، وأخبر سبحانه بفسادهم كانوا حقيقيين بالعلم به مع أنهم ليسوا كذلك فكان محلاً للاستدراك، وما يقال: من أنه لا ذمّ على من أفسد ولم يعلم وإنما الذم على من أفسد عن علم، يدفعه أن المقصر في العلم مع التمكن منه مذموم بلا ريب بل ربما يقال إنه أسوأ حالاً من غيره، وهذا كله على تقدير أن يكون مفعول { لاَّ يَشْعُرُونَ } محذوفاً مقدراً بأنهم مفسدون، ويحتمل أن يقدر أن وبال ذلك الفساد يرجع إليهم، أو أنا نعلم أنهم مفسدون ويكون { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } لإفادة لازم فائدة الخبر بناءً على أنهم عالمون بالخبر جاحدون له كما هو عادتهم المستمرة، ويبعد هذا إذا كان المنافقون أهل كتاب، ويحتمل أن لا ينوي محذوف وهو أبلغ في الذم. وفيه مزيد تسلية له صلى الله عليه وسلم إذ من كان من أهل الجهل لا ينبغي للعالم أن يكترث بمخالفته.
وفي " التأويلات " ـ لعلم الهدى ـ إن هذه الآية حجة على المعتزلة في أن التكليف لا يتوجه بدون العلم بالمكلف به وأن الحجة لا تلزم بدون المعرفة فإن الله تعالى أخبر أن ما صنعوا من النفاق إفساد منهم مع عدم العلم فلو كان حقيقة العلم شرطاً للتكليف ولا علم لهم به لم يكن صنيعهم إفساداً لأن الإفساد ارتكاب المنهي عنه فإذا لم يكن النهي قائماً عليهم عن النفاق لم يكن فعلهم إفساداً فحيث كان إفساداً دل على أن التكليف يعتمد قيام آلة العلم والتمكن من المعرفة لا حقيقة المعرفة فيكون حجة عليهم. وهذه المسألة متفرعة على مسألة مقارنة القدرة للفعل وعدمها، وأنت تعلم أنه مع قيام الاحتمال يقعد على العجز الاستدلال.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) | رد عليهم في غرورهم وحصرهم أنفسهم في الصلاح فرد عليهم بطريق من طرق القصر هو أبلغ فيه من الطريق الذي قالوه لأن تعريف المسند يفيد قصر المسند على المسند إليه فيفيدُ قوله { ألا إنهم هم المفسدون } قصر الإفساد عليهم بحيث لا يوجد في غيرهم وذلك ينفي حصرهم أنفسهم في الإصلاح وينقضه وهو جار على قانون النقض وعلى أسلوب القصر الحاصل بتعريف الجنس وإن كان الرد قد يكفي فيه أن يقال إنهم مفسدون بدون صيغة قصر، إلا أنه قُصِر ليفيد ادعاءَ نفي الإفساد عن غيرهم. وقد يفيد ذلك أن المنافقين ليسوا ممن ينتظم في عداد المصلحين لأن شأن المفسد عرفاً أن لا يكون مصلحاً إذ الإفساد هين الحصول وإنما يصد عنه الوازع فإذا خلع المرءُ عنه الوازعَ وأخذ في الإفساد هان عليه الإفساد ثم تكرر حتى يصبح سجية ودأباً لا يكاد يفارق موصوفه. وحرف ألا للتنبيه إعلاناً لوصفهم بالإفساد. وقد أكد قصر الفساد عليهم بضمير الفصل أيضاً - كما أكد به القصر في قوله**{ وأولئك هم المفلحون }** البقرة 5 كما تقدم قريباً -. ودخولِ إِنَّ على الجملة وقرنِها بأَلاَ المفيدة للتنبيه وذلك من الاهتمام بالخبر وتقويته دلالةً على سخط الله تعالى عليهم فإن أدوات الاستفتاح مثل ألا وأمَا لما كان شأنها أن ينبه بها السامعون دلت على الاهتمام بالخبر وإشاعته وإعلانه، فلا جرم أن تدل على أبلغية ما تضمنه الخبر من مدح أو ذم أو غيرهما، ويدل ذلك أيضاً على كمال ظهور مضمون الجملة للعيان لأن أدوات التنبيه شاركت أسماء الإشارة في تنبيه المخاطب. وقوله { ولكن لا يشعرون } مَحمَلُه مَحْمَلُ قوله تعالى قبله**{ وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون }** البقرة 9 فإن أفعالهم التي يبتهجون بها ويزعمونها منتهى الحذق والفطنة وخدمةِ المصلحة الخالصة آيلة إلى فساد عام لا محالة إلاَّ أنهم لم يهتدوا إلى ذلك لخفائه وللغشاوة التي ألقيت على قلوبهم من أثر النفاق ومخالطة عظماء أهله، فإن حال القرين وسخافة المذهب تطمس على العقول النيرة وتَخِفُّ بالأحلام الراجحة حتى تَرى حسناً ما ليس بالحَسَن. وموقع حرف الاستدراك هنا لأن الكلام دَفْع لما أثبتوه لأنفسهم من الخلوص للإصلاح، فرفع ذلك التوهم بحرف الاستدراك.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير مقاتل بن سليمان/ مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) | يقول الله سبحانه: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } ، يعنى العاصين، { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } [آية: 12] بأنهم مفسدون، { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } نزلت فى منذر بن معاذ، وأبى لبابة، ومعاذ بن جبل، وأسيد، قالوا لليهود: صدقوا بمحمد إنه نبى، كما صدق به عبدالله بن سلام وأصحابه، فقالت اليهود: { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ } ، يعنى نصدق، { كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } ، يعنى الجهال، يعنون عبدالله بن سلام وأصحابه، يقول الله عز وجل رداً عليهم: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } [آية: 13] بأنهم السفهاء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م) | (12) - وَلكِنَّهُمْ فِي الحَقِيقَةِ هُمُ المُفْسِدُونَ، لأَنَّ مَا يَقُومُونَ بهِ هُوَ عَيْنُ الفَسَادِ، وَلكِنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ لا يَشْعُرونَ بِأَنَّهُ فَسَادٌ، وَلاَ يُدْرِكُونَ سُوءَ العَاقِبَةِ الذِي سَيَصِيرُون إِليهِ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) | وهكذا يعطينا الله سبحانه وتعالى حكمه عليهم بأنهم كما أنهم يخدعون أنفسهم ولا يشعرون ويحسبون أنهم يخدعون الله سبحانه وتعالى والمؤمنين. كذلك، فإنهم يفسدون في الأرض ويدَّعون أنهم مصلحون، ولكنهم في الحقيقة مفسدون، لماذا؟.. لأن في قلوبهم كفراً وعداء لمنهج الله، فلو قاموا بأي عمل يكون ظاهره الإصلاح، فحقيقته هي الإفساد، تماماً كما ينطقون بألسنتهم بما ليس في قلوبهم. والكون لا يصلح إلا بمنهج الله، فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق، وهو الذي أوجد، وهو أدرى بصنعته وبما يفسدها وبما يصلحها، لأنه هو الصانع، ولا يوجد مَنْ يعلم سر ما يصلح صنعته أكثر من صانعها. ونحن في المنهج الدنيوي إذا أردنا إصلاح شيء اتجهنا لصانعه فهو الذي يستطيع أن يدلنا على الإصلاح الحقيقي لهذا الشيء، فإذا لم يكن صانعه موجوداً في البلدة نفسها اتجهنا إلى مَنْ درَّبهم الصانع على الإصلاح، أو إلى ما يسمونه " الكتالوج " الذي يبين لنا طريق الإصلاح، وبدون هذا لا نصلح، بل نفسد، والعجيب أننا نتبع هذه الطريقة في حياتنا الدنيوية، ثم نأتي إلى الإنسان والكون، فبدلاً من أن نتجه إلى صانعه وخالقه لنأخذ عنه منهج الإصلاح، وهو أدرى بصنعته، نتجه إلى خلق الله يضعون لنا المناهج التي تفسد، وطاهرها الإصلاح لكنها تزيد الأمور سوءاً. والغريب أننا نسمي هذا فلاحاً، ونسميه تقدماً. ولكن لماذا لا نتجه إلى الصانع أو الخالق، الذي أوجد وخلق؟ هو سبحانه وتعالى أدرى بخلقه وبما يصلحهم وما يفسدهم. وما دام الحق سبحانه وتعالى، قد حكم على المنافقين، بأنهم هم المفسدون فذلك حكم يقيني، وكل مَنْ يحاول أن يُغيِّر من منهج الله، أو يعطل تطبيقه بحجة الإصلاح، فهو مفسد وإن كان لا يشعر بذلك، لأنه لو أراد إصلاحاً لاتجه إلى ما يصلح الكون، وهو المنهج السماوي الذي أنزله خالق هذا الكون وصانعه، وهذا المنهج موجود وَمُبَلَّغٌ ولا يخفى على أحد.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) | قوله تعالى: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ }: الآية. " ألا " حرف تنبيه واستفتاح، وليست مركبةً مِنْ همزةِ الاستفهام ولا النافيةِ، بل هي بسيطةٌ، ولكنها لفظٌ مشتركٌ بين التنبيه والاستفتاح، فتدخلُ على الجملة اسميةً كانت أو فعلية، وبين العَرْض والتخصيص، فتختصُّ بالأفعال لفظاً أو تقديراً، وتكون النافيةَ للجنس دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهام، ولها أحكامٌ تقدَّم بعضها عند قوله**{ لاَ رَيْبَ فِيهِ }** [البقرة: 2]، وتكونُ للتمني فتجري مَجْرى " ليت " في بعض أحكامِها. وأجاز بعضُهم أن تكون جواباً بمعنى بلى، يقول القائل: لم يقم زيد، فتقول: ألا، بمعنى بلى قد قام، وهو غريب.
و " إنهم " " إنَّ " واسمُها، و " هم " تَحْتمل ثلاثةَ أوجه، أحدها: أن تكون تأكيداً لاسم " إنَّ " لأنَّ الضميرَ المنفصلَ المرفوعَ يجوز أن يؤكَّد به جميعُ ضروبِ الضميرِ المتصلِ، وأن تكون فصلاً، وأن تكونَ مبتدأ و " المفسدون " خبره، وهما خيرٌ لـ " إنَّ " ، وعلى القَولَيْن الأَوَّلَيْن يكونُ " المفسدون " وحده خبراً لإِنَّ. وجيء في هذه الجملة بضروبٍ من التأكيد، منها: الاستفتاحُ والتنبيه والتأكيدُ بإنَّ وبالإِتيانِ وبالتأكيدِ أو الفصلِ بالضميرِ وبالتعريفِ في الخبر مبالغةً في الردِّ عليهم فيما ادَّعَوه من قولهم: إنما نحن مصلحون، لأنهم أَخْرجوا الجوابَ جملةً اسمية مؤكَّدة بإنما، لِيَدُلُّوا بذلك على ثبوتِ الوصفِ لهم فردَّ الله عليهم بأبلَغَ وآكدَ مِمَّا ادَّعَوه.
قوله تعالى: { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } الواوُ عاطفةٌ لهذه الجملةِ على ما قبلها و " لكن " معناها الاستدراكُ، وهو معنىً لا يفارقها، وتكون/ عاطفةً في المفردات، ولا تكون إلا بين ضِدَّيْن أو نقيضَيْن، وفي الخلافين خلافٌ، نحو: " ما قام زيدٌ لكن خرج بكر " ، واستدلَّ بعضُهم على ذلك بقولِ طرفة:
| **190ـ ولستُ بحَلاَّلِ التِّلاعِ لِبَيْتِهِ** | | **ولكن متى يَسْترفدِ القومُ أَرْفِدِ** |
| --- | --- | --- |
فقوله::متى يسترفدِ القوم أرفدِ " ليس ضداً ولا نقيضاً لما قبله، ولكنه خلافُه. قال بعضهم: وهذا لا دليلَ فيه على المُدَّعَى، لأنَّ قولَه: " لستُ بحلاَّل التِّلاعِ لبيته " كنايةٌ عن نفي البخلِ أي: لا أَحُلُّ التلاعَ لأجلِ البخلِ، وقوله: " متى يسترفد القوم أرفد " كنايةٌ عن الكرم، فكأنه قال: لست بخيلاً ولكن كريماً، فهي هنا واقعةٌ بين ضِدَّيْنِ. ولا تعملُ مخفَّفةً خلافاً ليونس، ولها أحكامٌ كثيرة.
ومعنى الاستدراكِ في هذه الآيةِ يحتاجُ إلى فَضْلِ تأمُّلٍ ونَظَر، وذلك أنهم لَمَّا نُهُوا عن اتخاذِ مثلِ ما كانوا يتعاطَوْنه من الإِفساد فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك، وأخبر تعالى بأنهم هم المفسدون، كانوا حقيقين بأن يَعْلَموا أن ذلك كما أخبر تعالى وأنهم لا يَدَّعُون أنهم مصلحون، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتَهم من عدمِ الشعورِ بذلك، ومثلُه قولك: " زيدٌ جاهلٌ ولكن لا يعلم " ، وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل، وصار الجهلُ وصفاً قائماً به كان ينبغي أن يَعْلَمَ بهذا الوصفِ من نفسه، لأن الإِنسانَ ينبغي له أن يعلم ما اشتملَتْ عليه نفسُه من الصفات فاستدركْتَ عليه أن هذا الوصفَ القائمَ به لا يعلمه مبالغةً في جَهْله.
ومفعول " يَشْعرون " محذوف: إمَّا حذفَ اختصار، أي: لا يشعرون بأنهم مفسدون، وإمَّا حذفَ اقتصار، وهو الأحسنُ، أي ليس لهم شعورٌ البتة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ | * تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) | يقولُ الله تعالى: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } ، { أَلاۤ } كلمةُ تَنْبْيهٍ، والمعنى: ألا إنَّهم همُ المفسدونَ بالمداهنِةِ والعاملونَ بالمعصيةِ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: { هُمُ } عمادٌ وتأكيدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَْ }؛ أي لا يعلَمُون ما أعدَّ اللهُ لَهم من العذاب. وَقِيْلَ: لا يعلمون أنَّهم كذلكَ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) | قال أبو جعفر: وتأويـل قوله: { إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } يعنـي: وإذا قـيـل لهؤلاء الذين وصفهم الله ونعتهم بأنهم يقولون { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }: صَدِّقوا بـمـحمد وبـما جاء به من عند الله كما صدّق به الناس. ويعنـي «بالناس» الـمؤمنـين الذين آمنوا بـمـحمد ونبوّته وما جاء به من عند الله. كما: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك عن ابن عبـاس فـي قوله: { إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } يقول: وإذا قـيـل لهم صدّقوا كما صدّق أصحاب مـحمد، قولوا: إنه نبـيّ ورسول، وإن ما أنزل علـيه حق. وصَدِّقوا بـالآخرة، وأنكم مبعوثون من بعد الـموت. وإنـما أدخـلت الألف واللام فـي «الناس» وهم بعض الناس لا جميعهم لأنهم كانوا معروفـين عند الذين خوطبوا بهذه الآية بأعيانهم. وإنـما معناه: آمنوا كما آمن الناس الذين تعرفونهم من أهل الـيقـين والتصديق بـالله وبـمـحمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله وبـالـيوم الآخر، فلذلك أدخـلت الألف واللام فـيه كما أدخـلتا فـي قوله:**{ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ }** [آل عمران: 173] لأنه أشير بدخولها إلـى ناس معروفـين عند من خوطب بذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ }. قال أبو جعفر: والسفهاء جمع سفـيه، كالعلـماء جمع علـيـم، والـحكماء جمع حكيـم. والسفـيه: الـجاهل الضعيف الرأي، القلـيـل الـمعرفة بـمواضع الـمنافع والـمضارّ ولذلك سمى الله عزّ وجل النساء والصبـيان سفهاء، فقال تعالـى:**{ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَاء أَمْوٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ }** [النساء: 5] قِـياماً فقال عامة أهل التأويـل: هم النساء والصبـيان لضعف آرائهم، وقلة معرفتهم بـمواضع الـمصالـح والـمضارّ التـي تصرف إلـيها الأموال. وإنـما عنى الـمنافقون بقـيـلهم أنؤمن كما آمن السفهاء، إذْ دُعوا إلـى التصديق بـمـحمد صلى الله عليه وسلم، وبـما جاء به من عند الله، والإقرار بـالبعث، فقال لهم: آمنوا كما آمن أصحاب مـحمد وأتبـاعه من الـمؤمنـين الـمصدقـين به أهل الإيـمان والـيقـين والتصديق بـالله وبـما افترض علـيهم علـى لسان رسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم وفـي كتابه وبـالـيوم الآخر، فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم: أنؤمن كما آمن أهل الـجهل ونصدق بـمـحمد صلى الله عليه وسلم كما صدق به هؤلاء الذين لا عقول لهم ولا أفهام كالذي: حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم، قالوا: { أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } يعنون أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر، عن أبـيه عن الربـيع بن أنس: قالوا { أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهاءُ } يعنون أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم. حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلـم فـي قوله: { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } قال: هذا قول الـمنافقـين، يريدون أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس: { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } يقولون: أنقول كما تقول السفهاء؟ يعنون أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم، لـخلافهم لدينهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }. قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالـى عن الـمنافقـين الذين تقدم نعته لهم ووصْفُه إياهم بـما وصفهم به من الشك والتكذيب، أنهم هم الـجهال فـي أديانهم، الضعفـاء الآراء فـي اعتقاداتهم واختـياراتهم التـي اختاروها لأنفسهم من الشك والريب فـي أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوّته، وفـيـما جاء به من عند الله، وأمر البعث، لإساءتهم إلـى أنفسهم بـما أتوا من ذلك، وهم يحسبون أنهم إلـيها يحسنون. وذلك هو عين السفه، لأن السفـيه إنـما يفسد من حيث يرى أنه يصلـح ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ. فكذلك الـمنافق يعصي ربه من حيث يرى أنه يطيعه، ويكفر به من حيث يرى أنه يؤمن به، ويسيء إلـى نفسه من حيث يحسب أنه يحسن إلـيها، كما وصفهم به ربنا جل ذكره فقال:**{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }** [البقرة: 12] وقال: ألا إنهم هم السفهاء دون الـمؤمنـين الـمصدّقـين بـالله وبكتابه وبرسوله وثوابه وعقابه، ولكن لا يعلـمون. وكذلك كان ابن عبـاس يتأوّل هذه الآية. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس يقول الله جل ثناؤه: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } يقول الـجهال، { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } يقول: ولكن لا يعقلون. وأما وجه دخول الألف واللام فـي «السفهاء» فشبـيه بوجه دخولهما فـي «الناس» فـي قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } وقد بـينا العلة فـي دخولهما هنالك، والعلة فـي دخولهما فـي السفهاء نظيرتها فـي دخولهما فـي الناس هنالك سواء. والدلالة التـي تدل علـيه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبة من الله لا يستـحقها إلا الـمعاند ربه مع علـمه بصحة ما عانده فـيه نظير دلالة الآيات الأخر التـي قد تقدّم ذكرنا تأويـلَها فـي قوله: { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } ونظير ذلك.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ) | القراءة: السفهاء إلا أهلُ الكوفة وابن عامر حققوا الهمزتين وأهل الحجاز وأبو عمرو همزوا الأولى ولَيَّنوا الثانية وكذا كل همزتين مختلفتين من كلمتين وقد ذكرنا الوجه فيها حيث ذكرنا اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة وهو قولـه: { أنذرتهم }. اللغة: السفهاء جمع سفيه والسفيه الضعيف الرأي الجاهل القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضار ولذلك سمى الله الصبيان والنساء سفهاء بقولـه:**{ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً }** [النساء: 5] وقال قُطْرُب: السفيه العجول الظلوم القائل خلاف الحق وقال مُؤرّج: السفيه الكذاب البهات المتعمد بخلاف ما يعلم وقيل السفه خفة الحلم وكثرة الجهل يقال ثوب سفيه إذا كان رقيقاً بالياً وسفهته الرياح أي طيرته وقد جاء في الأخبار أن شارب الخمر سفيه والألف واللام في الناس وفي السفهاء للعهد لا للجنس والمراد بهم المؤمنون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما سموا الناس لأن الغلبة كانت لهم. الإعراب: قولـه كما آمن الكاف في موضع نصب بكونه صفة لمصدر محذوف وما مع صلته بمعنى المصدر أي آمنوا إيماناً مثل إيمان الناس فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه والهمزة في أنؤمن للإنكار وأصلها الاستفهام ومثله أنطعم من لو يشاء الله أطعمه وإذا ظرف لقولـه { قالوا أنؤمن } وقد مضى الكلام فيه. المعنى: المراد بالآية وإذا قيل للمنافقين صَدِّقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه كما صدَّقه أصحابه وقيل كما صدق عبد الله بن سلام ومن آمن معه من اليهود قالوا أنصدق كما صدق الجهال ثم كذبهم الله تعالى وحكم عليهم بأنهم هم الجهال في الحقيقة لأن الجاهل إنما يسمى سفيهاً لأنه يضيع من حيث يرى أنه يحفظ فكذلك المنافق يعصي ربه من حيث يظن أنه يطيعه يكفر به من حيث يظن أنه يؤمن به.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) | اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين، وذلك لأنه سبحانه لما نهاهم في الآية المتقدمة عن الفساد في الأرض أمرهم في هذه الآية بالإيمان، لأن كمال حال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين: أولهما: ترك ما لا ينبغي وهو قوله: { ءامَنُواْ } وههنا مسائل: المسألة الأولى: قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كما آمن الناس } أي إيماناً مقروناً بالإخلاص بعيداً عن النفاق، ولقائل أن يستدل بهذه الآية على أن مجرد الإقرار إيمان، فإنه لو لم يكن إيماناً لما تحقق مسمى الإيمان إلا إذا حصل فيه الإخلاص، فكان قوله: { ءامَنُواْ } كافياً في تحصيل المطلوب، وكان ذكر قوله: { كَمَا ءامَنَ ٱلنَّاسُ } لغواً، والجواب: أن الإيمان الحقيقي عند الله هو الذي يقترن به الإخلاص، أما في الظاهر فلا سبيل إليه إلا بإقرار الظاهر فلا جرم افتقر فيه إلى تأكيده بقوله: { كَمَا ءامَنَ ٱلنَّاسُ }. المسألة الثانية: اللام في { ٱلنَّاسِ } فيها وجهان: أحدهما: أنها للعهد أي كما آمن رسول الله ومن معه، وهم ناس معهودون، أو عبد الله بن سلام وأشياعه. لأنهم من أبناء جنسهم والثاني: أنها للجنس ثم ها هنا أيضاً وجهان: أحدهما: أن الأوس والخزرج أكثرهم كانوا مسلمين، وهؤلاء المنافقون كانوا، منهم وكانوا قليلين، ولفظ العموم قد يطلق على الأكثر.والثاني: أن المؤمنين هم الناس في الحقيقة، لأنهم هم الذين أعطوا الإنسانية حقها لأن فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل المرشد والفكر الهادي. المسألة الثالثة: القائل: { ءامِنُواْ كما آمن الناس } إما الرسول، أو المؤمنون، ثم كان بعضهم يقول لبعض: أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان، والرسول لا يعرف ذلك فقال تعالى: { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَاء }. المسألة الرابعة: السفه الخفة يقال: سفهت الريح الشيء إذا حركته، قال ذو الرمة:
| **جرين كما اهتزت رياح تسفهت** | | **أعاليها مر الرياح الرواسم** |
| --- | --- | --- |
وقال أبو تمام الطائي:
| **سفيه الرمح جاهله إذا ما** | | **بدا فضل السفيه على الحليم** |
| --- | --- | --- |
أراد به سريع الطعن بالرمح خفيفه، وإنما قيل لبذيء اللسان سفيه لأنه خفيف لا رزانة له وقال تعالى:**{ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَاء أَمْوٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَـٰما }** [النساء: 5] وقال عليه السلام: **" شارب الخمر سفيه "** لقلة عقله وإنما سمي المنافقون المسلمين بالسفهاء لأن المنافقين كانوا من أهل الخطر والرياسة، وأكثر المؤمنين كانوا فقراء، وكان عند المنافقين أن دين محمد صلى الله عليه وسلم باطل، والباطل لا يقبله إلا السفيه فلهذه الأسباب نسبوهم إلى السفاهة ثم إن الله تعالى قلب عليهم هذا اللقب ـ وقوله الحق ـ لوجوه: أحدها: أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه. وثانيها: أن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه. وثالثها: أن من عادى محمداً عليه الصلاة والسلام فقد عادى الله، وذلك هو السفيه. المسألة الخامسة: إنما قال في آخر هذه الآية: { لاَّ يَعْلَمُونَ } وفيما قبلها: { لاَّ يَشْعُرُونَ } لوجهين: الأول: أن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري، وأما أن النفاق وما فيه من البغي يفضي إلى الفساد في الأرض فضروري جار مجرى المحسوس. الثاني: أنه ذكر السفه وهو جهل، فكان ذكر العلم أحسن طباقاً له والله أعلم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) | قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } يعني المنافقين في قول مقاتل وغيره. { آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } أي صدّقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وشَرْعه، كما صدّق المهاجرون والمحققون من أهل يَثْرِب. وألف آمنوا ألف قطع لأنك تقول: يؤمن، والكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف، أي إيماناً كإيمان الناس. قوله تعالى: { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن ٱبن عباس. وعنه أيضاً: مؤمنو أهل الكتاب. وهذا القول من المنافقين إنما كانوا يقولونه في خفاء وٱستهزاء فأطلع الله نبيّه والمؤمنين على ذلك، وقرّر أن السَّفه ورِقّة الحُلُوم وفساد البصائر إنما هي في حيزِّهم وصفة لهم، وأخبر أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون للرَّينْ الذي على قلوبهم. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ٱبن عباس أنها نزلت في شأن اليهود أي وإذا قيل لهم ـ يعني اليهود ـ آمنوا كما آمن الناس: عبد اللَّه بن سَلاَم وأصحابُه، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء! يعني الجهال والخرقاء. وأصل السَّفَه في كلام العرب: الخفّة والرقة يقال: ثوب سفيه إذا كان رديء النسج خفيفه، أو كان بالياً رقيقاً. وتسفهت الريح الشجر: مالت به قال ذو الرُّمة:
| **مَشَين كما ٱهتّزتْ رماحٌ تسفَّهتْ** | | **أَعالِيَهَا مَرُّ الرياح النَّواسِم** |
| --- | --- | --- |
وتسفهت الشيء: ٱستحقرته. والسّفه: ضدّ الحلم. ويقال: إنّ السّفه أنْ يكثر الرجل شرب الماء فلا يروى. ويجوز في همزتي السفهاء أربعة أوجه، أجودها أن تحقق الأولى وتقلب الثانية واواً خالصة، وهي قراءة أهل المدينة والمعروف من قراءة أبي عمرو. وإن شئت خفّفتهما جميعاً فجعلت الأولى بين الهمزة والواو وجعلت الثانية واواً خالصة. وإن شئت خفّفت الأولى وحقّقت الثانية. وإن شئت حقّقتهما جميعاً. قوله تعالى: { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } مِثل «وَلٰكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ» وقد تقدّم. والعلم معرفة المعلوم على ما هو به تقول: عَلِمت الشيء أعلمه عِلْماً عَرَفْته، وعالمتُ الرجل فَعَلَمْتُه أعْلُمُه بالضم في المستقبل: غلبته بالعلم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) | { قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء } الهمزة فيه للإنكار، واللام مشار بها إلى الناس، أو الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم، وإنما سَفَّهُوهُم لاعتقادهم فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي: كصهيب وبلال، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه. والسفه: خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل، والحلم يقابله.
{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَاء وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } رد ومبالغة في تجهيلهم، فإن الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله، فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر، وإنما فصلت الآية بـ { لاَّ يَعْلَمُونَ } والتي قبلها بـ { لاَّ يَشْعُرُونَ } لأنه أكثر طباقاً لذكر السفه، ولأن الوقوف على أمر الدين والتمييز بين الحق والباطل مما يفتقر إلى نظر وفكر. وأما النفاق وما فيه من الفتن والفساد فإنما يدرك بأدنى تفطن وتأمل فيما يُشَاهد من أقوالهم وأفعالهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) | يقول تعالى وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس، أي كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } يعنون - لعنهم الله - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، قاله أبو العالية والسدي في تفسيره بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة، وبه يقول الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم يقولون أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة، وعلى طريقة واحدة، وهم سفهاء؟ والسفهاء جمع سفيه، كما أن الحكماء جمع حكيم، والحلماء جمع حليم، والسفيه هو الجاهل الضعيف الرأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار، ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى**{ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَـٰماً }** النساء 5 قال عامة علماء التفسير هم النساء والصبيان. وقد تولى الله سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها، فقال { أَلاَۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } فأكد وحصر السفاهة فيهم { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } يعني ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أردى لهم، وأبلغ في العمى والبعد عن الهدى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ ٱلنَّاسُ } أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاءُ } الجهال؟ أي: لا نفعل كفعلهم. قال تعالى ردّاً عليهم: { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } ذلك.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) | أي وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، أجابوا بأحمق جواب وأبعده عن الحقّ والصواب، فنسبوا إلى المؤمنين السفه استهزاءاً واستخفافاً فتسببوا بذلك إلى تسجيل الله عليهم بالسفه بأبلغ عبارة وآكد قول. وحصر السفاهة وهي رقة الحلوم وفساد البصائر، وسخافة العقول فيهم، مع كونهم لا يعلمون أنهم كذلك، إما حقيقة أو مجازاً، تنزيلاً لإصرارهم على السفه منزلة عدم العلم بكونهم عليه، وأنهم متصفون به. ولما ذكر الله هنا السفه ناسبه نفي العلم عنهم لأنه لا يتسافه إلا جاهل، والكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف، أي إيماناً كإيمان الناس. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ ٱلنَّاسُ } أي صدّقوا كما صدّق أصحاب محمد أنه نبيّ ورسول، وأن ما أنزل عليه حق، { قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء } يعنون أصحاب محمد، { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَاء } يقول الجهال { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } يقول لا يعقلون. وروي عن ابن عساكر في تاريخه بسند واهٍ أنه قال آمنوا كما آمن الناس أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء } قال يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج عن الربيع وابن زيد مثله. وروى الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود أي إذا قيل لهم، يعني اليهود { ءامنوا كما آمن الناس } عبد الله بن سلام، وأصحابه { قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء }.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا ءَامَن النَّاسُ } قال في رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في شأن اليهود { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } يعني اليهود { آمِنُوا كَمَا ءَامَن النَّاسُ } يعني عبد الله بن سلام وأصحابه. { قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء } يعني الجهال الخرقى قال الله تعالى: { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَاء } يعني الجهال الخرقى بتركهم الإيمان بمحمد - عليه السلام - { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } أنهم سفهاء. وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في شأن المنافقين، وهكذا قال مجاهد ومعناه { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ } يعني صدِّقوا بقلوبكم كما صدق أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم { قَالُواْ: أَنُؤْمِنُ } يعني المنافقين أنصدق كما صدق الجهال. قال الله تعالى: { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَاء } يعني الجهال بتركهم التصديق في السر، ولكن لا يعلمون أنهم جهال.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ) | قوله تعالى: { وإذا قيل لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ } يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { قَالُوا أَنُؤْمن كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ } فيه وجهان:
أحدهما: أنهم عنوا بالسفهاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنهم أرادوا مؤمني أهل الكتاب.
والسفهاء جمع سفيه، وأصل السَّفَهِ الخِفَّةُ، مأخوذ من قولهم ثوب سفيه، وإذا كان خفيف النسيج، فسمَّي خفةُ الحلم سفهاً، قال السَمَوْأَلُ:
| **نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلاَمُنَا** | | **فَنَخْمُلَ الدَّهْرَ مَعَ الْخَامِلِ** |
| --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) | المعنى صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وشرعه، مثل ما صدقه المهاجرون والمحققون من أهل يثرب، قالوا: أنكون كالذين خفت عقولهم؟ والسفه الخفة والرقة الداعية إلى الخفة يقال " ثوب سفيه " إذا كان رقيقاً مهلهل النسج، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]
| **مشين كما اهتزت رماح تسفهت** | | **أعاليَها مرّ الرياح النواسم** |
| --- | --- | --- |
وهذا القول إنما كانوا يقولونه في خفاء فأطلع الله عليه نبيه والمؤمنين، وقرر أن السفه ورقة الحلوم وفساد البصائر إنما هو في حيزهم وصفة لهم، وأخبر أنهم لا يعلمون أنهم السفهاء للرَّين الذي على قلوبهم.
وقال قوم: " الآية نزلت في منافقي اليهود، والمراد بالناس عبد الله بن سلام ومن أسلم من بني إسرائيل ".
قال القاضي أبو محمد: وهذا تخصيص لا دليل عليه.
و { لقوا } أصله لقيوا استثقلت الضمة على الياء فسكنت فاجتمع الساكنان فحذفت الياء. وقرأ ابن السميفع " لاقوا الذين ". وهذه كانت حال المنافقين إظهار الإيمان للمؤمنين وإظهار الكفر في خلواتهم بعضهم مع بعض، وكان المؤمنون يلبسونهم على ذلك لموضع القرابة فلم تلتمس عليهم الشهادات ولا تقرر تعينهم في النفاق تقرراً يوجب لوضوحه الحكم بقتلهم وكان ما يظهرونه من الإيمان يحقن دماءهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنهم ويدعهم في غمرة الاشتباه مخافة أن يتحدث عنه أنه يقتل أصحابه فينفر الناس حسبما **" قال عليه السلام لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال له في وقت قول عبد الله بن أبي ابن سلول: " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " القصة: " دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق " فقال: " دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " ".** فهذه طريقة أصحاب مالك رضي الله عنه في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين مع علمه بكفرهم في الجملة: نص على هذا محمد بن الجهم وإسماعيل القاضي والأبهري وابن الماجشون واحتج بقوله تعالى:**{ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين إينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً }** [الأحزاب: 60-61]. قال قتادة: " معناه إذا هم أعلنوا النفاق ".
قال مالك رحمه الله: " النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة، لأنه لا يظهر ما يستتاب منه، وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليسن لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه إذ لم يشهد على المنافقين ".
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
قال القاضي إسماعيل: " لم يشهد على عبد الله بن أبي إلا زيد بن أرقم وحده، ولا على الجلاس بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه وحده، ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل ".
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: أقوى من انفراد زيد وغيره أن اللفظ ليس بصريح كفر وإنما يفهم من قوته الكفر.
قال الشافعي رحمه الله: " السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه ". وبه قال أصحاب الرأي والطبري وغيرهم.
قال الشافعي وأصحابه: " وإنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام بألسنتهم مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يجب ما قبله فمن قال إن عقوبة الزنادقة أشد من عقوبة الكفار فقد خالف معنى الكتاب والسنة وجعل شهادة الشهود على الزنديق فوق شهادة الله على المنافقين ".
قال الله تعالى:**{ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون }** [المنافقون: 1].
قال الشافعي وأبو حنيفة وابن حنبل وأهل الحديث: فالمعنى الموجب لكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع العلم بهم أن الله تعالى نهاه عن قتلهم إذا أظهروا الإيمان وصلوا فكذلك هو الزنديق.
واحتج ابن حنبل بحديث عبيد الله بن عدي بن الخيار عن رجل من الأنصار في الذي شهد عليه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفاق فقال: **" أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا بلى ولا شهادة له، قال: أليس يصلى؟ قالوا بلى ولا صلاة له، قال: أولئك الذين نهاني الله عنهم "** وذكر أيضاً أهل الحديث ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيهم: **" لعل الله سيخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ويصدق المرسلين ويخلص العبادات لرب العالمين ".** قال أبو جعفر الطبري في كتاب اللطيف في باب المرتد: " إن الله تعالى قد جعل الأحكام بين عباده على الظاهر وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر لأنه حكم بالظنون، ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا ووكل سرائرهم إلى الله وقد كذب الله ظاهرهم في قوله تعالى:**{ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون }** [المنافقون: 1].
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ينفصل المالكيون عما ألزموه من هذه الآية بأنها لم تعين أشخاصهم وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموض عليه بالنفاق وبقي لكل واحد منهم أن يقول لم أرد بها ولا أنا إلا مؤمن ولو عين أحد لما جب كذبه شيئاً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
وقوله تعالى: { وإذا خلوا إلى شياطينهم } وصلت { خلوا } بـ { إلى } وعرفها أن توصل بالباء فتقول خلوت بفلان من حيث نزلت { خلوا } في هذا الموضع منزلة ذهبوا وانصرفوا، إذ هو فعل معادل لقوله { لقوا } ، وهذا مثل ما تقدم من قول الفرزدق: [الرجز]
| **كيف تراني قالباً مِجَنِّي** | | **فقد قتل الله زياداً عني** |
| --- | --- | --- |
لما أنزله منزلة صرف ورد.
قال مكي: " يقال خلوت بفلان بمعنى سخرت به فجاءت إلى في الآية زوالاً عن الاشتراك في الباء ". وقال قوم: { إلى } بمعنى مع، وفي هذا ضعف ويأتي بيانه إن شاء الله في قوله تعالى:**{ من أنصاري إلى الله }** [آل عمران: 52، الصف: 14].
وقال قوم: { إلى } بمعنى الباء إذ حروف المعاني يبدل بعضها من بعض. وهذا ضعيف يأباه الخليل وسيبويه وغيرهما.
واختلف المفسرون في المراد بالشياطين فقال ابن عباس رضي الله عنه: " هم رؤساء الكفر ".
وقال ابن الكلبي وغيره: " هم شياطين الجن ".
قال القاضي أبو محمد: وهذا في الموضع بعيد.
وقال جمع من المفسرين: " هم الكهان ". ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الإيمان والخير يعم جميع من ذكر والمنافقين حتى يقدر كل واحد شيطان غيره، فمنهم الخالون، ومنهم الشياطين.
و { مستهزئون } معناه نتخذ هؤلاء الذين نصانعهم بإظهار الإيمان هزواً ونستخف بهم.
ومذهب سيبويه رحمه الله أن تكون الهمزة مضمومة على الواو في { مستهزئون }. وحكى عنه علي أنها تخفف بين بين.
ومذهب أبي الحسن الأخفش أن تقلب الهمزة ياء قلباً صحيحاً فيقرأ " مستهزِيُون ".
قال ابن جني: " حمل الياء الضمة تذكراً لحال الهمزة المضمومة والعرب تعاف ياء مضمومة قبلها كسرة ".
وأكثر القراء على ما ذهب إليه سيبويه، ويقال: " هزىء واستهزأ " بمعنى، فهو " كعجب واستعجب " ، ومنه قول الشاعر [أوس بن حجر]: [الطويل]
| **ومستعجب مما يرى من أناتنا** | | **ولو زبنته الحرب لم يترمرم** |
| --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) | قوله تعالى: { وإذا قيل لهم آمنوا } في المقول لهم قولان.
أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: المنافقون، قاله مجاهد، وابن زيد. وفي القائلين لهم قولان.
أحدهما: أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، ولم يعيّن أحداً من الصحابة.
والثاني: أنهم معينون، وهم سعد بن معاذ، وأبو لبابة، وأسيد، ذكره مقاتل.
وفي الإِيمان الذي دعوا إليه قولان.
أحدهما: أنه التصديق بالنبي، وهو قول من قال: هم اليهود. والثاني: أنه العمل بمقتضى ما أظهروه، وهو قول من قال: هم المنافقون.
وفي المراد بالناس هاهنا ثلاثة أقوال. أحدها: جميع الصحابة، قاله ابن عبَّاس.
والثاني: عبد الله بن سلام، ومن أسلم معه من اليهود، قاله مقاتل. والثالث: معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وجماعة من وجوه الأنصار، عدهم الكلبي. وفيمن عنوا بالسفهاء ثلاثة أقوال. أحدها: جميع الصحابة، قاله ابن عبَّاس. والثاني: النساء والصبيان، قاله الحسن. والثالث: ابن سلام وأصحابه، قاله مقاتل. وفيما عنوه بالغيب من إِيمان الذين زعموا أنهم السفهاء ثلاثة أقوال. أحدها: أنهم أرادوا دين الإِسلام، قاله ابن عباس، والسُّدي. والثاني: أنهم أرادوا البعث والجزاء، قاله مجاهد. والثالث: أنهم عنوا مكاشفة الفريقين بالعداوة. من غير نظر في عاقبة، وهذا الوجه والذي قبله يخرج على أنهم المنافقون، والأول يخرج على أنهم اليهود. قال ابن قتيبة: والسفهاء: الجهلة، يقال: سفه فلان رأيه إذا جهله، ومنه قيل للبذاء: سفه، لأنه جهل. قال الزجاج: وأصل السَّفه في اللغة: خفة الحلم، ويقال: ثوب سفيه: إِذا كان رقيقاً بالياً، وتسفهت الريح الشجر: إذا مالت به. قال الشاعر:
| **مشين كما اهتزت رماح تسفَّهت** | | **أعاليَها مرُّ الرياح النواسم** |
| --- | --- | --- |
قوله تعالى: { ولكنْ لا يعلَمون }.
قال مقاتل: لا يعلمون أنهم هم السفهاء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ) | { كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ } الناس: الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ { السُّفَهَآءُ } الصحابة عند عبدالله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ، أو النساء والصبيان عند عامة المفسرين، والسفه خفة الأحلام ثوب سفيه خفيف النسج.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ) | قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ... }
قال الفخر (الخطيب): بدأ بالنهي عن الفساد لأنه راجع لدفع المؤلم ثم عقبه بالأمر بالإيمان لرجوعه إلى جلب المصالح، لأن دفع المفاسد آكد من جلب المصالح.
قال ابن عرفة: والآية عندي حجة لمن يقول: إنّ النظر واجب (بالعقل) (إذ لو كان واجبا) بالشرع لما كلفوا بالإيمان بل كانوا يكلفون بالنظر.
فإن قلت: ليس هذا بأول تكليفهم فلعلهم كلّفوا به بخطاب آخر قبل هذا؟ (قلنا): الآية خرجت مخرج ذمّهم والذّم (الأغلب) فيه أنه إنما يقع على المخالفة في الأصل لا في الفرع.
قال ابن عرفة: ولكن يمكن أن يجاب عنه بوجهين:
الأول: أن الآية خرجت مخرج التقسيم بين الشيء وضدّه. (والإيمان) نقيض الكفر، وليس بينهما اشتراك، والنظر لا (يناقض) الكفر لأنه يكون صحيحا ويكون فاسدا، (فقد) ينظر المكلف فيهتدي، وقد ينظر فيضل. فالنظر اشتراك بين الكفر والإيمان فلأجله لم يقل: وَإِذَا قِيلَ (لَهُمْ) انظروا كما نظر الناس، (لأنّه) لا يدل صريحا على تكليفهم بالنظر الصحيح.
الثاني: إن النفوس مجبولة على النظر في غرائب الأمور فلو كلفوا بالنظر لأشبه ذلك (تحصيل الحاصل).
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن تكليفهم بالإيمان وذمهم على عدمه يستلزم تكليفهم بالنظر.
قال: (والكاف) منهم من جعلها (نعتا) (لمصدر) (محذوف) أي إيمانا (شبيها) (بإيمان) الناس والمشبه بالشيء والمشبه بالشيء لا يقوى قوته، ففيه حجة لمن يقول: إن الإيمان يزيد وينقص (فكلفوهم) بتحصيل أقل ما يكفي منه، فلم يقبلوا ذلك.
قال أبو حيان: ومنهم من أعربه حالا من الإيمان أي آمنوا الإيمان كما آمن الناس لأن الإيمان المقدر يعرف بالألف واللام.
قال ابن عرفة: ولا يحتاج إلى (هذا) (لأن) سيبويه قال في قوله تعالى:**{ فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً }** إن رُوَيدا حال من المصدر المقدر وهو إمهال وصحّ إتيانها منه وإنْ كان نكرة (لأنه) لما ينطق به أشبه المضمر في المعرفة، (فكذلك يكون هذا).
قوله تعالى: { أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ... }
أجابوا بعدم الامثتال مع ذكر الموجب لذلك، فأما أن يريدوا بالسفهاء المؤمنين فيكون (جرأة) منهم ومباهتة: أي أنتم سفهاء ضعفاء فلا نتبعكم، أو لم يقصدوا أعيان المؤمنين بل قالوا هذا على سبيل المبالغة والجدل فيقول لهم المؤمنون على: هذا نعم، نقول بموجبه: (ونحن) لم نأمركم بإيمان السّفهاء فلسنا بسفهاء، وعلى الأول (لا) يحسن أن يقول لهم ذلك المؤمنون لأنهم (مباهتون) ويقولون: أنتم هم السفهاء.
قال الزمخشري: وإنما أطلقوا عليهم ذلك باعتبار الغالب لأن أتباع النبي صلّى الله عليه وسلم في أول الإسلام كان أكثرهم فقراء.
قيل لابن عرفة: إنما كان هذا في المدينة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
(قال): كان أكثر المهاجرين معه فقراء.
قال الزمخشري: وختمت الآية بقوله: { وَلَٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } ، وتلك**{ لاَّ يَشْعُرُونَ }** إما لأن الفساد في الأرض (أمر) محسوس فناسب الشعور الذي هو (أوائل) الإدراك والإيمان معنوي يناسب العلم، (وإما لتقدم السفه وهو جهل، فناسب ذكر العلم طباقا).
قال ابن عرفة وانظر هل فيها دليل على أن التقليد كاف لقوله: { آمِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ }. (الظاهر أنه ليس فيها دليل لأن المراد: انظروا لتؤمنوا كما آمن الناس) لأن الأمر بالإيمان أمر بما هو من لوازمه، ومقدماته، ومفعول " يعلمون " إما عاقبة أمرهم أو المراد لا يعلمون صحة ما أمروا (به) أو لا يعلمون علما نافعا، وحذف المفعول (قصدا) لهذا العموم.
قال ابن عرفة: وفي هذه آيتان، آية من الله تعالى بعلمه ذلك (مع أنهم) أخفوه: وآية أخرى بإعلامه به محمدا صلى الله عليه وسلم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) | قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَا ءَامَنَ ٱلنَّاسُ... } الآية: المعنَىٰ: صدِّقوا بمحمَّد وشرعه كما صدَّقَ المهاجرون والمحقِّقون من أهل يثرب، قالوا: أنكون كالذين خَفَّت عقولهم، والسفه: الخفَّة والرقَّة الداعيةُ إِلى الخفة، يقال: ثوب سَفِيهٌ، إِذا كان رقيقًا هَلْهَلَ النَّسْجِ، وهذا القول إِنما كانوا يقولونه في خفاء، فَأَطْلَعَ اللَّه عليه نبيَّه عليه السلام، والمؤمنين، وقرر أن السفه ورقَّة الحلوم وفساد البصائرِ إِنما هو في حيِّزهم وصفةٌ لهم، وأخبر أنهم لا يعلمون أنهم السفهاء لِلرَّيْنِ الَّذي على قلوبهم.
وقوله تعالَىٰ: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ... } الآية: هذه كانت حالَ المنافقين: إِظهارُ الإيمان للمؤمنين، وإِظهار الكفر في خلواتهم، وكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يعرض عنهم، ويَدَعُهُمْ في غمرة الاشتباه؛ مخافة أن يتحدَّثَ الناسُ عنه أنه يقتُلُ أصحابه حَسْبَمَا وقع في قِصَّة عبد اللَّه بن أُبَيٍّ ابْنِ سَلُول، قال مَالِكٌ: النِّفَاقُ في عهد رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم هو الزندقةُ اليَوْمَ، واختلف المفسِّرون في المراد بشياطينهم، فقال ابن عبَّاس رضي اللَّه عنهما: هم رؤساء الكفر، وقيل: الكُهَّان، قال البخاريُّ: قال مجاهدٌ: { إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } ، أي: أصحابهم من المنافقين والمشركين.
قال: \* ص \*: شياطينهم: جمع شيطانٍ، وهو كل متمرِّد من الجنِّ والإِنْسِ والدوابِّ. قاله ابن عبَّاس، وأنثاه شيطانة. انتهى.
\* ت \*: ويجب على المؤمن أن يجتنب هذه الأخلاق الذميمة، وقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذُو الوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ "** رواه أبو داود، وفيه عنه صلى الله عليه وسلم: **" مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا، كَانَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ "** انتهى. من سنن أبي داود.
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }: اختلف المفسِّرون في هذا الاستهزاء، فقال جمهور العلماء: هي تسمية العُقُوبة باسم الذَّنْب، والعربُ تستعمل ذلك كثيرًا، وقال قوم: إن اللَّه سبحانه يفعل بهم أفعالاً هي في تأمل البَشَر هُزْءٌ؛ روي أنَّ النَّارَ تجمد كما تَجْمُدُ الإِهالة، فيمشون عليها، ويظنون أنها منجاة، فتخسف بهم، وما روي أن أبواب النَّار تفتح لهم، فيذهبون إِلى الخروج، نحا هذا المنحى ابنُ عَبَّاس والحسن.
\* ت \*: وقوله تعالى:**{ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَاءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً }** [الحديد:13] يقوِّي هذا المنحَىٰ، وهكذا نص عليه في اختصار الطبريِّ. انتهى.
وقيل: استهزاؤه بهم هو استدراجُهُمْ بُدرُور النعم الدنيوية، و { يمدُّهم } ، أي: يزيدهم في الطغيان، وقال مجاهد: معناه: يملي لهم، والطغيان الغُلُوُّ وتعدِّي الحدِّ؛ كما يقال: طَغَى المَاءُ، وَطَغَتِ النَّارُ و { يَعْمَهُونَ }: معناه: يتردَّدون حيرةً، والعَمَهُ الحَيْرَةُ من جهة النَّظَر، والعَامِهُ الذي كأنه لا يُبْصِرُ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) | الكلام عليها كالكلام على التي قبلها.
و " آمنوا " فعل وفاعل، والجملة في محل رفع لقيامها مقام الفاعل على ما تقدم في**{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ }** [البقرة: 11] والأقوال هناك تعود هُنَا.
والكاف في قوله " كما آمن " في محلّ نصب.
وأكثر المعربين يجعلون نعتاً لمصدر محذوف، والتقدير: آمنوا إيماناً كإيمان النَّاس، وكذلك يقولون في: " سير عليه حثيثاً ": أي سيراً حثيثاً وهذا ليس مذهب سيبويه، إنما مذهبه في هذا ونحوه أن يكون منصوباً على الحال من المصدر والمضمر المفهوم من الفعل المتقدم.
وإنما أحوج سيبويه إلى ذلك أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلاَّ في مواضع محصورة، ليس هذا منها، فتلك المواضع: أن تكون الصفة خاصة بالموصوف، نحو: " مررت بكاتب ".
أو واقعة خبراً نحو: " زيد قائم ".
أو حالاً نحو: " جاء زيد راكباً ".
أو صفة لظرف نحو: " جلست قريباً منك ".
أو مستعملة استعمال الأسماء، وهذا يحفظ ولا يُقَاس عليه، نحو: " الأبْطَح والأَبْرَق " وما عدا هذه المَوَاضع لا يجوز فيها حذف المَوْصُوف؛ ألا ترى أنَّ سيبويه منع لا ماء ولو بارداً، وإن تقدّم ما يدلُّ على الموصوف، وأجاز: " إلا ماء ولو بارداً "؛ لأنه نصب على الحال.
و " ما " مصدرية في محل جَرّ بالكاف، و " آمَنَ النَّاسُ " صلتها.
واعلم أنَّ " ما " المصدرية توصَلُ بالماضي أو المضارع المتصرّف، وقد شَذَّ وصلها بغير المتصرف في قوله: [الطويل]
| **202-....................** | | **بِمَا لَسْتُمَا أَهْلَ الخِيَانَةِ، والغَدْرِ** |
| --- | --- | --- |
وهل توصل بالجمل الاسمية؟ خلاف، واستدل على جوازه بقوله: [الكامل]
| **203- وَاصِلْ خَلِيلَكَ ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ** | | **فَلأَنْتَ أَوْ هُوَ عَنْ قَلِيلٍ ذَاهِبُ** |
| --- | --- | --- |
وقال الآخر: [البسيط]
| **204- أَحْلاَمُكُمْ لِسَقَامِ الجَهْلِ شَافِيَةٌ** | | **كَمَا دِمَاؤُكُمُ تَشْفِي مِنَ الكَلَبِ** |
| --- | --- | --- |
وقول الآخر: [الوافر]
| **205- فإِنَّ الحُمْرَ مِنْ شَرِّ المَطَايَا** | | **كَمَا الحَبِطَاتُ شَرُّ بَنِي تَمِيمِ** |
| --- | --- | --- |
إلاّ أن ذلك يكثر فيها إذا أفهمت الزمان؛ كقوله: [الكامل]
| **206- وَاصِلْ خَلِيلَكَ...........** | | **....................** |
| --- | --- | --- |
البيت.
وأجاز الزَّمخشري وأبو البقاء أن تكون " ما " كافّة لـ " الكاف " عن العمل.
مثلها في قولك: ربما قدم زيد، ولا ضرورة تدعو إلى هذا؛ لأن جعلها مصدريةً مبقٍ لـ " الكاف " على ما عهد لها من العمل، بخلاف جعلها كافة.
والألف واللام في " النَّاس " تحتمل أن تكون للجنس، وفيها وجهان.
أحدهما: المراد " الأوس " و " الخزرج "؛ لأن أكثرهم كانوا مسلمين، وهؤلاء المنافقون كانوا منهم، وكانوا قليلين، ولفظ العموم قد يُطْلق على الأكثر.
والثاني: المُرَاد جميع المؤمنين؛ لأنهم هم النَّاس؛ لكونهم أعطوا الإنسانية حقَّهَا؛ لأن فضل الإنسان على سَائِرِ الحيوان بالعَقْلِ المرشد.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
وتحتمل أن تكون " الألف " و " اللام " للعهد، فيكون المراد: كما آمن الرسول ومن معه، وهم ناسٌ معهودون، أو عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.
فصل في أوجه ورود لفظ الناس
ورد لفظ " النَّاس " على سبعة أوجه:
الأول: المُرَاد به عبد الله بن سلام، وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب.
الثاني: المُرَاد به النَّبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى:**{ أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ }** [النساء: 54].
أي: يحسدون النبي - عليه الصلاة والسلام - على النِّسَاء.
الثَّالث: الناس: المؤمنون خاصّة قال تعالى:**{ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ }** [آل عمران: 97]، ومثله:**{ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ }** [البقرة: 21].
الرابع والخامس: كُفّار قريش، وزيد بن مسعود، قال تعالى:**{ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ }** [آل عمران: 173] يعني نَعِيم المكّي:**{ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ }** [آل عمران: 173].
السادس: آدم - عليه الصلاة والسَّلام - قال تعالى:**{ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ }** [البقرة: 199] يعني: آدم عليه الصلاة والسلام.
السابع: الرِّجَال؛ قال تعالى:**{ لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ }** [غافر: 57] يعني: الرجال.
فصل في إعراب الآية
الهمزة في " أنؤمن " للإنكار، والاستهزاء، ومَحَلّ " أنؤمن " النصب بـ " قالوا " وقوله: { كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } القول في " الكاف " و " ما " كالقول فيهما فيما تقدّم، و " الألف " و " اللام " في " السفهاء " تحتمل أن تكون للجنس أو للعهد، وأبعد من جعلها للغَلَبَة كالعيّوق؛ لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم، بحيث إذا قيل: السفهاء فيهم منهم ناس مخصوصون، كما يفهم من العيوق كوكب مخصوص.
والسَّفه: الخِفّة، يقال: ثوب سفيه أي: خفيف النَّسْج، ويقال: سفهت الرِّيح الشيء: إذا حَرَّكته؛ قال ذو الرمّة: [الطويل]
| **207- جَرَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِيَاحٌ تَسَفَّهَتْ** | | **أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ** |
| --- | --- | --- |
وقال أبو تمام: [الوافر]
| **208- سَفِيهُ الرُّمْحِ جَاهِلُهُ إذَا مَا** | | **بَدَا فَضْلُ السَّفِيهِ عَلَى الحَلِيمِ** |
| --- | --- | --- |
أراد سريع الطَّعن بالرُّمْحِ خفيفه، وإنما قيل لبذيء اللسان: سفيه؛ لأنه خفيف الهداية.
وقال عليه الصلاة والسلام: **" شَارِبُ الخَمْرِ سَفِيهٌ "** لقلة عقله.
وقيل: السفيه: الكَذّاب الذي يعمل بخلاف ما يعلم، وإنما سمّى المنافقون المسلمين بالسُّفهاء، لأن المُنَافقين كانوا من أهل الرياسة، وأكثر المسلمين كانوا فقراء، وكان عند المنافقين أن دين محمد باطلٌ، والباطل لا يقبله إلا السَّفيه، فلهذا نسبوهم إلى السَّفاهة، ثم إنّ الله - تعالى - قلب عليهم هذا القول فقال: " أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ " لوجوه:
أحدها: أنَّ من أعرض عن الدّليل، ثم نسب المتمسّك به إلى السَّفَاهة، فهو السَّفيه.
وثانيها: أنَّ من باع آخرته بِدُنْيَاهُ فهو السَّفيه.
وثالثها: أنَّ من عادى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد عادى الله، وذلك هو السَّفيه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
والكلام على قوله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } كالكلام على قوله:**{ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }** [البقرة: 12].
وقرأ أهل " الشام " و " الكوفة " " السّفهاء أَلاَ " بتحقيق الهمزتين، وكذلك كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا، والآخرون يحققون الأولى، ويليّنون الثانية في المختلفتين طلباً للخفّة فإن كانتا متّفقتين مثل:**{ هَـٰؤُلاۤءِ إِن }** [البقرة: 31]، و**{ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ }** [الأحقاف: 32]، و**{ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ }** [هود: 101] قرأها أبو عمرو والبزي عن ابن كثير بهمزة واحدةٍ.
وقرأ أبو جعفر، وورش، ويعقوب: بِتَحْقِيق الأولى وتَلْيين الثانية.
وقرأ قَالُون: بتليين الأولى، وتحقيق الثانية، لأن ما يستأنف أولى بالهمزة ممّا يسكت عليه.
فصل في نظم الآية
إنما قال هناك: " ولكن لا يشعرون " ، وقال ها هنا: " ولكن لا يعلمون " لوجهين:
أحدهما: أن المثبت لهم - هناك - الإفساد، وهو مما يدرك بأدنى تأمّل، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فِكْرٍ كثير، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر، وهي الحواسّ مبالغة في تجهيلهم، وهو أنَّ الشعور الذي قد ثبت للبهائم مَنْفِيّ عنهم، والمثبت - هنا - هو السَّفه والمصدر به هو الأمر بالإيمان، وذلك مما يحتاج إلى إِمْعَان فكرٍ ونَظَرٍ، فإنه مُفْضٍ إلى الإيمان والتصديق، ولم يقع منهم المأمور به وهو الإيمان، فناسب ذلك نفي العلم عنهم.
الوجه الثاني: أن السَّفه خفّة العقل والجَهْل بالأمور؛ قال: [السريع]
| **209- نَخَافُ أنْ تَسْفَهَ أحْلاَمُنَا** | | **فَنَجْهَلَ الجَهْلَ مَعَ الجَاهِلِ** |
| --- | --- | --- |
والعلم نقيض الجَهْل فقابله بقوله: { لاَّ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 13]؛ لأن عدم العلم بالشيء جهل به.
فصل في تعلق الآية بما قبلها
قال ابن الخطيب: لما نهاهم في الآية الأولى عن الفساد في الأرض، ثم أمرهم في هذه الآية بالإيمان دلّ على أن كمال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين، وهو تركه ما لا يَنْبَغِي، وفعل ما ينبغي.
وقوله: { آمِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ } أي: إيماناً مقروناً بالإخلاص بعيداً عن النفاق.
ولقائل أن يستدلّ بهذه الآية على أنّ مجرد الإقرار إيمان، فإنه لو لم يَكُنْ إيماناً لما تحقّق مُسَمّى الإيمان إلاَّ إذا حصل بالإخلاص، فكان قوله: " ءَامنوا " كافياً في تحصل المطلوب، وكان ذكر قوله: { كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ } لغواً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ) | أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس } قال: صدقوا كما صدق أصحاب محمد أنه نبي ورسول، وأن ما أنزل عليه حق { قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء } يعنون أصحاب محمد { ألا إنهم هم السفهاء } يقول: الجهال { ولكن لا يعلمون } يقول: لا يعقلون.
وأخرج ابن عساكر في تاريخه بسندٍ واهٍ عن ابن عباس في قوله آمنوا كما آمن الناس قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { كما آمن السفهاء } قال: يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عن الربيع وابن زيد. مثله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } من قِبَل المؤمنين بطريق الأمر بالمعروف إثرَ نهيِهم عن المنكر إتماماً للنُصح وإكمالاً للإرشاد: { ءامِنُواْ } حُذف المؤمَنُ به لظهوره أو أريدَ افعلوا الإيمان: { كَمَا ءامَنَ ٱلنَّاسُ } الكاف في محل النصب على أنه نعتٌ لمصدر مؤكدٍ محذوف أي آمنوا إيماناً مماثلاً لإيمانهم فما مصدرية أو كافة، كما في ربما، فإنها تكف الحرف عن العمل، وتصحح دخولَها على الجملة، وتكون للتشبـيه بـين مضموني الجملتين، أي حققوا إيمانَكم كما تحقق إيمانُهم، واللام للجنس، والمراد بالناس الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل، فإن اسمَ الجنس كما يُستعمل في مسماه يستعمل فيما يكون جامعاً للمعاني الخاصة به المقصودةِ منه، ولذلك يُسلب عما ليس كذلك، فيقال هو ليس بإنسان، وقد جمعهما من قال: [الطويل]
| **[بلادٌ بها كنَّا ونحن نحبُّها]** | | **إذ الناسُ ناسٌ والزمانُ زمان** |
| --- | --- | --- |
أو للعهد، والمرادُ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم ومن معه، أو مَنْ آمن مِنْ أهل جِلْدتهم كابن سلام وأضرابِه، والمعنى آمنوا إيماناً مقروناً بالإخلاص، متمحّضاً عن شوائب النفاق، مماثلاً لإيمانهم { قَالُواْ } مقابِلين للأمر بالمعروف بالإنكار المنكر، واصفين للمراجيح الرِّزانِ بضد أوصافِهم الحسانِ: { أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء } مشيرين باللام إلى من أشير إليهم في الناس من الكاملين، أو المعهودين، أو إلى الجنس بأسره، وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد، والسَّفهُ خِفةٌ وسخافةُ رأيٍ يُورِثهما قصورُ العقل، ويقابله الحِلْم والأناة، وإنما نسبوهم إليه مع أنهم في الغاية القاصية من الرشد والرزانةِ والوقار، لكمال انهماكِ أنفسِهم في السفاهة، وتماديهم في الغَواية، وكونِهم ممن زُين له سوءُ عمله فرآه حسناً، فمن حسِب الضلالَ هدىً يسمِّي الهدى - لا محالة - ضلالاً، أو لتحقير شأنهم، فإن كثيراً من المؤمنين كانوا فقراءَ، ومنهم مَوالٍ كصهيب وبلال، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المرادِ بالناس عبدَ الله بن سلام وأمثالَه، وأياً ما كان فالذي يقتضيه جزالةُ التنزيل ويستدعي فخامةُ شأنِه الجليل أن يكون صدورُ هذا القول عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جواباً عن نصيحتهم، وحيث كانوا فحواه تسفيهَ أولئك المشاهيرِ الأعلام، والقدحَ في إيمانهم لزم كونُهم مجاهرين لا منافقين. وذلك مما لا يكاد يساعده السِباق والسِياق، وعن هذا قالوا ينبغي أن يكون ذلك فيما بـينهم لا على وجه المؤمنين.
قال الإمام الواحدي: إنهم كانوا يُظهرون هذا القول فيما بـينهم لا عند المؤمنين، فأخبر الله تعالى نبـيّه عليه السلام والمؤمنين بذلك عنهم، وأنت خبـير بأن إبرازَ ما صدر عن أحد المتحاورَيْن في الخلاء في معرِض ما جرى بـينهما في مقام المحاورة مما لا عهدَ به في الكلام فضلاً عما هو في منصِب الإعجاز، فالحقُ الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر عنهم بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونَهم مجاهرين، فإنه ضربٌ من الكفر أنيقٌ، وفنّ في النفاق عريق، مصنوعٌ على شاكلة قولِهم:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
**{ وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ }** [النساء، الآية 46] فكما أنه كلامٌ ذو وجهين مثلَهم محتملٌ للشر، بأن يُحمل على معنى اسمعْ منا غيرَ مُسمعٍ كلاماً ترضاه ونحوِه، وللخير بأن يُحمل على معنى اسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ مكروهاً، كانوا يخاطبون به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً به، مظهرين إرادةَ المعنى الأخير، وهم مُضمرون في أنفسهم المعنى الأولَ، مطمئنون به، ولذلك نُهوا عنه، كذلك هذا الكلامُ محتملٌ للشر كما ذكر في تفسيره، وللخير بأن يُحملَ على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكارِ ما اتُّهموا به من النفاق، على معنى أنؤمن كما آمن السفهاءُ والمجانينُ الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا، ولا نؤمنُ كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك، قد خاطبوا به الناصحين استهزاءً بهم مُرائين لإرادة المعنى الأخير، وهم معوّلون على الأول، فرُدّ عليهم ذلك بقوله عز قائلاً: { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَاءَ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } أبلغَ ردٍّ، وجُهِّلوا أشنعَ تجهيل حيث صُدِّرت الجملةُ بحرفي التأكيد حسبما أشير إليه فيما سلف، وجعلت السفاهةُ مقصورةً عليهم وبالغةً إلى حيث لا يدرون أنهم سفهاء، وعن هذا اتضح لك سرُ ما مر في تفسير قوله تعالى:**{ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }** [البقرة، الآية 11] فإن حمله على المعنى الأخير كما هو رأيُ الجمهور منافٍ لحالهم ضرورةَ أن مشافهتَهم للناصحين ــ بادعاء كونِ ما نُهوا عنه من الإفساد إصلاحاً كما مر ــ إظهارٌ منهم للشقاق، وبروزٌ بأشخاصهم من نَفَق النفاق.
والاعتذارُ بأن المرادَ بما نُهوا عنه مداراتُهم للمشركين كما ذكر في بعض التفاسير، وبالإصلاح الذي يدْعونه إصلاحَ ما بـينهم وبـين المؤمنين، وأن معنى قوله تعالى:**{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ }** [البقرة، الآية 12] أنهم في تلك المعاملة مفسدون لمصالح المؤمنين، لإشعارها بإعطاء الدنِيّة، وإنبائِها عن ضعفهم الملجىءِ إلى توسيط مَنْ يتصدىٰ لإصلاح ذاتِ البـين، فضلاً عن كونهم مصلحين مما لا سبـيل إليه قطعاً، فإن قوله تعالى:**{ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }** [البقرة، الآية 12] ناطقٌ بفساده كيف لا وهو يقتضي أن يكون المنافقون في تلك الدعوى صادقين قاصدين للإصلاح، ويأتيهم الإفسادُ من حيث لا يشعرون، ولا ريب في أنهم فيهم كاذبون لا يعاشرونهم إلا مضارّةً للدين، وخيانةً للمؤمنين، فإذن طريقُ حلِّ الأشكال ليس إلا ما أشير إليه، فإن قولَهم إنما نحن مصلحون محتملٌ للحَمْلِ على الكذب، وإنكارِ صدورِ الإفساد المنسوب إليهم عنهم، على معنى إنما نحن مصلحون لا يصدُر عنا ما تنهوننا عنه من الإفساد وقد خاطبوا به الناصحين استهزاءً بهم وإرادةً لإرادة هذا المعنى وهم معرِّجون على المعنى الإول، فرُد عليهم بقوله تعالى:**{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ }** [البقرة، الآية 12] الآية، والله سبحانه أعلم بما أودعه في تضاعيف كتابهِ المكنونِ من السر المخزون، نسأله العصمةَ والتوفيق، والهداية إلى سَواءِ الطريق.
وتفصيلُ هذه الآية الكريمةِ (بلا يعلمون) لما أنه أكثرُ طِباقاً لذكر السفه الذي هو فنٌّ من فنون الجهل، ولأن الوقوفَ على أن المؤمنين ثابتون على الحق وهم على الباطل مَنوطٌ بالتميـيز بـين الحق والباطل، وذلك مما لا يتسنى إلا بالنظر والاستدلال، وأما النفاقُ وما فيه من الفتنةِ والإفسادِ وما يترتب عليه من كون مَنْ يتصفُ به مفسِداً فأمرٌ بديهيٌّ يقف عليه من له شعور، ولذلك فُصلت الآية الكريمةُ السابقة بلا يشعرون.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) | الإشارة منها أن المنافقين لما دُعُوا إلى الحق وصفوا المسلمين بالسَّفَه، وكذلك أصحاب الغنى إذا أُمِروا بِتَرْكِ الدنيا وصفوا أهل الرشْد بالكسل والعجز، ويقولون إن الفقراء ليسوا على شيء، لأنه لا مال لهم ولا جاه ولا راحة ولا عيش، وفي الحقيقة هم الفقراء وهم أصحاب المحنة؛ وقعوا في الذل مخافة الذل، ومارسوا الهوان خشية الهوان، شيَّدوا القصور ولكن سكنوا القبور، زيَّنوا المهد ولكن أُدرجوا اللحد، ركضوا في ميدان الغفلة ولكن عثروا في أودية الحسرة، وعن قريب سيعلمون، ولكن حين لا ينفعهم علمهم، ولا يغني عنهم شيء.
| **سوف ترى إذا انجلى الغبارُ** | | **أَفَرَسٌ تَحْتَكَ أم حمارُ** |
| --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ) | { واذا قيل لهم } من طرف المؤمنين بطريق الامر بالمعروف اثر نهيهم عن المنكر اتماماً للنصح واكمالا للارشاد فان كمال الايمان بمجموع الامرين الاعراض عما لا ينبغى وهو المقصود بقوله تعالى**{ لا تفسدوا فى الأرض }** الأعراف 56. والاتيان بما ينبغى وهو المطلوب بقوله تعالى { آمنوا } حذف المؤمن به لظهوره اى آمنوا بالله وباليوم الآخر او اريد افعلوا الايمان { كما آمن الناس } الكاف فى محل النصب على انه نعت لمصدر مؤكد محذوف اى آمنوا ايمانا مماثلا لايمانهم فما مصدرية او كافة اى حققوا ايمانكم كما تحقق ايمانهم. واللام فى الناس للجنس والمراد به الكاملون فى الانسانية العاملون بقضية العقل او للعهد والمراد به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه او من آمن من اهل بلدتهم اى من اهل ضيعتهم كابن سلام واصحابه والمعنى آمنوا ايمانا مقرونا بالاخلاص متمحضا من شوائب النفاق مماثلا لايمانهم { قَالُوا } مقابلين للامر بالمعروف بالانكار المنكر واصفين للمراجيح الرزان بضد اوصافهم الحسان { انؤمن كما آمن السفهاء } الهمزة فيه للانكار واللام مشار بها الى الناس الكاملين او المعهودين او الى الجنس باسره وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد والسفه خفة عقل وسخافة رأى يورثهما قصور العقل ويقابله الحلم والاناه وانما نسبوهم اليه مع انهم فى الغاية القاصية من الرشد والرزانة والوقار لكمال انهماك انفسهم فى السفاهة وتماديهم فى الغواية وكونهم ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا فمن حسب الضلال هدى يسمى الهدى لا محالة ضلالا او لتحقير شأنهم فان كثير من المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالى كصهيب وبلال او للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المراد بالناس عبد الله بن سلام وامثاله فان قيل كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقوله { أنؤمن كما آمن السفهاء } قلنا فيه اقوال \* الاول ان المنافقين لعنهم الله كانوا يتكلمون بهذا الكلام فى انفسهم دون ان ينطقوا به بألسنتهم لكن هتك الله تعالى استارهم واظهر اسرارهم عقوبة على عداوتهم وهذا كما ظهر ما اضمره اهل الاخلاص من الكلام الحسن وان لم يتكلموا به بالألسن تحقيقا لولا يتهم قال الله تعالى**{ يوفون بالنذر }** الإنسان 7. الى ان قال**{ إنما نطعمكم لوجه الله }** الإنسان 9 وكان هذا فى قلوبهم فاظهره الله تعالى تشريفا لهم وتشهيرا لحالهم هذا قول صاحب التيسير. والثانى ان المنافقين كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين فاخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك هذا قول البغوى. والثالث قول ابى السعود فى الارشاد حيث قال هذا القول وان صدر عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جوابا عن نصيحتهم لكن لا يقتضى كونهم مجاهرين لا منافقين فانه ضرب من الكفر أنيق وفن فى النفاق عريق لانه محتمل للشر كما ذكر فى تفسيره وللخير بان يحمل على ادعاء الايمان كأيمان الناس وانكار ما اهتموا به من النفاق على معنى أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بايمانهم لو آمنوا ولا نؤمن كايمان الناس حتى تأمرون بذلك قد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لارادة المعنى الاخير وهم يقولون على الاول فرد عليهم ذلك بقوله عز وجل { الا انهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } انهم هم السفهاء ولا يحيطون بما عليهم من داء السفه والمؤمنون بايمانهم واخلاصهم هربوا من السفه وغبوا فى العلم والحق وهم العلماء على الحقيقة والمستقيمون على الطريقة وهذا رد ومبالغة فى تجهيلهم فان الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع اعظم ضلالة واتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله فانه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم ان قوله تعالى**{ وما يشعرون }** البقرة 9. فى الآية الاولى نفى الاحساس عنهم وفى الثانية نفى الفطنة لان معرفة الصلاح والفساد يدرك بالفطنة وفى الآية الثالثة نفى العلم وفى نفيها على هذه الوجوه تنبيه لطيف ومعنى دقيق وذلك انه بين فى الاول ان فى استعمالهم الخديعة نهاية الجهل الدال على عدم الحس وفى الثانى انهم لا يفطنون تنبيها على ان ذلك لازم لهم لان من لا حس له لا فطنة له وفى الثالث انهم لا يعلمون تنبيها على ان ذلك ايضا لازم لهم لان من لا فطنة له لا علم له فان العلم تابع للعقل – كما حكى – ان الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام اتى اليه جبرائيل بثلاث تحف العلم والحياء والعقل فقال يا آدم اختر من هذه الثلاث ما تريد فاختار العقل فاشار جبريل الى العلم والحياء بالرجوع الى مقرهما فقالا انا كنا فى عالم الارواح مجتمعين فلا نرضى ان يفترق بعضنا عن بعض فى الاشباح ايضا فنتبع العقل حيث كان فقال جبريل عليه السلام استقرا فاستقر العقل فى الدماغ والعلم فى القلب والحياء فى العين قال المولى جلال الدين قدس سره
| **جمله حيوانرا بى انسان بكش جمله انسانرا بكش ازبهر هش هش جه باشد عقل كل اى هو شمند عقل جز وى هش بود امانزند لطف او عاقل كند مرنيل را قهر او ابله كند قابيل را** | | |
| --- | --- | --- |
فليسارع العاقل الى تحصيل العلم والمعرفة حتى يصل الى توحيد الفعل والصفة. قال الامام القشيرى رحمه الله للعقل نجوم وهى للشيطان رجوم وللعلوم اقمار هى للقلوب انوار واستبصار وللمعارف شموس ولها على اسرار العارفين طلوع والعلم اللدنى هو الذى ينفتح فى بيت القلب من غير سبب مألوف من الخارج وللقلب بابان باب الى الخارج يأخذ العلم من الحواس وباب الى الداخل يأخذ العلم بالالهام فمثل القلب كمثل الحوض الذى يجرى فيه انهار خمسة فلا يخلو ماؤه عن كدرة ما دام يحصل ماؤه من الانهار الخمسة بخلاف ما اذا خرج ماؤه من قعره حيث يكون ماؤه اصفى واجلى فكذا القلب اذا حصل له العلم من طريق الحواس الخمس الظاهرة لا يخلو عن كدرة وشك وشبهة بخلاف ما اذا ظهر من صميم القلب بطريق الفيض فانه اصفى واولى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
وقال الشيخ زين الدين الحافى رحمه الله والعجب ممن دخل فى هذه الطريقة واراد ان يصل الى الحقيقة وقد حصل من الاصطلاحات ما يستخرج بها المعانى من كتاب الله واحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ثم لا يشتغل بذكر الله وبمراقبته والاعراض عما سواه لتنصب الى قلبه العلوم اللدنية التى لو عاش الف سنة فى تدريس الاصطلاحات وتصنيفها لا يشم منها رائحة ولا يشاهد من آثارها وانوارها لمعة فالعلم بلا عمل عقيم والعمل بلا علم سقيم والعمل بالعمل صراط مستقيم قال فى المثنوى
| **آنكه بى همت جه با همت شده وآنكه باهمت جه با نعمت شده** | | |
| --- | --- | --- |
وفى التأويلات النجمية { واذا قيل لهم } اى لاهل الغفلة والنسيان { آمنوا كما آمن الناس } اى بعض الناسين منكم الذين تفكروا فى آلاء الله تعالى وتدبروا آياته بعد نسيان عهد ألست بربكم ومعاهدة الله تعالى على التوحيد والعبودية فتذكروا تلك العهود والمواثيق فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به { قالوا } اى اهل الشقاوة منهم { أنؤمن كما آمن السفهاء } فكذلك احوال اصحاب الغفلات مدعى الاسلام اذا دعوا عن الايمان التقليدى الذى وجدوه بالميراث الى الايمان الحقيقى المكتسب بصدق الطلب وترك محبة الدنيا واتباع الهوى والرجوع الى الخق والتمادى فى الباطل ينسبون ارباب القلوب واصحاب الكرامات العالية الى السفه والجنون وينظرون اليهم بنظر العجز والذلة والقلة والمسكنة ويقولون انترك الدنيا كما ترك هؤلاء السفهاء من الفقراء لنكون محتاجين الى الخلق كما هم محتاجون ولا يعلمون انهم هم السفهاء لقوله تعالى { ألا أنهم السفهاء ولكن لا يعلمون } فهم السفهاء بمعنيين احدهما أنهم يبيعون الدين بالدنيا والباقى بالفانى لسفاهتهم وعدم رشدهم والثانى انهم سفهوا انفسهم ولم يعرفوا حسن استعدادهم للدرجات العلى والقربة والزلفى فرضوا بالحياة الدنيا ورغبوا عن مراتب اهل التقى ومشارب اهل النهى كما قال الله تعالى**{ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه }** البقرة 130. فانه من عرف نفسه فقد عرف ربه ومن عرف ربه ترك غيره وعرف اهل الله وخاصته فلا يرغب عنهم ولا ينسبهم الى السفه وينظر اليهم بالعزة فان الفقراء الكبراء هم الملوك تحت الاطمار ووجوههم المصفرة عند الله كالشموس والاقمار ولكن تحت قباب العزة مستورون وعن نظر الاغيار محجوبون قال فى المثنوى
| **مهر با كان درميان جان نشان دل مده الا بمهر دلخوشان كرتوسنك سخره ومرمر شوى جون بصاحب دل رسى جوهر شوى انهم تحت قبابى كامنون جزكه يزدانشان نداند زآزمون** | | |
| --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) | قلت: الكاف من { كَمَا آمَنَ } صفة لمصدر محذوف، و { ما } مصدرية. أي: إذا قيل لهم آمنوا إيماناً خالصاً من النفاق مثل إيمان المسلمين، أو من أسلم من جلدتهم، والسفه: خفة وطيش في العقل، يقال: ثوب سفيه، أي: خفيف. يقول الحقّ جلّ جلاله: { وَإذَا قِيلَ } لهؤلاء المنافقين من المشركين واليهود: اتركوا ما أنتم عليه من الكفر والجحود، وراقبوا الملك المعبود، وطهروا قلوبكم من الكفر والنفاق، وأقصروا مما أنتم فيه من العباد والشقاق و { آمنوا } إيماناً خالصاً مثل إيمان المسلمين، لتكونوا معهم في أعلى عليين، " مَنْ أحَبَّ قَوْماً حُشرِ مَعهم ". " المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " ، { قَالُوا } مترجمين عما في قلوبهم من الكفر والنفاق: { أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفُهَاءُ } الذين لا عقل لهم، إذ جُلهم فقراء ومَوَالي. قال الحق تعالى في الرد عليهم وتقبيح رأيهم: { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ } لا غيرهم، حيث تركوا ما هو السبب في الفوز العظيم بالنعيم المقيم، وارتكبوا ما استوجبوا به الخلود في الدرك الأسفل من الجحيم { وَلَكَن لاَّ يَعْلَمُونَ } ،**{ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }** [الشُّعَراء: 227]، عبَّر الحق في هذه الآية بـ { لا يعلمون } وفي الأولى بـ**{ لاَ يَشْعُرُونَ }** [الأعرَاف: 95] لأن الفساد في الأرض يدرك بأدنى شعور، بخلاف الإيمان والتمييز بين الحق والباطل فيحتاج إلى زيادة تفكر واكتساب علم. والله تعالى أعلم. الإشارة: وإذا قيل لأهل الإنكار على أهل الخصوصية، القاصدين مشاهدة عظمة الربوبية، قد تجرّدوا عن لباس العز والاشتهار، ولبسوا أطمار الذل والافتقار، آمنوا بطريق هؤلاء المخصوصين، وادخلوا معهم كي تكونوا من المقربين. قالوا: { أنؤمن كما آمن السفهاء } ونترك ما نحن عليه من العز والكبرياء، قال الله تعالى في تسفيه رأيهم وتقبيح شأنهم: { ألا إنهم هم السفهاء } حيث تعززوا بعز يفنى، وتركوا العز الذي لا يفنى، قال الشاعر:
| **تَذَلَّلْ لِمَنْ تَهْوَى لِتَكْسِبَ عِزَّةً فَكَمْ عِزَّةً قَدْ نَالَهَا المَرْءُ بِالذُّلِّ إذَا كانَ مَنْ تَهْوَى عَزِيزاً، ولم تكُنْ ذَلِيلاً لَهُ، فَاقْرَ السَّلامَ عَلَى الوَصْلِ** | | |
| --- | --- | --- |
فلو علموا ما في طيّ الذل من العز، وما في طي الفقر من الغنى، لجالدوا عليه بالسيوف، ولكن لا يعلمون.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) | قرأ ابن عامر وأهل الكوفة بتحقيق الهمزتين، وكذلك كل همزتين مختلفتين من كلمتين. الباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية.
المعنى:
المعنيّ بهذه الآية هم الذين وصفهم تعالى بانهم يقولون: { آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين }
والمعنى إذا قيل لهم آمنوا بمحمد (صلى الله عليه وسلم) وبما جاء من عندالله، كما آمن به الناس يعني المؤمنين حقاً، لأن الألف واللام ليسا فيه للاستغراق، بل دخلا للعهد فكأنه قيل: آمنوا كما آمن الناس الذين تعرفونهم باليقين والتصديق بالله ونبيه ـ صلى الله عليه وآله ـ وبما جاء به من عند الله.
والألف في قوله: { أنؤمن } ألف إنكار، وأصلها الاستفهام، ومثله**{ أنطعم من لو يشاء الله أطعمه }** وكقول القائل: أأضيع ديني وأثلم مرؤتي؟ وكل هذا جواب، لكن قد وضع السؤال فيه وضعاً فاسداً، لوصفهم ان الذين دعوا إليهم سفهاء.
وموضع (إذا) نصب، وتقديره: قالوا إذا قيل لهم ذلك انؤمن، فالعامل فيه قالوا.
والسفهاء جميع سفيه، مثل: علماء وعليم، وحكماء وحكيم، والسفيه: الضعيف الرأي الجاهل القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضار ولذلك سمى الله الصبيان سفهاء بقوله:**{ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم }** فقال عامه اهل التأويل هم النساء والصبيان لضعف آرائهم وأصل السفه: خفة الحلم وكثرة الجهل. يقال: ثوب سفيه اذا كان رقيقاً بالياً. وسفهته الريح: اذا طيرته كل مطيّر. وفي اخبارنا أن شارب الخمر سفيه فأمر الله تعالى أن يؤمنوا كما آمن المؤمنين المستبصرون فقالوا: أنؤمن كما آمن الجهال، ومن لا رأي له ومن لا عقل له كالصبيان والنساء، فحكم الله عليهم حينئذ بانهم السفهاء باخباره عنهم بذلك. وهو من تقدم ذكره من المنافقين.
والسفيه إنما سمي مفسداً من حيث انه يفسد من حيث يظن انه يصلح، ويضيّع من حيث يرى أنه يحفظ وكذلك المنافق يعصي ربه من حيث يظن انه يطيع ويكفر به من حيث يظن أنه يؤمن به. والألف واللام في السفهاء للعهد كما قلناه في الناس.
وهذه الآية ايضاً فيها دلالة على من قال: إن الكافر لا يكون إلا معانداً، لأنه قال: { ولكن لا يعلمون }.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) | ومن قبائح أعمال المنافقين: أنّهم يستنكفون عن قبول التعليم، وعن التقليد للغير، والتسليم لأمره، ولا يرضون بمشاركة الناس ترفّعاً لمقامهم، ومقامهم أدنى من كلّ أحد، ممّن يقبل التعليم والتأديب والإرشاد والتهذيب.
ولمّا كان كمال الإنسان منوطاً بمجموع أمرين: ترْك ما لا ينبغي، وإتيان ما ينبغي. لذلك نهاهم الله في الآية المتقدّمة عن الفساد في الأرض، وأمرهم في هذه الآية بالإيمان ولفظة قوله: " آمِنوا " مفعول لم يُسَمّ فاعله؛ لمعنى قوله: " قيل " ، والإسناد الى صورة الفعل ولفظه جائزٌ، والممتنع هو الإسناد الى معناه، فهو مثل قولك: رُكّب " ضَرَبَ " من ثلاثة أحرف.
وقوله: { آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } ، في حيّز النصب على المصدريّة، و " ما " مصدريّة، مثلها في " بما رجعت " ، أو كافّة مثلها في " ربما ".
والتعريف في " الناس " للجنس، أي كإيمان سائر الناس، واستدلّ به على قبول توبة الزنديق، وانّ الإقرار باللسان إيمان، وإلاّ لم يفد هذا التقييد.
أو المراد به الكاملون في الإنسانيّة، العاملون بمقتضى العقل، فإنّ اسم الجنس كما يطلق على مسمّاه مطلقاً، كذلك يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة، والمعاني المختصّة بالإنسان التي يمتاز بها عن سائر الأكوان وسائر الحيوان، هي الإيمان والمعرفة والعفّة والعدالة والصبر والتقوى والرضا بما أمر الله، وغير ذلك، فكلّ من أخلّ بشيء من ذلك، فقد نقص في الإنسانيّة بحسبه، وكلّ من قصّر عنها فصحّ سلب الانسانيّة عنه فيقال: زيدٌ ليس بإنسان، وإن كان في قالب الإنسانيّة، ومن هذا الباب قوله تعالى:**{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ }** [البقرة:18]، ونحوه، وقد جمع الشاعر بين المعنيين في قوله:
| **إذ الناس ناسٌ والزمانُ زمانُ** | | |
| --- | --- | --- |
ويمكن أن يكون للعهد، والمراد به الرسول (صلّى الله عليه وآله) ومَن معه أو من آمن من أهل جلدتهم كابن سلام وأصحابه والمعنى: آمِنوا كسائر الناس، أو كإيمان الخواصّ ايماناً مقروناً بالإخلاص، متمحّضاً عن شوائب النفاق.
والقائل: إمّا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أو بعض المؤمنين. وكان من جوابهم أن سفّهوا الناصح لفرط سفَههم، وجهّلوه لتمادي جهلهم وغرورهم.
ومنشأ غرورهم وتسفيههم لأهل الدين أحد أمرين؛ لأنّ الكفّار على ضربين، فَمِنْهُمْ مَنْ غَرَّتْه الْحَياةُ الدُنْيَا، ومنهم من غرِّه بالله الغَرور.
أمّا الذين غرّتهم الحياة الدنيا، فهم الذين لهم زينة في الحياة الدنيا، ورياسة في قومهم وجمعيّة ويسار، ورأوا أكثر المؤمنين فقراء تحت ذلّ المسكنة واليأس والبؤس، فاغترّوا بالدنيا وقالوا: النقد خير من النّسيئة، والدنيا نقدٌ، فتكون خيراً من الآخرة لأنّها نسيةٌ، فلا بدّ من ايثارها.
وربما قالوا أيضاً: اليقين خيرٌ من الشكّ، ولذّات الدنيا يقين، ولذّات الآخرة شكّ، فلا يترك اليقين بالشكّ، فهو هو الباعث لهم على نسبة السفاهة الى المؤمنين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وهذه أقيسة فاسدة، دالة على أن الملفِّق لها المعوِّل عليها سفيه العقل جاهل القلب، ولهذا أظهر الله تعالى حال باطنهم وسفاهة عقلهم بقوله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }.
وذلك لأنّ قياسَهم فاسدٌ يشبه قياسَ إبليس، ولكنهم وقعوا فيه واغترّوا به لأنّهم ما علموا وجه فساده.
وعلاجه أحد أمرين: إما بالبرهان. وإما التصديق بمجرد الايمان بما أخبره الله تعالى من قوله:**{ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ }** [القصص:60]**{ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ }** [الأعلى:17].**{ وَما ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ }** [آل عمران:185]. ونحو ذلك.
وأما المعرفة بالبرهان، فهو أن يعرف وجه فساد قياسهم الذي يظنّه الشيطان وفيه أصلان: الأول؛ صحيحٌ والآخر: وهو قوله: النقد خير من النسيّة، محل التلبيس، إذ لو كان النقد مثل النسيّة في القدر والشرَف والمنزلة، فهو خيرٌ وإلاّ فلا. وعند هذا يفزع الشيطان إلى القياس الآخر، وهو أكثر فساداً من الأول، لأن كِلا أصليه باطلٌ، إذ اليقين خيرٌ من الشكّ إذا كان مثله في المقصود، وإلاّ فإن التاجر في تعبه ومشقّته على يقين، وفي ربحه على شك، والمتفقّه في اجتهاده وتعبه على يقين، وفي ادراكه رتبة العلم على شكّ، وكذا سائر النظائر في هذا الباب.
فكذلك من شكّ في الآخرة، ينبغي له بحكم الجزم أن يقول: " الصبر أياماً قلائل قريبٌ بالاضافة الى ما يقال من أمر الآخرة، فما قيل فيه إن كان كذباً فلا يفوتني إلاّ التنعّم اليسير في أيّام حياتي، وإن كان صدقاً فأبقى في النار أبد الآباد وهذا لا يطاق ". ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لبعض الملحدين: " إن كانَ ما قلتَه حقّاً فقد تخلّصتَ وتخلّصنا، وإن كان ما قلنا حقّاً، فقد تخلّصنا وهلكتَ ".
وما قال (عليه السلام) هذا عن شكّ في أمر الآخرة، ولكن كلّمَ الملحدَ على قدْر عقلِه، فبيَّن أنّه مغرورٌ سفيه.
وأمّا الأصل الثاني: وهو أنّ الآخرة شكٌّ، فهو أيضاً خطأ، بل ذلك يقينٌ عند العارفين والمؤمنين، وليقينه مدركان:
أحدهما: الإيمان والتصديق تقليداً للأنبياء والأولياء، وذلك أيضاً يُزيل السفه والغُرور، وأكثر أهل الدين اطمأنّوا به كما تطمئنّ نفس المريض الى تصديق قول الأطبّاء الحذّاق في الدواء، ولو اعتمد أحدٌ قوله وترَك قول الأطبّاء، كان سفيهاً معتوهاً، وهذا القدر من الإيمان كافٍ لجملة الناس، لأنّه اعتقادٌ جازم يستحثّ على العمل، وإليه الإشارة بوجه في قوله: { آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ }.
وأما المدرك الثاني لمعرفة الآخرة: فالوحي للأنبياء، والإلهام للأولياء، ولا تظنّ أيّها الحبيب - هداك الله - انّ معرفة النبي (صلّى الله عليه وآله) لأمر الآخرة ولأمر الدين ولسائر المعارف الإلٰهية، كانت تقليداً لجبرائيل بالسماع منه والرواية، كما انّ معرفتك تقليدٌ للنبي تكون معرفتك كمعرفته، وانّما يختلف المقلَّد فقط.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
هيهات، فإنّ التقليد ليس معرفة، بل هو اعتقاد صحيح، والأنبياء عارفون. ومعنى معرفتهم أنّهم كُشِف لهم حقيقةُ الأشياء كما هي عليها، فشاهَدوها بالبصيرة الباطنة، كما تُشاهد أنت المحسوساتِ بالبصَر الظاهر، فيخبرون عن مشاهدةٍ، لا عن سماع وتقليدٍ.
وأمّا الذين غرّهم بالله الغَرور، فمنشأ اغترارهم بالله ما قال بعضهم في أنفسهم أو بألسنتهم: إنّه إن كان لله تعالى معادٌ ولنا عودٌ إليه، فنحن أحق به وبالسعادة عنده من غيرنا، لأنّا أعظم منزلةً وأوفر حظاً وأسعد حالاً، كما أخبر الله تعالى من قول الرجلين المتحاورين في القرآن بقوله:**{ وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً }** [الكهف:36]. وقال تعالى رداً على أمثاله:**{ أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً }** [مريم:78]. كلا فهذا من الغرور بالله.
ويشبه القياس من أقيسه إبليس، وذلك بأنّهم ينظرون مرّة الى نِعم الله تعالى عليهم في الدنيا، ويقيسون نِعم الآخرة عليه، وينظرون مرّة الى تأخير الله العذاب عنهم فيقيسون عذاب الآخرة عليه، ومرّة ينظرون الى الفقراء المؤمنين وهم شعثٌ غبرٌ وكان منهم في زمان النبي (صلّى الله عليه وآله) موالي كصُهيب وبلال وخبّاب، فيزدرونهم ويستحقرونهم، ويسفّهونهم، وكان بعض المنافقين يقول لبعض: أنؤمن كما آمن سفيهُ بني فلان وسفيه بين فلان؟!
وكانوا يقولون:**{ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ }** [الأنعام:53]. ويقولون:**{ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ }** [الأحقاف:11]. وهذا كلّه أيضاً لحمقهم، وسفَه عقولهم، وجهلهم بأحوال الدنيا والآخرة، فإنّ ترتيب القياس الذي رتّبه إبليس في قلوبهم انّهم قالوا: قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا، وكلّ محسن فهو محبٌّ، وكل محب لأحد فهو يحسن إليه في المستقبل أيضاً كما قال الشاعر:
| **لقد أحسن الله فيما مضى** | | **كذلك يسحن فيما بقي** |
| --- | --- | --- |
والتلبيس تحت ظنّه أنّ كلّ محسن محبٌّ، لا بل تحت ظنّه أنّ انعامه عليه في الدنيا إحسان، فقد اغترّ أنه كريم عند الله بدليل لا يدلّ على الكرامة، بل عند ذوي البصائر يدلّ على الهوان، لأن نعيم الدنيا مهلكات مبعّدات من الله، وإنّ الله يحمي عبدَه الدنيا وهو يحبّه، كما يحمي أحدكم مريضَه الطعامَ والشراب وهو يحبّه.
وفي الخبر: إن أرباب البصائر، إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وقالوا: ذنب عجّلَ لنا عقوبته، ورأوا إمارة المقْت والإهمال، وإذا أقبل الفقر قالوا: مرحباً بشعار الصالحين.
والسفيه المغرور بوساوس الشيطان بعكس ذلك، كما اخبر الله تعالى بقوله:**{ فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ }** [الفجر:15 - 16].
فبيّن ان ذلك لجهله وسفاهته.
فكذلك المراد بقوله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } ، يجوز أن يكون ذلك بياناً لغرورهم وجهلهم بفساد ما تخيّلوه من صورة أقيستهم الفاسدة الأصول، الباطلة النتيجة، فإنّ من باع آخرتَه بدنياه بقياس مغالطي ألقاه الشيطان، فهو السفيه، ومن خالَف طريقَ الأنبياء والأولياء كلهم، فهو السفيه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وإنما قال في هذه الآية: " لا يَعْلَمُونَ " ، وفيما قبلها: " لا يَشْعُرُونَ " ، لأن الوقوف على أنّ طريق الإيمان حق وطريق الكفر باطل، أمر عقلي نظري، وأما الوقوف على النفاق وما فيه من البَغي والفساد في الأرض، فأمرٌ ضروري يجري مجرى المحسوس، لأنه يشاهَد من أقوالهم وأفعالهم، ولأن ذكر السفَه - وهو نقص العقل وخفّته - مكان ذكر العلْم، أحسن طباقاً من مكان ذكر الشعور.
واصل السفَه الخفّة. يقال: سفهت الريحُ الشيءَ: إذا حرّكته، قال ذو الرمة:
| **جرَين كما اهتزّت رياحٌ تسفَّهت** | | **أعاليها مرّ الرياح الرواسم** |
| --- | --- | --- |
وفي الآية تسلية للعالِم فيما يلحقه في التعليم والنصيحة من سفاهة الجاهل وصوته المستنكَر، وقوله الباطل، واعتقاده الفاسد، وإعجابه بنفسه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ } لمّا كان القائل هو الرّسول او المؤمنين اشار تعالى شأنه الى أنّ النّاصح لهم جمع بين وصفى التّحذير والتّرغيب والانذار والتبشير وانّهم ردّوا عليه كلا شقىّ نصحه والمراد بالايمان الايمان بالرّسول (ص) بالبيعة العامّة مع تواطؤ القلب واللّسان او الايمان بعلىّ (ع) { كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } بالبيعة مع محمّد (ص) او علىّ (ع) مع تواطؤ القلب والعزم على الوفاء بما أخذ عليهم من الشّروط والمواثيق ويجوز ان يراد بالايمان فى قولهم " آمنّا بالله " الاذعان او التّصديق وان يراد به هاهنا ايضاً ذلك لكنّ الايمان اذا اطلق فى الكتاب والسّنّة يراد به البيعة العامّة او الخاصّة او ما بعد التّوبة من أجزاء البيعة او الحالة الحاصلة بالبيعة وامّا محض الاقرار بالتّوحيد والرّسالة فلم يكن يسمّى بالايمان حالة حياة الرّسول (ص) وما نقل فى تفسير الامام يدلّ على أنّ المراد به البيعة مع علىّ (ع). { قَالُوۤاْ } مع نظرائهم من المنافقين لا مع المؤمنين والنّاصحين فانّهم لمخادعتهم للمؤمنين واخفاء حالهم عنهم لا يكاشفون بمثل هذا الجواب معهم { أَنُؤْمِنُ } انكاراً لصدور مثل ايمان المؤمنين الّذين هم سفهاء بظنّهم عن مثلهم { كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } السّفيه غير الرّشيد وهو المحجور عليه الّذى يحتاج الى القيّمّ، ويطلق على خفيف العقل الّذى لا يكون افعاله على ما ينبغى ولا يكون مبذّراً ولا منميّاً لما له كما ينبغى، ويطلق على من لا يعرف الحقّ ولا ينقاد تحت حكم حاكمٍ الهىٍّ، وكثيراً ما يستعمل فى الآيات والاخبار بهذا المعنى، ولمّا رأوا المؤمنين على حالة لا يرتضيها عقولهم الشّيطانيّة مع انقيادهم ظاهراً وباطناً لمحمّد (ص) او علىّ (ع) وعدم قدرتهما بزعمهم على محافظة اتّباعهما من اعدائهم سمّوهم سفهاء، ولمّا كان اتّباع المؤمنين وانقيادهم لخليفة الله هو مقتضى العقل ومقتضى معرفة الحقّ وخروج المنافقين عن الانقياد والخديعة مع العباد خروجاً عن مقتضى العقل السّليم وعن مقتضى معرفة الحقّ حصر تعالى شأنه السّفاهة فيهم مؤكّداً بالتّأكيدات العديدة حصر قلب ليفيد نفيها عمّن نسبوها اليهم فقال { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } قد مضى وجه الاتيان بأدوات التّأكيد واداة الاستدراك.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير تفسير كتاب الله العزيز/ الهواري (ت القرن 3 هـ) | قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ } يعني: وإذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون آمنوا كما آمن الناس أي: أكملوا إيمانكم بالفعل الذي ضيعتموه. كما آمن الناس أي: كما آمن المؤمنون المستكملون القول والعمل { قَالُوا } يقول بعضهم لبعض: { أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ } أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان ممن آمن ووفّى، يعيبونهم بالوفاء والكمال، ولم يعلنوا ذلك للنبي عليه السلام. قال الله: { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } أنهم سفهاء في تفسير الحسن. وفي تفسير السّدّي: ولا يعلمون أن الله يخبر نبيّه بقولهم.
قال تعالى: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } يعني الكفار في تفسير الحسن. وفي تفسير غيره من أصحابنا: إلى كبرائهم وقادتهم في الشر { قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } بمحمد وأصحابه. وتفسير الاستهزاء في هذا الموضع: إنما نحن مخادعون محمداً وأصحابه. يقول الله: { اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } أي الله يخدعهم بمخادعتهم رسولَه. وقال في سورة النساء:**{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء:142].
ذكروا عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" يُجاء بالمستهزئين يوم القيامة فيُفتح لهم باب من الجنة، فيُدعون ليدخلوها، فيجيئون ليدخلوها، فإذا بلغوا الباب أُغلِق دونهم فيرجعون. ثم يُدعون ليدخلوها، فإذا بلغوا الباب أُغلِق دونهم فيرجعون. ثم يدعون، حتى أنهم ليُدعَوْن فما يجيئون من الإِياس ".** وهذه الرواية عن الحسن تحقِّق ما تأوَّلنا عليه هذه الآية أن الاستهزاء في هذا الموضع هو الخداع؛ يخدعهم الله في الآخرة كما خدعوا النبي عليه السلام والمؤمنين في الدنيا؛ وهو قوله: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ) | { وَإِذْ قِيْلَ لَهُمْ آمِنُوا }.. إلخ القول فيه كالقول فى**{ وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض }** إلخ، وقوله لا تفسدوا، من باب التخلية بالخاء المعجمة، وقوله آمنوا من باب التحلية بالحاء المهملة، والتخلية مقدمة على التحلية كما جاءت الآية، لأن تحلية الشىء مع بقاء ما يسمجه ويناقض الحلية غير مؤثر بها، ونفع ونظام الدين والدنيا بأمرين الإعراض عما لا ينبغى، وهو الذى ينهى عنه قوله**{ لا تفسدوا فى الأرض }** والإتيان بما ينبغى وهو الذى يؤمر به كقوله { آمِنُوا... }.. { كَمآ ءَامَنَ النَّاسُ } أى إيماناً ثابتاً كإيمان الناس فى الخلوص عن شوائب النفاق، وما مصدرية والمصدر مجرور بالكاف، فالتشبيه بين المفردين المفعول المطلق المحذوف المنعوت بثابت عنه الكاف مع مدخولها، والمصدر مجرور بالكاف، فالتشبيه بين مفردين المفعول المطلق المحذوف المنعوت بثابت، النائب عنه الكاف مع مدخولها والمصدر المقدر مما بعد الكاف، ولا يجوز حمل ما على أنها كافة، لأن الأصل عدم الكف، وقد أمكن عدمه بلا تكلف، ولو أجازه غيرى، ويتعين الكف فى**{ ربما يود الذين كفروا }** إذ لو جعلت مصدرية لكان مجرور مصدراً مضافاً لمعرفة إلا أن تجعل ما نكرة موصوفة واقعة على ود، أى رب ود يوده الذين كفروا، ومتى جعلت ما فى الآية كافة، فالشبيه بين جملتين من حيث متضمنهما، وفى الآية دليل على قبول توبة الذى أظهر الإسلام، وأسر الشرك لأنهم أمروا بإيمان كإيمان الناس فى التجرد عن النفاق، فلو كان غير نافع لم يؤمروا به، واستدل بعض بها على أن الإجراء باللسان ولو لم يكن إيماناً لم يكن عبادة، والآية دلت على أنه عبادة، ولو لم يكن عبادة لم يؤمروا به، قلت يبحث بأن الإيمان الذى أمروا به إنما هو إيمان القلوب، وأما الإقرار باللسان فمرتب عليه، فإن خلص فى القلب كان ما فى اللسان عبادة وإلا لم يكن عبادة، وذكر الفخر ما حاصله لا يقال إن الإقرار باللسان إيمان فى الظاهر وإلا لم يعد التقييد بقوله { كَمآ آمَنَ النَّاس } لا غنى قوله آمنوا عنه، لأنا نقول الإيمان الحقيقى عند الله سبحانه إنما هو المصاحب للإخلاص، وأما فى الظاهر فيحصل بالإقرار فلا جرم افتقر فيه إلى تقييده بقوله { كَمآ آمَنَ النَّاس } وأل فى الناس عندى للعهد الذهنى، لإإنه قد تقرر فى أذهانهم أن الصحابة قد آمنوا إيماناً خالصاً، فالناس من عرف بالإخلاص كأبى بكر وعمر وصهيب وبلال وخباب وعبد الله ابن سلام من أى نسب كان، ودخل فيهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنه مؤمن بأنه رسول، وبالقرآن وبالله واجب عليه الإيمان بذلك كله، أو من أخلص الإيمان من جنسهم كعبد الله بن سلام، ويجوز أن تكون للجنس الكامل فى الناسية كأنه قيل كما آمن الناس الكامل كونهم ناساً، والمعتد بهم وهم من مطلق من أخلص الإيمان بقطع النظر عن كونه معهوداً أو غير معهود، فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه بدون اعتبار صفة تأهل لها كقوله
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
**{ والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا }** يستعمل له باعتبارها، فينفى عنه الاسم بانتفاء الصفة كقوله فى جملة أبيات
| **وما رجل لم يجهد الناس طاقة وعلماً وصبراً للبلاء بإنسان** | | |
| --- | --- | --- |
وقد رواه العلامة الضرير محمد بن سليمان النحريرى فى حاشية على شرح الأجرومية لأبى سليمان داود، وحاصله نفى الإنسانية عن الرجل الذى انتفى عنه ما خلق له من إتعاب النفس بالطاعة والعلم والصبر للبلاء. وكقول الشاعر
| **بلاد بها كنا وكنا نحبها إذ الناس ناس والزمان زمان** | | |
| --- | --- | --- |
بل كالعدم لفقدها فيه، وكقوله تعالى**{ صم بكم عمى }** حيث نفى عنهم السمع والنطق والبصر، ولو وجدت فيهم إذ لم يستعملوهن فيما خلقن لأجله، ويستعمل أيضاً فى بعض الأشخاص بدون تعيينها فى اللفظ ولا فى النية بلا قيد صفة كقوله
| **ولقد أمر على اللئيم يسبنى** | | |
| --- | --- | --- |
أوبقيد صفة أو فى البعث المعين مقيداً بها كما فى قوله تعالى**{ ذلك الكتاب }** وصفة الكمال أو فى بعض معين غير مقيد بها، ومن باب قوله ولقد أمر على اللئيم. قولك الرجل خير من المرأة، وأسامة أشجع من النمر. ولا يصار إلى هذا الباب لقلة جدواه إلا عند تعذر غيره. { قَالُوا أَنُؤمِنُ كَمَا آمَنَ السُفَهاءُ } الاستفهام إنكارى، أنكروا أن يكون صواباً أن يؤمنوا كالسفهاء أو توبيخ أو تعجبى، وأل فى السفهاء للعهد الذكرى لأنه لا يشترط فيه تكرار اللفظ بعينه، فمنه قولك ما بات عندى إلا زيد، فبات العالم عندى فى كرم، تريد بالعالم زيداً، وكقولك رأيت الأسد فهبت الغضنفر، أى الأسد، وكقولك قاتلنى الكافر فقتلت الخبيث، يعنى بالخبيث ذلك الكافر، وكما تقول لصاحبك، إن عمراً قد سعى بك، فيقول أوقد فعل السفيه، يريد السفيه عمراً الساعى به إلى سلطان أو نحوه، فكذا المراد بالسفهاء الناس المذكورون فى { كَمآ آمَنَ النَّاس } فالمراد بالسفهاء جنس الناس المؤمنين بأسرهم، المعهودين أو نوع معهود منهم كابن سلام، وقال السعد جنس السفهاء بقطع النظر عن كونهم مراد بهم الناس المذكورون فى قوله { كَمآ آمَنَ النَّاس } أو غير مراد بهم ذلك، ويندرج تحت لفظ السفهاء على زعمهم، وإنما نسبوهم للسفه لاعتقادهم فساد رأى من يؤمن بالقرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالله وصفته كما هو، وبالبعث والجنة والنار، كما هن. وقد مر إيمانهم بالله على غير صفته سبحانه وتعالى، وبالبعث والجنة والنار على غير ما هن عليه، أو لتحقير شأن المؤمنين حينئذ، إذ كان أكثرهم فقراء كابن مسعود وأبى ذر، وكان بعضهم مولى كصهيب وبلال وخباب وسلمان، وإن فسرنا السفهاء بالنوع المعهود المخصوص وهم من آمن منهم، كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار، فإنما سموهم سفهاء إظهاراً للعزة والشجاعة وعدم الذبول بإيمان من آمن منهم، وعدم المبالاة به فى الظاهر مع أنهم قد ذلوا بإسلام هؤلاء وذبلت قلوبهم، وافتضحوا بإيمانهم كسراً فى أعضادهم، وغاظهم إيمانهم ما لم يغظهم إيمان غيرهم، لأنهم لما آمنوا علم الناس أن الإيمان حق، لأنهم أهل التوراة والإنجيل، وإنما ساغ أن يقال هم منافقون مع تصريحهم بتسفيه المؤمنين، لأنهم يصرحون به فيما بينهم، أنؤمن كما آمن سفيه بنى فلان؟ وسفيه بنى فلان؟ فأخبر الله جل وعلا نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بذلك، أشار إليه الشيخ هود وغيره، وظهر لى وجه آخر فى تسفيه من آمن منهم، وهو أنهم بهتوهم بالسفه كالزنى والسرقة والكذب ورقة النسب ونحو ذلك، مما ليس فيهم رحمهم الله، كما روى
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
**" أنه لما أسلم عبد الله بن سلام خبأه صلى الله عليه وسلم، ودعا اليهود وقال لهم " ما تقولون فى عبد الله بن سلام؟ " قالوا حبرنا وعالمنا وابن حبرنا. قال صلى الله عليه وسلم " أرأيتم إن أسلم؟ " قالوا أعاذه الله أن يسلم، فخرج عليهم وصرح بالإسلام وقال اتقوا الله فإنكم قد علمتم أن محمداً رسول الله فى التوراة، فقالوا سفيهنا وابن سفيهنا "** ، والسفه خفة وقلة رأى يصدران عن نقصان العقل، والحلم ثقل رأى وعظمة يصدران عن تمام العقل، وأكثر الآيات تدل على أن المنافقين المذكورين فى القرآن مشركون، ولا أكاد أقول غير ذلك، وأما القسم الآخر المسمى بالمنافقين، وهم فسقة الموحدين فثابت عندى أيضاً لأدلة كثيرة، وليسوا مرادين فى القرآن عندى. والله أعلم. وجمهورنا على غير ذلك، ومن ذلك قول الشيخ هود. قال الله**{ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون }** إن الله يعذبهم فى الآخرة مع إقرارهم وتوحيدهم، وهذا مما يدل على أن المنافقين ليسوا بمشركين. أنتهى. وليس بمتعين، لأنه إنما بناه على تقدير لا يشعرون أن الله يعذبهم... إلخ وليس تقديراً متعيناً. { ألاَ أَنَّهُمْ هُمْ السُّفَهآءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ } أكد الرد عليهم بما أكد به فى قوله**{ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون }** إلا أنه قال هنالك لا يشعرون، وهنا لا يعلمون، لتتم المطابقة لذكر السفه، فإن السفه جهل فطابقه العلم، ولأن الوقوف على أمر الإيمان وشرائطه وتمييز الحق من الباطل مما يحتاج إلى نظر وتفكر، فاستعمل فيه العلم لأنه الاعتقاد الجازم الذى لا يقبل التشكيك. وأما النفاق وما فيه من الفتن والفساد، فيدرك بأدنى تفطن وتأمل فيما يشاهد من أقوالهم وأفعالهم، لأنه معروف بالعادة حتى كأنه محسوس، فاستعمل فيه الشعور وهو الإحساس بالشىء لظهوره، أو التفطن له، وقد استعمل الشعور بمعنى العلم فى قوله { وَمَا يَشْعُرُون } ويحتمله ما هنا أيضاً فيكون التعبير بالعلم تارة، وبالشعور أخرى، تفننا ونظراً إلى ظاهر لفظ الشعور، وتقدير الآية ولكن لا يعلمون أنهم سفهاء، وكذا قال الحسن، وأما السدى فقال ولكن لا يعلمون أن الله يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأما السدى فقال ولكن لا يعلمون أن الله يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بقولهم، والأول أولى وهم جاهلون بجهلهم، فجهلهم مركب، والجاهل جهلا مركباً لا يكاد يقلع عن ضلالته، لأنه يراها رشداً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ } أى قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعض أصحابه { لَهُمْ آمِنُوا } بما يقول النبي صلى الله عليه وسلم { كَمَا ءَامَنَ النَّاسُ } المعهودون الكاملون، أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، ومن آمن به، ولم يحضره بعد إيمانه، وهو من التابعين لا من الصحابة ولو كان فى عصره { قَالُواْ } فيما بينهم، أو بحضرة من أمرهم بالإيمان، بحيث يجدون السبيل إلى إنكار القول، أو عند المؤمنين بحيث لا يسمعون، قيل، أو عند من لم يفش سرهم من المؤمنين لقرابة أو مصلحة، وهو قول ضعيف، والأصل أن المؤمن لا يستر عليهم وعلى كل كشفهم الله عز وجل، ولو جهروا مطلقا لم يسمعوا منافقين { أَنُؤمِنُ } توبيخ لمن أمرهم بالإِيمان ولو غاب، أو إنكارا لأن يكون الإيمان حقا يؤمر به { كَمَا ءَامَنَ السُّفَهَاءُ } الصحابة، ومن آمن ولو لم يكن صحابيا، نسبوا من آمن إلى السفه، وهو الجهل ووضع الشىء فى غير وجهه، ويطلق على نقصان العقل والرأى، أو أرادوا من يحتقر من المسلمين لفقره، أو ضعفه، أو عبوديته كصهيب وبلال، وأكثر المسلمين فقراء، أو أرادوا بالسفه مطلق الخمسة بالجهل أو الفقر أو غيره، والحاصل، أنهم قالوا، لا نفعل فعل السفهاء وهو الإيمان، وذكر الله عز وجل نهى الناهى لهم عن الفساد، ثم أمر الآمر لهم بالإيمان، لأن التخلى قبل التحلى { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ } الجهلاء المحتقرون لكفرهم، رد عليهم بأن السفه بالكفر ومساوىء الأخلاق لا بالفقر، فلا يلزم أن يكون هذا معينا للتفسير الأول فى السفهاء { وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } من السفيه وما السفه، ذكر هنا العلم، وهنالك الشعور، لأن الإفساد يدرك بأدنى تأمل بخلاف السفه والأمر بالإيمان، وأيضا السفه خفة العقل والجهل بالأمور، فناسب نفى العلم أتم مناسبة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) | يسوغ هنا ما سبق في قوله { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أن يعتبر قائل ذلك هو الله أو رسوله أو المؤمنون أو المنافقون أنفسهم، عندما يفكر بعضهم في عاقبة هذا النفاق وما يكلفهم من ابتكار الحِيَل وانتحال الأكاذيب لأجل درء التهم، وتحسين المظهر، فتكون إجابة أولئك الذين مردوا على النفاق وغرقوا فيه إلى الأذقان ما حُكي عنهم هنا وهناك، والمراد بالناس الذين جمعوا صفات الانسانية الكاملة، فلذلك اعتُبرت محصورة فيهم، وكأن من عداهم ليس من الانسانية في شيء، وروى ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه من المهاجرين والأنصار، الذين رسخت أقدامهم في الإِيمان، وانشرحت صدورهم باليقين، وعليه عول كثير من المفسرين، وقيل: المراد بهم من آمن من أهل الكتاب، كعبدالله بن سلام - رضي الله عنه -، وهو مبني على ما سبق ذكره من أن الخطاب لمنافقي اليهود، وقيل: المراد بهم الناس الذين يعتقدون فيهم كمال الانسانية ورقي الأفكار وإشراق العقول، كإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من النبيين الذين يفخرون بالانتماء إليهم.
النفاق يُزيِّن الباطل ويقبِّح الحق:
وعلى أي حال فإن هذا الوصف يصور لنا ما يصل إليه النفاق بأهله من تزيين الباطل وتمجيد ذويه، وتقبيح الحق وتسفيه أتباعه، وإعراضهم عن الناصح واستخفافهم بنصيحته، ولا عجب فإن الحق من دلائل صدقه استهانة المبطلين به، وإن من علامات كمال الفضيلة في الانسان، واتصافه بأرقى الصفات الانسانية؛ استخفاف سفهاء الأحلام به، ورميهم إياه بالمذام والنقائص، كما قال المتنبي:
| **وإذا أتتك مذمتي من ناقص** | | **فهي الشهادة لي بأني كامل** |
| --- | --- | --- |
وليس ما نشاهده ونسمعه في هذا العصر من سخرية المفسدين بالمصلحين واستخفافهم بحلومهم، ونبزهم بالألقاب الشائنة، ولمزهم بالعبارات الجارحة، إلا امتداد لأحوال قديمة دأب عليها أولو الفساد، فكانت من علاماتهم التي بها يعرفون.
ومجيء هذه النصيحة بعد ما قبلَها لما في تلك من الحض على توقي الفساد، وما في هذه من الدعوة إلى التلبس بضده، وهو معنى ما قيل " التخلي قبل التحلي " فالنفس لا تتأهل لأن تكون وعاء للخير حتى تتطهر من أدران الشر، ولا يمكنها أن تتحلى بالفضائل المحمودة حتى تتخلى عن الرذائل المذمومة، وكيف يقرّ الإِيمان في نفس لوّثها الفساد، وألفت الشقاق والنفاق؟ اللهم إلا أن يتغير مسلكها، وتتبدل عاداتها، فتكون كأنما أنشئت نشأة جديدة بعيدة عن تلك الطباع التي كانت عليها، والمفاسد التي أحاطت بها.
ويرى ابن عاشور في تفسيره أن ذكر الناس هنا جار على سنن كلام العرب عندما يريدون إغراء المخاطب بشيء، وحضه على المسارعة إليه، فإنهم يستخدمون كلمة الناس وسيلة لتنبيه المخاطب بأن من عداه من هذا الجنس قد سبقوه إلى هذا الفعل، فجدير به أن لا يتوانى في اللحاق بهم، ومثل ذلك استخدامهم لها إذا ما قصدوا التسلية إو الإِئتساء كما في قول النهمي:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| **وننصر مولانا ونعلم أنه** | | **كما الناس مجروم عليه وجارم** |
| --- | --- | --- |
ويرى صاحب المنار أن الشرط والجزاء مفروضان هنا وفيما تقدم فرضا لأجل كشف ما ينطوون عليه، وإحضار حقيقة أمرهم في صورة المحسوس جريا على أساليب الكلام المألوفة عند العرب إذا أريد تنبيه الأذهان وتوجيهها إلى الاحاطة بمعاني الكلام، ولأجل ذلك استخدم العلماء الباحثون هذا الأسلوب عندما يرومون الكشف عن مخدرات المسائل وحل عويصات المشكلات، فإنهم كثيرا ما يقولون إن قيل كذا أجبنا بكذا؛ وبناء على رأيه هذا فلا داعي إلى البحث عن الداعي إلى الايمان، هل هو الرسول صلى الله عليه وسلم أو المؤمنون أو جماعة من المنافقين أنفسهم، بحسب ما تقدم، وهو رأي وجيه، وقد ألمحت إليه وعزوته إلى بعض المفسرين في آخر تفسير الآيتين السابقتين.
ويرى جمهور المفسرين أن مرادهم بقولهم في الرد على داعي الايمان { أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } التبرؤ مما دعوا إليه من الحق على أبلغ وجه، فقد اعتبروا ذلك من شأن السفهاء الذين طاشت حلومهم وزاغت أفكارهم، وذلك ما لا يتفق مع ما يرون عليه أنفسهم من رجاحة العقل، واتقاد الذهن، ونفاذ البصيرة، وينطوي - مع ذلك - جوابهم على قصد التعريض بالمؤمنين بأن السفه هو الذي قادهم إلى الايمان، والتخلي عما كانوا عليه من العقائد والعبادات، ولا يبعد أن يقصدوا التعريض بالسابقين الأولين من المهاجرين، فإن جلهم كانوا من المستضعفين، كصهيب وبلال، ومن عادة المتكبرين في الأرض احتقار طبقة الضعفاء ووصفهم إياهم بالسفه، ولمزهم بقبيح الكلام، كما أن من شأنهم تهجين الدخول في مداخلهم والشموخ عن التأسي بهم في مواردهم ومصادرهم.
ولا يرد على ذلك كون ضعفهم تحول إلى قوة بعد الهجرة وقيام الدولة الاسلامية التي أظلت الجميع بظلها الوارف، وآوتهم في حصنها الحصين، وتآزر المؤمنون على القيام بواجباتها بحيث صاروا كالبنيان يشد بعضه بعضا، وكالجسد يشتكي كل عضو منه إذا ما تألم عضو واحد، ونعم في حماها المستضعفون كغيرهم بالمنعة والاطمئنان، ذلك لأن اللامزين بهذا الوصف إنما كانوا يعيرونهم بما كانوا عليه من قبل من الذلة والضعف والفقر.
ويُحتمل أن يريدوا بالسفهاء المهاجرين والأنصار جميعا لاعتبارهم ما أتوه سفها يربأون بأنفسهم عنه، فالمهاجرون خرجوا من ديارهم وقد تركوا وراءهم الموطن والأولاد والأموال بعدما تقطعت الصلات بينهم وبين عشائرهم الأدنين، وحلت محلها العداوات والإِحن بسبب اعتناق هذا الدين والقيام بالدعوة إليه، والأنصار آووا المهاجرين في بلادهم وأشركوهم في أموالهم وآثروهم على أنفسهم وعيالهم وكِلا الأمرين في نظر المنافقين سفه وضلال، لأنهم ينظرون إلى الأمور بالمنظار المادي، ومن شأن الناس أن يعدوا المال قوام الحياة، وأن يعتبروا الأهل والعشيرة معقل العز، كما أن من شأنهم أن يضيقوا ذرعا بالمهاجرين إليهم إذا ما شاركوهم في معايشهم، وضايقوهم في مساكنهم، فلا غرو إذا نظر المنافقون إلى طائفتي المهاجرين والأنصار نظر الاستخفاف والازدراء، ونسبوهم إلى السفه، وحكموا عليهم بالضلال.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وبناء على ما تقدم رأى أكثر المفسرين أنه لا يتأتى صدور هذا القول منهم إلا فيما بينهم، أو أنهم كانوا يقولونه في سرائرهم من غير أن يبوحوا به؛ وإلى الاحتمال الأول ذهب الواحدي حيث قال: إنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك عنهم.
وهذا لأنهم لو كانوا يعلنون تسفيه الحق وتضليل المحقين أمام المؤمنين لكانوا مجاهرين بالكفر وعُدوا من الكفرة الصرحاء لا من المنافقين المتكتمين، فإن النفاق يقتضي أن يطوي صاحبه سريرته عن الناس ويبدي لهم خلافها.
وضعّف أبو السعود في تفسيره رأي الجمهور؛ نظرا إلى أن الذي تقتضيه جزالة عبارات التنزيل أن يكون صدور هذا الجواب بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم، لأن السياق يدل على حوار بين طائفتي الايمان والنفاق، وتدافع بين كتلتي الوفاق والشقاق، واختار أن قولهم هذا - وإن صدر عنهم بحضور الناصحين - لا يقتضي كونهم مجاهرين وإنما هو أسلوب من أساليب الخداع، وفن من فنون النفاق وارد مورد قولهم**{ وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ }** [النساء: 46]، من احتمال الأمرين بحسب تقدير المعمول إذ يمكن أن يحمل على الدعاء بالخير إن قُدر غير مُسمع مكروها، وبعكسه إن قدر غير مسمع خيرا، وكانوا يلقون هذا الكلام على النبي صلى الله عليه وسلم استخفافا وسخرية، فقد كانوا يوهمونه قصد الدعاء بالخير وهم يبطنون ضده، فنزل القرآن هاتكا سترهم كاشفا سرهم، حتى لا يتطاولوا على حضرة صاحب الرسالة بعبارات الهزء والسخرية.
وجعلُ أبي السعود ما في هذه الآية نظير ما في تلك يعني أنهم كانوا يواجهون نصحاءهم بمثل هذا الجواب استنكارا منهم لدعوتهم إلى الإِيمان كما آمن الناس، زاعمين أنهم على ذروة الإِيمان، فإذا لم يكن إيمانهم كإيمان الناس الذين بهم الإِعتداد، وفيهم الأسوة، فهل إيمانهم كإيمان السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بهم ولا بعقائدهم، وهكذا يوهمون النصحاء الدعاة إلى الإيمان مع انطواء جوابهم على مغزى آخر من مغازي الكلام، وهو لمز المؤمنين بالسفه والطيش، وإلى ذلك كانوا يهدفون.
وقد مر بكم في تفسير الآيتين السالفتين بيان احتمال أن تكون هذه الفلتات من المنافقين بمحضر وحدان المؤمنين دون جماعاتهم بحيث يمكنهم التخلص منهم، ومما يترتب على رفائعهم - لو كشفوا أمرهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين - بالمعاذير التي ينتحلونها والأيمان التي يكررونها، وبهذا ينحل كل ما تصوروه من إشكال في هذا التقاول، ويُستغنى عما جاء به أبو السعود زاعما أنه الحق الذي لا محيد عنه، وبحسبكم ما ذكرته ثَمَّ - من شواهد الآيات الدالة على أن المنافقين كانوا يجهدون في اختلاق المعاذير وانتحال الأكاذيب وإغلاظ الأيمان لأجل درء التهم عنهم وتخلصهم مما ينسبه إليهم المطلعون على أمرهم من المؤمنين - دليلا على صحة كون هذا التقاول بينهم وبين المؤمنين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
هذا وقد عزا الألوسي ما ذكره أبو السعود إلى الشهاب الخفاجي، وذكر أنه ادّعى أن ذلك من بنات أفكاره، ورد عليه الألوسي بأن قولهم { أنؤمن } إنكار للفعل في الحال، وقولهم { كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } بصيغة الماضي صريح في نسبة السفاهة إلى المؤمنين بسبب الإِيمان، فلا تورية في خطابهم، ولم ير الألوسي مانعا أن يصدر عن أحد المتحاورين في الخلاء ما هو حري أن يكون في مقام التحاور بينهما.
وإذا تأملتم ما حررته لكم هنا وفيما تقدم كنتم في غنى عن جميع هذه التكلفات.
وأصل السفه عند العرب الرقة والخفة، ولذا يوصف به الثوب الرديء النسج، ومن عادة الخفيف الاضطراب وعدم الاستقرار، ولذا أطلقوا السفه على هذه الحالة كما قال ذو الرمة:
| **مشين كما اهتزت رماح تسفهت** | | **أعاليها مرّ الرياح النواسم** |
| --- | --- | --- |
وأطلق على الطيش، واضطراب الرأي، وسوء التدبير لما يستلزم ذلك من خفة النفس وعدم استقرار أفكارها، ولذلك وصف القرآن المبذرين للأموال بالسفه لفقدانهم الضبط، ومنه قوله تعالى:**{ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ }** [النساء: 5]، وقوله:**{ فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً }** [البقرة: 282]، ويطلق السفه في الاسلام على تفويت المنفعة العاجلة أو الآجلة، ومنه قوله سبحانه وتعالى:**{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ }** [البقرة: 130].
وقد انتصر الله سبحانه لعباده المؤمنين وحزبه المفلحين من أعدائهم المنافقين بأن سجل عليهم صفة السفه التي رموهم بها ووسمهم مع ذلك بالجهل، وما أضل من حكم الله عليه بالسفه، وما أحير من رماه تعالى بالجهل.
وجاء الرد مصدرا بأداة الاستفتاح ومؤكدا بحرف التأكيد، ومعرفا طرفاه - وهما المسند والمسند إليه مع توسيط ضمير الفصل بينهما - كل ذلك لتأكيد الدلالة على أن السفاهة مقصورة عليهم دون المؤمنين الذين وسموهم بها، وقد جعل سفههم من الظهور بحيث لا يخفى على متأمل، ولكن جهلهم بالأمور هو الذي حال بينهم وبين إدراكه ولذلك ذيلت الآية بقوله { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }.
وجاءت هذه الفاصلة مغايرة لما قبلها، ففي تلك نُفي عنهم الشعور، وفي هذه نُفي العلم اعتبارا لما وُصفوا به في المقامين، فثم وصفوا بالفساد، والفساد أمر محسوس يتجلى لكل من له نظر؛ لما يترتب عليه من إهاجة الفتن وسفك الدماء وتقطيع الصلات وإثارة الأضغان وتأجيج الأحقاد، وما من شيء من ذلك إلا وضرره معلوم، وخطره محسوس، فإيثار التلبس به لا يكون إلا ممن بلغت به البلادة وانطماس الفكر إلى فقدان الإِحساس، وهنا وُصفوا بالسفه المنافي للعلم، فاقتضى المقام أن يُنفى عنهم العلم ليتم الطباق بين ما أثبت لهم ونُفي عنهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأيضا فإنهم هنا مخاطبون بالإِيمان، وأمر الإِيمان لا يتضح إلا لمن كان على علم به؛ لأنه يقتضي فهم عاقبة المؤمنين وعاقبة أضدادهم الكفار، كما أن للايمان مسالك ومبادئ وغايات، قد تكون من الدقة بحيث تخفى على من لم ينور الله بصيرته بالعلم، ويشرح صدره بالعرفان، وهؤلاء المنافقون بسبب إخلادهم إلى العناد وإصرارهم على نهج المسالك الملتوية لم يكونوا على استعداد ذهني لادراك هذه الحقائق، فكانوا أحرياء بأن يوصفوا في هذا الموقف بعدم العلم.
هذا وقد علمتم مما أسلفته غير مرة أن هذه الصفات الدنية لا تنحصر في ذلك الفريق المحدود العدد من منافقي المدينة في عهد النبوة، وإنما تنجرُّ إلى كل من كان على شاكلتهم في جميع العصور، فالذين يسفهون الحق، ويزينون الباطل، ويحتقرون المحقين، ويجلون المبطلين، هم أحقاء بكل هذه الأوصاف من الفساد وفقدان الإِحساس والوعي، وعدم المعرفة بحقائق الأمور وعواقبها.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ ٱلنَّاسُ } إشارة إلى التحلية بالحاء المهملة كما أن**{ لاَ تُفْسِدُواْ }** [البقرة: 11] إشارة إلى التخلية بالخاء المعجمة ولذا قدم، وليس هنا ما يدل على أن الأعمال داخلة في كمال الإيمان أو في حقيقته كما قيل لأن اعتبار ترك الفساد لدلالته على التكذيب المنافي للإيمان وحذف المؤمن به لظهوره أو أريد افعلوا الإيمان والكاف في موضع نصب، وأكثر النحاة يجعلونها نعتاً لمصدر محذوف أي إيماناً كما آمن الناس وسيبويه لا يجوز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في هذا الموضع ويجعلها منصوبة على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل ولم تجعل متعلقة بآمنوا والظرف لغو بناءً على أن الكاف لا تكون كذلك و(ما) إما مصدرية أو كافة ولم تجعل موصولة لما فيه من التكلف، والمعنى على المصدرية آمنوا إيماناً مشابهاً لإيمان الناس، وعلى الكف حققوا إيمانكم كما تحقق إيمان الناس وذلك بأن يكون مقروناً بالإخلاص خالصاً عن شوائب النفاق، والمراد من الناس الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين مطلقاً كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهم نصب عين أولى الغين، وملتفت/ خواطرهم لتأملهم منهم، وقد مر ذكرهم أيضاً لدخولهم دخولاً أولياً في**{ ٱلَّذِينَ آمَنُوا }** [البقرة: 9] فالعهد خارجي، أو خارجي ذكري، أو من آمن من أبناء جنسهم كعبد الله بن سلام كما قاله جماعة من وجوه الصحابة، أو المراد الكاملون في الإنسانية الذين يعد من عداهم في عداد البهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل، فاللام إما للجنس أو للاستغراق.
واستدل بالآية على أن الإقرار باللسان إيمان وإلا لم يفد التقييد، وكونه للترغيب يأباه إيرادهم التشبيه في الجواب؛ والجواب عنه بعد إمكان معارضته بقوله تعالى:**{ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }** [البقرة: 8] أنه لا خلاف في جواز إطلاق الإيمان على التصديق اللساني لكن من حيث إنه ترجمة عما في القلب أقيم مقامه إنما النزاع في كونه مسمى الإيمان في نفسه ووضع الشارع إياه له مع قطع النظر عما في الضمير على ما بين لك في محله، ولما طلب من المنافق الإيمان دل ذلك على قبول توبة الزنديق:
| **فإن لا يكنها أو تكنه فإنه** | | **أخوها غذته أمه بلبانها** |
| --- | --- | --- |
نعم إن كان معروفاً بالزندقة داعياً إليها ولم يتب قبل الأخذ قتل كالساحر ولم تقبل توبته كما أفتى به جمع من المحققين.
{ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا ءامَنَ ٱلسُّفَهَاء } أرادوا ألا يكون ذلك أصلاً فالهمزة للإنكار الإبطالي وعنوا بالسفهاء إما أولئك الناس المتقدمين أو الجنس بأسره وأولئك الكرام والعقلاء الفخام داخلون فيه بزعمهم الفاسد دخولاً أولياً، وأبعد من ذهب إلى أن اللام للصفة الغالبة كما في العيوق لأنه لم يغلب هذا الوصف على أناس مخصوصين إلا أن يدعي غلبته فيما بينهم قاتلهم الله أنى يؤفكون والسفه الخفة والتحرك والاضطراب، وشاع في نقصان العقل والرأي وإنما سفهوهم جهلاً منهم حيث اشتغلوا بما لا يجدي في زعمهم ويحتمل أن يكون ذلك من باب التجلد حذراً من الشماتة إن فسر الناس بمن آمن منهم، واليهود قوم بهت، وقد استشكل هذه الآية كثير من العلماء بأنه إذا كان القائل المؤمنين كما هو الظاهر والمجيب المنافقين يلزم أن يكونوا مظهرين للكفر إذا لقوا المؤمنين فأين النفاق وهو المفهوم من السباق والسياق؟ وأجيب بأن هذا الجواب كان فيما بينهم وحكاه الله تعالى عنهم ورده عليهم، وليس الجواب ما يقال مواجهة فقط فقد استفاض من الخلف إطلاق لفظ الجواب على رد كلام السلف مع بعد العهد من غير نكير، وقيل: { إِذَا } هنا بمعنى لو تحقيقاً لإبطانهم الكفر وأنهم على حال تقتضي أنهم لو قيل لهم كذا قالوا كذا كما قيل مثله في قوله وإذا ما لمته لمته وحدي، وقيل: إنه كان بحضرة المسلمين لكن مساررة بينهم وأظهره عالم السر والنجوى، وقيل: كان عند من لم يفش سرهم من المؤمنين لقرابة أو لمصلحة ما، وذكر مولانا مفتي الديار الرومية ((أن الحق الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونهم من المجاهرين فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق لأنه كلام محتمل للشر كما ذكره في " تفسيره " وللخير بأن يحمل على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكار ما اتهموا به من النفاق على معنى أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك، وقد خاطبوا به الناصحين استهزاءً بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وهم معولون على الأول))، والشرع ينظر للظاهر وعند الله تعالى علم السرائر، ولهذا سكت المؤمنون ورد الله سبحانه عليهم ما كانوا يسرون، فالكلام كناية عن كمال إيمانهم ولكن في قلب تلك الكناية نكاية فهو على مشاكلة قولهم:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
**{ أَسْمِعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ }** [النساء: 46] في احتمال الشر والخير ولذلك نهى عنه، وجعل رحمه الله تعالى قوله تعالى في الحكاية عنهم:**{ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }** [البقرة: 11] من هذا القبيل أيضاً، وإلى ذلك مال مولانا الشهاب الخفاجي وادعى أنه من بنات أفكاره، وعندي أنه ليس بشيء لأن { أَنُؤْمِنُ } لإنكار الفعل في الحال وقولهم: { كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء } بصيغة الماضي صريح/ في نسبتهم السفاهة إلى المؤمنين لإيمانهم فلا تورية ولا نفاق، ولعله لما رأى صيغة الماضي زاد في بيان المعنى لو آمنوا، ولا أدري من أين أتى به. ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر. فالأهون بعض هاتيك الوجوه، وقوله: إن إبراز ما صدر عن أحد المتحاورين في الخلاء في معرض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهد به في الكلام فضلاً عما هو في منصب الإعجاز لا يخفي ما فيه على من اطلع على محاورات الناس قديماً وحديثاً والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَاء وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } رد وأشنع تجهيل حسبما أشير إليه فيما سلف، وإنما قال سبحانه هنا: { لاَّ يَعْلَمُونَ } وهناك**{ لاَّ يَشْعُرُونَ }** [البقرة: 12] لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد وهو مما يدرك بأدنى تأمل ولا يحتاج إلى كثير فكر، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر مبالغة في تجهيلهم، والمثبت هنا السفه والمصدر به الأمر بالإيمان وذلك مما يحتاج إلى نظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه خفة العقل والجهل بالأمور على ما قيل فيناسبه أتم مناسبة نفي العلم، وهذا مبني على ما هو الظاهر في المفعول وعلى غير الظاهر غير ظاهر فتدبر.
ثم اعلم أنه إذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو { السفهاء ألا } ففي ذلك أوجه. تحقيق الهمزتين وبذلك قرأ الكوفيون وابن عامر وتحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واواً وبذلك قرأ الحرميان وأبو عمرو. وتسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو. وتحقيق الثانية وتسهيل الأولى وإبدال الثانية واواً، وأجاز قوم جعل الهمزتين بين بين ومنعه آخرون.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ }. هو من تمام المقول قبله فحكمه حكمه بالعطف والقائل، ويجوز هنا أن يكون القائل أيضاً طائفة من المنافقين يشيرون عليهم بالإقلاع عن النفاق لأنهم ضجروه وسئموا كُلَفَهُ ومتَّقياته، وكَلَّت أذهانهم من ابتكار الحِيَل واختلاق الخطل. وحذف مفعول { آمِنوا } استغناء عنه بالتشبيه في قوله { كما آمن الناس } أو لأنه معلوم للسامعين. وقوله { كما آمن الناس } الكاف فيه للتشبيه أو للتعليل، واللام في الناس للجنس أو للاستغراق العرفي. والمراد بالناس من عَدَا المخاطبين، كلمة تقولها العرب في الإغراء بالفعل والحث عليه لأن شأن النفوس أن تسرع إلى التقليد والاقتداء بمن يسبقها في الأمر، فلذلك يأتون بهاته الكلمة في مقام الإغراء أو التسلية أو الائتساء، قال عَمْرو ابن البَرَّاقَة النِّهْمِي
| **وننصُرُ مولانا ونَعَلُم أَنَّه كما الناسِ مجرومٌ عليه وجَارم** | | |
| --- | --- | --- |
وقوله { أنؤمن كما آمن السفهاء } استفهام للإنكار، قصدوا منه التبرؤ من الإيمان على أبلغ وجه، وجعلوا الإيمان المتبرأ منه شبيهاً بإيمان السفهاء تشنيعاً له وتعريضاً بالمسلمين بأنهم حملهم على الإيمان سفاهة عقولهم، ودلوا على أنهم علموا مراد من يقول لهم { كما آمن الناس } أنه يعني بالناس المسلمين. والسفهاءُ جمع سفيه وهو المتصف بالسفاهة، والسفاهة خفة العقل وقلة ضبطه للأمور قال السموأل
| **نَخاف أن تَسْفَهَ أحلامُنَا فَنَخْمل الدهرَ مع الخامل** | | |
| --- | --- | --- |
والعرب تطلق السفاهة على أفن الرأي وضعفه، وتطلقها على سوء التدبير للمال. قال تعالى**{ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم }** النساء 5 وقال**{ فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً }** البقرة 282 الآية لأن ذلك إنما يجىء من ضعف الرأي. ووصفهم المؤمنين بالسفاهة بهتان لزعمهم أن مخالفتهم لا تكون إلا لخفة في عقولهم، وليس ذلك لتحقيرهم، كيف وفي المسلمين سادة العرب من المهاجرين والأنصار. وهذه شنشنة أهل الفساد والسفه أن يرموا المصلحين بالمذمات بهتاناً ووقاحة ليلهوهم عن تتبع مفاسدهم ولذلك قال أبو الطيب
| **وإذا أتتْكَ مَذمَّتي من ناقص فهي الشهادةُ لي بأني كامل** | | |
| --- | --- | --- |
وليس في هاته الآية دليل على حكم الزنديق إذا ظهر عليه وعرفت زندقته إثباتاً، ولا نفياً لأن القائلين لهم { آمنوا كما آمن الناس } هم من أقاربهم أو خاصتهم من المؤمنين الذين لم يفشوا أمرهم فليس في الآية دليل على ظهور نفاقهم للرسول بوجه معتاد ولكنه شيء أطلع عليه نبيئه، وكانت المصلحة في ستره، وقد اطّلع بعض المؤمنين عليه بمخالطتهم وعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم الإعراض عن إذاعة ذلك فكانت الآية غير دالة على حكم شرعي يتعلق بحكم النفاق والزندقة. { أَلاَۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }. أتى بما يقابل جفاء طبعهم انتصاراً للمؤمنين، ولولا جفاء قولهم { أنؤمن كما آمن السفهاء } لما تصدى القرآن لسبابهم مع أن عادته الإعراض عن الجاهلين ولكنهم كانوا مضرب المثل «قُلتَ فأَوْجَبْتَ»، ولأنه مقام بيان الحق من الباطل فتحسن فيه الصراحة والصرامة كما تقرر في آداب الخطابة، وأعلن ذلك بكلمة ألاَ المؤذنة بالتنبيه للخبر، وجاء بصيغة القصر على نحو ما قرر في
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
**{ ألا إنهم هم المفسدون }** البقرة 12 ليدل على أن السفاهة مقصورة عليهم دون المؤمنين فهو إضافي لا محالة. وإذا ثبتت لهم السفاهة انتفى عنهم الحِلم لا محالة لأنهما ضدان في صفات العقول إِنَّ هنا لتوكيد الخبر وهو مضمون القصر وضمير الفصل لتأكيد القصر كما تقدم آنفاً. وأَلا كأختها المتقدمة في { ألا إنهم هم المفسدون }. وقوله { ولكن لا يعلمون } نفى عنهم العلم بكونهم سفهاء بكلمة { يعلمون } دون يشعرون خلافاً للآيتين السابقتين لأن اتصافهم بالسفه ليس مما شأنه الخفاء حتى يكون العلم به شُعوراً ويكونَ الجهل به نفيَ شُعور، بل هو وصف ظاهر لا يخفى لأن لقاءهم كل فريق بوجه واضطرابهم في الاعتماد على إحدى الخَلَّتين وعدم ثباتهم على دينهم ثباتاً كاملاً ولا على الإسلام كذلك كافٍ في النداء بسفاهة أحلامهم فإن السفاهة صفة لا تكاد تخفى، وقد قالت العرب السفاهة كاسمها، قال النابغة
| **نُبئْتُ زرعة والسفاهةُ كاسمها يُهدى إليّ غَرائبَ الأشعار** | | |
| --- | --- | --- |
وقال جَزْءُ بن كلاب الفَقْعَسي
| **تَبَغّى ابنُ كُوز والسَّفَاهَة كاسمها لِيَسْتَادَ مِنَّا أَنْ شَتَوْنَا لَيَالِيا** | | |
| --- | --- | --- |
فظنهم أن ما هم عليه من الكفر رُشد، وأن ما تقلده المسلمون من الإيمان سَفَه يدل على انتفاء العلم عنهم. فموقع حرف الاستدراك لدفع تعجب من يتعجب من رضاهم بالاختصاص بوصف السفاهة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير الوجيز/ الواحدي (ت 468 هـ) | { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النَّاس } هم أصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء } أَيْ: لا نفعل كما فعلوا، وهذا القول كانوا يقولونه فيما بينهم، فأخبر الله تعالى به عنهم.
{ وإذا لقوا الذين آمنوا } إذا اجتمعوا مع المؤمنين، ورأوهم { قالوا آمنَّا } { وإذا خلوا } من المؤمنين وانصرفوا { إلى شياطينهم }: كبرائِهم وقادتهم { قالوا إنَّا معكم } [أَيْ: على دينكم] { إنَّما نحن مستهزئون }: مُظهرون غير ما نضمره.
{ اللَّهُ يستهزىءُ بهم }: يجازيهم جزاء استهزائهم { ويمدُّهم }: يُمهلهم ويطوِّل أعمارهم { في طغيانهم }: في إسرافهم ومجاوزتهم القدر في الكفر { يعمهون } يتردَّدون مُتحيِّرين.
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى }: أخذوا الضَّلالة وتركوا الهدى { فما ربحت تجارتُهم } فما ربحوا في تجارتهم، [وإضافة الرِّبح إلى التجارة على طريق الاتساع، كإضافة الإيضاء إلى النار]. { وما كانوا مهتدين } فيما فعلوا.
{ مثلُهم كمثل الذي استوقد ناراً } أَيْ: حالهم في نفاقهم وإبطانهم الكفر كحالِ مَنْ أَوقد ناراً فاستضاء بها، وأضاءت النَّار ما حوله ممَّا يخاف ويحذر وأمن، فبينما هو كذلك إذ طُفئت ناره فبقي مُظلماً خائفاً مُتحيِّراً، فذلك قوله تعالى: { ذهب الله بنورهم... } الآية، كذلك المنافقون لمَّا أظهروا كلمة الإيمان اغترُّوا بها وأَمِنُوا، فلمَّا ماتوا عادوا إلى الخوف والعذاب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م) | { آمِنُواْ }
(13) - وَإِذا قِيلَ لِهؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ: آمِنُوا بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَبِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، وَبِالحِسَابِ وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ كَمَا آمَنَ النَّاسُ المُؤْمِنُونَ، وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ فِي امتِثَالِ الأَوَامِرِ وَتَرْكِ الزَّوَاجِرِ، قَالُوا سَاخِرِينَ: كَيْفَ نُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ هؤلاَءِ السُّفَهَاءُ، وَنَصِيرُ مَعَهُمْ فِي مَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلكِنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ، وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ لاَ يَعْلَمُونَ ذلِكَ.
السَّفَهُ - خِفَّةٌ فِي العَقْلِ، وَفَسَادٌ فِي الرَّأْيِ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ سَفِيهٌ أَيْ رَدِيءٌ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) | والسفهاء في قصد المنافقين هم الفقراء، ولكن ما معنى السَّفَه في اللغة: السفه معناه الطيش والحمق والخفة في تناول الأمور، فهل تنطبق صفة السفه على المؤمنين، الذين آمنوا بالله، أو أنها تنطبق على أولئك الذين لم يؤمنوا بالله؟ إذا كنتم تعتقدون أن الذين آمنوا هم السفهاء فلماذا تدَّعون الإيمان كذباً، لتكونوا سفهاء؟ لا شك أن هناك تناقضاً موجوداً في كل تصرفات المنافقين. فالرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم للإيمان، والمسلمون يدعونهم للإيمان، ولكنهم يصفون الذين آمنوا بأنهم سفهاء أي: فقراء لا يملكون شيئاً، لأن سادة قريش لم يؤمنوا.. وهم يدَّعون أن الذين آمنوا، تصرفوا تصرفاً أحمق، طائشاً، ولكن الغفلة هي المرض الذي يملأ قلوبهم، لا يجعلهم ينتبهون إلى حقيقة مهمة، وهي أنهم يتظاهرون بالإيمان، ويدَّعون الإيمان ثم يصفون المؤمنين بالسفهاء، إذا كان هؤلاء سفهاء كما تدَّعون. فهل تتظاهرون بالإيمان لتصبحوا سفهاء مثلهم؟! إن المنطق لا يستقيم ويدل على سفاهة عقول المنافقين، أنَّ هذه العقول لم تتنبه إلى أنها حينما وصفت المسلمين بالسفهاء، قد أدانت نفسها، لأن المنافقين يدَّعون أنهم مؤمنون، إذن فكل تصرفات المنافقين فيها تناقض. تناقض مع العقل والمنطق، هذا التناقض يأتي من تناقض ملكات النفس بعضها مع بعض.. فاللسان يُكذِّب القلب. والعمل يُكذِّب العقيدة. والتظاهر بالإيمان يُحمِّلهم مشقة الإيمان ولا يعطيهم شيئاً من ثوابه. ولو كان لهم عقول، لتنبهوا إلى هذا كله، ولكنهم لا يشعرون وهم يمضون في هذا الطريق، طريق النفاق، إنهم يجسدون السفاهة بعينها، بكل ما تحمله من حمق واستخفاف، وعدم التنبه إلى الحقيقة، والرعونة التي يتصرفون بها، والله سبحانه وتعالى حين وصفهم بالسفهاء، كان وصفا دقيقاً، لحالتهم وطريقة حياتهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) | قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: آمِنُواْ }: الكلامُ عليها كالكلامِ على نظيرتِها قبلها. وآمِنُوا فعل وفاعل والجملةُ في محلِّ رفع لقيامها مقامَ الفاعلِ على ما تقدَّم في**{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ }** [البقرة: 11]، والأقوالُ المتقدمة هناك تعودُ هنا فلا حاجة لذِكْرِها.
والكافُ في قوله: { كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } في محلِّ نصبٍ. وأكثرُ المُعْرِبينَ يجعلون ذلك نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، والتقدير: آمنوا إيماناً كإيمانِ الناس، وكذلك يقولون في: " سِرْ عليه حثيثاً " ، أي سيراً حثيثاً، وهذا ليس من مذهب سيبويه، إنما مذهبُه في هذا ونحوِه أن يكونَ منصوباً على الحالِ من المصدرِ المضمرِ المفهومِ من الفعلِ المتقدمِ.
وإنما أَحْوَجَ سيبويهِ إلى ذلك أنَّ حَذْفَ الموصوفِ وإقامةَ الصفةِ مُقامَه لا يجوز إلا في مواضعَ محصورةٍ، ليس هذا منها، وتلك المواضعُ أن تكونَ الصفةُ خاصةً بالموصوفِ، نحو: مررت بكاتبٍ، أو واقعةً خبراً نحو: زيد قائم، أو حالاً نحو: جاء زيدٌ راكباً، أو صفةً لظرف نحو: جلستُ قريباً منك، أو مستعمَلةً استعمالَ الأسماء، وهذا يُحْفَظُ ولا يقاس عليه، نحو: الأَبطح والأَبْرق، وما عدا هذه المواضعَ لا يجوزُ فيها حذفُ الموصوف، ألا ترى أن سيبويه منع: " ألا ماءَ ولو باردا " ، وإنْ تقدَّم ما يدل على الموصوف، وأجاز: ألا ماءَ ولو بارداً لأنه نَصْبٌ على الحال.
و " ما " مصدريةٌ في محلِّ جر بالكاف، و " آمَنَ الناسُ " صلتُها. واعلم أن " ما " المصدريةَ تُوصَلُ بالماضي أو المضارعِ المتصرِّف، وقد شَذَّ وصلُها بغيرِ المتصرِّف في قوله:
| **191ـ.....................** | | **بما لَسْتُما أهلَ الخيانةِ والغَدْرِ** |
| --- | --- | --- |
وهل تُوصل بالجمل الاسمية؟ خلافٌ، واستُدِلَّ على جوازه، بقوله:
| **192ـ واصِلْ خليلَك ما التواصلُ مُمْكِنٌ** | | **فلأَنْتَ أو هُو عن قليلٍ ذاهبُ** |
| --- | --- | --- |
وقول الآخر:
| **193- أحلامُكم لِسَقامِ الجَهْل شافيةٌ** | | **كما دماؤُكُمُ تَشْفي من الكَلَب** |
| --- | --- | --- |
وقول الآخر:
| **194- فإنَّ الحُمْرَ من شرِّ المَطايا** | | **كما الحَبِطاتُ شَرُّ بني تميمِ** |
| --- | --- | --- |
إلا أنَّ ذلك يكثُر فيها إذا أَفْهَمَتِ الزمانِ كقوله: " واصلْ خليلَك. البيت. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكونَ " ما " كافةً للكاف عن العمل، مثلُها في قولك: ربما قام زيد. ولا ضرورةَ تَدْعو إلى هذا، لأنَّ جَعْلَها مصدريةً مُبْقٍ للكافِ على ما عُهِدَ لها من العملِ بخلافِ جَعْلِها كافةً. والألفُ واللامُ في " الناس " تحتملُ أن تكونَ جنسيةً أو عهديةً. والهمزةُ في " أنؤمن " للإِنكار أو الاستهزاءِ، ومحلُّ " أنؤمن " النصبُ بـ " قالوا ".
وقوله: { كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ }: القولُ في الكافِ و " ما " كالقول فيهما فيما تقدَّم، والألفُ في السفهاء تحتمل أن تكونَ للجنسِ أو للعهدِ، وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلها للغلَبةِ كالعَيُّوق، لأنه لم يَغْلِبْ هذا الوصفُ عليهم، بحيث إذا قيل السفهاءُ فُهِمَ منهم ناسٌ مخصوصون، كما يُفْهم من العيُّوق/ كوكب مخصوص.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
والسَّفَهُ: الخِفَّةُ، تقول: " ثوبٌ سفيه " أي خفيفُ النَّسْج. وقوله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } كقولِه فيما تقدَّم:**{ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }** [البقرة: 12] فلا حاجة إلى إعادتِه. ومعنى الاستدراكِ كمعناه فيما تقدَّم، إلا أنه قال هناك: " لا يشعرون " ، لأن المثبتَ لهم هناكَ هو الإِفسادُ، وهو ممَّا يُدْرَكُ بأدنى تأمُّلٍ لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكرٍ كبير، فَنَفَى عنهم ما يُدْرَكُ بالمشاعرِ وهي الحواسُّ مبالغةً في تَجْهيلهم وهو أنَّ الشعور الذي قد ثَبَتَ للبهائم منفيٌّ عنهم، والمُثْبَتُ هنا هو السَّفَهُ والمُصَدَّرُ به هو الأمرُ بالإِيمان وذلك ممَّا يَحتاج إلى إمعان فكرٍ ونظرٍ تامٍ يُفْضي إلى الإِيمانِ والتصديقِ، ولم يَقَعْ منهم المأمورُ به وهو الإِيمانُ، فناسَبَ ذلك نفيَ العلمِ عنهم. ووجهٌ ثان وهو أن السَّفَه هو خِفَّةُ العقل والجهلُ بالأمور، قال السمَوْءَل:
| **195- نخافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحلامُنا** | | **فنجهلَ الجهلَ مع الجاهلِ** |
| --- | --- | --- |
والعلمُ نقيضُ الجهلِ فقابلَه بقولِه: لا يَعْلمون، لأنَّ عدمَ العلمِ بالشيءِ جهلٌ به.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) | يقول تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } ، أي كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر، وترك الزواجر { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ }؟ يعنون - لعنهم الله - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة، وعلى طريقة واحدة، وهم سفهاء؟.
والسفيه: هو الجاهل الضعيف الرأي، القليل المعرفة بالمصالح والمضار، ولهذا سمي الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى:**{ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً }** [النساء: 5] وقد تولى سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها فقال: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } فأكد وحصر السفاهة فيهم { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } يعني ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أبلغ في العمى والبعد عن الهدى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ) | { كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والكاف يحتمل أن تكون للتشبيه أو للتعليل، وما يحتمل أن تكون كافة كما هي وربما أن تكون مصدرية { أَنُؤْمِنُ } إنكار منهم وتقبيح { هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } ردّ عليهم وإناطة السفه بهم، وكذلك هم المفسدون، وجاء بالألف واللام ليفيد حصر السفه والفساد فيهم، وأكده بإن وبألا التي تقتضي الاستئناف وتنبيه المخاطب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير النهر الماد / الأندلسي (ت 754 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ } هذه الجملة الكلام عليها أهي معطوفة على صلة من أو على يكذبون أو مستأنفة وما العامل في إذا وما المقام مقام الفاعل كالجملة الشرطية السابقة، ولما نهوا عن الافساد أمروا بالإِيمان وبحصوله يزول إفسادهم وبدأ بالمنهي عنه لأنه الأهم وهو ترك والترك أسهل من امتثال المأمور فكان في ذلك تدريج لهم وأكثر المعربين يجعل الكاف في " كما آمن " ونظيره نعتاً لمصدر محذوف أي إيماناً مثل إيمان النّاس. ومذهب سيبويه: إن الكاف في موضع الحال وذو الحال ضمير مصدر محذوف دل عليه الفعل، وما مصدرية ينسبك منها ومن صلتها مصدر هو في موضع جر بالكاف. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء، أن تكون ما كافة للكاف عن العمل كهي في: ربما قام زيد، والظاهر أن أل في الناس للعهد وهم المؤمنون الذين سبقوا بالإِيمان فأحيلوا عليهم. والسفه: خفة الحلم والجهل، ويقال سفه - بكسر الفاء وضمها - وهو القياس لمجيىء سفيه وجمعه على فعلى قياس مطرد في فعيل الصحيح الوصف لمذكر عاقل.
" أتؤمن " استفهام انكار واستهزاء، ولما كان المأمور به مشبهاً أتوا بإِنكارهم مشبهاً وأل في السفهاء للعهد ويعنون بهم المؤمنين الخلّص في الإِيمان اعتقدوا أنهم سفهاء.
{ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } وهذا كما رد عليهم في قوله**{ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ }** [البقرة: 12] إن الله تعالى هو العالم بأنهم السفهاء.
{ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } إنهم سفهاء لغباوتهم وجاء هناك لا يشعرون لأن الافساد يدرك بأدنى تأمل لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير، فنفي عنهم ما يدرك بالمشاعر وهي مبالغة في تجهيلهم إذ الشعور الثابت للبهائم منفي عنهم والأمر بالإِيمان يحتاج إلى إمعان كر واستدلال ونظر قام يفضي إلى الإِيمان والتصديق، ولم يقع منهم المأمور فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالأمور والعلم نقيض الجهل فقابله بقوله: لا يعلمون، ويجوز في نحو السفهاء إلا تحقيق الثانية مع تحقيق الأولى وجعلها بين الهمزة والواو وأبوابها واواً مع تحقيق الأولى أو جعلها بين الهمزة والواو وأجاز بعضهم جعل كل منهما بين الهمزة والواو.
{ وَإِذَا لَقُواْ } قرىء لاقوا وهي فاعل بمعنى الفعل المجرد وآمنا فعل مطلق غير مؤكد بشيء تورية منهم وإيهاماً سموا النطق باللسان إيماناً وقلوبهم معرضة.
وخلا يتعدى بالباء وبالى والى على معناها من انتهاء الغاية وليست هنا بمعنى مع خلافاً للنضر بن شميل.
و { شَيَاطِينِهِمْ } اليهود ورؤساءهم. وشيطان عند البصريين فيعال من شطن وقالوا: في معناه شاطن، وفي التصغير مشيطن. وعند الكوفيين فعلان من نشاط ويشهد لهم قولهم شيطان مسمى به ممنوع من الصرف.
وقرىء " معكم " بسكون العين وهي لغة ربيعة وغنم وانظر الفرق بين قولهم للمؤمنين آمنا وبين قولهم لشياطينهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
هناك اكتفوا بالمطلق وهنا أكدوا المعية والموافقة بقولهم. انا ثم لم يكتفوا حتى ذكروا سبب قولهم آمنا وهو الاستخفاف بالمؤمنين وأبرزوا ذلك في جملة مؤكدة بانما وبنحن ومستهزؤون باسم الفاعل وكأنهم لما قالوا أنا معكم أنكر عليهم الاقتصار على هذا وانكم كيف تكونون معنا وأنتم مسالمون أولئك بإِظهار تصديقكم وتكثيركم سوادهم والتزام أحكامهم من الصلاة وأكل ذبائحهم فأجابوا بذلك وإنما نستخف بهم في ذلك القول لصون دمائنا وأموالنا وذريتنا.
وقرىء " مستهزئون " بهمزة وبإِبدالها ياء وبحذفها وضم ما قبلها وقلبها ياء هو قول الأخفش، وأما سيبويه فيخففها بجعلها بين بين، والاستهزاء: هو الاستخفاف واللهو واللعب، والله سبحانه منزه عن ذلك. فجاء قوله:
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } على سبيل المقابلة والمعنى أنه يجازيهم على استهزائهم وفي افتتاح الجملة باسم الله التفخيم والتعظيم والاخبار عنه بالمضارع وهو يدل على التجدد. ولم يذكروا هم متعلق الاستهزاء لتحرجهم من إبلاغ المؤمنين فينقمون ذلك عليهم فابقوا اللفظ محتملاً وليذبوا عن أنفسهم لو حوققوا وان كانوا عنوا المؤمنين وقال: { يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } فذكر متعلق الاستهزاء فهو أبلغ من قولهم.
{ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } فذكر متعلق الاستهزاء فهو أبلغ من قولهم.
وقرىء " ويمدهم " من مدّ ومن أمدّ وإسناد المد أو الامداد لله تعالى حقيقة إذ هو المنفرد بإِيجاد ذلك وهو الممكن من المعاصي والزيادة منهما.
وقرىء طغيانهم - بكسر الطاء وضمها - وأضيف الطغيان إليهم لأنهم فاعلوه كسبا وان كان الله تعالى هو مخترعه.
والعمه التحير عن الرشد وركوب الرأس عن اتباع الحق. " وفي طغيانهم " متعلق بيمدهم وقيل بيعمهون. و " يعمهون " حال من مفعول يمدهم أو من ضمير طغيانهم. ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين.
قال: لأن العامل لا يعمل في حالين وهذا فيه خلاف وتفصيل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) | قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ }؛ أي إذا قِيْلَ للمنافقينَ: صَدِّقُوا كما صَدَّقَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ }؛ أي أنُصدِّقُ كما صَدَّقَ الْجُهَّالُ، يقولُ اللهُ تَعَالَى: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ }؛ أي همُ الْجُهَّالُ بتركِهم التصديقَ في السرِّ؛ { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }؛ أنَّهم جُهَّالٌ. وَقِيْلَ: قالُوا: أنُصَدِّقُ { كَمَآ } صدَّق الجهالُ بقولِ اللهِ تعالى، { أَلاۤ إِنَّهُمْ }. وَقِيْلَ: معناهُ: آمِنوا كما آمَنَ عبدُالله ابن سَلام وغيرُه من مؤمنِي أهلِ الكتاب.
والسُّفَهَاءُ: جمعُ سفيهٍ، وهو البهَّاتُ الكذَّابُ المتعمدُ بخلاف ما يعلمُ. وقال قُطْرُبُ: (السَّفِيْهُ: الْعَجُولُ الظَّلُومُ الْقَائِلُ خِلاَفَ الْحَقِّ).
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ) | قوله: { كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ }.
أصل السفه قلة الحلم، فقيل للجاهل سفيه لقلة حلمه يقال: ثوب سفيه، أي بال رقيق.
قول: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ }.
ردَّ الله عليهم قولهم وأعلم المؤمنين أنهم أحق بهذا الاسم، ولا عذر لهم فيما وصفهم الله به من السفه لأنهم إنما لحقهم ذلك إذ عَابوا الحق وخالفوه، وسفهوا المؤمنين واستحقوا هذا الاسم لفعلهم، وكانوا به أولى من المؤمنين.
قوله: { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }.
معناه [أنهم لا يعلمون] أنهم أولى بهذا الاسم وهو السفه، وأن الله يطلع المؤمنين على ما يبطنون.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير حاشية الصاوي / تفسير الجلالين (ت1241هـ) | قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } مقول القول قوله: { آمِنُواْ } وهو نائب الفاعل وفاعل القول قيل الله وقيل النبي وأصحابه كما نقدم. قوله: (أصحاب النبي) أشار بذلك إلى أن أل من الناس للعهد العلمي الخارجي ويحتمل أن تكون أل للكمال أي الناس الكاملون. قوله: { قَالُوۤاْ } أي فيما بينهم وإلا فلو قالوا ذلك جهاراً لظهر كفرهم وقتلوا. قوله: (الجهال) أي بناء على أن السفه ما قابل العلم، ويصح أن المراد به نقص العقل بناء على أنه ما قابل الحلم، فإن الصحابة أنفقوا أموالهم في سبيل الله حتى افتقروا وتحملوا المشاق فسموهم سفهاء لذلك. قوله: (ردا عليهم) أي بجملة مؤكدة بأربع تأكيدات كالأولى. قوله: { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } (ذلك) أي السفه أو علم النبي بسفههم، وعبر هنا بالعلم إشارة إلى أن السفه معقول بخلاف الفساد فإنه مشاهد، فلذلك عبر هنا بالعلم وهناك بالشعور.
قوله: { وَإِذَا لَقُواْ } سبب نزول الآية، أن أبا بكر وعمر وعلياً توجهوا لعبد الله بن أبي بن سلول لعنه الله فقال له أبو بكر هلم أنت وأصحابك وأخلص معنا، فقال له مرحباً بالشيخ والصديق ولعمر مرحباً بالفاروق القوي في دينه، ولعلي مرحباً بابن عم النبي، فقال له علي: أتق الله ولا تنافق، فقال ما قلت ذلك إلا لكون إيماني كإيمانكم، فلما توجهوا قال لجماعته: إذا لقوكم فقولوا مثل ما قلت فقالوا: لم نزل بخير ما عشت فينا، وإذا ظرف منصوب بقالوا. قوله: (أصله لقيوا) أي على وزن شربوا. قوله: (حذفت الضمة) لم يكمل التصريف وتمامه ثم ضمت القاف للمناسبة. قوله: (منهم) أشار بذلك إلى أن متعلق خلا محذوف، وقوله: { إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } متعلق بمحذوف أيضاً قدره المفسر بقوله: (ورجعوا) ويحتمل كما قال البيضاوي إن خلا بمعنى الفرد، وإلى بمعنى مع، أي انفردوا مع شياطينهم ولا حذف فيه، وأصل خلوا خلووا بواوين الأول لام الكلمة والثانية علامة الإعراب قلبت لام الكلمة ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فبقيت ساكنة، وبعدها واو الضمير سكانة فحذفت لالتقاء الساكنين وبقيت الفتحة دالة عليها. قوله: (رؤسائهم) إنما سمو شياطين لأن كل رئيس منهم معه شيطان يوسوس له ويعلمه المكر، وقيل لأنهم كالشياطين في الإغواء ورؤساؤهم في ذلك الوقت خمسة: كعب بن الأشرف في المدينة، وعبد الدار في جهينة، وأبو بردة في بني أسلم وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن الأسود في الشام، قوله: (يجازيهم باستهزائهم) إنما سمى المجازاة استهزاء من باب المشاكلة، والإستهزاء الإستخفاف بالشيء. قوله: (يمهلهم) أتى بذلك دفعاً لما يتوهم من أن المجازاة واقعة حالاً، وحكمة الإمهال مذكورة في قوله تعالى:**{ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً }** [آل عمران: 178] إلى غير ذلك من الآيات.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
قوله: (بالكفر) الباء سببية أي تجاوزهم الغاية بسبب الكفر. قوله: (حال) أي جملة يعمهون وهي إما حال من الهاء في يمدهم أو من الهاء في طغيانهم، والمراد بالعمة عدم معرفة الحق من الباطل، فمنهم من يظهر له وجه الحق ويكفر عناداً، ومنهم من يشك في الحق ويقال له عمى أيضاً، فبين العمة والعمى عموم وخصوص مطلق يجمعان في طمس القلب وينفرد العمى بفقد البصر. قوله: (تحيراً) إما مفعول لأجله أو تمييز. قوله: (استبدلوها به) أشار بذلك إلى أن المراد بالشراء مطلق الإستبدال، والباء داخلة على الثمن، والمراد بالضلالة الكفر وبالهدى الإيمان وكلامه يقتضي أن الهدى كان موجوداً عندهم ثم دفعوه وأخذوا الضلالة، وهو كذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: **" كل مولود يولد على الفطرة حتى يهودانه أبواه "** الحديث، ولأنهم في العهد يوم (ألست بربكم) أجابوا بالإيمان جميعاً. قوله: (أي ما ربحوا فيها) أشار بذلك إلى أن إسناد الربح للتجارة مجاز عقلي وحقه أن يسند للتجر. قوله: (بل خسروا) أي الربح ورأس المال جميعاً خسراناً دائماً فقوله: (لمصيرهم) علة له. فمثلهم كمثل من عنده كنز عظم ينفع في الدنيا والآخرة استبدله بالنار لأن الضلالة سبب النار.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) | أي: إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس، أي: كإيمان الصحابة رضي الله عنهم، وهو الإيمان بالقلب واللسان، قالوا بزعمهم الباطل: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ يعنون - قبَّحهم الله - الصحابة رضي الله عنهم، بزعمهم أن سفههم أوجب لهم الإيمان، وترك الأوطان، ومعاداة الكفار، والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك، فنسبوهم إلى السفه; وفي ضمنه أنهم هم العقلاء أرباب الحجى والنهى. فردَّ الله ذلك عليهم، وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة، لأن حقيقة السفه: جهل الإنسان بمصالح نفسه، وسعيه فيما يضرها، وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة عليهم، كما أن العقل والحجا، مُعرِّفة الإنسانَ بمصالح نفسه، والسعي فيما ينفعه، و [في] دفع ما يضره، وهذه الصفة منطبقة على [الصحابة و] المؤمنين وصادقة عليهم، فالعبرة بالأوصاف والبرهان، لا بالدعاوى المجردة والأقوال الفارغة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } بطريق الأمر بالمعروف، إثر نهيهم عن المنكر - إتماماً للنصح، وإكمالاً للإرشاد - { آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } أي: الكاملون في الإنسانية، فإن المؤمنين هم الناس في الحقيقة لجمعهم ما يُعد من خواص الإنسان وفضائله - { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } استفهام في معنى الإنكار. والسفه خفةٌ وسخافةُ رأي يورثهما: قصور العقل، وقلة المعرفة بمواضع المصالح والمضار - ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى:**{ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً }** [النساء: 5].
وإنما سفّهوهم - مع أنهم العقلاء المراجيح - لأنهم: لجهلهم، وإخلالهم بالنظر وإنصاف أنفسهم، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق، وأن ما عداه باطل - ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً - ولأنهم كانوا في رياسة في قومهم، ويسار؛ وكان أكثر المؤمنين فقراء، ومنهم مَوَالٍ - كصهيب، وبلال، وخبّاب - فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ | * تفسير البرهان في تفسير القرآن/ هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ) | 335/ [1]- قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): " إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة- قال لهم خيار المؤمنين كسلمان، و المقداد، و أبي ذر، و عمار-: آمنوا برسول الله (صلى الله عليه و آله) و بعلي (عليه السلام) الذي أوقفه موقفه، و أقامه مقامه، و أناط مصالح الدين و الدنيا كلها به، آمنوا بهذا النبي، و سلموا لهذا الإمام في ظاهر الأمر و باطنه، كما آمن الناس المؤمنون كسلمان، و المقداد، و أبي ذر، و عمار.
قالوا في الجواب لمن يفضون إليه، لا هؤلاء المؤمنين، لأنهم لا يجسرون على مكاشفتهم بهذا الحديث، و لكنهم يذكرون لمن يفضون إليه من أهليهم الذين يثقون بهم من المنافقين، و من المستضعفين، و من المؤمنين الذين هم بالستر عليهم واثقون يقولون لهم: { أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } يعنون سلمان و أصحابه، لما أعطوا عليا (عليه السلام) خالص ودهم، و محض طاعتهم، و كشفوا رؤوسهم لموالاة أوليائه، و معاداة أعدائه، حتى إذا اضمحل أمر محمد (صلى الله عليه و آله) طحطحهم أعداؤه، و أهلكهم سائر الملوك و المخالفون لمحمد (صلى الله عليه و آله).
أي فهم بهذا التعرض لأعداء محمد (صلى الله عليه و آله) جاهلون سفهاء. قال الله عز و جل: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } الأخفاء العقول و الآراء، الذين لم ينظروا في أمر محمد (صلى الله عليه و آله) حق النظر فيعرفوا نبوته، و يعرفوا به صحة ما أناط بعلي (عليه السلام) من أمر الدين و الدنيا، حتى بقوا لتركهم تأمل حجج الله جاهلين، و صاروا خائفين وجلين من محمد (صلى الله عليه و آله) و ذويه و من مخالفيهم، لا يأمنون أنه يغلب فيهلكون معه، فهم السفهاء حيث لم يسلم لهم بنفاقهم هذا لا محبة [محمد و] المؤمنين، و لا محبة اليهود و سائر الكافرين، و هم يظهرون لمحمد (صلى الله عليه و آله) موالاته و موالاة أخيه على و معاداة أعدائهم اليهود و النواصب، كما يظهرون لهم من معاداة محمد و علي صلوات الله عليهما ".
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) | وقوله: { صِرَاطَ الذينَ أنْعَمْتَ عَلَـيْهِمْ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } إبـانة عن الصراط الـمستقـيـم أيّ الصراط هو، إذ كان كل طريق من طرق الـحقّ صراطاً مستقـيـماً، فقـيـل لـمـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد: اهدنا يا ربنا الصراط الـمستقـيـم، صراط الذين أنعمت علـيهم، بطاعتك وعبـادتك من ملائكتك، وأنبـيائك، والصديقـين، والشهداء، والصالـحين. وذلك نظير ما قال ربنا جل ثناؤه فـي تنزيـله:**{ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً \* وَإِذاً لأَتَيْنَٰهُم مِّن لَّدُنَّـآ أَجْراً عَظِيماً \* وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً \* وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ }** [النساء: 66-69] قال أبو جعفر: فـالذي أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم وأمته أن يسألوه ربهم من الهداية للطريق الـمستقـيـم، هي الهداية للطريق الذي وصف الله جل ثناؤه صفته. وذلك الطريق هو طريق الذين وصفهم الله بـما وصفهم به فـي تنزيـله، ووعد من سَلَكه فـاستقام فـيه طائعاً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أن يورده مواردهم، والله لا يخـلف الـميعاد. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك رُوي الـخبر عن ابن عبـاس وغيره. حدثنا مـحمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يقول: طريق من أنعمت علـيـم بطاعتك وعبـادتك من الـملائكة والنبـيـين والصديقـين والشهداء والصالـحين، الذين أطاعوك وعبدوك. وحدثنـي أحمد بن حازم الغفـاري، قال: أخبرنا عبـيد الله بن موسى، عن أبـي جعفر عن ربـيع: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } قال: النبـيون. وحدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } قال: الـمؤمنـين. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: قال وكيع { أنْعَمْتَ عَلَـيْهِمْ }: الـمسلـمين. وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد فـي قول الله: { صِرَاطَ الذِينَ أنْعَمْتَ عَلَـيْهِمْ } قال: النبـي صلى الله عليه وسلم ومن معه. قال أبو جعفر: وفـي هذه الآية دلـيـل واضح علـى أن طاعة الله جل ثناؤه لا ينالها الـمطيعون إلا بإنعام الله بها علـيهم وتوفـيقه إياهم لها. أوَ لا يسمعونه يقول: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فأضاف كل ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبـادة إلـى أنه إنعام منه علـيهم؟ فإن قال قائل: وأين تـمام هذا الـخبر، وقد علـمت أن قول القائل لآخر: أنعمت علـيك، مقتض الـخبر عما أنعم به علـيه، فأين ذلك الـخبر فـي قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وما تلك النعمة التـي أنعمها علـيهم؟ قـيـل له: قد قدمنا البـيان فـيـما مضى من كتابنا هذا عن اجتزاء العرب فـي منطقها ببعض من بعض إذا كان البعض الظاهر دالاًّ علـى البعض البـاطن وكافـياً منه، فقوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من ذلك لأن أمر الله جل ثناؤه عبـاده بـمسألته الـمعونة وطلبهم منه الهداية للصراط الـمستقـيـم لـما كان متقدماً قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } الذي هو إبـانة عن الصراط الـمستقـيـم، وإبدالٌ منه، كان معلوماً أن النعمة التـي أنعم الله بها علـى من أمرنا بـمسألته الهداية لطريقهم هو الـمنهاج القويـم والصراط الـمستقـيـم الذي قد قدمنا البـيان عن تأويـله آنفـاً، فكان ظاهر ما ظهر من ذلك مع قرب تـجاور الكلـمتـين مغنـياً عن تكراره كما قال نابغة بنـي ذبـيان:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| **كأنكَ منْ جِمالِ بَنـي أُقَـيْشٍ** | | **يُقْعْقَعُ خَـلْفَ رِجْلَـيْهِ بِشَنِّ** |
| --- | --- | --- |
يريد كأنك من جمال بنـي أقـيش جمل يقعقع خـلف رجلـيه بشنّ، فـاكتفـى بـما ظهر من ذكر الـجمال الدال علـى الـمـحذوف من إظهار ما حذف. وكما قال الفرزدق بن غالب:
| **تَرَى أرْبـاقَهُمْ مُتَقَلِّدِيها** | | **إذَا صَدِىءَ الـحَديدُ علـى الكُماةِ** |
| --- | --- | --- |
يريد: متقلديها هم، فحذف «هم» إذ كان الظاهر من قوله: «أربـاقهم» دالاًّ علـيها. والشواهد علـى ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تـحصى، فكذلك ذلك فـي قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم }. قال أبو جعفر: والقراء مـجمعة علـى قراءة «غير» بجرّ الراء منها. والـخفض يأتـيها من وجهين: أحدهما أن يكون غير صفة للذين ونعتا لهم فتـخفضها، إذ كان «الذين» خفضاً وهي لهم نعت وصفة وإنـما جاز أن يكون «غير» نعتا «للذين»، و«الذين» معرفة وغير نكرة لأن «الذين» بصلتها لـيست بـالـمعرفة الـمؤقتة كالأسماء التـي هي أمارات بـين الناس، مثل: زيد وعمرو، وما أشبه ذلك وإنـما هي كالنكرات الـمـجهولات، مثل: الرجل والبعير، وما أشبه ذلك فلما كان «الذين» كذلك صفتها، وكانت غير مضافة إلـى مـجهول من الأسماء نظير «الذين» فـي أنه معرفة غير مؤقتة كما «الذين» معرفة غير مؤقتة، جاز من أجل ذلك أن يكون: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } نعتاً لـ { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } كما يقال: لا أجلس إلا إلـى العالـم غير الـجاهل، يراد: لا أجلس إلا إلـى من يعلـم، لا إلـى من يجهل. ولو كان الذين أنعمت علـيهم معرفة مؤقتة كان غير جائز أن يكون { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } لها نعتاً، وذلك أنه خطأ فـي كلام العرب إذا وصفت معرفة مؤقتة بنكرة أن تلزم نعتها النكرة إعراب الـمعرفة الـمنعوت بها، إلا علـى نـية تكرير ما أعرب الـمنعوت بها. خطأٌ فـي كلامهم أن يقال: مررت بعبد الله غير العالـم، فتـخفض «غير» إلا علـى نـية تكرير البـاء التـي أعربت عبد الله، فكان معنى ذلك لو قـيـل كذلك: مررت بعبد الله، مررت بغير العالـم. فهذا أحد وجهي الـخفض فـي: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم }. والوجه الآخر من وجهي الـخفض فـيها أن يكون «الذين» بـمعنى الـمعرفة الـمؤقتة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وإذا وجه إلـى ذلك، كانت غير مخفوضة بنـية تكرير الصراط الذي خفض الذين علـيها، فكأنك قلت: صراط الذين أنعمت علـيهم صراط غير الـمغضوب علـيهم. وهذان التأويلان فـي غير الـمغضوب علـيهم، وإن اختلفـا بـاختلاف معربـيهما، فإنهما يتقارب معناهما من أجل أن من أنعم الله علـيه فهداه لدينه الـحق فقد سلـم من غضب ربه ونـجا من الضلال فـي دينه، فسواءٌ إذ كان سامع قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } غير جائز أن يرتاب مع سماعه ذلك من تالـيه فـي أن الذين أنعم الله علـيهم بـالهداية للصراط، غير غاضب ربهم علـيهم مع النعمة التـي قد عظمت منته بها علـيهم فـي دينهم، ولا أن يكونوا ضلالاً وقد هداهم للـحق ربهم، إذْ كان مستـحيلاً فـي فطرهم اجتـماع الرضا من الله جل ثناؤه عن شخص والغضب علـيه فـي حال واحدة واجتـماع الهدى والضلال له فـي وقت واحد وُصِف القوم مع وصف الله إياهم بـما وصفهم به من توفـيقه إياهم وهدايته لهم وإنعامه علـيهم بـما أنعم الله به علـيهم فـي دينهم بأنهم غير مغضوب علـيهم ولا هم ضالون، أم لـم يوصفوا بذلك لأن الصفة الظاهرة التـي وصفوا بها قد أنبأت عنهم أنهم كذلك وإن لـم يصرّح وصفهم به. هذا إذا وجهنا «غير» إلـى أنها مخفوضة علـى نـية تكرير الصراط الـخافض الذين، ولـم نـجعل غير الـمغضوب علـيهم ولا الضالـين من صفة الذين أنعمت علـيهم بل إذا جعلناهم غيرهم وإن كان الفريقان لا شك مُنْعَماً علـيهما فـي أديانهما. فأما إذا وجهنا: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } إلـى أنها من نعت الذين أنعمت علـيهم فلا حاجة بسامعه إلا الاستدلال، إذْ كان الصريح من معناه قد أغنى عن الدلـيـل، وقد يجوز نصب «غير» فـي غير الـمغضوب علـيهم وإن كنت للقراءة بها كارهاً لشذوذها عن قراءة القراء. وإن ما شذّ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلاً ظاهراً مستفـيضاً، فرأي للـحق مخالف وعن سبـيـل الله وسبـيـل رسوله صلى الله عليه وسلم وسبـيـل الـمسلـمين متـجانف، وإن كان له لو كانت القراءة جائزة به فـي الصواب مخرج. وتأويـل وجه صوابه إذا نصبتَ: أن يوجه إلـى أن يكون صفة للهاء والـميـم اللتـين فـي «علـيهم» العائدة علـى «الذين»، لأنها وإن كانت مخفوضة ب«علـى»، فهي فـي مـحل نصب بقوله: «أنعمت». فكأن تأويـل الكلام إذا نصبت «غير» التـي مع «الـمغضوب علـيهم»: صراط الذين هديتهم إنعاما منك علـيهم غير مغضوب علـيهم، أي لا مغضوبـاً علـيهم ولا ضالـين. فـيكون النصب فـي ذلك حينئذٍ كالنصب فـي «غير» فـي قولك: مررت بعبد الله غير الكريـم ولا الرشيد، فتقطع غير الكريـم من عبد الله، إذ كان عبد الله معرفة مؤقتة وغير الكريـم نكرة مـجهولة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقد كان بعض نـحويـي البصريـين يزعم أن قراءة من نصب «غير» فـي غير الـمغضوب علـيهم علـى وجه استثناء غير الـمغضوب علـيهم من معانـي صفة الذين أنعمت علـيهم، كأنه كان يرى أن معنى الذين قرءوا ذلك نصبـاً: اهدنا الصراط الـمستقـيـم صراط الذين أنعمت علـيهم إلا الـمغضوب علـيهم الذين لـم تنعم علـيهم فـي أديانهم ولـم تهدهم للـحق، فلا تـجعلنا منهم كما قال نابغة بنـي ذبـيان:
| **وَقَـفْتُ فـيها أُصَيْلالاً أُسائلُها** | | **أعْيَتْ جَوَابـاً وَما بـالرَّبْع منْ أحَدِ** |
| --- | --- | --- |
| **إِلاَّ أَوَارِيَّ لأيامَاً أُبَـيِّنُها** | | **والنُّؤيُ كالـحَوْضِ بـالـمَظْلُومَةِ الـجَلَدِ** |
وأَلاواري معلوم أنها لـيست من عداد أحد فـي شيء. فكذلك عنده استثنى { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } من { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، وإن لـم يكونوا من معانـيهم فـي الدين فـي شيء. وأما نـحويو الكوفـيـين فأنكروا هذا التأويـل واستـخطئوه، وزعموا أن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة لكان خطأ أن يقال: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } لأن «لا» نفـي وجحد، ولا يعطف بجحد إلا علـى جحد وقالوا: لـم نـجد فـي شيء من كلام العرب استثناء يعطف علـيه بجحد، وإنـما وجدناهم يعطفون علـى الاستثناء بـالاستثناء، وبـالـجحد علـى الـجحد فـيقولون فـي الاسثتناء: قام القوم إلا أخاك وإلا أبـاك وفـي الـجحد: ما قام أخوك، ولا أبوك وأما قام القوم إلا أبـاك ولا أخاك، فلـم نـجده فـي كلام العرب قالوا: فلـما كان ذلك معدوماً فـي كلام العرب وكان القرآن بأفصح لسان العرب نزوله، علـمنا إذ كان قوله: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } معطوفـاً علـى قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ } علـيهم أن «غير» بـمعنى الـجحد لا بـمعنى الاستثناء، وأن تأويـل من وجهها إلـى الاستثناء خطأ. فهذه أوجه تأويـل غير الـمغضوب علـيهم. بـاختلاف أوجه إعراب ذلك. وإنـما اعترضنا بـما اعترضْنا فـي ذلك من بـيان وجوه إعرابه، وإن كان قصدنا فـي هذا الكتاب الكشف عن تأويـل آي القرآن، لـما فـي اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويـله، فـاضطرّتنا الـحاجة إلـى كشف وجوه إعرابه، لتنكشف لطالب تأويـله وجوه تأويـله علـى قدر اختلاف الـمختلفة فـي تأويـله وقراءته. والصواب من القول فـي تأويـله وقراءته عندنا القول الأول، وهو قراءة: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } بخفض الراء من «غير» بتأويـل أنها صفة للذين أنعمت علـيهم ونعت لهم لـما قد قدمنا من البـيان إن شئت، وإن شئت فبتأويـل تكرار «صراط» كل ذلك صواب حسن. فإن قال لنا قائل: فمن هؤلاء الـمغضوب علـيهم الذين أمرنا الله جل ثناؤه بـمسألته أن لا يجعلنا منهم؟ قـيـل: هم الذين وصفهم الله جل ثناؤه فـي تنزيـله فقال:**{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** [المائدة: 60] فأعلـمنا جل ذكره بـمنه ما أحلّ بهم من عقوبته بـمعصيتهم إياه، ثم علـمنا، مِنَّةً منه علـينا، وجه السبـيـل إلـى النـجاة، من أن يحل بنا مثل الذي حلّ بهم من الـمَثُلات، ورأفة منه بنا.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فإن قال: وما الدلـيـل علـى أنهم أولاء الذين وصفهم الله وذكر نبأهم فـي تنزيـله علـى ما وصفت قـيـل: حدثنـي أحمد بن الولـيد الرملـي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الرقـي، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن الشعبـي، عن عديّ بن حاتـم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" الـمَغْضُوبُ عَلَـيْهِمْ: الـيَهُودُ "** وحدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة عن سماك بن حرب، قال: سمعت عبـاد بن حبـيش يحدّث عن عديّ بن حاتـم قال: قال لـي رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إنّ الـمَغْضُوبُ عَلَـيْهِمْ: الـيَهُودُ "** وحدثنـي علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا مسلـم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا مـحمد بن مصعب، عن حماد بن سلـمة، عن سماك بن حرب، عن مُرِّي بن قَطَري، عن عدي بن حاتـم قال: سألت النبـي صلى الله عليه وسلم عن قول الله جل وعز: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } قال: **" هُمُ الـيَهُودُ "** وحدثنا حميد بن مسعدة الشامي، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا الـجريري عن عبد الله بن شقـيق: أن رجلاً أتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مـحاصرٌ وادي القرى فقال: من هؤلاء الذين تـحاصر يا رسول الله؟ قال: **" هَولاءِ الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ: الـيَهُودُ "** وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن سعيد الـجريري، عن عروة، عن عبد الله بن شقـيق، أن رجلاً أتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نـحوه. وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن بديـل العقـيـلـي، قال: أخبرنـي عبد الله بن شقـيق أنه أخبره من سمع النبـي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو علـى فرسه وسأله رجل من بنـي القـين، فقال: يا رسول الله من هؤلاء؟ قال: **" الـمَغْضُوبُ عَلَـيْهِمْ "** وأشار إلـى الـيهود. وحدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن خالد الـحذاء، عن عبد الله بن شقـيق، أن رجلاً سأل النبـي صلى الله عليه وسلم، فذكر نـحوه. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن ابن عبـاس: { غيرِ الـمَغُضُوبِ عَلَـيْهِمْ } يعنـي الـيهود الذين غضب الله علـيهم. وحدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن طلـحة، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } هم الـيهود.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وحدثنا ابن حميد الرازي، قال: حدثنا مهران، عن سفـيان، عن مـجاهد، قال: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } قال: هم الـيهود. حدثنا أحمد بن حازم الغفـاري، قال: حدثنا عبد الله، عن أبـي جعفر، عن ربـيع: { غيرِ الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ } قال: الـيهود. وحدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس: { غيرٍ الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ } قال: الـيهود. وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب. قال: قال ابن زيد: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } الـيهود. وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنـي ابن زيد، عن أبـيه، قال: { ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } الـيهود. قال أبو جعفر: واختلف فـي صفة الغضب من الله جل ذكره فقال بعضهم: غضب الله علـى من غضب علـيه من خـلقه إحلالُ عقوبته بـمن غضب علـيه، إما فـي دنـياه، وإما فـي آخرته، كما وصف به نفسه جل ذكره فـي كتابه فقال:**{ فَلَمَّا ءاسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـٰهُمْ أَجْمَعِينَ }** [الزخرف: 55] وكما قال:**{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ }** [المائدة: 60] وقال بعضهم: غضب الله علـى من غضب علـيه من عبـاده ذمّ منه لهم ولأفعالهم، وشتـم منه لهم بـالقول. وقال بعضهم: الغضب منه معنى مفهوم، كالذي يعرف من معانـي الغضب. غير أنه وإن كان كذلك من جهة الإثبـات، فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميـين الذين يزعجهم ويحركهم ويشقّ علـيهم ويؤذيهم لأن الله جل ثناؤه لا تـحل ذاته الآفـات، ولكنه له صفة كما العلـم له صفة، والقدرة له صفة علـى ما يعقل من جهة الإثبـات، وإن خالفت معانـي ذلك معانـي علوم العبـاد التـي هي معارف القلوب وقواهم التـي توجد مع وجود الأفعال وتُعدم مع عدمها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلا الضَّالِـينَ }. قال أبو جعفر: كان بعض أهل البصرة يزعم أن «لا» مع «الضالـين» أدخـلت تتـميـماً للكلام والـمعنى إلغاؤها، ويستشهد علـى قـيـله ذلك ببـيت العجاج:
| **فـي بِئْرٍ لا حُورٍ سَرَى وَما شَعَرْ** | | |
| --- | --- | --- |
ويتأوله بـمعنى: فـي بئر حُورٍ سَرَى، أي فـي بئر هلكة، وأنّ «لا» بـمعنى الإلغاء والصلة. ويعتل أيضاً لذلك يقول أبـي النـجم:
| **فَمَا ألُوم البِـيضَ أنْ لا تَسْخَرَا** | | **لَـمَّا رأيْنَ الشَّمَطَ القَـفَنْدَرَا** |
| --- | --- | --- |
وهو يريد: فما ألوم البـيض أن تسخر. وبقول الأحوص:
| **ويَـلْـحَيْنَنِـي فـي اللَّهْوِ أنْ لا أحِبَّهُ** | | **ولَلَّهْوِ داعٍ دائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ** |
| --- | --- | --- |
يريد: ويـلـحينَنـي فـي اللهو أن أحبه. وبقوله تعالـى: ما مَنَعَكَ أنْ لا تَسْجُدَ يريد أن تسجد. وحكي عن قائل هذه الـمقالة أنه كان يتأول «غير» التـي «مع الـمغضوب علـيهم» أنها بـمعنى «سوى»، فكأن معنى الكلام كان عنده: اهدنا الصراط الـمستقـيـم صراط الذين أنعمت علـيهم الذين هم سوى الـمغضوب علـيهم والضالـين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وكان بعض نـحويـي الكوفة يستنكر ذلك من قوله، ويزعم أن «غير» التـي «مع الـمغضوب علـيهم» لو كانت بـمعنى «سوى» لكان خطأ أن يعطف علـيها ب«لا»، إذ كانت «لا» لا يعطف بها إلا علـى جحد قد تقدمها، كما كان خطأ قول القائل: عندي سوى أخيك، ولا أبـيك لأن «سوى» لـيست من حروف النفـي والـجحود ويقول: لـما كان ذلك خطأ فـي كلام العرب، وكان القرآن بأفصح اللغات من لغات العرب، كان معلوما أن الذي زعمه القائل أن «غير مع الـمغضوب» علـيهم بـمعنى: «سوى الـمغضوب علـيهم» خطأ، إذ كان قد كرّ علـيه الكلام ب«لا». وكان يزعم أن «غير» هنالك إنـما هي بـمعنى الـجحد، إذ كان صحيحاً فـي كلام العرب وفـاشياً ظاهراً فـي منطقها توجيه «غير» إلـى معنى النفـي ومستعملاً فـيهم: أخوك غير مـحسن ولا مـجمل، يراد بذلك أخوك لا مـحسن، ولا مـجمل، ويستنكر أن تأتـي «لا» بـمعنى الـحذف فـي الكلام مبتدأً ولـمّا يتقدمها جحد، ويقول: لو جاز مـجيئها بـمعنى الـحذف مبتدأ قبل دلالة تدل علـى ذلك من جحد سابق، لصح قول قائل قال: أردت أن لا أكرم أخاك، بـمعنى: أردت أن أكرم أخاك. وكان يقول: ففـي شهادة أهل الـمعرفة بلسان العرب علـى تـخطئه قائل ذلك دلالة واضحة علـى أن «لا» لا تأتـي مبتدأة بـمعنى الـحذف، ولـمّا يتقدمها جحد. وكان يتأول فـي «لا» التـي فـي بـيت العجاج الذي ذكرنا أن البصري استشهد به بقوله إنها جحد صحيح، وأن معنى البـيت: سرى فـي بئر لا تُـحِيرُ علـيه خيرا، ولا يتبـين له فـيها أثرُ عمل، وهو لا يشعر بذلك ولا يدري به. من قولهم: طحنت الطاحنة فما أحارت شيئاً أي لـم يتبـين لها أثر عمل. ويقول فـي سائر الأبـيات الأخر، أعنـي مثل بـيت أبـي النـجم:
| **فَمَا ألُومُ البِـيضَ أنْ لا تَسْخَرَا** | | |
| --- | --- | --- |
إنـما جاز أن تكون «لا» بـمعنى الـحذف، لأن الـجحد قد تقدمها فـي أول الكلام، فكان الكلام الآخر مواصلاً للأول، كما قال الشاعر:
| **ما كانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ فِعْلَهُمُ** | | **وَالطَّيِّبـان أبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ** |
| --- | --- | --- |
فجاز ذلك، إذ كان قد تقدم الـجحد فـي أول الكلام. قال أبو جعفر: وهذا القول الآخر أولـى بـالصواب من الأول، إذ كان غير موجود فـي كلام العرب ابتداء الكلام من غير جحد تقدمه ب«لا» التـي معناها الـحذف، ولا جائز العطف بها علـى «سوى»، ولا علـى حرف الاستثناء. وإنـما ل«غير» فـي كلام العرب معان ثلاثة: أحدها الاستثناء، والآخر الـجحد، والثالث سوى، فإذا بطل خطأ «لا» أن يكون بـمعنى الإلغاء مبتدأ وفسد أن يكون عطفـاً علـى «غير» التـي مع «الـمغضوب علـيهم»، لو كانت بـمعنى «إلا» التـي هي استثناء، ولـم يجز أيضاً أن يكون عطفـاً علـيها لو كانت بـمعنى «سوى»، وكانت «لا» موجودة عطفـاً بـالواو التـي هي عاطفة لها علـى ما قبلها، صحّ وثبت أن لا وجه ل«غير» التـي مع «الـمغضوب علـيهم» يجوز توجيهها إلـيه علـى صحة إلا بـمعنى الـجحد والنفـي، وأن لا وجه لقوله: «ولا الضالـين»، إلا العطف علـى «غير الـمغضوب علـيهم».
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فتأويـل الكلام إذا إذ كان صحيحاً ما قلنا بـالذي علـيه استشهدنا: اهدنا الصراط الـمستقـيـم صراط الذين أنعمت علـيهم لا الـمغضوب علـيهم ولا الضالـين. فإن قال لنا قائل: ومن هؤلاء الضالون الذين أمرنا الله بـالاستعاذة بـالله أن يسلك بنا سبـيـلهم، أو نضل ضلالهم؟ قـيـل: هم الذين وصفهم الله فـي تنزيـله، فقال:**{ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** [المائده: 77] فإن قال: وما برهانك علـى أنهم أولاء؟ قـيـل: حدثنا أحد بن الولـيد الرملـي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن الشعبـي، عن عديّ بن أبـي حاتـم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { ولا الضَّالِّـينَ } قال: **" النَّصارى "** حدثنا مـحمد بن الـمثنى، أنبأنا مـحمد بن جعفر، أنبأنا شعبة عن سماك، قال: سمعت عبـاد بن حبـيش يحدث عن عديّ بن حاتـم، قال: قال لـي رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إنَّ الضَّالِّـينَ: النَّصَارَى "** وحدثنـي علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا مسلـم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا مـحمد بن مصعب، عن حماد بن سلـمة، عن سماك بن حرب، عن مري بن قطري، عن عديّ بن حاتـم، قال: سألت النبـيّ صلى الله عليه وسلم عن قول الله { وَلا الضَّالِّـينَ } قال: **" النَّصَارَى هُمُ الضَّالونَ "** وحدثنا حميد بن مسعدة الشامي، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا الـجريري، عن عبد الله بن شقـيق: أن رجلاً أتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مـحاصر وادي القرى قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: **" هَؤُلاءِ الضَّالونَ: النَّصَارَى "** وحدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن سعيد الـجريري، عن عروة، يعنـي ابن عبد الله بن قـيس، عن عبد الله بن شقـيق، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنـحوه. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن بديـل العقـيـلـي، قال: أخبرنـي عبد الله بن شقـيق، أنه أخبره من سمع النبـي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو علـى فرسه وسأله رجل من بنـي القـين فقال: يا رسول الله من هؤلاء؟ قال: **" هَؤُلاءِ الضَّالونَ "** ، يَعْنِـي النَّصَارَى. وحدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن خالد الـحذاء، عن عبد الله بن شقـيق، أن رجلاً سأل النبـي صلى الله عليه وسلم، وهو مـحاصر وادي القرى وهو علـى فرس من هؤلاء؟ قال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" الضَّالونَ "** يَعْنِـي النَّصَارَى. وحدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفـيان، عن مـجاهد: { ولا الضالـين } قال: النصارى. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمار، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس: { ولا الضالـين } قال: وغير طريق النصارى الذين أضلهم الله بِفِرْيتهم علـيه. قال: يقول: فألهمنا دينك الـحقّ، وهو لا إلٰه إلاّ الله وحده لا شريك له، حتـى لا تغضبَ علـينا كما غضبت علـى الـيهود ولا تضلَّنا كما أضللت النصارى فتعذّبنا بـما تعذبهم به. يقول: امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك وقدرتك. وحدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس الضالـين: النصارى. وحدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن إسماعيـل السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: ولا الضالـين: هم النصارى. وحدثنـي أحمد بن حازم الغفـاري، قال: أخبرنا عبـيد الله بن موسى، عن أبـي جعفر، عن ربـيع: ولا الضالـين: النصارى. وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: ولا الضالـين النصارى. وحدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبـيه. قال: ولا الضالـين النصارى. قال أبو جعفر: وكل حائد عن قصد السبـيـل وسالك غير الـمنهج القويـم فضالّ عند العرب لإضلاله وجه الطريق، فلذلك سَمَّى الله جل ذكره النصارى ضُلاّلاً لـخطئهم فـي الـحق منهج السبـيـل، وأخذهم من الدين فـي غير الطريق الـمستقـيـم. فإن قال قائل: أو لـيس ذلك أيضاً من صفة الـيهود؟ قـيـل: بلـى. فإن قال: كيف خصّ النصارى بهذه الصفة، وخص الـيهود بـما وصفهم به من أنهم مغضوب علـيهم؟ قـيـل: إن كلا الفريقـين ضُلاّل مغضوب علـيهم، غير أن الله جل ثناؤه وَسَم كل فريق منهم من صفته لعبـاده بـما يعرفونه به إذا ذكره لهم، أو أخبرهم عنه، ولـم يَسِمْ واحداً من الفريقـين إلا بـما هو له صفة علـى حقـيقته، وإن كان له من صفـات الذم زيادات علـيه. وقد ظن بعض أهل الغبـاء من القدرية أن فـي وصف الله جل ثناؤه النصارى بـالضلال بقوله: { وَلا الضالِّـين } وإضافته الضلال إلـيهم دون إضافة إضلالهم إلـى نفسه، وتركه وصفهم بأنهم الـمضللون كالذي وصف به الـيهود أنهم الـمغضوب علـيهم، دلالةً علـى صحة ما قاله إخوانه من جَهَلَةِ القدرية جهلاً منه بسعة كلام العرب وتصاريف وجوهه. ولو كان الأمر علـى ما ظنه الغبـيّ الذي وصفنا شأنه لوجب أن يكون شأن كل موصوف بصفة أو مضاف إلـيه فعل لا يجوز أن يكون فـيه سبب لغيره، وأن يكون كل ما كان فـيه من ذلك لغيره سبب فـالـحق فـيه أن يكون مضافـاً إلـى مسببه، ولو وجب ذلك لوجب أن يكون خطأ قول القائل: «تـحركت الشجرةُ» إذا حركتها الرياح، و«اضطربت الأرضُ» إذا حركتها الزلزلة، وما أشبه ذلك من الكلام الذي يطول بإحصائه الكتاب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وفـي قول الله جل ثناؤه:**{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم }** [يونس: 22] بإضافته الـجري إلـى الفلك، وإن كان جَرْيُها بإجراء غيرها إياها، ما يدل علـى خطأ التأويـل الذي تأوله من وصفنا قوله فـي قوله: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } ، وادعائه أن فـي نسبة الله جل ثناؤه الضلالةَ إلـى من نسبها إلـيه من النصارى تصحيحاً لـما ادعى الـمنكرون أن يكون لله جل ثناؤه فـي أفعال خـلقه سببٌ من أجله وُجدت أفعالهم، مع إبـانة الله عز ذكره نصّاً فـي آي كثـيرة من تنزيـله أنه الـمضلّ الهادي فمن ذلك قوله جل ثناؤه:**{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }** [الجاثية: 23] فأنبأ جل ذكره أنه الـمضلّ الهادي دون غيره. ولكن القرآن نزل بلسان العرب، علـى ما قد قدمنا البـيان عنه فـي أول الكتاب. ومن شأن العرب إضافة الفعل إلـى من وُجد منه، وإن كان مسببه غير الذي وجد منه أحياناً، وأحياناً إلـى مسببه، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيرُه. فكيف بـالفعل الذي يكتسبه العبد كسبـاً ويوجده الله جل ثناؤه عينا مُنْشأةً؟ بل ذلك أحرى أن يضاف إلـى مكتسبه كسبـاً له بـالقوة منه علـيه والاختـيار منه له، وإلـى الله جل ثناؤه بإيجاد عينه وإنشائها تدبـيراً.مسئلة يسأل عنها أَهل الإلـحاد الطاعنون فـي القرآن إن سألنا منهم سائل فقال: إنك قد قدمت فـي أول كتابك هذا فـي وصف البـيان بأن أعلاه درجة وأشرفه مرتبة، أبلغه فـي الإبـانة عن حاجة الـمبـين به عن نفسه وأبْـينُه عن مراد قائله وأقربه من فهم سامعه، وقلت مع ذلك إن أولـى البـيان بأن يكون كذلك كلام الله جل ثناؤه بفضله علـى سائر الكلام وبـارتفـاع درجته علـى أعلـى درجات البـيان. فما الوجه إذ كان الأمر علـى ما وصفتَ فـي إطالة الكلام بـمثل سورة أمّ القرآن بسبع آيات؟ وقد حوت معانـي جميعها منها آيتان، وذلك قوله:**{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ \* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }** [الفاتحة: 4-5] إذ كان لا شك أن من عرف:**{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }** [الفاتحة: 4] فقد عرفه بأسمائه الـحسنى وصفـاته الـمثلـى. وأنَّ من كان لله مطيعاً، فلا شك أنه لسبـيـل من أنعم الله علـيه فـي دينه متبع، وعن سبـيـل من غضب علـيه وضل منعدل، فما فـي زيادة الآيات الـخمس البـاقـية من الـحكمة التـي لـم تـحوها الآيتان اللتان ذكرنا؟ قـيـل له: إن الله تعالـى ذكره جمع لنبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم ولأمته بـما أنزل إلـيه من كتابه معانـي لـم يجمعهن بكتاب أنزله إلـى نبـي قبله ولا لأمة من الأمـم قبلهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وذلك أن كل كتاب أنزله جل ذكره علـى نبـي من أنبـيائه قبله، فإنـما أنزله ببعض الـمعانـي التـي يحوي جميعها كتابه الذي أنزله إلـى نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم، كالتوراة التـي هي مواعظ وتفصيـل، والزَّبُور الذي هو تـحميد وتـمـجيد، والإنـجيـل الذي هو مواعظ وتذكير لا معجزة فـي واحد منها تشهد لـمن أنزل إلـيه بـالتصديق. والكتابُ الذي أنزل علـى نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم يحوي معانـي ذلك كله، ويزيد علـيه كثـيراً من الـمعانـي التـي سائر الكتب غيره منها خالٍ، وقد قدمنا ذكرها فـيـما مضى من هذا الكتاب. ومن أشرف تلك الـمعانـي التـي فضل بها كتابنا سائر الكتب قبله: نظمه العجيب، ورصفه الغريب، وتألـيفه البديع، الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سورة منه الـخطبـاء، وكلَّتْ عن وصف شكل بعضه البلغاء، وتـحيرت فـي تألـيفه الشعراء، وتبلَّدت قصوراً عن أن تأتـي بـمثله لديه أفهام الفهماء. فلـم يجدوا له إلا التسلـيـم، والإقرار بأنه من عند الواحد القهار، مع ما يحوي مع ذلك من الـمعانـي التـي هي ترغيب، وترهيب. وأمر، وزجر، وقصص، وجدل، ومثل، وما أشبه ذلك من الـمعانـي التـي لـم تـجتـمع فـي كتاب أنزل إلـى الأرض من السماء. فمهما يكن فـيه من إطالة علـى نـحو ما فـي أم القرآن، فلـما وصفت قبلُ من أن الله جل ذكره أراد أن يجمع بوصفه العجيب، ونظمه الغريب، الـمنعدل عن أوزان الأشعار، وسجع الكهان، وخطب الـخطبـاء، ورسائل البلغاء، العاجز عن وصف مثله جميع الأنام، وعن نظم نظيره كل العبـاد الدلالة علـى نبوّة نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما فـيه من تـحميد وتـمـجيد وثناء علـيه، تنبـيه للعبـاد علـى عظمته وسلطانه وقدرته وعظم مـملكته، لـيذكروه بآلائه ويحمدوه علـى نعمائه، فـيستـحقوا به منه الـمزيد ويستوجبوا علـيه الثوابَ الـجزيـل. وبـما فـيه من نعت من أنعم علـيه بـمعرفته، وتفضل علـيه بتوفـيقه لطاعته، تعريفعبـاده أن كل ما بهم من نعمة فـي دينهم ودنـياهم فمنه، لـيصرفوا رغبتهم إلـيه، ويبتغوا حاجاتهم من عنده دون ما سواه من الآلهة والأنداد، وبـما فـيه من ذكره ما أحل بـمن عصاه من مثلاته، وأنزل بـمن خالف أمره من عقوبـاته ترهيب عبـاده عن ركوب معاصيه، والتعرّض لـما لا قبل لهم به من سخطه، فـيسلك بهم فـي النكال والنقمات سبـيـل من ركب ذلك من الهلاك. فذلك وجه إطالة البـيان فـي سورة أم القرآن، وفـيـما كان نظيراً لها من سائر سور الفرقان، وذلك هو الـحكمة البـالغة والـحجة الكاملة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | |
| --- | --- | --- | --- |
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الـمـحاربـي، عن مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي العلاء بن عبد الرَّحمن بن يعقوب، عن أبـي السائب مولـى زهرة، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إذَا قالَ العَبْدُ: الـحَمْدُ لِلَّهِ رب العالَـمِينَ، قالَ اللَّهُ: حَمَدَنِـي عَبْدِي، وَإذَا قالَ: الرحْمَنُ الرَّحِيـمِ، قال: أثنى عَلـيَّ عَبْدِي، وَإذَا قالَ: مالِكِ يَوْمِ الدّينِ، قالَ: مَـجَّدَنِـي عَبْدِي، فَهَذَا لـي. وَإذَا قالَ: إياكَ نَعْبُدُ وَإياكَ نَسْتَعِينُ إلـى أنْ يَخْتِـمَ السورَةَ قالَ: فَذَاكَ لَهُ "** حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبـي السائب، عن أبـي هريرة، قال: إذا قال العبد: الـحمد لله، فذكر نـحوه، ولـم يرفعه. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا الولـيد بن كثـير، قال: حدثنـي العلاء بن عبد الرحمن مولـى الـحرقة، عن أبـي السائب، عن أبـي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. حدثنـي صالـح بن مسمار الـمروزي، قال: حدثنا زيد بن الـحبـاب، قال: حدثنا عنبسة بن سعيد، عن مطرف بن طريف، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" قال الله عَزّ وَجَلَّ: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَـيْنـي وبـينَ عَبْدِي نِصْفَـيْنِ وَلَهُ ما سألَ، فإذَا قالَ العَبْدُ: الـحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العالَـمِينَ، قالَ الله: حَمِدَنِـي عَبْدِي، وَإذَا قالَ الرَّحْمَنِ الرَّحيـمِ، قالَ: أثْنى عَلـيَّ عَبْدِي، وَإذَا قالَ: مالكِ يَوْم الدّين، قالَ: مَـجَّدَنِـي عَبْدِي، قالَ: هَذَا لـي وَلَهُ ما بَقـيَ "**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ) | { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من الصراط المستقيم، وهو في حكم تكرير العامل، كأنه قيل اهدنا الصراط المستقيم، اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، كما قال**{ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ \* لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ }** الأعراف 75، فإن قلت ما فائدة البدل؟ وهلا قيلاهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؟ قلت فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير، والإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، كما تقول هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم؟ فلان فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك ثنيت ذكره مجملاً أوّلاً، ومفصلاً ثانياً، وأوقعت فلاناً تفسيراً وإيضاحاً للأكرم الأفضل فجعلته علماً في الكرم والفضل، فكأنك قلت من أراد رجلاً جامعاً للخصلتين فعليه بفلان، فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه غير مدافع ولا منازع. والذين أنعمت عليهم هم المؤمنون، وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام لأنّ من أُنعم عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه. وعن ابن عباس هم أصحاب موسى قبل أن يغيروا، وقيل هم الأنبياء. وقرأ ابن مسعود «صراط من أنعمت عليهم». { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } بدل من الذين أنعمت عليهم، على معنى أنّ المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال، أو صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من غضب الله والضلال. فإن قلت كيف صح أن يقع { غَيْرِ } صفة للمعرفة وهو لا يتعرّف وإن أضيف إلى المعارف؟ قلت { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لا توقيت فيه كقوله
| **وَلَقَدْ أَمُرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّني** | | |
| --- | --- | --- |
ولأنّ المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم، فليس في ـــ غير ـــ إذاً الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرّف، وقرىء بالنصب على الحال وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، ورويت عن ابن كثير، وذو الحال الضمير في عليهم، والعامل أنعمت، وقيل المغضوب عليهم هم اليهود لقوله عز وجل**{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ }** المائدة 60. والضالون هم النصارى لقوله تعالى**{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ }** المائدة 77، فإن قلت ما معنى غضب الله؟ قلت هو إرادة الانتقام من العصاة، وإنزال العقوبة بهم، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده ـــ نعوذ بالله من غضبه، ونسأله رضاه ورحمته. فإن قلت أي فرق بين { عَلَيْهِمْ } الأولى و { عَلَيْهِمْ } الثانية؟ قلت الأولى محلها النصب على المفعولية، والثانية محلها الرفع على الفاعلية. فإن قلت لم دخلت «لا» في { وَلاَ ٱلضَّالّينَ }؟ قلت لما في ـــ غير ـــ من معنى النفي، كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
وتقول أنا زيداً غير ضارب. مع امتناع قولك أنا زيداً مثل ضارب، لإنه بمنزلة قولك أنا زيداً لا ضارب. وعن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قرآ وغير الضالين. وقرأ أيوب السختياني «ولا الضألين» ـــ بالهمزة ـــ، كما قرأ عمرو بن عبيد «ولا جأن» وهذه لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين. ومنها ما حكاه أبو زيد من قولهم شأبة، ودأبة. آمين صوت سمي به الفعل الذي هو استجب، كما أنّ «رويد، وحيهل، وهلم» أصوات سميت بها الأفعال التي هي «أمهل، وأسرع، وأقبل». وعن ابن عباس 4 سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمين فقال «افعل» وفيه لغتان مدّ ألفه، وقصرها. قال
| **وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْداً قالَ آمِينَا** | | |
| --- | --- | --- |
وقال
| **أَمِينَ فَزَادَ اللَّهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَاً** | | |
| --- | --- | --- |
وعن النبي صلى الله عليه وسلم 5 **" لقنني جبريل عليه السلام آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب "** وقال **" إنه كالختم على الكتاب "** وليس من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف. وعن الحسن لا يقولها الإمام لأنه الداعي. وعن أبي حنيفة رحمه الله مثله، والمشهور عنه وعن أصحابه أنه يخفيها. وروى الإخفاء عبد الله بن مغفل وأنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند الشافعي يجهر بها. وعن وائل بن حجر 6 أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ ولا الضالين، قال آمين ورفع بها صوته. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لأبيّ بن كعب 7 **" ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها؟ قلت بلى يا رسول الله. قال «فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته "** وعن حذيفة بن اليمان أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال 8 **" إنّ القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب { الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَـالَمِينَ } فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ) | القراءة: قرأ حمزة عليهم بضم الهاء وإِسكان الميم وكذلك لديهم وإِليهم وقرأ يعقوب بضم كل هاء قبلها ياء ساكنة في التثنية والجمع المذكر والمؤنت نحو: عليهما وفيهما وعليهم وفيهم وعليهن وفيهن وقرأ الباقون عليهم وأخواتها بالكسر وقرئ في الشواذ: عليهموا قراءة ابن أبي إِسحاق وعيسى الثقفي وعليهمي قراءة الحسن البصري وعمر بن قايد وعليهم مكسورة الهاء مضمومة الميم بغير واو وعليهم مضمومة الهاء والميم من غير بلوغ واو مرويتان عن الأعرج فهذه سبع قراءات ثم اختلف القراء في الميم فأهل الحجاز وصلوا الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت قالوا عليهموا وعلى قلوبهموا وعلى سمعهموا ومنهموا ولهموا إِلا أن نافعاً اختلف عنه فيه والباقون بسكون الميم فأما إذا لقي الميم حرف ساكن فإِن القراء اختلفوا فأهل الحجاز وعاصم وابن عامر يضمون على كسر الهاء ويضمون الميم نحو عليهم الذلة ومن دونهم امرأتين وأبو عمرو يكسر الهاء والميم وحمزة والكسائي يضمان الهاء والميم معاً وكل هذا الاختلاف في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة فإِذا جاوزت هذين الأمرين لم يكن في الهاء إِلا الضم وقرأ صراط من أنعمت عليهم عمر بن الخطاب وعمرو بن عبد الله الزبيري وروي ذلك عن أهل البيت عليهم السلام وقرئ أيضا في الشواذ غير المغضوب عليهم بالنصب وقرأ: غير الضالين عمر بن الخطاب وروي ذلك عن علي ع. الحجة: من قرأ عليهم بضم الهاء فإِنه رده إِلى الأصل لأنه إِذا انفرد من حروف يتصل بها قيل: هم فعلوا بضم الهاء قال السراج وهي القراءة القديمة ولغة قريش وأهل الحجاز ومن حولهم من فصحاء اليمن وإِنما خص حمزة هذه الحروف الثلاثة بالضم لأن الياء قبلها كانت ألفاً مثل على القوم ولدى القوم وإِلى القوم ولا يجوز كسر الهاء إِذا كان قبلها ألف ومن قرأ عليهموا فإِنه اتبع الهاء ما أشبهها وهو الياء وترك ما لا يشبه الياء والألف على الأصل وهو الميم ومن قرأ عليهم فكسر الهاء وأسكن الميم فلأنه أمن اللبس إِذا كانت الألف في التثنية قد دلت على الاثنين ولا ميم في الواحد فلما لزمت الميم الجمع حذفوا الواو وأسكنوا الميم طلباً للتخفيف إِذا كان ذلك لا يشكل وإِنما كسر الهاء مع أن الأصل الضم للياء التي قبلها ومن قرأ عليهموا فلأنه الأصل لأن وسيلة هذه الواو في الجمع وسيلة الألف في التثنية أعني أن ثبات الواو كثبات الألف ومن قرأ عليهمي فإنه كسر الهاء لوقوع الياء قبلها ساكنة وكسر الميم كراهة للخروج من كسرة الهاء إِلى ضمة الميم ثم انقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ومن كَسَر الهاء وضم الميم وحذف الواو فإنه احتمل الضمة بعد الكسرة لأنها غير لازمة إِذا كانت ألف التثنية تفتحها لكنه حذف الواو تفاديا من ثقلها مع ثقل الضمة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ومن قرأ عليهم فإِنه حذف الواو استخفافاً واحتمل الضمة قبلها دليلاً عليها وأما من ضم الميم إذا لقيها ساكن وكسر الهاء فإِنما يحتج بأن يقول لما احتجت إِلى الحركة رددت الحرف إِلى أصله فضممت وتركت الهاء على كسرها لأنه لم تأت ضرورة تحوج إِلى ردها إِلى الأصل ولأن الهاء إِنما تبعت الياء لأنها شبّهت بها ولم يتبعها الميم لبعدها منه. واحتج من كسر الميم والهاء بأن قال: اتبعت الكسر الكسر لثقل الضم بعد الكسر. قال سيبويه: الهاء تكسر إِذا كان قبلها ياء أو كسرة لأنها خفيفة وهي من حروف الزيادة كما أن الياء من حروف الزيادة وهي من موضع الألف وهي أشبه الحروف بالياء وكما أمالوا الألف في مواضع استخفافاً كذلك كسروا هذه الهاء وقلبوا الواو ياء لأنه لا تثبت واو ساكنة وقبلها كسرة كقولك: مررت بهي ومررت بدار هي قبل. الإعراب: { صراط الذين } صفة لقولـه: { الصراط المستقيم } ويجوز أن يكون بدلاً عنه الفضل بين الصفة والبدل أن البدل في تقدير تكرير العامل بدلالة تكرير حرف الجر في قولـه تعالى:**{ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ }** [الأعراف: 75] وليس كذلك الصفة فكما أعيدت اللام الجارة في الاسم فكذلك العامل الرافع أو الناصب في تقدير التكرير فكأنه قال اهدنا صراط الذين وليس يخرج البدل وإِن كان كذلك عن أن يكون فيه تبيين للأول كما أن الصفة كذلك ولهذا لم يجز سيبويه المسكين بي كان الأمر ولا بك المسكين كما أجاز ذلك في الغائب نحو مررت به المسكين والذين موصول وأنعمت عليهم: صلة وقد تم بها اسماً مفرداً يكون في موضع جر بإضافة صراط إِليه ولا يقال في موضع الرفع اللذون لأنه اسم غير متمكن وقد حكي اللذون شاذاً كما حكي الشياطون في حال الرفع وأما غير المغضوب عليهم ففي الجر فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون بدلاً من الهاء والميم في عليهم كقول الشاعر:
| **عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ في القَوْمِ حاتماً** | | **عَلَى جُودِهِ لَضنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ** |
| --- | --- | --- |
فجر حاتم على البدل من الهاء في جوده وثانيها: أن يكون بدلاً من الذين وثالثها: أن يكون صفة للذين وإن كان أصل غير أن يكون صفة للنكرة. تقول: مررت برجل غيرك كأنك قلت مررت برجل آخر أو برجل ليس بك. قال الزجاج: وإِنما جاز ذلك لأن الذين ههنا ليس بمقصود قصدهم فهو بمنزلة قولك إني لأمُرُّ بالرجل مثلك فأكرمه. وقال علي بن عيسى الرماني: إِنما جاز أن يكون نعتاً للذين لأن الذين بصلتها ليست بالمعرفة الموقتة كالأعلام نحو زيد وعمرو وإنما هي كالنكرات إِذا عرِّفت نحو الرجل والفرس فلما كانت الذين كذلك كانت صفتها كذلك أيضاً كما يقال لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل ولو كانت بمنزلة الأعلام لما جاز كما لم يجز مررت بزيد غير الظريف بالجر على الصفة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقال أبو بكر السراج والذي عندي أن غير في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة لأن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة وإنما تنكرت غير ومثل مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما وذلك أنك إذا قلت رأيت غيرك فكل شيء ترى سوى المخاطب فهو غيره وكذلك إذا قلت: رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى فأما إِذا كان شيئاً معرفة له ضد واحد وأردت اثباته ونفي ضده فعلم ذلك السامع فوصفته بغير وأضفت غير إلى ضده فهو معرفة وذلك نحو قولك: عليك بالحركة غير السكون فغير السكون معرفة وهي الحركة فكأنك كررت الحركة تأكيداً فكذلك قولـه تعالى: { الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم } [الفاتحة: 7] فغير المغضوب هم الذين أنعم الله عليهم فمتى كانت غير بهذه الصفة فهي معرفة وكذلك إِذا عرف إِنسان بأنه مثلك في ضرب من الضروب فقيل فيه قد جاء مثلك كان معرفة إذا أردت المعروف بشبهك. قال ومن جعل غير بدلاً استغنى عن هذا الاحتجاج لأن النكرة قد تبدل من المعرفة وفي نصب غير ثلاثة أوجه أيضاً: أحدها أن يكون نصباً على الحال من المضمر في عليهم والعامل في الحال أنعمت فكأنه قال: صراط الذين أنعمت عليهم لا مغضوباً عليهم. وثانيها أن يكون نصباً على الاستثناء المنقطع لأن المغضوب عليهم من غير جنس المنعم عليهم. وثالثها أن يكون نصباً على أعني كأنّه قال أعني غير المغضوب عليهم ولم يجز أن يقال غير المغضوبين عليهم لأن الضمير قد جمع في عليهم فاستغنى عن أن يجمع المغضوب وهذا حكم كل ما تعدى بحرف جر تقول رأيت القوم غير المذهوب بهم استغنيت بالضمير المجرور في بهم عن جمع المذهوب وأما لا من قولـه: { ولا الضالين } فذهب البصريون إِلى أنها زائدة لتوكيد النفي وذهب الكوفيون إِلى أنها بمعنى غير ووجه قول البصريين أنك إِذا قلت ما قام زيد وعمرو احتمل أن تريد ما قاما معاً ولكن قام كل واحد منهما بانفراده فإذا قلت ما قام زيد ولا عمرو زال الاحتمال غير متضمن معنى النفي ولهذا أجاز النحويون أنت زيداً غير ضارب لأنه بمنزلة قولك أنت زيداً لا ضارب ولا يجوّزون أنت زيداً مثل ضارب لأن زيداً من صلة ضارب ولا يتقدم عليه وقال علي بن عيسى الرماني من نصب على الاستثناء جعل لا صلة كما أنشد أبو عبيدة:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| **في بِئْرِ لا حُورٍ سرَى وَمَا شَعَرْ** | | |
| --- | --- | --- |
أي في بئر هلكة وتقديره غير المغضوب عليهم والضالين كما قال ما منعك أن لا تسجد بمعنى أن تسجد. المعنى واللغة: معنى الآية بيان الصراط المستقيم أي: صراط من أنعمت عليهم بطاعتك وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قولـه:**{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ }** [النساء: 69] وأصل النعمة المبالغة والزيادة يقال دققت الدواء فأنعمت دقه أي بالغت في دقه وهذه النعمة وإن لم تكن مذكورة في اللفظ فالكلام يدل عليها لأنه لما قال اهدنا الصراط المستقيم وقد بينا المراد بذلك بيّن أن هذا صراط من أنعم عليهم به ولم يحتج إلى إعادة اللفظ كما قال النابغة:
| **كَأنَّكَ مِن جِمالِ بَني أُقَيْشٍ** | | **يُقَعْقَعُ خَلْفَ رَجْلَيْهِ بِشَنٍّ** |
| --- | --- | --- |
أي كأنك من جمالهم جمل يقعقع خلف رجليه وأراد بالمغضوب عليهم اليهود عند جميع المفسرين الخاص والعام ويدل عليه قولـه تعالى:**{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ }** [المائدة: 60] وهؤلاء هم اليهود بدلالة قولـه تعالى:**{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }** [البقرة: 65] وأراد بالضالين النصارى بدلالة قولـه تعالى:**{ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** [المائدة: 77] وقال الحسن البصري: إن الله تعالى لم يبرئ اليهود من الضلالة بإِضافة الضلالة إِلى النصارى ولم يبرء النصارى من الغضب بإِضافة الغضب إلى اليهود بل كل واحدة من الطائفتين مغضوب عليهم وهم ضالون إلا أن الله تعالى يخص كل فريق بسمة يعرف بها ويميز بينه وبين غيره بها وإِن كانوا مشتركين في صفات كثيرة وقيل المراد بالمغضوب عليهم والضالين جميع الكفار وإِنما ذكروا بالصفتين لاختلاف الفائدتين. واختار الإمام عبد القاهر الجرجاني قولاً آخر قال: إن حق اللفظ فيه أن يكون خرج مخرج الجنس كما تقول نعوذ بالله أن يكون حالنا حال المغضوب عليهم فإنك لا تقصد به قوماً بأعيانهم ولكنك تريد ما تريده بقولك إِذا قلت اللهم اجعلني ممن أنعمت عليهم ولا تجعلني ممن غضبت عليهم فلا تريد أن ههنا قوماً بأعيانهم قد اختصوا بهذه الصفة التي هي كونهم منعماً عليهم وليس يخفى على من عرف الكلام أن العقلاء يقولون اجعلني ممن تديم له النعمة وهم يريدون أن يقولوا أدم عليَّ النعمة ولا يشك عاقل إِذا نظر لقول عنترة:
| **وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّيْ غَيْرَهُ** | | **مِنِّي بِمنزِلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ** |
| --- | --- | --- |
إِنه لم يرد أن يشبهها بإِنسان هو محب مكرم عنده أو عند غيره ولكنه أراد أن يقول إنك محبة مكرمة عندي وأما الغضب من الله تعالى فهو إِرادته انزال العقاب المستحق بهم ولعنهم وبراءته منهم وأصل الغضب الشدة ومنه الغضبة وهي الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل والغضوب الحية الخبيثة والناقة العبوس وأصل الضلال الهلاك ومنه قولـه إذا ضللنا في الأرض أي هلكنا ومنه قولـه:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ }** [محمد: 8] أي أهلكها والضلال في الدين الذهاب عن الحق وإِنما لا يقال الذين أنعمت عليهم غير الذين غضبت عليهم مراعاة للأدب في الخطاب واختياراً لحسن اللفظ المستطاب وفي تفسير العياشي رحمه الله روى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن قولـه تعالى:**{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ }** [الحجر: 87] قال فاتحة الكتاب يثني فيها القول قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إن الله تعالى منَّ عليَّ بفاتحة الكتاب من كنز الجنة فيها بسم الله الرحمن الرحيم الآية التي يقول الله فيها: { وإِذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً } [الأسراء: 46] "** و { الحمد لله رب العالمين } دعوى أهل الجنة حين شكروا لله حسن الثواب ومالك يوم الدين قال جبرائيل عليه السلام ما قالها مسلم إلا صدّقه الله تعالى وأهل سمائه إِياك نعبد إخلاص للعبادة وإِياك نستعين أفضل ما طلب به العباد حوائجهم اهدنا الصراط المستقيم صراط الأنبياء وهم الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم اليهود ولا الضالين النصارى. وروى محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه كان يقرأ مَلك يوم الدين ويقرأ اهدنا صراط المستقيم وفي رواية أخرى يعني أمير المؤمنين ع وروى جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا كنت خلف إمام ففرغ من قراءة الفاتحة فقل أنت من خلفه الحمد لله رب العالمين. وروى فضيل بن يسار عنه عليه السلام قال: إِذا قرأت الفاتحة ففرغت من قراءتها فقل الحمد لله رب العالمين. النظم: وأما نظم هذه السورة فأقول فيه: إن العاقل المميز إذا عرف نعم الله سبحانه بالمشاهدة وكان له من نفسه بذلك أعدل شاهد وأصدق رائد ابتدأ بآية التسمية استفتاحاً باسم المنعم واعترافاً بآلهيته واسترواحاً إلى ذكر فضله ورحمته ولما اعترف بالمنعم الفرد اشتغل بالشكر له والحمد فقال الحمد لله ولمَّا رأى نعم الله تعالى على غيره واضحة كما شاهد آثارها على نفسه لائحة عرف أنه رب الخلائق أجمعين فقال رب العالمين ولما رأى شمول فضله للمربوبين وعموم رزقه للمرزوقين قال الرحمن لما رأى تقصيرهم في واجب شكره وتعذيرهم في الانزجار عند زجره واجتناب نهيه وامتثال أمره وأنه تعالى يتجاوز عنهم بالغفران ولا يؤاخذهم عاجلاً بالعصيان ولا يسلبهم نعمه بالكفران قال الرحيم ولما رأى ما بين العباد من التباغي والتظالم والتكالم والتلاكم وأن ليس بعضهم من شر بعض بسالم على أن وراءهم يوماً ينتصف فيه للمظلوم من الظالم فقال: مالك يوم الدين وإذا عرف هذه الجملة فقد علم أن له خالقاً رازقاً رحيماً يحيي ويميت ويبدئ ويعيد وهو الحيّ لا يشبهه شيء والإله الذي لا يستحق العبادة سواه ولما صار الموصوف بهذا الوصف كالمدرك له بالعيان المشاهد بالبرهان تحول عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب فقال: إياك نعبد وهذا كما أن الإنسان يصف الملك بصفاته فإِذا رآه عدل عن الوصف إلى الخطاب ولما رأى اعتراض الأهواء والشبهات وتعاور الآراء المختلفات ولم يجد معيناً غير الله تعالى سأله الإعانة على الطاعات بجميع الأسباب لها والوصلات فقال وإياك نستعين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ولما عرف هذه الجملة وتبين له أنه بلغ من معرفة الحق المدى واستقام على منهج الهدى ولم يأمن العثرة لارتفاع العصمة سأل الله تعالى التوفيق للدوام عليه والثبات والعصمة من الزلات فقال اهدنا الصراط المستقيم وهذا لفظ جامع يشتمل على مسألة معرفة الأحكام والتوفيق لاقامة شرائع الاسلام والاقتداء بمن أوجب الله طاعته من أئمة الأنام واجتناب المحارم والآثام وإِذا علم ذلك علم أن لله سبحانه عباداً خصَّهم بنعمته واصطفاهم على بريّته وجعلهم حججاً على خليقته فسأله أن يلحقه بهم ويسلك به سبيلهم وأن يعصمه عن مثل أحوال الزالين المزلين والضالين المضلين ممن عاند الحق وعمي عن طريق الرشد وخالف سبيل القصد فغضب الله عليه ولعنه وأعد له الخزي المقيم والعذاب الأليم أو شك في واضح الدليل فضلَّ عن سواء السبيل فقال صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) | الفصل الثاني في تقرير مشرع آخر يدل على أنه يمكن استنباط المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة ولنتكلم في قولنا: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ } فنقول: أعوذ نوع من أنواع الفعل المضارع، والفعل المضارع نوع من أنواع الفعل، وأما الباء في قوله «بالله» فهي باء الإلصاق، وهي نوع من أنواع حروف الجر، وحروف الجر نوع من أنواع الحروف. وأما قولنا «الله» فهو اسم معين: إما من أسماء الأعلام، أو من الأسماء المشتقة، على اختلاف القولين فيه، والاسم العلم والاسم المشتق كل واحد منهما نوع من أنواع مطلق الاسم، وقد ثبت في العلوم العقلية، أن معرفة النوع ممتنع حصولها إلا بعد معرفة الجنس، لأن الجنس جزء من ماهية النوع، والعلم بالبسيط مقدم على العلم بالمركب لا محالة، فقولنا: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ } لا يمكن تحصيل العلم به كما ينبغي إلا بعد معرفة الاسم والفعل والحرف أولاً، وهذه المعرفة لا تحصل إلا بعد ذكر حدودها وخواصها، ثم بعد الفراغ منه لا بدّ من تقسيم الاسم إلى الاسم العلم، وإلى الاسم المشتق، وإلى اسم الجنس، وتعريف كل واحد من هذه الأقسام بحده ورسمه وخواصه، ثم بعد الفراغ منه يجب الكلام في أن لفظة { ٱللَّهِ } اسم علم، أو اسم مشتق، وبتقدير أن يكون مشتقاً فهو مشتق من ماذا؟ ويذكر فيه الوجوه الكثيرة التي قيل بكل واحد منها، وأيضاً يجب البحث عن حقيقة الفعل المطلق، ثم يذكر بعده أقسام الفعل، ومن جملتها الفعل المضارع، ويذكر حده وخواصه وأقسامه، ثم يذكر بعده المباحث المتعلقة بقولنا «أعوذ» على التخصيص، وأيضاً يجب البحث عن حقيقة الحرف المطلق، ثم يذكر بعده حرف الجر وحده وخواصه وأحكامه ثم يذكر بعده باء الإلصاق وحده وخواصه، وعند الوقوف على تمام هذه المباحث يحصل الوقوف على تمام المباحث اللفظية المتعلقة بقوله: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ } ومن المعلوم أن المباحث التي أشرنا إلى معاقدها كثيرة جداً. ثم نقول: والمرتبة الرابعة من المراتب أن نقول: الاسم والفعل والحرف أنواع ثلاثة داخلة تحت جنس الكلمة، فيجب البحث أيضاً عن ماهية الكلمة وحدها وخواصها، وأيضاً فههنا ألفاظ أخرى شبيهة بالكلمة، وهي: الكلام، والقول، واللفظ، واللغة، والعبارة، فيجب البحث عن كل واحد منها، ثم يجب البحث عن كونها من الألفاظ المترادفة، أو من الألفاظ المتباينة، وبتقدير أن تكون ألفاظاً متباينة فإنه يجب ذكر تلك الفروق على التفصيل والتحصيل. ثم نقول: والمرتبة الخامسة من البحث أن نقول: لا شك أن هذه الكلمات إنما تحصل من الأصوات والحروف، فعند ذلك يجب البحث عن حقيقة الصوت، وعن أسباب وجوده ولا شك أن حدوث الصوت في الحيوان إنما كان بسبب خروج النفس من الصدر، فعندها يجب البحث عن حقيقة النفس، وأنه ما الحكمة في كون الإنسان متنفساً على سبيل الضرورة وأن هذا الصوت يحصل بسبب استدخال النفس أو بسبب إخراجه، وعند هذا تحتاج هذه المباحث إلى معرفة أحوال القلب والرئة، ومعرفة الحجاب الذي هو المبدأ الأول لحركة الصوت ومعرفة سائر العضلات المحركة للبطن والحنجرة واللسان والشفتين، وأما الحرف فيجب البحث أنه هل هو نفس الصوت، أو هيئة موجودة في الصوت مغايرة له؟ وأيضاً لا شك أن هذه الحروف إنما تتولد عند تقطيع الصوت، وهي مخارج مخصوصة في الحلق واللسان والأسنان والشفتين، فيجب البحث عن أحوال تلك المحابس، ويجب أيضاً البحث عن أحوال العضلات التي باعتبارها تتمكن الحيوانات من إدخال الأنواع الكثيرة من الجنس في الوجود وهذه المباحث لا تتم دلالتها إلا عند الوقوف على علم التشريح.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ثم نقول: والمرتبة السادسة من البحث هي أن الحرف والصوت كيفيات محسوسة بحاسة السمع، وأما الألوان والأضواء فهي وأما قوله جل جلاله { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فما أجل هذه المقامات،وأعظم مراتب هذه الدرجات! ومن وقف على ما ذكرناه من البيانات أمكنه أن يطلع على مبادىء هذه الحالات،فقد ظهر بالبيان الذي سبق أن هذه السوره مشتملة على مباحث لا نهاية لها،وأسرار لاغاية لها، وأن قول من يقول هذه السورة مشتملة على عشرة آلاف مسألة،كلام خرج على ما يليق بأفهام السامعين. كيفيات محسوسة بحاسة البصر، والطعوم كيفيات محسوسة بحاسة الذوق، وكذا القول في سائر الكيفيات المحسوسة، فهل يصح أن يقال: هذه الكيفيات أنواع داخلة تحت جنس واحد وهي متباينة بتمام الماهية، وأنه لا مشاركة بينها إلا باللوازم الخارجية أم لا؟. ثم نقول: والمرتبة السابعة من البحث أن الكيفيات المحسوسة نوع واحد من أنواع جنس الكيف في المشهور، فيجب البحث عن تعريف مقولة الكيف، ثم يجب البحث أن وقوعه على ما تحته هل هو قول الجنس على الأنواع أم لا؟. ثم نقول: والمرتبة الثامنة أن مقولة الكيف، ومقولة الكم، ومقولة النسبة عرض، فيجب البحث عن مقولة العرض وأقسامه، وعن أحكامه ولوازمه وتوابعه. ثم نقول: والمرتبة التاسعة أن العرض والجوهر يشتركان في الدخول تحت الممكن والممكن والواجب مشتركان في الدخول تحت الموجود، فيجب البحث عن لواحق الوجود والعدم، وهي كيفية وقوع الموجود على الواجب والممكن أنه هل هو قول الجنس على أنواعه أو هو قول اللوازم على موصوفاتها وسائر المباحث المتعلقة بهذا الباب. ثم نقول: والمرتبة العاشرة أن نقول: لا شك أن المعلوم والمذكور والمخبر عنه يدخل فيها الموجود والمعدوم، فكيف يعقل حصول أمر أعم من الموجود؟ ومن الناس من يقول المظنون أعم من المعلوم، وأيضاً فهب أن أعم الاعتبارات هو المعلوم، ولا شك أن المعلوم مقابله غير المعلوم، لكن الشيء ما لم تعلم حقيقته امتنع الحكم عليه بكونه مقابلاً لغيره، فلما حكمنا على غير المعلوم بكونه مقابلاً للمعلوم، وجب أن يكون غير المعلوم معلوماً، فحينئذٍ يكون المقابل للمعلوم معلوماً، وذلك محال.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أن من اعتبر هذه المراتب العشرة في كل جزء من جزئيات الموجودات فقد انفتحت عليه أبواب مباحث لا نهاية لها، ولا يحيط عقله بأقل القليل منها، فظهر بهذا كيفية الاستنباط للعلوم الكثيرة من الألفاظ القليلة. الفصل الثالث في تقرير مشرع آخر لتصحيح ما ذكرناه من استنباط المسائل الكثيرة من هذه السورة اعلم أنا إذا ذكرنا مسألة واحدة في هذا الكتاب ودللنا على صحتها بوجوه عشرة فكل واحد من تلك الوجوه والدلائل مسألة بنفسها، ثم إذا حكينا فيها مثلاً شبهات خمسة فكل واحد منها أيضاً مسألة مستقلة بنفسها، ثم إذا أجبنا عن كل واحد منها بجوابين أو ثلاثة فتلك الأجوبة الثلاثة أيضاً مسائل ثلاثة، وإذا قلنا مثلاً: الألفاظ الواردة في كلام العرب جاءت على ستين وجهاً، وفصلنا تلك الوجوه، فهذا الكلام في الحقيقة ستون مسألة، وذلك لأن المسألة لا معنى لها إلا موضع السؤال والتقرير، فلما كان كل واحد من هذه الوجوه كذلك كان كل واحد منها مسألة على حدة، وإذا وقفت على هذه الدقيقة فنقول: إنا لو اعتبرنا المباحث المتعلقة بالاسم والفعل، ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بتقسيم الأفعال بالمعلوم والمذكور، والمباحث المتعلقة بالموجود والمعدوم، والمباحث المتعلقة بالواجب والممكن، والمباحث المتعلقة بالجوهر والعرض، والمباحث المتعلقة بمقولة الكيف وكيفية انقسامه إلى الكيفية المحسوسة وغير المحسوسة، والمباحث المتعلقة بالصوت وكيفية حدوثه وكيفية العضلات المحدثة للأصوات والحروف ـ عظم الخطب، واتسع الباب، ولكنا نبدأ في هذا الكتاب بالمباحث المتعلقة بالكلمة والكلام والقول واللفظ والعبارة، ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بالاسم والفعل والحرف، ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بتقسيمات الأسماء والأفعال والحروف حتى ننتهي إلى الأنواع الثلاثة الموجودة في قوله: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ } ونرجو من فضل الله العميم أن يوفقنا للوصول إلى هذا المطلوب الكريم. الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ } اعلم أن العلوم المستنبطة من هذه الكلمة نوعان: أحدهما: المباحث المتعلقة باللغة والإعراب والثاني: المباحث المتعلقة بعلم الأصول والفروع. القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، وفيه أبواب. الباب الأول في المباحث المتعلقة بالكلمة، وما يجري مجراها، وفيه مسائل المسألة الأولى: اعلم أن أكمل الطرق في تعريف مدلولات الألفاظ هو طريقة الاشتقاق، ثم إن الاشتقاق على نوعين: الاشتقاق الأصغر، والاشتقاق الأكبر، أما الاشتقاق الأصغر فمثل اشتقاق صيغة الماضي والمستقبل من المصدر، ومثل اشتقاق اسم الفاعل واسم المفعول وغيرهما منه، وأما الاشتقاق الأكبر فهو أن الكلمة إذا كانت مركبة من الحروف كانت قابلة للانقلابات لا محالة، فنقول: أول مراتب هذا التركيب أن تكون الكلمة مركبة من حرفين ومثل هذه الكلمة لا تقبل إلا نوعين من التقليب، كقولنا: «من» وقلبه «نم» وبعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة مركبة من ثلاثة أحرف كقولنا: «حمد» وهذه الكلمة تقبل ستة أنواع من التقليبات، وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الثلاثة ابتداء لتلك الكلمة، وعلى كل واحد من التقديرات الثلاث فإنه يمكن وقوع الحرفين الباقيين على وجهين لكن ضرب الثلاثة في اثنين بستة فهذه التقليبات الواقعة في الكلمات الثلاثيات يمكن وقوعها على ستة أوجه، ثم بعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة رباعية كقولنا: «عقرب، وثعلب» وهي تقبل أربعة وعشرين وجهاً من التقليبات، وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الأربعة ابتداء لتلك الكلمة، وعلى كل واحد من تلك التقديرات الأربعة فإنه يمكن وقوع الحروف الثلاثة الباقية على ستة أنواع من التقليبات، وضرب أربعة في ستة يفيد أربعة وعشرين وجهاً، ثم بعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة خماسية كقولنا: «سفرجل» وهي تقبل مائة وعشرين نوعاً من التقليبات، وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الخمسة ابتداء لتلك الكلمة وعلى كل واحد من هذه التقديرات فإنه يمكن وقوع الحروف الأربعة الباقية على أربعة وعشرين وجهاً على ما سبق تقريره، وضرب خمسة في أربعة وعشرين بمائة وعشرين والضابط في الباب أنك إذا عرفت التقاليب الممكنة في العدد الأقل ثم أردت أن تعرف عدد التقاليب الممكنة في العدد الذي فوقه فاضرب العدد الفوقاني في العدد الحاصل من التقاليب الممكنة في العدد الفوقاني، والله أعلم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الثانية: اعلم أن اعتبار حال الاشتقاق الأصغر سهل معتاد مألوف، أما الاشتقاق الأكبر فرعايته صعبة، وكأنه لا يمكن رعايته إلا في الكلمات الثلاثية لأن تقاليبها لا تزيد على الستة، أما الرباعيات والخماسيات فإنها كثيرة جداً، وأكثر تلك التركيبات تكون مهملة فلا يمكن رعاية هذا النوع من الاشتقاق فيها إلا على سبيل الندرة. وأيضاً الكلمات الثلاثية قلما يوجد فيها ما يكون جميع تقاليبها الممكنة معتبرة. بل يكون في الأكثر بعضها مستعملاً وبعضها مهملاً، ومع ذلك فإن القدر الممكن منه هو الغاية القصوى في تحقيق الكلام في المباحث اللغوية. المسألة الثالثة: في تفسير الكلمة: اعلم أن تركيب الكاف واللام والميم بحسب تقاليبها الممكنة الستة تفيد القوة والشدة، خمسة منها معتبرة، وواحدة ضائع، فالأول: «ك ل م» فمنه الكلام، لأنه يقرع السمع ويؤثر فيه، وأيضاً يؤثر في الذهن بواسطة إفادة المعنى، ومنه الكلم للجرح، وفيه شدة، والكلام ما غلظ من الأرض، وذلك لشدته، الثاني: «ك م ل» لأن الكامل أقوى من الناقص، والثالث: «ل ك م» ومعنى الشدة في اللكم ظاهر، والرابع: «م ك ل» ومنه «بئر مكول» إذا قل مائها، وإذا كان كذلك كان ورودها مكروهاً فيحصل نوع شدة عند ورودها، الخامس: «م ل ك» يقال «ملكت العجين» إذا أمعنت عجنه فاشتد وقوى، ومنه «ملك الإنسان» لأنه نوع قدرة، و «أملكت الجارية» لأن بعلها يقدر عليها.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الرابعة: لفظ الكلمة قد يستعمل في اللفظة الواحدة ويراد بها الكلام الكثير الذي قد ارتبط بعضه ببعض كتسميتهم القصيدة بأسرها «كلمة»، ومنها يقال: «كلمة الشهادة»، ويقال: «الكلمة الطيبة صدقة»، ولما كان المجاز أولى من الاشتراك علمنا أن إطلاق لفظ الكلمة على المركب مجاز، وذلك لوجهين، الأول: أن المركب إنما يتركب من المفردات، فإطلاق لفظ الكلمة على الكلام المركب يكون إطلاقاً لاسم الجزء على الكل، والثاني: أن الكلام الكثير إذا ارتبط بعضه ببعض حصلت له وحدة فصار شبيهاً بالمفرد في تلك الوجوه، والمشابهة سبب من أسباب حسن المجاز، فأطلق لفظ الكلمة على الكلام الطويل لهذا السبب. المسألة الخامسة: لفظ الكلمة جاء في القرآن لمفهومين آخرين: أحدهما: يقال لعيسى كلمة الله، إما لأنه حدث بقوله: «كن» أو لأنه حدث في زمان قليل كما تحدث الكلمة كذلك، والثاني: أنه تعالى سمى أفعاله كلمات، كما قال تعالى في الآية الكريمة:**{ قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَـٰتِ رَبّى لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبّى }** [الكهف: 109] والسبب فيه الوجهان المذكوران فيما تقدم والله أعلم. المسألة السادسة في القول: هذا التركيب بحسب تقاليبه الستة يدل على الحركة والخفة، فالأول: «ق و ل» فمنه القول لأن ذلك أمر سهل على اللسان، الثاني: «ق ل و» ومنه القلو وهو حمار الوحش، وذلك لخفته في الحركة ومنه «قلوت البر والسويق» فهما مقلوان، لأن الشيء إذا قلي جف وخف فكان أسرع إلى الحركة، ومنه القلولي، وهو الخفيف الطائش، والثالث: «و ق ل» الوقل الوعل، وذلك لحركته، ويقال «توقل في الجبل» إذا صعد فيه، والرابع: «و ل ق» يقال: ولق يلق إذا أسرع، وقرىء**{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ }** [النور: 15] أي: تخفون وتسرعون، والخامس: «ل و ق» كما جاء في الحديث **" لا آكل الطعام إلا ما لوق لي "** أي: أعملت اليد في تحريكه وتليينه حتى يصلح، ومنه اللوقة وهي الزبدة قيل لها ذلك لخفتها وإسراع حركتها لأنه ليس بها مسكة الجبن والمصل، والسادس: «ل ق و» ومنه اللقوة وهي العقاب، قيل لها ذلك لخفتها وسرعة طيرانها، ومنه اللقوة في الوجه لأن الوجه اضطرب شكله فكأنه خفة فيه وطيش، واللقوة الناقة السريعة اللقاح. المسألة السابعة: قال ابن جني رحمه الله تعالى: اللغة فعلة من لغوت أي: تلكمت، وأصلها لغوة ككرة وقلة فإن لاماتها كلها واوات، بدليل قولهم كروت بالكرة وقاوت بالقلة، وقيل فيه لغى يلغى إذا هذا، ومنه قوله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً }** [الفرقان: 72] قلت: إن ابن جني قد اعتبر الاشتقاق الأكبر في الكلمة والقول ولم يعتبره ههنا، وهو حاصل فيه، فالأول: «ل غ و» ومنه اللغة ومنه أيضاً الكلام اللغو، والعمل اللغو، والثاني: «ل و غ» ويبحث عنه، والثالث: «غ ل و» ومنه يقال: لفلان غلو في كذا، ومنه الغلوة، والرابع: «غ و ل» ومنه قوله تعالى:**{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** [الصافات: 47] والخامس: «و غ ل» ومنه يقال: فلان أوغل في كذا والسادس: «و ل غ» ومنه يقال: ولغ الكلب في الإناء، ويشبه أن يكون القدر المشترك بين الكل هو الإمعان في الشيء والخوض التام فيه. المسألة الثامنة في اللفظ: وأقول: أظن أن إطلاق اللفظ على هذه الأصوات والحروف على سبيل المجاز، وذلك لأنها إنما تحدث عنه إخراج النفس من داخل الصدر إلى الخارج فالإنسان عند إخراج النفس من داخل الصدر إلى الخارج يحبسه في المحابس المعينة، ثم يزيل ذلك الحبس، فتتولد تلك الحروف في آخر زمان حبس النفس وأول زمان إطلاقه، والحاصل أن اللفظ هو: الرمي، وهذا المعنى حاصل في هذه الأصوات والحروف من وجهين: الأول: أن الإنسان يرمي ذلك النفس من داخل الصدر إلى خارجه ويلفظه، وذلك هو الإخراج، واللفظ سبب لحدوث هذه الكلمات، فأطلق اسم اللفظ على هذه الكلمات لهذا السبب، والثاني: أن تولد الحروف لما كان بسبب لفظ ذلك الهواء من الداخل إلى الخارج صار ذلك شبيهاً بما أن الإنسان يلفظ تلك الحروف ويرميها من الداخل إلى الخارج، والمشابهة إحدى أسباب المجاز. المسألة التاسعة، العبارة: وتركيبها من «ع ب ر» وهي في تقاليبها الستة تفيد العبور والانتقال، فالأول: «ع ب ر» ومنه العبارة لأن الإنسان لا يمكنه أن يتكلم بها إلا إذا انتقل من حرف إلى حرف آخر وأيضاً كأنه بسبب تلك العبارة ينتقل المعنى من ذهن نفسه إلى ذهن السامع، ومنه العبرة لأن تلك الدمعة تنتقل من داخل العين إلى الخارج، ومنه العبر لأن الإنسان ينتقل فيها من الشاهد إلى الغائب. ومنه المعبر لأن الإنسان ينتقل بواسطته من أحد طرفي البحر إلى الثاني، ومنه التعبير لأنه ينتقل مما يراه في النوم إلى المعاني الغائبة، والثاني: «ع ر ب» ومنه تسمية العرب بالعرب لكثرة انتقالاتهم بسبب رحلة الشتاء والصيف ومنه «فلان أعرب في كلامه» لأن اللفظ قبل الإعراب يكون مجهولاً فإذا دخله الإعراب انتقل إلى المعرفة والبيان، والثالث: «ب ر ع» ومنه «فلان برع في كذا» إذا تكامل وتزايد، الرابع: «ب ع ر» ومنه البعر لكونه منتقلاً من الداخل إلى الخارج، الخامس: «ر ع ب» ومنه يقال للخوف رعب لأن الإنسان ينتقل عند حدوثه من حال إلى حال أخرى، والسادس: «ر ب ع» ومنه الربع لأن الناس ينتقلون منها وإليها.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفرق بين الكلمة والكلام: المسألة العاشرة: قال أكثر النحوين: الكلمة غير الكلام، فالكلمة هي اللفظة المفردة، والكلام هو الجملة المفيدة، وقال أكثر الأصوليين إنه لا فرق بينهما، فكل واحد منهما يتناول المفرد والمركب، وابن جني وافق النحويين واستبعد قول المتكلمين، وما رأيت في كلامه حجة قوية في الفرق سوى أنه نقل عن سيبويه كلاماً مشعراً بأن لفظ الكلام مختص بالجملة المفيدة، وذكر كلمات أخرى إلا أنها في غاية الضعف، أما الأصوليون فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه، الأول: أن العقلاء قد اتفقوا على أن الكلام ما يضاد الخرس والسكوت، والتكلم بالكلمة الواحدة يضاد الخرس والسكوت، فكان كلاماً، الثاني: أن اشتقاق الكلمة من الكلم، وهو الجرح والتأثير، ومعلوم أن من سمع كلمة واحدة فإنه يفهم معناها، فههنا قد حصل معنى التأثير، فوجب أن يكون كلاماً، والثالث: يصح أن يقال: إن فلاناً تكلم بهذه الكلمة الواحدة، ويصح أن يقال أيضاً: أنه ما تكلم إلا بهذه الكلمة الواحدة، وكل ذلك يدل على أن الكلمة الواحدة كلام، وإلا لم يصح أن يقال تكلم بالكلمة الواحدة، الرابع: أنه يصح أن يقال تكلم فلان بكلام غير تام، وذلك يدل على أن حصول الإفادة التامة غير معتبر في اسم الكلام. مسألة فقهية في الطلاق: المسألة الحادية عشرة: تفرع على الاختلاف المذكور مسألة فقهية، وهي أولى مسائل أيمان «الجامع الكبير» لمحمد بن الحسن رحمه الله تعالى، وهي أن الرجل إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: إن كلمتك فأنت طالق ثلاث مرات، قالوا: إن ذكر هذا الكلام في المرة الثانية طلقت طلقة واحدة، وهل تنعقد هذه الثانية طلقة؟ قال أبو حنيفة وصاحباه: تنعقد، وقال زفر: لا تنعقد، وحجة زفر أنه لما قال في المرة الثانية إن كلمتك فعند هذا القدر من الكلام حصل الشرط، لأن اسم الكلام اسم لكل ما أفاد شيئاً، سواء أفاد فائدة تامة أو لم يكن كذلك وإذا حصل الشرط حصل الجزاء، وطلقت عند قوله إن كلمتك، فوقع تمام قوله: «أنت طالق» خارج تمام ملك النكاح، وغير مضاف إليه، فوجب أن لا تنعقد، وحجة أبي حنيفة أن الشرط ـ وهو قوله إن كلمتك ـ غير تام، والكلام اسم للجملة التامة، فلم يقع الطلاق إلا عند تمام قوله إن كلمتك فأنت طالق، وحاصل الكلام أنا إن قلنا إن اسم الكلام يتناول الكلمة الواحدة كان القول قول زفر، وإن قلنا إنه لا يتناول إلا الجملة فالقول قول أبي حنيفة ومما يقوي قول زفر أنه لو قال في المرة الثانية «إن كلمتك» وسكت عليه ولم يذكر بعده قوله: «فأنت طالق» طلقت، لولا أن هذا القدر كلام وإلا لما طلقت، ومما يقوي قول أبي حنيفة أنه لو قال: «كلما كلمتك فأنت طالق» ثم ذكر هذه الكلمة في المرة الثانية فكلمة «كلما» توجب التكرار فلو كان التكلم بالكلمة الواحدة كلاماً لوجب أن يقع عليه الطلقات الثلاث عند قوله في المرة الثانية: «كلما كلمتك» وسكت عليه ولم يذكر بعده قوله: «فأنت طالق» لأن هذا المجموع مشتمل على ذكر الكلمات الكثيرة، وكل واحد منها يوجب وقوع الطلاق وأقول: لعل زفر يلتزم ذلك.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الثانية عشرة: محل الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وزفر ينبغي أن يكون مخصوصاً بما إذا قال: «إن كلمتك فأنت طالق» أما لو قال: «إن تكلمت بكلمة فأنت طالق» أو قال: «إن نطقت» أو قال: «إن تلفظت بلفظة» أو قال: «إن قلت قولاً فأنت طالق» وجب أن يكون الحق في جميع هذه المسائل قول زفر قولاً واحداً، والله أعلم. هل يطلق الكلام على المهمل: المسألة الثالثة عشرة: لفظ الكلمة والكلام هل يتناول المهمل أم لا؟ منهم من قال يتناوله لأنه يصح أن يقال الكلام منه مهمل ومنه مستعمل، ولأنه يصح أن يقال تكلم بكلام غير مفهوم، ولأن ا لمهمل يؤثر في السمع فيكون معنى التأثير والكلام حاصلاً فيه، ومنهم من قال الكلمة والكلام مختصان بالمفيد، إذ لو لم يعتبر هذا القيد لزم تجويز تسمية أصوات الطيور بالكلمة والكلام. هل الأصوات الطبيعية تسمى كلاماً: المسألة الرابعة عشرة: إذا حصلت أصوات متركبة تركيبًا يدل على المعاني إلا أن ذلك التركيب كان تركيباً طبيعياً لا وضعياً فهل يسمى مثل تلك الأصوات كلمة وكلاماً؟ مثل أن الإنسان عند الراحة أو الوجع قد يقول أخ، وعند السعال قد يقول أح أح، فهذه أصوات مركبة، وحروف مؤلفة، وهي دالة على معانٍ مخصوصة، لكن دلالتها على مدلولاتها بالطبع لا بالوضع، فهل تسمى أمثالها كلمات؟ وكذلك صوت القطا يشبه كأنه يقول قطا، وصوت اللقلق يشبه كأنه يقول لق لق، فأمثال هذه الأصوات هل تسمى كلمات؟ اختلفوا فيه، وما رأيت في الجانبين حجة معتبرة، وفائدة هذا البحث تظهر فيما إذا قال: إن سمعت كلمة فعبدي حر، فهل يترتب الحنث والبر على سماع هذه الألفاظ أم لا؟. المسألة الخامسة عشرة: قال ابن جني: لفظ القول يقع على الكلام التام، وعلى الكلمة الواحدة، على سبيل الحقيقة، أما لفظ الكلام فمختص بالجملة التامة، ولفظ الكلمة مختص بالمفرد وحاصل كلامه في الفرق بين البابين أنا إذا بينا أن تركيب القول يدل على الخفة والسهولة وجب أن يتناول الكلمة الواحدة، أما تركيب الكلام فيفيد التأثير، وذلك لا يحصل إلا من الجملة التامة إلا أن هذا يشكل بلفظ الكلمة، ومما يقوي ذلك قول الشاعر: ـ
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| **قلت لها قفي فقالت قاف** | | |
| --- | --- | --- |
سمى نطقها بمجرد القاف قولاً. المسألة السادسة عشرة: قال أيضاً إن لفظ القول يصح جعله مجازاً عن الاعتقادات والآراء، كقولك: فلان يقول بقول أبي حنيفة، ويذهب إلى قول مالك، أي: يعتقد ما كانا يريانه ويقولان به، ألا ترى أنك لو سألت رجلاً عن صحة رؤية الله تعالى فقال: لا تجوز رؤيته، فتقول: هذا قول المعتزلة، ولا تقول هذا كلام المعتزلة إلا على سبيل التعسف، وذكر أن السبب في حسن هذا المجاز أن الاعتقاد لا يفهم إلا بغيره، فلما حصلت المشابهة من هذا الوجه لا جرم حصل سبب جعله مجازاً عنه. يستعمل القول في غير النطق: المسألة السابعة عشرة: لفظ قال قد يستعمل في غير النطق، قال أبو النجم: ـ
| **قالت له الطير تقدم راشدا** | | **إنك لا ترجع إلا حامدا** |
| --- | --- | --- |
وقال آخر: ـ
| **وقالت له العينان سمعاً وطاعة** | | **وحدرتا كالدر لما يثقب** |
| --- | --- | --- |
وقال: ـ
| **امتلأ الحوض وقال: قطني** | | **مهلاً رويداً قد ملأت بطني** |
| --- | --- | --- |
ويقال في المثل: قال الجدار للوتد لم تشقني، قال: سل من يدقني، فإن الذي ورايى ما خلاني ورايى، ومنه قوله تعالى:**{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }** [النحل: 40] وقوله تعالى:**{ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }** [فصلت: 11]. المسألة الثامنة عشرة: الذين ينكرون كلام النفس اتفقوا على أن الكلام والقول اسم لهذه الألفاظ والكلمات، أما مثبتو كلام النفس فقد اتفقوا على أن ذلك المعنى النفساني يسمى بالكلام وبالقول، واحتجوا عليه بالقرآن والأثر والشعر: أما القرآن فقوله تعالى:**{ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ }** [المنافقون: 1] وظاهر أنهم ما كانوا كاذبين في اللفظ لأنهم أخبروا أن محمداً رسول الله وكانوا صادقين فيه، فوجب أن يقال إنهم كانوا كاذبين في كلام آخر سوى اللفظ وما هو إلا كلام النفس، ولقائل أن يقول: لا نسلم أنهم ما كانوا كاذبين في القول اللساني، قوله: «أخبروا أن محمداً رسول الله» قلنا: لا نسلم بل أخبروا عن كونهم شاهدين بأن محمداً رسول الله، لأنهم كانوا قالوا:**{ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ }** [المنافقون: 1] والشهادة لا تحصل إلا مع العلم، وهم ما كانوا عالمين به، فثبت أنهم كانوا كاذبين، فيما أخبروا عنه بالقول اللساني، وأما الأثر فما نقل أن عمر قال يوم السقيفة: كنت قد زورت في نفسي كلاماً فسبقني إليه أبو بكر، وأما الشاعر فقول الأخطل: ـ
| **إن الكلام لفي الفؤاد وإنما** | | **جعل اللسان على الفؤاد دليلا** |
| --- | --- | --- |
وأما اللذين أنكروا كون المعنى القائم بالنفس يسمى بالكلام فقد احتجوا عليه بأن من لم ينطق ولم يتلفظ بالحروف يقال إنه لم يتكلم، وأيضاً الحنث والبر يتعلق بهذه الألفاظ، ومن أصحابنا من قال: اسم القول والكلام مشترك بين المعنى النفساني وبين اللفظ اللساني.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة التاسعة عشرة: هذه الكلمات والعبارات قد تسمى أحاديث، قال الله تعالى:**{ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ }** [الطور: 34] والسبب في هذه التسمية أن هذه الكلمات إنما تتركب من الحروف المتعاقبة المتوالية فكل واحد من تلك الحروف يحدث عقيب صاحبه، فلهذا السبب سميت بالحديث ويمكن أيضاً أن يكون السبب في هذه التسمية أن سماعها يحدث في القلوب العلوم والمعاني، والله أعلم. المسألة العشرون: ههنا ألفاظ كثيرة، فأحدها: الكلمة، وثانيها: الكلام، وثالثها: القول، ورابعها: اللفظ، وخامسها: العبارة، وسادسها: الحديث، وقد شرحناها بأسرها، وسابعها: النطق ويجب البحث عن كيفية اشتقاقه، وأنه هل هو مرادف لبعض تلك الألفاظ المذكورة أو مباين لها، وبتقدير حصول المباينة فما الفرق. المسألة الحادية والعشرون: في حد الكلمة، قال الزمخشري في أول «المفصل»: الكلمة هي اللفظة الدالة على معنى مفرد بالوضع. وهذا التعريف ليس بجيد، لأن صيغة الماضي كلمة مع أنها لا تدل على معنى مفرد بالوضع، فهذا التعريف غلط، لأنها دالة على أمرين: حدث وزمان وكذا القول في أسماء الأفعال، كقولنا: مه، وصه، وسبب الغلط أنه كان يجب عليه جعل المفرد صفة للفظ، فغلط وجعله صفة للمعنى. اللفظ مهمل ومستعمل وأقسامه: المسألة الثانية والعشرون: اللفظ إما أن يكون مهملاً، وهو معلوم، أو مستعملاً وهو على ثلاثة أقسام: أحدها: أن لا يدل شيء من أجزائه على شيء من المعاني ألبتة، وهذا هو اللفظ المفرد كقولنا فرس وجمل، وثانيها: أن لا يدل شيء من أجزائه على شيء أصلاً حين هو جزؤه أما باعتبار آخر فإنه يحصل لأجزائه دلالة على المعاني، كقولنا: «عبد الله» فإنا إذا اعتبرنا هذا المجموع اسم علم لم يحصل لشيء من أجزائه دلالة على شيء أصلاً، أما إذا جعلناه مضافاً ومضافاً إليه فإنه يحصل لكل واحد من جزأيه دلالة على شيء آخر، وهذا القسم نسميه بالمركب، وثالثها: أن يحصل لكل واحد من جزأيه دلالة على مدلول آخر على جميع الاعتبارات، وهو كقولنا: «العالم حادث، والسماء كرة، وزيد منطلق» وهذا نسميه بالمؤلف. المسموع المقيد وأقسامه: المسألة الثالثة والعشرون: المسموع المفيد ينقسم إلى أربعة أقسام: لأنه إما أن يكون اللفظ مؤلفاً والمعنى مؤلفاً كقولنا: «الإنسان حيوان، وغلام زيد» وإما أن يكون المسموع مفرداً والمعنى مفرداً، وهو كقولنا: «الوحدة» و «النقطة» بل قولنا: «الله» سبحانه وتعالى، وإما أن يكون اللفظ مفرداً والمعنى مؤلفاً وهو كقولك: «إنسان» فإن للفظ مفرد والمعنى ماهية مركبة من أمور كثيرة، وإما أن يكون اللفظ مركباً والمعنى مفرداً، وهو محال.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الرابعة والعشرون: الكلمة هي اللفظة المفردة الدالة بالاصطلاح على معنى، وهذا التعريف مركب من قيود أربعة: فالقيد الأول: كونه لفظاً، والثاني: كونه مفرداً، وقد عرفتهما، والثالث: كونه دالاً وهو احتراز عن المهملات، والرابع: كونه دالاً بالاصطلاح وسنقيم الدلالة على أن دلالات الألفاظ وضعية لا ذاتية. المسألة الخامسة والعشرون: قيل: الكلمة صوت مفرد دال على معنى بالوضع: قال أبو علي بن سينا في كتاب «الأوسط»: وهذا غير جائز لأن الصوت مادة واللفظ جنس، وذكر الجنس أولى من ذكر المادة، وله كلمات دقيقة في الفرق بين المادة والجنس، ومع دقتها فهي ضعيفة قد بينا وجه ضعفها في العقليات، وأقول: السبب عندي في أنه لا يجوز ذكر الصوت أن الصوت ينقسم إلى صوت الحيوان وإلى غيره، وصوت الإنسان ينقسم إلى ما يحدث من حلقه وإلى غيره، والصوت الحادث من الحلق ينقسم إلى ما يكون حدوثه مخصوصاً بأحوال مخصوصة مثل هذه الحروف، وإلى ما لا يكون كذلك مثل الأصوات الحادثة عند الأوجاع والراحات والسعال وغيرها، فالصوت جنس بعيد، واللفظ جنس قريب، وإيراد الجنس القريب أولى من الجنس البعيد. المسألة السادسة والعشرون: قالت المعتزلة: الشرط في كون الكلمة مفيدة أن تكون مركبة من حرفين فصاعداً، فنقضوه بقولهم: «ق» و «ع» وأجيب عنه بأنه مركب في التقدير فإن الأصل أن يقال: «قي» و «عي» بدليل أن عند التثنية يقال: «قيا» و «عيا» وأجيب عن هذا الجواب بأن ذلك مقدر، أما الواقع فحرف واحد، وأيضاً نقضوه بلام التعريف وبنون التنوين وبالإضافة فإنها بأسرها حروف مفيدة، والحرف نوع داخل تحت جنس الكلمة، ومتى صدق النوع فقد صدق الجنس، فهذه الحروف كلمات مع أنها غير مركبة. المسألة السابعة والعشرون: الأولى أن يقال: كل منطوق به أفاد شيئاً بالوضع فهو كلمة وعلى هذا التقدير يدخل فيه المفرد والمركب، وبقولنا: منطوق به، يقع الاحتراز عن الخط والإشارة. دلالة اللفظ على معناه غير ذاتية: المسألة الثامنة والعشرون: دلالة الألفاظ على مدلولاتها ليست ذاتية حقيقية، خلافاً لعباد. لنا أنها تتغير باختلاف الأمكنة والأزمنة، والذاتيات لا تكون كذلك، حجة عباد أنه لو لم تحصل مناسبات مخصوصة بين الألفاظ المعينة والمعاني المعينة وإلا لزم أن يكون تخصيص كل واحد منها بمسماه ترجيحاً للممكن من غير مرجح، وهو محال، وجوابنا أنه ينتقض باختصاص حدوث العالم بوقت معين دون ما قبله وما بعده، وإلا لم يرجح، ويشكل أيضاً باختصاص كل إنسان باسم علمه المعين. المسألة التاسعة والعشرون: وقد يتفق في بعض الألفاظ كونه مناسباً لمعناه مثل تسميتهم القطا بهذا الاسم، لأن هذا اللفظ يشبه صوته، وكذا القول في اللقلق، وأيضاً وضعوا لفظ «الخضم» لأكل الرطب نحو البطيخ والقثاء، ولفظ «القضم» لأكل اليابس نحو قضمت الدابة شعيرها، لأن حرف الخاء يشبه صوت أكل الشيء الرطب وحرف القاف يشبه صوت أكل الشيء اليابس، ولهذا الباب أمثلة كثيرة ذكرها ابن جني في «الخصائص».
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
اللغة إلهام: المسألة الثلاثون: لا يمكننا القطع بأن دلالة الألفاظ توقيفية، ومنهم من قطع به، واحتج فيه بالعقل والنقل: أما العقل فهو أن وضع الألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة لا يمكن إلا بالقول، فلو كان ذلك القول بوضع آخر من جانبهم لزم أن يكون كل وضع مسبوقاً بوضع آخر لا إلى نهاية، وهو محال، فوجب الانتهاء إلى ما حصل بتوقيف الله تعالى، وأما النقل فقوله تعالى:**{ وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَاء كُلَّهَا }** [البقرة: 31] وأجيب عن الأول بأنه لِمَ لا يجوز أن يكون وضع الألفاظ للمعاني يحصل بالإشارة؟ وعن الثاني لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من التعليم الإلهام؟ وأيضاً لعل هذه اللغات وضعها أقوام كانوا قبل آدم عليه السلام، ثم إنه تعالى علمها لآدم عليه السلام. المسألة الحادية والثلاثون: لا يمكن القطع بأنها حصلت بالاصطلاح، خلافاً للمعتزلة، واحتجوا بأن العلم بالصفة إذا كان ضرورياً كان العلم بالموصوف أيضاً ضرورياً، فلو خلق الله تعالى العلم في قلب العاقل بأنه وضع هذا اللفظ لهذا المعنى لزم أن يكون العلم بالله ضرورياً وذلك يقدح في صحة التكليف، وأجيب عنه بأنه لِمَ لا يجوز أن يقال: إنه تعالى يخلق علماً ضرورياً في القلب بأن واضعاً وضع هذا اللفظ لهذا المعنى من غير أن يخلق العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى؟ وعلى هذا التقدير فيزول الإشكال. المسألة الثانية والثلاثون: لما ضعفت هذه الدلائل جوزنا أن تكون كل اللغات توقيفية وأن تكون كلها اصطلاحية، وأن يكون بعضها توقيفياً وبعضها اصطلاحياً. المسألة الثالثة والثلاثون: اللفظ المفرد لا يفيد البتة مسماه لأنه ما لم يعلم كون تلك اللفظة موضوعة لذلك المعنى لم يفد شيئاً، لكن العلم بكونها موضوعة لذلك المعنى علم بنسبة مخصوصة بين ذلك اللفظ وذلك المعنى، والعلم بالنسبة المخصوصة بين أمرين مسبوق بكل واحد منهما فلو كان العلم بذلك المعنى مستفاداً من ذلك اللفظ لزم الدور. وهو محال، وأجيب عنه بأنه يحتمل أنه إذا استقر في الخيال مقارنة بين اللفظ المعين والمعنى المعين فعند حصول الشعور باللفظ ينتقل الخيال إلى المعنى، وحينئذٍ يندفع الدور. المسألة الرابعة والثلاثون: والإشكال المذكور في المفرد غير حاصل في المركب لأن إفادة الألفاظ المفردة لمعانيها إفادة وضعية، أما التركيبات فعقلية، فلا جرم عند سماع تلك المفردات يعتبر العقل تركيباتها ثم يتوصل بتلك التركيبات العقلية إلى العلم بتلك المركبات، فظهر الفرق. اللفظ يدل على المعنى الذهني لا الخارجي المسألة الخامسة والثلاثون: للألفاظ دلالات على ما في الأذهان لا على ما في الأعيان ولهذا السبب يقال: الألفاظ تدل على المعاني، لأن المعاني هي التي عناها العاني، وهي أمور ذهنية، والدليل على ما ذكرناه من وجهين: الأول: أنا إذا رأينا جسماً من البعد وظنناه صخرة قلنا إنه صخرة، فإذا قربنا منه وشاهدنا حركته وظنناه طيراً قلنا إنه طير، فإذا ازداد القرب علمنا أنه إنسان فقلنا إنه إنسان، فاختلاف الأسماء عند اختلاف التصورات الذهنية يدل على أن مدلول الألفاظ هو الصور الذهنية لا الأعيان الخارجة، الثاني: أن اللفظ لو دل على الموجود الخارجي لكان إذا قال إنسان العالم قديم وقال آخر العالم حادث لزم كون العالم قديماً حادثاً معاً، وهو محال، أما إذا قلنا إنها دالة على المعاني الذهنية كان هذان القولان دالين على حصول هذين الحكمين من هذين الإنسانين، وذلك لا يتناقض.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة السادسة والثلاثون: لا يمكن أن تكون جميع الماهيات مسميات بالألفاظ، لأن الماهيات غير متناهية، وما لا نهاية له لا يكون مشعوراً به على التفصيل، وما لا يكون مشعوراً به امتنع وضع الاسم بإزائه. المسألة السابعة والثلاثون: كل معنى كانت الحاجة إلى التعبير عنه أهم، كان وضع اللفظ بإزائه أولى، مثل صيغ الأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والدليل عليه أن الحاجة إلى التعبير عنها ماسة فيكون الداعي إلى ذلك الوضع كاملاً، والمانع زائلاً، وإذا كان الداعي قوياً والمانع زائلاً، كان الفعل به واجب الحصول. المسألة الثامنة والثلاثون: المعنى الذي يكون خفياً عند الجمهور يمتنع كونه مسمى باللفظ المشهور، مثاله لفظة الحركة لفظة مشهورة وكون الجسم منتقلاً من جانب إلى جانب أمر معلوم لكل أحد، أما الذي يقول به بعض المتكلمين ـ وهو المعنى الذي يوجب ذلك الانتقال ـ فهو أمر خفي لا يتصوره إلا الخواص من الناس، وإذا كان كذلك وجب أن يقال: الحركة اسم لنفس هذا الانتقال لا للمعنى الذي يوجب الانتقال وكذلك يجب أن يكون العلم اسماً لنفس العالمية، والقدرة اسماً للقادرية، لا للمعنى الموجب للعالمية والقادرية. المعنى اسم للصورة الذهنية: المسألة التاسعة والثلاثون في المعنى: المعنى اسم للصورة الذهنية لا للموجودات الخارجية لأن المعنى عبارة عن الشيء الذي عناه العاني وقصده القاصد، وذاك بالذات هو الأمور الذهنية، وبالعرض الأشياء الخارجية، فإذا قيل: أن القائل أراد بهذا اللفظ هذا المعنى، فالمراد أنه قصد بذكر ذلك اللفظ تعريف ذلك الأمر المتصور. المسألة الأربعون: قد يقال في بعض المعاني: إنه لا يمكن تعريفها بالألفاظ، مثل أنا ندرك بالضرورة تفرقة بين الحلاوة المدركة من النبات والحلاوة المدركة من الطبرزذ، فيقال: إنه لا سبيل إلى تعريف هذه التفرقة بحسب اللفظ، وأيضاً ربما اتفق حصول أحوال في نفس بعض الناس ولا يمكنه تعريف تلك الحالة بحسب التعريفات اللفظية، إذا عرفت هذا فنقول: أما القسم الأول: فالسبب فيه أن ما به يمتاز حلاوة النبات من حلاوة الطبرزذ ما وضعوا له في اللغة لفظة معينة، بل لا يمكن ذكرها إلا على سبيل الإضافة، مثل أن يقال حلاوة النبات وحلاوة الطبرزذ، فلما لم توضع لتلك التفرقة لفظة مخصوصة لا جرم لا يمكن تعريفها باللفظ، ولو أنهم وضعوا لها لفظة لقد كان يمكن تعريفها باللفظ على ذلك التقدير، وأما القسم الثاني: وهو أن الإنسان إذا أدرك من نفسه حالة مخصوصة وسائر الناس ما أدركوا تلك الحالة المخصوصة استحال لهذا المدرك وضع لفظ لتعريفه، لأن السامع ما لم يعرف المسمى أولاً لم يمكنه أن يفهم كون هذا اللفظ موضوعاً له، فلما لم يحصل تصور تلك المعاني عند السامعين امتنع منهم أن يتصوروا كون هذه الألفاظ موضوعة لها، فلا جرم امتنع تعريفها، أما لو فرضنا أن جماعة تصوروا تلك المعاني ثم وضعوا لها ألفاظاً مخصوصة فعلى هذا التقدير كان يمكن تعريف تلك الأحوال بالبيانات اللفظية ـ فهكذا يجب أن يتصور معنى ما يقال إن كثيراً من المعاني لا يمكن تعريفها بالألفاظ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحكمة في وضع الألفاظ للمعاني: المسألة الحادية والأربعون: في الحكمة في وضع الألفاظ للمعاني: وهي أن الإنسان خلق بحيث لا يستقل بتحصيل جميع مهماته فاحتاج إلى أن يعرف غيره ما في ضميره ليمكنه التوسل به إلى الاستعانة بالغير، ولا بدّ لذلك التعريف من طريق، والطرق كثيرة مثل الكتابة والإشارة والتصفيق باليد والحركة بسائر الأعضاء، إلا أن أسهلها وأحسنها هو تعريف ما في القلوب والضمائر بهذه الألفاظ، ويدل عليه وجوه: أحدها: أن النفس عند الإخراج سبب لحدوث الصوت، والأصوات عند تقطيعاتها أسباب لحدوث الحروف المختلفة، وهذه المعاني تحصل من غير كلفة ومعونة بخلاف الكتابة والإشارة وغيرهما، والثاني: أن هذه الأصوات كما توجد تفنى عقيبه في الحال، فعند الاحتياج إليه تحصل وعند زوال الحاجة تفنى وتنقضي، والثالث: أن الأصوات بحسب التقطيعات الكثيرة في مخارج الحروف تتولد منها الحروف الكثيرة، وتلك الحروف الكثيرة بحسب تركيباتها الكثيرة يتولد منها كلمات تكاد أن تصير غير متناهية، فإذا جعلنا لكل واحد من المعاني واحداً من تلك الكلمات توزعت الألفاظ على المعاني من غير التباس واشتباه، ومثل هذا لا يوجد في الإشارة والتصفيق، فلهذه الأسباب الثلاثة قضت العقول السليمة، بأن أحسن التعريفات لما في القلوب هو الألفاظ.لذاته معرفة الحق: المسألة الثانية والأربعون: كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وجوهر النفس في أصل الخلقة عار عن هذين الكمالين، ولا يمكنها اكتساب هذه الكمالات إلا بواسطة هذا البدن، فصار تخليق هذا البدن مطلوباً لهذه الحكمة، ثم إن مصالح هذا البدن ما كانت تتم إلا إذا كان القلب ينبوعًا للحرارة الغريزية، ولما كانت هذه الحرارة قوية احتاجت إلى الترويح لأجل التعديل، فدبر الخالق الرحيم الحكيم هذا المقصود بأن جعل للقلب قوة انبساط بها يجذب الهواء البارد من خارج البدن إلى نفسه، ثم إذا بقي ذلك الهواء في القلب لحظة تسخن واحتد وقويت حرارته، فاحتاج القلب إلى دفعه مرة أخرى، وذلك هو الانقباض فإن القلب إذا انقبض انعصر ما فيه من الهواء وخرج إلى الخارج، فهذا هو الحكمة في جعل الحيوان متنفساً، والمقصود بالقصد الأول هو تكميل جوهر النفس بالعلم والعمل، فوقع تخليق البدن في المرتبة الثانية من المطلوبية، ووقع تخليق القلب وجعله منبعاً للحرارة الغريزية في المرتبة الثالثة، ووقع إقدار القلب على الانبساط الموجب لانجذاب الهواء الطيب من الخارج لأجل الترويح في المرتبة الرابعة، ووقع إقدار القلب على الانقباض الموجب لخروج ذلك الهواء المحترق في المرتبة الخامسة، ووقع صرف ذلك الهواء الخارج عند انقباض القلب إلى مادة الصوت في المرتبة السادسة، ثم إن المقدر الحكيم والمدبر الرحيم جعل هذا الأمر المطلوب على سبيل الغرض الواقع في المرتبة السابعة مادة للصوت، وخلق محابس ومقاطع للصوت في الحلق واللسان والأسنان والشفتين، وحينئذٍ يحدث بذلك السبب هذه الحروف المختلفة، ويحدث من تركيباتها الكلمات التي لا نهاية لها، ثم أودع في هذا النطق والكلام حكماً عالية وأسراراً باهرة عجزت عقول الأولين والآخرين عن الإحاطة بقطرة من بحرها وشعلة من شمسها، فسبحان الخالق المدبر بالحكمة الباهرة والقدرة الغير متناهية.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الكلام اللساني: المسألة الثالثة والأربعون: ظهر بما قلناه أنه لا معنى للكلام اللساني إلا الاصطلاح من الناس على جعل هذه الأصوات المقطعة والحروف المركبة معرفات لما في الضمائر، ولو قدرنا أنهم كانوا قد تواضعوا على جعل أشياء غيرها معرفات لما في الضمائر لكانت تلك الأشياء كلاماً أيضاً، وإذا كان كذلك لم يكن الكلام صفة حقيقية مثل العلم والقدرة والإرادة، بل أمراً وضعياً اصطلاحياً، والتحقيق في هذا الباب: أن الكلام عبارة عن فعل مخصوص يفعله الحي القادر لأجل أن يعرف غيره ما في ضميره من الإرادات والاعتقادات، وعند هذا يظهر أن المراد من كون الإنسان متكلماً بهذه الحروف مجرد كونه فاعلاً لها لهذا الغرض المخصوص، وأما الكلام الذي هو صفة قائمة بالنفس فهي صفة حقيقية كالعلوم والقدر والإرادات. الكلام النفسي والذهني: المسألة الرابعة والأربعون: لما ثبت أن الألفاظ دلائل على ما في الضمائر والقلوب، والمدلول عليه بهذه الألفاظ هو الإرادات والاعتقادات أو نوع آخر، قالت المعتزلة: صيغة «إفعل» لفظة موضوعة لإرادة الفعل، وصيغة الخبر لفظة موضوعة لتعريف أن ذلك القائل يعتقد أن الأمر لفلاني كذا وكذا، وقال أصحابنا: الطلب النفساني مغاير للإرادة، والحكم الذهني أمر مغاير للاعتقاد، أما بيان أن الطلب النفساني مغاير للإرادة فالدليل عليه أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان، وهذا متفق عليه، ولكن لم يرد منه الإيمان، ولو أراده لوقع، ويدل عليه وجهان: الأول: أن قدرة الكافر إن كانت موجبة للكفر كان خالق تلك القدرة مريداً للكفر، لأن مريد العلة مريد للمعلول، وإن كانت صالحة للكفر والإيمان امتنع رجحان أحدهما على الآخر إلا بمرجح، وذلك المرجح إن كان من العبد عاد التقسيم الأول فيه، وإن كان من الله تعالى فحينئذٍ يكون مجموع القدرة مع الداعية موجباً للكفر، ومريد العلة مريد للمعلول، فثبت أنه تعالى مريد الكفر من الكافر، والثاني: أنه تعالى عالم بأن الكافر يكفر وحصول هذا العلم ضد لحصول الإيمان، والجمع بين الضدين محال، والعالم بكون الشيء ممتنع الوقوع لا يكون مريداً له، فثبت أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان، وثبت أنه لا يريد منه الإيمان فوجب أن يكون مدلول أمر الله تعالى فعل شيء آخر سوى الإرادة، وذلك هو المطلوب، وأما بيان أن الحكم الذهني مغاير للاعتقاد والعلم فالدليل عليه أن القائل إذا قال: العالم قديم فمدلول هذا االلفظ هو حكم هذا القائل بقدم العالم، وقد يقول القائل بلسانه هذا مع أنه يعتقد أن العالم ليس بقديم، فعلمنا أن الحكم الذهني حاصل، والاعتقاد غير حاصل، فالحكم الذهني مغاير للاعتقاد.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
مدلولات الألفاظ: المسألة الخامسة والأربعون: مدلولات الألفاظ قد تكون أشياء مغايرة للألفاظ: كلفظة السماء والأرض، وقد تكون مدلولاتها أيضاً ألفاظاً كقولنا: اسم، وفعل، وحرف، وعام، وخاص، ومجمل، ومبين، فإن هذه الألفاظ أسماء ومسمياتها أيضاً ألفاظ. طرق معرفة اللغة: المسألة السادسة والأربعون: طريق معرفة اللغات إما العقل وحده وهو محال، وإما النقل المتواتر أو الآحاد وهو صحيح، وإما ما يتركب عنهما: كما إذا قيل: ثبت بالنقل جواز إدخال الاستثناء على صيغة من، وثبت بالنقل أن حكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل فيه، فيلزم من مجموعهما بحكم العقل كون تلك الصيغة موضوعة للعموم، وعلى هذا الطريق تعويل الأكثرين في إثبات أكثر اللغات، وهو ضعيف، لأن هذا الاستدلال إنما يصح لو قلنا إن واضع تينك المقدمتين وجب أن يكون معترفاً بهذه الملازمة، وإلا لزم التناقض، لكن الواضع للغات لو ثبت أنه هو الله تعالى وجب تنزيهه عن المناقضة، أما لو كان هو الناس لم يجب ذلك ولما كان هذا الأصل مشكوكاً كان ذلك الدليل مثله. من اللغة ما بلغنا بالتواتر: المسألة السابعة والأربعون: اللغات المنقولة إلينا بعضها منقول بالتواتر، وبعضها منقول بالآحاد، وطعن بعضهم في كونها متواترة فقال: أشهر الألفاظ هو قولنا «الله»، وقد اختلفوا فيها فقيل: إنها ليست عربية بل هي عبرية، وقيل: إنها اسم علم، وقيل: إنها من الأسماء المشتقة، وذكروا في اشتقاقها وجوهاً عشرة، وبقي الأمر في هذه الاختلافات موقوفاً إلى الآن وأيضاً فلفظة الإيمان والكفر قد اختلفوا فيهما اختلافاً شديداً، وكذا صيغ الأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، مع أنها أشد الألفاظ شهرة، وإذا كان الحال كذلك في الأظهر الأقوى فما ظنك بما سواها؟ والحق أن ورود هذه الألفاظ في أصول هذه الموارد معلوم بالتواتر، فأما ماهياتها واعتباراتها فهي التي اختلفوا فيها، وذلك لا يقدح في حصول التواتر في الأصل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الثامنة والأربعون: منهم من سلم حصول التواتر في بعض هذه الألفاظ في هذا الوقت، إلا أنه زعم أن حال الأدوار الماضية غير معلوم، فلعل النقل ينتهي في بعض الأدوار الماضية إلى الآحاد، وليس لقائل أن يقول: لو وقع ذلك لاشتهر وبلغ إلى حد التواتر، لأن هذه المقدمة إن صحت فإنما تصح في الوقائع العظيمة. وأما التصرفات في الألفاظ فهي وقائع حقيرة، والحق أن العلم الضروري حاصل بأن لفظ السماء والأرض والجدار والدار كان حالها وحال أشباهها في الأزمنة الماضية كحالها في هذا الزمان. المسألة التاسعة والأربعون: لا شك أن أكثر اللغات منقول بالأحاد، ورواية الواحد إنما تفيد الظن عند اعتبار أحوال الرواة وتصفح أحوالهم بالجرح والتعديل، ثم إن الناس شرطوا هذه الشرائط في رواة الأحاديث، ولم يعتبروها في رواة اللغات، مع أن اللغات تجري مجرى الأصول للأحاديث، ومما يؤكد هذا السؤال أن الأدباء طعن بعضهم في بعض بالتجهيل تارة وبالتفسيق أخرى، والعداوة الحاصلة بين الكوفيين والبصريين مشهورة، ونسبة أكثر المحدثين أكثر الأدباء إلى ما لا ينبغي مشهورة، وإذا كان كذلك صارت رواياتهم غير مقبولة وبهذا الطريق تسقط أكثر اللغات عن درجات القبول، والحق أن أكثر اللغات قريب من التواتر، وبهذا الطريق يسقط هذا الطعن. دلالة الألفاظ على معانيها ظنية: المسألة الخمسون: دلالة الألفاظ على معانيها ظنية لأنها موقوفة على نقل اللغات، ونقل الإعرابات والتصريفات، مع أن أول أحوال تلك الناقلين أنهم كانوا آحاداً ورواية الآحاد لا تفيد إلا الظن، وأيضاً فتلك الدلائل موقوفة على عدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم النقل، وعدم الإجمال، وعدم التخصيص، وعدم المعارض العقلي، فإن بتقدير حصوله يجب صرف اللفظ إلى المجاز، ولا شك أن اعتقاد هذه المقدمات ظن محض، والموقوف على الظن أولى أن يكون ظناً، والله أعلم. الباب الثاني في المباحث المستبنطة من الصوت والحروف وأحكامها، وفيه مسائل كيفية حدوث الصوت: المسألة الأولى: ذكر الرئيس أبو علي بن سينا في تعريف الصوت أنه كيفية تحدث من تموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع، وأقول: إن ماهية الصوت مدركة بحس السمع وليس في الوجود شيء أظهر من المحسوس حتى يعرف المحسوس به، بل هذا الذي ذكره إن كان ولا بدّ فهو إشارة إلى سبب حدوثه، لا إلى تعريف ماهيته.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الصوت ليس بجسم: المسألة الثانية: يقال إن النظَّام المتكلم كان يزعم أن الصوت جسم، وأبطلوه بوجوه: منها أن الأجسام مشتركة في الجسمية وغير مشتركة في الصوت، ومنها أن الأجسام مبصرة وملموسة أولاً وثانياً وليس الصوت كذلك، ومنها أن الجسم باقٍ والصوت ليس كذلك، وأقول: النظام كان من أذكياء الناس ويبعد أن يكون مذهبه أن الصوت نفس الجسم، إلا أنه لما ذهب إلى أن سبب حدوث الصوت تموج الهواء ظن الجهال به أنه يقول أنه عين ذلك الهواء. المسألة الثالثة: قال بعضهم: الصوت اصطكاك الأجسام الصلبة، وهو باطل لأن الاصطكاك عبارة عن المماسة وهي مبصرة، والصوت ليس كذلك، وقيل: الصوت نفس القرع أو القلع، وقيل إنه تموج الحركة، وكل ذلك باطل لأن هذه الأحوال مبصرة، والصوت غير مبصر، والله أعلم. المسألة الرابعة: قيل سببه القريب تموج الهواء، ولا نعني بالتموج حركة انتقالية من مبدأ واحد بعينه إلى منتهى واحد بعينه، بل حالة شبيهة بتموج الهواء فإنه أمر يحدث شيئاً فشيئاً لصدم بعد صدم وسكون بعد سكون، وأما سبب التموج فإمساس عنيف، وهو القرع، أو تفريق عنيف، وهو القلع، ويرجع في تحقيق هذا إلى «كتبنا العقلية». حد الحرف: المسألة الخامسة: قال الشيخ الرئيس في حد الحرف: إنه هيئة عارضة للصوت يتميز بها عن صوت آخر مثله في الخفة والثقل تميزاً في المسموع. حروف المد واللين: المسألة السادسة: الحروف إما مصوتة، وهي التي تسمى في النحو حروف المد واللين، ولا يمكن الابتداء بها أو صامتة وهي ما عداها، أما المصوتة فلا شك أنها من الهيئات العارضة للصوت، وأما الصوامت فمنها ما لا يمكن تمديده كالباء والتاء والدال والطاء، وهي لا توجد إلا في «الآن» الذي هو آخر زمان حبس النفس وأول زمان إرساله، وهي بالنسبة إلى الصوت كالنقطة بالنسبة إلى الخط والآن بالنسبة إلى الزمان، وهذه الحروف ليست بأصوات ولا عوارض أصوات، وإنما هي أمور تحدث في مبدأ حدوث الأصوات، وتسميتها بالحروف حسنة لأن الحرف هو الطرف، وهذه الحروف أطراف الأصوات ومباديها، ومن الصوامت ما يمكن تمديدها بحسب الظاهر، ثم هذه على قسمين: منها ما الظن الغالب أنها آنية الوجود في نفس الأمر، وإن كانت زمانية بحسب الحس، مثل الحاء والخاء، فإن الظن أن هذه جاءت آنية متوالية كل واحد منها آتي الوجود في نفس الأمر، لكن الحس لا يشعر بامتياز بعضها عن بعض فيظنها حرفاً واحداً زمانياً، ومنها ما الظن الغالب كونها زمانية في الحقيقة كالسين والشين، فإنها هيئات عارضة للصوت مستمرة باستمراره. المسألة السابعة: الحرف لا بدّ وأن يكون إما ساكناً أو متحركاً، ولا نريد به حلول الحركة والسكون فيه، لأنهما من صفات الأجسام، بل المراد أنه يوجد عقيب الصامت بصوت مخصوص.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الثامنة: الحركات أبعاض المصوتات، والدليل عليه أن هذه المصوتات قابلة للزيادة والنقصان ولا طرف في جانب النقصان إلا هذه الحركات، ولأن هذه الحركات إذا مدت حدثت المصوتات وذلك يدل على قولنا. المسألة التاسعة: الصامت سابق على المصوت المقصور الذي يسمى بالحركة، بدليل أن التكلم بهذه الحركات موقوف على التكلم بالصامت، فلو كانت هذه الحركات سابقة على هذه الصوامت لزم الدور، وهو محال. الكلام حادث لا قديم: المسألة العاشرة: الكلام الذي هو متركب من الحروف والأصوات فإنه يمتنع في بديهة العقل كونه قديماً لوجهين: الأول: أن الكلمة لا تكون كلمة إلا إذا كانت حروفها متوالية فالسابق المنقضي محدث، لأن ما ثبت عدمه امتنع قدمه، والآتي الحادث بعد انقضاء الأول لا شك أنه حادث، والثاني: أن الحروف التي منها تألفت الكلمة إن حصلت دفعة واحدة لم تحصل الكلمة، لأن الكلمة الثلاثية يمكن وقوعها على التقاليب الستة فلو حصلت الحروف معاً لم يكن وقوعها على بعض تلك الوجوه أولى من وقوعها على سائرها، ولو حصلت على التعاقب كانت حادثة، واحتج القائلون بقدم الحروف بالعقل والنقل: أما العقل فهو أن لكل واحد من هذه الحروف ماهية مخصوصة باعتبارها تمتاز عما سواها، والماهيات لا تقبل الزوال ولا العدم، فكانت قديمة، وأما النقل فهو أن كلام الله قديم، وكلام الله ليس إلا هذه الحروف، فوجب القول بقدم هذه الحروف، أما أن كلام الله قديم فلأن الكلام صفة كمال وعدمه صفة نقص، فلو لم يكن كلام الله قديماً لزم أن يقال إنه تعالى كان في الأزل ناقصاً ثم صار فيما لا يزال كاملاً، وذلك بإجماع المسلمين باطل، وإنما قلنا إن كلام الله تعالى ليس إلا هذه الحروف لوجوه: أحدها: قوله تعالى:**{ وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ }** [التوبة: 6] ومعلوم أن المسموع ليس إلا هذه الحروف، فدل هذا على أن هذه الحروف كلام الله، وثانيها: أن من حلف على سماع كلام الله تعالى فإنه يتعلق البر والحنث بسماع هذه الحروف، وثالثها: أنه نقل بالتواتر إلينا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: **" إن هذا القرآن المسموع المتلو هو كلام الله "** فمنكره منكر لما عرف بالتواتر من دين محمد عليه الصلاة والسلام فيلزمه الكفر. والجواب عن الأول أن ما ذكرتم غير مختص بماهية دون ماهي، فيلزمكم قدم الكل، وعن الثاني أن ما ذكرتم من الاستدلال خفي في مقابلة البديهيات فيكون باطلاً. وصف كلام الله تعالى بالقدم: المسألة الحادية عشرة: إذا قلنا لهذه الحروف المتوالية والأصوات المتعاقبة إنها كلام الله تعالى كان المراد أنها ألفاظ دالة على الصفة القائمة بذات الله تعالى فأطلق اسم الكلام عليها على سبيل المجاز، وأما حديث الحنث والبر فذلك لأن مبنى الأَيمان على العرف، وإذا قلنا: كلام الله قديم، لم نعن به إلا تلك الصفة القديمة التي هي مدلول هذه الألفاظ والعبارات.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وإذا قلنا: كلام الله معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم، عنينا به هذه الحروف وهذه الأصوات التي هي حادثة، فإن القديم كان موجوداً قبل محمد عليه الصلاة والسلام فكيف يكون معجزة له؟ وإذا قلنا: كلام الله سور وآيات، عنينا به هذه الحروف، وإذا قلنا: كلام الله فصيح، عنينا به هذه الألفاظ، وإذا شرعنا في تفسير كلام الله تعالى عنينا به أيضاً هذه الألفاظ. الأصوات التي نقرأ بها ليست كلام الله: المسألة الثانية عشرة: زعمت الحشوية أن هذه الأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان عين كلام الله تعالى، وهذا باطل، لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الحروف والأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان صفة قائمة بلسانه وأصواته، فلو قلنا بأنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى وحالة في بدن هذا الإنسان، وهذا معلوم الفساد بالضرورة، وأيضاً فهذا عين ما يقوله النصارى من أن أقنوم الكلمة حلت في ناسوت صريح، وزعموا أنها حالة في ناسوت عيسى عليه السلام، ومع ذلك فهي صفة لله تعالى، وغير زائلة عنه، وهذا عين ما يقوله الحشوية من أن كلام الله تعالى حال في لسان هذا الإنسان مع أنه غير زائل عن ذات الله تعالى، ولا فرق بين القولين، إلا أن النصارى قالوا: بهذا القول في حق عيسى وحده، وهؤلاء الحمقى قالوا بهذا القول الخبيث في حق كل الناس من المشرق إلى المغرب. المسألة الثالثة عشرة: قالت الكرامية: الكلام اسم للقدرة على القول، بدليل أن القادر على النطق يقال إنه متكلم، وإن لم يكن في الحال مشتغلاً بالقول، وأيضاً فضد الكلام هو الخرس، لكن الخرس عبارة عن العجز عن القول، فوجب أن يكون الكلام عبارة عن القدرة على القول، وإذا ثبت هذا فهم يقولون: إن كلام الله تعالى قديم، بمعنى أن قدرته على القول قديمة، أما القول فإنه حادث، هذا تفصيل قولهم وقد أبطلناه. خلاف الحشوية والأشعرية في صفة القرآن: المسألة الرابعة عشرة: قالت الحشوية للأشعرية: إن كان مرادكم من قولكم: «إن القرآن قديم» هو أن هذا القرآن دال على صفة قديمة متعلقة بجميع المأمورات والمحرمات وجب أن يكون كل كتاب صنف في الدنيا قديماً، لأن ذلك الكتاب له مدلول ومفهوم، وكلام الله سبحانه وتعالى لما كان عام التعلق بجميع المتعلقات كان خبراً عن مدلولات ذلك الكتاب فعلى هذا التقدير لا فرق بين القرآن وبين سائر كتب الفحش والهجو في كونه قديماً بهذا التفسير، وإن كان المراد من كونه قديماً وجهاً آخر سوى ذلك فلا بدّ من بيانه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والجواب أنا لا نلتزم كون كلامه تعالى متعلقاً بجميع المخبرات، وعلى هذا التقدير فيسقط هذا السؤال. واعلم أنا لا نقول: إن كلامه لا يتعلق بجميع المخبرات لكونها كذباً، والكذب في كلام الله محال، لأنه تعالى لما أخبر أن أقواماً أخبروا عن تلك الأكاذيب والفحشيات فهذا لا يكون كذباً، وإنما يمنع منه لأمر يرجع إلى تنزيه الله تعالى عن النقائص، والأخبار عن هذه الفحشيات والسخفيات يجري مجرى النقص، وهو على الله محال. واعلم أن مباحث الحرف والصوت وتشريح العضلات الفاعلات للحروف وذكر الإشكالات المذكورة في قدم القرآن أمور صعبة دقيقة، فالأولى الاكتفاء بما ذكرناه، والله أعلم بالصواب. الباب الثالث في المباحث المتعلقة بالاسم والفعل والحرف، وفيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن تقسيم الكلمة إلى هذه الأنواع الثلاثة يمكن إيراده من وجهين: الأول: أن الكلمة إما أن يصح الأخبار عنها وبها، وهي الاسم، وإما أن لا يصح الأخبار عنها، لكن يصح الأخبار بها، وهي الفعل، وإما أن لا يصح الأخبار عنها ولا بها، وهو الحرف واعلم أن هذا التقسيم مبني على أن الحرف والفعل لا يصح الأخبار عنهما، وعلى أن الاسم يصح الأخبار عنه، فلنذكر البحثين في مسألتين. الكلمة اسم وفعل وحرف: المسألة الثانية: اتفق النحويون على أن الفعل والحرف لا يصح الأخبار عنهما، قالوا: لأنه لا يجوز أن يقال: ضرب قتل، ولقائل أن يقول المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم العام، وأيضاً فإنه لا يصح أن يقال: جدار سماء، ولم يدل ذلك على أن الاسم لا يصح الأخبار عنه وبه، لأجل أن المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم العام، فكذا ههنا، ثم قيل، الذي يدل على صحة الأخبار عن الفعل والحرف وجوه: الأول: أنا إذا أخبرنا عن «ضرب يضرب أضرب» بأنها أفعال فالمخبر عنه في هذا الخبر إما أن يكون اسماً أو فعلاً أو حرفاً، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذباً، وليس كذلك، وإن كان الثاني كان الفعل من حيث أنه فعل مخبراً عنه، فإن قالوا: المخبر عنه بهذا الخبر هو هذه الصيغ، وهي أسماء قلنا: هذا السؤال ركيك، لأنه على هذا التقدير يكون المخبر عنه بأنه فعل اسماً، فرجع حاصل هذا السؤال إلى القسم الأول من القسمين المذكورين في أول هذا الإشكال، وقد أبطلناه، الثاني: إذا أخبرنا عن الفعل والحرف بأنه ليس باسم فالتقدير عين ما تقدم، الثالث: أن قولنا: «الفعل لا يخبر عنه» إخبار عنه بأنه لا يخبر عنه، وذلك متناقض، فإن قالوا: المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه هو هذا اللفظ، فنقول: قد أجبنا على هذا السؤال، فإنا نقول: المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه إن كان اسماً فهو باطل لأن كل اسم مخبر عنه، وأقل درجاته أن يخبر عنه بأنه اسم، وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الرابع: الفعل من حيث هو فعل والحرف من حيث هو حرف ماهية معلومة متميزة عما عداها، وكل ما كان كذلك صح الأخبار عنه بكونه ممتازاً عن غيره، فإذا أخبرنا عن الفعل من حيث هو فعل بأنه ماهية ممتازة عن الاسم فقد أخبرنا عنه بهذا الامتياز، الخامس: الفعل إما أن يكون عبارة عن الصيغة الدالة على المعنى المخصوص، وإما أن يكون عبارة عن ذلك المعنى المخصوص الذي هو مدلول لهذه الصيغة، فإن كان الأول فقد أخبرنا عنه بكونه دليلاً على المعنى، وإن كان الثاني فقد أخبرنا عنه بكونه مدلولاً لتلك الصيغة، فهذه سؤالات صعبة في هذا المقام. المسألة الثالثة: طعن قوم في قولهم: «الاسم ما يصح الأخبار عنه» بأن قالوا: لفظة «أين وكيف وإذا» أسماء مع أنه لا يصح الأخبار عنها، وأجاب عبد القاهر النحوي عنه بأنا إذا قلنا: «الاسم ما جاز الأخبار عنه» أردنا به ما جاز الأخبار عن معناه، ويصح الأخبار عن معنى إذا لأنك إذا قلت: آتيك إذا طلعت الشمس، كان المعنى آتيك وقت طلوع الشمس، والوقت يصح الأخبار عنه، بدليل أنك تقول: طاب الوقت، وأقول هذا العذر ضعيف، لأن «إذا» ليس معناه الوقت فقط، بل معناه الوقت حال ما تجعله ظرفاً لشيء آخر، والوقت حال ما جعل ظرفاً لحادث آخر فإنه لا يمكن الأخبار عنه ألبتة، فإن قالوا لما كان أحد أجزاء ماهيته إسماً وجب كونه اسماً، فنقول: هذا باطل، لأنه إن كفى هذا القدر في كونه اسماً وجب أن يكون الفعل اسماً، لأن الفعل أحد أجزاء ماهيته المصدر، وهو اسم، ولما كان هذا باطلاً فكذا ما قالوه. المسألة الرابعة: في تقرير النوع الثاني من تقسيم الكلمة أن تقول: الكلمة إما أن يكون معناها مستقلاً بالمعلومية أو لا يكون، والثاني: هو الحرف، أما الأول: فإما أن يدل ذلك اللفظ على الزمان المعين لمعناه، وهو الفعل، أو لا يدل وهو الاسم، وفي هذا القسم سؤالات نذكرها في حد الاسم والفعل. تعريف الاسم: المسألة الخامسة في تعريف الاسم: الناس ذكروا فيه وجوهاً، التعريف الأول: أن الاسم هو الذي يصح الأخبار عن معناه، واعلم أن صحة الأخبار عن ماهية الشيء حكم يحصل له بعد تمام ماهيته فيكون هذا التعريف من باب الرسوم لا من باب الحدود، والأشكال عليه من وجهين: الأول: أن الفعل والحرف يصح الأخبار عنهما، والثاني: أن «إذا وكيف وأين» لا يصح الأخبار عنها وقد سبق تقرير هذين السؤالين. التعريف الثاني: أن الاسم هو الذي يصح أن يأتي فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً، واعلم أن حاصله يرجع إلى أن الاسم هو الذي يصح الأخبار عنه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والتعريف الثالث: أن الاسم كلمة تستحق الإعراب في أول الوضع، وهذا أيضاً رسم، لأن صحة الإعراب حالة طارئة على الاسم بعد تمام الماهية، وقولنا في أول الوضع احتراز عن شيئين: أحدهما: المبنيات، فإنها لا تقبل الإعراب بسبب مناسبة بينها وبين الحروف، ولولا هذه المناسبة لقبلت الإعراب، والثاني: أن المضارع معرب لكن لا لذاته بل بسبب كونه مشابهاً للاسم، وهذا التعريف أيضاً ضعيف. التعريف الرابع: قال الزمخشري في «المفصل»: الاسم ما دل على معنى في نفسه دلالة مجردة عن الاقتران. واعلم أن هذا التعريف مختل من وجوه: الأول: أنه قال في تعريف الكلمة أنها اللفظ الدال على معنى مفرد بالوضع، ثم ذكر فيما كتب من حواشي «المفصل» أنه إنما وجب ذكر اللفظ لأنا لو قلنا: «الكلمة هي الدالة على المعنى» لانتقض بالعقد والخط والإشارة كذلك، مع أنها ليست أسماء. والثاني: أن الضمير في قوله: «في نفسه» إما أن يكون عائداً إلى الدال، أو إلى المدلول، أو إلى شيء ثالث، فإن عاد إلى الدال صار التقدير الاسم ما دل على معنى حصل في الاسم، فيصير المعنى الاسم ما دل على معنى هو مدلوله، وهذا عبث، ثم مع ذلك فينتقض بالحرف والفعل، فإنه لفظ يدل على مدلوله، وإن عاد إلى المدلول صار التقدير الاسم ما دل على معنى حاصل في نفس ذلك المعنى، وذلك يقتضي كون الشيء حاصلاً في نفسه، وهو محال، فإن قالوا معنى كونه حاصلاً في نفسه أنه ليس حاصلاً في غيره، فنقول: فعلى هذا التفسير ينتقض الحد بأسماء الصفات والنسب، فإن تلك المسميات حاصلة في غيرها. التعريف الخامس: أن يقال: الاسم كلمة دالة على معنى مستقل بالمعلومية من غير أن يدل على الزمان المعين الذي وقع فيه ذلك المعنى، وإنما ذكرنا الكلمة ليخرج الخط والعقد والإشارة فإن قالوا: لم لم يقولوا لفظة دالة على كذا وكذا؟ قلنا: لأنا جعلنا اللفظ جنساً للكلمة، والكلمة جنس للاسم، والمذكور في الحد هو الجنس القريب لا البعيد، وأما شرط الاستقلال بالمعلومية فقيل: إنه باطل طرداً وعكساً، أما الطرد فمن وجوه. الأول: أن كل ما كان معلوماً فإنه لا بدّ وأن يكون مستقلاً بالمعلومية لأن الشيء ما لم تتصور ماهيته امتنع أن يتصور مع غيره، وإذا كان تصوره في نفسه متقدماً على تصوره مع غيره كان مستقلاً بالمعلومية، الثاني: أن مفهوم الحرف يستقل بأن يعلم كونه غير مستقل بالمعلومية، وذلك استقلال. الثالث: أن النحويين اتفقوا على أن «الباء» تفيد الإلصاق، و «من» تفيد التبعيض، فمعنى الإلصاق إن كان مستقلاً بالمعلومية وجب أن يكون المفهوم من الباء مستقلاً بالمعلومية فيصير الحرف اسماً، وإن كان غير مستقل بالمعلومية كان المفهوم من الإلصاق غير مستقبل بالمعلومية، فيصير الاسم حرفاً، وأما العكس فهو أن قولنا:«كم وكيف ومتى وإذا» وما الاستفهامية والشرطية كلها أسامٍ مع أن مفهوماتها غير مستقلة، وكذلك الموصولات.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثالث: أن قولنا: «من غير دلالة على زمان ذلك المعنى» يشكل بلفظ الزمان وبالغد وباليوم والاصطباح وبالاغتباق، والجواب عن السؤال الأول: أنا ندرك تفرقة بين قولنا الإلصاق وبين حرف الباء في قولنا: «كتبت بالقلم» فنريد بالاستقلال هذا القدر. فأما لفظ الزمان واليوم والغد فجوابه أن مسمى هذه الألفاظ نفس الزمان، ولا دلالة منها على زمان آخر لمسماه. وأما الاصطباح والاغتباق فجزؤه الزمان، والفعل هو الذي يدل على زمان خارج عن المسمى، والذي يدل على ما تقدم قولهم: اغتبق يغتبق، فأدخلوا الماضي والمستقبل على الاصطباح والاغتباق. علامات الاسم: المسألة السادسة: علامات الاسم إما أن تكون لفظية أو معنوية، فاللفظية إما أن تحصل في أول الاسم، وهو حرف تعريف، أو حرف جر، أو في حشوه كياء التصغير، وحرف التكسير، أو في آخره كحرفي التثنية والجمع. وأما المعنوية فهي كونه موصوفاً، وصفة، وفاعلاً، ومفعولاً، ومضافاً إليه، ومخبراً عنه، ومستحقاً للإعراب بأصل الوضع. تعريفات الفعل: المسألة السابعة: ذكروا للفعل تعريفات: التعريف الأول: قال سيبويه إنها أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وينتقض بلفظ الفاعل والمفعول. التعريف الثاني: أنه الذي أسند إلى شيء ولا يستند إليه شيء وينتقض بإذا وكيف، فإن هذه الأسماء يجب إسنادها إلى شيء آخر، ويمتنع استناد شيء آخر إليها. التعريف الثالث: قال الزمخشري: الفعل ما دل على اقتران حدث بزمان، وهو ضعيف لوجهين: الأول: أنه يجب أن يقال: «كلمة دالة على اقتران حدث بزمان» وإنما يجب ذكر الكلمة لوجوه: أحدها: أنا لو لم نقل بذلك لانتقض بقولنا اقتران حدث بزمان فإن مجموع هذه الألفاظ دال على اقتران حدث بزمان مع أن هذا المجموع ليس بفعل، أما إذا قيدناه بالكلمة اندفع هذا السؤال، لأن مجموع هذه الألفاظ ليس كلمة واحدة. وثانيها: أنا لو لم نذكر ذلك لانتقض بالخط والعقد والإشارة، وثالثها: أن الكلمة لما كانت كالجنس القريب لهذه الثلاثة فالجنس القريب واجب الذكر في الحد. الوجه الثاني ما نذكره بعد ذلك. التعريف الرابع: الفعل كلمة دالة على ثبوت المصدر لشيء غير معين في زمان معين، وإنما قلنا كلمة لأنها هي الجنس القريب، وإنما قلنا دالة على ثبوت المصدر ولم نقل دالة على ثبوت شيء لأن المصدر قد يكون أمراً ثابتاً كقولنا ضرب وقتل وقد يكون عدمياً مثل فني وعدم فإن مصدرهما الفناء والعدم، وإنما قلنا بشيء غير معين لأنا سنقيم الدليل على أن هذا المقدار معتبر، وإنما قلنا في زمان معين احترازاً عن الأسماء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أن في هذه القيود مباحثات: القيد الأول: هو قولنا: «يدل على ثبوت المصدر لشيء» فيه إشكالات: الأول: أنا إذا قلنا خلق الله العالم فقولنا خلق إما أن يدل على ثبوت الخلق لله سبحانه وتعالى أو لا يدل، فإن لم يدل بطل ذلك القيد، وإن دل فذلك الخلق يجب أن يكون مغايراً للمخلوق، وهو إن كان محدثاً افتقر إلى خلق آخر ولزم التسلسل، وإن كان قديماً لزم قدم المخلوق. والثاني: إنا إذا قلنا وجد الشيء فهل دل ذلك على حصول الوجود لشيء أو لم يدل؟ فإن لم يدل بطل هذا القيد، وإن دل لزم أن يكون الوجود حاصلاً لشيء غيره، وذلك الغير يجب أن يكون حاصلاً في نفسه لأن ما لا حصول له في نفسه امتنع حصول غيره له، فيلزم أن يكون حصول الوجود له مسبوقاً بحصول آخر إلى غير النهاية، وهو محال. والثالث: إذا قلنا عدم الشيء وفني فهذا يقتضي حصول العدم وحصول الفناء لتلك الماهية، وذلك محال، لأن العدم والفناء نفي محض فكيف يعقل حصولهما لغيرهما والرابع: إن على تقدير أن يكون الوجود زائداً على الماهية فإنه يصدق قولنا: «إنه حصل الوجود لهذه الماهية» فيلزم حصول وجود آخر لذلك الوجود إلى غير نهاية، وهو محال، وأما على تقدير أن يكون الوجود نفس الماهية فإن قولنا: حدث الشيء وحصل فإنه لا يقتضي حصول وجود لذلك الشيء، وإلا لزم أن يكون الوجود زائداً على الماهية، ونحن الآن إنما نتكلم على تقدير أن الوجود نفس الماهية. وأما القيد الثاني: وهو قولنا: «في زمان معين» ففيه سؤالات أحدها: أنا إذا قلنا: «وجد الزمان» أو قلنا: «فني الزمان» فهذا يقتضي حصول الزمان في زمان آخر، ولزم التسلسل، فإن قالوا: يكفي في صحة هذا الحد كون الزمان واقعاً في زمان آخر بحسب الوهم الكاذب، قلنا: الناس أجمعوا على أن قولنا حدث الزمان وحصل بعد أن كان معدوماً كلام حق ليس فيه باطل ولا كذب، ولو كان الأمر كما قلتم لزم كونه باطلاً وكذباً، وثانيها: أنا إذا قلنا: كان العالم معدوماً في الأزل، فقولنا: كان فعل فلو أشعر ذلك بحصول الزمان لزم حصول الزمان في الأزل، وهو محال، فإن قالوا: ذلك الزمان مقدر لا محقق، قلنا التقدير الذهني إن طابق الخارج عاد السؤال، وإن لم يطابق كان كذباً، ولزم فساد الحد، وثالثها: أنا إذا قلنا: كان الله موجوداً في الأزل، فهذا يقتضي كون الله زمانياً، وهو محال، ورابعها: أنه ينتقض بالأفعال الناقصة، فإن كان الناقصة إما أن تدل على وقوع حدث في زمان أو لا تدل: فإن دلت كان تاماً لا ناقصاً، لأنه متى دل اللفظ على حصول حدث في زمان معين كان هذا كلاماً تاماً لا ناقصاً، وإن لم يدل وجب أن لا يكون فعلاً، وخامسها: أنه يبطل بأسماء الأفعال، فإنها تدل على ألفاظ دالة على الزمان المعين، والدال على الدال على الشيء دال على ذلك الشيء فهذه الأسماء دالة على الزمان المعين، وسادسها: أن اسم الفاعل يتناول إما الحال وإما الاستقبال ولا يتناول الماضي ألبتة، فهو دال على الزمان المعين، والجواب أما السؤالات الأربعة المذكورة على قولنا: «الفعل يدل على ثبوت المصدر لشيء» والثلاثة المذكورة على قولنا «الفعل يدل على الزمان» فجوابها أن اللغوي يكفي في علمه تصور المفهوم، سواء كان حقاً أو باطلاً، وأما قوله: «يشكل هذا الحد بالأفعال الناقصة» قلنا: الذي أقول به وأذهب إليه أن لفظة كان تامة مطلقاً، إلا أن الاسم الذي يسند إليه لفظ كان قد يكون ماهية مفردة مستقلة بنفسها مثل قولنا: كان الشيء، بمعنى حدث وحصل، وقد تكون تلك الماهية عبارة عن موصوفية شيء لشيء آخر مثل قولنا: كان زيد منطلقاً، فإن معناه حدوث موصوفية زيد بالانطلاق فلفظ كان ههنا معناه أيضاً الحدوث والوقوع، إلا أن هذه الماهية لما كانت من باب النسب، والنسبة يمتنع ذكرها إلا بعد ذكر المنتسبين، لا جرم وجب ذكرهما ههنا، فكما أن قولنا: كان زيد، معناه أنه حصل ووجد، فكذا قولنا: كان زيد منطلقاً، معناه أنه حصلت موصوفية زيد بالانطلاق وهذا بحث عميق عجيب دقيق غفل الأولون عنه، وقوله: «خامساً: يبطل ما ذكرتم بأسماء الأفعال» قلنا المعتبر في كون اللفظ فعلاً دلالته على الزمان ابتداء لا بواسطة، وقوله: «سادساً: اسم الفاعل مختص بالحال والاستقبال» قلنا: لا نسلم، بدليل أنهم قالوا: إذا كان بمعنى الماضي لم يعمل عمل الفعل، وإذا كان بمعنى الحال فإنه يعمل عمل الفعل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الثامنة: الكلمة إما أن يكون معناها مستقلاً بالمعلومية، أو لا يكون، وهذا الأخير هو الحرف، فامتياز الحرف عن الاسم والفعل بقيد عدمي، ثم نقول: والمستقل بالمعلومية إما أن يدل على الزمان المعين لذلك المسمى، أو لا يدل، والذي لا يدل هو الاسم، فامتاز الاسم عن الفعل بقيد عدمي، وأما الفعل فإن ماهيته متركبة من القيود الوجودية. هل يدل الفعل على الفاعل المبهم: المسألة التاسعة: إذا قلنا: ضرب، فهو يدل على صدور الضرب عن شيء ما إلا أن ذلك الشيء غير مذكور على التعيين، بحسب هذا اللفظ، فإن قالوا: هذا محال، ويدل عليه وجهان: الأول: أنه لو كان كذلك لكانت صيغة الفعل وحدها محتملة للتصديق والتكذيب، الثاني: أنها لو دلت على استناد الضرب إلى شيء مبهم في نفس الأمر وجب أن يمتنع إسناده إلى شيء معين، وإلا لزم التناقض، ولو دلت على استناد الضرب إلى شيء معين فهو باطل، لأنا نعلم بالضرورة أن مجرد قولنا ضرب ما وضع لاستناد الضرب إلى زيد بعينه أو عمرو بعينه، والجواب عن هذين السؤالين بجواب واحد، وهو أن ضرب صيغة غير موضوعة لإسناد الضرب إلى شيء مبهم في نفس الأمر، بل وضعت لإسناده إلى شيء معين يذكره ذلك القائل فقبل أن يذكره القائل لا يكون الكلام تاماً ولا محتملاً للتصديق والتكذيب، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة العاشرة: قالوا الحرف ما جاء لمعنى في غيره، وهذه لفظ مبهم، لأنهم إن أرادوا معنى الحرف أن الحرف ما دل على معنى يكون المعنى حاصلاً في غيره وحالاً في غيره لزمهم أن تكون أسماء الأعراض والصفات كلها حروفاً، وإن أرادوا به أنه الذي دل على معنى يكون مدلول ذلك اللفظ غير ذلك المعنى فهذا ظاهر الفساد، وإن أرادوا به معنى ثالثاً فلا بد من بيانه. المسألة الحادية عشرة: التركيبات الممكنة من هذه الثلاثة ستة: الاسم مع الاسم، وهو الجملة الحاصلة من المبتدأ والخبر، والاسم مع الفعل، وهو الجملة الحاصلة من الفعل والفاعل وهاتان الجملتان مفيدتان بالاتفاق، وأما الثالث ـ وهو الاسم مع الحرف ـ فقيل: إنه يفيد في صورتين. الصورة الأولى: قولك: «يا زيد» فقيل: ذلك إنما أفاد لأن قولنا يا زيد في تقدير أنادي واحتجوا على صحة قولهم بوجهين: الأول: أن لفظ يا تدخله الأمالة ودخول الأمالة لا يكون إلا في الاسم أو الفعل، والثاني: أن لام الجر تتعلق بها فيقال: «يالزيد» فإن هذه اللام لام الاستغاثة وهي حرف جر، ولو لم يكن قولنا يا قائمة مقام الفعل وإلا لما جاز أن يتعلق بها حرف الجر، لأن الحرف لا يدخل على الحرف، ومنهم من أنكر أن يكون يا بمعنى أنادي واحتج عليه بوجوه: الأول: إن قوله أنادي إخبار عن النداء، والأخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه، فوجب أن يكون قولنا أنادي زيداً مغايراً لقولنا يا زيد، الثاني: أن قولنا أنادي زيداً كلام محتمل للتصديق والتكذيب وقولنا يا زيد لا يحتملها، الثالث: أن قولنا يا زيد ليس خطاباً إلا مع المنادى، وقولنا أنادي زيداً غير مختص بالمنادى. الرابع: أن قولنا يا زيد يدل على حصول النداء في الحال، وقولنا أنادي زيداً لا يدل على اختصاصه بالحال، الخامس: أنه يصح أن يقال أنادي زيداً قائماً، ولا يصح أن يقال يا زيد قائماً، فدلت هذه الوجوه الخمسة على حصول التفرقة بين هذين اللفظين. الصورة الثانية: قولنا: «زيد في الدار» فقولنا زيد مبتدأ والخبر هو ما دل عليه قولنا في إلا أن المفهوم من معنى الظرفية قد يكون في الدار أو في المسجد، فأضيفت هذه الظرفية إلى الدار لتتميز هذه الظرفية عن سائر أنواعها، فإن قالوا: هذا الكلام إنما أفاد لأن التقدير زيد استقر في الدار وزيد مستقر في الدار، فنقول: هذا باطل، لأن قولنا استقر معناه حصل في الاستقرار فكان قولنا فيه يفيد حصولاً آخر وهو أنه حصل فيه حصول ذلك الاستقرار وذلك يفضي إلى التسلسل وهو محال، ثبت أن قولنا زيد في الدار كلام تام ولا يمكن تعليقه بفعل مقدر مضمر.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الثانية عشرة: الجملة المركبة إما أن تكون مركبة تركيباً أولياً أو ثانوياً، أما المركبة تركيباً أولياً فهي الجملة الإسمية أو الفعلية، والأشبه أن الجملة الإسمية أقدم في الرتبة من الجملة الفعلية لأن الاسم بسيط والفعل مركب، والبسيط مقدم على المركب، فالجملة الإسمية يجب أن تكون أقدم من الجملة الفعلية، ويمكن أن يقال: بل الفعلية أقدم لأن الاسم غير أصيل في أن يسند إلى غيره، فكانت الجملة الفعلية أقدم من الجملة الإسمية، وأما المركبة تركيباً ثانوياً فهي الجملة الشرطية كقولك: «إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود» لأن قولك: «الشمس طالعة» جملة وقولك: «النهار موجود» جملة أخرى، ثم أدخلت حرف الشرط في إحدى الجملتين، وحرف الجزاء في الجملة الأخرى، فحصل من مجموعهما جملة واحدة، والله سبحانه وتعالى أعلم. الباب الرابع في تقسيمات الاسم إلى أنواعه، وهي من وجوه: أنواع الاسم: التقسيم الأول: إما أن يكون نفس تصور معناه مانعاً من الشركة، أو لا يكون، فإن كان الأول، فإما أن يكون مظهراً، وهو العلم، وإما أن يكون مضمراً، وهو معلوم، وأما إذا لم يكن مانعاً من الشركة فالمفهوم منه: إما أن يكون ماهية معينة، وهو أسماء الأجناس، وإما أن يكون مفهومه أنه شيء ما موصوف بالصفة الفلانية، وهو المشتق، كقولنا أسود، فإن مفهومه أنه شيء ماله سواد. فثبت بما ذكرناه أن لاسم جنس تحته أنواع ثلاثة: أسماء الأعلام، وأسماء الأجناس، والأسماء المشتقة، فلنذكر أحكام هذه الأقسام. أحكام الأعلام: النوع الأول: أحكام الأعلام، وهي كثيرة: الحكم الأول: قال المتكلمون: اسم العلم لا يفيد فائدة أصلاً، وأقول: حق أن العلم لا يفيد صفة في المسمى. وأما ليس بحق أنه لا يفيد شيئاً، وكيف وهو يفيد تعريف تلك الذات المخصوصة؟ الحكم الثاني: اتفقوا على أن الأجناس لها أعلام، فقولنا: «أسد» اسم جنس لهذه الحقيقة وقولنا: «أسامة» اسم علم لهذه الحقيقة، وكذلك قولنا: «ثعلب» اسم جنس لهذه الحقيقة، وقولنا: «ثعالة» اسم علم لها وأقول: الفرق بين اسم الجنس وبين علم الجنس من وجهين: الأول: إن اسم العلم هو الذي يفيد الشخص المعين من حيث إنه ذلك المعين، فإذا سمينا أشخاصاً كثيرين باسم زيد فليس ذلك لأجل أن قولنا: «زيد» موضوع لإفادة القدر المشترك بين تلك الأشخاص، بل لأجل أن لفظ زيد وضع لتعريف هذه الذات من حيث أنها هذه، ولتعريف تلك من حيث إنها تلك على سبيل الاشتراك، إذا عرفت هذا فنقول: إذا قال الواضع: وضعت لفظ أسامة لإفادة ذات كل واحد من أشخاص الأسد بعينها من حيث هي هي على سبيل الاشتراك اللفظي، كان ذلك علم الجنس، وإذا قال: وضعت لفظ الأسد لإفادة الماهية التي هي القدر المشترك بين هذه الأشخاص فقط من غير أن يكون فيها دلالة على الشخص المعين، كان هذا اسم الجنس، فقد ظهر الفرق بين اسم الجنس وبين علم الجنس.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثاني: أنهم وجدوا أسامة اسماً غير منصرف وقد تقرر عندهم أنه ما لم يحصل في الاسم شيآن لم يخرج عن الصرف، ثم وجدوا في هذا اللفظ التأنيث، ولم يجدوا شيئاً آخر سوى العلمية، فاعتقدوا كونه علماً لهذا المعنى. الحكمة الداعية إلى وضع الأعلام: الحكم الثالث: اعلم أن الحكمة الداعية إلى وضع الأعلام أنه ربما اختص نوع بحكم واحتج إلى الأخبار عنه بذلك الحكم الخاص، ومعلوم أن ذلك الأخبار على سبيل التخصيص غير ممكن إلا بعد ذكر المخبر عنه على سبيل الخصوص، فاحتج إلى وضع الأعلام لهذه الحكمة. الحكم الرابع: أنه لما كانت الحاجات المختلفة تثبت لأشخاص الناس فوق ثبوتها لسائر الحيوانات، لا جرم كان وضع الأعلام للأشخاص الإنسانية أكثر من وضعها لسائر الذوات. العلم اسم ولقب وكنية: الحكم الخامس: في تقسيمات الأعلام، وهي من وجوه: الأول: العلم إما أن يكون اسماً كإبراهيم وموسى وعيسى، أو لقباً كإسرائيل، أو كنية كأبي لهب. واعلم أن هذا التقسيم يتفرع عليه أحكام: الحكم الأول: الشيء إما أن يكون له الاسم فقط، أو اللقب فقط، أو الكنية فقط، أو الاسم مع اللقب، أو الاسم مع الكنية، أو اللقب مع الكنية، واعلم أن سيبويه أفرد أمثلة الأقسام المذكورة من تركيب الكنية والاسم، وهي ثلاثة: أحدها: الذي له الاسم والكنية كالضبع، فإن اسمها حضاجر، وكنيتها أم عامر، وكذلك يقال للأسد أسامة وأبو الحارث، وللثعلب ثعالة وأبو الحصين، وللعقرب شبوة وأم عريط. وثانيها: أن يحصل له الاسم دون الكنية كقولنا قثم لذكر الضبع، ولا كنية له. وثالثها: الذي حصلت له الكنية ولا اسم له، كقولنا للحيوان المعين أبو براقش. الحكم الثالث: الكنية قد تكون بالإضافات إلى الآباء، وإلى الأمهات، وإلى البنين، وإلى البنات، فالكنى بالآباء كما يقال للذئب أبو جعدة للأبيض، وأبو الجون، وأما الأمهات فكما يقال للداهية أم حبو كرى، وللخمر أم ليلى، وأما البنون فكما يقال للغراب ابن دأية، وللرجل الذي يكون حاله منكشفاً ابن جلا، وأما البنات فكما يقال لصدى ابنة الجبل، وللحصاة بنت الأرض. الحكم الرابع: الإضافة في الكنية قد تكون مجهولة النسب نحو ابن عرس وحمار قبان وقد تكون معلومة النسب نحو ابن لبون وبنت لبون وابن مخاض وبنت مخاض، لأن الناقة /إذا ولدت ولداً ثم حمل عليها بعد ولادتها فإنها لا تصير مخاضاً إلا بعد سنة، والمخاض الحامل المقرب، فولدها إن كان ذكراً فهو ابن مخاض، وإن كان أنثى فهي بنت مخاض، ثم إذا ولدت وصار لها لبن صارت لبوناً فأضيف الولد إليها بإضافة معلومة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحكم الخامس: إذا اجتمع الاسم واللقب: فالاسم إما أن يكون مضافاً أو لا، فإن لم يكن مضافاً أضيف الاسم إلى اللقب يقال هذا سعيد كرز وقيس بطة، لأنه يصير المجموع بمنزلة الاسم الواحد، وأما إن كان الاسم مضافاً فهم يفردون اللقب فيقولون هذا عبد الله بطة.السرفي وضع الكنية. الحكم السادس: المقتضى لحصول الكنية أمور: أحدها: الأخبار عن نفس الأمر كقولنا أبو طالب، فإنه كني بابنه طالب، وثانيها: التفاؤل والرجا كقولهم أبو عمرو لمن يرجو ولداً يطول عمره، وأبو الفضل لمن يرجو ولداً جامعاً للفضائل: وثالثها: الإيماء إلى الضد كأبي يحيـى للموت، ورابعها: أن يكون الرجل إنساناً مشهوراً وله أب مشهور فيتقارضان الكنية فإن يوسف كنيته أبو يعقوب ويعقوب كنيته أبو يوسف، وخامسها: اشتهار الرجل بخصلة فيكنى بها إما بسبب اتصافه بها أو انتسابه إليها بوجه قريب أو بعيد. التقسيم الثاني للأعلام: التقسيم الثاني للأعلام: العلم إما أن يكون مفرداً كزيد، أو مركباً من كلمتين لا علاقة بينهما كبعلبك، أو بينهما علاقة وهي: أما علاقة الإضافة كعبد الله وأبي زيد، أو علاقة الإسناد وهي إما جملة إسمية أو فعلية، ومن فروع هذا الباب أنك إذا جعلت جملة اسم علم لم تغيرها ألبتة، بل تتركها بحالها مثل تأبط شراً وبرق نرحه. التقسيم الثالث للأعلام: التقسيم الثالث: العلم إما أن يكون منقولاً أو مرتجلاً، أما المنقول فإما أن يكون منقولاً عن لفظ مفيد أو غير مفيد، والمنقول من المفيد إما أن يكون منقولاً عن الاسم، أو الفعل أو الحرف، أو ما يتركب منها، أما المنقول عن الاسم فإما أن يكون عن اسم عين: كأسد وثور، أو عن اسم معنى: كفضل ونصر، أو صفة حقيقية: كالحسن، أو عن صفة إضافية كالمذكور والمردود، والمنقول عن الفعل إما أن يكون منقولاً عن صيغة الماضي كشمر، أو عن صيغة المضارع كيحيـى، أو عن الأمر كاطرقا، والمنقول عن الحرف كرجل سميته بصيغة من صيغ الحروف، وأما المنقول عن المركب من هذه الثلاثة فإن كان المركب مفيداً فهو المذكور في التقسيم، وإن كان غير مفيد فهو يفيد، وأما المنقول عن صوت فهو مثل تسمية بعض العلوية بطباطبا، وأما المرتجل فقد يكون قياساً مثل عمران وحمدان فإنهما من أسماء الأجناس مثل سرحان وندمان، وقد يكون شاذاً قلما يوجد له نظير مثل محبب وموهب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
التقسيم الرابع للأعلام: التقسيم الرابع: الأعلام إما أن تكون للذوات أو المعاني، وعلى التقديرين فإما أن يكون العلم علم الشخص، أو علم الجنس، فههنا أقسام أربعة، وقبل الخوض في شرح هذه الأقسام فيجب أن تعلم أن وضع الأعلام للذوات أكثر من وضعها للمعاني، لأن أشخاص الذوات هي التي يتعلق الغرض بالأخبار عن أحوالها على سبيل التعيين، أما أشخاص الصفات فليست كذلك في الأغلب. ولنرجع إلى أحكام الأقسام الأربعة، فالقسم الأول: العلم للذوات والشرط فيه أن يكون المسمى مألوفاً للواضع، والأصل في المألوفات الإنسان، لأن مستعمل أسماء الأعلام هو الإنسان، وإلف الشيء بنوعه أتم من إلفه بغير نوعه، وبعد الإنسان الأشياء التي يكثر احتياج الإنسان إليها وتكثر مشاهدته لها، ولهذا السبب وضعوا أعوج ولاحقاً علمين لفرسين، وشذقما وعليا لفحلين، وضمران لكلب، وكساب لكلبة، وأما الأشياء التي لا يألفها الإنسان فقلما يضعون الأعلام لأَشخاصها، أما القسم الثاني: فهو علم الجنس للذوات، وهو مثل أسامة للأسد، وثعالة للثعلب، وأما القسم الثالث: فهو وضع الأعلام للأفراد المعينة من الصفات وهو مفقود لعدم الفائدة، وأما القسم الرابع: فهو علم الجنس للمعاني، والضابط فيه أنا إذا رأينا حصول سبب واحد من الأسباب التسعة المانعة من الصرف ثم منعوه الصرف علمنا أنهم جعلوه علماً لما ثبت أن المنع من الصرف لا يحصل إلا عند اجتماع سببين، وذكر ابن جني أمثلة لهذا الباب، وهي تسميتهم التسبيح بسبحان، والغدو بكيسان، لأنهما غير منصرفين، فالسبب الواحد ـ وهو الألف والنون ـ حاصل. ولا بدّ من حصول العلمية ليتم السببان. التقسيم الخامس للأعلام: التقسيم الخامس للأعلام: اعلم أن اسم الجنس قد ينقلب اسم علم. كما إذا كان المفهوم من اللفظ أمراً كلياً صالحاً لأن يشترك فيه كثيرون. ثم إنه في العرف يختص بشخص بعينه، مثل «النجم» فإنه في الأصل اسم لكل نجم، ثم اختص في العرف بالثريا، وكذلك «السماك» اسم مشتق من الارتفاع ثم اختص بكوكب معين. الباب الخامس في أحكام أسماء الأجناس والأسماء المشتقة، وهي كثيرة: أحكام اسم الجنس: أما أحكام أسماء الأجناس فهي أمور: الحكم الأول: الماهية قد تكون مركبة، وقد تكون بسيطة، وقد ثبت في العقليات أن المركب قبل البسيط في الجنس، وأن البسيط قبل المركب في الفصل، وثبت بحسب الاستقراء أن قوة الجنس سابقة على قوة الفصل في الشدة والقوة، فوجب أن تكون أسماء الماهيات المركبة سابقة على أسماء الماهيات البسيطة. الحكم الثاني في اسم الجنس: الحكم الثاني: أسماء الأجناس سابقة بالرتبة على الأسماء المشتقة، لأن الاسم المشتق متفرع على الاسم المشتق منه، فلو كان اسمه أيضاً مشتقاً لزم إما التسلسل أو الدور، وهما محالان، فيجب الانتهاء في الاشتقاقات إلى أسماء موضوعة جامدة، فالموضوع غني عن المشتق والمشتق محتاج إلى الموضوع، فوجب كون الموضوع سابقاً بالرتبة على المشتق، ويظهر بهذا أن هذا الذي يعتاده اللغويون والنحويون من السعي البليغ في أن يجعلوا كل لفظ مشتقاً من شيء آخر سعي باطل وعمل ضائع.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحكم الثالث في اسم الجنس: الحكم الثالث: الموجود إما واجب وإما ممكن، والمكن إما متحيز أو حال في المتحيز أو لا متحيز ولا حال في المتحيز أما هذا القسم الثالث فالشعور به قليل، وإنما يحصل الشعور بالقسمين الأولين، ثم إنه ثبت بالدليل أن المتحيزات متساوية في تمام ذواتها، وأن الاختلاف بينها إنما يقع بسبب الصفات القائمة بها، فالأسماء الواقعة على كل واحد من أنواع الأجسام يكون المسمى بها مجموع الذات مع الصفات المخصوصة القائمة بها، هذا هو الحكم في الأكثر الأغلب. وأما أحكام الأسماء المشتقة فهي أربعة: الحكم الأول: ليس من شرط الاسم المشتق أن تكون الذات موصوفة بالمشتق منه، بدليل أن المعلوم مشتق من العلم، مع أن العلم غير قائم بالمعلوم. وكذا القول في المذكور والمرئي والمسموع، وكذا القول في اللائق والرامي. الحكم الثاني: شرط صدق المشتق حصول المشتق منه في الحال، بدليل أن من كان كافراً ثم أسلم فإنه يصدق عليه أنه ليس بكافر. وذلك يدل على أن بقاء المشتق منه شرط في صدق الاسم المشتق. الحكم الثالث: المشتق منه إن كان ماهية مركبة لا يمكن حصول أجزائها على الاجتماع، مثل الكلام والقول والصلاة، فإن الاسم المشتق إنما يصدق على سبيل الحقيقة عند حصول الجزء الأخير من تلك الأجزاء. الحكم الرابع: المفهوم من الضارب أنه شيء ماله ضرب، فأما أن ذلك الشيء جسم أو غيره فذلك خارج عن المفهوم لا يعرف إلا بدلالة الالتزام. الباب السادس في تقسيم الاسم إلى المعرب والمبني، وذكر الأحكام المفرعة على هذين القسمين، وفيه مسائل: المسألة الأولى: في لفظ الأعراب وجهان: أحدهما: أن يكون مأخوذاً من قولهم: «أعرب عن نفسه» إذا بين ما في ضميره، فإن الإعراب إيضاح المعنى، والثاني: أن يكون أعرب منقولاً من قولهم: «عربت معدة الرجل» إذا فسدت، فكان المراد من الإعراب إزالة الفساد ورفع الإبهام، مثل أعجمت الكتاب بمعنى أزلت عجمته. المسألة الثانية: إذا وضع لفظ الماهية وكانت تلك الماهية مورداً لأحوال مختلفة وجب أن يكون اللفظ مورداً لأَحوال مختلفة لتكون الأحوال المختلفة اللفظية دالة على الأحوال المختلفة المعنوية، كما أن جوهر اللفظ لما كان دالاً على أصل الماهية كان اختلاف أحواله دالاً على اختلاف الأحوال المعنوية، فتلك الأحوال المختلفة اللفظية الدالة على الأحوال المختلفة المعوية هي الإعراب. المسألة الثالثة: الأفعال والحروف أحوال عارضة للماهيات، والعوارض لا تعرض لها عوارض أخرى، هذا هو الحكم الأكثري، وإنما الذي يعرض لها الأحوال المختلفة هي الذوات، والألفاظ الدالة عليها هي الأسماء، فالمستحق للإعراب بالوضع الأول هو الأسماء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الرابعة: إنما اختص الإعراب بالحرف الأخير من الكلمة لوجهين: الأول: أن الأحوال العارضة للذات لا توجد إلا بعد وجود الذات، واللفظ لا يوجد إلا بعد وجود الحرف الأخير منه، فوجب أن تكون العلامات الدالة على الأحوال المختلفة المعنوية لا تحصل إلا بعد تمام الكلمة. الثاني: أن اختلاف حال الحرف الأول والثاني من الكلمة للدلالة على اختلاف أوزان الكلمة، فلم يبق لقبول الأحوال الإعرابية إلا الحرف الأخير من الكلمة. المسألة الخامسة: الإعراب ليس عبارة عن الحركات والسكنات الموجودة في أواخر الكلمات بدليل أنها موجودة في المبينات والإعراب غير موجود فيها بل الإعراب عبارة عن استحقاقها لهذه الحركات بسبب العوامل المحسوسة، وذلك الاستحقاق معقول لا محسوس، والإعراب حاجة معقولة لا محسوسة. المسألة السادسة: إذا قلنا في الحرف: إنه متحرك أو ساكن، فهو مجاز، لأن الحركة والسكون من صفات الأجسام، والحرف ليس بجسم، بل المراد من حركة الحرف صوت مخصوص يوجد عقيب التلفظ بالحرف، والسكون عبارة عن أن يوجد الحرف من غير أن يعقبه ذلك الصوت المخصوص المسمى بالحركة. المسألة السابعة: الحركات إما صريحة أو مختلسة، والصريحة إما مفردة أو غير مفردة فالمفردة ثلاثة وهي: الفتحة، والكسرة، والضمة، وغير المفردة ما كان بين بين، وهي ستة لكل واحدة قسمان، فللفتحة ما بينها وبين الكسرة أو ما بينها وبين الضمة، وللكسرة ما بينها وبين الضمة أو ما بينها وبين الفتحة، والضمة على هذا القياس، فالمجموع تسعة. وهي أما مشبعة أو غير مشبعة، فهي ثمانية عشر، والتاسعة عشرة المختلسة، وهي ما تكون حركة وإن لم يتميز في الحس لها مبدأ، وتسمى الحركة المجهولة، وبها قرأ أبو عمرو**{ فَتُوبُواْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ }** [البقرة: 54] مختلسة الحركة من بارئكم وغير ظاهرة بها. المسألة الثامنة: لما كان المرجع بالحركة والسكون في هذا الباب إلى أصوات مخصوصة لم يجب القطع بانحصار الحركات في العدد المذكور، قال ابن جني اسم المفتاح بالفارسية ـ وهو كليد ـ لا يعرف أن أوله متحرك أو ساكن، قال: وحدثني أبو علي قال: دخلت بلدة فسمعت أهلها ينطقون بفتحة غريبة لم أسمعها قبل، فتعجبت منها وأقمت هناك أياماً فتكلمت أيضاً بها، فلما فارقت تلك البلدة نسيتها. المسألة التاسعة: الحركة الإعرابية متأخرة عن الحرف تأخراً بالزمان، ويدل عليه وجهان: الأول: أن الحروف الصلبة كالباء والتاء والدال وأمثالها إنما تحدث في آخر زمان حبس النفس وأول إرساله، وذلك آن فاصل ما بين الزمانين غير منقسم، والحركة صوت يحدث عند إرسال النفس، ومعلوم أن ذلك الآن متقدم على ذلك الزمان فالحرف متقدم على الحركة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثاني: أن الحروف الصلبة لا تقبل التمديد، والحركة قابلة للتمديد، فالحرف والحركة لا يوجدان معاً لكن الحركة لا تتقدم على الحرف، فبقي أن يكون الحرف متقدماً على الحركة. المسألة العاشرة: الحركات أبعاض من حروف المد واللين، ويدل عليه وجوه، الأول: أن حروف المد واللين قابلة للزيادة والنقصان، وكل ما كان كذلك فله طرفان، ولا طرف لها في النقصان إلا هذه الحركات، الثاني: أن هذه الحركات إذا مددناها ظهرت حروف المد واللين فعلمنا أن هذه الحركات ليست إلا أوائل تلك الحروف، الثالث: لو لم تكن الحركات أبعاضاً لهذه الحروف لما جاز الاكتفاء بها لأنها إذا كانت مخالفة لها لم تسد مسدها فلم يصح الاكتفاء بها منها بدليل استقراء القرآن والنثر والنظم، وبالجملة فهب أن إبدال الشيء من مخالفه القريب منه جائز إلا أن إبدال الشيء من بعضه أولى، فوجب حمل الكلام عليه. الابتداء بالساكن: المسألة الحادية عشرة: الابتداء بالحرف الساكن محال عند قوم، وجائز عند آخرين، لأن الحركة عبارة عن الصوت الذي يحصل التلفظ به بعد التلفظ بالحرف، وتوقيف الشيء على ما يحصل بعده محال. المسألة الثانية عشرة: أثقل الحركات الضمة، لأنها لا تتم إلا بضم الشفتين، ولا يتم ذلك إلا بعمل العضلتين الصلبتين الواصلتين إلى طرفي الشفة، وأما الكسرة فإنه يكفي في تحصيلها العضلة الواحدة الجارية، ثم الفتحة يكفي فيها عمل ضعيف لتلك العضلة، وكما دلت هذه المعالم التشريحية على ما ذكرناه فالتجربة تظهره أيضاً، واعلم أن الحال فيما ذكرناه يختلف بحسب أمزجة البلدان، فإن أهل أذربيجان يغلب على جميع ألفاظهم إشمام الضمة، وكثير من البلاد يغلب على لغاتهم إشمام الكسرة والله أعلم. المسألة الثالثة عشرة: الحركات الثلاثة مع السكون إن كانت إعرابية سميت بالرفع والنصب والجر أو الخفض والجزم، وإن كانت بنائية سميت بالفتح والضم والكسر والوقف. المسألة الرابعة عشرة: ذهب قطرب إلى أن الحركات البنائية مثل الإعرابية، والباقون خالفوه، وهذا الخلاف لفظي، فإن المراد من التماثل إن كان هو التماثل في الماهية فالحس يشهد بأن الأمر كذلك وإن كان المراد حصول التماثل في كونها مستحقة بحسب العوامل المختلفة فالعقل يشهد أنه ليس كذلك. المسألة الخامسة عشرة: من أراد أن يتلفظ بالضمة فإنه لا بدّ له من ضم شفتيه أولاً ثم رفعهما ثانياً، ومن أراد التلفظ بالفتحة فإنه لا بدّ له من فتح الفم بحيث تنتصب الشفة العليا عند ذلك الفتح، ومن أراد التلفظ بالكسرة فإنه لا بدّ له من فتح الفم فتحاً قوياً والفتح القوي لا يحصل إلا بانجرار اللحى الأسفل وانخفاضه، فلا جرم يسمى ذلك جراً وخفضاً وكسراً لأن انجرار القوي يوجب الكسر، وأما الجزم فهو القطع.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأما أنه لم سمي وقفاً وسكوناً فعلته ظاهرة. المسألة السادسة عشرة: منهم من زعم أن الفتح والضم والكسر والوقف أسماء للأحوال البنائية، كما أن الأربعة الثانية أسماء للأحوال الإعرابية، ومنهم من جعل الأربعة الأول: أسماء تلك الأحوال سواء كانت بنائية أو إعرابية، وجعل الأربعة الثانية أسماء للأحوال الإعرابية، فتكون الأربعة الأولى بالنسبة إلى الأربعة الثانية كالجنس بالنسبة إلى النوع. المسألة السابعة عشر: أن سيبويه يسميها بالمجاري، ويقول: هي ثمانية وفيه سؤالان: الأول: لم سمى الحركات بالمجاري فإن الحركة نفسها الجري، والمجرى موضع الجري، فالحركة لا تكون مجرى؟ وجوابه أنا بينا أن الذي يسمى ههنا بالحركة فهو في نفسه ليس بحركة إنما هو صوت يتلفظ به بعد التلفظ بالحرف الأول، فالمتكلم لما انتقل من الحرف الصامت إلى هذا الحرف فهذا الحرف المصوت إنما حدث لجريان نفسه وامتداده، فلهذا السبب صحت تسميته بالمجرى. السؤال الثاني: قال المازني: غلط سيبويه في تسميته الحركات البنائية بالمجاري لأن الجري إنما يكون لما يوجد تارة ويعدم تارة. والمبني لا يزول عن حاله، فلم يجز تسميته بالمجاري، بل كان الواجب أن يقال: المجاري أربعة وهي الأحوال الإعرابية. والجواب أن المبنيات قد تحرك عند الدرج، ولا تحرك عند الوقف، فلم تكن تلك الأحوال لازمة لها مطلقاً. المسألة الثامنة عشرة: الإعراب اختلاف آخر الكلمة باختلاف العوامل: بحركة أو حرف تحقيقاً أو تقديراً، أما الاختلاف فهو عبارة عن موصوفية آخر تلك الكلمة بحركة أو سكون بعد أن كان موصوفاً بغيرها، ولا شك أن تلك الموصوفية حالة معقولة لا محسوسة فلهذا المعنى قال عبد القاهر النحوي: الإعراب حالة معقولة لا محسوسة، وأما قوله: «باختلاف العوامل» فاعلم أن اللفظ الذي تلزمه حالة واحدة أبداً هو المبني، وأما الذي يختلف آخره فقسمان: أحدهما: أن لا يكون معناه قابلاً للأحوال المختلفة كقولك: «أخذت المال من زيد» فتكون «من» ساكنة، ثم تقول: «أخذت المال من الرجل» فتفتح النون، ثم تقول «أخذت المال من ابنك» فتكون مكسورة فههنا اختلف آخر هذه الكلمة إلا أنه ليس بإعراب، لأن المفهوم من كلمة «من» لا يقبل الأحوال المختلفة في المعنى، وأما القسم الثاني: وهو الذي يختلف آخر الكلمة عند اختلاف أحوال معناهاـ فذلك هو الإعراب. المسألة التاسعة عشرة: أقسام الإعراب ثلاثة: الأول: الإعراب بالحركة، وهي في أمور ثلاثة: أحدها: الاسم الذي لا يكون آخره حرفاً من حروف العلة، سواء كان أوله أو وسطه معتلاً أو لم يكن، نحو رجل، ووعد، وثوب، وثانيها: أن يكون آخر الكلمة واواً أو ياءً ويكون ما قبله ساكناً، فهذا كالصحيح في تعاقب الحركات عليه، تقول: هذا ظبي وغزو ومن هذا الباب المدغم فيهما كقولك: كرسي وعدو لأن المدغم يكون ساكناً فسكون الياء من كرسي والواو من عدو كسكون الباء من ظبي والزاي من غزو، وثالثها: أن تكون الحركة المتقدمة على الحرف الأخير من الكلمة كسرة وحينئذٍ يكون الحرف الأخير ياء، وإذا كان آخر الكلمة ياء قبلها كسرة كان في الرفع والجر على صورة واحدة وهي السكون، وأما في النصب فإن الياء تحرك بالفتحة قال الله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ أَجِيبُواْ دَاعِىَ ٱللَّهِ }** [الأحقاف: 31] القسم الثاني من الإعراب: ما يكون بالحرف، وهو في أمور ثلاثة: أحدها: في الأسماء الستة مضافة، وذلك جاءني أبوه وأخوه وحموه وهنوه وفوه وذو مال، ورأيت أباه ومررت بأبيه، وكذا في البواقي، وثانيها: «كلا» مضافاً إلى مضمر، تقول: جاءني كلاهما ومررت بكليهما ورأيت كليهما، وثالثها: التثنية والجمع، تقول: جاءني مسلمان ومسلمون ورأيت مسلمين ومسلمين ومررت بمسلمين ومسلمين. والقسم الثالث: الإعراب التقديري، وهو في الكلمة التي يكون آخرها ألفاً وتكون الحركة التي قبلها فتحة، فإعراب هذه الكلمة في الأحوال الثلاثة على صورة واحدة تقول: هذه رحا ورأيت رحا ومررت برحا. أصول الإعراب: المسألة العشرون: أصل الإعراب أن يكون بالحركة، لأنا ذكرنا أن الأصل في الإعراب أن يجعل الأحوال العارضة للفظ دلائل على الأحوال العارضة للمعنى، والعارض للحرف هو الحركة لا الحرف الثاني، وأما الصور التي جاء إعرابها بالحروف فذلك للتنبيه على أن هذه الحروف من جنس تلك الحركات. أنواع الاسم المعرب: المسألة الحادية والعشرون: الاسم المعرب، ويقال له المتمكن نوعان: أحدهما: ما يستوفي حركات الإعراب والتنوين، وهو المنصرف والأمكن، والثاني: ما لا يكون كذلك بل يحذف عنه الجر والتنوين ويحرك بالفتح في موضع الجر إلا إذا أضيف أو دخله لام التعريف، ويسمى غير المنصرف، والأسباب المانعة من الصرف تسعة فمتى حصل في الاسم اثنان منها أو تكرر سبب واحد فيه امتنع من الصرف، وهي: العلمية، والتأنيث اللازم لفظاً ومعنى، ووزن الفعل الخاص به أو الغالب عليه، والوصفية، والعدل، والجمع الذي ليس على زنة واحدة، والتركيب، والعجمة في الأعلام خاصة، والألف والنون المضارعتان لألفي التأنيث. سبب منع الصرف: المسألة الثانية والعشرون: إنما صار اجتماع اثنين من هذه التسعة مانعاً من الصرف، لأن كل واحد منها فرع، والفعل فرع عن الاسم، فإذا حصل في الاسم سببان من هذه التسعة صار ذلك الاسم شبيهاً بالفعل في الفرعية، وتلك المشابهة تقتضي منع الصرف، فهذه مقدمات أربع: المقدمة الأولى: في بيان أن كل واحد من هذه التسعة فرع، أما بيان أن العلمية فرع فلأن وضع الاسم للشيء لا يمكن إلا بعد صيرورته معلوماً، والشيء في الأصل لا يكون معلوماً ثم يصير معلوماً وأما أن التأيث فرع فبيانه تارة بحسب اللفظ وأخرى بحسب المعنى: أما بحسب اللفظ فلان كل لفظة وضعت لماهية فإنها تقع على الذكر من تلك الماهية بلا زيادة وعلى الأنثى بزيادة علامة التأنيث، وأما بحسب المعنى فلأن الذكر أكمل من الأنثى، والكامل مقصود بالذات، والناقص مقصود بالعرض، وأما أن الوزن الخاص بالفعل أو الغالب عليه فرع فلأن وزن الفعل فرع للفعل، والفعل فرع للاسم، وفرع الفرع فرع وأما أن الوصف فرع فلأن الوصف فرع عن الموصوف، وأما أن العدل فرع فلأن العدول عن لاشيء إلى غيره مسبوق بوجود ذلك الأصل وفرع عليه، وأما أن الجمع الذي ليس على زنته واحد فرع فلان ذلك الوزن فرع على وجود الجمع، لأنه لا يوجد إلا فيه، والجمع فرع على الواحد لأن الكثرة فرع على الوحدة، وفرع الفرع فرع، وبهذا الطريق يظهر أن التركيب فرع، وأما أن المعجمة فرع فلأن تكلم كل طائفة بلغة أنفسهم أصل وبلغة غيرهم فرع، وأما أن الألف والنون في سكران وأمثاله يفيدان الفرعية فلأن الألف والنون زائدان على جوهر الكلمة، والزائد فرع، فثبت بما ذكرنا أن هذه الأسباب التسعة توجب الفرعية.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المقدمة الثانية: في بيان أن الفعل فرع، والدليل عليه أن الفعل عبارة عن اللفظ الدال على وقوع المصدر في زمان معين، فوجب كونه فرعاً على المصدر. المقدمة الثالثة: أنه لما ثبت ما ذكرناه ثبت أن الاسم الموصوف بأمرين من تلك الأمور التسعة يكون مشابهاً للفعل في الفرعية ومخالفاً له في كونه اسماً في ذاته، والأصل في الفعل عدم الإعراب كما ذكرنا، فوجب أن يحصل في مثل هذا الاسم أثران بحسب كل واحد من الاعتبارين المذكورين، وطريقه أن يبقى إعرابها من أكثر الوجوه، ويمنع من إعرابها من بعض الوجوه، ليتوفر على كل واحد من الاعتبارين ما يليق به. المسألة الثالثة والعشرون: إنما ظهر هذا الأثر في منع التنوين والجر لأجل أن التنوين يدل على كمال حال الاسم، فإذا ضعف الاسم بحسب حصول هذه الفرعية أزيل عنه ما دل على كمال حاله، وأما الجر فلأن الفعل يحصل فيه الرفع والنصب، وأما الجر فغير حاصل فيه فلما صارت الأسماء مشابهة للفعل لا جرم سلب عنها الجر الذي هو من خواص الأسماء. المسألة الرابعة والعشرون: هذه الأسماء بعد أن سلب عنها الجر إما أن تترك ساكنة في حال الجر أو تحرك، والتحريك أولى، تنبيهاً على أن المانع من هذه الحركة عرضي لا ذاتي، ثم النصب أول الحركات لأنا رأينا أن النصب حمل على الجر في التثنية والجمع السالم، فلزم هنا حمل الجر على النصب تحقيقاً للمعارضة. المسألة الخامسة والعشرون: اتفقوا على أنه إذا دخل على ما لا ينصرف الألف واللام أو أضيف انصرف كقوله: مررت بالأحمر، والمساجد، وعمركم، ثم قيل: السبب فيه أن الفعل لا تدخل عليه الألف واللام والإضافة فعند دخولهما على الاسم خرج الاسم عن مشابهة الفعل، قال عبد القاهر: هذا ضعيف لأن هذه الأسماء إنما شابهت الأفعال لما حصل فيها من الوصفية ووزن الفعل، وهذه المعاني باقية عند دخول الألف واللام والإضافة فيها فبطل قولهم: إنه زالت المشابهة وأيضاً فحروف الجر والفاعلية والمفعولية من خواص الأسماء ثم إنها تدخل على الأسماء مع أنها تبقي غير منصرفة، والجواب عن الأول: أن الإضافة ولام التعريف من خواص الأسماء فإذا حصلتا في هذه الأسماء فهي وإن ضعفت في الإسمية بسبب كونها مشابهة للفعل إلا أنها قويت بسبب حصول خواص الأسماء فيها، إذا عرفت هذا فنقول: أصل الإسمية يقتضي قبول الإعراب من كل الوجوه، إلا أن المشابهة للفعل صارت معارضة للمقتضى، فإذا صار هذا المعارض معارضاً بشيء آخر ضعف المعارض، فعاد المقتضي عاملاً عمله، وأما السؤال الثاني فجوابه: أن لام التعريف والإضافة أقوى من الفاعلية والمفعولية لأن لام التعريف والإضافة يضادان التنوين، والضدان متساويان في القوة فلما كان التنوين دليلاً على كمال القوة فكذلك الإضافة وحرف التعريف.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة السادسة والعشرون: لو سميت رجلاً بأحمر لم تصرفه، بالاتفاق، لاجتماع العلمية ووزن الفعل، أما إذا نكرته فقال سيبويه: لا أصرفه، وقال الأخفش: أصرفه. واعلم أن الجمهور يقولون في تقرير مذهب سيبويه على ما يحكى أن المازني قال: قلت للأخفش: كيف قلت مررت بنسوة أربع فصرفت مع وجود الصفة ووزن الفعل؟ قال: لأن أصله الإسمية فقلت: فكذا لا تصرف أحمر اسم رجل إذا نكرته لأن أصله الوصفية، قال المازني: فلم يأتِ الأخفش بمقنع، وأقول: كلام المازني ضعيف، لأن الصرف ثبت على وفق الأصل في قوله: «مررت بنسوة أربع» لأنه يكفي عود الشيء إلى حكم الأصل أدنى سبب، بخلاف المنع من الصرف فإنه على خلاف الأصل فلا يكفي فيه إلا السبب القوي، وأقول: الدليل على صحة مذهب سيبويه أنه حصل فيه وزن الفعل والوصفية الأصلية فوجب كونه غير منصرف، أما المقدمة الأولى فهي إنما تتم بتقرير ثلاثة أشياء: الأول: ثبوت وزن الفعل وهو ظاهر، والثاني: الوصفية، والدليل عليه أن العلم إذا نكر صار معناه الشيء الذي يسمى بذلك الاسم. فإذا قيل: «رب زيد رأيته» كان معناه رب شخص مسمى باسم زيد رأيته، ومعلوم أن كون الشخص مسمى بذلك الاسم صفة لا ذات، والثالث: أن الوصفية أصلية، والدليل عليه أن لفظ الأحمر حين كان وصفاً معناه الاتصاف بالحمرة، فإذا جعل علماً ثم نكر كان معناه كونه مسمى بهذا الاسم، وكونه كذلك صفة إضافية عارضة له، فالمفهومان اشتركا في كون كل واحد منهما صفة إلا أن الأول يفيد صفة حقيقية والثاني يفيد صفة إضافية، والقدر المشترك بينهما كونه صفة، فثبت بما ذكرنا أن حصل فيه وزن الفعل والوصفية الأصلية فوجب كونه غير منصرف لما ذكرناه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فإن قيل: يشكل ما ذكرتم بالعلم الذي ما كان وصفاً فإنه عند التنكير ينصرف مع أنه عند التنكير يفيد الوصفية بالبيان الذي ذكرتم. قلنا إنه وإن صار عند التنكير وصفاً إلا أن وصفيته ليست أصلية لأنها ما كانت صفة قبل ذلك بخلاف الأحمر فإنه كان صفة قبل ذلك، والشيء الذي يكون في الحال صفة مع أنه كان قبل ذلك صفة كان أقوى في الوصفية مما لا يكون كذلك، فظهر الفرق. واحتج الأخفش بأن المقتضى للصرف قائم وهو الاسمية، والعارض الموجود لا يصح معارضاً، لأنه علم منكر والعلم المنكر موصوف بوصف كونه منكراً، والموصوف باقٍ عند وجود الصفة، فالعلمية قائمة في هذه الحالة، والعلمية تنافي الوصفية، فقد زالت الوصفية فلم يبق سوى وزن الفعل والسبب الواحد لا يمنع من الصرف، والجواب: أنا بينا بالدليل العقلي أن العلم إذا جعل منكراً صار وصفاً في الحقيقة فسقط هذا الكلام. المسألة السابعة والعشرون: قال سيبويه: السبب الواحد لا يمنع الصرف، خلافاً للكوفيين، حجة سيبويه أن المقتضى للصرف قائم، وهو الإسمية، والسببان أقوى من الواحد فعند حصول السبب الواحد وجب البقاء على الأصل. وحجة الكوفيين قولهم المقدم، وقد قيل أيضاً: ـ
| **وما كان حصن ولاحابس** | | **يفوقان مرداس في مجمع** |
| --- | --- | --- |
وجوابه أن الرواية الصحيحة في هذا البيت: يفوقان شيخي في مجمع. المسألة الثامنة والعشرون: قال سيبويه: ما لا ينصرف يكون في موضع الجر مفتوحاً واعترضوا عليه بأن الفتح من باب البناء، وما لا ينصرف غير مبني، وجوابه أن الفتح اسم لذات الحركة من غير بيان أنها إعرابية أو بنائية. المسألة التاسعة والعشرون: إعراب الأسماء ثلاثة: الرفع، والنصب، والجر، وكل واحد منها علامة على معنى، فالرفع علم الفاعلية، والنصب علم المفعولية، والجر علم الإضافة وأما التوابع فإنها في حركاتها مساوية للمتبوعات.سر ارتفاع الفاعل وانتصاب المفعول: المسألة الثلاثون: السبب في كون الفاعل مرفوعاً والمفعول منصوباً والمضاف إليه مجرراً وجوه: ـ الأول: أن الفاعل واحد، والمفعول أشياء كثيرة، لأن الفعل قد يتعدى إلى مفعول واحد، وإلى مفعولين، وإلى ثلاثة، ثم يتعدى أيضاً إلى المفعول له، وإلى الظرفين، وإلى المصدر والحال، فلما كثرت المفاعيل اختير لها أخف الحركات وهو النصب، ولما قل الفاعل اختير له أثقل الحركات وهو الرفع، حتى تقع الزيادة في العدد مقابلة للزيادة في المقدار فيحصل الاعتدال. الثاني: أن مراتب الموجودات ثلاثة: مؤثر لا يتأثر وهو الأقوى، وهو درجة الفاعل ومتأثر لا يؤثر وهو الأضعف، وهو درجة المفعول، وثالث يؤثر باعتبار ويتأثر باعتبار وهو المتوسط، وهو درجة المضاف إليه، والحركات أيضاً ثلاثة: أقواها الضمة وأضعفها الفتحة وأوسطها الكسرة، فألحقوا كل نوع بشبيهه، فجعلوا الرفع الذي هو أقوى الحركات للفاعل الذي هو أقوى الأقسام، والفتح الذي هو أضعف الحركات للمفعول الذي هو أضعف الأقسام والجر الذي هو المتوسط للمضاف إليه الذي هو المتوسط من الأقسام.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثالث: الفاعل مقدم على المفعول: لأن الفعل لا يستغني عن الفاعل، وقد يستغني عن المفعول، فالتلفظ بالفاعل يوجد والنفس قوية، فلا جرم أعطوه أثقل الحركات عند قوة النفس، وجعلوا أخف الحركات لما يتلفظ به بعد ذلك. أنواع المرفوعات وأصلها: المسألة الحادية والثلاثون: المرفوعات سبعة: الفاعل، والمبتدأ، وخبره، واسم كان، واسم ما ولا المشبهتين بليس، وخبرإن، وخبر لا النافية للجنس، ثم قال الخليل الأصل في الرفع الفاعل، والبواقي مشبهة به، وقال سيبويه: الأصل هو المبتدأ، والبواقي مشبهة به، وقال الأخفش: كل واحد منهما أصل بنفسه، واحتج الخليل بأن جعل الرفع إعراباً للفاعل أولى من جعله إعراباً للمبتدأ، والأولوية تقتضي الأولية: بيان الأول: أنك إذا قلت: «ضرب زيد بكر» بإسكان المهملتين لم يعرف أن الضارب من هو والمضروب من هو أما إذا قلت: «زيد / قائم» بإسكانهما عرفت من نفس اللفظتين أن المبتدأ أيهما والخبر أيهما، فثبت أن افتقار الفاعل إلى الإعراب أشد، فوجب أن يكون الأصل هو. وبيان الثاني أن الرفعية حالة مشتركة بين المبتدأ والخبر، فلا يكون فيها دلالة على خصوص كونه مبتدأ ولا على خصوص كونه خبراً، أما لا شك أنه في الفاعل يدل على خصوص كونه فاعلاً، فثبت أن الرفع حق الفاعل، إلا أن المبتدأ لما أشبه الفاعل في كونه مسنداً إليه جعل مرفوعاً رعاية لحق هذه المشابهة، وحجة سيبويه: أنا بينا أن الجملة الإسمية مقدمة على الجمل الفعلية، فإعراب الجملة الإسمية يجب أن يكون مقدماً على إعراب الجملة الفعلية، والجواب: أن الفعل أصل في الإسناد إلى الغير فكانت الجملة الفعلية مقدمة. وحينئذٍ يصير هذا الكلام دليلاً للخليل. أنواع المفاعيل: المسألة الثانية والثلاثون: المفاعيل خمسة، لأن الفاعل لا بدّ له من فعل وهو المصدر، ولا بدّ لذلك الفعل من زمان، ولذلك الفاعل من عرض، ثم قد يقع ذلك الفعل في شيء آخر وهو المفعول به، وفي مكان، ومع شيء آخر، فهذا ضبط القول في هذه المفاعيل. وفيه مباحث عقلية: أحدها: أن المصدر قد يكون هو نفس المفعول به كقولنا: «خلق الله العالم» فإن خلق العالم لو كان مغايراً للعالم لكان ذلك المغاير له إن كان قديماً لزم من قدمه قدم العالم وذلك ينافي كونه مخلوقاً وإن كان حادثاً افتقر خلقه إلى خلق آخر ولزم التسلسل وثانيها: أن فعل الله يستغني عن الزمان، لأنه لو افتقر إلى زمان وجب أن يفتقر حدوث ذلك الزمان إلى زمان آخر ولزم التسلسل وثالثها: أن فعل الله يستغني عن العرض لأن ذلك العرض إن كان قديماً لزم قدم الفعل وإن كان حادثاً لزم التسلسل، وهو محال.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
عامل النصب في المفاعيل: المسألة الثالثة والثلاثون: اختلفوا في العامل في نصب المفعول على أربعة أقوال: الأول: وهو قول البصريين ـ أن الفعل وحده يقتضي رفع الفاعل ونصب المفعول: والثاني: وهو قول الكوفيين ـ أن مجموع الفعل والفاعل يقتضي نصب المفعول، والثالث: وهو قول هشام بن معاوية من الكوفيين ـ أن العامل هو الفاعل فقط، والرابع: وهو قول خلف الأحمر من الكوفيين ـ أن العامل في الفاعل معنى الفاعلية، وفي المفعول معنى المفعولية. حجة البصريين أن العامل لا بدّ وأن يكون له تعلق بالمعمول، وأحد الإسمين لا تعلق له بالآخر، فلا يكون له فيه عمل ألبتة، وإذا سقط لم يبق العمل إلا للفعل. حجة المخالف أن العامل الواحد لا يصدر عنه أثران لما ثبت أن الواحد لا يصدر عنه إلا أثر واحد. قلنا: ذاك في الموجبات، أما في المعرفات فممنوع. واحتج خلف بأن الفاعلية صفة قائمة بالفاعل، والمفعولية صفة قائمة بالمفعول، ولفظ الفعل مباين لهما، وتعليل الحكم بما يكون حاصلاً في محل الحكم أولى من تعليله بما يكون مبايناً له، وأجيب عنه بأنه معارض بوجه آخر: وهو أن الفعل أمر ظاهر، وصفة الفاعلية والمفعولية أمر خفي، وتعليل الحكم الظاهر بالمعنى الظاهر أولى من تعليله بالصفة الخفية والله أعلم. الباب السابع في إعراب الفعل إعراب الفعل: اعلم أن قوله: أعوذ يقتضي إسناد الفعل إلى الفاعل، فوجب علينا أن نبحث عن هذه المسائل. المسألة الأولى: إذا قلنا في النحو فعل وفاعل، فلا نريد به ما يذكره علماء الأصول لأنا نقول: «مات زيد» وهو لم يفعل، ونقول من طريق النحو: مات فعل، وزيد فاعله، بل المراد أن الفعل لفظة مفردة دالة على حصول المصدر لشيء غير معين في زمان غير معين، فإذا صرحنا بذلك الشيء الذي حصل المصدر له فذاك هو الفاعل، ومعلوم أن قولنا حصل المصدر له أعم من قولنا حصل بإيجاده واختياره كقولنا قام، أولاً باختياره كقولنا مات، فإن قالوا: الفعل كما يحصل في الفاعل فقد يحصل في المفعول، قلنا: إن صيغة الفعل من حيث هي تقتضي حصول ذلك المصدر لشيء ما هو الفاعل، ولا تقتضي حصوله للمفعول، بدليل أن الأفعال اللازمة غنية عن المفعول. وجوب تقديم الفعل: المسألة الثانية: الفعل يجب تقديمه على الفاعل، لأن الفعل ـ إثباتاً كان أو نفياً يقتضي أمراً ما يكون هو مسنداً إليه، فحصول ماهية الفعل في الذهن يستلزم حصول شيء يسند الذهن ذلك الفعل إليه، والمنتقل إليه متأخر بالرتبة عن المنتقل عنه، فلما وجب كون الفعل مقدماً على الفاعل في الذهن وجب تقدمه عليه في الذكر، فإن قالوا: لا نجد في العقل فرقاً بين قولنا: «ضرب زيد» وبين قولنا: «زيد ضرب» قلنا: الفرق ظاهر، لأنا إذا قلنا زيد لم يلزم من وقوف الذهن على معنى هذا اللفظ أن يحكم بإسناد معنى آخر إليه، أما إذا فهمنا معنى لفظ ضرب لزم منه حكم الذهن بإسناد هذا المفهوم إلى شيء ما، إذا عرفت هذا فنقول: إذا قلنا: «ضرب زيد» فقد حكم الذهن بإسناد مفهوم ضرب إلى شيء، ثم يحكم الذهن بأن ذلك الشيء هو زيد الذي تقدم ذكره، فحينئذٍ قد أخبر عن زيد بأنه هو ذلك الشيء الذي أسند الذهن مفهوم ضرب إليه، وحينئذٍ يصير قولنا: زيد مخبراً عنه وقولنا ضرب جملة من فعل وفاعل وقعت خبراً عن ذلك المبتدأ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ارتباط الفعل بالفاعل: المسألة الثالثة: قالوا: الفاعل كالجزء من الفعل، والمفعول ليس كذلك، وفي تقريره وجوه: الأول: أنهم قالوا ضربت فاسكنوا لام الفعل لئلا يجتمع أربع متحركات، وهم يحترزون عن تواليها في كلمة واحدة، وأما بقرة فإنما احتملوا ذلك فيها لأن التاء زائدة، واحتملوا ذلك في المفعول كقولهم ضربك، وذلك يدل على أنهم اعتقدوا أن الفاعل جزء من الفعل، وأن المفعول منفصل عنه، الثاني: أنك تقول: الزيدان قاما أظهرت الضمير للفاعل، وكذلك إذا قلت زيد ضرب وجب أن يكون الفعل مسند إلى الضمير المستكن طرداً للباب، والثالث: وهو الوجه العقلي ـ أن مفهوم قولك ضرب هو أنه حصل الضرب لشيء ما في زمان مضى، فذلك الشيء الذي حصل له الضرب جزء من مفهوم قولك ضرب، فثبت أن الفاعل جزء من الفعل. الإضمار قبل الذكر: المسألة الرابعة: الإضمار قبل الذكر على وجوه: أحدها: أن يحصل صورة ومعنى، كقولك ضرب غلامه زيداً والمشهور أنه لا يجوز لأنك رفعت غلامه بضرب فكان واقعاً موقعه والشيء إذا وقع موقعه لم تجز إزالته عنه، وإذا كان كذلك كانت الهاء في قولك غلامه ضميراً قبل الذكر، وأما قول النابغة: ـ
| **جزى ربه عني عدي بن حاتم** | | **جزاء الكلاب العاويات وقد فعل** |
| --- | --- | --- |
فجوابه: أن الهاء عائدة إلى مذكور متقدم، وقال ابن جني: وأنا أجيز أن تكون الهاء في قوله ربه عائدة على عدي خلافاً للجماعة، ثم ذكر كلاماً طويلاً غير ملخص، وأقول: الأولى في تقريره أن يقال: الفعل من حيث أنه فعل كان غنياً عن المفعول لكن الفعل المتعدي لا يستغنى عن المفعول، وذلك لأن الفاعل هو المؤثر، والمفعول هو القابل، والفعل مفتقر إليهما ولا تقدم لأحدهما على الآخر، أقصى ما في الباب أن يقال إن الفاعل مؤثر، والمؤثر أشرف من القابل، فالفاعل متقدم على المفعول من هذا الوجه، لأنا بينا أن الفعل المتعدي مفتقر إلى المؤثر وإلى القابل معاً وإذا ثبت هذا فكما جاز تقديم الفاعل على المفعول وجب أيضاً جواز تقديم المفعول على الفاعل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
القسم الثاني: وهو أن يتقدم المفعول على الفاعل في الصورة لا في المعنى وهو كقولك ضرب غلامه زيد: فغلامه مفعول، وزيد فاعل، ومرتبه، المفعول بعد مرتبة الفاعل، إلا أنه وأن تقدم في اللفظ لكنه متأخر في المعنى. والقسم الثالث: وهو أن يقع في المعنى لا في الصورة، كقوله تعالى:**{ وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ }** [البقرة: 124] فههنا الإضمار قبل الذكر غير حاصل في الصورة، لكنه حاصل في المعنى، لأن الفاعل مقدم في المعنى، ومتى صرح بتقديمه لزم الإضمار قبل الذكر. إظهار الفاعل وإضماره: المسألة الخامسة: الفاعل قد يكون مظهراً كقولك ضرب زيد، وقد يكون مضمراً بارزاً كقولك ضربت وضربنا، ومضمراً مستكناً كقولك زيد ضرب، فتنوي في ضرب فاعلاً وتجعل الجملة خبراً عن زيد، ومن إضمار الفاعل قولك إذا كان غداً فأتني، أي: إذا كان ما نحن عليه غداً. قد يحذف الفعل: المسألة السادسة: الفعل قد يكون مضمراً، يقال: من فعل؟ فتقول: زيد، والتقدير فعل زيد، ومنه قوله تعالى:**{ وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ }** [التوبة: 6] والتقدير وإن استجارك أحد من المشركين. التنازع في العمل: المسألة السابعة: إذا جاء فعلان معطوفاً أحدهما على الآخر وجاء بعدهما اسم صالح لأن يكون معمولاً لهما فهذا على قسمين، لأن الفعلين: أما أن يقتضيا عملين متشابهين، أو مختلفين وعلى التقديرين فأما أن يكون الاسم المذكور بعدهما واحداً، أو أكثر فهذه أقسام أربعة. القسم الأول: أن يذكر فعلان يقتضيان عملاً واحدأ، ويكون المذكور بعدهما اسماً واحداً، كقولك: قام وقعد زيد، فزعم الفراء أن الفعلين جميعاً عاملان في زيد، والمشهور أنه لا يجوز لأنه يلزم تعليل الحكم الواحد بعلتين، والأقرب راجح بسبب القرب، فوجب إحالة الحكم عليه، وأجاب الفراء بأن تعليل الحكم الواحد بعلتين ممتنع في المؤثرات، أما في المعرفات فجائز، وأجيب عنه بأن المعرف يوجب المعرفة، فيعود الأمر إلى اجتماع المؤثرين في الأثر الواحد. القسم الثاني: إذا كان الاسم غير مفرد، وهو كقولك، قام وقعد أخواك، فههنا إما أن ترفعه بالفعل الأول، أو بالفعل الثاني، فإن رفعته بالأول قلت: قام وقعدا أخواك، لأن التقدير قام أخواك وقعدا، أما إذا أعملت الثاني جعلت في الفعل الأول ضمير الفاعل، لأن الفعل لا يخلوا من فاعل مضمر أو مظهر، تقول: قاما وقعد أخواك، وعند البصريين إعمال الثاني أولى، وعند الكوفيين إعمال الأول أولى، حجة البصريين أن أعمالهما معاً ممتنع، فلا بدّ من إعمال أحدهما، والقرب مرجح، فإعمال الأقرب أولى، وحجة الكوفيين أنا إذا أعملنا الأقرب وجب إسناد الفعل المتقدم إلى الضمير، ويلزم حصول الإضمار قبل الذكر، وذلك أولى بوجوب الاحتراز عنه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
القسم الثالث: ما إذا اقتضى الفعلان تأثيرين متناقضين، وكان الاسم المذكور بعدهما مفرداً، فيقول البصريون إن إعمال الأقرب أولى، خلافاً للكوفيين، حجة البصريين وجوه الأول: قوله تعالى:**{ آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً }** [الكهف: 96] فحصل ههنا فعلان كل واحد منهما يقتضي مفعولاً: فأما أن يكون الناصب لقوله قطراً هو قوله آتوني أو أفرغ، والأول باطل، وإلا صار التقدير آتوني قطراً، وحينئذٍ كان يجب أن يقال أفرغه عليه، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الناصب لقوله قطراً هو قوله أفرغ الثاني: قوله تعالى:**{ هَاؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَـٰبيَهْ }** [الحاقة: 19] فلو كان العامل هو الأبعد لقيل هاؤم اقرؤه، وأجاب الكوفيون عن هذين الدليلين بأنهما يدلان على جواز أعمال الأقرب، وذلك لا نزاع فيه، وإنما النزاع في أنا نجوز أعمال الأبعد، وأنتم تمنعونه وليس في الآية ما يدل على المنع. الحجة الثالثة: للبصريين أنه يقال: ما جاءني من أحد، فالفعل رافع، والحرف جار، ثم يرجح الجار لأنه هو الأقرب. الحجة الرابعة: أن إهمالهما وإعمالهما لا يجوز، ولا بدّ من الترجيح، والقرب مرجح، فأعمال الأقرب أولى. واحتج الكوفيون بوجوه: الأول: أنا بينا أن الاسم المذكور بعد الفعلين إذا كان مثنى أو مجموعاً فأعمال الثاني يوجب في الأول الإضمار قبل الذكر وأنه لا يجوز، فوجب القول بأعمال الأول هناك، فإذا كان الاسم مفرداً وجب أن يكون الأمر كذلك طرداً للباب. الثاني: أن الفعل الأول وجد معمولاً خالياً عن العائق، لأن الفعل لا بدّ له من مفعول، والفعل الثاني وجد المعمول بعد أن عمل الأول فيه، وعمل الأول فيه عائق عن عمل الثاني فيه ومعلوم أن أعمال الخالي عن العائق أولى من أعمال العامل المقرون بالعائق. القسم الرابع: إذا كان الاسم المذكور بعد الفعلين مثنى أو مجموعاً فإن أعملت الفعل الثاني قلت ضربت وضربني الزيدان وضربت وضربني الزيدون، وإن أعملت الأول قلت ضربت وضرباني الزيدين وضربت وضربوني الزيدين. المسألة الثامنة: قول امرىء القيس: ـ
| **فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة** | | **كفاني ولم أطلب قليل من المال** |
| --- | --- | --- |
| **ولكنما أسعى لمجد مؤثل** | | **وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي** |
/ فقوله كفاني ولم أطلب ليسا متوجهين إلى شيء واحد، لأن قوله كفاني موجه إلى قليل من المال، وقوله ولم أطلب غير موجه إلى قليل من المال، وإلا لصار التقدير فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة لم أطلب قليلاً من المال، وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيلزم حينئذٍ أنه ما سعى لأدنى معيشة ومع ذلك فقد طلب قليلاً من المال، وهذا متناقض، فثبت أن المعنى ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك، وعلى هذا التقدير فالفعلان غير موجهين إلى شيء واحد، ولنكتف بهذا القدر من علم العربية قبل الخوض في التفسير.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في المباحث النقلية والعقلية، وفيه أبواب: ـ الباب الأولفي المسائل الفقهية المستنبطة من قولنا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقت قراءة الاستعاذة: المسألة الأولى: اتفق الأكثرون على أن وقت قراءة الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة، وعن النخعي أنه بعدها، وهو قول داود الأصفهاني، وإحدى الروايتين عن ابن سيرين، وهؤلاء قالوا: الرجل إذا قرأ سورة الفاتحة بتمامها وقال: آمين فبعد ذلك يقول: أعوذ بالله والأولون احتجوا بما روى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال: الله أكبر كبيراً ثلاث مرات، والحمد لله كثيراً ثلاث مرات، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه. واحتج المخالف على صحة قوله بقوله سبحانه:**{ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }** [النحل: 98] دلت هذه الآية على أن قراءة القرآن شرط، وذكر الاستعاذة جزاء، والجزاء متأخر عن الشرط، فوجب أن تكون الاستعاذة متأخرة عن قراءة القرآن، ثم قالوا: وهذا موافق لما في العقل، لأن من قرأ القرآن فقد استوجب الثواب العظيم، فلو دخله العجب في أداء تلك الطاعة سقط ذلك الثواب، لقوله عليه السلام والسلام «ثلاث مهلكات» وذكر منها إعجاب المرء بنفسه فلهذا السبب أمره الله سبحانه وتعالى بأن يستعيذ من الشيطان، لئلا يحمله الشيطان بعد قراءة القرآن على عمل يحبط ثواب تلك الطاعة. قالوا: ولا يجوز أن يقال: إن المراد من قوله تعالى:**{ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ }** [النحل:98] أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ، كما في قوله تعالى:**{ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وجوهكم }** [المائدة: 6] والمعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة، لأنه يقال: ترك الظاهر في موضع الدليل لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل. أما جمهور الفقهاء فقالوا: لا شك أن قوله:**{ فإذا قرأت القرآن فاستعذ }** [النحل: 98] يحتمل أن يكون المراد منه إذا أردت، وإذا ثبت الاحتمال وجب حمل اللفظ عليه توفيقاً بين هذه الآية وبين الخبر الذي رويناه، ومما يقوي ذلك من المناسبات العقلية، أن المقصود من الاستعاذة نفي وساوس الشيطان عند القراءة، قال تعالى:**{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِى ٱلشَّيْطَـٰنُ }** [الحج: 52] وإنما أمر تعالى بتقديم الاستعاذة قبل القراءة لهذا السبب. وأقول: ههنا قول ثالث: وهو أن يقرأ الاستعاذة قبل القراءة بمقتضى الخبر، وبعدها بمقتضى القرآن، جمعاً بين الدليلين بقدر الإمكان.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
حكم الاستعاذة: المسألة الثانية: قال عطاء: الاستعاذة واجبة لكل قراءة، سواء كانت في الصلاة أو في غيرها، وقال ابن سيرين: إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب وقال الباقون: إنها غير واجبة. حجة الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة ولقائل أن يقول: إن ذلك الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة، فلا يلزم من عدم ذكر الاستعاذة فيه عدم وجوبها. واحتج عطاء على وجوب الاستعاذة بوجوه: الأول: أنه عليه السلام واظب عليه، فيكون واجباً لقوله تعالى: { وَٱتَّبِعُوهُ }. الثاني: أن قوله تعالى: { فَٱسْتَعِذْ } أمر، وهو للوجوب، ثم إنه يجب القول بوجوبه عند كل القراءات، لأنه تعالى قال: { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل، والحكم يتكرر لأجل تكرر العلة. الثالث: أنه تعالى أمر بالاستعاذة لدفع الشر من الشيطان الرجيم، لأن قوله:**{ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }** [النحل: 98] مشعر بذلك، ودفع شر الشيطان واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فوجب أن تكون الاستعاذة واجبة. الرابع: أن طريقة الاحتياط توجب الاستعاذة، فهذا ما لخصناه في هذه المسألة. التعوذ في الصلاة: المسألة الثالثة: التعوذ مستحب قبل القراءة عند الأكثرين، وقال مالك لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ في قيام شهر رمضان، لنا الآية التي تلوناها، والخبر الذي رويناه، وكلاهما يفيد الوجوب، فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندب. هل يسر بالتعوذ أو يجهر: المسألة الرابعة: قال الشافعي رضي الله عنه في «الأم»: روي أن عبد الله بن عمر لما قرأ أسر بالتعوذ وعن أبي هريرة أنه جهر به، ثم قال: فإن جهر به جاز، وإن أسر به أيضاً جاز وقال في «الإملاء»: ويجهر بالتعوذ، فإن أسر لم يضر، بين أن الجهر عنده أولى، وأقول: الاستعاذة إنما تقرأ بعد الافتتاح وقبل الفاتحة، فإن ألحقناها بما قبلها لزم الإسرار، وإن ألحقناها بالفاتحة لزم الجهر، إلا أن المشابهة بينها وبين الافتتاح أتم، لكون كل واحد منهما نافلة عند الفقهاء، ولأن الجهر كيفية وجودية والإخفاء عبارة عن عدم تلك الكيفية، والأصل هو العدم. هل يتعوذ في كل ركعة: المسألة الخامسة: قال الشافعي رضي الله عنه في «الأم»: قيل إنه يتعوذ في كل ركعة، ثم قال: والذي أقوله إنه لا يتعوذ إلا في الركعة الأولى، وأقول: له أن يحتج عليه بأن الأصل هو العدم، وما لأجله أمرنا بذكر الاستعاذة هو قوله:**{ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ }** [النحل:98] وكلمة إذا لا تفيد العموم، ولقائل أن يقول: قد ذكرنا أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على العلية، فيلزم أن يتكرر الحكم بتكرر العلة، والله أعلم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
صيغ الاستعاذة: المسألة السادسة: أنه تعالى قال في سورة النحل:**{ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }** [النحل: 98] وقال في سورة أخرى**{ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }** [الدخان:6] وفي سورة ثالثة**{ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }** [الأعراف: 200] فلهذا السبب اختلف العلماء فقال الشافعي: واجب أن يقول، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو قول أبي حنيفة، قالوا: لأن هذا النظم موافق لقوله تعالى:**{ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }** [النحل: 98] وموافق أيضاً لظاهر الخبر الذي رويناه عن جبير بن مطعم، وقال أحمد: الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم جمعاً بين الآيتين، وقال بعض أصحابنا، الأولى أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، لأن هذا أيضاً جمع بين الآيتين، وروى البيهقي في «كتاب السنن» بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر ثلاثاً وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقال الثوري والأوزاعي: الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، وروى الضحاك عن ابن عباس أن أول ما نزل جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام قال: قل يا محمد: أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ }** [العلق: 1]. وبالجملة فالاستعاذة تطهر القلب عن كل ما يكون مانعاً من الاستغراق في الله، والتسمية توجه القلب إلى هيبة جلال الله والله الهادي. هل التعوذ للقراءة أو للصلاة: المسألة السابعة: التعوذ في الصلاة لأجل القراءة أم لأجل الصلاة؟ عند أبي حنيفة ومحمد أنه لأجل القراءة، وعند أبي يوسف أنه لأجل الصلاة، ويتفرع على هذا الأصل فرعان: الفرع الأول: أن المؤتم هل يتعوذ خلف الإمام أم لا؟ عندهما لا يتعوذ، لأنه لا يقرأ، وعنده يتعوذ، وجه قولهما قوله تعالى:**{ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }** [النحل: 98] علق الاستعاذة على القراءة، ولا قراءة على المقتدي، فلا يتعوذ، ووجه قول أبي يوسف أن التعوذ لو كان للقراءة لكان يتكرر بتكرر القراءة، ولما لم يكن كذلك بل كرر بتكرر الصلاة دل على أنها للصلاة لا للقراءة، الفرع الثاني: إذا افتتح صلاة العيد فقال: سبحانك اللهم وبحمدك هل يقول: أعوذ بالله ثم يكبر أم لا؟ عندهما أنه يكبر التكبيرات ثم يتعوذ عند القراءة وعند أبي يوسف يقدم التعوذ على التكبيرات. وبقي من مسائل الفاتحة أشياء نذكرها ههنا: ـ السنة في القراءة: المسألة الثامنة: السنة أن يقرأ القرآن على الترتيل، لقوله تعالى:**{ وَرَتّلِ ٱلْقُرْءانَ تَرْتِيلاً }** [المزمل: 4] والترتيل هو أن يذكر الحروف والكلمات مبينة ظاهرة، والفائدة فيه أنه إذا وقعت القراءة على هذا الوجه فهم من نفسه معاني تلك الألفاظ، وأفهم غيره تلك المعاني، وإذا قرأها بالسرعة لم يفهم ولم يفهم، فكان الترتيل أولى، فقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" يقال لصاحب القرآن إقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا "** قال أبو سليمان الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة، يقال للقارىء: إقرأ وارق في الدرج على عدد ما كنت تقرأ من القرآن، فمن استوفى قراءة جميع آي القرآن استولى على أقصى الجنة. المسألة التاسعة: إذا قرأ القرآن جهراً فالسنة أن يجيد في القراءة، روى أبو داود عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" زينوا القرآن بأصواتكم "** المسألة العاشرة: المختار عندنا أن اشتباه الضاد بالظاء لا يبطل الصلاة، ويدل على أن المشابهة حاصلة بينهما جداً والتمييز عسر، فوجب أن يسقط التكليف بالفرق، بيان المشابهة من وجوه: الأول: أنهما من الحروف المجهورة، والثاني: أنهما من الحروف الرخوة، والثالث: أنهما من الحروف المطبقة، والرابع: أن الظاء وإن كان مخرجه من بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ومخرج الضاد من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس إلا أنه حصل في الضاد انبساط لأجل رخاوتها وبهذا السبب يقرب مخرجه من مخرج الظاء، والخامس: أن النطق بحرف الضاد مخصوص بالعرب قال عليه الصلاة والسلام: **" أنا أفصح من نطق بالضاد "** فثبت بما ذكرنا أن المشابهة بين الضاد والظاء شديدة وأن التمييز عسر، وإذا ثبت هذا فنقول: لو كان هذا الفرق معتبراً لوقع السؤال عنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أزمنة الصحابة، لا سيما عند دخول العجم في الإسلام، فلما لم ينقل وقوع السؤال عن هذه المسألة البتة علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين ليس في محل التكليف. المسألة الحادية عشرة: اختلفوا في أن اللام المغلظة هل هي من اللغات الفصيحة أم لا؟ وبتقدير أن يثبت كونها من اللغات الفصيحة لكنهم اتفقوا على أنه لا يجوز تغليظها حال كونها مكسورة لأن الانتقال من الكسرة إلى التلفظ باللام المغلظة ثقيل على اللسان، فوجب نفيه عن هذه اللغة. لا تجوز الصلاة بالشاذة: المسألة الثانية عشرة: اتفقوا على أنه لا يجوز في الصلاة قراءة القرآن بالوجوه الشاذة مثل قولهم «الحمدِ لله» بكسر الدال من الحمد أو بضم اللام من لله، لأن الدليل ينفي جواز القراءة بها مطلقاً، لأنها لو كانت من القرآن لوجب بلوغها في الشهرة إلى حد التواتر، ولما لم يكن كذلك علمنا أنها ليست من القرآن، إلا أنا عدلنا عن هذا الدليل في جواز القراءة خارج الصلاة فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على أصل المنع.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الثالثة عشرة: اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالنقل المتواتر وفيه إشكال: وذلك لأنا نقول: هذه القراءات المشهورة إما أن تكون منقولة بالنقل المتواتر أو لا تكون، فإن كان الأول فحينئذٍ قد ثبت بالنقل المتواتر أن الله تعالى قد خير المكلفين بين هذه القراءات وسوى بينها في الجواز، وإذا كان كذلك كان ترجيح بعضها على البعض واقعاً على خلاف الحكم الثابت بالتواتر، فوجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض على البعض مستوجبين للتفسيق إن لم يلزمهم التكفير، لكنا نرى أن كل واحد من هؤلاء القراء يختص بنوع معين من القراءة، ويحمل الناس عليها ويمنعهم من غيرها، فوجب أن يلزم في حقهم ما ذكرناه، وأما إن قلنا إن هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر بل بطريق الآحاد فحينئذٍ يخرج القرآن عن كونه مفيداً للجزم والقطع واليقين، وذلك باطل بالإجماع، ولقائل أن يجيب عنه فيقول: بعضها متواتر، ولا خلاف بين الأمة فيه، وتجويز القراءة بكل واحد منها، وبعضها من باب الآحاد وكون بعض القراءات من باب الآحاد لا يقتضي خروج القرآن بكليته عن كونه قطعياً، والله أعلم. الباب الثاني في المباحث العقلية المستنبطة من قولنا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم اعلم أن الكلام في هذا الباب يتعلق بأركان خمسة: الاستعاذة، والمستعيذ، والمستعاذ به، والمستعاذ منه، والشيء الذي لأجله تحصل الاستعاذة. الركن الأول: في الاستعاذة، وفيه مسائل: ـ تفسير الاستعاذة: المسألة الأولى: في تفسير قولنا: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» بحسب اللغة فنقول: قوله: «أعوذ» مشتق من العوذ، وله معنيان: أحدهما: الالتجاء والاستجارة، والثاني: الالتصاق يقال: «أطيب اللحم عوذه» وهو ما التصق منه بالعظم، فعلى الوجه الأول معنى قوله أعوذ بالله أي: ألتجىء إلى رحمة الله تعالى وعصمته، وعلى الوجه الثاني معناه التصق نفسي بفضل الله وبرحمته. وأما الشيطان ففيه قولان: الأول: أنه مشتق من الشطن، وهو البعد، يقال: شطن دارك أي بعد، فلا جرم سمي كل متمرد من جن وإنس ودابة شيطاناً لبعده من الرشاد والسداد، قال الله تعالى:**{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنّ }** [الأنعام: 112] فجعل من الإنس شياطين، وركب عمر برذوناً فطفق يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبختراً فنزل عنه وقال: ما حملتموني إلا على شيطان. والقول الثاني: أن الشيطان مأخوذ من قوله شاط يشيط إذا بطل، ولما كان كل متمرد كالباطل في نفسه بسبب كونه مبطلاً لوجوه مصالح نفسه سمي شيطاناً. وأما الرجيم فمعناه المرجوم، فهو فعيل بمعنى مفعول. كقولهم: كف خضيب أي مخضوب ورجل لعين، أي ملعون، ثم في كونه مرجوماً وجهان: الأول: أن كونه مرجوماً كونه ملعوناً من قبل الله تعالى، قال الله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ }** [الحجر: 34] واللعن يسمى رجماً، وحكى الله تعالى عن والد إبراهيم عليه السلام أنه قال له:**{ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ }** [مريم: 46] قيل عنى به الرجم بالقول، وحكى الله تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا:**{ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُرْجُومِينَ }** [الشعراء: 116] وفي سورة يۤس**{ لئن لم تنتهوا لنرجمنكم }** [يس: 18] والوجه الثاني: أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجوماً لأنه تعالى أمر الملائكة برمي الشياطين بالشهب والثواقب طرداً لهم من السموات، ثم وصف بذلك كل شرير متمرد. وأما قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } ففيه وجهان: الأول: أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ومعلوم أن الوسوسة كأنها حروف خفية في قلب الإنسان، ولا يطلع عليها أحد، فكأن العبد يقول: يا من هو على هذه الصفة التي يسمع بها كل مسموع، ويعلم كل سر خفي أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها، وأنت القادر على دفعها عني، فادفعها عني بفضلك، فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار،: الثاني: أنه إنما تعين هذا الذكر بهذا الموضع اقتداء بلفظ القرآن، وهو قوله تعالى:**{ وإَمَّا ينزغنك مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }** [الأعراف: 200] وقال في حم السجدة:**{ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }** [فصلت: 36]. المسألة الثانية: في البحث العقلي عن ماهية الاستعاذة: اعلم أن الاستعاذة لا تتم إلا بعلم وحال وعمل، أما العلم فهو كون العبد عالماً بكونه عاجزاً عن جلب المنافع الدينية والدنيوية وعن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية، وأن الله تعالى قادر على إيجاد جميع المنافع الدينية والدنيوية وعلى دفع جميع المضار الدينية والدنيوية قدرة لا يقدر أحد سواه على دفعها عنه. فإذا حصل هذا العلم في القلب تولد عن هذا العلم حصول حالة في القلب، وهي انكسار وتواضع ويعبر عن تلك الحالة بالتضرع إلى الله تعالى والخضوع له، ثم إن حصول تلك الحالة في القلب يوجب حصول صفة أخرى في القلب وصفة في اللسان، أما الصفة الحاصلة في القلب فهي أن يصير العبد مريداً لأن يصونه الله تعالى عن الآفات ويخصه بإفاضة الخيرات والحسنات وأما الصفة التي في اللسان فهي أن يصير العبد طالباً لهذا المعنى بلسانه من الله تعالى، وذلك الطلب هو الاستعاذة، وهو قوله: «أعوذ بالله» إذا عرفت ما ذكرنا يظهر لك أن الركن الأعظم في الاستعاذة هو علمه بالله، وعلمه بنفسه، أما علمه بالله فهو أن يعلم كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع المعلومات، فإنه لو لم يكن الأمر كذلك لجاز أن لا يكون الله عالماً به ولا بأحواله، فعلى هذا التقدير تكون الاستعاذة به عبثاً، ولا بدّ وأن يعلم كونه قادراً على جميع الممكنات وإلا فربما كان عاجزاً عن تحصيل مراد البعد، ولا بدّ أن يعلم أيضاً كونه جواداً مطلقاً، إذ لو كان البخل عليه جائزاً لما كان في الاستعاذة فائدة، ولا بدّ أيضاً وأن يعلم أنه لا يقدر أحد سوى الله تعالى على أن يعينه على مقاصده، إذ لو جاز أن يكون غير الله يعينه على مقاصده لم تكن الرغبة قوية في الاستعاذة بالله، وذلك لا يتم إلا بالتوحيد المطلق وأعني بالتوحيد المطلق أن يعلم أن مدبر العالم واحد، وأن يعلم أيضاً أن العبد غير مستقل بأفعال نفسه، إذ لو كان مستقلاً بأفعال نفسه لم يكن في الاستعاذة بالغير فائدة، فثبت بما ذكرنا أن العبد ما لم يعرف عزة الربوبية وذلة العبودية لا يصح منه أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن الناس من يقول: لا حاجة في هذا الذكر إلى العلم بهذه المقدمات، بل الإنسان إذا جوز كون الأمر كذلك حسن منه أن يقول: أعوذ بالله على سبيل الإجمال، وهذا ضعيف جداً لأن إبراهيم عليه السلام عاب أباه في قوله:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً }** [مريم: 42] فبتقدير أن لا يكون الإله عالماً بكل المعلومات قادراً على جميع المقدورات كان سؤاله سؤالاً لمن لا يسمع ولا يبصر، وكان داخلاً تحت ما جعله إبراهيم عليه السلام عيباً على أبيه، وأما علم العبد بحال نفسه فلا بدّ وأن يعلم عجزه وقصوره عن رعاية مصالح نفسه على سبيل التمام، وأن يعلم أيضاً أنه بتقدير أن يعلم تلك المصالح بحسب الكيفية والكمية لكنه لا يمكنه تحصيلها عند عدمها ولا إبقاؤها عند وجودها، إذا عرفت هذا فنقول: إنه إذا حصلت هذه العلوم في قلب العبد وصار مشاهداً لها متيقناً فيها وجب أن يحصل في قلبه تلك الجالة المسماة بالانكسار والخضوع، وحينئذٍ يحصل في قلبه الطلب، وفي لسانه اللفظ الدال على ذلك الطلب، وذلك هو قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والذي يدل على كون الإنسان عاجزاً عن تحصيل مصالح نفسه في الدنيا والآخرة أن الصادر عن الإنسان إما العمل وإما العلم، وهو في كلا البابين في الحقيقة في غاية العجز، أما العلم فما أشد الحاجة في تحصيله إلى الاستعاذة بالله، وفي الاحتراز عن حصول ضده إلى الاستعاذة بالله ويدل عليه وجوه: ـ الحجة الأولى: أنا كم رأينا من الأكياس المحققين بقوا في شبهة واحدة طول عمرهم، ولم يعرفوا الجواب عنها، بل أصروا عليها وظنوها علماً يقينياً وبرهاناً جلياً، ثم بعد انقضاء أعمارهم جاء بعدهم من تنبه لوجه الغلط فيها وأظهر للناس وجه فسادها، وإذا جاز ذلك على بعض الناس جاز على الكل مثله، ولولا هذا السبب لما وقع بين أهل العلم اختلاف في الأديان والمذاهب، وإذا كان الأمر كذلك فلولا إعانة الله وفضله وإرشاده وإلا فمن ذا الذي يتخلص بسفينة فكره من أمواج الضلالات ودياجي الظلمات؟.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحجة الثانية: أن كل أحد إنما يقصد أن يحصل له الدين الحق والاعتقاد الصحيح، وإن أحداً لا يرضى لنفسه بالجهل والكفر، فلو كان الأمر بحسب سعيه وإرادته لوجب كون الكل محقين صادقين، وحيث لم يكن الأمر كذلك بل نجد المحقين في جنب المبطلين كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود علمنا أنه لا خلاص من ظلمات الضلالات إلا بإعانة إله الأرض والسموات. الحجة الثالثة: أن القضية التي توقف الإنسان في صحتها وفسادها فإنه لا سبيل له إلى الجزم بها إلا إذا دخل فيما بينهما الحد الأوسط فنقول: ذلك الحد الأوسط إن كان حاضراً في عقله كان القياس منعقداً والنتيجة لازمة. فحينئذٍ لا يكون العقل متوقفاً في تلك القضية بل يكون جازماً بها، وقد فرضناه متوقفاً فيها، هذا خلف، وأما إن قلنا إن ذلك الحد الأوسط غير حاضر في عقله فهل يمكنه طلبه؟ أو لا يمكنه طلبه، والأول باطل، لأنه إن كان لا يعرفه بعينه فكيف يطلبه؟ لأن طلب الشيء بعينه إنما يمكن بعد الشعور به، وإن كان يعرفه بعينه فالعلم به حاضر في ذهنه فكيف يطلب تحصيل الحاصل؟ وأما إن كان لا يمكنه طلبه فحينئذٍ يكون عاجزاً عن تحصيل الطريق الذي يتخلص به من ذلك التوقف ويخرج من ظلمة تلك الحيرة، وهذا يدل على كون العبد في غاية الحيرة والدهشة. الحجة الرابعة: أنه تعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام:**{ وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ }** [المؤمنون: 97] فهذه الاستعاذة مطلقة غير مقيدة بحالة مخصوصة، فهذا بيان كمال عجز العبد عن تحصيل العقائد والعلوم، وأما عجز العبد عن الأعمال الظاهرة التي يجر بها النفع إلى نفسه ويدفع بها الضرر عن نفسه فهذا أيضاً كذلك ويدل عليه وجوه: الأول: أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن هذا البدن يشبه الجحيم وانكشف لهم أنه جلس على باب هذا الجحيم تسعة عشر نوعاً من الزبانية، وهي الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة، والشهوة، والغضب، والقوى الطبيعية السبع، وكل واحد من هذه التسعة عشر فهو واحد بحسب الجنس، إلا أنه يدخل تحت كل واحد منها أعداد لا نهاية لها بحسب الشخص والعدد، واعتبر ذلك بالقوة الباصرة، فإن الأشياء التي تقوي القوة الباصرة على إدراكها أمور غير متناهية، ويحصل من إبصار كل واحد منها أثر خاص في القلب، وذلك الأثر يجر القلب من أوج عالم الروحانيات إلى حضيض عالم الجسمانيات، وإذا عرفت هذا ظهر أن مع كثرة هذه العوائق والعلائق أنه لا خلاص للقلب من هذه الظلمات إلا بإعانة الله تعالى وإغاثته، ولما ثبت أنه لا نهاية لجهات نقصانات العبد ولا نهاية لكمال رحمة الله وقدرته وحكمته ثبت أن الاستعاذة بالله واجبة في كل الأوقات فلهذا السبب يجب علينا في أول كل قول وعمل ومبدأ كل لفظة ولحظة أن نقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحجة الخامسة: أن اللذات الحاصلة في هذه الحياة العاجلة قسمان: أحدهما: اللذات الحسية. والثاني: اللذات الخيالية. وهي لذة الرياسة، وفي كل واحد من هذين القسمين الإنسان إذا لم يمكن يمارس تحصيل تلك اللذات ولم يزاولها لم يكن له شعور بها، وإذ كان عديم الشعور بها كان قليل الرغبة فيها، ثم إذا مارسها ووقف عليها التذ بها، وإذا حصل الألتذاذ بها قويت رغبته فيها، وكلما اجتهد الإنسان حتى وصل إلى مقام آخر في تحصيل اللذات والطيبات وصل في شدة الرغبة وقوة الحرص إلى مقام آخر أعلى مما كان قبل ذلك، فالحاصل أن الإنسان كلما كان أكثر فوزاً بالمطالب كان أعظم حرصاً وأشد رغبة في تحصيل الزائد عليها، وإذا كان لا نهاية لمراتب الكمالات فكذلك لا نهاية لدرجات الحرص، وكما أنه لا يمكن تحصيل الكمالات التي لا نهاية لها فكذلك لا يمكن إزالة ألم الشوق والحرص عن القلب، فثبت أن هذا مرض لا قدرة للعبد على علاجه، ووجب الرجوع فيه إلى الرحيم الكريم الناصر لعباده فيقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. الحجة السادسة: في تقرير ما ذكرناه قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وقوله:**{ وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ }** [البقرة: 45] وقول موسى لقومه**{ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱلارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }** [الأعراف: 128] وفي بعض الكتب الآلهية إن الله تعالى يقول: «وعزتي وجلالي، لأقطعن أمل كل مؤمل غيري باليأس، ولألبسنه ثوب المذلة عند الناس، ولأخيبنه من قربي، ولأبعدنه من وصلي، ولأجعلنه متفكراً حيران يؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجو غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني». مذهب الجبرية في الاستعاذة: المسألة الثالثة: في أن الاستعاذة كيف تصح على مذهب أهل الجبر ومذهب القدرية قالت المعتزلة: قوله: أعوذ بالله يبطل القول بالجبر من وجوه: ـ الأول: أن قوله: أعوذ بالله اعتراف بكون العبد فاعلاً لتلك الاستعاذة، ولو كان خالق الأعمال هو الله تعالى لامتنع كون العبد فاعلاً لأن تحصيل الحاصل محال، وأيضاً فإذا خلقه الله في العبد امتنع دفعه، وإذا لم يخلقه الله فيه امتنع تحصيله. فثبت أن قوله: أعوذ بالله اعتراف بكون العبد موجداً لأفعال نفسه. والثاني: أن الاستعاذة إنما تحسن من الله تعالى إذا لم يكن الله تعالى خالقاً للأمور التي منها يستعاذ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
أما إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى امتنع أن يستعاذ بالله منها لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد استعاذ بالله من الله في عين ما يفعله الله. والثالث: أن الاستعاذة بالله من المعاصي، تدل على أن العبد غير راضٍ بها، ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق الله تعالى وقضائه وحكمه وجب على العبد كونه راضياً بها لما ثبت بالإجماع / أن الرضا بقضاء الله واجب. والرابع: أن الاستعاذة بالله من الشيطان إنما تعقل وتحسن لو كانت تلك الوسوسة فعلاً للشيطان، أما إذا كانت فعلاً لله ولم يكن للشيطان في وجودها أثر البتة فكيف يستعاذ من شر الشيطان، بل الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شر الله تعالى، لأنه لا شر إلا من قبله. الخامس: أن الشيطان يقول إذا كنت ما فعلت شيئاً أصلاً وأنت يا إله الخلق علمت صدور الوسوسة عني ولا قدرة لي على مخالفة قدرتك وحكمت بها عليّ ولا قدر لي على مخالفة حكمك ثم قلت:**{ لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }** [البقرة: 286] وقلت:**{ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ }** [البقرة: 185] وقلت:**{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ }** [الحج: 78] فمع هذه الأعذار الظاهرة والأسباب القوية كيف يجوز في حكمتك ورحمتك أن تذمني وتلعنني؟. السادس: جعلتني مرجوماً ملعوناً بسبب جرم صدر مني أو لا بسبب جرم صدر مني؟ فإن كان الأول فقد بطل الجبر، وإن كان الثاني فهذا محض الظلم، وأنت قلت:**{ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ }** [غافر: 31] فكيف يليق هذا بك؟. فإن قال قائل: هذه لإشكالات إنما تلزم على قول من يقول بالجبر، وأنا لا أقول بالجبر، ولا بالقدر، بل أقول: الحق حالة متوسطة بين الجبر والقدر، وهو الكسب. فنقول: هذا ضعيف، لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل على سبيل الاستقلال أو لا يكون، فإن كان الأول فهو تمام القول بالاعتزال، وإن كان الثاني فهو الجبر المحض، والسؤالات المذكورة واردة على هذا القول، فكيف يعقل حصول الواسطة. قال أهل السنّة والجماعة أما الإشكالات التي ألزمتموها علينا فهي بأسرها واردة عليكم من وجهين: ـ الأول: أن قدرة العبد إما أن تكون معينة لأحد الطرفين، أو كانت صالحة للطرفين معاً، فإن كان الأول فالجبر لازم، وإن كان الثاني فرجحان أحد الطرفين على الآخر إما أن يتوقف على المرجح، أو لا يتوقف فإن كان الأول ففاعل ذلك المرجح إن كان هو العبد عاد التقسيم الأول فيه، وإن كان هو الله تعالى فعندما يفعل ذلك المرجح يصير الفعل واجب الوقوع، وعندما لا يفعله يصير الفعل ممتنع الوقوع، وحينئذٍ يلزمكم كل ما ذكرتموه، وأما الثاني: وهو أن يقال: إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يتوقف على مرجح فهذا باطل لوجهين: الأول: أنه لو جاز ذلك لبطل الاستدلال بترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر على وجود المرجح، والثاني: أن على هذا التقدير يكون ذلك الرجحان واقعاً على سبيل الاتفاق، ولا يكون صادراً عن العبد، وإذا كان الأمر كذلك فقد عاد الجبر المحض، فثبت بهذا البيان أن كل ما أوردتموه علينا فهو وارد عليكم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الوجه الثاني في السؤال: أنكم سلمتم كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، ووقوع الشي على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلاً، وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال، فكان كل ما أوردتموه علينا في القضاء والقدر لازماً عليكم في العلم لزوماً لا جواب عنه. الاستعاذة تبطل قول القدرية: ثم قال أهل السنّة والجماعة قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يبطل القول بالقدر من وجوه: ـ الأول: أن المطلوب من قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إما أن يكون هو أن يمنع الله الشيطان من عمل الوسوسة منعاً بالنهي والتحذير، أو على سبيل القهر والجبر، أما الأول فقد فعله، ولما فعله كان طلبه من الله محالاً، لأن تحصيل الحاصل محال، وأما الثاني فهو غير جائز لأن الإلجاء ينافي كون الشياطين مكلفين، وقد ثبت كونهم مكلفين، أجابت المعتزلة عنه فقالوا: المطلوب بالاستعاذة فعل الألطاف التي تدعو المكلف إلى فعل الحسن وترك القبيح، لا يقال: فتلك الألطاف فعل الله بأسرها فما الفائدة في الطلب، لأنا نقول: إن من الألطاف ما لا يحسن فعله إلا عند هذا الدعاء، فلو لم يتقدم هذا الدعاء لم يحسن فعله. أجاب أهل السنّة عن هذا السؤال بأن فعل تلك الألطاف إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، أو لا أثر فيه، فإن كان الأول فعند حصول الترجيح يصير الفعل واجب الوقوع، والدليل عليه أن عند حصول رجحان جانب الوجود لو حصل العدم فحينئذٍ يلزم أن يحصل عند رجحان جانب الوجود رجحان جانب العدم، وهو جمع بين النقيضين، وهو محال، فثبت أن عند حصول الرجحان يحصل الوجوب. وذلك يبطل القول بالاعتزال، وأما أن لم يحصل بحسب فعل تلك الألطاف رجحان طرف الوجود لم يكن لفعلها ألبتة أثر، فيكون فعلها عبثاً محضاً. وذلك في حق الله تعالى محال. الوجه الثاني: أن يقال: إن الله تعالى إما أن يكون مريداً لصلاح حال العبد، أو لا يكون، فإن كان الحق هو الأول فالشيطان إما أن يتوقع منه إفساد العبد، أو لا يتوقع، فإن توقع منه إفساد العبد مع أن الله تعالى مريد إصلاح حال العبد فلم خلقه ولم سلطه على العبد؟ وأما إن كان لا يتوقع من الشيطان إفساد العبد فأي حاجة للعبد إلى الاستعاذة منه؟ وأما إذا قيل: إن الله تعالى لا يريد ما هو صلاح حال العبد فالاستعاذة بالله كيف تفيد الاعتصام من شر الشيطان.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الوجه الثالث: أن الشيطان إما أن يكون مجبوراً على فعل الشر، أو يكون قادراً على فعل الشر والخير معاً، فإن كان الأول فقد أجبره الله على الشر، وذلك يقدح في قولهم: إنه تعالى لا يريد إلا الصلاح والخير، وإن كان الثاني ـ وهو أنه قادر على فعل الشر والخير ـ فهنا يمتنع أن يترجح فعل الخير على فعل الشر إلا بمرجح، وذلك المرجح يكون من الله تعالى، وإذا كان كذلك فأي فائدة في الاستعاذة. الوجه الرابع: هب أن البشر إنما وقعوا في المعاصي بسبب وسوسة الشيطان، فالشيطان كيف وقع في المعاصي؟ فإن قلنا إنه وقع فيها بوسوسة شيطان آخر لزم التسلسل، وإن قلنا وقع الشيطان في المعاصي لا لأجل شيطان آخر فلم لا يجوز مثله في البشر؟ وعلى هذا التقدير فلا فائدة في الاستعاذة من الشيطان، وإن قلنا إنه تعالى سلط الشيطان على البشر ولم يسلط على الشيطان شيطاناً آخر فهذا حيف على البشر، وتخصيص له بمزيد الثقل والأَضرار وذلك ينافي كون الإله رحيماً ناصر لعباده. الوجه الخامس: أن الفعل المستعاذ منه إن كان معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع، فلا فائدة في الاستعاذة منه. وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع، فلا فائدة في الاستعاذة منه. واعلم أن هذه المناظرة تدل على أنه لا حقيقة لقوله: أعوذ بالله إلا أن ينكشف للعبد أن الكل من الله وبالله، وحاصل الكلام فيه ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: **" أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من غضبك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "** المستعاذ به: الركن الثاني المستعاذ به: واعلم أن هذا ورد في القرآن والأخبار على وجهين: أحدهما: أن يقال: أعوذ بالله والثاني: أن يقال: أعوذ بكلمات الله أما قوله أعوذ بالله فبيانه إنما يتم بالبحث عن لفظة الله وسيأتي ذلك في تفسير بسم الله وأما قوله: أعوذ بكلمات الله التامات فاعلم أن المراد بكلمات الله هو قوله تعالى:**{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }** [النحل: 40] والمراد من قوله «كن» نفاذ قدرته في الممكنات، وسريان مشيئته في الكائنات، بحيث يمتنع أن يعرض له عائق ومانع، ولا شك أنه لا تحسن الاستعاذة بالله إلا لكونه موصوفاً بتلك القدرة القاهرة والمشيئة النافذة، وأيضاً فالجسمانيات لا يكون حدوثها إلا على سبيل الحركة، والخروج من القوة إلى الفعل يسيراً يسيراً، وأما الروحانيات فإنما يحصل تكونها وخروجها إلى الفعل دفعة، ومتى كان الأمر كذلك كان حدوثها شبيهاً بحدوث الحرف الذي لا يوجد إلا في الآن الذي لا ينقسم، فلهذه المشابهة سميت نفاذ قدرته بالكلمة، وأيضاً ثبت في علم المعقولات أن عالم الأرواح مستولٍ على عالم الأجسام، وإنما هي المدبرات لأمور هذا العالم كما قال تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ فَٱلْمُدَبّرٰتِ أَمْراً }** [النازعات: 5] فقوله: أعوذ بكلمات الله التامات استعاذة من الأرواح البشرية بالأرواح العالية المقدسة الطاهرة الطيبة في دفع شرور الأرواح الخبيثة الظلمانية الكدرة، فالمراد بكلمات الله التامات تلك الأرواح العالية الطاهرة. ثم ههنا دقيقة، وهي أن قوله: أعوذ بكلمات الله التامات إنما يحسن ذكره إذا كان قد بقي في نظره التفات إلى غير الله، وأما إذا تغلغل في بحر التوحيد، وتوغل في قعر الحقائق وصار بحيث لا يرى في الوجود أحداً إلا الله تعالى لم يستعذ إلا بالله، ولم يلتجىء إلا إلى الله، ولم يعول إلا على الله، فلا جرم يقول: أعوذ بالله و أعوذ من الله بالله كما قال عليه السلام **" وأعوذ بك منك "** واعلم أن في هذا المقام يكون العبد مشتغلاً أيضاً بغير الله لأن الاستعاذة لا بدّ وأن تكون لطلب أو لهرب، وذلك اشتغال بغير الله تعالى، فإذا ترقى العبد عن هذا المقام وفني عن نفسه وفني أيضاً عن فنائه عن نفسه فههنا يترقى عن مقام قوله أعوذ بالله ويصير مستغرقاً في نور قوله: بسم الله ألا ترى أنه عليه السلام لما قال: **" وأعوذ بك منك "** ترقى عن هذا المقام فقال: **" أنت كما أثنيت على نفسك "** المستعيذ: الركن الثالث من أركان هذا الباب: المستعيذ: واعلم أن قوله أعوذ بالله أمر منه لعباده أن يقولوا ذلك، وهذا غير مختص بشخص معين، فهو أمر على سبيل العموم لأنه تعالى حكى ذلك عن الأنبياء والأولياء، وذلك يدل على أن كل مخلوق يجب أن يكون مستعيذاً بالله، فالأول: أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال:**{ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ }** [هود: 47] فعند هذا أعطاه الله خلعتين، والسلام والبركات، وهو قوله تعالى:**{ قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلَـٰمٍ مّنَّا وَبَركَـٰتٍ عَلَيْكَ }** [هود: 48] والثاني: حكي عن يوسف عليه السلام أن المرأة لما راودته قال:**{ مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ }** [يوسف: 23] فأعطاه الله تعالى خلعتين صرف السوء والفحشاء حيث قال:**{ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوء وَٱلْفَحْشَاء }** [يوسف: 24] والثالث: قيل له:**{ خُذِ أَحَدَنَا مَكَانَهُ }** [يوسف: 78] فقال:**{ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَـٰعَنَا عِندَهُ }** [يوسف: 79] فأكرمه الله تعالى بقوله:**{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا }** [يوسف: 100] الرابع: حكى الله عن موسى عليه السلام أنه لما أمر قومه بذبح البقرة / قال قومه:**{ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[البقرة: 67] فأعطاه الله خلعتين إزالة التهمة وإحياء القتيل فقال:**{ فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذٰلِكَ يُحْىِ ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَـٰتِهِ }** [البقرة: 73] الخامس: أن القوم لما خوفوه بالقتل قال:**{ وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ }** [الدخان: 20] وقال في آية أخرى:**{ إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُـمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ }** [غافر: 27] فأعطاه الله تعالى مراده فأفنى عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم، والسادس: أن أم مريم قالت:**{ وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }** [آل عمران: 36] فوجدت الخلعة والقبول وهو قوله:**{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا }** [آل عمران: 37] والسابع: أن مريم عليها السلام لما رأت جبريل في صورة بشر يقصدها في الخلوة قالت:**{ إِنّى أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً }** [مريم: 18] فوجدت نعمتين ولداً من غير أب وتنزيه الله إياها بلسان ذلك الولد عن السوء وهو قوله:**{ إِنّى عَبْدُ ٱللَّهِ }** [مريم: 30] الثامن: أن الله تعالى أمر محمداً عليه الصلاة والسلام بالاستعاذة مرة بعد أخرى فقال:**{ وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ }** [المؤمنون: 97، 98] وقال:**{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلْفَلَقِ }** [الفلق:1] و**{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلنَّاسِ }** [الناس:1] والتاسع: قال في سورة الأعراف**{ خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرف وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ من ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }** [الأعراف: 199، 200] وقال في حۤم السجدة:**{ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ }** [فصلت: 34] إلى أن قال:**{ وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }** [فصلت: 36] فهذه الآيات دالة على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا أبداً في الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن. وأما الأخبار فكثيرة: الخبر الأول: عن معاذ بن جبل قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم وأغرقا فيه: فقال عليه السلام: **" إني لأعلم كلمة لو قالاها لذهب عنهما ذلك، وهي قوله: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "** وأقول هذا المعنى مقرر في العقل من وجوه: الأول: أن الإنسان يعلم أن علمه بمصالح هذا العالم ومفاسده قليل جداً، وأنه إنما يمكنه أن يعرف ذلك القليل بمدد العقل، وعند الغضب يزول العقل، فكل ما يفعله ويقوله لم يكن على القانون الجيد، فإذا استحضر في عقله هذا صار هذا المعنى مانعاً له عن الإقدام على تلك الأفعال وتلك الأقوال، وحاملاً له على أن يرجع إلى الله تعالى في تحصيل الخيرات ودفع الآفات، فلا جرم يقول أعوذ بالله. الثاني: أن الإنسان غير عالم قطعاً بأن الحق من جانبه ولا من جانب بخصمه، فإذا علم ذلك يقول: أفوض هذه الواقعة إلى الله تعالى، فإذا كان الحق من جانبي فالله يستوفيه من خصمي، وإن كان الحق من جانب خصمي فالأولى أن لا أظلمه» وعند هذا يفوض تلك الحكومة إلى الله ويقول أعوذ بالله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثالث: أن الإنسان إنما يغضب إذا أحس من نفسه بفرط قوة وشدة بواسطتها يقوى على قهر الخصم، فإذا استحضر في عقله أن إله العالم أقوى وأقدر مني ثم إني عصيته مرات وكرات وأنه بفضله تجاوز عني فالأولى لي أن أتجاوز عن هذا المغضوب عليه، فإذا أحضر في عقله هذا المعنى ترك الخصومة والمنازعة وقال: أعوذ بالله، وكل هذه المعاني مستنبطة من قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }** [الأعراف: 201] والمعنى أنه إذا تذكر هذه الأسرار والمعاني أبصر طريق الرشد فترك النزاع والدفاع ورضي بقضاء الله تعالى. والخبر الثاني: وروى معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة "** قلت: وتقريره من جانب العقل أن قوله: أعوذ بالله مشاهدة لكمال عجز النفس وغاية قصورها، والآيات الثلاث من آخر سورة الحشر مشاهدة لكمال الله وجلاله وعظمته، وكمال الحال في مقام العبودية لا يحصل إلا بهذين المقامين. الخبر الثالث: روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" من استعاذ في اليوم عشر مرات وكل الله تعالى به ملكاً يذود عنه الشيطان "** قلت: والسبب فيه أنه لما قال: أعوذ بالله وعرف معناه عرف منه نقصان قدرته ونقصان علمه، وإذا عرف ذلك من نفسه لم يلتفت إلى ما تأمره به النفس، ولم يقدم على الأعمال التي تدعوه نفسه إليها، والشيطان الأكبر هو النفس، فثبت أن قراءة هذه الكلمة تذود الشيطان عن الإنسان. والخبر الرابع: عن خولة بنت حكيم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: **" من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من ذلك المنزل "** قلت: والسبب فيه أنه ثبت في العلوم العقلية أن كثرة الأشخاص الروحانية فوق كثرة الأشخاص الجسمانية، وأن السموات مملوءة من الأرواح الطاهرة، كما قال عليه الصلاة والسلام **" أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو قاعد "** وكذلك الأثير والهواء مملوءة من الأرواح، وبعضها طاهرة مشرقة خيرة، وبعضها كدرة مؤذية شريرة، فإذا قال الرجل: أعوذ بكلمات الله التامات فقد استعاذ بتلك الأرواح الطاهرة من شر تلك الأرواح الخبيثة، وأيضاً كلمات الله هي قوله: «كن» وهي عبارة عن القدرة النافذة ومن استعاذ بقدرة الله لم يضره شيء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والخبر الخامس: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" إذا فزع أحدكم من النوم فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن شر همزات الشياطين وأن يحضرون فإنها لا تضر "** وكان عبد الله بن عمر يعلمها من بلغ من عبيده، ومن لم يبلغ كتبها في صك ثم علقها في عنقه. والخبر السادس: عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما، ويقول: **" أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة "** ويقول: **" كان أبي إبراهيم عليه السلام يعوذ بها إسمعيل وإسحق عليهما السلام "** الخبر السابع: أنه عليه الصلاة والسلام كان يعظم أمر الاستعاذة حتى أنه لما تزوج امرأة ودخل بها فقالت: أعوذ بالله منك فقال عليه الصلاة والسلام: عذت بمعاذ فالحقي بأهلك. واعلم أن الرجل المستبصر بنور الله لا التفات له إلى القائل، وإنما التفاته إلى القول، فلما ذكرت تلك المرأة كلمة أعوذ بالله بقي قلب الرسول صلى الله عليه وسلم مشتغلاً بتلك الكلمة، ولم يلتفت إلى أنها قالت تلك الكلمة عن قصد أم لا. والخبر الثامن: روى الحسن قال: بينما رجل يضرب مملوكاً له فجعل المملوك يقول: أعوذ بالله إذ جاء نبي الله فقال: أعوذ برسول الله، فأمسك عنه فقال عليه السلام: عائذ الله أحق أن يمسك عنه، فقال: فإني أشهدك يا رسول الله أنه حر لوجه الله، فقال عليه الصلاة والسلام: **" أما والذي نفسي بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار "** والخبر التاسع: قال سويد: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يقول على المنبر: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلا أحب أن أترك ذلك ما بقيت. والخبر العاشر: قوله عليه الصلاة والسلام: **" أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من غضبك، وأعوذ بك منك "** المستعاذ منه: الركن الرابع من أركان هذا الباب الكلام في المستعاذ منه وهو الشيطان، والمقصود من الاستعاذة دفع شر الشيطان، واعلم أن شر الشيطان إما أن يكون بالوسوسة أو بغيرهما، كما ذكره في قول الله تعالى:**{ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسّ }** [البقرة: 275] وفي هذا الباب مسائل غامضة دقيقة من العقليات، ومن علوم المكاشفات. الاختلاف في وجود الجن: المسألة الأولى: اختلف الناس في وجود الجن والشياطين فمن الناس من أنكر الجن والشياطين، واعلم أنه لا بدّ أولاً من البحث عن ماهية الجن والشياطين فنقول: أطبق الكل على أنه ليس الجن والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة تجيء وتذهب مثل الناس والبهائم، بل القول المحصل فيه قولان: الأول: أنها أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، ولها عقول وأفهام وقدرة على أعمال صعبة شاقة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والقول الثاني: أن كثيراً من الناس أثبتوا أنها موجودات غير متحيزة ولا حالة في المتحيز، وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية، ثم هذه الموجودات قد تكون عالية مقدسة عن تدبير الأجسام بالكلية، وهي الملائكة المقربون، كما قال الله تعالى:**{ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ }** [الأنبياء: 19] ويليها مرتبة الأرواح المتعلقة بتدبير الأجسام، وأشرفها حملة العرش، كما قال تعالى:**{ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَـٰنِيَةٌ }** [الحاقة: 17] والمرتبة الثانية: الحافون حول العرش، كما قال تعالى:**{ وَتَرَى ٱلْمَلَـٰئِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ }** [الزمر: 75] والمرتبة الثالثة: ملائكة الكرسي، والمرتبة الرابعة: ملائكة السموات طبقة طبقة، والمرتبة الخامسة: ملائكة كرة الأثير، والمرتبة السادسة: ملائكة كرة الهواء الذي هو في طبع النسيم، والمرتبة السابعة: ملائكة كرة الزمهرير، والمرتبة الثامنة: مرتبة الأرواح المتعلقة بالبحار، والمرتبة التاسعة: مرتبة الأرواح المتعلقة بالجبال، والمرتبة العاشرة: مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية الموجودة في هذاالعالم. واعلم أنه على كلا القولين فهذه الأرواح قد تكون مشرقة إلهية خيرة سعيدة، وهي المسماة بالصالحين من الجن، وقد تكون كدرة سفلية شرير شقية، وهي المسماة بالشياطين. واحتج المنكرون لوجود الجن والشياطين بوجوه: الحجة الأولى: إن الشيطان لو كان موجوداً لكان إما أن يكون جسماً كثيفاً أو لطيفاً، والقسمان بطلان فيبطل القول بوجوده وإنما قلنا أنه يمتنع أن يكون جسماً كثيفاً لأنه لو كان كذلك لوجب أن يراه كل من كان سليم الحس، إذ لو جاز أن يكون بحضرتنا أجسام كثيفة ونحن لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية وشموس مضيئة ورعود وبروق مع أنا لا نشاهد شيئاً منها، ومن جوز ذلك كان خارجاً عن العقل، وإنما قلنا إنه لا يجوز كونها أجساماً لطيفة وذلك لأنه لو كان كذلك لوجب أن تتمزق أو تتفرق عند هبوب الرياح العاصفة القوية، وأيضاً يلزم أن لا يكون لها قوة وقدرة على الأعمال الشاقة، ومثبتو الجن ينسبون إليها الأعمال الشاقة، ولما بطل القسمان ثبت فساد القول بالجن. الحجة الثانية: أن هذه الأشخاص المسماة بالجن إذا كانوا حاضرين في هذا العالم مخالطين للبشر فالظاهر الغالب أن يحصل لهم بسبب طول المخالطة والمصاحبة إما صداقة وإما عداوة، فإن حصلت الصداقة وجب ظهور المنافع بسبب تلك الصداقة، وإن حصلت العداوة وجب ظهور المضار بسبب تلك العداوة، إلا أنا لا نرى أثراً لا من تلك الصداقة ولا من تلك العداوة وهؤلاء الذين يمارسون صنعة التعزيم إذا تابوا من الأكاذيب يعترفون بأنهم قط ما شاهدوا أثراً من هذا الجن، وذلك مما يغلب على الظن عدم هذه الأشياء وسمعت واحداً ممن تاب عن تلك الصنعة قال إني واظبت على العزيمة الفلانية كذا من الأيام وما تركت دقيقة من الدقائق إلا أتيت بها ثم إني ما شاهدت من تلك الأحوال المذكورة أثراً ولا خبراً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحجة الثالثة: أن الطريق إلى معرفة الأشياء إما الحس، وإما الخبر، وإما الدليل: أما الحس فلم يدل على وجود هذه الأشياء لأن وجودها إما بالصورة أو الصوت فإذا كنا لا نرى صورة ولا سمعنا صوتاً فكيف يمكننا أن ندعي الإحساس بها، والذين يقولون أنا أبصرناها أو سمعنا أصواتها فهم طائفتان: المجانين الذين يتخيلون أشياء بسبب خلل أمزجتهم فيظنون أنهم رأوها، والكذابون المخرفون، وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة أخبار الأنبياء والرسل فباطل لأن هذه الأشياء لو ثبتت لبطلت نبوة الأنبياء فإن على تقدير ثبوتها يجوز أن يقال إن كل ما تأتي به الأنبياء من المعجزات إنما حصل بإعانة الجن والشياطين، وكل فرع أدى إلى إبطال الأصل كان باطلاً، مثاله إذا جوزنا نفوذ الجن في بواطن الإنسان فلم لا يجوز أن يقال: إن حنين الجذع إنما كان لأجل أن الشيطان نفذ في ذلك الجذع ثم أظهر الحنين ولم لا يجوز أن يقال إن الناقة إنما تكلمت مع الرسول عليه السلام لأن الشيطان دخل في بطنها وتكلم، ولم لا يجوز أن يقال إن الشجرة إنما انقلعت من أصلها لأن الشيطان اقتلعها، فثبت أن القول بإثبات الجن والشياطين يوجب القول ببطلان نبوة الأنبياء عليهم السلام، وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة الدليل والنظر فهو متعذر، لأنا لا نعرف دليلاً عقلياً يدل على وجود الجن والشياطين، فثبت أنه لا سبيل لنا إلى العلم بوجود هذه الأشياء، فوجب أن يكون القول بوجود هذه الأشياء باطلاً، فهذه جملة شبه منكري الجن والشياطين. والجواب عن الأولى: بأنا نقول: إن الشبهة التي ذكرتم تدل على أنه يمتنع كون الجن جسماً، فلم لا يجوز أن يقال إنه جوهر مجرد عن الجسمية والجواب عن الأولى بأنا نقول: أن الشبهة التي ذكرتم تدل على أنه يمتنع كون الجن جسماً فلم لا يجوز أن يقال: إنه جوهر مجرد عن الجسمية. واعلم أن القائلين بهذا القول فِرَق: الأولى الذين قالوا: النفوس الناطقة البشرية المفارقة للأبدان قد تكون خيرة، وقد تكون شريرة، فإن كانت خيرة فهي الملائكة الأرضية، وإن كانت شريرة فهي الشياطين الأرضية، ثم إذا حدث بدن شديد المشابهة ببدن تلك النفوس المفارقة وتعلق بذلك البدن نفس شديدة المشابهة لتلك النفس المفارقة فحينئذٍ يحدث لتلك النفس المفارقة ضرب تعلق بهذا البدن الحادث، وتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن على الأعمال اللائقة بها، فإن كانت النفسان من النفوس الطاهرة المشرقة الخيرة كانت تلك المعاونة والمعاضدة إلهاماً، وإن كانتا من النفوس الخبيثة الشريرة كانت تلك المعاونة والمناصرة وسوسة، فهذا هو الكلام في الإلهام والوسوسة على قول هؤلاء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفريق الثاني الذين قالوا: الجن والشياطين جواهر مجردة عن الجسمية وعلائقها، وجنسها مخالف لجنس النفوس الناطقة البشرية، ثم إن ذلك الجنس يندرج فيه أنواع أيضاً، فإن كانت طاهرة نورانية فهي الملائكة الأرضية، وهم المسمون بصالحي الجن، وإن كانت خبيثة شريرة فهي الشياطين المؤذية، إذا عرفت هذا فنقول: الجنسية علة الضم، فالنفوس البشرية الطاهرة النورانية تنضم إليها تلك الأرواح الطاهرة النورانية وتعينها على أعمالها التي هي من أبواب الخير والبر والتقوى، والنفوس البشرية الخبيثة الكدرة تنضم إليها تلك الأرواح الخبيثة الشريرة وتعينها على أعمالها التي هي من باب الشر والإثم والعدوان. الفريق الثالث، وهم الذين ينكرون وجود الأرواح السفلية، ولكنهم أثبتوا وجود الأرواح المجردة الفلكية، وزعموا أن تلك الأرواح أرواح عالية قاهرة قوية، وهي مختلفة بجواهرها وماهياتها، فكما أن لكل روح من الأرواح البشرية بدنا معيناً فكذلك لكل روح من الأرواح الفلكية بدن معين، وهو ذلك الفلك المعين، وكما أن الروح البشرية تتعلق أولاً بالقلب ثم بواسطته يتعدى أثر ذلك الروح إلى كل البدن، فكذلك الروح الفلكي يتعلق أولاً بالكواكب ثم بواسطة ذلك التعلق يتعدى أثر ذلك الروح إلى كلية ذلك الفلك وإلى كلية العالم، وكما أنه يتولد في القلب والدماغ أرواح لطيفة وتلك الأرواح تتأدى في الشرايين والأعصاب إلى أجزاء البدن ويصل بهذا الطريق قوة الحياة والحس والحركة إلى كل جزء من أجزاء الأعضاء، فكذلك ينبعث من جرم الكواكب خطوط شعاعية تتصل بجوانب العالم وتتأدى قوة تلك الكواكب بواسطة تلك الخطوط الشعاعية إلى أجزاء هذا العالم وكما أن بواسطة الأرواح الفائضة من القلب والدماغ إلى أجزاء البدن يحصل في كل جزء من أجزاء ذلك البدن قوى مختلفة وهي الغاذية والنامية والمولدة والحساسة ـ فتكون هذه القوى كالنتائج والأولاد لجوهر النفس المدبرة لكلية البدن، فكذلك بواسطة الخطوط الشعاعية المنبثة من الكواكب الواصلة إلى أجزاء هذا العالم تحدث في تلك الأجزاء نفوس مخصوصة مثل نفس زيد ونفس عمرو، وهذه النفوس كالأولاد لتلك النفوس الفلكية، ولما كانت النفوس الفلكية مختلفة في جواهرها وماهياتها، فكذلك النفوس المتولدة من نفس فلك زحل مثلاً طائفة، والنفوس المتولدة من نفس فلك المشتري طائفة أخرى، فتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل متجانسة متشاركة، ويحصل بينها محبة ومودة، وتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل مخالفة بالطبع والماهية للنفوس المنتسبة إلى روح المشتري، وإذا عرفت هذا فنقول: قالوا: إن العلة تكون أقوى من المعلول، فكل طائفة من النفوس البشرية طبيعة خاصة، وهي تكون معلولة لروح من تلك الأرواح الفلكية وتلك الطبيعة تكون في الروح الفلكي أقوى وأعلى بكثير منها في هذه الأرواح البشرية، وتلك الأرواح الفلكية بالنسبة إلى تلك الطائفة من الأرواح البشرية كالأب المشفق والسلطان الرحيم، فلهذا السبب تلك الأرواح الفلكية تعين أولادها على مصالحها وتهديها تارة في النوم على سبيل الرؤيا، وأخرى في اليقظة في سبيل الإلهام، ثم إذا اتفق لبعض هذه النفوس البشرية قوة قوية من جنس تلك الخاصية وقوى اتصاله بالروح الفلكي الذي هو أصله ومعدنه ظهرت عليه أفعال عجيبة وأعمال خارقة للعادات، فهذا تفصيل مذاهب من يثبت الجن والشياطين، ويزعم أنها موجودات ليست أجساماً ولا جسمانية.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أن قوماً من الفلاسفة طعنوا في هذا المذهب، وزعموا أن المجرد يمتنع عليه إدراك الجزئيات، والمجردات يمتنع كونها فاعلة للأفعال الجزئية. واعلم أن هذا باطل لوجهين: الأول: أنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص المعين بأنه إنسان وليس بفرس، والقاضي على الشيئين لا بدّ وأن يحضره المقضي عليهما، فههنا شيء واحد هو مدرك للكلي، وهو النفس، فيلزم أن يكون المدرك للجزئي هو النفس. الثاني: هب أن النفس المجردة لا تقوى على إدراك الجزئيات ابتداء، لكن لا نزاع أنه يمكنها أن تدرك الجزئيات بواسطة الآلات الجسمانية، فلم لا يجوز أن يقال: إن تلك الجواهر المجردة المسماة بالجن والشياطين لها آلات جسمانية من كرة الأثير أو من كرة الزمهرير، ثم إنها بواسطة تلك الآلات الجسمانية تقوى على إدراك الجزئيات وعلى التصرف في هذه الأبدان، فهذا تمام الكلام في شرح هذا المذاهب. وأما الذين زعموا أن الجن أجسام هوائية أو نارية فقالوا: الأجسام متساوية في الحجمية والمقدار، وهذان المعنيان أعراض، فالأجسام متساوية في قبول هذه الأعراض، والأشياء المختلفة بالماهية لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم، فلم لا يجوز أن يقال: الأجسام مختلفة بحسب ذواتها المخصوصة وماهياتها المعينة، وإن كانت مشتركة في قبول الحجمية والمقدار؟ وإذا ثبت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يقال: أحد أنواع الأجسام أجسام لطيفة نفاذة حية لذواتها عاقلة لذواتها، قادرة على الأعمال الشاقة لذواتها، وهي غير قابلة للتفرق والتمزق؟ وإذا كان الأمر كذلك فتلك الأجسام تكون قادرة على تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة، ثم إن الرياح العاصفة لا تمزقها، والأجسام الكثيفة لا تفرقها، أليس أن الفلاسفة قالوا: إن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد، وتخرج من الجانب الآخر؟ فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها، وأنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعلوم، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة، والدليل لم يقم على إبطالها، فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأما الجواب عن الشبهة الثانية: أنه لا يجب حصول تلك الصداقة والعداوة مع كل واحد وكل واحد لا يعرف إلا حال نفسه، أما حال غيره فإنه لا يعلمها، فبقي هذا الأمر في حيز الاحتمال. وأما الجواب عن الشبهة الثالثة فهو أنا نقول: لا نسلم أن القول بوجود الجن والملائكة يوجب الطعن في نبوة الأنبياء عليهم السلام، وسيظهر الجواب عن الأجوبة التي ذكرتموها فيما بعد ذلك، فهذا آخر الكلام في الجواب عن الشبهات. دليل وجود الجن من القرآن: المسألة الثانية: اعلم أن القرآن والأخبار يدلان على وجود الجن والشياطين: أما القرآن فآيات: الآية الأولى قوله تعالى:**{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ٱلْجِنّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُواْ يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم }** [الأحقاف: 29، 30] وهذا نص على وجودهم وعلى أنهم سمعوا القرآن، وعلى أنهم أنذروا قومهم، والآية الثانية قوله تعالى:**{ وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ }** [البقرة: 102] والآية الثالثة قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام:**{ يَعملونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَـٰرِيبَ وَتَمَـٰثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ راسِيَـٰتٍ ٱعْمَلُواْ }** [سبأ: 13] وقال تعالى:**{ وَٱلشَّيَـٰطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى ٱلأَصْفَادِ }** [صۤ: 37، 38] وقال تعالى:**{ وَلِسُلَيْمَـٰنَ ٱلرّيحَ }** ـ إلى قوله تعالى:**{ وَمِنَ ٱلْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ }** [سبأ:12] والآية الرابعة قوله تعالى:**{ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض }** [الرحمن: 33] والآية الخامسة قوله تعالى:**{ إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوٰكِبِ وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَـٰنٍ مَّارِدٍ }** [الصافات: 6، 7] وأما الأخبار فكثيرة: ـ الخبر الأول: روى مالك في «الموطأ»، عن صيفي بن أفلح، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، قال: فسمعت تحريكاً تحت سريره في بيته، فإذا هي حية، فقمت لأقتلها، فأشار أبو سعيد أن إجلس، فلما انصرف من صلاته أشار إلى بيت في الدار فقال: ترى هذا البيت؟ فقلت نعم، فقال: إنه كان فيه فتى حديث عهد بعرس، وساق الحديث إلى أن قال: فرأى امرأته واقفة بين الناس، فأدركته غيرة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها بسبب الغيرة فقالت: لا تعجل حتى تدخل وتنظر ما في بيتك، فدخل فإذا هو بحية مطوقة على فراشه فركز فيها رمحه فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ميتاً، فما ندري أيهما كان أسرع موتاً: الفتى أم الحية، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بالمدينة جناً قد أسلموا، فمن بدا لكم منهم فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الخبر الثاني: روى مالك في «الموطأ» عن يحيـى بن سعيد قال: لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عفريتاً من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه، فقال جبريل عليه السلام: ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه، قل: أعوذ بوجه الله الكريم، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما نزل إلى الأرض، وشر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن. والخبر الثالث: روى مالك أيضاً في «الموطأ» أن كعب الأخبار كان يقول: أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسمائه كلها ما قد علمت منها وما لم أعلم، من شر ما خلق وذرأ وبرأ. والخبر الرابع: روى أيضاً مالك أن خالد بن الوليد قال: يا رسول الله، إني أروع في منامي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون. والخبر الخامس: ما اشتهر وبلغ مبلغ التواتر من خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وقراءته عليهم، ودعوته إياهم إلى الإسلام. والخبر السادس: روى القاضي أبو بكر في «الهداية» أن عيسى بن مريم عليهما السلام دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم، فأراه ذلك فإذا رأسه مثل رأس الحية واضع رأسه على قلبه، فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا لم يذكره وضع رأسه على حبة قلبه. والخبر السابع: قوله عليه السلام: **" إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم "** وقال: **" ما منكم أحد إلا وله شيطان "** قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: **" ولا أنا، إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم "** والأحاديث في ذلك كثيرة، والقدر الذي ذكرناه كاف. خلق الجن من النار: المسأل الثالثة: في بيان أن الجن مخلوق من النار: والدليل عليه قوله تعالى:**{ وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَـٰهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ }** [الحجر: 27] وقال تعالى حاكياً عن إبليس لعنه الله أنه قال:**{ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }** [الأعراف: 12] واعلم أن حصول الحياة في النار غير مستبعد، ألا ترى أن الأطباء قالوا: المتعلق الأول للنفس هو القلب والروح، وهما في غاية السخونة، وقال جالينوس: إني بقرت مرة بطن قرد فأدخلت يدي في بطنه، وأدخلت أصبعي في قلبه فوجدته في غاية السخونة بل تزيد، ونقول: أطبق الأطباء على أن الحياة لا تحصل إلا بسبب الحرارة الغريزية، وقال بعضهم: الأغلب على الظن أن كرة النار تكون مملوءة من الروحانيات.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سبب تسمية الجن جنا: المسألة الرابعة: ذكروا قولين في أنهم لم سموا بالجن، الأول: أن لفظ الجن مأخوذ من الاستتار، ومنه الجنة لاستتار أرضها بالأشجار، ومنه الجنة لكونها ساترة للإنسان، ومنه الجن لاستتارهم عن العيون، ومنه المجنون لاستتار عقله، ومنه الجنين لاستتاره في البطن ومنه قوله تعالى:**{ ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً }** [المجادلة: 16، المنافقون: 2] أي وقاية وستراً، واعلم أن هذا القول يلزم أن تكون الملائكة من الجن لاستتارهم عن العيون، إلا أن يقال: إن هذا من باب تقييد المطلق بسبب العرف. والقول الثاني: أنهم سموا بهذا الاسم لأنهم كانوا في أول أمرهم خزان الجنة والقول الأول أقوى. طوائف المكلفين: المسألة الخامسة: اعلم أن طوائف المكلفين أربعة: الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين، واختلفوا في الجن والشياطين فقيل: الشياطين جنس والجن جنس آخر، كما أن الإنسان جنس والفرس جنس آخر، وقيل: الجن منهم أخيار ومنهم أشرار والشياطين اسم لأَشرار الجن. تسلط الجن على الإنس: المسألة السادسة: المشهور أن الجن لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر، وأنكر أكثر المعتزلة ذلك، أما المثبتون فقد احتجوا بوجوه: الأول: أنه إن كان الجن عبارة عن موجود ليس بجسم ولا جسماني فحينئذٍ يكون معنى كونه قادراً على النفوذ في باطنه أنه يقدر على التصرف في باطنه، وذلك غير مستبعد، وإن كان عبارة عن حيوان هوائي لطيف نفاذ كما وصفناه كان نفاذه في باطن بني آدم أيضاً غير ممتنع قياساً على النفس وغيره. الثاني: قوله تعالى:**{ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسّ }** [البقرة: 275] الثالث: قوله عليه السلام: **" إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم "** أما المنكرون فقد احتجوا بأمور: الأول: قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله**{ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى }** [إبراهيم: 22] صرح بأنه ما كان له على البشر سلطان إلا من الوجه الواحد، وهو إلقاء الوسوسة والدعوة إلى الباطل. الثاني: لا شك أن الأنبياء والعلماء المحققين يدعون الناس إلى لعن الشيطان والبراءة منه، فوجب أن تكون العداوة بين الشياطين وبينهم أعظم أنواع العداوة، فلو كانوا قادرين على النفوذ في بواطن البشر وعلى إيصال البلاء والشر إليهم لوجب أن يكون تضرر الأنبياء والعلماء منهم أشد من تضرر كل أحد، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه باطل. صفة الملائكة: المسألة السابعة: اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأما الجن والشياطين فإنهم يأكلون وشربون، قال عليه السلام في الروث والعظم: **" إنه زاد إخوانكم من الجن "**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأيضاً فإنهم يتوالدون قال تعالى:**{ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى }** [الكهف: 50]. وسوسة الشيطان: المسألة الثامنة في كيفية الوسوسة بناءً على ما ورد في الآثار: ذكروا أنه يغوص في باطن الإنسان، ويضع رأسه على حبة قلبه، ويلقي إليه الوسوسة واحتجوا عليه بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، ألا فضيقوا مجاريه بالجوع "** وقال عليه السلام: **" لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات "** ومن الناس من قال: هذه الأخبار لا بد، من تأويلها، لأنه يمتنع حملها على ظواهرها، واحتج عليه بوجوه: الأول: أن نفوذ الشياطين في بواطن الناس محال لأنه يلزم إما اتساع تلك المجاري أو تداخل تلك الأجسام. الثاني: ما ذكرنا أن العداوة الشديدة حاصلة بينه وبين أهل الدين، فلو قدر على هذا النفوذ فلم لا يخصهم بمزيد الضرر؟ الثالث: أن الشيطان مخلوق من النار، فلو دخل في داخل البدن لصار كأنه نفذ النار في داخل البدن، ومعلوم أنه لا يحس بذلك. الرابع: أن الشياطين يحبون المعاصي وأنواع الكفر والفسق، ثم إنا نتضرع بأعظم الوجوه إليهم ليظهروا أنواع الفسق فلا نجد منه أثراً ولا فائدة، وبالجملة فلا نرى لا من عداوتهم ضرراً ولا من صداقتهم نفعاً. وأجاب مثبتو الشياطين عن السؤال الأول: بأن على القول بأنها نفوس مجردة فالسؤال زائل، وعلى القول بأنها أجسام لطيفة كالضوء والهواء فالسؤال أيضاً زائل، وعن الثاني: لا يبعد أن يقال: إن الله وملائكته يمنعونهم عن إيذاء علماء البشر، وعن الثالث: أنه لما جاز أن يقول الله تعالى لنار إبراهيم**{ يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ }** [الأنبياء: 69] فلم لا يجوز مثله ههنا، وعن الرابع: أن الشياطين مختارون، ولعلهم يفعلون بعض القبائح دون بعض. تحقيق الكلام في الوسوسة: المسألة التاسعة، في تحقيق الكلام في الوسوسة على الوجه الذي قرره الشيخ الغزالي في كتاب «الإحياء»، قال: القلب مثل قبة لها أبواب تنصب إليها الأحوال من كل باب، أو مثل هدف ترمى إليه السهام من كل جانب، أو مثل مرآة منصوبة تجتاز عليها الأشخاص، فتتراءى فيها صورة بعد صورة، أو مثل حوض تنصب إليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة واعلم أن مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب ساعة فساعة إما من الظاهر كالحواس الخمس، وإما من البواطن كالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة في مزاج الإنسان، فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه أثر في القلب، وكذا إذا هاجت الشهوة أو الغضب حصل من تلك الأحوال آثار في القلب، وأما إذا منع الإنسان عن الإدراكات الظاهرة فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى، وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال، فالقلب دائماً في التغير والتأثر من هذه الأسباب، وأخص الآثار الحاصلة في القلب هي الخواطر، وأعني بالخواطر ما يعرض فيه من الأفكار والأذكار، وأعني بها إدراكات وعلوماً إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر، وإنما تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بالخيال بعد أن كان القلب غافلاً عنها، فالخواطر هي المحركات للإرادات، والإرادات محركة للأعضاء، ثم هذه الخواطر المحركة لهذه الإرادات تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة ـ وإلى ما ينفع ـ أعني ما ينفع في العاقبة ـ فهما خاطران مختلفان، فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً، والمذموم يسمى وسواساً، ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر أحوال حادثة فلا بدّ لها من سبب، والتسلسل محال، فلا بدّ من انتهاء الكل إلى واجب الوجود، وهذا ملخص كلام الشيخ الغزالي بعد حذف التطويلات منه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
تحقيق كلام الغزالي: المسألة العاشرة: في تحقيق الكلام فيما ذكره الغزالي: اعلم أن هذا الرجل دار حول المقصود إلا أنه لا يحصل الغرض إلا من بعد مزيد التنقيح، فنقول: لا بدّ قبل الخوض في المقصود من تقديم مقدمات. المقدمة الأولى: لا شك أن ههنا مطلوباً ومهروباً. وكل مطلوب فأما أن يكون مطلوباً لذاته أو لغيره، ولا يجوز أن يكون كل مطلوب مطلوباً لغيره. وأن يكون كل مهروب مهروباً عنه لغيره: وإلا لزم إما الدور وإما التسلسل، وهما محالان، فثبت أنه لا بدّ من الاعتراف بوجود شيء يكون مطلوباً لذاه، وبوجود شيء يكون مهروباً عنه لذاته. المقدمة الثانية: إن الاستقراء دل على أن المطلوب بالذات هو اللذة والسرور، والمطلوب بالتبع ما يكون وسيلة إليهما، والمهروب عنه بالذات هو الألم والحزن، والمهروب عنه بالتبع ما يكون وسيلة إليهما. المقدمة الثالثة: إن اللذيذ عند كل قوة من القوى النفسانية شيء آخر، فاللذيذ عند القوة الباصرة شيء، واللذيذ عند القوة السامعة شيء آخر، واللذيذ عند القوة الشهوانية شيء ثالث، واللذيذ عند القوة الغضبية شيء رابع، واللذيذ عند القوة العاقلة شيء خامس. المقدمة الرابعة: إن القوة الباصرة إذا أدركت موجوداً في الخارج لزم من حصول ذلك الإدراك البصري وقوف الذهن على ماهية ذلك المرئي، وعند الوقوف عليه يحصل العلم بكونه لذيذاً أو مؤلماً أو خالياً عنهما، فإن حصل العلم بكونه لذيذا ترتب على حصول هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى تحصيله، وإن حصل العلم بكونه مؤلماً ترتب على هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى البعد عنه والفرار منه، فإن لم يحصل العلم بكونه مؤلماً ولا بكونه لذيذاً لم يحصل في القلب لا رغبة إلى الفرار عنه ولا رغبة إلى تحصيله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المقدمة الخامسة: إن العلم بكونه لذيذاً إنما يوجب حصول الميل والرغبة في تحصيله إذا حصل ذلك العلم خالياً عن المعارض والمعاوق، فأما إذا حصل هذا المعارض لم يحصل ذلك الاقتضاء، مثاله إذا رأينا طعاماً لذيذاً فعلمنا بكونه لذيذاً، إنما يؤثر في الإقدام على تناوله إذا لم نعتقد أنه حصل فيه ضرر زائد، أما إذا اعتقدنا أنه حصل فيه ضرر زائد فعند هذا يعتبر العقل كيفية المعارضة والترجيح، فأيهما غلب على ظنه أنه أرجح عمل بمقتضى ذلك الرجحان، ومثال آخر لهذا المعنى: إن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يلقي نفسه من السطح العالي، إلا أنه إنما يقدم على هذا العمل إذا اعتقد أنه بسبب تحمل ذلك العمل المؤلم يتخلص عن مؤلم آخر أعظم منه، أو يتوصل به إلى تحصيل منفعة أعلى حالاً منها، فثبت بما ذكرنا أن اعتقاد كونه لذيذاً أو مؤلماً إنما يوجب الرغبة والنفرة إذا خلا ذلك الاعتقاد عن المعارض. المقدمة السادسة: في بيان أن التقرير الذي بيناه يدل على أن الأفعال الحيوانية لها مراتب مرتبة ترتيباً ذاتياً لزومياً عقلياً، وذلك لأن هذه الأفعال مصدرها القريب هو القوى الموجودة في العضلات، إلا أن هذه القوى صالحة للفعل وللترك، فامتنع صيرورتها مصدراً للفعل بدلاً عن الترك، وللترك بدلاً عن الفعل، إلا بضميمة تنضم إليها، وهي الإرادات ثم إن تلك الإرادات إنما توجد وتحدث لأجل العلم بكونها لذيذة أو مؤلمة، ثم إن تلك العلوم إن حصلت بفعل الإنسان عاد البحث الأول فيه، ولزم إما الدور وإما التسلسل وهما محالان، وإما الانتهاء إلى علوم وإدراكات وتصورات تحصل في جوهر النفس من الأسباب الخارجة، وهي إما الاتصالات الفلكية على مذهب قوم أو السبب الحقيقي وهو أن الله تعالى يخلق تلك الاعتقادات أو العلوم في القلب، فهذا تلخيص الكلام في أن الفعل كيف يصدر عن الحيوان. إذا عرفت هذا فاعلم أن نفاة الشيطان ونفاة الوسوسة قالوا: ثبت أن المصدر القريب للأفعال الحيوانية هو هذه القوى المذكورة في العضلات والأوتار، فثبت أن تلك القوى لا تصير مصادر للفعل والترك إلا عند انضمام الميل والإرادة إليها، وثبت أن تلك الإرادة من لوازم حصول الشعور بكون ذلك الشيء لذيذاً أو مؤلماً، وثبت أن حصول ذلك الشعور لا بدّ وأن يكون يخلق الله تعالى ابتداء أو بواسطة مراتب شأن كل واحد منها في استلزام ما بعده على الوجه الذي قررناه، وثبت أن ترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله أم لازم لزوماً ذاتياً واجباً، فإنه إذا أحس بالشيء وعرف كونه ملائماً مال طبعه إليه، وإذا مال طبعه إليه تحركت القوة إلى الطلب، فإذا حصلت هذه المراتب حصل الفعل لا محالة، فلو قدرنا شيطاناً من الخارج وفرضنا أنه حصلت له وسوسة كانت تلك الوسوسة عديمة الأثر لأنه إذا حصلت تلك المراتب المذكورة حصل الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل، وءن لم يحصل مجموع تلك المراتب امتنع حصول الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل، فعلمنا أن القول بوجود الشيطان وبوجود الوسوسة قول باطل، بل الحق أن نقول: إن اتفق حصول هذه المراتب في الطرف النافع سميناها بالإلهام، وإن اتفق حصولها في الطرف الضار سميناها بالوسوسة، هذا تمام الكلام في تقرير الإشكال.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والجواب: أن كل ما ذكرتموه حق وصدق، إلا أنه لا يبعد أن يكون الإنسان غافلاً عن الشيء فإذا ذكره الشيطان ذلك الشيء تذكره، ثم عند التذكر يترتب الميل عليه، ويترتب الفعل على حصول ذلك الميل، فالذي أتى به الشيطان الخارجي ليس إلا ذلك التذكر، وإليه الإشارة بقوله تعالى حاكياً عن إبليس أنه قال:**{ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى }** [إبراهيم: 22] إلا أنه بقي لقائل أن يقول: فالإنسان إنما قدم على المعصية بتذكير الشيطان، فالشيطان إن كان إقدامه على المعصية بتذكير شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين، وإن كان عمل ذلك الشيطان ليس لأجل شيطان آخر ثبت أن ذلك الشيطان الأول إنما أقدم على ما أقدم عليه لحصول ذلك الاعتقاد في قلبه، ولا بدّ لذلك الاعتقاد الحادث من سبب، وماذاك إلا الله سبحانه وتعالى، وعند هذا يظهر أن الكل من الله تعالى، فهذا غاية الكلام في هذا البحث الدقيق العميق، وصار حاصل الكلام ما قاله سيد الرسل عليه الصلاة والسلام وهو قوله: **" أعوذ بك منك "** والله أعلم. الخواطر والاختلاف فيها: المسألة الحادية عشرة: اعلم أن الإنسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فربما صار بحيث كأنه يسمع في دخل قلبه ودماغه أصواتاً خفية وحروفاً خفية، فكأن متكلماً يتكلم معه، ومخاطباً يخاطبه، فهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه، ثم اختلف الناس في تلك الخواطر فقالت الفلاسفة إن تلك الأشياء ليست حروفاً ولا أصواتاً، وإنما هي تخيلات الحروف والأصوات، وتخيل الشيء عبارة عن حضور رسمه ومثاله في الخيال، وهذا كما أنا إذا تخيلنا صور الجبال والبحار والأشخاص، فأعيان تلك الأشياء غير موجودة في العقل والقلب، بل الموجود في العقل والقلب صورها وأمثلتها ورسومها، وهي على سبيل التمثيل جارية مجرى الصورة المرتسمة في المرآة، فإنا إذا أحسسنا في المرآة صورة الفلك والشمس والقمر فليس ذلك لأجل أنه حضرت ذوات هذه الأشياء في المرآة فإن ذلك محال، وإنما الحاصل في المرآة رسوم هذه الأشياء وأمثلتها وصورتها، وإذا عرفت هذا في تخيل المبصرات فاعلم أن الحال في تخيل الحروف والكلمات المسموعة كذلك، فهذا قول جمهور الفلاسفة، ولقائل أن يقول: هذا الذي سميته بتخيل الحروف والكلمات هل هو مساوٍ للحرف والكلمة في الماهية أو لا؟ فإن حصلت المساواة فقد عاد الكلام إلى أن الحاصل في الخيال حقائق الحروف والأصوات، وإلى أن الحاصل في الخيال عند تخيل البحر والسماء حقيقة البحر والسماء، وإن كان الحق هو الثاني ـ وهو أن الحاصل في الخيال شيء آخر مخالف للمبصرات والمسموعات ـ فحينئذٍ يعود السؤال وهو: أنا كيف نجد من أنفسنا صور هذه المرئيات، وكيف نجد من أنفسنا هذه الكلمة والعبارات وجداناً لا نشك أنها حروف متوالية على العقل وألفاظ متعاقبة عل الذهن، فهذا منتهى الكلام في كلام الفلاسفة، أما الجمهور الأعظم من أهل العلم فإنهم سلموا أن هذه الخواطر المتوالية المتعاقبة حروف وأصوات حقيقة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أن القائلين بهذا القول قالوا: فاعل هذه الحروف والأصوات إما ذلك الإنسان أو إنسان آخر، وإما شيء آخر روحاني مباين يمكنه إلقاء هذه الحروف والأصوات إلى هذا الإنسان، سواء قيل إن ذلك المتكلم هو الجن والشياطين أو الملك، وإما أن يقال: خالق تلك الحروف والأصوات هو الله تعالى: أما القسم الأول ـ وهو أن فاعل هذه الحروف والأصوات هو ذلك الإنسان ـ فهذا قول باطل، لأن الذي يحصل باختيار الإنسان يكون قادراً على تركه، فلو كان حصول هذه الخواطر بفعل الإنسان لكان الإنسان إذا أراد دفعها أو تركها لقدر عليه، ومعلوم أنه لا يقدر على دفعها، فإنه سواء حاول فعلها أو حاول تركها فتلك الخواطر تتوارد على طبعه وتتعاقب على ذهنه بغير اختياره، وأما القسم الثاني ـ وهو أنها حصلت بفعل إنسان آخر ـ فهو ظاهر الفساد، ولما بطل هذان القسمان بقي الثالث ـ وهي أنها من فعل الجن أو الملك أو من فعل الله تعالى. أما الذين قالوا إن الله تعالى لا يجوز أن يفعل القبائح فاللائق بمذهبهم أن يقولوا أن هذه الخواطر الخبيثة ليست من فعل الله تعالى، فبقي أنها من أحاديث الجن والشياطين، وأما الذين قالوا أنه لا يقبح من الله شيء فليس في مذهبهم مانع يمنعهم من إسناد هذه الخواطر إلى الله تعالى. واعلم أن الثنوية يقولون: للعالم إلهان: أحدهما: خير وعسكره الملائكة، والثاني: شرير وعسكره الشياطين، وهما يتنازعان أبداً كل شيء في هذا العالم، فلكل واحد منهما تعلق به، والخواطر الداعية إلى أعمال الخير إنما حصلت من عساكر الله، والخواطر الداعية إلى أعمال الشر إنما حصلت من عساكر الشيطان، واعلم أن القول بإثبات الإلهين قول باطل فاسد، على ما ثبت فساده بالدلائل، فهذا منتهى القول في هذا الباب. المسألة الثانية عشرة: من الناس من أثبت لهذه الشياطين قدرة على الإحياء، وعلى الإماتة وعلى خلق الأجسام، وعلى تغيير الأشخاص عن صورتها الأصلية وخلقتها الأولية، ومنهم من أنكر هذه الأحوال، وقال: إنه لا قدرة لها على شيء من هذه الأحوال.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
أما أصحابنا فقد أقاموا الدلالة على أن القدرة على الإيجاد والتكوين والأحداث ليست إلا لله، فبطلت هذه المذاهب بالكلية. وأما المعتزلة فقد سلموا أن الإنسان قادر على إيجاد بعض الحوادث، فلا جرم صاروا محتاجين إلى بيان أن هذه الشياطين لا قدرة لها على خلق الأجسام والحياة، ودليلهم أن قالوا الشيطان جسم، وكل جسم فإنه قادر بالقدرة، والقدرة لا تصلح لإيجاد الأجسام، فهذه مقدمات ثلاث: المقدمة الأولى: أن الشيطان جسم، وقد بنوا هذه المقدمة على أن ما سوى الله تعالى إما متحيز وإما حال في المتحيز، وليس لهم في إثبات هذه المقدمة شبهة فضلاً عن حجة. وأما المقدمة الثانية ـ وهي قولهم الجسم إنما يكون قادراً بالقدرة ـ فقد بنوا هذا على أن الأجسام مما تستلزم مماثلة، فلو كان شيء منها قادراً لذاته لكان الكل قادراً لذاته، وبناء هذه المقدمة على تماثل الأجسام، وأما المقدمة الثالثة ـ وهي قولهم هذه القدرة التي لنا لا تصلح لخلق الأجسام فوجب أن لا تصلح القدرة الحادثة لخلق الأجسام ـ وهذا أيضاً ضعيف، لأنه يقال لهم لم لا يجوز حصول قدرة مخالفة لهذه القدرة الحاصلة لنا وتكون تلك القدرة صالحة لخلق الأجسام فإنه لا يلزم من عدم وجود الشيء في الحال امتناع وجوده، فهذا إتمام الكلام في هذه المسألة. هل يعلم الجن الغيب: المسألة الثالثة عشرة: اختلفوا في أن الجن هل يعلمون الغيب؟ وقد بين الله تعالى في كتابه أنهم بقوا في قيد سليمان عليه السلام وفي حبسه بعد موته مدة وهم ما كانوا يعلمون موته، وذلك يدل على أنهم لا يعلمون الغيب، ومن الناس من يقول أنهم يعلمون الغيب، ثم اختلفوا فقال بعضهم إن فيهم من يصعد إلى السموات أو يقرب منها ويخبر ببعض الغيوب على ألسنة الملائكة، ومنهم من قال: لهم طرق أخرى في معرفة الغيوب لا يعلمها إلا الله، واعلم أن فتح الباب في أمثال هذه المباحث لا يفيد إلا الظنون والحسبانات والعالم بحقائقها هو الله تعالى. أسباب الاستعاذة وأنواعها: الركن الخامس من أركان مباحث الاستعاذة. المطالب التي لأجلها يستعاذ. إعلم أنا قد بينا أن حاجات العبد غير متناهية، فلا خير من الخيرات إلا وهو محتاج إلى تحصيله، ولا شر من الشرور إلا وهو محتاج إلى دفعه وإبطاله، فقوله: أعوذ بالله يتناول دفع جميع الشرور الروحانية والجسمانية، وكلها أمور غير متناهية، ونحن ننبه على معاقدها فنقول: الشرور إما أن تكون من باب الاعتقادات الحاصلة في القلوب، وإما أن تكون من باب الأعمال الموجودة في الأبدن، أما القسم الأول فيدخل فيه جميع العقائد الباطلة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أن أقسام المعلومات غير متناهية كل واحد منها يمكن أن يعتقد اعتقاداً صواباً صحيحاً ويمكن أن يعتقد اعتقاداً فاسداً خطأ، ويدخل في هذه الجملة مذاهب فرق الضلال في العالم، وهي اثنتان وسبعون فرقة من هذه الأمة، وسبعمائة وأكثر خارج عن هذه الأمة، فقوله: أعوذ بالله يتناول الاستعاذة من كل واحد منها. وأما ما يتعلق بالأعمال البدنية فهي على قسمين: منها ما يفيد المضار الدينية، ومنها ما يفيد المضار الدنيوية، فأما المضار الدينية فكل ما نهى الله عنه في جميع أقسام التكاليف، وضبطها كالمعتذر، وقوله: أعوذ بالله يتناول كلها، وأما ما يتعلق بالمضار الدنيوية فهو جميع الآلام والأسقام والحرق والغرق والفقر والزمانة والعمى، وأنواعها تقرب أن تكون غير متناهية، فقوله: أعوذ بالله يتناول الاستعاذة من كل واحد منها. والحاصل أن قوله: أعوذ بالله يتناول ثلاثة أقسام، وكل واحد منهما يجري مجرى ما لا نهاية له أولها: الجهل ولما كانت أقسام المعلومات غير متناهية كانت أنواع الجهالات غير متناهية، فالعبد يستعذ بالله منها، ويدخل في هذه الجملة مذاهب أهل الكفر، وأهل البدعة على كثرتها، وثانيها: الفسق، ولما كانت أنواع التكاليف كثيرة جداً وكتب الأحلام محتوية عليها كان قوله: أعوذ بالله متناولاً لكلها، وثالثها: المكروهات والآفات والمخافات، ولما كانت أقسامها وأنواعها غير متناهية كان قوله: أعوذ بالله متناولاً لكلها، ومن أراد أن يحيط بها فليطالع «كتب الطب» حتى يعرف في ذلك لكل واحد من الأعضاء أنواعاً من الآلام والأسقام، ويجب على العاقل أنه إذا أراد أن يقول:أعوذ بالله فإنه يستحضر في ذهنه هذه الأجناس الثلاثة وتقسيم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواعها وأنواع أنواعها، ويبالغ في ذلك التقسيم والتفصيل. ثم إذا استحضر تلك الأنواع التي لا حد لها ولا عد لها في خياله ثم عرف أن قدرة جميع الخلائق لا تفي بدفع هذه الأقسام على كثرتها فحينئذٍ يحمله طبعه وعقله على أن يلتجىء إلى القادر على دفع ما لا نهاية له من المقدورات فيقول عند ذلك: أعوذ بالله القادر على كل المقدورات من جميع أقسام الآفات والمخافات ولنقتصر على هذا القدر من المباحث في هذا الباب والله الهادي. الباب الثالث في اللطائف المستنبطة من قولنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم النكتة الأولى: في قوله: أعوذ بالله عروج من الخلق إلى الخالق، ومن الممكن إلى الواجب: وهذا هو الطريق المتعين في أول الأمر، لأن في أول الأمر لا طريق إلى معرفته إلا بأن يستدل باحتياج الخلق على وجود الحق الغني القادر، فقوله: أعوذ إشارة إلى الحاجة التامة، فإنه لولا الاحتياج لما كان في الاستعاذة فائدة، وقوله: بالله إشارة إلى الغني التام للحق، فقول العبد أعوذ إقرار على نفسه بالفقر والحاجة، وقوله: بالله إقرار بأمرين: أحدهما: بأن الحق قادر على تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات، والثاني: أن غيره غير موصوف بهذه الصفة فلا دافع للحاجات إلا هو، ولا معطي للخيرات إلا هو، فعند مشاهدة هذه الحالة يفر العبد من نفسه ومن كل شيء سوى الحق فيشاهد في هذاالفرار سر قوله:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ }** [الذاريات: 50] وهذه الحالة تحصل عند قوله: أعوذ ثم إذا وصل إلى غيبة الحق وصار غريقاً في نور جلال الحق شاهد قوله:**{ قل الله ثم ذرهم }** [الأنعام:91] فعند ذلك يقول: أعوذ بالله. النكتة الثانية: أن قوله: أعوذ بالله اعتراف بعجز النفس وبقدرة الرب، وهذا يدل على أنه لا وسيلة إلى القرب من حضرة الله إلا بالعجز والانكسار، ثم من الكلمات النبوية قوله عليه الصلاة والسلام: **" من عرف نفسه فقد عرف ربه "** والمعنى من عرف نفسه بالضعف والقصور عرف ربه بأنه هو القادر على كل مقدور، ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالفضل والعدل، ومن عرف نفسه باختلال الحال عرف ربه بالكمال والجلال. النكتة الثالثة: أن الإقدام على الطاعات لا يتيسر إلا بعد الفرار من الشيطان، وذلك هو الاستعاذة بالله، إلا أن هذه الاستعاذة نوع من أنواع الطاعة، فإن كان الإقدام على الطاعة يوجب تقديم الاستعاذة عليها افتقرت الاستعاذة إلى تقديم استعاذة أخرى ولزم التسلسل، وإن كان الإقدام على الطاعة لا يحوج إلى تقديم الاستعاذة عليها لم يكن في الاستعاذة فائدة فكأنه قيل له: الإقدام على الطاعة لا يتم إلا بتقديم الاستعاذة عليها، وذلك يوجب الإتيان بما لا نهاية له، وذلك ليس في وسعك، إلا أنك إذا عرفت هذه الحالة فقد شاهدت عجزك واعترفت بقصورك فأنا أعينك على الطاعة وأعلمك كيفية الخوض فيها فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. النكتة الرابعة: أن سر الاستعاذة هو الالتجاء إلى قادر يدفع الآفات عنك، ثم أن أجل الأمور التي يلقي الشيطان وسوسته فيها قراءة القرآن، لأن من قرأ القرآن ونوى به عبادة الرحمن وتفكر في وعده ووعيده وآياته وبيناته ازدادت رغبته في الطاعات ورهبته عن المحرمات فلهذا السبب صارت قراءة القرآن من أعظم الطاعات، فلا جرم كان سعى الشيطان في الصد عنه أبلغ، وكان احتياج العبد إلى من يصونه عن شر الشيطان أشد، فلهذه الحكمة اختصت قراءة القرآن بالاستعاذة. النكتة الخامسة: الشيطان عدو الإنسان كما قال تعالى:**{ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً }** [فاطر: 6] والرحمن مولى الإنسان وخالقه ومصلح مهماته ثم إن الإنسان عند شروعه في الطاعات والعبادات خاف العدو فاجتهد في أن يتحرى مرضاة مالكه ليخلصه من زحمة ذلك العدو، فلما وصل الحضرة وشاهد أنواع البهجة والكرامة نسي العدو وأقبل بالكلية على خدمة الحبيب، فالمقام الأول: هو الفرار وهو قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والمقام الثاني: وهو الاستقرار في حضرة الملك الجبار فهو قوله: بسم الله الرحمن الرحيم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
النكتة السادسة: قال تعالى:**{ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ }** [الواقعة: 79] فالقلب لما تعلق بغير الله واللسان لما جرى بذكر غير الله حصل فيه نوع من اللوث، فلا بدّ من استعمال الطهور، فلما قال: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ } حصل الطهور، فعند ذلك يستعد للصلاة الحقيقية وهي ذكر الله تعالى فقال: { بِسْمِ اللَّهِ }. النكتبة السابعة: قال أرباب الإشارات: لك عدوان أحدهما ظاهر والآخر باطن، وأنت مأمور بمحاربتهما قال تعالى في العدو الظاهر:**{ قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ }** [التوبة: 29] وقال في العدو الباطن:**{ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً }** [فاطر: 6] فكأنه تعالى قال: إذا حاربت عدوك الظاهر كان مددك الملك، كما قال تعالى:**{ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ مُسَوّمِينَ }** [آل عمران: 125] وإذا حاربت عدوك الباطن كان مددك الملك كما قال تعالى:**{ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلِيهم سُلْطَـٰنٍ }** [الحجر: 42] وأيضاً فمحاربة العدو الباطن أولى من محاربة العدو الظاهر لأن العدو الظاهر إن وجد فرصة ففي متاع الدنيا، والعدو الباطن إن وجد فرصة ففي الدين واليقين، وأيضاً فالعدو الظاهر إن غلبنا كنا مأجورين، والعدو الباطن إن غلبنا كنا مفتونين، وأيضاً فمن قتله العدو الظاهر كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطن كان طريداً، فكان الاحتراز عن شر العدو الباطن أولى، وذلك لا يكون إلا بأن يقول الرجل بقلبه ولسانه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. النكتة الثامنة: إن قلب المؤمن أشرف البقاع، فلا تجد دياراً طيبة ولا بساتين عامرة ولا رياضاً ناضرة إلا وقلب المؤمن أشرف منها، بل قلب المؤمن كالمرآة في الصفاء، بل فوق المرآة، لأن المرآة إن عرض عليها حجاب لم يرَ فيها شيء وقلب المؤمن لا يحجبه السموات السبع والكرسي والعرش كما قال تعالى:**{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرْفَعُهُ }** [فاطر: 10] بل القلب مع جميع هذه الحجب يطالع جلال الربوبية ويحيط علماً بالصفات الصمدية، ومما يدل على أن القلب أشرف البقاع وجوه: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام قال: **" القبر روضة من رياض الجنة "** وما ذاك إلا أنه صار مكان عبد صالح ميت، فإذا كان القلب سريراً لمعرفة الله وعرشاً لآلهيته وجب أن يكون القلب أشرف البقاع، الثاني: كأن الله تعالى يقول: يا عبدي قلبك بستاني وجنتي بستانك فلما لم تبخل علي ببستانك بل أنزلت معرفتي فيه فكيف أبخل ببستاني عليك وكيف أمنعك منه؟ الثالث: أنه تعالى حكى كيفية نزول العبد في بستان الجنة فقال:**{ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ }** [القمر: 55] ولم يقل عند المليك فقط، كأنه قال: أنا في ذلك اليوم أكون مليكاً مقتدراً وعبيدي يكونون ملوكاً، إلا أنهم يكونون تحت قدرتي، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: كأنه تعالى يقول: يا عبدي، إني جعلت جنتي لك، وأنت جعلت جنتك لي، لكنك ما أنصفتني، فهل رأيت جنتي الآن وهل دخلتها؟ فيقول العبد: لا يا رب، فيقول تعالى: وهل دخلت جنتك؟ فلا بدّ وأن يقول العبد: نعم يا رب، فيقول تعالى: إنك بعد ما دخلت جنتي، ولكن لما قرب دخولك أخرجت الشيطان من جنتي لأجل نزولك، وقلت له أخرج منها مذؤماً مدحوراً، فأخرجت عدوك قبل نزولك، وأما أنت فبعد نزولي في بستانك سبعين سنة كيف يليق بك أن لا تخرج عدوي ولا تطرده، فعند ذلك يجيب العبد ويقول: إلهي أنت قادر على إخراجه من جنتك وأما أنا فعاجز ضعيف ولا أقدر على إخراجه، فيقول الله تعالى: العاجز إذا دخل في حماية الملك القاهر صار قوياً فادخل في حمايتي حتى تقدر على إخراج العدو من جنة قلبك، فقل:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فإن قيل: فإذا كان القلب بستان الله فلماذا لا يخرج الشيطان منه؟ قلنا قال أهل الإشارة: كأنه تعالى يقول للعبد: أنت الذي أنزلت سلطان المعرفة في حجرة قلبك، ومن أراد أن ينزل سلطاناً في حجرة نفسه وجب عليه أن يكنس تلك الحجرة وأن ينظفها، ولا يجب على السلطان تلك الأعمال، فنظف أنت حجرة قلبك من لوث الوسوسة فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. النكتة التاسعة: كأنه تعالى يقول يا عبدي، ما أنصفتني أتدري لأي شيء تكدر ما بيني وبين الشيطان إنه كان يعبدني مثل عبادة الملائكة، وكان في الظاهر مقراً بإلهيتي وإنما تكدر ما بيني وبينه لأني أمرته بالسجود لأبيك آدم فامتنع، فلما تكبر نفيته عن خدمتي، وهو في الحقيقة ما عادى أباك، إنما امتنع من خدمتي، ثم إنه يعاديك منذ سبعين سنة وأنت تحبه، وهو يخالفك في كل الخيرات وأنت توافقه في كل المرادات، فأترك هذه الطريقة المذمومة وأظهر عداوته فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. النكتة العاشرة: أما إن نظرت إلى قصة أبيك فإنه أقسم بأنه له من النا صحين، ثم كان عاقبة ذلك الأمر أنه سعى في إخراجه من الجنة، وأما في حقك فإنه أقسم بأنه يضلك ويغويك فقال:**{ فبعزتك لأَغويتهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين }** [ص: 82، 83] فإذا كانت هذه معاملته مع من أقسم أنه ناصحه فكيف تكون معاملته مع من أقسم أنه يضله ويغويه. النكتة الحادية عشرة: إنما قال: أعوذ بالله ولم يذكر اسماً آخر، بل ذكر قوله الله لأن هذا الاسم أبلغ في كونه زاجراً عن المعاصي من سائر الأسماء والصفات لأن الإله هو المستحق للعبادة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان قادراً عليماً حكيماً فقوله: أعوذ بالله جار مجرى أن يقول أعوذ بالقادر العليم الحكيم، وهذه الصفات هي النهاية في الزجر، وذلك لأن السارق يعلم قدرة السلطان وقد يسرق ماله، لأن السارق عالم بأن ذلك السلطان وإن كان قادراً إلا أنه غير عالم، فالقدرة وحدها غير كافية في الزجر، بل لا بدّ معها من العلم، وأيضاً فالقدرة والعلم لا يكفيان في حصول الزجر، لأن الملك إذا رأى منكراً إلا أنه لا ينهى عن المنكر لم يكن حضوره مانعاً منه، أما إذا حصلت القدرة وحصل العلم وحصلت الحكمة المانعة من القبائح فههنا يحصل الزجر الكامل فإذا قال العبد أعوذ بالله فكأنه قال: أعوذ بالقادر العليم الحكيم الذي لا يرضى بشيء من المنكرات فلا جرم يحصل الزجر التام.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
النكتة الثانية عشرة: لما قال العبد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم دل ذلك على أنه لا يرضى بأن يجاور الشيطان، وإنما لم يرض بذلك لأن الشيطان عاصٍ، وعصيانه لا يضر هذا المسلم في الحقيقة، فإذا كان العبد لا يرضى بجوار العاصي فبأن لا يرضى بجوار عين المعصية أولى. النكتة الثالثة عشرة: الشيطان اسم، والرجيم صفة، ثم إنه تعالى لم يقتصر على الاسم بل ذكر الصفة فكأنه تعالى يقول إن هذا الشيطان بقي في الخدمة ألوفاً من السنين فهل سمعت أنه ضرنا أو فعل ما يسوءنا؟ ثم إنا مع ذلك رجمناه حتى طردناه، وأما أنت فلو جلس هذا الشيطان معك لحظة واحدة لألقاك في النار الخالدة فكيف لا تشتغل بطرده ولعنه فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. النكتة الرابعة عشرة: لقائل أن يقول: لم لم يقل: «أعوذ بالملائكة» مع أن أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشيطان؟ فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر الله تعالى؟ وجوابه كأنه تعالى يقول: عبدي إنه يراك وأنت لا تراه، بدليل قوله تعالى:**{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ }** [الأعراف: 27] وإنما نفذ كيده فيكم لأنه يراكم وأنتم لا ترونه، فتمسكوا بمن يرى الشيطان ولا يراه الشيطان، وهو الله سبحانه وتعالى فقولوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. النكتة الخامسة عشرة: أدخل الألف واللام في الشيطان ليكون تعريفاً للجنس لأن الشياطين كثيرة مرئية وغير مرئية، بل المرئي ربما كان أشد، حكي عن بعض المذكرين أنه قال في مجلسه: إن الرجل إذا أراد أن يتصدق فإنه يأتيه سبعون شيطاناً فيتعلقون بيديه ورجليه وقلبه ويمنعونه من الصدقة، فلما سمع بعض القوم ذلك فقال: إني أقاتل هؤلاء السبعين، وخرج من المسجد وأتى المنزل وملأ ذيله من الحنطة وأراد أن يخرج ويتصدق به فوثبت زوجته وجعلت تنازعه وتحاربه حتى أخرجت ذلك من ذيله، فرجع الرجل خائباً إلى المسجد فقال المذكر: ماذا عملت؟ فقال: هزمت السبعين فجاءت أمهم فهزمتني، وأما إن جعلنا الألف واللام للعهد فهو أيضاً جائز لأن جميع المعاصي برضى هذا الشيطان، والراضي يجري مجرى الفاعل له، وإذا استبعدت ذلك فأعرفه بالمسألة الشرعية، فإن عند أبي حنيفة قراءة الإمام قراءة للمقتدى من حيث رضي بها وسكت خلفه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
النكتة السادسة عشرة: الشيطان مأخوذ من «شطن» إذا بعد فحكم عليه بكونه بعيداً، وأما المطيع فقريب قال الله تعالى:**{ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب }** [العلق: 19] والله قريب منك قال الله تعالى:**{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ }** [البقرة: 186] وأما الرجيم فهو المرجوم بمعنى كونه مرمياً بسهم اللعن والشقاوة وأما أنت فموصول بحبل السعادة قال الله تعالى:**{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ }** [الفتح: 26] فدل هذا على أنه جعل الشيطان بعيداً مرجوماً، وجعلك قريباً موصولاً، ثم إنه تعالى أخبر أنه لا يجعل الشيطان الذي هو بعيد قريباً لأنه تعالى قال:**{ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً }** [فاطر: 43] فاعرف أنه لما جعلك قريباً فإنه لا يطردك ولا يبعدك عن فضله ورحمته. النكتة السابعة عشرة: قال جعفر الصادق: إنه لا بدّ قبل القراءة من التعوذ، وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها، والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة والنميمة فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهراً فيقرأ بلسان طاهر كلاماً أنزل من رب طيب طاهر. النكتة الثامنة عشرة: كأنه تعالى يقول: إنه شيطان رجيم، وأنا رحمن رحيم، فابعد عن الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم. النكتة التاسعة عشرة: الشيطان عدوك، وأنت عنه غافل غائب، قال تعالى:**{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ }** [الأعراف: 27]. فعلى هذا لك عدو غائب ولك حبيب غالب، لقوله تعالى:**{ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ }** [يوسف: 21] فإذا قصدك العدو الغائب فافزع إلى الحبيب الغالب، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده. الباب السابع في المسائل الملتحقة بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم المسألة الأولى: فرق بين أن يقال: «أعوذ بالله» وبين أن يقال: بالله أعوذ فإن الأول لا يفيد الحصر، والثاني: يفيده، فلم ورد الأمر بالأول دون الثاني مع أنا بينا أن الثاني أكمل وأيضاً جاء قوله: «الحمد لله» وجاء قوله: «لله الحمد» وأما هنا فقد جاء «أعوذ بالله» وما جاء قوله «بالله أعوذ» فما الفرق؟. المسألة الثانية: قوله: أعوذ بالله لفظه الخبر ومعناه الدعاء، والتقدير: اللهم أعذني، ألا ترى أنه قال: { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } كقوله: «أستغفر الله» أي اللهم أغفر لي، والدليل عليه أن قوله: { أعوذ بالله } أخبار عن فعله، وهذا القدر لا فائدة فيه إنما الفائدة في أن يعيذه الله، فما السبب في أنه قال: «أعوذ بالله» ولم يقل أعذني؟ والجواب أن بين الرب وبين العبد عهداً كما قال تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَـٰهَدتُّمْ }** [النحل:91] وقال:**{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }** [البقرة:40] فكان العبد يقول أنا مع لؤم الإنسانية ونقص البشرية وفيت بعهد عبوديتي حيث قلت: «أعوذ بالله» فأنت مع نهاية الكرم وغاية الفضل والرحمة أولى بأن تفي بعهد الربوبية فتقول: إني أعيذك من الشيطان الرجيم. المسألة ج: أعوذ فعل مضارع، وهو يصلح للحال والاستقبال، فهل هو حقيقة فيهما؟ والحق أنه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال، وإنما يختص به بحرف السين وسوف. د لم وقع الاشتراك بين الحاضر والمستقبل، ولم يقع بين الحاضر والماضي؟. هـ كيف المشابهة بين المضارع وبين الاسم. و كيف العامل فيه، ولا شك أنه معمول فما هو. ز قوله:أعوذ يدل على أن العبد مستعيذ في الحال وفي كل المستقبل، وهو الكمال، فهل يدل على أن هذه الاستعاذة باقية في الجنة. ح قوله: أعوذ حكاية عن النفس، ولا بدّ من الأربعة المذكورة في قوله: أتين. أما المباحث العقلية المتعلقة بالباء في قوله أعوذ بالله فهي كثيرة أ الباء في قوله: «بالله» باء الإلصاق وفيه مسائل: ـ المسألة الأولى: البصريون يسمونه باء الإلصاق، والكوفيون يسمونه باء الآلة، ويسميه قوم باء التضمين، واعلم أن حاصل الكلام أن هذه الباء متعلقة بفعل لا محالة، والفائدة فيه أنه لا يمكن إلصاق ذلك الفعل بنفسه إلا بواسطة الشيء الذي دخل عليه، هذا الباء فهو باء الإلصاق لكونه سبباً للإلصاق، وباء الآلة لكونه داخلاً على الشيء الذي هو آلة. المسألة الثانية: اتفقوا على أنه لا بدّ فيه من إضمار فعل، فإنك إذا قلت: «بالقلم» لم يكن ذلك كلاماً مفيداً، بل لا بدّ وأن تقول: «كتبت بالقلم» وذلك يدل على أن هذا الحرف متعلق بمضمر، ونظيره قوله: «بالله لأفعلن» ومعناه أحلف بالله لأفعلن، فحذف أحلف لدلالة الكلام عليه، فكذا ههنا، ويقول الرجل لمن يستأذنه في سفره: على اسم الله أي سر على اسم الله. المسألة الثالثة: لما ثبت أنه لا بدّ من الإضمار فنقول: الحذف في هذا المقام أفصح، والسبب فيه أنه لو وقع التصريح بذلك المضمر لاختص قوله: «أعوذ بالله» بذلك الحكم المعين أما عند الحذف فإنه يذهب الوهم كل مذهب، ويقع في الخاطر أن جميع المهمات، لا تتم إلا بواسطة الاستعاذة بالله، وإلا عند الابتداء باسم الله، ونظيره أنه قال: «الله أكبر» ولم يقل أنه أكبر من الشيء الفلاني لأجل ما ذكرناه من إفادة العموم فكذا هنا. المسألة الرابعة: قال سيبويه لم يكن لهذه الباء عمل إلا الكسر فكسرت لهذا السبب، فإن قيل: كاف التشبيه ليس لها عمل إلا الكسر ثم إنها ليست مكسورة بل مفتوحة، قلنا: كاف التشبيه قائم مقام الاسم، وهو في العمل ضعيف، أما الحرف فلا وجود له إلا بحسب هذا الأثر، فكان فيه كلاماً قوياً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الخامسة: الباء قد تكون أصلية كقوله تعالى:**{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ ٱلرُّسُلِ }** [الأحقاف: 9] وقد تكون زائدة وهي على أربعة أوجه: أحدها: للإلصاق وهي كقوله: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ } وقوله: بسم الله وثانيها: للتبعيض عند الشافعي رضي الله عنه، وثالثها: لتأكيد النفي كقوله تعالى:**{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ }** [فصلت: 46] ورابعها: للتعدية كقوله تعالى:**{ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ }** [البقرة:17] أي أذهب نورهم، وخامسها: الباء بمعنى في قال: حل بأعدائك ما حل بي أي: حل في أعدائك، وأما باء القسم، وهو قوله: «بالله» فهو من جنس باء الإلصاق. المسألة السادسة: قال بعضهم: الباء في قوله:**{ وامسحوا برؤسكم }** [آل عمران:6] زائدة والتقدير: وامسحوا رؤسكم، وقال الشافعي رضي الله عنه إنها تفيد التبعيض، حجة الشافعي رضي الله عنه وجوه الأول أن هذه الباء إما أن تكون لغواً أو مفيداً، والأول باطل لأن الحكم بأن كلام رب العالمين وأحكم الحاكمين لغو في غاية البعد، وذلك لأن المقصود من الكلام إظهار الفائدة فحمله على اللغو على خلاف الأصل، فثبت أنه يفيد فائدة زائدة، وكل من قال بذلك قال: إن تلك الفائدة هي التبعيض، الثاني: أن الفرق بين قوله: «مسحت بيدي المنديل» وبين قوله: «مسحت يدي بالمنديل» يكفي في صحة صدقه ما إذا مسح يده بجزء من أجزاء المنديل. الثالث: أن بعض أهل اللغة قال: الباء قد تكون للتبعيض، وأنكره بعضهم، لكن رواية الإثبات راجحة فثبت أن الباء تفيد التبعيض، ومقدار ذلك البعض غير مذكور فوجب أن تفيد أي مقدار يسمى بعضاً، فوجب الاكتفاء بمسح أقل جزء من الرأس، وهذا هو قول الشافعي، والإشكال عليه أنه تعالى قال:**{ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم }** [النساء:43] فوجب أن يكون مسح أقل جزء من أجزاء الوجه واليد كافياً في التيمم، وعند الشافعي لا بدّ فيه من الإتمام، وله أن يجيب فيقول: مقتضى هذا النص الاكتفاء في التيمم بأقل جزء من الأجزاء إلا أن عند الشافعي الزيادة على النص ليست نسخاً فأوجبنا الإتمام لسائر الدلائل، وفي مسح الرأس لم يوجد دليل يدل على وجوب الإتمام فاكتفينا بالقدر المذكور في هذا النص. المسألة السابعة: فرع أصحاب أبي حنيفة على باء الإلصاق مسائل: إحداها: قال محمد في «الزيادات»: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق بمشيئة الله تعالى لا يقع الطلاق، وهو كقوله: أنت طالق إن شاء الله، ولو قال: لمشيئة الله يقع، لأنه أخرجه مخرج التعليل، وكذلك أنت طالق بإرادة الله لا يقع الطلاق، ولو قال لإرادة الله يقع، أما إذا قال: أنت طالق بعلم الله أو لعلم الله فإنه يقع الطلاق في الوجهين، ولا بدّ من الفرق، وثانيها: قال في كتاب الأَيمان لو قال لامرأته: إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني فأنت طالق، فإنها تحتاج في كل مرة إلى إذنه، ولو قال: إن خرجت إلا أن آذن لك فأذن لها مرة كفى، ولا بدّ من الفرق، وثالثها: لو قال لامرأته: طلقي نفسك ثلاثاً بألف، فطلقت نفسها واحدة وقعت بثلث الألف وذلك أن الباء ههنا تدل على البدلية فيوزع البدل على المبدل، فصار بإزاء من طلقة ثلث الألف، ولو قال: طلقي نفسك ثلاثاً على ألف فطلقت نفسها واحدة لم يقع شيء عند أبي حنيفة لأن لفظة «على» كلمة شرط ولم يوجد الشرط وعند صاحبيه تقع واحدة بثلث الألف.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
قلت: وههنا مسائل كثيرة متعلقة بالباء. أ قال أبو حنيفة: الثمن إنما يتميز عن المثمن بدخول حرف الباء عليه، فإذا قال: بعت كذا بكذا، فالذي دخل عليه الباء هو الثمن فقط، وعلى هذا الفرق بنى مسألة البيع الفاسد فإنه قال: إذا قال: بعت هذا الكرباس بمن من الخمر صح البيع وانعقد فاسداً، وإذا قال بعت هذا الخمر بهذا الكرباس لم يصح، والفرق أن في الصورة الأولى الخمر ثمن، وفي الصورة الثانية الخمر مثمن، وجعل الخمر ثمناً جائز أما جعله مثمناً فإنه لا يجوز. ب قال الشافعي: إذا قال بعت منك هذا الثوب بهذا الدرهم تعين ذلك الدرهم، وعند أبي حنيفة لا يتعين. ج قال الله تعالى:**{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ }** [التوبة: 111] فجعل الجنة ثمناً للنفس والمال. ومن أصول الفقه مسائل: أ الباء تدل على السببية قال الله تعالى:**{ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ ٱللَّهَ }** [الأنفال: 13] ههنا الباء دلت على السببية، وقيل: إنه لا يصح لأنه لا يجوز إدخال لفظ الباء على السبب فيقال ثبت هذا الحكم بهذا السبب. ب إذا قلنا الباء تفيد السببية فما الفرق بين باء السببية وبين لام السببية، لا بدّ من بيانه. ج الباء في قوله: «سبحانك اللهم وبحمدك» لا بدّ من البحث عنه فإنه لا يدري أن هذه الباء بماذا تتعلق، وكذلك البحث عن قوله:**{ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ }** [البقرة: 30] فإنه يجب البحث عن هذه الباء. د قيل: كل العلوم مندرج في الكتب الأربعة، وعلومها في القرٱن، وعلوم القرآن في الفاتحة، وعلوم الفاتحة في بسم الله الرحمن الرحيم وعلومها في الباء من بسم الله قلت لأن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب، وهذا الباء باء الإلصاق فهو يلصق العبد بالرب، فهو كمال المقصود. النوع الثالث من مباحث هذه الباب، مباحث حروف الجر. فإن هذه الكلمة اشتملت على نوعين منها: أحدهما: الباء وثانيهما: لفظ «من» فنقول: في لفظ «من» مباحث: ـ أ أنك تقول: «أخذت المال من ابنك» فتكسر النون ثم تقول: «أخذت المال من الرجل» فتفتح النون، فههنا اختلف آخر هذه الكلمة، وإذا اختلفت الأحوال دلت على اختصاص كل حالة بهذه الحركة، فههنا اختلف آخر هذه الكلمة باختلاف العوامل، فإنه لا معنى للعامل إلا الأمر الدال على استحقاق هذه الحركات، فوجب كون هذه الكلمة معربة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ب كلمة«من» وردت على وجوه أربعة: إبتداء الغاية، والتبعيض، والتبيين، والزيادة. ج قال المبرد: الأصل هو ابتداء الغاية، والبواقي مفرعة عليه، وقال آخرون: الأصل هو التبعيض، والبواقي مفرعة عليه. د أنكر بعضهم كونها زائدة، وأما قوله تعالى:**{ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ }** [نوح: 4] فقد بينوا أنه يفيد فائدة زائدة فكأنه قال يغفر لكم بعض ذنوبكم، ومن غفر كل بعض منه فقد غفر كله. هـ الفرق بين من وبين عن لا بدّ من ذكره قال الشيطان**{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ }** [الأعراف: 17] وفيه سؤالان: الأول: لم خص الأولين بلفظ من والثالث والرابع بلفظ عن. الثاني: لما ذكر الشيطان لفظ من ولفظ عن فلم جاءت الاستعاذة بلفظ من فقال: أعوذ بالله من الشيطان ولم يقل عن الشيطان. النوع الرابع من مباحث هذا الباب: ـ أ الشيطان مبالغة في الشيطنة، كما أن الرحمن مبالغة في الرحمة، والرجيم في حق الشيطان فعيل بمعنى مفعول، كما أن الرحيم في حق الله تعالى فعيل بمعنى فاعل، إذا عرفت هذا فهذه الكلمة تقتضي الفرار من الشيطان الرجيم إلى الرحمن الرحيم، وهذا يقتضي المساواة بينهما، وهذا ينشأ عنه قول الثنوية الذين يقولون إن الله وإبليس أخوان، إلا أن الله هو الأخ الكريم الرحيم الفاضل، وإبليس هو الأخ اللئيم الخسيس المؤذي، فالعاقل يفر من هذا الشرير إلى ذلك الخير. ب الإله هل هو رحيم كريم؟ فإن كان رحيماً كريماً فلم خلق الشيطان الرجيم وسلطه على العباد، وإن لم يكن رحيماً كريماً فأي فائدة في الرجوع إليه والاستعاذة به من شر الشيطان. ج الملائكة في السموات هل يقولون: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فإن ذكروه فإنما يستعيذون من شرور أنفسهم لا من شرور الشيطان. د أهل الجنة في الجنة هل يقولون أعوذ بالله. هـ الأنبياء والصديقون لم يقولون أعوذ بالله مع أن الشيطان أخبر أنه لا تعلق له بهم في قوله:**{ فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ }** [صۤ: 82 83]. و الشيطان أخبر أنه لا تعلق له بهم إلا في مجرد الدعوة حيث قال:**{ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[إبراهيم: 22] وأما الإنسان فهو الذي ألقى نفسه في البلاء فكانت استعاذة الإنسان من شر نفسه أهم وألزم من استعاذته من شر الشيطان فلم بدأ بالجانب الأضعف وترك الجانب الأهم؟. الكتاب الثاني في مباحث بسم اللّه الرحمن الرحيم وفيه أبواب: الباب الأول: في مسائل جارية مجرى، المقدمات وفيه مسائل: متعلق باء البسملة: المسألة الأولى: قد بينا أن الباء من بسم الله الرحمن الرحيم متعلقة بمضمر، فنقول: هذا المضمر يحتمل أن يكون اسماً، وأن يكون فعلاً، وعلى التقديرين فيجوز أن يكون متقدماً، وأن يكون متأخراً، فهذه أقسام أربعة، أما إذا كان متقدماً وكان فعلاً فكقولك: أبدأ باسم الله، وأما إذا كان متقدماً وكان اسماً فكقولك: ابتداء الكلام باسم الله، وأما إذا كان متأخراً وكان فعلاً فكقولك: باسم الله أبدأ، وأما إذا كان متأخراً وكان اسماً فكقولك: باسم الله ابتدائي ويجب البحث ههنا عن شيئين: الأول: أن التقديم أولى أم التأخير؟ فنقول كلاهما وارد في القرآن، أما التقديم فكقوله:**{ بِٱسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا }** [هود: 41] وأما التأخير فكقوله:**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ }** [العلق: 1] وأقول: التقديم عندي أولى، ويدل عليه وجوه: الأول: أنه تعالى قديم واجب الوجود لذاته، فيكون وجوده سابقاً على وجود غيره، والسابق بالذات يستحق السبق في الذِّكر، الثاني: قال تعالى:**{ هُوَ ٱلاْوَّلُ وَٱلاْخِرُ }** [الحديد: 3] وقال:**{ لِلَّهِ ٱلأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ }** [الروم: 4] الثالث: أن التقديم في الذكر أدخل في التعظيم، الرابع: أنه قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } فههنا الفعل متأخر عن الاسم، فوجب أن يكون في قوله:بسم الله كذلك، فيكون التقدير باسم الله ابتدىء، الخامس: سمعت الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رضي الله عنه يقول: سمعت الشيخ أبا القاسم الأنصاري يقول: حضر الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير الميهني مع الأستاذ أبي القاسم القشيري فقال الأستاذ القشيري: المحققون قالوا ما رأينا شيئاً إلا ورأينا الله بعده، فقال الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير: ذاك مقام المريدين أما المحققون فإنهم ما رأوا شيئًا إلا وكانوا قد رأوا الله قبله، قلت: وتحقيق الكلام أن الانتقال من المخلوق إلى الخالق إشارة إلى برهان الإنّ، والنزول من الخالق إلى المخلوق برهان اللم، ومعلوم أن برهان اللم أشرف، وإذا ثبت هذا فمن أضمر الفعل أولاً فكأنه انتقل من رؤية فعله إلى رؤية وجوب الاستعانة باسم الله ومن قال: باسم الله ثم أضمر الفعل ثانياً فكأنه رأى وجوب الاستعانة بالله ثم نزل منه إلى أحوال نفسه. المسألة الثانية: إضمار الفعل أولى أم إضمار الاسم، قال الشيخ أبو بكر الرازي: نسق تلاوة القرآن يدل على أن المضمر هو الفعل، وهو الأمر، لأنه تعالى قال:**{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }** [االفاتحة: 4] والتقدير قولوا إياك نعبد وإياك نستعين، فكذلك قوله: { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } التقدير قولوا بسم الله، وأقول: لقائل أن يقول: بل إضمار الاسم أولى، لأنا إذا قلنا تقدير الكلام بسم الله ابتداء كل شيء كان هذا إخباراً عن كونه مبدأ في ذاته لجميع الحوادث وخالقاً لجميع الكائنات، سواء قاله قائل أو لم يقله، وسواء ذكره ذاكر أو لم يذكره، ولا شك أن هذا الاحتمال أولى، وتمام الكلام فيه يجيء في بيان أن الأولى أن يقال قولوا الحمد لله أو الأولى أن يقال الحمد لله لأنه إخبار عن كونه في نفسه مستحقاً للحمد سواء قاله قائل أو لم يقله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الثالثة: الجر يحصل بشيئين: أحدهما: بالحرف كما في قوله: «باسم» والثاني: بالإضافة كما في «الله» من قوله: «باسم الله» وأما الجر الحاصل في لفظ «الرحمن الرحيم» فإنما حصل لكون الوصف تابعاً للموصوف في الإعراب، فههنا أبحاث: أحدها: أن حروف الجر لم اقتضت الجر؟ وثانيها: أن الإضافة لم اقتضت الجر؟ وثالثها: أن اقتضاء الحرف أقوى أو اقتضاء الإضافة، ورابعها: أن الإضافة على كم قسم تقع، قالوا إضافة الشيء إلى نفسه محال، فبقي أن تقع الإضافة بين الجزء والكل، أو بين الشيء والخارج عن ذات الشيء المنفصل عنه، أما القسم الأول فنحو «باب حديد، وخاتم ذهب» لأن ذلك الباب بعض الحديد وذلك الخاتم بعض الذهب، وأما القسم الثاني فكقولك: «غلام زيد» فإن المضاف إليه مغاير للمضاف بالكلية، وأما أقسام النسب والإضافات فكأنها خارجة عن الضبط والتعديد فإن أنواع النسب غير متناهية. المسألة الرابعة: كون الاسم اسماً للشيء نسبة بين اللفظة المخصوصة التي هي الاسم وبين الذات المخصوصة التي هي المسمى، وتلك النسبة معناها أن الناس اصطلحوا على جعل تلك اللفظة المخصوصة معرفة لذلك الشيء المخصوص، فكأنهم قالوا متى سمعتم هذه اللفظة منا فافهموا أنا أردنا بها ذلك المعنى الفلاني، فلما حصلت هذه النسبة بين الاسم وبين المسمى لا جرم صحت إضافة الاسم إلى المسمى، فهذا هو المراد من إضافة الاسم إلى الله تعالى. المسألة الخامسة: قال أبو عبيد: ذكر الاسم في قوله: «بسم الله» صلة زائدة، والتقدير بالله قال، وإنما ذكر لفظة الاسم: إما للتبرك، وإما ليكون فرقاً بينه وبين القسم، وأقول والمراد من قوله: «بسم الله» قوله: ابدؤا بسم الله، وكلام أبي عبيد ضعيف لأنا لما أمرنا بالابتداء فهذا الأمر إنما يتناول فعلاً من أفعالنا، وذلك الفعل هو لفظنا وقولنا، فوجب أن يكون المراد أبدأ بذكر الله، والمراد أبدأ ببسم الله، وأيضاً فالفائدة فيه أنه كما أن ذات الله تعالى أشرف الذوات فكذلك ذكره أشرف الأذكار، واسمه أشرف الأسماء، فكما أنه في الوجود سابق على كل ما سواه وجب أن يكون ذكره سابقاً على كل الأذكار، وأن يكون اسمه سابقاً على كل الأسماء، وعلى هذا التقدير فقد حصل في لفظ الاسم هذه الفوائد الجليلة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الباب الثاني فيما يتعلق بهذه الكلمة من القراءة والكتابة أما المباحث المتعلقة بالقراءة فكثيرة: ـ الوقف على كلمات البسملة: المسألة الأولى: أجمعوا على أن الوقف على قوله: «بسم» ناقص قبيح، وعلى قوله: «بسم الله» أو على قوله: «بسم الله الرحمن» كاف صحيح، وعلى قوله: «بسم الله الرحمن الرحيم» تام واعلم أن الوقف لا بدّ وأن يقع على أحد هذه الأوجه الثلاثة، وهو أن يكون ناقصاً، أو كافياً أو كاملاً، فالوقف على كل كلام لا يفهم بنفسه ناقص، والوقف على كل كلام مفهوم المعاني إلا أن ما بعده يكون متعلقاً بما قبله يكون كافياً، والوقف على كل كلام تام ويكون ما بعده منقطعًا عنه يكون وقفاً تاماً. ثم لقائل أن يقول: قوله: «الحمد لله رب العالمين» كلام تام، إلا أن قوله: «الرحمن الرحيم ملك» متعلق بما قبله، لأنها صفات، والصفات تابعة للموصوفات، فإن جاز قطع الصفة عن الموصوف وجعلها وحدها آية فلم لم يقولوا بسم الله الرحمن آية؟ ثم يقولوا الرحيم آية ثانية، وإن لم يجز ذلك فكيف جعلوا الرحمن الرحيم آية مستقلة، فهذا الإشكال لا بدّ من جوابه. حكم لام الجلالة: المسألة الثانية: أطبق القراء على ترك تغليظ اللام في قوله: «بسم الله» وفي قوله: «الحمد لله» والسبب فيه أن الانتقال من الكسرة إلى اللام المفخمة ثقيل لأن الكسرة توجب التسفل، واللام المفخمة حرف مستعل، والانتقال من التسفل إلى التصعد ثقيل، وإنما استحسنوا تفخيم اللام وتغليظها من هذه الكلمة في حال كونها مرفوعة أو منصوبة كقوله:**{ ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ }** [الشورى: 19]**{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }** [الإخلاص: 1] وقوله:**{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ }** [التوبة: 111]. المسألة الثالثة: قالوا المقصود من هذا التفخيم أمران: الأول: الفرق بينه وبين لفظ اللام في الذكر، الثاني: أن التفخيم مشعر بالتعظيم، وهذا اللفظ يستحق المبالغة في التعظيم، الثالث: أن اللام الرقيقة إنما تذكر بطرف اللسان، وأما هذه اللام المغلظة فإنما تذكر بكل اللسان فكان العمل فيه أكثر فوجب أن يكون أدخل في الثواب وأيضاً جاء في التوراة يا موسى أجب ربك بكل قلبك، فههنا كان الإنسان يذكر ربه بكل لسانه، وهو بدل على أنه يذكره بكل قلبه، فلا جرم كان هذا أدخل في التعظيم. المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء، وكنسبة السين إلى الصاد، فإن الدال تذكر بطرف اللسان والطاء تذكر بكل اللسان وكذلك السين تذكر بطرف اللسان والصاد تذكر بكل اللسان، فثبت أن نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء وكنسبة السين إلى الصاد، ثم إنا رأينا أن القوم قالوا الدال حرف والطاء حرف آخر، وكذلك السين حرف والصاد حرف آخر فكان الواجب أيضاً أن يقولوا: اللام الرقيقة حرف واللام الغليظة حرف آخر، وأنهم ما فعلوا ذلك ولا بدّ من الفرق.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
حكم الإدغام: المسألة الخامسة: تشديد اللام من قولك: «الله» للإدغام فإنه حصل هناك لامان الأولى: لام التعريف وهي ساكنة والثانية: لام الأصل وهي متحركة، وإذا التقى حرفان مثلان من الحروف كلها وكان أول الحرفين ساكناً والثاني متحركاً أدغم الساكن في المتحرك ضرورة سواء كانا في كلمتين أو كلمة واحدة، أما في الكلمتين فكما في قوله:**{ فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ }** [البقرة: 16]**{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ }** [النحل: 53]**{ مَّا لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ }** [الرعد: 34] وأما في الكلمة الواحدة فكما في هذه الكلمة. واعلم أن الألف واللام والواو والياء إن كانت ساكنة امتنع اجتماع مثلين، فامتنع الإدغام لهذا السبب، وإن كانت متحركة واجتمع فيها مثلان كان الإدغام جائزاً. المسألة السادسة: لأَرباب الإشارات والمجاهدات ههنا دقيقة، وهي أن لام التعريف ولام الأصل من لفظة «الله» اجتمعا فأدغم أحدهما في الثاني، فسقط لام المعرفة وبقي لام لفظة الله، وهذا كالتنبيه على أن المعرفة إذا حصلت إلى حضرة المعروفة سقطت المعرفة وفنيت وبطلت، وبقي المعروف الأزلي كما كان من غير زيادة ولا نقصان. مد لام الجلالة: المسألة السابعة: لا يجوز حذف الألف من قولنا: الله في اللفظ، وجاز ذلك في ضرورة الشعر عند الوقف عليه، قال بعضهم: ـ
| **أقبل سيل جاء من عند الله** | | **يجود جود الجنة المغله** |
| --- | --- | --- |
انتهى، ويتفرع على هذا البحث مسائل في الشريعة: إحداها: أنه عند الحلف لو قال بله فهل ينعقد يمينه أم لا قال بعضهم: لا لأن قوله بله اسم للرطوبة فلا ينعقد اليمين، وقال آخرون ينعقد اليمين به لأنه بحسب أصل اللغة جائز، وقد نوى به الحلف فوجب أن تنعقد وثانيها: لو ذكره على هذه الصفة عند الذبيحة هل يصح ذلك أم لا، وثالثها: لو ذكر قوله: «الله» في قوله: «الله أكبر» هل تنعقد الصلاة به أم لا؟. المسألة الثامنة: لم يقرأ أحد الله بالإمالة إلا قتيبة في بعض الروايات انتهى. حكم لام أل: المسألة التاسعة: تشديد الراء من قوله: «الرحمن الرحيم» لأجل إدغام لام التعريف في الراء، ولا خلاف بين القراء في لزوم إدغام لام التعريف في اللام، وفي ثلاثة عشر حرفاً سواه وهي: الصاد، والضاد، والسين، والشين، والدال، والذال، والراء، والزاي، والطاء، والظاء، والتاء، والثاء، والنون، انتهى. كقوله تعالى: { ٱلتَّـٰئِبُونَ ٱلْعَـٰبِدُونَ ٱلْحَـٰمِدُونَ ٱلسَّـٰئِحُونَ ٱلراكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ } والعلة الموجبة لجواز هذا الإدغام قرب المخرج، فإن اللام وكل هذه الحروف المذكورة مخرجها من طرف اللسان وما يقرب منه، فحسن الإدغام، ولا خلاف بين القراء في امتناع إدغام لام التعريف فيما عدا هذه الثلاثة عشر كقوله:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ ٱلْعَـٰبِدُونَ ٱلْحَـٰمِدُونَ.... ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ }** [التوبة: 112] كلها بالإظهار، وإنما لم يجز الإدغام فيها لبعد المخرج، فإنه إذا بعد مخرج الحرف الأول عن مخرج الحرف الثاني ثقل النطق بهما دفعة فوجب تمييز كل واحد منهما عن الآخر، بخلاف الحرفين اللذين يقرب مخرجاهما، لأن التمييز بينهما مشكل صعب. المسألة العاشرة: أجمعوا على أنه لا يمال لفظ «الرحمن» وفي جواز إمالته قولان للنحويين: أحدهما: أنه يجوز، ولعله قول سيبويه، وعلة جوازه انكسار النون بعد الألف، والقول الثاني: وهو الأظهر عند النحويين، أنه لا يجوز. المسألة الحادية عشرة: أجمعوا على أن إعراب «الرحمن الرحيم» هو الجر لكونهما صفتين للمجرور الأول إلا أن الرفع والنصب جائزان فيهما بحسب النحو، أما الرفع فعلى تقدير بسم الله هو الرحمن الرحيم، وأما النصب فعلى تقدير بسم الله أعين الرحمن الرحيم. النوع الثاني من مباحث هذا الباب ما يتعلق بالخط، وفيه مسائل: ـ ما يتعلق بالبسملة قراءة وكتابة: المسألة الأولى: طولوا الباء من «بسم الله» وما طولوها في سائر المواضع، وذكروا في الفرق وجهين: الأول: أنه لما حذفت ألف الوصل بعد الباء طولوا هذه الباء ليدل طولها على الألف المحذوفة التي بعدها، ألا ترى أنهم لما كتبوا**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ }** [العلق: 1] بالألف ردوا الباء إلى صفتها الأصلية، الثاني: قال القتيبي، إنما طولوا الباء لأنهم أرادوا أن لا يستفتحوا كتاب الله إلا بحرف معظم، وكان عمر بن عبد العزيز يقول لكتابه طولوا الباء، وأظهروا السين. ودوروا الميم تعظيماً لكتاب الله. المسألة الثانية: قال أهل الإشارة والباء حرف منخفض في الصورة فلما اتصال بكتبة لفظ الله ارتفعت واستعلت، فنرجو أن القلب لما اتصل بخدمة الله عزّ وجلّ أن يرتفع حاله ويعلو شأنه. المسألة الثالثة: حذفوا ألف «اسم» من قوله: «بسم الله» وأثبتوه في قوله: إقرأ باسم ربك والفرق من وجهين: الأول: أن كلمة «باسم الله» مذكورة في أكثر الأوقات عند أكثر الأفعال، فلأجل التخفيف حذفوا الألف، بخلاف سائر المواضع فإن ذكرها قليل. الثاني: قال الخليل: إنما حذفت الألف في قوله: «بسم الله» لأنها إنما دخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن، فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف فسقطت في الخط، وإنما لم تسقط في قوله: { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } لأن الباء لا تنوب عن الألف في هذا الموضع كما في بسم الله لأنه يمكن حذف الباء من { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } مع بقاء المعنى صحيحاً، فإنك لو قلت إقرأ اسم ربك صح المعنى، أما لو حذفت الباء من «بسم الله» لم يصح المعنى فظهر الفرق.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الرابعة: كتبوا لفظة الله بلامين، وكتبوا لفظة الذي بلام واحدة، مع استوائهما في اللفظ وفي كثرة الدوران على الألسنة، وفي لزوم التعريف، والفرق من وجوه: الأول: أن قولنا:«الله» اسم معرب متصرف تصرف الأسماء، فأبقوا كتابته على الأصل، أما قولنا «الذي» فهو مبني لأجل أنه ناقص لأنه لا يفيد إلا مع صلته فهو كبعض الكلمة، ومعلوم أن بعض الكلمة يكون مبنياً، فأدخلوا فيه النقصان لهذا السبب، ألا ترى أنهم كتبوا قولهم: «اللذان» بلامين، لأن التثنية أخرجته عن مشابهة الحروف، فإن الحرف لا يثنى. الثاني: أن قولنا:«الله» لو كتب بلام واحدة لالتبس بقوله إله، وهذا الالتباس غير حاصل في قولنا الذي. الثالث: أن تفخيم ذكر الله في اللفظ واجب، فكذا في الخط، والحذف ينافي التفخيم وأما قولنا: «الذي» فلا تفخيم له في المعنى فتركوا أيضاً تفخيمه في الخط. المسألة الخامسة: إنما حذفوا الألف قبل الهاء من قولنا: «الله» في الخط لكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة بالصورة عند الكتابة، وهو مثل كراهتهم اجتماع الحروف المتماثلة في اللفظ عند القراءة. المسألة السادسة: قالوا: الأصل في قولنا: «الله» الإله، وهي ستة حروف، فلما أبدلوه بقولهم: «الله» بقيت أربعة أحرف في الخط: همزة، ولامان، وهاء فالهمزة من أقصى الحلق واللام من طرف اللسان، والهاء من أقصى الحلق، وهو إشارة إلى حالة عجيبة، فإن أقصى الحلق مبدأ التلفظ بالحروف، ثم لا يزال يترقى قليلاً قليلاً إلى أن يصل إلى طرف اللسان ثم يعود إلى الهاء الذي هو في داخل الحلق، ومحل الروح، فكذلك العبد يبتدىء من أول حالته التي هي حالة النكرة والجهالة، ويترقى قليلاً قليلاً في مقامات العبودية، حتى إذا وصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ودخل في عالم المكاشفات والأنوار أخذ يرجع قليلاً قليلاً حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد، فهو إشارة إلى ما قيل: النهاية رجوع إلى البداية. المسألة السابعة: إنما جاز حذف الألف قبل النون من «الرحمن» في الخط على سبيل التخفيف، ولو كتب بالألف حسن، ولا يجوز حذف الياء من الرحيم، لأن حذف الألف من الرحمن لا يخل بالكلمة ولا يحصل فيها التباس، بخلاف حذف الياء من الرحيم. الباب الثالث من هذا الكتاب في مباحث الاسم، وهي نوعان: أحدهما: ما يتعلق من المباحث النقلية بالاسم، والثاني: ما يتعلق من المباحث العقلية بالاسم. النوع الأول: وفيه مسائل: ـ لغات الاسم: المسألة الأولى: في هذا اللفظ لغتان مشهورتان، تقول العرب: هذا اسمه وسمه، قال: باسم الذي في كل سورة سمه. وقيل: فيه لغتان غيرهما سم وسم، قال الكسائي: إن العرب تقول تارة اسم بكسر الألف وأخرى بضمه، فإذا طرحوا الألف قال الذين لغتهم كسر الألف سم، وقال الذين لغتهم ضم الألف سم، وقال ثعلب: من جعل أصله من سما يسمى قال اسم وسم، ومن جعل أصله من سما يسمو قال اسم وسم، وقال المبرد: سمعت العرب تقول اسمه واسمه وسمه وسمه وسماه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الثانية: أجمعوا على أن تصغير الاسم سمي وجمعه أسماء وأسامي. اشتقاق الاسم: المسألة الثالثة: في اشتقاقه قولان: قال البصريون: هو مشتق من سما يسمو إذا علا وظهر، فاسم الشيء ما علاه حتى ظهر ذلك الشيء به، وأقول: اللفظ معرف للمعنى، ومعرف الشيء متقدم في المعلومية على المعرف، فلا جرم كان الاسم عالياً على المعنى ومتقدماً عليه، وقال الكوفيون: هو مشتق من وسم يسم سمة، والسمة العلامة، فالاسم كالعلامة المعرفة للمسمى، حجة البصريين لو كان اشتقاق الاسم من السمة لكان تصغيره وسيماً وجمعه أوساماً. المسألة الرابعة: الذين قالوا اشتقاقه من السمة قالوا أصله من وسم يسم، ثم حذف منه الواو، ثم زيد فيه ألف الوصل عوضاً عن المحذوف كالعدة والصفة والزنة، أصله الوعد والوصف والوزن، أسقط منها الواو، وزيد فيها الهاء، وأما الذين قالوا اشتقاقه من السمو وهو العلو، فلهم قولان: الأول: أن أصل الاسم من سما يسمو وسما يسمي، والأمر فيه اسم: كقولنا ادع من دعوت، أو اسم مثل ارم من رميت، ثم إنهم جعلوا هذه الصيغة اسماً وأدخلوا عليها وجوه الإعراب، وأخرجوها عن حد الأفعال، قالوا: وهذا كما سموا البعير يعملا، وقال الأخفش: هذا مثل الآن فإن أصله آن يئين إذا حضر، ثم أدخلوا الألف واللام على الماضي من فعله، وتركوه مفتوحاً، والقول الثاني: أصله سمو مثل حمو، وإنما حذفت الواو من آخره استثقالاً لتعاقب الحركات عليها مع كثرة الدوران، وإنما أعربوا الميم لأنها صارت بسبب حذف الواو آخر الكلمة فنقل حركة الواو إليها، وإنما سكنوا السين لأنه لما حذفت الواو بقي حرفان أحدهما ساكن والآخر متحرك، فلما حرك الساكن وجب تسكين المتحرك ليحصل الاعتدال، وإنما أدخلت الهمزة في أوله لأن الابتداء بالساكن محال، فاحتاجوا إلى ذكر ما يبتدأ به، وإنما خصت الهمزة بذلك لأنها من حروف الزيادة. مسائل الاسم العقلية: النوع الثاني: من مباحث هذه الباب، المسائل العقلية: ـ فنقول: أما حد الاسم وذكر أقسامه وأنواعه، فقد تقدم ذكره في أول هذا الكتاب وبقي ههنا مسائل: ـ المسألة الأولى: قالت الحشوية والكرامية والأشعرية: الاسم نفس المسمى وغير التسمية وقالت المعتزلة: الاسم غير المسمى ونفس التسمية، والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى وغير التسمية. وقبل الخوض في ذكر الدلائل لا بدّ من التنبيه على مقدمة وهي أن قول القائل: «الاسم هل هو نفس المسمى أم لا» يجب أن يكون مسبوقاً ببيان أن الاسم ما هو، وأن المسمى ما هو، حتى ينظر بعد ذلك في أن الاسم هل هو نفس المسمى أم لا، فنقول: إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة، وبالمسمى تلك الذوات في أنفسها، وتلك الحقائق بأعيانها، فالعلم الضروري حاصل بأن الاسم غير المسمى، والخوض في هذه المسألة على هذا التقدير يكون عبثاً، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى، وبالمسمى أيضاً تلك الذات كان قولنا الاسم هو المسمى معناه أن ذات الشيء عين الشيء، وهذا وإن كان حقاً إلا أنه من باب إيضاح الواضحات وهو عبث، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الثانية: اعلم أنا استخرجنا لقول من يقول الاسم نفس المسمى تأويلاً لطيفاً دقيقاً، وبيانه أن الاسم اسم لكل لفظ دل على معنى من غير أن يدل على زمان معين، ولفظ الاسم كذلك، فوجب أن يكون لفظ الاسم إسماً لنفسه، فيكون لفظ الاسم مسمى بلفظ الاسم، ففي هذه الصورة الاسم نفس المسمى، إلا أن فيه إشكالاً، وهو أن كون الاسم إسماً للمسمى من باب الاسم المضاف، وأحد المضافين لا بدّ وأن يكون مغايراً للآخر. المسألة الثالثة: في ذكر الدلائل الدالة على أن الاسم لا يجوز أن يكون هو المسمى، وفيه وجوه: ـ الأول: أن الاسم قد يكون موجوداً مع كون المسمى معدوماً، فإن قولنا: «المعدوم منفي» معناه سلب لا ثبوت له، والألفاظ موجودة مع أن المسمى بها عدم محض ونفي صرف، وأيضاً قد يكون المسمى موجوداً والاسم معدوماً مثل الحقائق التي ما وضعوا لها أسماء معينة، وبالجملة فثبوت كل واحد منهما حال عدم الآخر معلوم مقرر وذلك يوجب المغايرة. الثاني: أن الأسماء تكون كثيرة مع كون المسمى واحد كالأسماء المترادفة، وقد يكون الاسم واحداً والمسميات كثيرة كالأسماء المشتركة، وذلك أيضاً يوجب المغايرة. الثالث: أن كون الاسم إسماً للمسمى وكون المسمى مسمى بالاسم من باب الإضافة كالمالكية والمملوكية، وأحد المضافين مغاير للآخر ولقائل أن يقول: يشكل هذا بكون الشيء عالماً بنفسه. الرابع: الاسم أصوات مقطعة وضعت لتعريف المسميات، وتلك الأصوات أعراض غير باقية، والمسمى قد يكون باقياً، بل يكون واجب الوجود لذاته. الخامس: أنا إذا تلفظنا بالنار والثلج فهذان اللفظان موجودان في ألسنتنا، فلو كان الاسم نفس المسمى لزم أن يحصل في ألسنتنا النار والثلج، وذلك لا يقوله عاقل. السادس: قوله تعالى: { وَللَّهِ ٱلأَسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } وقوله صلى الله عليه وسلم: **" إن لله تعالى تسعة وتسعين إسماً "** فههنا الأسماء كثيرة والمسمى واحد، وهو الله عزّ وجلّ. السابع: أن قوله تعالى: { بِسْمِ اللَّهِ } وقوله:**{ تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[الرحمن: 78] ففي هذه الآيات يقتضي إضافة الاسم إلى الله تعالى وإضافة الشيء إلى نفسه محال. الثامن: أنا ندرك تفرقة ضرورية بين قولنا إسم الله، وبين قولنا اسم الاسم، وبين قولنا الله الله، وهذا يدل على أن الاسم غير المسمى. التاسع: أنا نصف الأسماء بكونها عربية وفارسية فنقول: الله اسم عربي، وخداي اسم فارسي، وأما ذات الله تعالى فمنزه عن كونه كذلك. العاشر: قال الله تعالى:**{ وَللَّهِ ٱلاسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا }** [الأعراف: 180] أمرنا بأن ندعو الله بأسمائه فالاسم آلة الدعاء، والمدعو هو الله تعالى، والمغايرة بين ذات المدعو وبين اللفظ الذي يحصل به الدعاء معلوم بالضرورة. واحتج من قال الاسم هو المسمى بالنص، والحكم، أما النص فقوله تعالىٰ:**{ تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَ }** [الرحمن: 78] والمتبارك المتعالي هو الله تعالى لا الصوت ولا الحرف، وأما الحكم فهو أن الرجل إذا قال: زينب طالق، وكان زينب إسماً لامرأته وقع عليها الطلاق، ولو كان الاسم غير المسمى لكان قد أوقع الطلاق على غير تلك المرأة، فكان يجب أن لا يقع الطلاق عليها. والجواب عن الأول أن يقال: لم لا يجوز أن يقال: كما أنه يجب علينا أن نعتقد كونه تعالى منزهاً عن النقائص والآفات، فكذلك يجب علينا تنزيه الألفاظ الموضوعة لتعريف ذات الله تعالى وصفاته عن العبث والرفث وسوء الأدب. وعن الثاني أن قولنا زينب طالق معناه أن الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ طالق، فلهذا السبب وقع الطلاق عليها. المسألة الرابعة: التسمية عندنا غير الاسم، والدليل عليه أن التسمية عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف الذات المعينة، وذلك التعيين معناه قصد الواضع وإرادته، وأما الاسم فهو عبارة عن تلك اللفظة المعينة. والفرق بينهما معلوم بالضرورة. الاسم أسبق من الفعل وضعا: المسألة الخامسة: قد عرفت أن الألفاظ الدالة على تلك المعاني تستتبع ذكر الألفاظ الدالة على ارتباط بعضها بالبعض، فلهذا السبب الظاهر وضع الأسماء والأفعال سابق على وضع الحروف، فأما الأفعال والأسماء فأيهما أسبق؟ الأظهر أن وضع الأسماء سابق على وضع الأفعال، ويدل عليه وجوه: ـ الأول: أن الاسم لفظ دال على الماهية، والفعل لفظ دال على حصول الماهية بشيء من الأشياء في زمان معين، فكان الاسم مفرداً والفعل مركباً، والمفرد سابق على المركب بالذات والرتبة، فوجب أن يكون سابقاً عليه في الذكر واللفظ. الثاني: أن الفعل يمتنع التلفظ به إلا عند الإسناد إلى الفاعل، أما اللفظ الدال على ذلك الفاعل فقد يجوز التلفظ به من غير أن يسند إليه الفعل، فعلى هذا الفاعل غنيّ عن الفعل، والفعل محتاج إلى الفاعل، والغنيّ سابق بالرتبة على المحتاج، فوجب أن يكون سابقاً عليه في الذكر. الثالث: أن تركيب الاسم مع الاسم مفيد، وهو الجملة المركبة من المبتدأ والخير، أما تركيب الفعل مع الفعل فلا يفيد ألبتة، بل ما لم يحصل في الجملة الاسم لم يفد ألبتة، فعلمنا أن الاسم متقدم بالرتبة، على الفعل، فكان الأظهر تقدمه عليه بحسب الوضع.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
تقدم اسم الجنس على المشتق وضعا: المسألة السادسة: قد علمت أن الاسم قد يكون اسماً للماهية من حيث هي هي، وقد يكون إسماً مشتقاً وهو الاسم الدال على كون الشيء موصوفاً بالصفة الفلانية كالعالم والقادر، والأظهر أن أسماء الماهيات سابقة بالرتبة على المشتقات، لأن الماهيات مفردات والمشتقات مركبات والمفرد قبل المركب. المسألة السابعة: يشبه أن تكون أسماء الصفات سابقة بالرتبة على أسماء الذوات القائمة بأنفسها لأنا لا نعرف الذوات إلا بواسطة الصفات القائمة بها، والمعرف معلوم قبل المعرف والسبق في المعرفة يناسب السبق في الذكر. أقسام أسماء المسميات: المسألة الثامنة: في أقسام الأسماء الواقعة على المسميات: اعلم أنها تسعة، فأولها: الاسم الواقع على الذات، وثانيها: الاسم الواقع على الشيء بحسب جزء من أجزاء ذاته كما إذا قلنا للجدار أنه جسم وجوهر، وثالثها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كقولنا للشيء إنه أسود وأبيض وحار وبارد فإن السواد والبياض والحرارة والبرودة صفات حقيقية قائمة بالذات لا تعلق لها بالأشياء الخارجية، ورابعها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة إضافية فقط كقولنا للشيء إنه معلوم ومفهوم ومذكور ومالك ومملوك، وخامسها: الاسم الواقع على الشيء بحسب حالة سلبية كقولنا إنه أعمى وفقير وقولنا إنه سليم عن الآفات خالٍ عن المخافات، وسادسها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كقولنا للشيء إنه عالم وقادر فإن العلم عند الجمهور صفة حقيقية ولها إضافة إلى المعلومات والقدرة صفة حقيقية ولها إضافة إلى المقدورات، وسابعها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية مع صفة سلبية كالمفهوم من مجموع قولنا قادر لا يعجز عن شيء وعالم لا يجهل شيئاً. وثامنها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة إضافية مع صفة سلبية مثل لفظ الأول فإنه عبارة عن مجموع أمرين: أحدهما: أن يكون سابقاً على غيره وهو صفة إضافية. والثاني: أن لا يسبقه غيره وهو صفة سلبية، ومثل القيوم فإن معناه كونه قائماً بنفسه مقوماً لغيره فقيامه بنفسه أنه لا يحتاج إلى غيره وتقويمه لغيره احتياج غيره إليه، والأول: سلب، والثاني: إضافة، وتاسعها: الاسم الواقع على الشيء بحسب مجموع صفة حقيقية وإضافية وسلبية، فهذا هو القول في تقسيم الأسماء، وسواء كان الاسم إسماً لله سبحانه وتعالى أو لغيره من أقسام المحادثات فإنه لا يوجد قسم آخر من أقسام الأسماء غير ما ذكرناه. المسألة التاسعة: في بيان أنه هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا؟ اعلم أن الخوض في هذه المسألة مسبوق بمقدمات عالية من المباحث الآلهية: المقدمة الأولى: أنه تعالى مخالف لخلقه، لذاته المخصوصة لا لصفة، والدليل عليه أن ذاته من حيث هي هي مع قطع النظر عن سائر الصفات إن كانت مخالفة لخلقه فهو المطلوب، وإن كانت مساوية لسائر الذوات فحينئذٍ تكون مخالفة ذاته لسائر الذوات لا بدّ وأن يكون لصفة زائدة، فاختصاص ذاته بتلك الصفة التي لأجلها وقعت المخالفة إن لم يكن لأمر ألبتة فحينئذٍ لزم رجحان الجائز لا لمرجح، وإن كان لأمر آخر لزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان، فإن قيل هي قولنا فهذا يقتضي أن تكون خصوصية تلك الصفة لصفة أخرى ويلزم منه التسلسل،وهو محال.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المقدمة الثانية: أنا نقول: إنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر، لأن سلب الجسمية والجوهرية مفهوم سلبي، وذاته المخصوصة أمر ثابت، والمغايرة بين السلب والثبوت معلوم بالضرورة، وأيضاً فذاته المخصوصة ليست عبارة عن نفس القادرية والعالمية، لأن المفهوم من القادرية والعالمية مفهومات إضافية، وذاته ذات قائمة بنفسها والفرق بين الموجود القائم بالنفس وبين الاعتبارات النسبية والإضافية معلوم بالضرورة. المقدمة الثالثة: في بيان أنا في هذا الوقت لا نعرف ذاته المخصوصة، ويدل عليه وجوه: الأول: أنا إذا رجعنا إلى عقولنا وأفهامنا لم نجد عند عقولنا من معرفة الله تعالى إلا أحد أمور: أربعة: إما العلم بكونه موجوداً، وإما العلم بدوام وجوده، وإما العلم بصفات الجلال وهي الاعتبارات السلبية، وإما العلم بصفات الإكرام وهي الاعتبارات الإضافية، وقد ثبت بالدليل أن ذاته المخصوصة مغايرة لكل واحد من هذه الأربعة فإنه ثبت بالدليل أن حقيقته غير وجوده، وإذا كان كذلك كانت حقيقته أيضاً مغايرة لدوام وجوده، وثبت أن حقيقته غير سلبية وغير إضافية، وإذا كان لا معلوم عند الخلق إلا أحد هذه الأمور الأربعة وثبت أنها مغايرة لحقيقته المخصوصة، ثبت أن حقيقته المخصوصة غير معلومة للبشر. الثاني: أن الاستقراء التام يدل على أنا لا يمكننا أن نتصور أمراً من الأمور إلا من طرق أمور أربعة: أحدها: الأشياء التي أدركناها بإحدى هذه الحواس الخمس، وثانيها: الأحوال التي ندركها من أحوال أبداننا كالألم واللذة والجوع والعطش والفرح والغم، وثالثها: الأحوال التي ندركها بحسب عقولنا مثل علمنا بحقيقة الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان، ورابعها: الأحوال التي يدركها العقل والخيال من تلك الثلاثة، فهذه الأشياء هي التي يمكننا أن نتصورها وأن ندركها من حيث هي هي، فإذا ثبت هذا وثبت أن حقيقة الحق سبحانه وتعالى مغايرة لهذه الأقسام، ثبت أن حقيقته غير معقولة للخلق. الثالث: أن حقيقته المخصوصة علة لجميع لوازمه من الصفات الحقيقية والإضافية والسلبية والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول، ولو كانت حقيقته المخصوصة معلومة لكانت صفاته بأسرها معلومة بالضرورة، وهذا معدوم فذاك معدوم، فثبت أن حقيقة الحق غير معقولة للبشر.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المقدمة الرابعة: في بيان أنها وإن لم تكن معقولة للبشر فهل يمكن أن تصير معقولة لهم. المقدمة الخامسة: في بيان أن البشر وإن امتنع في عقولهم إدراك تلك الحقيقة المخصوصة فهل يمكن ذلك العرفان في حق جنس الملائكة أو في حق فرد من أفرادهم؟ الإنصاف أن هذه المباحث صعبة، والعقل كالعاجز القاصر في الوفاء بها كما ينبغي، وقال بعضهم: عقول المخلوقات ومعارفهم متناهية، والحق تعالى غير متناهٍ، والمتناهي يمتنع وصوله إلى غير المتناهي ولأن أعظم الأشياء هو الله تعالى، وأعظم العلوم علم الله سبحانه وتعالى، وأعظم الأشياء لا يمكن معرفته إلا بأعظم العلوم، فعلى هذا لا يعرف الله إلا الله. المقدمة السادسة: اعلم أن معرفة الأشياء على نوعين: معرفة عرضية، ومعرفة ذاتية: أما المعرفة العرضية فكما إذا رأينا بناء علمنا بأنه لا بدّ له من بان، فأما أن ذلك الباني كيف كان في ماهيته، وأن حقيقته من أي أنواع الماهيات، فوجود البناء لا يدل عليه، وأما المعرفة الذاتية فكما إذا عرفنا اللون المعين ببصرنا، وعرفنا الحرارة بلمسنا، وعرفنا الصوت بسمعنا، فإنه لا حقيقة للحرارة والبرودة إلا هذه الكيفية الملموسة، ولا حقيقة للسواد والبياض إلا هذه الكيفية المرئية، إذا عرفت هذا فنقول: إنا إذا علمنا احتياج المحدثات إلى محدث وخالق فقد عرفنا الله تعالى معرفة عرضية إنما الذي نفيناه الآن هو المعرفة الذاتية، فلتكن هذه الدقيقة معلومة حتى لا تقع في الغلط. المقدمة السابعة: اعلم أن إدراك الشيء من حيث هو هو ـ أعني ذلك النوع الذي سميناه بالمعرفة الذاتية ـ يقع في الشاهد على نوعين: أحدهما: العلم، والثاني: الإبصار، فإنا إذا أبصرنا السواد ثم غمضنا العين فإنا نجد تفرقة بديهية بين الحالتين، فعلمنا أن العلم غير، وأن الإبصار غير، إذا عرفت هذا فنقول: بتقدير أنه يقال يمكن حصول المعرفة الذاتية للخلق فهل لتلك المعرفة ولذلك الإدراك طريق واحد فقط أو يمكن وقوعه على طريقين مثل ما في الشاهد من العلم والإبصار؟ هذا أيضاً مما لا سبيل للعقل إلى القضاء به والجزم فيه، وبتقدير أن يكون هناك طريقان: أحدهما: المعرفة، والثاني: الإبصار فهل الأمر هناك مقصور على هذين الطريقين أو هناك طرق كثيرة ومراتب مختلفة؟ كل هذه المباحث مما لا يقدر العقل على الجزم فيها ألبتة، فهذا هو الكلام في هذه المقدمات. المسألة العاشرة: في أنه هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا؟ نقل عن قدماء الفلاسفة إنكاره، قالوا: والدليل عليه أن المراد من وضع الاسم الإشارة بذكره إلى المسمى فلو كان لله بحسب ذاته اسم لكان المراد من وضع ذلك الاسم ذكره مع غيره لتعريف ذلك المسمى، فإذا ثبت أن أحداً من الخلق لا يعرف ذاته المخصوصة ألبتة لم يبق في وضع الاسم لتلك الحقيقة فائدة، فثبت أن هذا النوع من الاسم مفقود، فعند هذا قالوا: إنه ليس لتلك الحقيقة اسم، بل له لوازم معرفة، وتلك اللوازم هي أنه الأزلي الذي لا يزول، وأنه الواجب الذي لا يقبل العدم، وأما الذين قالوا إنه لا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يشرف بعض المقربين من عباده بأن يجعله عارفاً بتلك الحقيقة المخصوصة قالوا: إذا كان الأمر كذلك فحينئذٍ لا يمتنع وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة، فثبت أن هذه المسألة مبنية على تلك المقدمات السابقة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الحادية عشرة: بتقدير أن يكون وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ممكناً وجب القطع بأن ذلك الاسم أعظم الأسماء، وذلك الذكر أشرف الأذكار، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، وشرف الذكر بشرف المذكور، فلما كان ذات الله تعالى أشرف المعلومات والمذكورات كان العلم به أشرف العلوم، وكان ذكر الله أشرف الأذكار، وكان ذلك الاسم أشرف الأسماء وهو المراد من الكلام المشهور الواقع في الألسنة، وهو اسم الله الأعظم، ولو اتفق لملك مقرب أو نبي مرسل الوقوف على ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلى له معناه لم يبعد أن يطيعه جميع عوالم الجسمانيات والروحانيات. اسم الله الأعظم: المسألة الثانية عشرة: القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه: الأول: قول من يقول إن ذلك الاسم الأعظم هو قولنا:**{ ذو الجلال والإكرام }** [الرحمن: 27] وورد فيه قوله عليه الصلاة والسلام: **" ألظوا بياذا الجلال والإكرام "** وهذا عندي ضعيف، لأن الجلال إشارة إلى الصفات السلبية، والإكرام إشارة إلى الصفات الإضافية، وقد عرفت أن حقيقته المخصوصة مغايرة للسلوب والإضافات. والقول الثاني: قول من يقول أنه هو**{ الحي القيوم }** [البقرة: 255] لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ابن كعب: ما أعظم آية في كتاب الله تعالى؟ فقال:**{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ }** [البقرة: 255] فقال: **" ليهنك العلم أبا المنذر "** وعندي أنه ضعيف، وذلك لأن الحي هو الدراك الفعال، وهذا ليس فيه كثرة عظمة لأنه صفة، وأما القيوم فهو مبالغة في القيام، ومعناه كونه قائماً بنفسه مقوماً لغيره، فكونه قائماً بنفسه مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره، وكونه مقوماً لغيره صفة إضافية فالقيوم لفظ دال على مجموع سلب وإضافة، فلا يكون ذلك عبارة عن الاسم الأعظم. القول الثالث: قول من يقول: أسماء الله كلها عظيمة مقدسة، ولا يجوز وصف الواحد منها بأنه أعظم لأن ذلك يقتضي وصف ما عداه بالنقصان، وعندي أن هذا أيضاً ضعيف لأنا بينا أن الأسماء منقسمة إلى الأقسام التسعة، وبينا أن الاسم الدال على الذات المخصوصة يجب أن يكون أشرف الأسماء وأعظمها، وإذا ثبت هذا بالدلائل فلا سبيل فيه إلى الإنكار.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
القول الرابع: أن الاسم الأعظم هو قولنا: «الله» وهذا هو الأقرب عندي لأنا سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم العلم في حقه سبحانه، وإذا كان كذلك كان دالاً على ذاته المخصوصة. المسألة الثالثة عشرة: أما الاسم الدال على المسمى بحسب جزء من أجزاء ماهية المسمى فهذا في حق الله تعالى محال، لأن هذا إنما يتصور في حق من كانت ماهيته مركبة من الأجزاء وذلك في حق الله محال، لأن كل مركب فإنه محتاج إلى جزئه، وجزؤه غيره فكل مركب فإنه محتاج إلى غيره، وكل محتاج إلى غيره فهو ممكن، ينتج أن كل مركب فهو ممكن لذاته، فما لا يكون ممكناً لذاته امتنع أن يكون مركباً، وما لا يكون مركباً امتنع أن يحصل له اسم بحسب جزء ماهيته. المسألة الرابعة عشرة: اعلم أنّا بينا أن الاسم الدال على الذات هل هو حاصل في حق الله تعالىٰ أم لا، قد ذكرنا اختلاف الناس فيه، وأما الاسم الدال بحسب جزء الماهية فقد أقمنا البرهان القاطع على امتناع حصوله في حق الله تعالى، فبقيت الأقسام السبعة فنقول: أما الاسم الدال على الشيء بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته المخصوصة فتلك الصفة إما أن تكون هي الوجود وإما أن تكون كيفية من كيفيات الوجود، وإما أن تكون صفة أخرى مغايرة للوجود ولكيفيات ذلك الوجود، ونحن نذكر المسائل المفرعة على هذه الأقسام، والله الهادي. الباب الرابع في البحث عن الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية قد عرفت أن هذا البحث ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: الأسماء الدالة على الوجود وفيه مسائل: تسمية الله بالشيء: المسألة الأولى: أطبق الأكثرون على أنه يجوز تسمية الله تعالى باسم الشيء ونقل عن جهم بن صفوان أن ذلك غير جائز، أما حجة الجمهور فوجوه: ـ الحجة الأولى: قوله تعالى:**{ قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱللَّهِ }** [الأنعام: 19] وهذا يدل على أنه يجوز تسمية الله باسم الشيء، فإن قيل: لو كان الكلام مقصوراً على قوله: { قُلِ ٱللَّهُ } لكان دليلكم حسناً، لكن ليس الأمر كذلك بل المذكور هو قوله تعالى:**{ قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ }** [الأنعام: 19] وهذا كلام مستقل بنفسه، ولا تعلق له بما قبله، وحينئذٍ لا يلزم أن يكون الله تعالى مسمى باسم الشيء قلنا: لما قال: { أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً } ثم قال: { قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } وجب أن تكون هذه الجملة جارية مجرى الجواب عن قوله: { أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً } وحينئذٍ يلزم المقصود.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحجة الثانية: قوله تعالى:**{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }** [القصص: 88] والمراد بوجهه ذاته، ولو لم تكن ذاته شيئاً لما جاز استثنائه عن قوله: { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ } وذلك يدل على أن الله تعالى مسمى بالشيء. الحجة الثالثة: قوله عليه السلام في خبر عِمران بن الحصين: **" كان الله ولم يكن شيء غيره "** وهذا يدل على أن اسم الشيء يقع على الله تعالى. الحجة الرابعة: روى عبد الله الأنصاري في الكتاب الذي سماه «بالفاروق» عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" ما من شيء أغير من الله عزّ وجلّ "** الحجة الخامسة: أن الشيء عبارة عما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وذات الله تعالى كذلك، فيكون شيئاً. واحتج جهم بوجوه: الحجة الأولى: قوله تعالى:**{ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء }** [الزمر: 62] وكذلك قوله:**{ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ }** [المائدة: 17] فهذا يقتضي أن يكون كل شيء مخلوقاً ومقدوراً، والله تعالى ليس بمخلوق ولا مقدور، ينتج أن الله سبحانه وتعالى ليس بشيء. فإن قالوا إن قوله تعالى: { ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء } وقوله:**{ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ }** [الملك: 1] عام دخله التخصيص، قلنا الجواب عنه من وجهين: الأول: أن التخصيص خلاف الأصل، والدلائل اللفظية يكفي في تقريرها هذا القدر، الثاني: أن الأصل في جواز التخصيص هو أن أهل العرف يقيمون الأكثر مقام الكل، فلهذا السبب جوزوا دخول التخصيص في العموميات، إلا أن إجراء الأكثر مجرى الكل إنما يجوز في الصورة التي يكون الخارج عن الحكم حقيراً قليل القدر فيجعل وجوده كعدمه، ويحكم على الباقي بحكم الكل، فثبت أن التخصيص إنما يجوز في الصورة التي تكون حقيرة ساقطة الدرجة إذا عرفت هذا فنقول: إن بتقدير أن يكون الله تعالى مسمى بالشيء كان أعظم الأشياء وأجلها هو الله تعالى، فامتنع أن يحصل فيه جواز التخصيص، فوجب القول بأن ادعاء هذا التخصيص محال. الحجة الثانية: قوله تعالى:**{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ }** [الشورى: 11] حكم الله تعالى بأن مثل مثله ليس بشيء، ولا شك أن كل شيء مثل لمثل نفسه، وثبت بهذه الآية أن مثل مثله ليس بشيء ينتج أنه تعالى غير مسمى بالشيء، فإن قالوا إن الكاف زائدة، قلنا هذا الكلام معناه أن هذا الحرف من كلام الله تعالى لغو وعبث وباطل، ومعلوم أن هذا الكلام هو الباطل، ومتى قلنا إن هذا الحرف ليس بباطل صارت الحجة التي ذكرناها في غاية القوة والكمال. الحجة الثالثة: لفظ الشيء لا يفيد صفة من صفات الجلال والعظمة والمدح والثناء، وأسماء الله تعالى يجب كونها كذلك ينتج أن لفظ الشيء ليس اسماً لله تعالى: أما قولنا إن اسم الشيء لا يفيد المدح والجلال فظاهر، وذلك لأن المفهوم من لفظ الشيء قدر مشترك بين الذرة الحقيرة وبين أشرف الأشياء، وإذا كان كذلك كان المفهوم من لفظ الشيء حاصلاً في أخس الأشياء وذلك يدل على أن اسم الشيء لا يفيد صفة المدح والجلال، وأما قولنا: إن أسماء الله يجب أن تكون دالة على صفة المدح والجلال، فالدليل عليه قوله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَللَّهِ ٱلأَسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـٰئِهِ }** [الأعراف: 180] والاستدلال بالآية أن كون الأسماء حسنة لا معنى له إلا كونها دالة على الصفات الحسنة الرفيعة الجليلة، فإذا لم يدل الاسم على هذا المعنى لم يكن الاسم حسناً ثم إنه تعالى أمرنا بأن ندعوه بهذه الأسماء ثم قال بعد ذلك**{ وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـٰئِهِ }** [الأعراف: 180] وهذا كالتنبيه على أن من دعاه بغير تلك الأسماء الحسنة فقد ألحد في أسماء الله، فتصير هذه الآية دالة دلالة قوية على أنه ليس للعبد أن يدعو الله إلا بالأسماء الحسنى الدالة على صفات الجلال والمدح، وإذا ثبت هاتان المقدمتان فقد حصل المطلوب. الحجة الرابعة: أنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنه خاطب الله تعالى بقوله يا شيء، وكيف يقال ذلك وهذا اللفظ في غاية الحقارة، فكيف يجوز للعبد خطاب الله بهذاالاسم، بل نقل عنهم أنهم كانوا يقولون: يا منشىء الأشياء، يا منشىء الأرض والسماء. واعلم أن من الناس من يظن أن هذا البحث واقع في المعنى، وهذا في غاية البعد، فإنه لا نزاع في أن الله تعالى موجود وذات وحقيقة، إنما النزاع في أنه هل يجوز إطلاق هذا اللفظ عليه، فهذا نزاع في مجرد اللفظ لا في المعنى، ولا يجري بسببه تكفير ولا تفسيق، فليكن الإنسان عالماً بهذه الدقيقة حتى لا يقع في الغلط. إطلاق لفظ الموجود على الله: المسألة الثانية: في بيان أنه هل يجوز إطلاق لفظ الموجود على الله تعالى؟ اعلم أن هذا البحث يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمة، وهي أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك على معيين: أحدهما: أن يراد بالوجود الوجدان والإدراك والشعور، ومتى أريد بالوجود الوجدان والإدراك فقد أريد بالموجود لا محالة المدرك والمشعور به، والثاني: أن يراد بالوجود الحصول والتحقق في نفسه، واعلم أن بين الأمرين، فرقاً، وذلك لأن كونه معلوم الحصول في الأعيان يتوقف على كونه حاصلاً في نفسه، ولا ينعكس، لأن كونه حاصلاً في نفسه لا يتوقف على كونه معلوم الحصول في الأعيان: لأنه يمتنع في العقل كونه حاصلاً في نفسه مع أنه لا يكون معلوماً لأحد، بقي ههنا بحث، وهو أن لفظ الوجود هل وضع أولاً للإدراك والوجدان ثم نقل ثانياً إلى حصول الشيء في نفسه، أو الأمر فيه بالعكس، أو وضعا معاً؟ فنقول: هذا البحث لفظي، والأقرب هو الأول، لأنه لولا شعور الإنسان بذلك الشيء لما عرف حصوله في نفسه، فلما كان الأمر كذلك وجب أن يكون وضع اللفظ لمعنى الشعور والإدراك سابقاً على وضعه لحصول الشيء نفسه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إطلاق لفظ الموجود على الله تعالى يكون على وجهين: أحدهما: كونه معلوماً مشعوراً به، والثاني: كونه في نفسه ثابتاً متحققاً، أما بحسب المعنى الأول فقد جاء في القرآن قال الله تعالى:**{ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ }** [النساء: 64] ولفظ الوجود ههنا بمعنى الوجدان والعرفان، وأما بالمعنى الثاني فهو غير موجود في القرآن. فإن قالوا: لما حصل الوجود بمعنى الوجدان لزم حصول الوجود بمعنى الثبوت والتحقق إذ لو كان عدماً محضاً لما كان الأمر كذلك. فنقول: هذا ضعيف من وجهين: الأول: أنه لا يلزم من حصول الوجود بمعنى الوجدان والمعرفة حصول الوجود بمعنى الثبوت لما ثبت أن المعدوم قد يكون معلوماً، والثاني: أنا بينا أن هذا البحث ليس إلا في اللفظ، فلا يلزم من حصول الاسم بحسب معنى حصول الاسم بحسب معنى آخر، ثم نقول: ثبت بإجماع المسلمين إطلاق هذا الاسم فوجب القول به. فإن قالوا: ألستم قلتم إن أسماء الله تعالى يجب كونها دالة على المدح والثناء، ولفظ الموجود لا يفيد ذلك؟. قلنا عدلنا عن هذا الدليل بدلالة الإجماع، وأيضاً فدلالة لفظ الموجود على المدح أكثر من دلالة لفظ الشيء عليه، وبيانه من وجوه: الأول: أنه عند قوم يقع لفظ الشيء على المعدوم كما يقع على الموجود، أما الموجود فإنه لا يقع على المعدوم ألبتة، فكان إشعار هذا اللفظ بالمدح أولى. الثاني: أن لفظ الموجود بمعنى المعلوم يفيد صفة المدح والثناء، لأنه يفيد أن بسبب كثرة الدلائل على وجوده وإلاهيته صار كأنه معلوم لكل أحد موجود عند كل أحد واجب الإقرار به عند كل عقل، فهذا اللفظ أفاد المدح والثناء من هذا الوجه، فظهر الفرق بينه وبين لفظ الشيء. معنى قولنا ذات الله: المسألة الثالثة: في الذات: روى عبد الله الأنصاري الهروي في الكتاب الذي سماه «بالفاروق» أخباراً تدل على هذا اللفظ: أحدها: عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" إن من أعظم الناس أجراً الوزير الصالح من أمير يطيعه في ذات الله "** ، وثانيها: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إن إبراهيم لم يكذب إلا في ثلاث ثنتين في ذات الله "** ، وثالثها: عن كعب بن عجرة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" لا تسبوا علياً فإنه كان مخشوشاً في ذات الله "**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
، ورابعها: عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الجهاد أفضل؟ قال: **" أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله "** وخامسها: عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" أن للشيطان مصايد وفخوخاً منها البطر بأنعم الله، والفخر بعطاء الله، والكبر على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله "** وأقول: إن كل شيء حصل به أمر من الأمور فإن كان اللفظ الدال على ذلك الشيء مذكراً قيل إنه ذو ذلك الأمر، وإن كان مؤنثاً قيل إنها ذات ذلك الأمر، فهذه اللفظة وضعت لإفادة هذه النسبة والدلالة على ثبوت هذه الإضافة، إذا عرفت هذا فنقول: إنه من المحال أن تثبت هذه الصفة لصفة ثانية، وتلك الصفة الثانية تثبت لصفة ثالثة، وهكذا إلى غير النهاية، بل لا بدّ وأن تنتهي إلى حقيقة واحدة قائمة بنفسها مستقلة بماهيتها، وحينئذٍ يصدق على تلك الحقيقة أنها ذات تلك الصفات، فقولنا: إنها ذات كذا وكذا إنما يصدق في الحقيقة على تلك الماهية القائمة بنفسها، فلهذا السبب جعلوا هذه اللفظة كاللفظة المفردة الدالة على هذه الحقيقة، ولما كان الحق تعالى قيوماً في ذاته كان إطلاق اسم الذات عليه حقاً وصدقاً، وأما الأخبار التي رويناها عن الأنصاري الهروي فإن شيئاً منها لا يدل على هذا المعنى لأنه ليس المراد من لفظ الذات فيها حقيقة الله تعالى وماهيته، وإنماالمراد منه طلب رضوان الله، ألا ترى أنه قال: **" لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث ثنتين في ذات الله "** أي: في طلب مرضاة الله، وهكذا الكلام في سائر الأخبار. إطلاق لفظ النفس على الله: المسألة الرابعة: في لفظ النفس، وهذا اللفظ وارد في القرآن، قال تعالى:**{ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ }** [المائدة: 116] وقال:**{ وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ }** [آل عمران: 28] وعن عائشة قالت: كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم فقدته، فطلبته، فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد، وهو يقول: **" اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "** وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" يقول الله تعالى: أنا مع عبدي حين يذكرني، فإن ذكرني في في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن جاءني يمشي جئته أهرول "** والخبر الثالث: عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" لما خلق الله الخلق كتب في كتابه على نفسه وهو مرفوع فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي "** والخبر الرابع: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" ليس أحد أحب إليه المدح من الله تعالى، ومن أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، ومن أجل ذلك حرم الفواحش، وليس أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل "** الخبر الخامس: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها هذا التسبيح: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ومداد كلماته، ورضا نفسه، وزنة عرشه. الخبر السادس: روى أبو ذر عن النبي عليه الصلاة والسلام عن الله سبحانه وتعالىٰ أنه قال: **" حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا "** وتمام الخبر مشهور. الخبر السابع: عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ذات يوم على المنبر**{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }** [الأنعام: 91] ثم أخذ يمجد الله نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا العزيز أنا الكريم، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى خفنا سقوطه. الخبر الثامن: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: التقى آدم وموسى عليهما السلام فقال له موسىٰ: أنت الذي أشقيت الناس فأخرجتهم من الجنة، قال آدم: أنت الذي اصطفاك الله برسالته، واصطنعك لنفسه، وأنزل عليك التوراة، فهل وجدت كتبته على قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، قال فحج آدم موسى ثلاث مرات» الخبر التاسع: عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" يقول الله تعالى: هذا دين ارتضيته لنفسي، ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما "** الخبر العاشر: عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه أنه قال: **" من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، فلا أبالي في أي وادٍ من الدنيا أهلكه، وأقذفه في جهنم، وما ترددت في نفسي في قضاء شيء قضيت ترددي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت ولا بدّ له منه وأكره مساءته "** الخبر الحادي عشر: عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ـ أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكان حزنه فرحاً "**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الخبر الثاني عشر: عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" إن الله تعالى بعثني رحمة للعالمين وأن أكسر المعازف والأصنام، وأقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمراً ثم لم يتب إلى الله تعالى منه إلا سقاه الله تعالى من طينة الخبال "** فقال: قلت: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: **" صديد أهل جهنم "** نفس الشيء ذاته وحقيقته: واعلم أن النفس عبارة عن ذات الشيء، وحقيقته وهويته، وليس عبارة عن الجسم المركب من الأجزاء، لأن كل جسم مركب، وكل مركب ممكن، وكل ممكن محدث، وذلك على الله محال فوجب حمل لفظ النفس على ما ذكرناه. المسألة الخامسة: في لفظ الشخص، عن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" لا شخص أغير من الله، ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدح من الله "** واعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد من الشخص الجسم الذي له تشخص وحجمية، بل المراد منه الذات المخصوصة والحقيقة المعينة في نفسها تعيناً باعتباره يمتاز عن غيره. هل يقال لله «النور»: المسألة السادسة: في أنه هل يجوز إطلاق لفظ النور على الله، قال الله تعالى:**{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ }** [النور: 35] وأما الأخبار فروى أنه قيل لعبد الله بن عمر: نقل عنك أنك تقول الشقي من شقي في بطن أمه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" إن الله خلق الخلق في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور شيء فقد اهتدى، ومن أخطأ فقد ضل "** فلذلك أقول: جف القلم على علم الله تعالى. واعلم أن القول بأن الله تعالى هو هذا النور أو من جنسه قول باطل، ويدل عليه وجوه: الأول: أن النور إما أن يكون جسماً أو كيفية في جسم، والجسم محدث فكيفياته أيضاً محدثة، وجل الإله عن أن يكون محدثاً. الثاني: أن النور تضاده الظلمة، والإله منزه عن أن يكون له ضد. الثالث: أن النور يزول ويحصل له أفول، والله منزه عن الأفول والزوال، وأما قوله تعالى: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } فجوابه أن هذه الآية من المتشابهات، والدليل عليه ما ذكرناه من الدلائل العقلية، وأيضاً فإنه تعالى قال عقيب هذه الآية**{ مَثَلُ نُورِهِ }** [النور: 35] فأضاف النور إلى نفسه إضافة الملك إلى مالكه، فهذا يدل على أنه في ذاته ليس بنور، بل هو خالق النور.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
بقي أن يقال: فما المقتضي لحسن إطلاق لفظ النور عليه؟ فنقول فيه وجوه: الأول: قرأ بعضهم «لله نور السموات والأرض» وعلى هذه القراءة فالشبهة زائلة، والثاني: أنه سبحانه منور الأنوار ومبدعها وخالقها فلهذا التأويل حسن إطلاق النور عليه. والثالث: أن بحكمته حصلت مصالح العالم. وانتظمت مهمات الدنيا والآخرة، ومن كان ناظماً للمصالح وساعياً في الخيرات فقد يسمى بالنور، يقال: فلان نور هذه البلد، إذا كان موصوفاً بالصفة المذكورة. والرابع: أنه هو الذي تفضل على عباده بالإيمان والهداية والمعرفة، وهذه الصفات من جنس الأنوار ويدل عليه القرآن والأخبار: أما القرآن فقوله تعالىٰ في آخر الآية: { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِى ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء } وأما الأخبار فكثيرة: ـ الخبر الأول: ما روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله "** الخبر الثاني: عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" هل تدرون أي الناس أكيس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً قالوا: يا رسول الله، هل لذلك من علامة؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، فإذا دخل النور في القلب انفسح واتسع للاستعداد قبل نزول الموت "** الخبر الثالث: عن ابن مسعود قال: **" تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مّن رَّبّهِ } [الزمر: 22] فقلت: يا رسول الله كيف يشرح الله صدره؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، فقلت: ما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت. "** الخبر الرابع: عن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في طريق إذ لقيه حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت والله مؤمناً حقاً، فقال عليه الصلاة والسلام: أنظر ما تقول، فإن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقال عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: عرفت فالزم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى رجل نور الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى هذا "** ثم قال: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة، فدعا له، فنودي بعد ذلك: يا خيل الله اركبي، فكان أول فارس ركب، فاستشهد في سبيل الله. الخبر الخامس: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: بينما أنا جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع صوتاً من فوقه، فرفع رأسه إلى السماء فقال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" إن هذا الباب من السماء قد فتح، وما فتح قط، فنزل منه ملك فقال: يا محمد أبشر بنورين لم يؤتهما أحد من قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة "** الخبر السادس: عن يعلى بن منبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" يمر المؤمن على الصراط يوم القيامة فتناديه النار: «جز عني يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي "** الخبر السابع: عن نافع عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: **" اللهم بك نصبح، وبك نمسي، وبك نحيا وبك نموت، وإليك النشور، اللهم اجعلني من أفضل عبادك عندك حظاً ونصيباً، في كل خير تقسمه اليوم: من نور تهدى به، أن رحمة تنشرها، أو رزق تبسطه، أو ضر تكشفه، أو بلاء تدفعه، أو سوء ترفعه، أو فتنة تصرفها "** الخبر الثامن: عن علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أهل الجنة فقال: **" أهل الجنة شعث رؤسهم، وسخة ثيابهم، لو قسم نور أحدهم على أهل الأرض لوسعهم "** الخبر التاسع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: **" أن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لقولهم، حاجة أحدهم تتلجلج في صدره، لو قسم نوره على أهل الأرض لوسعهم "** الخبر العاشر: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إن الله عزّ وجلّ يقول: نوري هداي، و «لا إله إلا الله» كلمتي، فمن قالها أدخلته حصني ومن أدخلته حصني فقد أمن "** الخبر الحادي عشر: عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو **" أعوذ بكلمات الله التامة، وبنوره الذي أشرقت له الأرض وأضاءت به الظلمات، من زوال نعمتك، ومن تحول عافيتك، ومن فجأة نقمتك، ومن درك الشقاء وشر قد سبق "** الخبر الثاني عشر: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: **" اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً "** والحديث مشهور. لفظ الصورة: المسألة السابعة: في لفظ الصورة، وفيه أخبار: الخبر الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" إن الله خلق آدم على صورته "** وعن بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن "** قال إسحاق بن راهويه: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم **" إن الله خلق آدم على صورة الرحمن "** الخبر الثاني: عن معاذ بن جبل قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غدوة فقال له قائل: ما رأيتك أسفر وجهك مثل الغداة، قال: **" وما أبالي،، وقد بدا لي ربي في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم أي ربي، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها فعلمت ما في السموات والأرض "** واعلم أن العلماء ذكروا في تأويل هذه الأخبار وجوهًا: الأول: أن قوله: **" إن الله خلق آدم على صورته "** الضمير عائد إلى المضروب، يعني أن الله تعالى خلق آدم على صورة المضروب، فوجب الاحتراز عن تقبيح وجه ذلك المضروب. الثاني: أن المراد أن الله خلق آدم على صورته التي كان في آخر أمره، يعني أنه ما تولد عن نطفة ودم وما كان جنيناً ورضيعاً، بل خلقه الله رجلاً كاملاً دفعة واحدة الثالث: أن المراد من الصورة الصفة يقال صورة هذا الأمر كذا، أي: صفته، فقوله: **" خلق الله آدم على صورة الرحمن "** أي: خلقه على صفته في كونه خليفة له في أرضه متصرفاً في جميع الأجسام الأرضية، كما أنه تعالى نافذ القدرة في جميع العالم. إطلاق «الجوهر» على الله لا يجوز: المسألة الثامنة: الفلاسفة قد يطلقون لفظ «الجوهر» على ذات الله تعالى، وكذلك النصارى، والمتكلمون يمتنعون منه، أما الفلاسفة فقالوا: المراد من الجوهر الذات المستغنى عن المحل والموضوع، والله تعالى كذلك، فوجب أن يكون جوهراً، فالجوهر فوعل واشتقاقه من الجهر، وهو الظهور، فسمي الجوهر جوهراً لكونه ظاهراً بسبب شخصيته وحجميته، فكونه جوهراً عبارة عن كونه ظاهر الوجود، وأما حجميته فليست نفس الجوهر، بل هي سبب لكونه جوهراً وهو ظهور وجوده، والحق سبحانه وتعالى أظهر من كل ظاهر بحسب كثرة الدلائل على وجوده، فكان أولى الأشياء بالجوهرية هو هو، وأما المتكلمون فقالوا: أجمع المسلمون على الامتناع من هذا اللفظ فوجب الامتناع منه. إطلاق الجسم لا يجوز: المسألة التاسعة: أطلق أكثر الكرامية لفظ «الجسم» على الله تعالى فقالوا: لا نريد به كونه مركباً مؤلفاً من الأعضاء، وإنما نريد به كونه موجوداً قائماً بالنفس غنياً عن المحل وأما سائر الفرق فقد أطبقوا على إنكار هذا الاسم. ولنا مع الكرامية مقامان: المقام الأول: أنا لا نسلم أنهم أرادوا بكونه جسماً معنى غير الطول والعرض والعمق، وكيف لا نقول ذلك وأنهم يقولون: أنه تعالى فوق العرش، ولا يقولون إنه في الصغر مثل الجوهر الفرد، والجزء الذي لا يتجزأ، بل يقولون: إنه أعظم من العرش، وكان ما كان كذلك كانت ذاته ممتدة من أحد جانبي العرش إلى الجانب الآخر فكان طويلاً عريضاً عميقاً، فكان جسماً بمعنى كونه طويلاً عريضاً عميقاً، فثبت أن قولهم إنا أردنا بكونه جسماً معنى غير هذا المعنى كذب محض وتزوير صرف.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المقام الثاني: أن نقول: لفظ الجسم لفظ يوهم معنى باطلاً، وليس في القرآن والأحاديث ما يدل على وروده فوجب الامتناع منه، لا سيما والمتكلمون قالوا: لفظ الجسم يفيد كثرة الأجزاء بحسب الطول والعرض والعمق، فوجب أن يكون لفظ الجسم يفيد أصل هذا المعنى. إطلاق «الأَنية»: المسألة العاشرة: في إطلاق لفظ «الأنية» على الله تعالى: اعلم أن هذه اللفظة تستعملها الفلاسفة كثيراً، وشرحه بحسب أصل اللغة أن لفظة «إن» في لغة العرب تفيد التأكيد والقوة في الوجود، ولما كان الحق سبحانه وتعالى واجب الوجود لذاته، وكان واجب الوجود أكمل الموجودات في تأكد الوجود، وفي قوة الوجود، لا جرم أطلقت الفلاسفة بهذا التأويل لفظ الأنية عليه. إطلاق «الماهية»: المسألة الحادية عشرة: في إطلاق لفظ الماهية عليه: اعلم أن لفظ «الماهية» ليس لفظاً مفرداً بحسب أصل اللغة، بل الرجل إذا أراد أن يسأل عن حقيقة من الحقائق فإنه يقول: ما تلك الحقيقة وما هي؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أرنا الأشياء كما هي، فلما كثر السؤال عن معرفة الحقائق بهذه اللفظة جعلوا مجموع قولنا ما هي كاللفظة المفردة، ووضعوا هذه اللفظة بإزاء الحقيقة فقالوا ماهية الشيء أي حقيقته المخصوصة وذاته المخصوصة. إطلاق لفظ «الحق»: المسألة الثانية عشرة: في إطلاق لفظ «الحق» اعلم أن هذا اللفظ إن أطلق على ذات الشيء كان المراد كونه موجوداً وجوداً حقيقياً في نفسه والدليل عليه أن الحق مقابل للباطل والباطل هو المعدوم قال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل فلما كان مقابل الحق هو المعدوم وجب أن يكون الحق هو الموجود، وأما إن أطلق لفظ الحق على الاعتقاد كان المراد أن ذلك الاعتقاد صواب مطابق للشيء في نفسه، وإنما سمي هذا الاعتقاد بالحق لأنه إذا كان صواباً مطابقاً كان واجب التقرير والإبقاء، وأما أن أطلق لفظ الحق على القول والخبر كان المراد أن ذلك الأخبار صدق مطابق لأنه إذا كان كذلك كان ذلك القول واجب التقرير والإبقاء، إذا ثبت هذا فنقول: إن الله تعالى هو المستحق لاسم الحق، أما بحسب ذاته فلأنه هو الموجود الذي يمتنع عدمه وزواله. وأما بحسب الاعتقاد فلأن اعتقاد وجوده ووجوبه هو الاعتقاد الصواب المطابق الذي لا يتغير عن هذه الصفة، وأما بحسب الأخبار والذكر فلأن هذا الخبر أحق الأخبار بكونه صدقاً واجب التقرير، فثبت أنه تعالى هو الحق بحسب جميع الاعتبارات والمفهومات والله الموفق الهادي.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
القسم الثاني: من هذا الباب الأسماء الدالة على كيفية الوجود: ـ اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمات عقلية. كونه تعالى «أزلياً»: المقدمة الأولى: اعلم أن كونه تعالى أزلياً أبدياً لا يوجب القول بوجود زمان لا آخر له، وذلك لأنا نقول: كون الشيء دائم الوجود في ذاته إما أن يتوقف على حصوله في زمان أولاً يتوقف عليه، فإن لم يتوقف عليه فهو المقصود، لأن على هذا التقدير يكون تعالى أزلياً أبدياً من غير حاجة إلى القول بوجود زمان آخر، وأما أن توقف عليه فنقول: ذلك الزمان إما أن يكون أزلياً أو لا يكون فإن كان ذلك الزمان أزلياً فالتقدير هو أن كونه أزلياً لا يتقرر إلا بسبب زمان آخر فحينئذٍ يلزم افتقار الزمان إلى زمان آخر فيلزم التسلسل، وأما إن قلنا أن ذلك الزمان ليس أزلياً فحينئذٍ قد كان الله أزلياً موجوداً قبل ذلك الزمان، وذلك يدل على أن الدوام لا يفتقر إلى وجود زمان آخر، وهو المطلوب، فثبت أن كونه تعالى أزلياً لا يوجب الاعتراف بكون الزمان أزلياً. كونه تعالى «باقياً»: المقدمة الثانية: أن الشيء كلما كان أزلياً كان باقياً، لكن لا يلزم من كون الشيء باقياً كونه أزلياً، ولفظ «الباقي» وورد في القرآن قال الله تعالى:**{ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ }** [الرحمن: 27] وأيضاً قال تعالى:**{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }** [القصص: 88] والذي لا يصير هالكاً يكون باقياً لا محالة، وأيضاً قال تعالى:**{ هُوَ ٱلأوَّلُ وَٱلأَخِرُ }** [الحديد: 3] فجعله أولاً لكل ما سواه، وما كان أولاً لكل ما سواه امتنع أن يكون له أول إذ لو كان له أول لامتنع أن يكون أولاً لأول نفسه، ولو كان له آخر لامتنع كونه آخراً لآخر نفسه، فلما كان أولاً لكل ما سواه وكان آخراً لكل ما سواه امتنع أن يكون له أول وآخر، فهذا اللفظ يدل على كونه تعالى أزلياً لا أول له، أبدياً لا آخر له. المقدمة الثالثة: لو كان صانع العالم محدثاً لافتقر إلى صانع آخر، ولزم التسلسل، وهو محال فهو قديم، وإذا ثبت أنه قديم وجب أن يمتنع زواله، لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه. إذا ثبتت هذه المقدمات فلنشرع في تفسير الأسماء: ـ اسمه تعالى «القديم»: الاسم الأول: القديم، واعلم أن هذا اللفظ يفيد في أصل اللغة طول المدة، ولا يفيد نفي الأولية يقال: دار قديم إذا طالت مدته، قال الله تعالى:**{ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ }** [يۤس: 39] وقال:**{ إِنَّكَ لَفِى ضَلَـٰلِكَ ٱلْقَدِيمِ }** [يوسف: 95]. اسمه تعالى " الأزلي ": الاسم الثاني: الأزلي، وهذا اللفظ يفيد الانتساب إلى الأزل، فهذا يوهم أن الأزل شيء حصل ذات الله فيه، وهذا باطل، إذ لو كان الأمر كذلك لكانت ذات الله مفتقرة إلى ذلك الشيء ومحتاجة إليه، وهو محال، بل المراد وجود لا أول له ألبتة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
عدم أوليته تعالى: الاسم الثالث: قولنا لا أول له، وهذا اللفظ صريح في المقصود، واختلفوا في أن قولنا لا أول له صفة ثبوتية أو عدمية، قال بعضهم: إن قولنا لا أول له إشارة إلى نفي العدم السابق ونفي النفي إثبات، فقولنا لا أول له وإن كان بحسب اللفظ عدماً إلا أنه في الحقيقة ثبوت، وقال آخرون: أنه مفهوم عدمي، لأنه نفي لكون الشيء مسبوقاً بالعدم، وفرق بين العدم وبين كونه مسبوقاً بالعدم، فكونه مسبوقاً بالعدم كيفية ثبوتية، فقولنا لا أول له سلب لتلك الكيفية الثبوتية، فكان قولنا لا أول مفهوماً عدمياً، وأجاب الأولون عنه بأن كونه مسبوقاً بالعدم لو كان كيفية وجودية زائدة على ذاته لكانت تلك الكيفية الزائدة حادثة، فكانت مسبوقة بالعدم، فكان كونها كذلك صفة أخرى، ولزم التسلسل، وهو محال. اسمه تعالى " الأبدي والسرمدي ": الاسم الرابع: الأبدي، وهو يفيد الدوام بحسب الزمان المستقبل. الاسم الخامس: السرمدي، واشتقاق هذه اللفظة من السرد، وهو التوالي والتعاقب، قال عليه الصلاة والسلام في الأشهر الحرم: **" واحد فرد وثلاثة سرد "** أي: متعاقبة، ولما كان الزمان إنما يبقى بسبب تعاقب أجزائه وتلاحق أبعاضه وكان ذلك التعاقب والتلاحق مسمى بالسرد أدخلوا عليه الميم الزائدة ليفيد المبالغة في ذلك المعنى. إذا عرفت هذا فنقول: الأصل في لفظ السرمد أن لا يقع إلا على الشيء الذي تحدث أجزاؤه بعضها عقيب البعض، ولما كان هذا المعنى في حق الله تعالى محالاً كان إطلاق لفظ السرمدي عليه مجازاً، فإن ورد في الكتاب والسنّة أطلقناه وإلا فلا. " المستمر ": الاسم السادس: المستمر، وهذا بناء الاستفعال، وأصله المرور والذهاب، ولما كان بقاء الزمان بسبب مرور أجزائه بعضها عقيب البعض لا جرم أطلقوا المستمر، إلا أن هذا إنما يصدق في حق الزمان، أما في حق الله فهو محال لأنه باقٍ بحسب ذاته المعينة لا بحسب تلاحق أبعاضه وأجزائه. الاسم السابع: الممتد وسميت المدة مدة لأنها تمتد بحسب تلاحق أجزائها وتعاقب أبعاضها فيكون قولنا في الشيء، إنه امتد وجوده إنما يصح في حق الزمان والزمانيات، أما في حق الله تعالى فعلى المجاز. اسمه تعالى " الباقي ": الاسم الثامن: لفظ الباقي، قال تعالى:**{ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ }** [الرحمن: 27] واعلم أن كل ما كان أزلياً كان باقياً ولا ينعكس، فقد يكون باقياً ولا يكون أزلياً ولا أبدياً كما في الأجسام والأعراض الباقية، ومن الناس من قال: لفظ الباقي يفيد الدوام، وعلى هذا ألا يصح وصف الأجسام بالباقي، وليس الأمر كذلك، لإطباق أهل العرف على قول بعضهم لبعض أبقاك الله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
" الدائم ": الاسم التاسع: الدائم، قال تعالى:**{ أُكُلُهَا دَائِمٌ }** [الرعد: 35] ولما كان أحق الأشياء بالدوام هو الله كان الدائم هوالله. واجب الوجود: الاسم العاشر: قولنا: «واجب الوجود لذاته» ومعناه أن ماهيته وحقيقته هي الموجبة لوجوده، وكل ما كان كذلك فإنه يكون ممتنع العدم والفناء، واعلم أن ما كان واجب الوجود لذاته وجب أن يكون قديماً أزلياً، ولا ينعكس فليس كل ما كان قديماً أزلياً كان واجب الوجود لذاته، لأنه لا يبعد أن يكون الشيء معللاً بعلة أزلية أبدية، فحينئذٍ يجب كونه أزلياً أبدياً بسبب كون علته كذلك، فهذا الشيء يكون أزلياً أبدياً مع أنه لا يكون واجب الوجود لذاته، وقولهم بالفارسية «خداي» معناه أنه واجب الوجود لذاته لأن قولنا: «خداي» كلمة مركبة من لفظتين في الفارسية: إحداهما: خود، ومعناه ذات الشيء ونفسه وحقيقته والثانية قولنا: «آي» ومعناه جاء، فقولنا: «خداي» معناه أنه بنفسه جاء، وهو إشارة إلى أنه بنفسه وذاته جاء إلى الوجود لا بغيره، وعلى هذا الوجه فيصير تفسير قولهم: «خداي» أنه لذاته كان موجوداً. " الكائن ": الاسم الحادي عشر: الكائن، واعلم أن هذا اللفظ كثير الورود في القرآن بحسب صفات الله تعالى، قال الله تعالى:**{ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا }** [الكهف: 45] وقال إن الله:**{ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }** [النساء: 24] وأما ورود هذا اللفظ بحسب ذات الله تعالى فهو غير وارد في القرآن، لكنه وارد في بعض الأخبار، روي في الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم: **" يا كائناً قبل كل كون، ويا حاضراً مع كل كون، ويا باقياً بعد انقضاء كل كون "** أو لفظ يقرب معناه مما ذكرناه ويناسبه من بعض الوجوه واعلم أن ههنا بحثاً لطيفاً نحوياً: وذلك أن النحويين أطبقوا على أن لفظ «كان» على قسمين: أحدهما: الذي يكون تاماً، وهو بمعنى حدث ووجد وحصل، قال تعالى:**{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ }** [آل عمران: 110] أي حدثتم ووجدتم خير أمة. والثاني: الذي يكون ناقصاً كقولك «كان الله عليماً حكيماً»، فإن لفظ كان بهذا التفسير لا بدّ له من مرفوع ومنصوب، واتفقوا على أن كان على كلا التقديرين فعل، إلا أنهم قالوا: إنه على الوجه الأول فعل تام، وعلى الثاني فعل ناقص، فقلت للقوم: لو كانت هذه اللفظة فعلاً لكان دالاً على حصول حدث في زمان معين ولو كان كذلك لكنا إذا أسندناه إلى اسم واحد لكان حينئذٍ قد دل على حصول حدث لذلك الشيء، وحينئذٍ يتم الكلام، فكان يجب أن يستغنى عن ذكر المنصوب، وعلى هذا التقدير يصير فعلاً تاماً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فثبت أن القول بأن بهذه الكلمة الناقصة فعل يوجب كونها تامة غير ناقصة، وما أفضى ثوبته إلى نفيه كان باطلاً، فكان القول بأن هذه الكلمة ناقصة كلاماً باطلاً، ولما أوردت هذا السؤال عليهم بقي الأذكياء من النحويين والفضلاء منهم متحيرين فيه زماناً طويلاً، وما أفلحوا في الجواب، ثم لما تأملت فيه وجدت الجواب الحقيقي الذي يزيل الشبهة، وتقريره أن نقول: لفظ «كان» لا يفيد إلا الحدوث والحصول والوجود، إلا أن هذا على قسمين: منه ما يفيد حدوث الشيء في نفسه، ومنه ما يفيد موصوفية شي بشيء آخر. أما القسم الأول: فإن لفظ «كان» يتم بإسناده إلى ذلك الشيء الواحد لأنه يفيد أن ذلك الشيء قد حدث وحصل، وأما القسم الثاني فإنه لا تتم فائدته إلا بذكر الاسمين، فإنه إذا ذكر كان معناه حصول موصوفية زيد بالعلم ولا يمكن ذكر موصوفية هذا بذاك إلا عند ذكرهما جميعاً، فلا جرم لا يتم المقصود إلا بذكرهما، فقولنا: «كان زيد عالماً»، معناه أنه حدث وحصل موصوفية زيد بالعلم، فثبت بما ذكرنا أن لفظ الكون يفيد الحصول والوجود فقط، إلا أنه في القسم الأول يكفيه إسناده إلى اسم واحد، وفي القسم الثاني: لا بدّ من ذكر الاسمين، وهذا من اللطائف النفيسة في علم النحو، إذا عرفت هذا فنقول: فعلى هذا التقدير لا فرق بين الكائن والموجود فوجب جواز إطلاقه على الله تعالى. القسم الثالث: من أقسام الصفات الحقيقية: الصفة المغايرة للوجود مذهب نفاة الصفات: الصفة التي تكون مغايرة للوجود ولكيفيات الوجود. اعلم أن هذا البحث مبني على أنه هل يجوز قيام هذه الصفات ذات الله تعالى؟ فالمعتزلة والفلاسفة ينكرونه أشد الإنكار، ويحتجون عليه بوجوه: الأول: أن تلك الصفة إما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لذاتها، والقسمان باطلان، فبطل القول بالصفات، وإنما قلنا أن يمتنع كونها واجبة لذاتها لوجهين: الأول: أنه ثبت في الحكمة أن واجب الوجود لذاته لا يكون إلا واحداً. الثاني: أن الواجب لذاته هو الذي يكون غنياً عما سواه، والصفة هي التي تكون مفتقرة إلى الموصوف، فالجمع بين الوجوب الذاتي وبين كونه صفة للغير محال، وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون ممكناً لذاته لوجهين: الأول: أن الممكن لذاته لا بدّ له من سبب، وسببه لا يجوز أن يكون غير ذات الله، لأن تلك الذات لما امتنع خلوها عن تلك الصفة، وتلك الصفة مفتقرة إلى الغير لزم كون تلك الذات مفتقرة إلى الغير. وما كان كذلك كان ممكناً لذاته فيلزم أن يكون الواجب لذاته ممكناً لذاته، وهو محال، ولا يجوز أن يكون هو ذات الله تعالى لأنها قابلة لتلك الصفة فلو كانت مؤثرة فيها لزم كون الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد فاعلاً وقابلاً معاً، وهو محال لما ثبت أن الشيء الواحد لا يصدر عنه إلا أثر واحد، والفعل والقبول أثران مختلفان: الثاني: أن الأثر مفتقر إلى المؤثر، فافتقاره إليه إما أن يكون بعد حدوثه، أو حال حدوثه، أو حال عدمه، والأول باطل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وإلا لكان تأثير ذلك المؤثر في إيجاده تحصيلاً للحاصل، وهو محال، فبقي القسمان الأخيران، وذلك يقتضي أن يكون كلما كان الشيء أثراً لغيره كان حادثاً، فوجب أن يقال: الشيء الذي لا يكون حادثاً فإنه لا يكون أثراً للغير، فثبت أن القول بالصفات باطل. الحجة الثانية: على نفي الصفات: قالوا: إن تلك الصفات إما أن تكون قديمة أو حادثة والأول باطل لأن القدم صفة ثبوتية على ما بيناه، فلو كانت الصفات قديمة لكانت الذات مساوية للصفات في القدم، ويكون كل واحد منهما مخالفاً للآخر بخصوصية ماهيته المعينة وما به المشاركة غير ما به المخالفة، فيكون كل واحد من تلك الأشياء القديمة مركباً من جزأين ثم نقول: ويجب أن يكون كل واحد من ذينك الجزأين قديماً لأن جزء ماهية القديم يجب أن يكون قديماً، وحينئذٍ يكون ذانك الجزآن يتشاركان في القدم ويختلفان بالخصوصية، فيلزم كون كل واحد منهما مركباً من جزأين، وذلك محال لأنه يلزم أن يكون حقيقة الذات وحقيقة كل واحدة من تلك الصفات مركبة من أجزاء غير متناهية وذلك محال، وإنما قلنا إنه يمتنع كون تلك الصفات حادثة لوجوه: الأول: أن قيام الحوادث بذات الله محال، لأن تلك الذات إن كانت كافية في وجود تلك الصفة أو دوام عدمها لزم دوام وجود تلك الصفة أو دوام عدمها بدوام تلك الذات، وإن لم تكن كافية فيه فحينئذٍ تكون تلك الذات واجبة الاتصاف بوجود تلك الصفة أو عدمها، وذلك الوجود والعدم يكونان موقوفين على شيء منفصل، والموقوف على الموقوف على الغير موقوف على الغير، والموقوف على الغير ممكن لذاته، ينتج أن الواجب لذاته ممكن لذاته، وهو محال. والثاني: أن ذاته لو كانت قابلة للحوادث لكانت قابلية تلك الحوادث من لوازم ذاته، فحينئذٍ يلزم كون تلك القابلية أزلية لأجل كون تلك الذات أزلية، لكن يمتنع كون قابلية الحوادث أزلية لأن قابلية الحوادث مشروط بإمكان وجود الحوادث، وإمكان وجود الحوادث في الأزل محال، فكان وجود قابليتها في الأزل محالاً. الثالث: أن تلك الصفات لما كانت حادثة الإله الموصوف بصفات الإلهية موجوداً قبل حدوث هذه الصفات، فحينئذٍ تكون هذه الصفات مستغنى عنها في ثبوت الإلهية، فوجب نفيها، فثبت أن تلك الصفات إما أن تكون حادثة أو قديمة، وثبت فسادهما فثبت امتناع وجود الصفة. الحجة الثالثة: أن تلك الصفات إما أن تكون بحيث تتم الإلهية بدونها أو لا تتم، فإن كان الأول كان وجودها فضلاً زائداً، فوجب نفيها، وإن كان الثاني كان الإله مفتقراً في تحصيل صفة الإلهية إلى شيء آخر، والمحتاج لا يكون إلهاً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحجة الرابعة: ذاته تعالى إما أن تكون كاملة في جميع الصفات المعتبرة في المدائح والكمالات، وإما أن لا تكون، فإن كان الأول فلا حاجة إلى هذه الصفات، وإن كان الثاني كانت تلك الذات ناقصة في ذاتها مستكملة بغيرها، وهذه الذات لا يليق بها صفة الإلهية. الحجة الخامسة: لما كان الإله هو مجموع الذات والصفات فحينئذٍ يكون الإله مجزأ مبعضاً منقسماً، وذلك بعيد عن العقل لأن كل مركب ممكن لا واجب. الحجة السادسة: أن الله تعالى كفر النصارى في التثليث، فلا يخلو إما أن يكون لأنهم قالوا بإثبات ذوات ثلاثة، أو لأنهم قالوا بالذات مع الصفات، والأول لا يقوله النصارى، فيمتنع أن يقال إن الله كفرهم بسبب مقالة هم لا يقولون بها، فبقي الثاني، وذلك يوجب أن يكون القول بالصفات كفراً. فهذه الوجوه يتمسك بها نفاة الصفات، وإذا كان الأمر كذلك فعلى هذا التقدير يمتنع أن يحصل الله تعالى اسم بسبب قيام الصفة الحقيقية به. دلائل مثبتي الصفات: المسألة الثانية: في دلائل مثبتي القول بالصفات: اعلم أنه ثبت أن إله العالم يجب أن يكون عالماً قادراً حياً، فنقول يمتنع أن يكون علمه وقدرته نفس تلك الذات، ويدل عليه وجوه: الأول: أنا ندرك تفرقة ضرورية بديهية بين قولنا: ذات الله ذات، وبين قولنا: ذات الله عالمة قادرة، وذلك يدل على أن كونه عالماً قادراً ليس نفس تلك الذات. الثاني: أنه يمكن العلم بكونه موجوداً مع الذهول عن كونه قادراً وعالماً، وكذلك يمكن أن يعلم كونه قادراً مع الذهول عن كونه عالماً، وبالعكس، وذلك يدل على أن كونه عالماً قادراً ليس نفس تلك الذات، الثالث: أن كونه عالماً عام التعلق بالنسبة إلى الواجب والممتنع والممكن، وكونه قادراً ليس عام التعلق بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة، بل هو مختص بالجائز فقط، ولولا الفرق بين العلم وبين القدرة وإلا لما كان كذلك، الرابع: أن كونه تعالى قادراً يؤثر في وجود المقدور، وكونه عالماً لا يؤثر، ولولا المغايرة وإلا لما كان كذلك، الخامس: أن قولنا: موجود، يناقضه قولنا: ليس بموجود، ولا يناقضه قولنا: ليس بعالم، وذلك يدل على أن المنفي بقولنا: ليس بموجود مغاير للمنفي بقولنا: ليس بعالم، وكذا القول في كونه قادراً. فهذه دلائل واضحة على أنه لا بدّ من الإقرار بوجود الصفات لله تعالى، إلا أنه بقي أن يقال: لم لا يجوز أن تكون هذه الصفات صفات نسبية وإضافية فالمعنى من «كونه قادراً» كونه بحيث يصح منه الإيجاد، وتلك الصحة معللة بذاته، و «كونه عالماً» معناه الشعور والإدراك، وذلك حالة نسبية إضافية، وتلك النسبية الحاصلة معللة بذاته المخصوصة، وهذا تمام الكلام في هذا الباب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الثالثة: أنا إذا قلنا بإثبات الصفات الحقيقية فنقول: الصفة الحقيقية إما أن تكون صفة يلزمها حصول النسبة والإضافة، وهي مثل العلم والقدرة، فإن العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالمعلوم، والقدرة صفة يلزمها صحة تعلقها بإيجاد المقدور، فهذه الصفات وإن كانت حقيقية إلا أنه يلزمها لوازم من باب النسب والإضافات. أما الصفة الحقيقية العارية عن النسبة والإضافة في حق الله تعالى فليست إلا صفة الحياة فلنبحث عن هذه الصفة فنقول: قالت الفلاسفة: الحي هو الدراك الفعال، إلا أن الدراكية صفة نسبية والفعالية أيضاً كذلك، وحينئذٍ لا تكون الحياة صفة مغايرة للعلم والقدرة على هذا القول، وقال المتكلمون إنها صفة باعتبارها يصح أن يكون عالماً قادراً، واحتجوا عليه بأن الذوات متساوية في الذاتية ومختلفة في هذه الصحة، فلا بدّ وأن تكون تلك الذوات مختلف في قبول صفة الحياة، فوجب أن تكون صحيحة لأجل صفة زائدة، فيقال لهم: قد دللنا على أن ذات الله تعالى مخالفة لسائر الذوات لذاته المخصوصة، فسقط هذا الدليل، وأيضاً الذوات مختلفة في قبول صفة الحياة، فوجب أن يكون صحة قبول الحياة لصفة أخرى، ولزم التسلسل، ولا جواب عنه إلا أن يقال: إن تلك الصحة من لوازم الذات المخصوصة فاذكروا هذا الكلام في صحة العالمية، وقال قوم ثالث: معنى كونه حياً أنه لا يمتنع أن يقدر ويعلم، فهذا عبارة عن نفي الامتناع، ولكن الامتناع عدم، فنفيه يكون عدماً للعدم، فيكون ثبوتاً، فيقال لهم: هذا مسلم، لكن لم لا يجوز أن يكون هذا الثبوت هو تلك الذات المخصوصة؟ فإن قالوا: الدليل عليه أن نعقل تلك الذات مع الشك في كونها حية، فوجب أن يكون كونها حية مغايراً لتلك الذات، فيقال لهم: قد دللنا على أنا لا نعقل ذات الله تعالى تعقلاً ذاتياً، وإنما نتعقل تلك الذات تعقلاً عرضياً، وعند هذا يسقط هذا الدليل، فهذا تمام الكلام في هذا الباب. اسمه تعالى الحي: المسألة الرابعة: لفظ الحي وارد في القرآن، قال الله تعالى:**{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ }** [البقرة: 255] وقال:**{ وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَىّ ٱلْقَيُّومِ }** [طه: 111] وقال:**{ هُوَ ٱلْحَىُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَـٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ }** [غافر: 65] فإن قيل: الحي معناه الدراك الفعال أو الذي لا يمتنع أن يعلم ويقدر، وهذا القدر ليس فيه مدح عظيم، فما السبب في أن ذكره الله تعالى في معرض المدح العظيم؟ فالجواب إن التمدح لم يحصل بمجرد كونه حياً، بل بمجموع كونه حياً قيوماً. وذلك لأن القيوم هو القائم بإصلاح حال كل ما سواه، وذلك لا يتم إلا بالعلم التام والقدرة التامة، والحي هو الدراك الفعال، فقوله: «الحي» يعني كونه دراكاً فعالاً، وقوله: «القيوم» يعني كونه دراكاً لجميع الممكنات فعالاً لجميع المحدثات والممكنات، فحصل المدح من هذا الوجه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الباب الخامس في الأسماء الدالة على الصفات الإضافية الاسم الدال على الصفات الإضافية: اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمة عقلية، وهي أن التكوين هل هو نفس المكون أم لا؟ قالت المعتزلة والأشعرية: التكوين نفس المكون، وقال آخرون إنه غيره، واحتج النفاة بوجوده: الحجة الأولى: أن الصفة المسماة بالتكوين إما أن تؤثر على سبيل الصحة أو على سبيل الوجوب، فإن كان الأول فتلك الصفة هي القدرة لا غير، وإن كان الثاني لزم كونه تعالى موجباً بالذات لا فاعلاً بالا ختيار. الحجة الثانية: أن تلك الصفة المسماة بالتكوين إن كانت قديمة لزم من قدمها قدم الآثار وإن كانت محدثة افتقر تكوينها، إلى تكوين آخر ولزم التسلسل. الحجة الثالثة: أن الصفة المسماة بالقدرة إما أن يكون لها صلاحية التأثير عند حصول سائر الشرائط من العلم والإرادة أو ليس لها هذه الصلاحية، فإن كان الأول فحينئذٍ تكون القدرة كافية في خروج الأثر من العدم إلى الوجود، وعلى هذا التقدير فلا حجة إلى إثبات صفة أخرى، وإن كان الثاني فحينئذٍ القدرة لا تكون لها صلاحية التأثير، فوجب أن لا تكون القدرة قدرة، وذلك يوجب التناقض. واحتج مثبتو قدم الصفة بأن القادر على الفعل قد يوجده وقد لا يوجده، ألا ترى أن الله تعالى قادر على خلق ألف شمس وقمر على هذه السماء إلا أنه ما أوجده، وصحة هذا النفي والإثبات يدل على أن المعقول من كونه موجداً مغاير للمعقول من كونه قادراً، ثم نقول: كونه موجداً إما أن يكون معناه دخول الأثر في الوجود أو يكون أمراً زائداً، والأول باطل لأنا نعلل دخول هذا الأثر في الوجود بكون الفاعل موجداً له، ألا ترى أنه إذا قيل: لم وجد العالم؟ قلنا: لأجل أن الله أوجده، فلو كان كون الموجد موجداً له معناه نفس هذا الأثر لكان تعليل وجود الأثر بالموجدية يقتضي تعليل وجوده نفسه، ولو كان معللاً بنفسه لامتنع إسناده إلى الغير، فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر يقتضي نفي الموجدية، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً، فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر كلام باطل، فوجب أن يكون كون الموجد موجداً أمراً مغايراً لكون الفاعل قادراً لوجود الأثر، فثبت أن التكوين غير المكون. إذا عرفت هذا الأصل فنقول: القائلون بأن التكوين نفس المكون قالوا: معنى كونه تعالى خالقاً رازقاً محيياً مميتاً ضاراً نافعاً عبارة عن نسبة مخصوصة وإضافة مخصوصة، وهي تأثير قدرة الله تعالى في حصول هذه الأشياء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأما القائلون بأن التكوين غير المكون، فقالوا معنى كونه خالقاً رازقاً ليس عبارة عن الصفة الإضافية فقط، بل هو عبارة عن صفة حقيقية موصوفة بصفة إضافية. اعلم أن الصفات الإضافية على أقسام: أحدها: كونه معلوماً مذكوراً مسبحاً ممجداً، فيقال: يا أيها المسبح بكل لسان، يا أيها الممدوح عند كل إنسان، يا أيها المرجوع إليه في كل حين وأوان، ولما كان هذا النوع من الإضافات غير متناهٍ كانت الأسماء الممكنة لله بحسب هذا النوع من الصفات غير متناهية. وثانيها: كونه تعالى فاعلاً للأفعال صفة إضافية محضة بناءً على أن تكوين الأشياء ليس بصفة زائدة، إذا عرفت هذا فالمخبر عنه إما أن يكون مجرد كونه موجداً، أو المخبر عنه كونه موجداً للنوع الفلاني لأجل الحكمة الفلانية، أما القسم الأول ـ وهو اللفظ الدال على مجرد كونه موجداً ـ فههنا ألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة مثل: الموجد، والمحدث، والمكون، والمنشىء، والمبدع، والمخترع، والصانع، والخالق، والفاطر، والبارىء، فهذه ألفاظ عشرة متقاربة، ومع ذلك فالفرق حاصل: أما الاسم الأول ـ وهو الموجد ـ فمعناه المؤثر في الوجود، وأما المحدث فمعناه الذي جعله موجوداً بعد أن كان معدوماً، وهذا أخص من مطلق الإيجاد، وأما المكون فيقرب من أن يكون مرادفاً للموجد، وأما المنشىء فاشتقاقه من النشوء والنماء، وهو الذي يكون قليلاً قليلاً على التدريج، وأما المبدع فهو الذي يكون دفعة واحدة، وهما كنوعين تحت جنس الموجد. والمخترع قريب من المبدع، وأما الصانع فيقرب أن يكون اسماً لمن يأتي بالفعل على سبيل التكلف، وأما الخالق فهو عبارة عن التقدير، وهو في حق الله تعالى يرجع إلى العلم، وأما الفاطر فاشتقاقه من الفطر وهو الشق، ويشبه أن يكون معناه هو الأحداث دفعة، وأما البارىء فهو الذي يحدثه على الوجه الموافق للمصلحة، يقال: برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقاً لغرض معين، فهذا بيان هذه الألفاظ الدالة على كونه موجداً على سبيل العموم، أما الألفاظ الدالة على إيجاد شيء بعينه فتكاد أن تكون غير متناهية، ويجب أن نذكر في هذا الباب أمثلة فالمثال الأول: أنه إذا خلق النافع سمي نافعاً، وإذا خلق المؤلم سمي ضاراً، والمثال الثاني: إذا خلق الحياة سمي محيياً، وإذا خلق الموت سمي مميتاً، والمثال الثالث: إذا خصهم بالإكرام سمي براً لطيفاً، وإذا خصهم بالقهر سمي قهاراً جباراً، والمثال الرابع: إذا قلل العطاء سمي قابضاً، وإذا أكثره سمي باسطاً، والمثال الخامس: إن جارى ذوي الذنوب بالعقاب سمي منتقماً وإن ترك ذلك الجزاء سمي عفواً غفوراً رحيماً رحماناً، المثال السادس: إن حصل المنع والإعطاء في الأموال سمي قابضاً باسطاً، وإن حصلا في الجاه والحشمة سمي خافضاً رافعاً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
إذا عرفت هذا فنقول: إن أقسام مقدورات الله تعالى بحسب الأنواع والأجناس غير متناهية، فلا جرم يمكن أن يحصل لله تعالى أسماء غير متناهية بحسب هذا الاعتبار. وإذا عرفت هذا فنقول: ههنا دقائق لا بدّ منها: فالدقيقة الأولى: أن مقابل الشيء تارة يكون ضده وتارة يكون عدمه، فقولنا: «المعز المذل» وقولنا: «المحيـي المميت» يتقابلان تقابل الضدين، وأما قولنا: «القابض الباسط، الخافض الرافع» فيقرب من أن يكون تقابلهما تقابل العدم والوجود، لأن القبض عبارة عن أن لا يعطيه المال الكثير، والخفض عبارة أن لا يعطيه الجاه الكبير، أما الإعزاز والإذلال فهما متضادان لأنه فرق بين أن لا يعزه وبين أن يذله والدقيقة الثانية: أنه قد تكون الألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة ولكن التأمل التام يدل على الفرق اللطيف، وله أمثلة: المثال الأول: الرؤف الرحيم، يقرب من هذا الباب إلا أن الرؤف أميل إلى جانب إيصال النفع، والرحيم أميل إلى جانب دفع الضرر، والمثال الثاني: الفاتح، والفتاح، والنافع والنفاع، والواهب والوهاب، فالفاتح يشعر بأحداث سبب الخير، والواهب يشعر بإيصال ذلك الخير إليه، والنافع يشعر بإيصال ذلك النفع إليه بقصد أن ينتفع ذلك الشخص به، وإذا وقفت على هذا القانون المعتبر في هذا الباب أمكنك الوقوف على حقائق هذا النوع من الأسماء. الباب السادس في الأسماء الواقعة بحسب الصفات السلبية واعلم أن القرآن مملوء منه، وطريق الضبط فيه أن يقال: ذلك السلب إما أن يكون عائداً إلى الذات، أو إلى الصفات، أو إلى الأفعال، أما السلوب العائدة إلى الذات فهي قولنا إنه تعالى ليس كذا ولا كذا، كقولنا: إنه ليس جوهراً ولا جسماً ولا في المكان ولا في الحيز ولا حالاً ولا محلاً، واعلم أنا قد دللنا على أن ذاته مخالفة لسائر الذوات والصفات لعين ذاته المخصوصة، لكن أنواع الذوات والصفات المغايرة لذاته غير متناهية، فلا جرم يحصل ههنا سلوب غير متناهية، ومن جملتها قوله تعالى:**{ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء }** [محمد: 38] وقوله:**{ وَرَبُّكَ ٱلْغَنِىُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ }** [الأنعام: 133] لأن كونه غنياً أنه لا يحتاج في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية إلى شيء غيره، ومنه أيضاً قوله:**{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }** [الإخلاص: 3] وأما السلوب العائدة إلى الصفات فكل صفة تكون من صفات النقائص فإنه يجب تنزيه الله تعالى عنها، فمنها ما يكون من باب أضداد العلم ومنها ما يكون من باب أضداد القدرة، ومنها ما يكون من باب أضداد الاستغناء، ومنها ما يكون من باب أضداد الوحدة: ومنها ما يكون من باب أضداد العلم فأقسام، أحدها: نفي النوم، قال تعالى:**{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }** [البقرة: 255] وثانيها: نفي النسيان، قال تعالى:**{ وما كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً }** [مريم: 64] وثالثها: نفي الجهل قال تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَلاَ فِى ٱلأرْضِ }** [سبأ: 3] ورابعها: أن علمه ببعض المعلومات لا يمنعه عن العلم بغيره فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، وأما السلوب العائدة إلى صفة القدرة فأقسام: أحدها: أنه منزه في أفعاله عن التعب والنصب قال تعالى:**{ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }** [قۤ: 38] وثانيها: أنه لا يحتاج في فعله إلى الآلات والأدوات وتقدم المادة والمدة، قال تعالى:**{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }** [النحل: 40] وثالثها: أنه لا تفاوت في قدرته بين فعل الكثير والقليل، قال تعالى:**{ وَمَا أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ }** [النحل: 77] ورابعها: نفي انتهاء القدرة وحصول الفقر، قال تعالى:**{ لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء }** [آل عمران: 181] وأما السلوب العائدة إلى صفة الاستغناء فكقوله:**{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ }** [الأنعام: 24]**{ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ }** [المؤمنون: 88] وأما السلوب العائدة إلى صفة الوحدة ـ وهو مثل نفي الشركاء والأضداد والأنداد ـ فالقرآن مملوء منه، وأما السلوب العائدة إلى الأفعال ـ وهو أنه لا يفعل كذا وكذا ـ فالقرآن مملوء منه، أحدها: أنه لا يخلق الباطل، قال تعالى:**{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـٰطِلاً ذٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }** [صۤ: 27] وقال تعالى حكاية عن المؤمنين:**{ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً }** [آل عمران: 191] وثانيها: أنه لا يخلق اللعب، قال تعالى:**{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ، وَمَا خَلَقْنَـٰهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ }** [الدخان: 38 ـ 39] وثالثها: لا يخلق العبث قال تعالى:**{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَـٰلَى ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ }** [المؤمنون: 115، 116] ورابعها: أنه لا يرضى بالكفر، قال تعالى:**{ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ }** [الزمر: 7] وخامسها: أنه لا يريد الظلم، قال تعالى:**{ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ }** [غافر: 31] وسادسها: أنه لا يحب الفساد، قال تعالى:**{ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ }** [البقرة: 205] وسابعها: أنه لا يعاقب من غير سابقة جرم، قال تعالى:**{ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ }** [النساء: 147] وثامنها: أنه لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين، قال تعالى:**{ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا }** [الإسراء: 7] وتاسعها: أنه ليس لأحد عليه اعتراض في أفعاله وأحكامه، قال تعالى:**{ لاَّ يُسْـئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ }** [الأنبياء: 23] وقال تعالى:**{ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ }** [االبروج: 16] وعاشرها: أنه لا يخلف وعده ووعيده، قال تعالى:**{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ }** [قۤ: 29]. إذا عرفت هذا الأصل فنقول: أقسام السلوب بحسب الذات وبحسب الصفات وبحسب الأفعال غير متناهية، فيحصل من هذا الجنس أيضاً أقسام غير متناهية من الأسماء، إذا عرفت هذا الأصل فلنذكر بعض الأسماء المناسبة لهذا الباب: فمنها القدوس، والسلام، ويشبه أن يكون القدوس عبارة عن كون حقيقة ذاته مخالفة للماهيات التي هي نقائص في أنفسها، والسلام عبارة عن كون تلك الذات غير موصوفة بشيء من صفات النقص، فالقدوس سلب عائد إلى الذات، والسلام سلب عائد إلى الصفات، وثانيها: العزيز، وهو الذي لا يوجد له نظير، وثالثها: الغفار، وهو الذي يسقط العقاب عن المذنبين، ورابعها: الحليم، وهو الذي لا يعاجل بالعقوبة، ومع ذلك فإنه لا يمتنع من إيصال الرحمة، وخامسها: الواحد، ومعناه أنه لا يشاركه أحد في حقيقته المخصوصة،، ولا يشاركه أحد في صفة الإلهية، ولا يشاركه أحد في خلق الأرواح والأجسم، ولا يشاركه أحد في نظم العالم وتدبير أحوال العرش وسادسها: الغني: ومعناه كونه منزهاً عن الحاجات والضرورات، وسابعها: الصبور، والفرق بينه وبين الحليم أن الصبور هو الذي لا يعاقب المسيء مع القدرة عليه، والحليم هو الذي يكون كذلك مع أنه لا يمنعه من إيصال نعمته إليه، وقس عليه البواقي، والله الهادي.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، وفيه فصول: الفصل الأول في الأسماء الحاصلة بسبب القدرة الأسماء الدالة على صفة القدرة: والأسماء الدالة على صفة القدرة كثيرة: الأول: القادر، قال تعالى:**{ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ }** [الأنعام: 65] وقال في أول سورة القيامة:**{ أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَـٰنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَىٰ قَـٰدِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ }** [القيامة: 3، 4] وقال في آخر السورة:**{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ }** [القيامة: 40] الثاني: القدير، قال تعالى:**{ تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ }** [الملك: 1] وهذا اللفظ يفيد المبالغة في وصفه بكونه قادراً، الثالث: المقتدر، قال تعالى:**{ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا }** [الكهف: 45] وقال:**{ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ }** [القمر: 55] الرابع: عبر عن ذاته بصيغة الجمع في هذه الصفة قال تعالى:**{ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَـٰدِرُونَ }** [المرسلات: 23] واعلم أن لفظ «الملك» يفيد القدرة أيضاً بشرط خاص، ثم إن هذا اللفظ جاء في القرآن على وجوه مختلفة: فالأول: المالك، قال الله تعالى: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } الثاني: الملك، قال تعالى:**{ فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ }** [طه: 114] وقال:**{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ }** [الحشر: 23] وقال: { مَلِكِ ٱلنَّاسِ } واعلم أن ورود لفظ الملك في القرآن أكثر من ورود لفظ المالك، والسبب فيه أن الملك أعلى شأناً من المالك، الثالث: مالك الملك، قال تعالى:**{ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ }** [آل عمران: 26] الرابع: «المليك» قال تعالى:**{ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ }** [القمر: 55] الخامس: لفظ الملك، قال تعالى:**{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ }** [الفرقان: 26] وقال تعالى:**{ لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ }** [البقرة: 107] واعلم أن لفظ القوة يقرب من لفظ القدرة، وقد جاء هذا اللفظ في القرآن على وجوه مختلفة: الأول: القوي، قال تعالى:**{ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ }** [الحج: 40] الثاني: ذو القوة، قال تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ }** [الذاريات: 58]. الفصل الثاني الأسماء الحاصلة بسبب العلم: في الأسماء الحاصلة بسبب العلم، وفيه ألفاظ: الأول: العلم وما يشتق منه، وفيه وجوه: الأول: إثبات العلم لله تعالى، قال تعالى:**{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ }** [البقرة: 255] وقال تعالى:**{ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ }** [فصلت: 47] وقال تعالى:**{ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَاً }** [الطلاق: 12] وقال تعالى:**{ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ }** [لقمان: 34] الاسم الثاني: العالم، قال تعالى:**{ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ }** [الزمر: 46] الثالث: العليم، وهو كثير في القرآن، الرابع: العلام، قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام:**{ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ }** [المائدة: 116] الخامس: الأعلم، قال تعالى:**{ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }** [الأنعام: 124] السادس: صيغة الماضي، قال تعالى:**{ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ }** [البقرة: 187] السابع: صيغة المستقبل، قال تعالى:**{ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ }** [البقرة: 197] وقال:**{ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ }** [النحل: 19] الثامن: لفظ علم من باب التفعيل، قال تعالى:**{ وَعَلَّمَ ءادَمَ ٱلأَسْمَاء كُلَّهَا }** [البقرة: 31] وقال في حق الملائكة**{ سُبْحَـٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا }** [البقرة: 32] وقال:**{ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ }** [النساء: 113] وقال:**{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ }** [الرحمن: 1، 2]. واعلم أنه لا يجوز أن يقال إن الله معلم مع كثرة هذه الألفاظ لأن لفظ المعلم مشعر بنوع نقيصة، التاسع: لا يجوز إطلاق لفظ العلامة على الله تعالى لأنها وإن أفادت المبالغة لكنها تفيد أن هذه المبالغة إنما حصلت بالكد والعناء، وذلك في حق الله تعالى محال. اللفظ الثاني: من ألفاظ هذا الباب لفظ الخبر والخبرة، وهو كالمرادف للعلم، حتى قال بعضهم في حد العلم: إنه الخبر، إذا عرفت هذا فنقول: ورد لفظ «الخبير» في حق الله تعالى في حد العلم: إنه الخبر، إذا عرفت هذا فنقول: ورد لفظ «الخبير» في حق الله تعالى كثيراً في القرآن، وذلك أيضاً يدل، على العلم. النوع الثالث من الألفاظ: الشهود والمشاهدة، ومنه «الشهيد» في حق الله تعالى، إذا فسرناه بكونه مشاهداً لها عالماً بها، أما إذا فسرناه بالشهادة كان من صفة الكلام. النوع الرابع: الحكمة، وهذه اللفظة قد يراد بها العلم، وقد يراد بها أيضاً ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي. النوع الخامس: اللطيف، وقد يراد به العلم بالدقائق، وقد يراد به إيصال المنافع إلى العباد بطريق خفية عجيبة. الفصل الثالث الأَسماء الحاصلة بصفة الكلام: في الأسماء الحاصلة بسبب صفة الكلام، وما يجري مجراه: ـ اللفظ الأول: الكلام، وفيه وجوه: الأول: لفظ الكلام، قال تعالى:**{ وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ }** [التوبة: 6] الثاني: صيغة الماضي من هذا اللفظ، قال تعالى:**{ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً }** [النساء: 164] وقال:**{ وَلَمَّا جَاء مُوسَىٰ لِمِيقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ }** [الأعراف: 143] الثالث: صيغة المستقبل، قال تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً }** [الشورى: 51]. اللفظ الثاني: القول، وفيه وجوه: الأول: صيغة الماضي، قال تعالى:**{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ }** [البقرة: 30] ونظائره كثيرة في القرآن، الثاني: صيغة المستقبل، قال تعالى:**{ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ }** [البقرة: 68] الثالث: القيل والقول، قال تعالى:**{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً }** [النساء: 122] وقال تعالى:**{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ }** [قۤ: 29] اللفظ الثالث: الأمر، قال تعالى:**{ لِلَّهِ ٱلأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ }** [الروم: 4] وقال:**{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأمْرُ }** [الأعراف: 54] وقال حكاية عن موسى عليه السلام**{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً }** [البقرة: 67]. اللفظ الرابع: الوعد، قال تعالى:**{ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءانِ }** [التوبة: 111] وقال تعالى:**{ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّا إِنَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ }** [يونس: 4]. اللفظ الخامس: الوحي، قال تعالى:**{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً }** [الشورى: 51] وقال:**{ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ }** [النجم: 10]. اللفظ السادس: كونه تعالى شاكراً لعباده، قال تعالى:**{ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا }** [لإسرء: 19]**{ وَكَانَ ٱللَّهُ شَـٰكِراً عَلِيماً }** [النساء: 147]. الفصل الرابع الإرادة وما بمعناها: في الإرادة وما يقرب منها: ـ فاللفظ الأول: الإرادة، قال تعالى:**{ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ }** [البقرة: 185]. اللفظ الثاني: الرضا، قال تعالى:**{ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ }** [الزمر: 7] وقال:**{ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ }** [الزمر: 7] وقال:**{ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ }** [الفتح: 18] وقال في صفة السابقين الأولين**{ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ }** [االمائدة: 119] وقال حكاية عن موسى**{ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىٰ }** [طه: 84]. اللفظ االثالث: المحبة، قال:**{ يحبهم ويحبونه }** [المائدة: 54] وقال:**{ ويحب المتطهرين }** [البقرة: 222]. اللفظ الرابع: الكراهة، قال تعالى:**{ كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا }** [الإسراء: 38] وقال:**{ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ }** [التوبة: 46] قالت الأشعرية: الكراهة عبارة عن أن يريد أن لا يفعل وقالت المعتزلة: بل هي صفة أخرى سوى الإرادة، والله أعلم. الفصل الخامس السمع والبصر ومشتقاتها: في السمع والبصر: قال تعالى:**{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ }** [الشورى: 11] وقال تعالى:**{ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـٰتِنَا إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ }** [الإسراء: 1] وقال تعالى:**{ إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ }** [طه: 46] وقال:**{ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ }** [مريم: 42] وقال تعالى:**{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأبْصَـٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأبْصَـٰرَ }** [الأنعام: 103]. فهذا جملة الكلام في الصفات الحقيقية مع الإضافية. الفصل السادس في الصفات الإضافية مع السلبية اعلم أن «الأول» هو الذي يكون سابقاً على غيره، ولا يسبقه غيره، فكونه سابقاً على غيره إضافة، وقولنا أنه لا يسبقه غيره فهو سلب، فلفظ «الأول» يفيد حالة متركبة من إضافة وسلب، «والآخر» هو الذي يبقى بعد غيره، ولا يبقى بعده غيره، والحال فيه كما قدم، أما لفظ «الظاهر» فهو إضافة محضة، لأن معناه كونه ظاهراً بحسب الدلائل، وأما لفظ «الباطن» فهو سلب محض، لأن معناه كونه خفياً بحسب الماهية.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ومن الأسماء الدالة على مجموع إضافة وسلب «القيوم» لأن هذا اللفظ يدل على المبالغة في هذا المعنى، وهذه المبالغة تحصل عند اجتماع أمرين: أحدهما: أن لا يكون محتاجاً إلى شيء سواه ألبتة، وذلك لا يحصل إلا إذا كان واجب الوجود في ذاته وفي جملة صفاته، والثاني: أن يكون كل ما سواه محتاجاً إليه في ذواتها وفي جملة صفاتها، وذلك بأن يكون مبدأ لكل ما سواه، فالأول سلب، والثاني إضافة ومجموعهما هو القيوم. الفصل السابع في الأسماء الدالة على الذات والصفات الحقيقية والإضافية والسلبية فمنها قولنا: «الإله» وهذا الاسم يفيد الكل لأنه يدل على كونه موجوداً، وعلى كيفيات ذلك الوجود، أعني كونه أزلياً أبدياً واجب الوجود لذاته، وعلى الصفات السلبية الدالة على التنزيه، وعلى الصفات الإضافية الدالة على الإيجاد والتكوين، واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يطلق على غير الله تعالى؟ أما كفار قريش فكانوا يطلقونه في حق الأصنام، وهل يجوز ذلك في دين الإسلام؟ المشهور أنه لا يجوز، وقال بعضهم: إنه يجوز لأنه ورد في بعض الأذكار: يا إله الآلهة، وهو بعيد، وأما قولنا: «الله» فسيأتي بيان أنه اسم علم لله تعالى، فهل يدل هذا الاسم على هذه الصفات؟ فنقول: لا شك أن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات، والمعنى أنه تعالى لو كان بحيث يصح أن يشار إليه لكان هذا الاسم قائماً مقام تلك الإشارة، ثم اختلفوا في أن الإشارة إلى الذات المخصوصة هل تتناول الصفات القائمة بتلك الذات؟ فإن قلنا إنها تتناول الصفات كان قولنا: «الله» دليلاً على جملة الصفات، فإن قالوا: الإشارة لا تتناول الصفات السلبية فوجب أن لا يدل عليها لفظ الله قلنا: الإشارة في حق الله إشارة عقلية منزهة عن العلائق الحسية، والإشارة العقلية قد تتناول السلوب. الفصل الثامن في الأسماء التي اختلف العقلاء فيها أنها هل هي من أسماء الذات أو من أسماء الصفات الأسماء المختلف في مرجعها: هذا البحث إنما ظهر من المنازعة القائمة بين أهل التشبيه وأهل التنزيه، وذلك لأن أهل التشبيه يقولون: الموجود إما أن يكون متحيزاً، وإما أن يكون حالاً في المتحيز أما الذي لا يكون متحيزاً ولا حالاً في المتحيز ـ فكان خارجاً عن القسمين ـ فذاك محض العدم، وأما أهل التوحيد والتقديس فيقولون: أما المتحيز فهو منقسم، وكل منقسم فهو محتاج، فكل متحيز هو محتاج، فما لا يكون محتاجاً امتنع أن يكون متحيزاً، وأما الحال في المتحيز فهو أولى بالاحتياج، فواجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون متحيزاً أو حالاً في المتحيز. إذا عرفت هذا الأصل فنقول: ههنا ألفاظ ظواهرها مشعرة بالجسمية والحصول في الحيز والمكان: فمنها «العظيم» وذلك لأن أهل التشبيه قالوا: معناه أن ذاته أعظم في الحجمية والمقدار من العرش ومن كل ما تحت العرش، ومنها «الكبير» وما يشتق منه، وهو لفظ «الأكبر» ولفظ «الكبرياء» ولفظ «المتكبر».
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أني ما رأيت أحداً من المحققين بيَّن الفرق بينهما، إلا أن الفرق حاصل في التحقيق من وجوه: الأول: أنه جاء في الأخبار الإلهية أنه تعالى يقول: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فجعل الكبرياء قائماً مقام الرداء، والعظمة قائمة مقام الإزار. ومعلوم أن الرداء أرفع درجة من الإزار، فوجب أن يكون صفة الكبرياء أرفع حالاً من صفة العظمة. والثاني: أن الشريعة فرقت بين الحالين، فإن المعتاد في دين الإسلام أن يقال في تحريمه الصلاة «الله أكبر» ولم يقل أحد «الله أعظم» ولولا التفاوت لما حصلت هذه التفرقة. الثالث: أن الألفاظ المشتقة من الكبير مذكورة في حق الله تعالى كالأكبر والمتكبر بخلاف العظيم فإن لفظ المتعظم غير مذكور في حق الله. واعلم أن الله تعالى أقام كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى، فقال:**{ وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ }** [البقرة: 255] وقال في آية أخرى:**{ حَتَّىٰ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ }** [سبأ: 23] إذا عرفت هذا فالمباحث السابقة مشعرة بالفرق بين العظيم وبين الكبير، وهاتان الآيتان مشعرتان بأنه لا فرق بينهما، فهذه العقدة يجب البحث عنها فنقول ومن الله الإرشاد والتعليم: يشبه أن يكون الكبير في ذاته كبيراً سواء استكبره غيره أم لا، وسواء عرف هذه الصفة أحد أو لا، وأما العظمة فهي عبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره، وإذا كان كذلك كانت الصفة الأولى ذاتية والثانية عرضية والذاتي أعلى وأشرف من العرضي، فهذا هو الممكن في هذا المقام والعلم عند الله. ومن الأسماء المشعرة بالجسمية والجهة الألفاظ المشتقة من «العلو» فمنها قوله تعالى: { ٱلْعَلِىُّ } ومنها قوله:**{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلأعْلَىٰ }** [الأعلى: 1] ومنها المتعالى ومنها اللفظ المذكور عند الكل على سبيل الأطباق وهو أنهم كلما ذكروه أردفوا ذلك الذكر بقولهم: «تعالى» لقوله تعالى في أول سورة النحل:**{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ }** [االنحل: 1] إذا عرفت هذا فالقائلون بأنه في الجهة والمكان قالوا: معنى علوه وتعاليه كونه موجوداً في جهة فوق، ثم هؤلاء منهم من قال إنه جالس فوق العرش، ومنهم من قال: إنه مباين للعرش ببعد متناه، ومنهم من قال: إنه مباين للعرش ببعد غير متناه، وكيف كان فإن المشبهة حملوا لفظ العظيم والكبير على الجسمية والمقدار وحملوا لفظ العلي على العلو في المكان والجهة، وأما أهل التنزيه والتقديس فإنهم حملوا العظيم والكبير على وجوه لا تفيد الجسمية والمقدار: فأحدها: أنه عظيم بحسب مدة الوجود، وذلك لأنه أزلي أبدي، وذلك هو نهاية العظمة والكبرياء في الوجود والبقاء والدوام، وثانيها: أنه عظيم في العلم والعمل، وثالثها: أنه عظيم في الرحمة والحكمة، ورابعها: أنه عظيم في كمال القدرة، وأما العلو فأهل التنزيه يحملون هذا اللفظ على كونه منزهاً عن صفات النقائص والحاجات.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
إذا عرفت هذا فلفظ العظيم والكبير عند المشبهة من أسماء الذات، وعند أهل التوحيد من أسماء الصفات، وأما لفظ العلي فعند الكل من أسماء الصفات، إلا أنه عند المشبهة يفيد الحصول في الحيز الذي هو العلو الأعلى، وعند أهل التوحيد يفيد كونه منزهاً عن كل ما لا يليق بالإلهية، فهذا تمام البحث في هذا الباب. الفصل التاسع في الأسماء الحاصلة لله تعالى من باب الأسماء المضمرة الأسماء المضمرة: اعلم أن الأسماء المضمرة ثلاثة: أنا، وأنت، وهو، وأعرف الأقسام الثلاثة قولنا: «أنا»أن هذا اللفظ لفظ يشير به كل أحد إلى نفسه، وأعرف المعارف عند كل أحد نفسه، وأوسط هذه الأقسام قولنا: «أنت» لأن هذا خطاب للغير بشرط كونه حاضراً، فلأجل كونه خطاباً للغير يكون دون قوله أنا، ولأجل أن الشرط فيه كون ذلك المخاطب حاضراً يكون أعلى من قوله: «هو» فثبت أن أعلى الأقسام هو قوله: «أنا» وأوسطها «أنت» وأدناها «هو» وكلمة التوحيد وردت بكل واحدة من هذه الألفاظ، أما لفظ «أنا» فقال في أول سورة النحل**{ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ }** [النحل: 2] وفي سورة طه**{ إِنَّنِى أَنَا للَّهِ لاَ إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ }** [طه: 14] وأما لفظ أنت فقد جاء في قوله:**{ فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ }** [الأنبياء: 87] وأما لفظ هو فقد جاء كثيراً في القرآن أولها في سورة البقرة في قوله:**{ وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ }** [البقرة: 163] وآخرها في سورة المزمل وهو قوله:**{ رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً }** [المزمل: 9] وأما ورود هذه الكلمة مقروناً باسم آخر سوى هذه الأربعة فهو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون أنه قال:**{ آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو اسرائيل }** [يونس: 90] ثم بين الله تعالى أن تلك الكلمة ما قبلت منه. إذا عرفت هذا فلنذكر أحكام هذه الأقسام فنقول: أما قوله: { لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ } فهذا الكلام لا يجوز أن يتكلم به أحد إلا الله أو من يذكره على سبيل الحكاية عن الله، لأن تلك الكلمة تقتضي إثبات الإلهية لذلك القائل، وذلك لا يليق إلا بالله سبحانه، واعلم أن معرفة هذه الكلمة مشروطة بمعرفة قوله: «أنا» وتلك المعرفة على سبيل التمام والكمال لا تحصل إلا للحق سبحانه وتعالى لأن علم كل أحد بذاته المخصوصة أكمل من علم غيره به، لا سيما في حق الحق تعالى، فثبت أن قوله: «لا إله إلا أنا» لم يحصل العلم به على سبيل الكمال إلا للحق تعالى، وأما الدرجة الثانية وهي قوله: «لا إله إلا أنت» فهذا يصح ذكره من العبد لكن بشرط أن يكون حاضراً لا غائباً، لكن هذه الحالة إنما اتفق حصولها ليونس عليه السلام عند غيبته عن جميع حظوظ النفس، وهذا تنبيه على أن الإنسان ما لم يصر غائباً عن كل الحظوظ لا يصل إلى مقام المشاهدة، وأما الدرجة الثالثة وهي قوله: «لا إله إلا هو» فهذا يصح من الغائبين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب والبعد، وكمال التجلي ونقصانه، وكل درجة ناقصة من درجات الحضور فهي غيبة بالنسبة إلى الدرجة الكاملة، ولما كانت درجات الحضور غير متناهية كانت مراتب الكمالات والنقصانات غير متناهية، فكانت درجات الحضور والغيبة غير متناهية، فكل من صدق عليه أنه حاضر فباعتبار آخر يصدق عليه أنه غائب، وبالعكس وعن هذا قال الشاعر: ـ
| **أبا غائباً حاضراً في الفؤاد** | | **سلام على الغائب الحاضر** |
| --- | --- | --- |
ويحكى أن الشبلي لما قربت وفاته قال بعض الحاضرين: قل لا إله إلا الله، فقال: ـ
| **كل بيت أنت حاضره** | | **غير محتاج إلى السرج** |
| --- | --- | --- |
| **وجهك المأمول حجتنا** | | **يوم تأتي الناس بالحجج** |
أسرار من التصوف في لفظ «هو»: واعلم أن لفظ «هو» فيه أسرار عجيبة وأحوال عالية، فبعضها يمكن شرحه وتقريره وبيانه، وبعضها لا يمكن، قال مصنف الكتاب: وأنا بتوفيق الله كتبت أسراراً لطيفة، إلا أني كلما أقابل تلك الكلمات المكتوبة بما أجده في القلب من البهجة والسعادة عند ذكر كلمة «هو» أجد المكتوب بالنسبة إلى تلك الأحوال المشاهدة حقيراً، فعند هذا عرفت أن لهذه الكلمة تأثيراً عجيباً في القلب لا يصل البيان إليه، ولا ينتهي الشرح إليه، فلنكتب ما يمكن ذكره فنقول: فيه أسرار: الأول: أن الرجل إذا قال: «يا هو» فكأنه يقول: من أنا حتى أعرفك، ومن أنا حتى أكون مخاطباً لك، وما للتراب ورب الأرباب، وأي مناسبة بين المتولد عن النطفة والدم وبين الموصوف بالأزلية والقدم؟ فأنت أعلى من جميع المناسبات وأنت مقدس عن علائق العقول والخيالات، فلهذا السبب خاطبة العبد بخطاب الغائبين فقال: يا هو. والفائدة الثانية: أن هذا اللفظ كما دل على إقرار العبد على نفسه بالدناءة والعدم ففيه أيضاً دلالة على أنه أقر بأن كل ما سوى الله تعالى فهو محض العدم، لأن القائل إذا قال: «يا هو» فلو حصل في الوجود شيئان لكان قولنا: «هو» صالحاً لهما جميعاً، فلا يتعين واحد منهما بسبب قوله: «هو» فلما قال: يا هو فقد حكم على كل ما سوى الله تعالى بأنه عدم محض ونفي صرف، كما قال تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }** [القصص: 88] وهذان المقامان في الفناء عن كل ما سوى الله مقامان في غاية الجلال، ولا يحصلان إلا عند مواظبة العبد على أن يذكر الله بقوله: يا هو. والفائدة الثالثة: أن العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته لم يكن مستغرقاً في معرفة الله تعالى لأنه إذا قال: «يا رحمن» فحينئذٍ يتذكر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها فيكون طالباً للحصة، وكذلك إذا قال: يا كريم، يا محسن، يا غفار، يا وهاب، يا فتاح وإذا قال: يا ملك فحينئذٍ يتذكر ملكه وملكوته وما فيه من أقسام النعم فيميل طبعه إليه فيطلب شيئاً منها، وقس عليه سائر الأسماء، أما إذا قال: يا هو فإنه يعرف أنه هو، وهذا الذكر لا يدل على شيء غيره ألبتة، فحينئذٍ يحصل في قلبه نور ذكره، ولا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولدة عن ذكر غير الله، وهناك يحصل في قلبه النور التام والكشف الكامل. والفائدة الرابعة: أن جميع الصفات المعلومة عند الخلق: إما صفات الجلال، وإما صفات الإكرام، أما صفات الجلال فهي قولنا ليس بجسم ولا بجوهر ولا عرض ولا في المكان ولا في المحل، وهذا فيه دقيقة لأن من خاطب السلطان فقال: أنت لست أعمى ولست أصم ولست كذا ولا كذا ويعد أنواع المعايب والنقصانات فإنه يستوجب الزجر والحجر والتأديب، ويقال: إن مخاطبته بنفي هذه الأشياء عنه إساءة في الأدب، وأما صفات الإكرام فهي كونه خالقاً للمخلوقات مرتباً لها على النظم الأكمل، وهذا أيضاً فيه دقيقة من وجهين: الأول: لا شك أن كمال الخالق أعلى وأجل من كمال المخلوق بمراتب لا نهاية لها، فإذا شرحنا نعوت كمال الله وصفات جلاله بكونه خالقاً لهذه المخلوقات فقد جعلنا كمال هذه المخلوقات كالشرح والبيان لكمال جلال الخالق، وذلك يقتضي تعريف الكامل المتعالى بطريق في غاية الخسة والدناءة،وذلك سوء أدب، والثاني: أن الرجل إذا أخذ يمدح السلطان القاهر بأنه أعطى الفقير الفلاني كسرة خبز أو قطرة ماء فإنه يستوجب الزجر والحجر، ومعلوم أن نسبة جميع عالم المخلوقات من العرش إلى آخر الخلاء الذي لا نهاية له إلى ما في خزائن قدرة الله أقل من نسبة كسرة الخبز وقطرة الماء إلى جميع خزائن الدنيا، فإذا كان ذلك سوء أدب فهذا أولى أن يكون سوء أدب فثبت أن مدح الله وثناءه بالطريقين المذكورين فيه هذه الاعتراضات، إلا أن ههنا سبباً يرخص في ذكر هذه المدائح، وهو أن النفس صارت مستغرقة في عالم الحس والخيال فالإنسان إذا أراد جذبها إلى عتبة عالم القدس احتاج إلى أن ينبهها على كمال الحضرة المقدسة، ولا سبيل له إلى معرفة كمال الله وجلاله إلا بهذين الطريقين، أعني ذكر صفات الجلال وصفات الإكرام فيواظب على هذين النوعين حتى تعرض النفس عن عالم الحس وتألف الوقوف على عتبة القدس فإذا حصلت هذه الحالة فعند ذلك يتبنه لما في ذينك النوعين من الذكر من الاعتراضات المذكورة وعند ذلك يترك تلك الأذكار ويقول: يا هو كأن العبد يقول: أجل حضرتك أن أمدحك وأثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك أو بإسناد كمالات المخلوقات إليك، فإن كمالك أعلى وجلالك أعظم، بل لا أمدحك ولا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي، ولا أخاطبك أيضاً بلفظة أنت لأن تلك اللفظة تفيد التيه والكبر حيث تقول الروح إني قد بلغت مبلغاً صرت كالحاضر في حضرة واجب الوجود، ولكني لا أزيد على قولي هو ليكون إقراراً بأنه هو الممدوح لذاته بذاته، ويكون إقراراً بأن حضرته أعلى وأجل من أن يناسبه حضور المخلوقات، فهذه الكلمة الواحدة تنبه على هذه الأسرار في مقامات التجلي والمكاشفات، فلا جرم كان هذا الذكر أشرف الأذكار لكن بشرط التنبيه لهذه الأسرار.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفائدة الخامسة: في هذا الذكر: أن المواظبة على هذا الذكر تفيد الشوق إلى الله، والشوق إلى الله ألذ المقامات وأكثرها بهجة وسعادة، إنما قلنا أن المواظبة على هذا الذكر تورث الشوق إلى الله وذلك لأن كلمة هو ضمير الغائب فالعبد إذا ذكر هذه الكلمة علم أنه غائب عن الحق ثم يعلم أن هذه الغيبة ليست بسبب المكان والجهة، وإنما كانت بسبب أنه موصوف بنقصانات الحدوث والإمكان، ومعيوب بعيب الكون في إحاطة المكان والزمان، فإذا تنبه العقل لهذه الدقيقة وعلم أن هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات والمحدثات فعند هذا يعلم أن كل المحدثات والإبداعيات غائبة عن عتبة علو الحق سبحانه وتعالى، وعرف أن هذه الغيبة إنما حصلت بسبب المفارقة في النقصان والكمال والحاجة والاستغناء، فعند هذا يعتقد أن الحق موصوف بأنواع من الكمال متعالية عن مشابهة هذه هذه الكمالات ومقدسة عن مناسبة هذه المحادثات، واعتقد أن تصوره غائب عن العقل والفكر والذكر، فصارت تلك الكمالات مشعوراً بها من وجه دون وجه، والشعور بها من بعض الوجوه يشوق إلى الشعور بدرجاتها ومراتبها، وإذا كان لا نهاية لتلك المراتب والدرجات فكذلك لا نهاية لمراتب هذا الشوق، وكلما كان وصول العبد إلى مرتبة أعلى مما كان، أسهل كان شوقه إلى الترقي عن تلك الدرجة أقوى وأكمل، فثبت أن لفظ «هو» يفيد الشوق إلى الله تعالى، وإنما قلنا إن الشوق إلى الله أعظم المقامات، وذلك لأن الشوق يفيد حصول آلام ولذات متوالية متعاقبة، لأن بقدر ما يصل يلتذ وبقدر ما يمتنع وصوله إليه يتألم، والشعور باللذة حال زوال الألم يوجب مزيد الالتذاذ والإبتهاج والسرور، وذلك يدل على أن مقام الشوق إلى الله أعظم المقامات، فثبت أن المواظبة على ذكر كلمة «هو» تورث الشوق إلى الله تعالى وثبت أن الشوق إلى الله أعظم المقامات وأكثرها بهجة وسعادة فيلزم أن يقال: المواظبة على ذكر هذه الكلمة تفيد أعلى المقامات وأسنى الدرجات.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفائدة السادسة: في شرح جلالة هذا الذكر: واعلم أن المقصود لا يتم إلا بذكر مقدمتين: المقدمة الأولى: أن العلم على قسمين: تصور، وتصديق، أما التصور فهو أن تحصل في النفس صورة من غير أن تحكم النفس عليها بحكم ألبتة لا بحكم وجودي ولا بحكم عدمي، أما التصديق فهو أن يحصل في النفس صورة مخصوصة، ثم أن النفس تحكم عليها إما بوجود شيء أو عدمه إذا عرفت هذا فنقول: التصور مقام التوحيد، وأما التصديق فإنه مقام التكثير. المقدمة الثانية: أن التصور على قسمين: تصور يتمكن العقل من التصرف فيه، وتصور لا يمكنه التصرف فيه: أما القسم الأول: فهو تصور الماهيات المركبة، فإنه لا يمكنه تصور الماهيات المركبة إلا بواسطة استحضار ماهيات أجزاء ذلك المركب، وهذا التصرف عمل وفكر، وتصرف من بعض الوجوه، وأما القسم الثاني: فهو تصور الماهيات البسيطة المنزهة عن جميع جهات التركيبات فإن الإنسان لا يمكنه أن يعمل عملاً يتوسل به إلى استحضار تلك الماهية، فثبت بما ذكرنا أن التصديق يجري مجرى التكثير بالنسبة إلى التصور، وأن التصور توحيد بالنسبة إلى التصديق وثبت أيضاً أن تصور الماهية البسيطة هو النهاية في التوحيد والبعد عن الكثرة، وإذا عرفت هذا فنقول: قولنا في الحق سبحانه وتعالى: «يا هو» هذاتصور محض خالٍ عن التصديق، ثم إن هذا التصور تصور لحقيقة منزهة عن جميع جهات التركيب والكثرة، فكان قولنا: «يا هو» نهاية في التوحيد والبعد عن الكثرة، وهو أعظم المقامات. الفائدة السابعة: أن تعريف الشيء إما أن يكون بنفسه، أو بالأجزاء الداخلة فيه، أو بالأمور الخارجة عنه، أما القسم الأول ـ وهو تعريفه بنفسه ـ فهو محال لأن المعرف سابق على المعرف، فتعريف الشيء بنفسه يقتضي تقدم العلم به على العلم به، وذلك محال، وأما القسم الثاني ـ وهو تعريفه بالأمور الداخلة فيه ـ فهذا في حق الحق محال لأن هذا إنما يجري في الماهية المركبة، وذلك في حق الحق محال، وأما القسم الثالث ـ وهو تعريفه بالأمور الخارجة عنه ـ فهذا أيضاً باطل محال لأن أحوال الخلق لا يناسب شيء منها شيئاً من أحوال القديم الواجب لذاته لأنه تعالى مخالف بذاته المخصوصة وبهويته المعينة لكل ما سواه ولما كان كذلك امتنع أن تكون أحوال الخلق كاشفة عن ماهية الله تعالى وحقيقته المخصوصة فإذا كان كذلك فقد انسدت أبواب التعريفات بالنسبة إلى هويته المخصوصة وماهيته المعينة، فلم يبق طريق إليه إلا من جهة واحدة، وهو أن يوجه الإنسان حدقة عقله وروحه إلى مطلع نور تلك الهوية على رجاء أنه ربما أشرق ذلك النور حال ما كانت حدقة عقله متوجهة إليها فيستسعد بمطالعة ذلك النور، فقول الذاكر «يا هو» توجيه لحدقة العقل والروح إلى الحضرة القدسية على رجاء أنه ربما حصلت له تلك السعادة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفائدة الثامنة: أن الرجل إذا دخل على الملك المهيب والسلطان القاهر ووقف بعقله على كمال تلك المهابة وعلى جلال تلك السلطنة فقد يصير بحيث تستولي عليه تلك المهابة وتلك السلطنة فيصير غافلاً عن كل ما سواه، حتى أنه ربما كان جائعاً فينسى جوعه، وربما كان به ألم شديد فينسى ذلك الألم في تلك الحالة، وربما رأى أباه أو ابنه في تلك الحالة ولا يعرفهما، وكل ذلك لأن استيلاء تلك المهابة عليه أذهله عن الشعور بغيره، فكذلك العبد إذا قال: «يا هو» وتجلى لعقله وروحه ذرة من نور جلال تلك الهوية وجب أن يستولي على قلبه الدهشة وعلى روحه الحيرة، وعلى فكرة الغفلة، فيصير غائباً عن كل ما سوى تلك الهوية، معزولاً عن الإلتفات إلى شيء سواها، وحينئذٍ لا يبقى معه في تلك الحالة إلا أن يقول بعقله: «هو» وبلسانه «هو» فإذا قال العبد «هو» وواظب على هذا الذكر فهذا منه تشبه بتلك الحالة على رجاء أنه ربما وصل إلى تلك الحالة، فنسأل الله تعالى الكريم أن يسعدنا بها. الفائدة التاسعة: من فوائد هذا الذكر العالي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" من جعل همومه هماً واحداً كفاه الله هموم الدنيا والآخرة "** فكأن العبد يقول: همومي في الدنيا والآخرة غير متناهية، والحاجات التي هي غير متناهية لا يقدر عليها إلا الموصوف بقدرة غير متناهية، ورحمة غير متناهية، وحكمة غير متناهية، فعلى هذا أنا لا أقدر على دفع حاجاتي ولا على تحصيل مهماتي، بل ليس القادر على دفع تلك الحاجات وعلى تحصيل تلك المهمات إلا الله سبحانه وتعالى، فأنا أجعل همي مشغولاً بذكره فقط، ولساني مشغولاً بذكره فقط فإذا فعلت ذلك فهو برحمته يكفيني مهمات الدنيا والآخرة. الفائدة العاشرة: أن العقل لا يمكنه الاشتغال بشيء حالة الاستغراق في العلم بشيء آخر، فإذا وجه فكره إلى شيء يبقى معزولاً عن غيره، فكأن العبد يقول: كلما استحضرت في ذهني العلم بشيء فاتني في ذلك الوقت العلم بغيره، فإذا كان هذا لازماً فالأولى أن أجعل قلبي وفكري مشغولاً بمعرفة أشرف المعلومات، وأجعل لساني مشغولاً بذكر أشرف المذكورات فلهذا السبب أواظب على قوله: «يا هو». الفائدة الحادية عشرة: أن الذكر أشرف المقامات، قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: **" إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه "**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وإذا ثبت هذا فنقول: أفضل الأذكار ذكر الله بالثناء الخالي عن السؤال، قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: **" من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، "** إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: العبد فقير محتاج، والفقير المحتاج إذا نادى مخدومه بخطاب يناسب الطلب والسؤال كان ذلك محمولاً على السؤال، فإذا قال الفقير للغني «يا كريم» كان معناه أكرم وإذا قال له: «يا نفاع» كان معناه طلب النفع، وإذا قال: «يا رحمن» كان معناه ارحم، فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال، وقد بينا أن الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خالياً عن السؤال والطلب، أما إذا قال: «يا هو» كان معناه خالياً عن الإشعار بالسؤال والطلب، فوجب أن يكون قولنا: «هو» أعظم الأذكار. ولنختم هذا الفصل بذكر شريف رأيته في بعض الكتب: يا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا إله إلا هو، يا أزل، يا أبد، يا دهر، يا ديهار، يا ديهور، يا من هو الحي الذي لا يموت. ومن لطائف هذا الفصل أن الشيخ الغزالي رحمة الله عليه كان يقول: «لا إله إلا الله» توحيد العوام، «ولا إله إلا هو» توحيد الخواص، ولقد استحسنت هذا الكلام وقررته بالقرآن والبرهان: أما القرآن فإنه تعالى قال: { وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءاخَرَ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } ثم قال بعده:**{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }** [القصص: 88] معناه إلا هو، فذكر قوله إلا هو بعد قوله لا إله فدل ذلك على أن غاية التوحيد هي هذه الكلمة، وأما البرهان فهو أن من الناس من قال: إن تأثير الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها، بل لا تأثير له إلا في إعطاء صفة الوجود لها، فقلت: فالوجود أيضاً ماهية، فوجب أن لا يكون الوجود واقعاً بتأثيره، فإن التزموا ذلك وقالوا الواقع بتأثير الفاعل موصوفية الماهية بالوجود فنقول: تلك الموصوفية إن لم تكن مفهوماً مغايراً للماهية والوجود امتنع إسنادها إلى الفاعل، وإن كانت مفهوماً مغايراً فذلك المفهوم المغاير لا بدّ وأن يكون له ماهية وحينئذٍ يعود الكلام، فثبت أن القول بأن المؤثر لا تأثير له في الماهيات ينفي التأثير والمؤثر، وينفي الصنع والصانع بالكلية، وذلك باطل فثبت أن المؤثر يؤثر في الماهيات، فكل ما بالغير فإنه يرتفع بارتفاع الغير، فلولا المؤثر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة، فبقدرته صارت الماهيات ماهيات، وصارت الحقائق حقائق وقبل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجود ولا حقيقة ولا ثبوت، وعند هذا يظهر صدق قولنا: «لا هو إلا هو» أي: لا تقرر لشيء من الماهيات ولا تخصص لشيء من الحقائق إلا بتقريره وتخصيصه، فثبت أنه «لا هو إلا هو»،والله أعلم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الباب الثامن في بقية المباحث عن أسماء الله تعالى، وفيه مسائل هل أسماؤه تعالى توقيفية: المسألة الأولى: اختلف العلماء في أن أسماء الله تعالى توقيفية أم اصطلاحية، قال بعضهم لا يجوز إطلاق شيء من الأسماء والصفات على الله تعالى إلا إذا كان وارداً في القرآن والأحاديث الصحيحة، وقال آخرون: كل لفظ دل على معنى يليق بجلال الله وصفاته فهو جائز، وإلا فلا، وقال الشيخ الغزالي رحمة الله عليه: الاسم غير، والصفة غير، فاسمي محمد، واسمك أبو بكر، فهذا من باب الأسماء، وأما الصفات فمثل وصف هذا الإنسان بكونه طويلاً فقيهاً كذا وكذا، إذا عرفت هذا الفرق فيقال: أما إطلاق الاسم على الله فلا يجوز إلا عند وروده في القرآن والخبر، وأما الصفات فإنه لا يتوقف على التوقيف. واحتج الأولون بأن قالوا: إن العالم له أسماء كثيرة، ثم أنا نصف الله تعالى بكونه عالماً ولا نصفه بكونه طبيباً ولا فقيهاً، ولا نصفه بكونه متيقناً ولا بكونه متبيناً، وذلك يدل على أنه لا بدّ من التوقيف، وأجيب عنه فقيل: أما الطبيب فقد ورد نقل أن أبا بكر لما مرض قيل له: نحضر الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، وأما الفقيه فهو عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه بعد دخول الشبهة فيه. وهذا القيد ممتنع الثبوت في حق الله تعالى، وأما المتيقن فهو مشتق من يقن الماء في الحوض إذا اجتمع فيه، فاليقين هو العلم الذي حصل بسبب تعاقب الأَمارات الكثيرة وترادفها حتى بلغ المجموع إلى إفادة الجزم، وذلك في حق الله تعالى محال وأما التبيين فهو عبارة عن الظهور بعد الخفاء، وذلك لأن التبيين مشتق من البينونة والإبانة وهي عبارة عن التفريق بين أمرين متصلين، فإذا حصل في القلب اشتباه صورة بصورة ثم انفصلت إحداهما عن الأخرى فقد حصلت البينونة فلهذا السبب سمي ذلك بياناً وتبييناً، ومعلوم أن ذلك في حق الله تعالى محال. واحتج القائلون بأنه لا حاجة إلى التوقيف بوجوه: الأول: أن أسماء الله وصفاته مذكورة بالفارسية وبالتركية وبالهندية، وإن شيئاً منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار، مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها. الثاني: أن الله تعالى قال:**{ وَللَّهِ ٱلأَسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا }** [الأعراف: 180] والاسم لا يحسن إلا لدلالته على صفات المدح ونعوت الجلال، فكل اسم دل على هذه المعاني كان اسماً حسناً، فوجب جواز إطلاقه في حق الله تعالى تمسكاً بهذه الآية. الثالث: أنه لا فائدة في الألفاظ إلا رعاية المعاني، فإذا كانت المعاني صحيحة كان المنع من إطلاق اللفظة المعينة عبثاً، وأما الذي قاله الشيخ الغزالي رحمة الله تعالى عليه فحجته أن وضع الاسم في حق الواحد منا يعد سوء أدب، ففي حق الله أولى، أما ذكر الصفات بالألفاظ المختلفة فهو جائز في حقنا من غير منع، فكذلك في حق البارىء تعالى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الثانية: اعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على صفات لا يمكن إثباتها في حق الله تعالى، ونحن نعد منها صوراً، فأحدها: الاستهزاء، قال تعالى:**{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ }** [البقرة: 15] ثم أن الاستهزاء جهل، والدليل عليه أن القوم لما قالوا لموسى عليه السلام**{ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ }** [البقرة: 67] وثانيها: المكر، قال تعالى:**{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ }** [آل عمران: 54] وثالثها: الغضب قال تعالى:**{ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ }** [الفتح: 6] ورابعها: التعجب، قال تعالى:**{ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ }** [الصافات: 12] فمن قرأ عجبت بضم التاء كان التعجب منسوباً إلى الله، والتعجب عبارة عن حالة تعرض في القلب عند الجهل بسبب الشيء، وخامسها: التكبر، قال تعالى:**{ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبّرُ }** [الحشر: 23] وهو صفة ذم، وسادسها: الحياء، قال تعالى:**{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا }** [البقرة: 26] والحياء عبارة عن تغير يحصل في الوجه والقلب عند فعل شيء قبيح. واعلم أن القانون الصحيح في هذه الألفاظ أن نقول: لكل واحد من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية، وآثار تصدر عنها في النهاية، مثاله أن الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دم القلب وسخونة المزاج، والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فإذا سمعت الغضب في حق الله تعالى فاحمله على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض، وقس الباقي عليه. بيان أن أسماء الله لا تحصى: المسألة الثالثة: رأيت في بعض «كتب التذكير» أن لله تعالى أربعة آلاف اسم: ألف منها في القرآن والأخبار الصحيحة وألف منها في التوراة، وألف في الإنجيل، وألف في الزبور ويقال: ألف آخر في اللوح المحفوظ، ولم يصل ذلك الألف إلى عالم البشر، وأقول: هذا غير مستبعد، فإنا بينا أن أقسام صفات الله بحسب السلوب والإضافات غير متناهية، ونبهنا على تقرير هذا الموضع وشرحناه شرحاً بليغاً، بل نقول: كل من كان اطلاعه على آثار حكمة الله تعالى في تدبير العالم الأعلى وتدبير العالم الأسفل أكثر، كان اطلاعه على أسماء الله تعالى أكثر، ووقوفه على الصفات الموجبة للمدح والتعظيم أكثر، فمن طالع تشريح بدن الإنسان ووقف فيه على ما يقرب من عشرة آلاف نوع من أنواع الرحمة والحكمة في تخليق بدن الإنسان فقد حصل في عقله عشرة آلاف نوع من أسماء الله تعالى الدالة على المدح والتعظيم، ثم إن من وقف على العدد الذي ذكرناه من أقسام الرحمة والحكمة في بدن الإنسان صار ذلك منبهاً للعقل على أن الذي لم يعرفه من أقسام الحكمة والرحمة في تخليق هذا البدن أكثر مما عرفه، وذلك لما عرف أن الأرواح الدماغية من العصب سبعة، عرف لكل واحد منها فائدة وحكمة، ثم لما عرف أن كل واحد من هذا الأرواح ينقسم إلى ثلاثة أقسام أو أربعة عرف بالجبلة الشديدة وجه الحكمة في كل واحد من تلك الأقسام.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ثم إن العقل يعلم أن كل واحد من تلك الأقسام ينقسم إلى شظايا دقيقة، وكل واحدة من تلك الشظايا تنقسم إلى أقسام أخر وكل واحد من تلك الأقسام يتصل بعضو معين اتصالاً معيناً. ويكون وصول ذلك القسم إلى ذلك العضو في ممر معين، إلا أنها لما كثرت ودقت خرجت عن ضبط العقل، فثبت أن تلك العشرة آلاف تنبه العقل على أن أقسام حكمة الله تعالى في تخليق هذا البدن خارج عن التعديد والتحديد والإحصاء والاستقصاء كما قال تعالى:**{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }** [إبراهيم: 34، النحل: 8] فكل من وقف على نوع آخر من أنواع تلك الحكمة فقد وصل إلى معرفة اسم آخر من أسماء الله تعالى، ولما كان لا نهاية لمراتب حكمة الله تعالى ورحمته فكذلك لا نهاية لأَسمائه الحسنى ولصفاته العليا، وذكر جالينوس في «كتاب منافع الأعضاء» أنه لما صنف ذلك الكتاب لم يكتب فيه منافع مجمع النور، قال: وإنما تركت كتابتها ضنة بها لشرفها، فرأيت في بعض الليالي كأن ملكاً نزل من السماء وقال: جالينوس، إن إلهك يقول: لم أخفيت حكمتي عن عبادي قال: فلما انتهيت صنفت في هذا المعنى كتاباً مفرداً، وبالغت في شرحه، فثبت بما ذكرنا أنه لا نهاية لأسماء الله الحسنى. حكم الأذكار التي في الرقى: المسألة الرابعة: إنا نرى في «كتب الطلسمات والعزائم» أذكاراً غير معلومة ورقى غير مفهومة وكما أن تلك الألفاظ غير معلومة فقد تكون الكتابة غير معلومة، وأقول: لا شك أن الكتابة دالة على الألفاظ، ولا شك أن الألفاظ دالة على الصور الذهنية فتلك الرقى إن لم يكن فيها دلالة على شيء أصلاً لم يكن فيها فائدة. وإن كانت دالة على شيء فدلالتها إما أن تكون على صفات الله ونعوت كبريائه، وإما أن تكون دالة على شيء آخر: أما الثاني فإنه لا يفيد لأن ذكر غير الله لا يفيد لا الترغيب ولا الترهيب، فبقي أن يقال: إنها دالة على ذكر الله وصفات المدح والثناء، فنقول: ولما كانت أقسام ذكر الله مضبوطة ولا يمكن الزيادة عليها كان أحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون من جنس هذه الأدعية، وأما الاختلاف الحاصل بسبب اختلاف اللغات فقليل الأثر، فوجب أن تكون هذه الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات، لكن لقائل أن يقول: إن نفوس أكثر الخلق ناقصة قاصرة، فإذا قرؤا هذه الأذكار المعلومة وفهموا ظواهرها وليست لهم نفوس قوية مشرقة إلهية لم يقو تأثرهم عن الإلهيات ولم تتجرد نفوسهم عن هذه الجسمانيات، فلا تحصل لنفوسهم قوة وقدرة على التأثير، أما إذا قرؤا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئاً وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية استولى الخوف والفزع والرعب على نفوسهم فحصل لهم بهذا السبب نوع من التجرد عن عالم الجسم، وتوجه إلى عالم القدس، وحصل بهذا السبب لنفوسهم مزيد قوة وقدرة على التأثير، فهذا ما عندي في قراءة هذه الرقى المجهولة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الخامسة: إن بين الخلق وبين أسماء الله تعالى مناسبات عجيبة، والعاقل لا بدّ وأن يعتبر تلك المناسبات حتى ينتفع بالذكر، والكلام في شرح هذا الباب مبني على مقدمة عقلية وهي أنه ثبت عندنا أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة بالجوهر والماهية، فبعضها إلهية مشرقة حرة كريمة، وبعضها سفلية ظلمانية نذلة خسيسة، وبعضها رحيمة عظيمة الرحمة، وبعضها قاسية قاهرة، وبعضها قليلة الحب لهذه الجسمانيات قليلة الميل إليها، وبعضها محبة للرياسة والاستعلاء، ومن اعتبر أحوال الخلق علم أن الأمر كما ذكرناه ثم إنا نرى هذه الأحوال لازمة لجواهر النفوس، وإن كل من راعى أحوال نفسه علم أن له منهجاً معيناً وطريقاً مبيناً في الإرادة والكراهة والرغبة والرهبة، وأن الرياضة والمجاهدة لا تقلب النفوس عن أحوالها الأصلية ومناهجها الطبيعية، وإنما تأثير الرياضة في أن تضعف تلك الأخلاق ولا تستولي على الإنسان، فأما أن ينقلب من صفة أخرى فذلك محال، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: **" الناس معادن كمعادن الذهب والفضة "** وبقوله عليه الصلاة والسلام: **" الأرواح جنود مجندة "** إذا عرفت هذا فنقول: الجنسية علة الضم، فكل اسم من أسماء الله تعالى دال على معنى عين، فكل نفس غلب عليها ذلك المعنى كانت تلك النفس شديدة المناسبة لذلك الاسم، فإذا واظب على ذكر ذلك الاسم انتفع به سريعاً، وسمعت أن الشيخ أبا النجيب البغدادي السهروردي كان يأمر المريد بالأربعين مرة أو مرتين بقدر ما يراه من المصلحة، ثم كان يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين وكان ينظر إلى وجهه فإن رآه عديم التأثر عند قراءتها عليه قال له أخرج إلى السوق واشتغل بمهمات الدنيا فإنك ما خلقت لهذا الطريق، وإن رآه متأثراً عند سماع اسم خاص مزيد التأثر أمره بالمواظبة على ذلك الذكر، وأقول: هذا هو المعقول، فإنه لما كانت النفوس مختلفة كان كل واحد منها مناسباً لحالة مخصوصة، فإذا اشتغلت تلك النفس بتلك الحالة التي تناسبها كان خروجها من القوة إلى الفعل سهلاً هيناً يسيراً، وليكن هذا آخر كلامنا في البحث عن مطلق الأسماء، والله الهادي. الباب التاسع في المباحث المتعلقة بقولنا: «الله» وفيه مسائل لفظ الجلالة علم لا مشتق: المسألة الأولى: المختار عندنا أن هذا اللفظ اسم علم لله تعالى، وأنه ليس بمشتق ألبتة، وهو قول الخليل وسيبويه، وقول أكثر الأصوليين والفقهاء، ويدل عليه وجوه، وحجج: ـ الحجة الأولى: أنه لو كان لفظاً مشتقاً لكان معناه معنى كلياً لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه لأن اللفظ المشتق لا يفيد إلا أنه شيء ما مبهم حصل له ذلك المشتق منه وهذا المفهوم لا يمنع من وقوع الشركة فيه بين كثيرين، فثبت أن هذا اللفظ لو كان مشتقاً لم يمنع وقوع الشركة فيه بين كثيرين، ولو كان كذلك لما كان قولنا: «لا إله إلا الله» توحيداً حقاً مانعاً من وقوع الشركة فيه بين كثيرين لأن بتقدير أن يكون الله لفظاً مشتقاً كان قولنا: «الله» غير مانع من أن يدخل تحته أشخاص كثيرة، وحينئذٍ لا يكون قولنا: «لا إله إلا الله» موجباً للتوحيد المحض، وحيث أجمع العقلاء على أن قولنا: «لا إله إلا الله» يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا: «الله» اسم علم موضوع لتلك الذات المعينة، وأنها ليست من الألفاظ المشتقة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحجة الثانية: أن من أراد أن يذكر ذاتاً معينة ثم يذكره بالصفات فإنه يذكر اسمه أولاً ثم يذكر عقيب الاسم الصفات، مثل أن يقول: زيد الفقيه النحوي الأصولي، إذا عرفت هذا فنقول: إن كل من أراد أن يذكر الله تعالى بالصفات المقدسة فإنه يذكر أولاً لفظة الله ثم يذكر عقيبه صفات المدائح مثل أن يقول: الله العالم القادر الحكيم، ولا يعكسون هذا فلا يقولون: العالم القادر الله، وذلك يدل على أن قولنا: «الله» اسم علم. فإن قيل: أليس أنه تعالى قال في أول سورة إبراهيم:**{ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ }** [إبراهيم: 1 2] قلنا: ههنا قراءتان منهم من قرأ الله بالرفع، وحينئذٍ يزول السؤال، لأنه لما جعله مبتدأ فقد أخرجه عن جعله صفة لما قبله، وأما من قرأ بالجر فهو نظير لقولنا: هذه الدار ملك للفاضل العالم زيد وليس المراد أنه جعل قوله زيد صفة للعالم الفاضل، بل المعنى أنه لما قال هذه الدار ملك للعالم الفاضل بقي الاشتباه في أنه من ذلك العالم الفاضل؟ فقيل عقيبه زيد، ليصير هذا مزيلاً لذلك الاشتباه، ولما لم يلزم ههنا أن يقال اسم العلم صار صفة فكذلك في هذه الآية. الحجة الثالثة: قال تعالى:**{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }** [مريم: 65] وليس المراد من الاسم في هذه الآية الصفة وإلا لكذب قوله:**{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }** [مريم: 65] فوجب أن يكون المراد اسم العلم، فكل من أثبت لله اسم علم قال ليس ذاك إلا قولنا الله. واحتج القائلون بأنه ليس اسم علم بوجوه وحجج: ـ الحجة الأولى: قوله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ }** [الأنعام: 3] وقوله:**{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }** [البقرة: 255] فإن قوله: «الله» لا بدّ وأن يكون صفة، ولا يجوز أن يكون اسم علم، بدليل أنه لا يجوز أن يقال: هو زيد في البلد، وهو بكر، ويجوز أن يقال: هو العالم الزاهد في البلد، وبهذا الطريق يعترض على قول النحويين: إن الضمير لا يقع موصوفاً ولا صفة، وإذا ثبت كونه صفة امتنع أن يكون اسم علم. الحجة الثانية: أن اسم العلم قائم مقام الإشارة، فلما كانت الإشارة ممتنعة في حق الله تعالى كان اسم العلم ممتنعاً في حقه. الحجة الثالثة: أن اسم العلم إنما يصار إليه ليتميز شخص عن شخص آخر يشبهه في الحقيقة والماهية، وإذا كان هذا في حق الله ممتنعاً كان القول بإثبات الاسم العلم محالاً في حقه. والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يكون ذلك جارياً مجرى أن يقال: هذا زيد الذي لا نظير له في العلم والزهد؟ والجواب عن الثاني أن الاسم العلم هو الذي وضع لتعيين الذات المعينة، ولا حاجة فيه إلى كون ذلك المسمى مشاراً إليه بالحس أم لا، وهذا هو الجواب عن الحجة الثالثة. المسألة الثانية: الذين قالوا: إنه اسم مشتق ذكروا فيه فروعاً: ـ الفرع الأول: أن الإله هو المعبود، سواء عبد بحث أو بباطل، ثم غلب في عرف الشرع على المعبود بالحق، وعلى هذا التفسير لا يكون إلهاً في الأزل. واعلم أنه تعالى هو المستحق للعبادة، وذلك لأنه تعالى هو المنعم بجميع النعم أصولها وفروعها، وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن، والواجب واحد وهو الله تعالى، وما سواه ممكن، والممكن لا يوجب إلا بالمرجح، فكل الممكنات إنما وجدت بإيجاده وتكوينه إما ابتداء وإما بواسطة، فجميع ما حصل للعبد من أقسام النعم لم يحصل إلا من الله، فثبت أن غاية الأنعام صادرة من الله والعبادة غاية التعظيم فإذا ثبت هذا فنقول: إن غاية التعظيم لا يليق إلا لمن صدرت عنه غاية الإنعام فثبت أن المستحق للعبودية ليس إلا الله تعالى. الفرع الثاني: أن من الناس من يعبد الله لطلب الثواب وهو جهل وسخف، ويدل عليه وجوه: الأول: أن من عبد الله ليتوصل بعبادته إلى شيء آخر كان المعبود في الحقيقة هو ذلك الشيء، فمن عبد الله لطلب الثواب كان معبوده في الحقيقة هو الثواب، وكان الله تعالى وسيلة إلى الوصول إلى ذلك المعبود، وهذا جهل عظيم. الثاني: أنه لو قال: أصلي لطلب الثواب أو للخوف من العقاب، لم تصح صلاته. الثالث: أن من عمل عملاً لغرض آخر كان بحيث لو وجد ذلك الغرض بطريق آخر لترك الواسطة، فمن عبد الله للأجر والثواب كان بحيث لو وجد الأجر والثواب بطريق آخر لم يعبد الله، ومن كان كذلك لم يكن محباً لله ولم يكن راغباً في عبادة الله، وكل ذلك جهل، ومن الناس من يعبد الله لغرض أعلى من الأول، وهو أن يتشرف بخدمة الله، لأنه إذا شرع في في الصلاة حصلت النية في القلب، وتلك النية عبارة عن العلم بعزة الربوبية وذلة العبودية، وحصل الذكر في اللسان، وحصلت الخدمة في الجوارح والأعضاء فيتشرف كل جزء من أجزاء العبد بخدمة الله، فمقصود العبد حصول هذا الشرف.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفرع الثالث: من الناس من طعن في قول من يقول: الإله هو المعبود من وجوه: الأول: أن الأوثان عبدت مع أنها ليست آلهة. الثاني: أنه تعالى إله الجمادات والبهائم، مع أن صدور العبادة منها محال. الثالث: أنه تعالى إله المجانين والأطفال، مع أنه لا تصدر العبادة عنها. الرابع: أن المعبود ليس له بكونه معبوداً صفة لأنه لا معنى لكونه معبوداً إلا أنه مذكور بذكر ذلك الإنسان، ومعلوم بعلمه، ومراد خدمته بإرادته، وعلى هذا التقدير فلا تكون الإلهية صفة لله تعالى. الخامس: يلزم أن يقال: إنه تعالى ما كان إلهاً في الأزل. الفرع الرابع: من الناس من قال: الإله ليس عبارة عن المعبود، بل الإله هو الذي يستحق أن يكون معبوداً، وهذا القول أيضاً يرد عليه أن لا يكون إلهاً للجمادات والبهائم والأطفال والمجانين، وأن لا يكون إلهاً في الأزل، ومنهم من قال: إنه القادر على أفعال لو فعلها لاستحق العبادة ممن يصح صدور العبادة عنه، واعلم أنا إن فسرنا الإله بالتفسيرين الأولين لم يكن إلهاً في الأزل، ولو فسرناه بالتفسير الثالث كان إلهاً في الأزل. التفسير الثاني: الإله مشتق من ألهت إلى فلان، أي: سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره والأرواح لا تعرج إلا بمعرفته، وبيانه من وجوه: الأول: أن الكمال محبوب لذاته، وما سوى الحق فهو ناقص لذاته لأن الممكن من حيث هو هو معدوم، والعدم أصل النقصان والناقص بذاته لا يكمل إلا بتكميل الكامل بذاته، فإذا كان الكامل محبوباً لذاته وثبت أن الحق كامل لذاته وجب كونه محبوباً لذاته. الثاني: أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يقف عند نفسه، بل يبقى متعلقاً بغيره، لأنه لا يوجد إلا بوجود غيره، فعلى هذا كل ممكن فإنه لا يقف عند نفسه بل ما لم يتعلق بالواجب لذاته لم يوجد، وإذا كان الأمر كذلك في الوجود الخارجي وجب أن يكون كذلك في الوجود العقلي، فالعقول مترقبة إلى عتبة رحمته والخواطر متمسكة بذيل فضله وكرمه، وهذان الوجهان عليهما التعويل في تفسير قوله تعالى:**{ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ }** [الرعد: 28]. التفسير الثالث: أنه مشتق من الوله، وهو ذهاب العقل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أن الخلق قسمان: واصلون إلى ساحل بحر معرفته، ومحرومون، فالمحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة فكأنهم فقدوا عقولهم وأرواحهم، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال، فتاهوا في ميادين الصمدية، وبادوا في عرصة الفردانية، فثبت أن الخلق كلهم والهون في معرفته، فلا جرم كان الإله الحق للخلق هو هو، وبعبارة أخرى وهي أن الأرواح البشرية تسابقت في ميادين التوحيد والتمجيد فبعضها تخلفت وبعضها سبقت فالتي تخلفت بقيت في ظلمات الغبار والتي سبقت وصلت إلى عالم الأنوار، فالأولون بادوا في أودية الظلمات، والآخرون طاشوا في أنوار عالم الكرامات. التفسير الرابع: أنه مشتق من لاة إذا ارتفع، والحق سبحانه وتعالى هو المرتفع عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات لأن الواجب لذاته ليس إلا هو، والكامل لذاته ليس إلا هو، والأحد الحق في هويته ليس إلا هو، والموجد لكل ما سواه ليس إلا هو، وأيضاً فهو تعالى مرتفع عن أن يقال: إن ارتفاعه بحسب المكان، لأن كل ارتفاع حصل بسبب المكان فهو للمكان بالذات وللمتمكن بالعرض لأجل حصوله في ذلك المكان، وما بالذات أشرف مما بالغير، فلو كان هذا الارتفاع بسبب المكان لكان ذلك المكان أعلى وأشرف من ذات الرحمن، ولما كان ذلك باطلاً علمنا أنه سبحانه وتعالى أعلى من أن يكون علوه بسبب المكان، وأشرف من أن ينسب إلى شيء مما حصل في عالم الإمكان. التفسير الخامس: من أله في الشيء إذا تحير فيه ولم يهتد إليه، فالعبد إذا تفكر فيه تحير لأن كل ما يتخيله الإنسان ويتصوره فهو بخلافه، فإن أنكر العقل وجوده كذبته نفسه لأن كل ما سواه فهو محتاج، وحصول المحتاج بدون المحتاج إليه محال، وإن أشار إلى شيء يضبطه الحس والخيال وقال إنه هو كذبته نفسه أيضاً لأن كل ما يضبطه الحس والخيال فأمارات الحدوث ظاهرة فيه، فلم يبق في يد العقل إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن الإدراك، فههنا العجز عن درك الإدراك إدراك، ولا شك أن هذا موقف عجيب تتحير العقول فيه وتضطرب الألباب في حواشيه. التفسير السادس: من لاه يلوه إذا احتجب، ومعنى كونه محتجباً من وجوه: الأول: أنه بكنه صمديته محتجب عن العقول. الثاني: أن لو قدرنا أن الشمس كانت واقفة في وسط الفلك غير متحركة كانت الأنوار باقية على الجدران غير زائلة عنها، فحينئذٍ كان يخطر بالبال أن هذه الأنوار الواقعة على هذه الجدران ذاتية لها، إلا لما شاهدنا أن الشمس تغيب وعند غيبتها تزول هذه الأنوار عن هذه الجدران فبهذا الطريق علمنا أن هذه الأنوار فائضة عن قرص الشمس، فكذا ههنا الوجود الواصل إلى جميع عالم المخلوقات من جناب قدرة الله تعالى كالنور الواصل من قرص الشمس، فلو قدرنا أنه كان يصح على الله تعالى الطلوع والغروب والغيبة والحضور لكان عند غروبه يزول ضوء الوجود عن الممكنات، فحينئذٍ كان يظهر أن نور الوجود منه، لكنه لما كان الغروب والطلوع عليه محالاً لا جرم خطر ببال بعض الناقصين أن هذه الأشياء موجودة بذواتها ولذواتها، فثبت أنه لا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال نوره، فلهذا قال بعض المحققين: سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره وإذا كان كذلك ظهر أن حقيقة الصمدية محتجبة عن العقول، ولا يجوز أن يقال: محجوبة لأن المحجوب مقهور،والمقهور يليق بالعبد، أما الحق فقاهر، وصفة الاحتجاب صفة القهر فالحق محتجب، والخلق محجوبون.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
التفسير السابع: إشتقاقه من أله الفصيل إذا ولع بأمه، والمعنى أن العباد مولهون مولعون بالتضع إليه في كل الأحوال، ويدل عليه أمور: الأول: أن الإنسان إذا وقع في بلاء عظيم وآفة قوية فهنالك ينسى كل شيء إلا الله تعالى، فيقول بقلبه ولسانه: يا رب، يا رب، فإذا تخلص عن ذلك البلاء وعاد إلى منازل الآلاء والنعماء أخذ يضيف ذلك الخلاص إلى الأسباب الضعيفة والأحوال الخسيسة، وهذا فعل متناقض، لأنه إن كان المخلص عن الآفات والموصل إلى الخيرات غير الله وجب الرجوع في وقت نزول البلاء إلى غير الله، وإن كان مصلح المهمات هو الله تعالى في وقت البلاء وجب أن يكون الحال كذلك في سائر الأوقات، وأما الفزع إليه عند الضرورات والإعراض عنه عند الراحات فلا يليق بأرباب الهدايات، والثاني: أن الخير والراحة مطلوب من الله، والثالث: أن المحسن في الظاهر إما الله أو غيره، فإن كان غيره فذلك الغير لا يحسن إلا إذا خلق الله في قلبه داعية الإحسان، فالحق سبحانه وتعالى هو المحسن في الحقيقة، والمحسن مرجوع إليه في كل الأوقات، والخلق مشغوفون بالرجوع إليه. شكا بعض المريدين من كثرة الوسواس، فقال الأستاذ: كنت حداداً عشر سنين، وقصاراً عشرة أخرى، وبوابًا عشرة ثالثة، فقالوا: ما رأيناك فعلت ذلك، قال: فعلت ولكنكم ما رأيتم، أما عرفتم أن القلب كالحديد؟ فكنت كالحداد ألينه بنار الخوف عشر سنين، ثم بعد ذلك شرعت في غسله عن الأوضار والأقذار عشر سنين، ثم بعد هذه الأحوال جلست على باب حجرة القلب عشرة أخرى سالا سيف «لا إله إلا الله» فلم أزل حتى يخرج منه حب غير الله، ولم أزل حتى يدخل فيه حب الله تعالى، فلما خلت عرصة القلب عن غير الله تعالى وقويت فيه محبة الله سقطت من بحار عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب في تلك القطرة، وفني عن الكل، ولم يبق فيه إلا محض سر «لا إله إلا الله».
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
التفسير الثامن: أن اشتقاق لفظ «الإله» من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره، والمجير لكل الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه وتعالى، لقوله تعالى:**{ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ }** [المؤمنون: 88] ولأنه هو المنعم لقوله تعالى:**{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ }** [النحل: 53] ولأنه هو المطعم لقوله تعالى:**{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ }** [الأنعام: 14] ولأنه هو الموجد لقوله تعالى:**{ قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ }** [النحل: 53] فهو سبحانه وتعالى قهار للعدم بالوجود والتحصيل، جبار لها بالقوة والفعل والتكميل، فكان في الحقيقة هو الله ولا شيء سواه. وههنا لطائف وفوائد: الفائدة الأولى: عادة المديون أنه إذا رأى صاحب الدين من البعد فإنه يفر منه، والله الكريم يقول: عبادي: أنتم غرمائي بكثرة ذنوبكم، ولكن لا تفروا مني، بل أقول:**{ فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ }** [الذاريات: 50] فإني أنا الذي أقضي ديونكم وأغفر ذنوبكم، وأيضًا الملوك يغلقون أبوابهم عن الفقراء دون الأغنياء، وأنا أفعل ضد ذلك. الفائدة الثانية: قال صلى الله عليه وسلم: **" إن للّه تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والطير والبهائم والهوام فبها يتعاطفون ويتراحمون، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة "** ، وأقول: إنه صلى الله عليه وسلم إنما ذكر هذا الكلام على سبيل التفهيم، وإلا فبحار الرحمة غير متناهية فكيف يعقل تحديدها بحد معين. الفائدة الثالثة: قال صلى الله عليه وسلم: **" إن اللّه عزّ وجلّ يقول يوم القيامة للمذنبين: هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا رب، فيقول اللّه تعالى: ولم؟ فيقولون: رجونا عفوك وفضلك، فيقول اللّه تعالى: إني قد أوجبت لكم مغفرتي "** الفائدة الرابعة: قال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إن الله عزّ وجلّ ينشر على بعض عباده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلاً كل واحد منها مثل مد البصر فيقول له: هل تنكر من هذا شيئاً؟ هل ظلمك الكرام الكاتبون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول الله تعالى: فهل كان لك عذر في عمل هذه الذنوب؟ فيقول: لا يا رب، فيضع ذلك العبد قلبه على النار فيقول الله تعالى: إن لك عندي حسنة وإنه لا ظلم اليوم، ثم يخرج بطاقة فيها: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله» فيقول العبد: يا رب، كيف تقع هذه البطاقة في مقابلة هذه السجلات؟ فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة أخرى، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع ذكر الله شيء ".** الفائدة الخامسة: وقف صبي في بعض الغزوات ينادي عليه في من يزيد في يوم صائف شديد الحر، فبصرت به امرأة فعدت إلى الصبي وأخذته وألصقته إلى بطنها، ثم ألقت ظهرها على البطحاء وأجلسته على بطنها تقيه الحر، وقالت: ابني، ابني، فبكى الناس وتركوا ما هم فيه فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف عليهم فأخبروه الخبر، فقال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" أعجبتم من رحمة هذه بابنها فإن الله تعالى أرحم بكم جميعاً من هذه المرأة بابنها "** فتفرق المسلمون على أعظم أنواع الفرح والبشارة. أصل لفظ الجلالة: المسألة الثالثة: في كيفية اشتقاق هذه اللفظة بحسب اللغة، قال بعضهم هذه اللفظة ليست عربية، بل عبرانية أو سريانية، فإنهم يقولون إلهاً رحماناً ومرحيانا، فلما عرب جعل «الله الرحمن الرحيم» وهذا بعيد، ولا يلزم من المشابهة الحاصلة بين اللغتين الطعن في كون هذه اللفظة عربية أصلية، والدليل عليه قوله تعالى:**{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ }** [لقمان: 25] وقال تعالى:**{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }** [مريم: 65] وأطبقوا على أن المراد منه لفظة «الله» وأما الأكثرون فقد سلموا كونها لفظة عربية، أما القائلون بأن هذا اللفظ اسم علم لله تعالى فقد تخلصوا عن هذه المباحث، وأما المنكرون لذلك فلهم قولان: قال الكوفيون: أصل هذه اللفظة إلاه، فأدخلت الألف واللام عليها للتعظيم، فصار الإلاه، فحذفت الهمزة استثقالاً، لكثرة جريانها على الألسنة، فاجتمع لامان، فأدغمت الأولى فقالوا: «الله» وقال البصريون أصله لاه، فألحقوا بها الألف واللام فقيل: «الله» وأنشدوا: ـ
| **فكحلفة من أبي رباح** | | **يسمعها لاهه الكبار** |
| --- | --- | --- |
فأخرجه على الأصل. المسألة الرابعة: قال الخليل: أطبق جميع الخلق على أن قولنا: «الله» مخصوص بالله سبحانه وتعالى، وكذلك قولنا الإله مخصوص به سبحانه وتعالى، وأما الذين كانوا يطلقون اسم الإله على غير الله فإنما كانوا يذكرونه بالإضافة كما يقال إله كذا، أو ينركونه فيقولون: إله كما قال الله تعالى خبرًا عن قوم موسى**{ ٱجْعَلْ لَّنَا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون }** [الأعراف: 138]. خواص لفظ الجلالة: المسألة الخامسة: اعلم أن هذا الاسم مختص بخواص لم توجد في سائر أسماء الله تعالى، ونحن نشير إليها: فالخاصة الأولى: أنك إذا حذفت الألف من قولك: «الله» بقي الباقي على صورة «الله» وهو مختص به سبحانه، كما في قوله:**{ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ }** [الفتح: 4]**{ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ }** [المنافقون: 7] وإن حذفت عن هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة «له» كما في قوله تعالى:**{ لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ }** [الزمر: 63] وقوله:**{ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ }** [التغابن:1] فإن حذفت اللام الباقية كانت البقية هي قولنا: «هو» وهو أيضًا يدل عليه سبحانه كما في قوله:**{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }** [الإخلاص: 1] وقوله:**{ هُوَ ٱلْحَىُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }** [غافر: 65] والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع فإنك تقول هما، هم فلا تبقى الواو فيهما، فهذه الخاصية موجودة في لفظ «الله» غيرموجودة في سائر الأسماء، وكما حصلت هذه الخاصية بحسب اللفظ فقد حصلت أيضاً بحسب المعنى، فإنك إذا دعوت الله بالرحمن فقد وصفته بالرحمة، وما وصفته بالقهر، وإذا دعوته بالعليم فقد وصفته بالعلم، وما وصفته بالقدرة، وأما إذا قلت يا الله فقد وصفته بجميع الصفات لأن الإله لا يكون إلهاً إلا إذا كان موصوفاً بجميع هذه الصفات، فثبت أن قولنا الله قد حصلت له هذه الخاصية التي لم تحصل لسائر الأسماء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الخاصية الثانية: أن كلمة الشهادة وهي الكلمة التي بسببها ينتقل الكافر من الكفر إلى الإسلام لم يحصل فيها إلا هذا الاسم، فلو أن الكافر قال: أشهد أن لا إله إلا الرحمن أو إلا الرحيم، أو إلا الملك، أو إلا القدوس لم يخرج من الكفر ولم يدخل في الإسلام، أما إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله فإنه يخرج من الكفر ويدخل في الإسلام، وذلك يدل على اختصاص هذا الاسم بهذه الخاصية الشريفة، والله الهادي إلى الصواب. الباب العاشر في البحث المتعلق بقولنا الرحمن الرحيم الرحمن الرحيم: اعلم أن الأشياء على أربعة أقسام: الذي يكون نافعاً وضرورياً معاً، والذي يكون نافعاً ولا يكون ضرورياً، والذي يكون ضرورياً ولا يكون نافعاً، والذي لا يكون نافعاً ولا يكون ضرورياً. أما القسم الأول ـ وهو الذي يكون نافعاً وضرورياً معاً ـ فأما أن يكون كذلك في الدنيا فقط، وهو مثل النفس ـ فإنه لو انقطع منك لحظة واحدة حصل الموت، وإما أن يكون كذلك في الآخرة، وهو معرفة الله تعالى، فإنها إن زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب، واستوجب عذاب الأبد. وأما القسم الثاني ـ وهو الذي يكون نافعاً ولا يكون ضرورياً ـ فهو كالمال في الدنيا وكسائر العلوم والمعارف في الآخرة. وأما القسم الثالث ـ وهو الذي يكون ضرورياً ولا يكون نافعاً ـ فكالمضار التي لا بدّ منها في الدنيا: كالأمراض، والموت، والفقر، والهرم، ولا نظير لهذا القسم في الآخرة، فإن منافع الآخرة لا يلزمها شيء من المضار. وأما القسم الرابع ـ وهو الذي لا يكون نافعاً ولا ضرورياً ـ فهو كالفقر في الدنيا والعذاب في الآخرة. إذا عرفت هذا فنقول: قد ذكرنا أن النفس في الدنيا نافع وضروري فلو انقطع عن الإنسان لحظة لمات في الحال، وكذلك معرفة الله تعالى أمر لا بدّ منه في الآخرة فلو زالت عن القلب لحظة لمات القلب لا محالة، لكن الموت الأول أسهل من الثاني لأنه لا يتألم في الموت الأول إلا ساعة واحدة، وأما الموت الثاني فإنه يبقى ألمه أبد الآباد، وكما أن التنفس له أثران: أحدهما: إدخال النسيم الطيب على القلب وإبقاء اعتداله وسلامته، والثاني: إخراج الهواء الفاسد الحار المحترق عن القلب، كذلك الفكر له أثران: أحدهما: إيصال نسيم الحجة والبرهان إلى القلب وإبقاء اعتدال الإيمان والمعرفة عليه، والثاني: إخراج الهواء الفاسد المتولد من الشبهات عن القلب، وما ذاك إلا بأن يعرف أن هذه المحسوسات متناهية في مقاديرها منتهية بالآخرة إلى الفناء بعد وجودها، فمن وقف على هذه الأحوال بقي آمناً من الآفات واصلاً إلى الخيرات والمسرات، وكمال هذين الأمرين ينكشف لعقلك بأن تعرف أن كل ما وجدته ووصلت إليه فهو قطرة من بحار رحمه الله، وذرة من أنوار إحسانه، فعند هذا ينفتح على قلبك معرفة كون الله تعالى رحماناً رحيماً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فإذا أردت أن تعرف هذا المعنى على التفصيل فاعلم أنك جوهر مركب من نفس، وبدن وروح، وجسد. أما نفسك فلا شك أنها كانت جاهلة في مبدأ الفطرة كما قال تعالى:**{ وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأبْصَـٰرَ وَٱلأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }** [النمل: 78] ثم تأمل في مراتب القوى الحساسة والمحركة والمدركة والعاقلة، وتأمل في مراتب المعقولات وفي جهاتها، واعلم أنه لا نهاية لها ألبتة، ولو أن العاقل أخذ في اكتساب العلم بالمعقولات وسرى فيها سريان البرق الخاطف والريح العاصف وبقي في ذلك السير أبد الآبدين ودهر الداهرين لكان الحاصل له من المعارف والعلوم قدراً متناهياً، ولكانت المعلومات التي ما عرفها ولم يصل إليها أيضاً غير متناهية، والمتناهي في جنب غير المتناهي قليل في كثير، فعند هذا يظهر له أن الذي قاله الله تعالى في قوله:**{ وَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }** [الإسراء: 85] حق وصدق. وأما بدنك فاعلم أنه جوهر مركب من الأخلاط الأربعة، فتأمل كيفية تركيبها وتشريحها، وتعرف ما في كل واحد من الأعضاء والأجزاء من المنافع العالية والآثار الشريفة وحينئذٍ يظهر لك صدق قوله تعالى:**{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }** [إبراهيم: 34] وحينئذٍ ينجلي لك أثر من آثار كمال رحمته في خلقك وهدايتك، فتفهم شيئاً قليلاً من معنى قوله الرحمن الرحيم. لا رحمن إلا الله فإن قيل: فهل لغير الله رحمة أم لا؟ قلنا: الحق أن الرحمة ليست إلا لله، ثم بتقدير أن تكون لغير الله رحمة إلا أن رحمة الله أكمل من رحمة غيره، وههنا مقامان: المقام الأول: في بيان أنه لا رحمة إلا لله، فنقول: الذي يدل عليه وجوه: الأول: أن الجود هو إفادة ما ينبغي لا لعوض، فكل أحد غير الله فهو إنما يعطي ليأخذ عوضاً، إلا أن الأعواض أقسام: منها جسمانية مثل أن يعطي ديناراً ليأخذ كرباساً، ومنها روحانية وهي أقسام: فأحدها: أنه يعطي المال لطلب الخدمة، وثانيها: يعطي المال لطلب الإعانة، وثالثها: يعطي المال لطلب الثناء الجميل، ورابعها: يعطي المال لطلب الثواب الجزيل، وخامسها: يعطي المال ليزيل حب المال عن القلب، وسادسها: يعطي المال لدفع الرقة الجنسية عن قلبه، وكل هذه الأقسام أعواض روحانية، وبالجملة فكل من أعطي فإنما يعطي ليفوز بواسطة ذلك العطاء بنوع من أنواع الكمال، فيكون ذلك في الحقيقة معاوضة، ولا يكون جوداً، ولا هبة، ولا عطية، أما الحق سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته، فيستحيل أن يعطي ليستفيد به كمالاً، فكان الجواد المطلق والراحم المطلق هو الله تعالى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحجة الثانية: أن كل من سوى الله فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد واجب الوجود لذاته، فكل رحمة تصدر من غير الله فهي إنما دخلت في الوجود بإيجاد الله فيكون الرحيم في الحقيقة هو الله تعالى. الحجة الثالثة: أن الإنسان يمكنه الفعل والترك، فيمتنع رجحان الفعل على الترك إلا عند حصول داعية جازمة في القلب، فعند عدم حصول تلك الداعية يمتنع صدور تلك الرحمة منه، وعند حصولها يجب صدور الرحمة منه، فيكون الراحم في الحقيقة هو الذي خلق تلك الداعية في ذلك القلب، وما ذاك إلا الله تعالى، فيكون الراحم في الحقيقة هو الله تعالى. الحجة الرابعة: هب أن فلاناً يعطي الحنطة، ولكن ما لم تحصل المعدة الهاضمة للطعام لم يحصل الانتفاع بتلك الحنطة، وهب أنه وهب البستان فما لم تحصل القوة الباصرة في العين لم يحصل الانتفاع بذلك البستان، بل الحق أن خالق تلك الحنطة وذلك البستان هو الله تعالى والممكن من الانتفاع بهما هو الله، والحافظ له عن أنواع الآفات والمخافات حتى يحصل الانتفاع بتلك الأشياء هو الله تعالى، فوجب أن يقال: المنعم والراحم في الحقيقة هو الله تعالى. المقام الثاني: في بيان أن بتقدير أن تحصل الرحمة من غير الله إلا أن رحمة الله أكمل وأعظم. وبيانه من وجوه: الأول: أن الأنعام يوجب علو حال المنعم ودناءة حال المنعم عليه بالنسبة إلى المنعم، فإذا حصل التواضع بالنسبة إلى حضرة الله فذاك خير من حصول هذه الحالة بالنسبة إلى بعض الخلق. الثاني: أن الله تعالى إذا أنعم عليك بنعمة طلب عندها منك عملاً تتوصل به إلى استحقاق نعم الآخرة، فكأنه تعالى يأمرك بأن تكتسب لنفسك سعادة الأبد، وأما غير الله فإنه إذا أنعم عليك بنعمة أمرك بالاشتغال بخدمته والانصراف إلى تحصيل مقصوده، ولا شك أن الحالة الأولى أفضل. الثالث: أن المنعم عليه يصير كالعبد للمنعم، وعبودية الله أولى من عبودية غير الله. الرابع: أن السلطان إذا أنعم عليك فهو غير عالم بتفاصيل أحوالك، فقد ينعم عليك حال ما تكون غنياً عن إنعامه، وقد يقطع عنك إنعامه حال ما تكون محتاجاً إلى إنعامه، وأيضاً فهو غير قادر على الإنعام عليك في كل الأوقات وبجميع المرادات، أما الحق تعالى فإنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات، فإذا ظهرت بك حاجة عرفها، وإن طلبت منه شيئاً قدر على تحصيله، فكان ذلك أفضل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الخامس: الإنعام يوجب المنة، وقبول المنة من الحق أفضل من قبولها من الخلق. فثبت بما ذكرنا أن الرحمن الرحيم هو الله تعالى، وبتقدير أن يحصل رحمن آخر فرحمة الله تعالى أكمل وأفضل وأعلى وأجل،والله أعلم. الباب الحادي عشر في بعض النكت المستخرجة من قولنا بسم الله الرحمن الرحيم إشارات البسملة: النكتة الأولى: مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه، فشكا إلى الله تعالى، فدله على عشب في المفازة، فأكل منه فعوفي بإذن الله تعالى، ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه، فقال: يا رب، أكلته أولاً فانتفعت به، وأكلته ثانياً فازداد مرضي، فقال: لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء، وفي المرة الثانية ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض، أما علمت أن الدنيا كلها سم قاتل وترياقها اسمي؟. الثانية: باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة، فلما انفجر الصبح نامت، فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب، فوضعها فوجد الباب، ففعل ذلك ثلاث مرات، فنودي من زاوية البيت: ضع القماش واخرج فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان. الثالثة: كان بعض العارفين يرعى غنماً وحضر في قطيع غنمه الذئاب، وهي لا تضر أغنامه، فمر عليه رجل وناداه: متى اصطلح الذئب والغنم؟ فقال الراعي: من حين اصطلح الراعي مع الله تعالى. الرابعة: قوله بسم الله معناه أبدأ باسم الله، فأسقط منه قوله: «أبدأ» تخفيفاً، فإذا قلت بسم الله فكأنك قلت أبدأ باسم الله، والمقصود منه التنبيه على أن العبد من أول ما شرع في العمل كان مدار أمره على التسهيل والتخفيف والمسامحة، فكأنه تعالى في أول كلمة ذكرها لك جعلها دليلاً على الصفح والإحسان. الخامسة: روى أن فرعون قبل أن يدعي الإلهية بنى قصراً وأمر أن يكتب بسم الله على بابه الخارج، فلما ادعى الإلهية وأرسل إليه موسى عليه السلام ودعاه فلم يرَ به أثر الرشد قال: إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيراً، فقال تعالى: يا موسى، لعلك تريد إهلاكه، أنت تنظر إلى كفره وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه، والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمناً من الهلاك وإن كان كافراً فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون حاله؟. السادسة: سمى نفسه رحماناً رحيماً فكيف لا يرحم؟ روى أن سائلاً وقف على باب رفيع فسأل شيئاً فأعطي قليلاً، فجاء في اليوم الثاني بفأس وأخذ يخرب الباب فقيل له: ولم تفعل؟ قال: إما أن يجعل الباب لائقاً بالعطية أو العطية لائقة بالباب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
إلهنا إن بحار الرحمة بالنسبة إلى رحمتك أقل من الذرة بالنسبة إلى العرش، فكما ألقيت في أول كتابك على عبادك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين عن رحمتك وفضلك. السابعة: «الله» إشارة إلى القهر والقدرة والعلو، ثم ذكر عقيبه الرحمن الرحيم، وذلك يدل على أن رحمته أكثر وأكمل من قهره. الثامنة: كثيراً ما يتفق لبعض عبيد الملك أنهم إذا اشتروا شيئاً من الخيل والبغال والحمير وضعوا عليها سمة الملك لئلا يطمع فيها الأعداء، فكأنه تعالى يقول: إن لطاعتك عدواً وهو الشيطان فإذا شرعت في عمل فاجعل عليه سمتي، وقل: بسم الله الرحمن الرحيم، حتى لا يطمع العدو فيها. التاسعة: اجعل نفسك قرين ذكر الله تعالى حتى لا تبعد عنه في الدارين، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه **" دفع خاتمه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال: أكتب فيه لا إله إلا الله، فدفعه إلى النقاش وقال: أكتب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله، فكتب النقاش فيه ذلك، فأتى أبو بكر بالخاتم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى النبي فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق، فقال: يا أبا بكر، ما هذه الزوائد؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله ما رضيت أن أفرق إسمك عن إسم الله، وأما الباقي فما قلته، وخجل أبو بكر، فجاء جبريل عليه السلام وقال: يا رسول الله أما إسم أبي بكر فكتبته أنا لأنه ما رضي أن يفرق إسمك عن اسم الله فما رضي الله أن يفرق إسمه عن إسمك "** والنكتة أن أبا بكر لما لم يرض بتفريق اسم محمد صلى الله عليه وسلم عن إسم الله عزّ وجلّ وجد هذه الكرامة فكيف إذا لم يفارق المرء ذكر الله تعالى؟. العاشرة: أن نوحاً عليه السلام لما ركب السفينة قال:**{ بسم الله مجراها ومرساها }** [هود: 41] فوجد النجاة بنصف هذه الكلمة، فمن واظب على هذه الكلمة طول عمره كيف يبقى محروماً عن النجاة؟ وأيضاً أن سليمان عليه السلام نال مملكة الدنيا والآخرة بقوله:**{ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم }** [النمل: 30] فالمرجو أن العبد إذا قاله فاز بملك الدنيا والآخرة. الحادية عشرة: إن قال قائل لم قدم سليمان عليه السلام إسم نفسه على إسم الله تعالى في قوله: { إنه من سليمان } فالجواب من وجوه: الأول: أن بلقيس لما وجدت ذلك الكتاب موضوعاً على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد واقفاً على طرف الجدار علمت أن ذلك الكتاب من سليمان، فأخذت الكتاب وقالت: إنه من سليمان، فلما فتحت الكتاب ورأت بسم الله الرحمن الرحيم قالت: وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، فقوله: { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } من كلام بلقيس لا كلام سليمان: الثاني: لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } وفي داخل الكتاب ابتدأ بقوله: { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } كما هو العادة في جميع الكتب، فلما أخذت بلقيس ذلك الكتاب قرأت ما في عنوانه، فقالت: إنه من سليمان، فلما فتحت الكتاب قرأت: بسم الله الرحمن الرحيم، فقالت: وأنه بسم الله الرحمن الرحيم: الثالث: أن بلقيس كانت كافرة فخاف سليمان أن تشتم الله إذا نظرت في الكتاب فقدم إسم نفسه على إسم الله تعالى، ليكون الشتم له لا لله تعالى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثانية عشرة: الباء من «بسم» مشتق من البر فهو البار على المؤمنين بأنواع الكرامات في الدنيا والآخرة، وأجل بره وكرامته أن يكرمهم يوم القيامة برؤيته. مرض لبعضهم جار يهودي قال: فدخلت عليه للعيادة وقلت له: أسلم، فقال: على ماذا؟ قلت: من خوف النار قال: لا أبالي بها، فقلت: للفوز بالجنة، فقال: لا أريدها، قلت: فماذا تريد؟ قال: على أن يريني وجهه الكريم، قلت: أسلم على أن تجد هذا المطلوب، فقال لي: أكتب بهذا خطاً، فكتبت له بذلك خطاً فأسلم ومات من ساعته، فصلينا عليه ودفناه، فرأيته في النوم كأنه يتبختر فقلت له: يا شمعون، ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي، وقال لي: أسلمت شوقاً إليّ. وأما السين فهو مشتق من اسمه السميع، يسمع دعاء الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى. روي أن زيد بن حارثة خرج مع منافق من مكة إلى الطائف فبلغا خربة فقال المنافق ندخل ههنا ونستريح، فدخلا ونام زيد فأوثق المنافق زيداً وأراد قتله، فقال زيد: لم تقتلني؟ قال: لأن محمداً يحبك وأنا أبغضه، فقال زيد: يا رحمن أغثني، فسمع المنافق صوتاً يقول: ويحك لا تقتله، فخرج من الخربة ونظر فلم يرَ أحداً، فرجع وأراد قتله فسمع صائحاً أقرب من الأول يقول: لا تقتله، فنظر فلم يجد أحداً، فرجع الثالثة وأراد قتله فسمع صوتاً قريباً يقول: لا تقتله، فخرج فرأى فارساً معه رمح فضربه الفارس ضربة فقتله، ودخل الخربة وحل وثاق زيد، وقال له: أما تعرفني؟ أنا جبريل حين دعوت كنت في السماء السابعة فقال الله عزّ وجلّ: أدرك عبدي، وفي الثانية كنت في السماء الدنيا، وفي الثالثة بلغت إلى المنافق. وأما الميم فمعناه أن من العرش إلى ما تحت الثرى ملكه وملكه. قال السدي: أصاب الناس قحط على عهد سليمان بن داود عليهما السلام، فأتوه فقالوا له: يا نبي الله، لو خرجت بالناس إلى الاستسقاء، فخرجوا وإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، ولا غنى لي عن فضلك، قال: فصب الله تعالى عليهم المطر، فقال لهم سليمان عليه السلام: ارجعوا فقد استجيب لكم بدعاء غيركم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
أما قوله: «الله» فاعلموا أيها الناس أني أقول طول حياتي الله، فإذا مت أقول الله، وإذا سئلت في القبر أقول الله، وإذا جئت يوم القيامة أقول الله، وأذا أخذت الكتاب أقول الله وإذا وزنت أعمالي أقول الله، وإذا جزت الصراط أقول الله، وإذا دخلت الجنة أقول الله، وإذا رأيت الله قلت الله. النكتة الثالثة عشرة: الحكمة في ذكر هذه الأسماء الثلاثة أن المخاطبين في القرآن ثلاثة أصناف كما قال تعالى:**{ فَمِنْهُمْ ظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرٰتِ }** [فاطر: 32] فقال: أنا الله للسابقين، الرحمن للمقتصدين، الرحيم للظالمين، وأيضاً الله هو معطي العطاء، والرحمن هو المتجاوز عن زلات الأولياء، والرحيم هو المتجاوز عن الجفاء، ومن كمال رحمته كأنه تعالى يقول أعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك، ولو علمته المرأة لجفتك، ولو علمته الأمة لأقدمت على الفرار منك، ولو علمه الجار لسعى في تخريب الدار، وأنا أعلم كل ذلك وأستره بكرمي لتعلم أني إله كريم. الرابعة عشرة: الله يوجب ولايته، قال الله تعالى:**{ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ }** [البقرة: 256] والرحمن يوجب محبته، قال الله تعالى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وُدّاً }** [مريم: 96] والرحيم يوجب رحمته**{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }** [الأحزاب: 43]. الخامسة عشرة: قال عليه الصلاة والسلام: **" من رفع قرطاساً من الأرض فيه «بسم الله الرحمن الرحيم» إجلالاً له تعالى كتب عند الله من الصديقين، وخفف عن والديه وإن كانا مشركين "** وقصة بشر الحافي في هذا الباب معروفة، وعن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: **" يا أبا هريرة، إذا توضأت فقل: بسم الله، فإن حفظتك لا تبرح أن تكتب لك الحسنات حتى تفرغ، وإذا غشيت أهلك فقل: بسم الله، فإن حفظتك يكتبون لك الحسنات حتى تغتسل من الجنابة، فإن حصل من تلك الواقعة ولد كتب لك من الحسنات بعدد نفس ذلك الولد، وبعدد أنفاس أعقابه إن كان له عقب، حتى لا يبقى منهم أحد. يا أبا هريرة إذا ركبت دابة فقل: بسم الله والحمد لله، يكتب لك الحسنات بعدد كل خطوة، وإذا ركبت السفينة فقل: بسم الله والحمد لله، يكتب لك الحسنات حتى تخرج منها "** وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا: بسم الله الرحمن الرحيم، والإشارة فيه أنه إذا صار هذا الاسم حجاباً بينك وبين أعدائك من الجن في الدنيا أفلا يصير حجاباً بينك وبين الزبانية في العقبى؟ ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
السادسة عشرة: كتب قيصر إلى عمر رضي الله عنه أن بي صُداعاً لا يسكن فابعث لي دواء، فبعث إليه عمر قلنسوة فكان إذا وضعها على رأسه يسكن صداعه، وإذا رفعها عن رأسه عاوده الصداع، فعجب منه ففتش القلنسوة فإذا فيها كاغد مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. السابعة عشرة: قال صلى الله عليه وسلم: **" من توضأ ولم يذكر اسم الله تعالى كان طهوراً لتلك الأعضاء، ومن توضأ وذكر اسم الله تعالى كان طهوراً لجميع بدنه "** فإذا كان الذكر على الوضوء طهوراً لكل البدن فذكره عن صميم القلب أولى أن يكون طهوراً للقلب عن الكفر والبدعة. الثامنة عشرة: طلب بعضهم آية من خالد بن الوليد فقال: إنك تدعي الإسلام فأرنا آية لنسلم، فقال: ائتوني بالسم القاتل، فأتى بطاس من السم، فأخذها بيده وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، وأكل الكل وقام سالماً بإذن الله تعالى، فقال المجوس هذا دين حق. التاسعة عشرة: مر عيسى بن مريم عليه السلام على قبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتاً، فلما انصرف من حاجته مر على القبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور، فتعجب من ذلك، فصلى ودعا الله تعالى فأوحى الله تعالى إليه: يا عيسى، كان هذا العبد عاصياً ومذ مات كان محبوساً في عذابي، وكان قد ترك امرأة حبلى فولدت ولداً وربته حتى كبر، فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعلم بسم الله الرحمن الرحيم، فاستحيت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض وولده يذكر اسمي على وجه الأرض. العشرون: سئلت عمرة الفرغانية ـ وكانت من كبار العارفات ـ ما الحكمة في أن الجنب والحائض منهيان عن قراءة القرآن دون التسمية فقالت: لأن التسمية ذكر اسم الحبيب والحبيب لا يمنع من ذكر الحبيب. الحادية والعشرون: قيل في قوله: «الرحيم» هو تعالى رحيم بهم في ستة مواضع في القبر وحشراته، والقيامة وظلماته، والميزان ودرجاته، وقراءة الكتاب وفزعاته، والصراط ومخافاته والنار ودركاته. الثانية والعشرون: كتب عارف «بسم الله الرحمن الرحيم» وأوصى أن تجعل في كفنه فقيل له: أي فائدة لك فيه فقال: أقول يوم القيامة: إلهي بعثت كتاباً وجعلت عنوانه بسم الله الرحمن الرحيم، فعاملني بعنوان كتابك. الثالثة والعشرون: قيل «بسم الله الرحمن الرحيم» تسعة عشر حرفاً، وفيه فائدتان: إحداهما: أن الزبانية تسعة عشر، فالله تعالى يدفع بأسهم بهذه الحروف التسعة عشر، الثانية: خلق الله تعالى الليل والنهار أربعة وعشرين ساعة، ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فهذه الحروف التسعة عشر تقع كفارات للذنوب التي تقع في تلك الساعات التسعة عشر. الرابعة والعشرون: لما كانت سورة التوبة مشتملة على الأمر بالقتال لم يكتب في أولها «بسم الله الرحمن الرحيم» وأيضاً السنة أن يقال عند الذبح «باسم الله، والله أكبر» ولا يقال: «بسم الله الرحمن الرحيم» لأن وقت القتال والقتل لا يليق به ذكر الرحمن الرحيم، فلما وفقك لذكر هذه الكلمة في كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة دل ذلك على أنه ما خلقك للقتل والعذاب، وإنما خلقك للرحمة والفضل والإحسان، والله تعالى الهادي إلى الصواب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الكلام في سورة الفاتحة وفي ذكر أسماء هذه السورة، وفيه أبواب: الباب الأول اعلم أن هذه السورة لها أسماء كثيرة، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى: ـ أسماء الفاتحة وسببها: فالأول: «فاتحة الكتاب» سميت بذلك الاسم لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم، والقراءة في الصلاة، وقيل سميت بذلك لأن الحمد فاتحة كل كلام على ما سيأتي تقريره، وقيل لأنها أول سورة نزلت من السماء. والثاني: «سورة الحمد» والسبب فيه أن أولها لفظ الحمد. والثالث: «أم القرآن» والسبب فيه وجوه: الأول: أن أم الشيء أصله، والمقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة: الإلهيات، والمعاد، والنبوات، وإثبات القضاء والقدر لله تعالى، فقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } يدل على الإلهيات، وقوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } يدل على المعاد، وقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يدل على نفي الجبر والقدر وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره، وقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } يدل أيضاً على إثبات قضاء الله وقدره وعلى النبوات، وسيأتي شرح هذه المعاني بالاستقصاء، فلما كان المقصد الأعظم من القرآن هذه المطالب الأربعة وكانت هذه السورة مشتملة عليها لقبت بأم القرآن. السبب الثاني لهذا الاسم: أن حاصل جميع الكتب الإلهية يرجع إلى أمور ثلاثة: إما الثناء على الله باللسان، وإما الاشتغال بالخدمة والطاعة، وإما طلب المكاشفات والمشاهدات، فقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } كله ثناء على الله، وقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } اشتغال بالخدمة والعبودية،إلا أن الابتداء وقع بقوله { إياك نعبد } وهو إشارة إلى الجد والاجتهاد في العبودية، ثم قال: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وهو إشارة إلى اعتراف العبد بالعجز والذلة والمسكنة والرجوع إلى الله، وأما قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فهو طلب للمكاشفات والمشاهدات وأنواع الهدايات. السبب الثالث لتسمية هذه السورة بأم الكتاب: أن المقصود من جميع العلوم: إما معرفة عزة الربوبية، أو معرفة ذلة العبودية فقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } يدل على أنه هو الإله المستولي على كل أحوال الدنيا والآخرة، ثم من قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إلى آخر السورة يدل على ذل العبودية، فإنه يدل على أن العبد لا يتم له شيء من الأعمال الظاهرة ولا من المكاشفات الباطنة إلا بإعانة الله تعالى وهدايته.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
السبب الرابع: أن العلوم البشرية إما علم ذات الله وصفاته وأفعاله، وهو علم الأصول وإما علم أحكام الله تعالى وتكاليفه، وهو علم الفروع، وإما علم تصفية الباطن وظهور الأنوار الروحانية والمكاشفات الإلهية. والمقصود من القرآن بيان هذه الأنواع الثلاثة، وهذه السورة الكريمة مشتملة على تقرير هذه المطالب الثلاثة على أكمل الوجوه: فقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } إشارة إلى علم الأصول: لأن الدال على وجوده وجود مخلوقاته، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يجري مجرى الإشارة إلى أنه لا سبيل إلى معرفة وجوده إلا بكونه رباً للعالمين، وقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } إشارة إلى كونه مستحقاً للحمد، ولا يكون مستحقاً للحمد إلا إذا كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات، ثم وصفه بنهاية الرحمة ـ وهو كونه رحماناً رحيماً ـ ثم وصفه بكمال القدرة ـ وهو قوله مالك يوم الدين ـ حيث لا يهمل أمر المظلومين، بل يستوفي حقوقهم من الظالمين، وعند هذا تم الكلام في معرفة الذات والصفات وهو علم الأصول، ثم شرع بعده في تقرير علم الفروع، وهو الاشتغال بالخدمة والعبودية، وهو قول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ثم مزجه أيضاً بعلم الأصول مرة أخرى، وهو أن أداء وظائف العبودية لا يكمل إلا بإعانة الربوبية، ثم شرع بعده في بيان درجات المكاشفات وهي على كثرتها محصورة في أمور ثلاثة: أولها: حصول هداية النور في القلب، وهو المراد من قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، وثانيها: أن يتجلى له درجات الأبرار المطهرين من الذين أنعم الله عليهم بالجلايا القدسية والجواذب الإلهية، حتى تصير تلك الأرواح القدسية كالمرايا المجلوة فينعكس الشعاع من كل واحدة منها إلى الأخرى، وهو قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، وثالثها: أن تبقى مصونة معصومة عن أوضار الشهوات، وهو قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وعن أوزار الشبهات، وهو قوله: { وَلاَ ٱلضَّالّينَ } فثبت أن هذه السورة مشتملة على هذه الأسرار العالية التي هي أشرف المطالب، فلهذا السبب سميت بأم الكتاب كما أن الدماغ يسمى أم الرأس لاشتماله على جميع الحواس والمنافع. السبب الخامس: قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب، قال: سمعت أبا بكر القفال قال: سمعت أبا بكر بن دريد يقول: الأم في كلام العرب الراية التي ينصبها العسكر، قال قيس بن الحطيم:
| **نصبنا أمنا حتى ابذعروا** | | **وصاروا بعد ألفتهم سلالا** |
| --- | --- | --- |
فسميت هذه السورة بأم القرآن لأن مفزع أهل الإيمان إلى هذه السورة كما أن مفزع العسكر إلى الراية، والعرب تسمى الأرض أماً لأن معاد الخلق إليها في حياتهم ومماتهم، ولأنه يقال: أم فلان فلاناً إذا قصده.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 150 | 151 | 152 | 153 | 154 | 155 | 156 | 157 | 158 | 159 | 160 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الاسم الرابع: من أسماء هذه السورة «السبع الثاني» قال الله تعالى:**{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي }** [الحجر: 87] وفي سبب تسميتها بالمثاني وجوه: الأول: أنها مثنى: نصفها ثناء العبد للرب، ونصفها عطاء الرب للعبد. الثاني: سميت مثاني لأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة. الثالث: سميت مثاني لأنها مستثناة من سائر الكتب، قال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة، ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم. الرابع: سميت مثاني لأنها سبع آيات، كل آية تعدل قراءتها قراءة سبع من القرآن، فمن قرأ الفاتحة أعطاه الله ثواب من قرأ كل القرآن. الخامس: آياتها سبع، وأبواب النيران سبعة، فمن فتح لسانه بقراءتها غلقت عنه الأبواب السبعة، والدليل عليه ما روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، كنت أخشى العذاب على أمتك. فلما نزلت الفاتحة أمنت، قال: لم يا جبريل؟ قال: لأن الله تعالى قال:**{ وإن جهنم لموعدهم أجمعين، لها سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم }** [الحجر: 43، 44] وآياتها سبع فمن قرأها صارت كل آية طبقاً على باب من أبواب جهنم، فتمر أمتك عليها منها سالمين. السادس: سميت مثاني لأنها تقرأ في الصلاة ثم إنها تثنى بسورة أخرى. السابع: سميت مثاني لأنها أثنية على الله تعالى ومدائح له. الثامن: سميت مثاني لأن الله أنزلها مرتين، واعلم أنا قد بالغنا في تفسير قوله تعالى: { سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي } في سورة الحجر. الاسم الخامس: الوافية، كان سفيان بن عيينة يسميها بهذا الاسم، قال الثعلبي، وتفسيرها أنها لا تقبل التنصيف، ألا ترى أن كل سورة من القرآن لو قرىء نصفها في ركعة والنصف الثاني في ركعة أخرى لجاز، وهذا التنصيف غير جائز في هذه السورة. الاسم السادس: الكافية، سميت بذلك لأنها تكفي عن غيرها، وأما غيرها فلا يكفي عنها، روى محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" أم القرآن عوض عن غيرها، وليس غيرها عوضاً عنها "** الاسم السابع: الأساس، وفيه وجوه: الأول: أنها أول سورة من القرآن، فهي كالأساس. الثاني: أنها مشتملة على أشرف المطالب كما بيناه، وذلك هو الأساس. الثالث: أن أشرف العبادات بعد الإيمان هو الصلاة، وهذه السورة مشتملة على كل ما لا بدّ منه في الإيمان والصلاة لا تتم إلا بها. الاسم الثامن: الشفاء، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 150 | 151 | 152 | 153 | 154 | 155 | 156 | 157 | 158 | 159 | 160 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" فاتحة الكتاب شفاء من كل سم "** ومر بعض الصحابة برجل مصروع فقرأ هذه السورة في أذنه فبرىء فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: **" هي أم القرآن، وهي شفاء من كل داء. "** وأقول: الأمراض منها روحانية، ومنها جسمانية، والدليل عليه أنه تعالى سمى الكفر مرضاً فقال تعالى:**{ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ }** [البقرة: 10] وهذه السورة مشتملة على معرفة الأصول والفروع والمكاشفات، فهي في الحقيقة سبب لحصول الشفاء في هذه المقامات الثلاثة. الاسم التاسع: الصلاة، قال عليه الصلاة والسلام: **" يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين والمراد هذه السورة "** الاسم العاشر: السؤال، روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكى عن رب العزة سبحانه وتعالى أنه قال: **" من شغله ذكرى عن سؤالي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين "** وقد فعل الخليل عليه السلام ذلك حيث قال:**{ ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ }** [الشعراء: 78] إلى أن قال:**{ رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ }** [الشعراء: 83] ففي هذه السورة أيضاً وقعت البداءة بالثناء عليه سبحانه وتعالى وهو قوله: { الحمد لله } إلى قوله { مالك يوم الدين } ثم ذكر العبودية وهو قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ثم وقع الختم على طلب الهداية وهو قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وهذا يدل على أن أكمل المطالب هو الهداية في الدين، وهو أيضاً يدل على أن جنة المعرفة خير من جنة النعيم لأنه تعالى ختم الكلام هنا على قوله { ٱهْدِنَا } ولم يقل أرزقنا الجنة. الاسم الحادي عشر: سورة الشكر، وذلك لأنها ثناء على الله بالفضل والكرم والإحسان. الاسم الثاني عشر: سورة الدعاء، لاشتمالها على قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فهذا تمام الكلام في شرح هذه الأسماء،والله أعلم. الباب الثاني في فضائل هذه السورة، وفيه مسائل: كيفية نزولها: المسألة الأولى: ذكروا في كيفية نزول هذه السورة ثلاثة أقوال: الأول: أنها مكية، روى الثعلبي بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش، ثم قال الثعلبي: وعليه أكثر العلماء، وروي أيضاً بإسناده عن عمرو بن شرحبيل أنه قال: أول ما نزل من القرآن { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى خديجة فقال: **" لقد خشيت أن يكون خالطني شيء "** ، فقالت: وما ذاك؟ قال: **" إني إذا خلوت سمعت النداء بإقرأ "** ، ثم ذهب إلى ورقة بن نوفل وسأله عن تلك الواقعة فقال له ورقة: إذا أتاك النداء فاثبت له، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: قل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 150 | 151 | 152 | 153 | 154 | 155 | 156 | 157 | 158 | 159 | 160 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" بسم الله الرحمن الرحيم "** ، فقالت قريش: دق الله فاك. والقول الثاني: أنها نزلت بالمدينة، روى الثعلبي بإسناده عن مجاهد أنه قال: فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة قال الحسين بن الفضل: لكل عالم هفوة وهذه هفوة مجاهد، لأن العلماء على خلافه، ويدل عليه وجهان: الأول: أن سورة الحجر مكية بالاتفاق، ومنها قوله تعالى:**{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي }** [الحجر: 87] وهي فاتحة الكتاب، وهذا يدل على أنه تعالى آتاه هذه السورة فيما تقدم، الثاني: أنه يبعد أن يقال إنه أقام بمكة بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب. القول الثالث: قال بعض العلماء: هذه السورة نزلت بمكة مرة، وبالمدينة مرة أخرى، فهي مكية مدنية، ولهذا السبب سماها الله بالمثاني لأنه ثنى إنزالها، وإنما كان كذلك مبالغة في تشريفها. المسألة الثانية: في بيان فضلها، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فاتحة الكتاب شفاء من السم، وعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بسببه العذاب أربعين سنة، وعن الحسين قال: أنزل الله تعالى مائة وأربعة كتب من السماء فأودع علوم المائة في الأربعة، وهي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة في الفرقان، ثم أودع علوم الفرقان في المفصل، ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة فمن علم تفسير الفاتحة كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة، ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. قلت: والسبب فيه أن المقصود من جميع الكتب الإلهية علم الأصول والفروع والمكاشفات وقد بينا أن هذه السورة مشتملة على تمام الكلام في هذه العلوم الثلاثة، فلما كانت هذه المطالب العالية الشريفة حاصلة فيها لا جرم كانت كالمشتملة على جميع المطالب الإلهية. المسألة الثالثة: قالوا: هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف، وهي الثاء، والجيم والخاء، والزاي، والشين، والظاء، والفاء، والسبب فيه أن هذه الحروف السبعة مشعرة بالعذاب فالثاء تدل على الويل والثبور، قال تعالى:**{ لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وٰحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً }** [الفرقان: 14] والجيم أول حروف اسم جهنم، قال تعالى:**{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ }** [الحجر: 43] وقال تعالى:**{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ }** [الأعراف: 179] وأسقط الخاء لأنه يشعر بالخزي قال تعالى:**{ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِىَّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ }** [التحريم: 8] وقال تعالى:**{ إِنَّ ٱلْخِزْىَ ٱلْيَوْمَ وَٱلْسُّوء عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ }** [النحل: 27] وأسقط الزاي والشين لأنهما أول حروف الزفير والشهيق، قال تعالى:**{ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ }** [هود: 106] وأيضاً الزاي تدل على الزقوم، قال تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 150 | 151 | 152 | 153 | 154 | 155 | 156 | 157 | 158 | 159 | 160 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ طَعَامُ ٱلأثِيمِ }** [الدخان: 43] والشين تدل على الشقاوة، قال تعالى:**{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِى ٱلنَّارِ }** [هود: 106] وأسقط الظاء لقوله:**{ ٱنطَلِقُواْ إِلَىٰ ظِلّ ذِى ثَلَـٰثِ شُعَبٍ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ ٱللَّهَبِ }** [المرسلات: 30، 31] وأيضاً يدل على لظى، قال تعالى:**{ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ نَزَّاعَةً لّلشَّوَىٰ }** [المعارج: 15، 16] وأسقط الفاء لأنه يدل على الفراق، قال تعالى:**{ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ }** [الروم: 14] وأيضاً قال:**{ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ }** [طه: 61]. فإن قالوا: لا حرف من الحروف إلا وهو مذكور في شيء يوجب نوعاً من العذاب فلا يبقى لما ذكرتم فائدة، فنقول: الفائدة فيه أنه تعالى قال في صفة جهنم**{ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ }** [الحجر: 44] والله تعالى أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة، وهي أوائل ألفاظ دالة على العذاب، تنبيهاً على أن من قرأ هذه السورة وآمن بها وعرف حقائقها صار آمناً من الدركات السبع في جهنم، والله أعلم. الباب الثالث في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة، وفيه مسائل: أسرار الفاتحة: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } فكأن سائلاً يقول: الحمد لله منبي عن أمرين: أحدهما: وجود الإله، والثاني: كونه مستحقاً للحمد، فما الدليل على وجود الإله وما الدليل على أنه مستحق الحمد؟ ولما توجه هذان السؤالان لا جرم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذين السؤالين، فأجاب عن السؤال الأول بقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وأجاب عن السؤال الثاني بقوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } أما تقرير الجواب الأول ففيه مسائل: ـ المسألة الأولى: إن علمنا بوجود الشيء إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً، لا جائز أن يقال العلم بوجود الإله ضروري، لأنا نعلم بالضرورة أنا لا نعرف وجود الإله بالضرورة فبقي أن يكون العلم نظرياً، والعلم النظري لا يمكن تحصيله إلا بالدليل، ولا دليل على وجود الإله إلا أن هذا العالم المحسوس بما فيه من السموات والأرضين والجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان محتاج إلى مدبر يدبره وموجود يوجده ومرب يربيه ومبق يبقيه، فكان قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } إشارة إلى الدليل الدال على وجود الإله القادر الحكيم. ثم فيه لطائف: اللطيفة الأولى: أن العالمين إشارة إلى كل ما سوى الله فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } إشارة إلى أن كل ما سواه فهو مفتقر إليه محتاج في وجوده إلى إيجاده، وفي بقائه إلى إبقائه، فكان هذا إشارة إلى أن كل جزء لا يتجزأ وكل جوهر فرد وكل واحد من آحاد الأعراض فهو برهان باهر ودليل قاطع على وجود الإله الحكيم القادر القديم، كما قال تعالى:**{ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 150 | 151 | 152 | 153 | 154 | 155 | 156 | 157 | 158 | 159 | 160 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[الإسراء: 44]. اللطيفة الثانية: أنه تعالى لم يقل الحمد لله خالق العالمين، بل قال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } والسبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد والمحدث حال حدوثها، لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي أم لا؟ فقال قوم: الشيء حال بقائه يستغني عن السبب، والمربي هو القائم بإبقاء الشيء وإصلاح حاله حال بقائه، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها، والمقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها أمر متفق عليه، أما افتقارها إلى المبقي والمربي حال بقائها هو الذي وقع فيه الخلاف فخصه سبحانه بالذكر تنبيهاً على أن كل ما سوى الله فإنه لا يستغنى عنه لا في حال حدوثه ولا في حال بقائه. اللطيفة الثالثة: أن هذه السورة مسماة بأم القرآن فوجب كونها كالأصل والمعدن، وأن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } تنبيه على أن كل موجود سواه فإنه دليل على إلهيته. ثم إنه تعالى افتتح سوراً أربعة بعد هذه السورة بقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } فأولها: سورة الأنعام وهو قوله:**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ }** [الأنعام: 1] واعلم أن المذكور ههنا قسم من أقسام قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } لأن لفظ العالم يتناول كل ما سوى الله، والسموات والأرض والنور والظلمة قسم من أقسام ما سوى الله، فالمذكور في أول سورة الأنعام كأنه قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة، وأيضاً فالمذكور في أول سورة الأنعام أنه خلق السموات والأرض والمذكور في أول سورة الفاتحة كونه رباً للعالمين، وقد بينا أنه متى ثبت أن العالم محتاج حال بقائه إلى إبقاء الله كان القول باحتياجه حال حدوثه إلى المحدث أولى، أما لا يلزم من احتياجه إلى المحدث حال حدوثه احتياجه إلى المبقي حال بقائه، فثبت بهذين الوجهين أن المذكور في أول سورة الأنعام يجري مجرى قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة. وثانيها: سورة الكهف، وهو قوله:**{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَـٰبَ }** [الكهف: 1] والمقصود منه تربية الأرواح بالمعارف، فإن الكتاب الذي أنزله على عبده سبب لحصول المكاشفات والمشاهدات، فكان هذا إشارة إلى التربية الروحانية فقط، وقوله في أول سورة الفاتحة: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } إشارة إلى التربية العامة في حق كل العالمين، ويدخل فيه التربية الروحانية للملائكة والإنس والجن والشياطين والتربية الجسمانية الحاصلة في السموات والأرضين، فكان المذكور في أول سورة الكهف نوعاً من أنواع ما ذكره في أول الفاتحة. وثالثها: سورة سبأ، وهو قوله:**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ }** [سبأ: 1] فبين في أول سورة الأنعام أن السموات والأرض له، وبين في أول سورة سبأ أن الأشياء الحاصلة في السموات والأرض له، وهذا أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 150 | 151 | 152 | 153 | 154 | 155 | 156 | 157 | 158 | 159 | 160 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ورابعها: قوله:**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ }** [فاطر: 1] والمذكور في أول سورة الأنعام كونه خالقاً لها، والخلق هو التقدير، والمذكور في هذه السورة كونة فاطراً لها ومحدثاً لذواتها، وهذا غير الأول إلا أنه أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }. ثم إنه تعالى لما ذكر في سورة الأنعام كونه خالقاً للسموات والأرض ذكر كونه جاعلاً للظلمات والنور، أما في سورة الملائكة فلما ذكر كونه فاطر السموات والأرض ذكر كونه جاعلاً الملائكة رسلاً، ففي سورة الأنعام ذكر بعد تخليق السموات والأرض جعل الأنوار والظلمات وذكر في سورة الملائكة بعد كونه فاطر السموات والأرض جعل الروحانيات، وهذه أسرار عجيبة ولطائف عالية إلا أنها بأسرها تجري مجرى الأنواع الداخلة تحت البحر الأعظم المذكور في قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فهذا هو التنبيه على أن قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يجري مجرى ذكر الدليل على وجود الإله القديم. المسألة الثانية: أن هذه الكلمة كما دلت على وجود الإله فهي أيضاً مشتملة على الدلالة على كونه متعالياً في ذاته عن المكان والحيز والجهة، لأنا بينا أن لفظ العالمين يتناول كل موجود سوى الله ومن جملة ما سوى الله المكان والزمان، فالمكان عبارة عن الفضاء والحيز والفراغ الممتد، والزمان عبارة عن المدة التي يحصل بسببها القبلية والبعدية، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يدل على كونه رباً للمكان والزمان وخالقًا لهما وموجداً لهما، ثم من المعلوم أن الخالق لا بدّ وأن يكون سابقاً وجوده على وجود المخلوق، ومتى كان الأمر كذلك كانت ذاته موجودة قبل حصول الفضاء والفراغ والحيز، متعالية عن الجهة والحيز، فلو حصلت ذاته بعد حصول الفضاء في جزء من أجزاء الفضاء لانقلبت حقيقة ذاته، وذلك محال، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يدل على تنزيه ذاته عن المكان والجهة بهذا الاعتبار. المسألة الثالثة: هذه اللفظة تدل على أن ذاته منزهة عن الحلول في المحل كما تقول النصارى والحلولية لأنه لما كان رباً للعالمين كان خالقاً لكل ما سواه، والخالق سابق على المخلوق، فكانت ذاته موجودة قبل كل محل، فكانت ذاته غنية عن كل محل، فبعد وجود المحل امتنع احتياجه إلى المحل. المسألة الرابعة: هذه الآية تدل على أن إله العالم ليس موجباً بالذات، بل هو فاعل مختار والدليل على أن الموجب بالذات لا يستحق على شيء من أفعاله الحمد والثناء والتعظيم، ألا ترى أن الإنسان إذا انتفع بسخونة النار أو ببرودة الجمد فإنه لا يحمد النار ولا الجمد لما أن تأثير النار في التسخين وتأثير الجمد في التبريد ليس بالقدرة والاختيار بل بالطبع، فلما حكم بكونه مستحقاً للحمد والثناء ثبت أنه فاعل بالاختيار، وإنما عرفنا كونه فاعلاً مختاراً لأنه لو كان موجباً لدامت الآثار والمعلولات بدوام المؤثر الموجب، ولامتنع وقوع التغير فيها، وحيث شاهدنا حصول التغيرات علمنا أن المؤثر فيها قادر بالاختيار لا موجب بالذات، ولما كان الأمر كذلك لا جرم ثبت كونه مستحقاً للحمد.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 150 | 151 | 152 | 153 | 154 | 155 | 156 | 157 | 158 | 159 | 160 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الخامسة: لما خلق الله العالم مطابقاً لمصالح العباد موافقاً لمنافعهم كان الإحكام والإتقان ظاهرين في العالم الأعلى والعالم الأسفل، وفاعل الفعل المحكم المتقن يجب أن يكون عالماً فثبت بما ذكرنا أن قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } يدل على وجود الإله ويدل على كونه منزهاً عن الحيز والمكان، ويدل على كونه منزهاً عن الحلول في المحل، ويدل على كونه في نهاية القدرة ويدل على كونه في نهاية العلم ويدل على كونه في نهاية الحكمة. وأما السؤال الثاني ـ وهو قوله: هب أنه ثبت القول بوجود الإله القادر فلم قلتم إنه يستحق الحمد والثناء؟ والجواب هو قوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } وتقرير هذا الجواب أن العبد لا يخلو حاله في الدنيا عن أمرين: إما أن يكون في السلامة والسعادة، وإما أن يكون في الألم والفقر والمكاره، فإن كان في السلامة والكرامة فأسباب تلك السلامة وتلك الكرامة لم تحصل إلا بخلق الله وتكوينه وإيجاده، فكان رحماناً رحيماً، وإن كان في المكاره والآفات، فتلك المكاره والآفات إما أن تكون من العباد، أو من الله، فإن كانت من العباد فالله سبحانه وتعالى وعد بأنه ينتصف للمظلومين من الظالمين في يوم الدين، وإن كانت من الله فالله تعالى وعد بالثواب الجزيل والفضل الكثير على كل ما أنزله بعباده في الدنيا من المكروهات والمخافات، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أنه لا بدّ وأن يكون مستحقاً للحمد الذي لا نهاية له، والثناء الذي لا غاية له فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } مرتب ترتيباً لا يمكن في العقل وجود كلام أكمل وأفضل منه. واعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الصفات المعتبرة في الربوبية أردفه بالكلام المعتبر في العبودية، واعلم أن الإنسان مركب من جسد، ومن روح، والمقصود من الجسد أن يكون آلة للروح في اكتساب الأشياء النافعة للروح فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتياً بأعمال تعين الروح على اكتساب السعادات الروحانية الباقية، وتلك الأعمال هي أن يكون الجسد آتياً بأعمال تدل على تعظيم المعبود وخدمته، وتلك الأعمال هي العبادة، فأحسن أحوال العبد في هذه الدنيا أن يكون مواظباً على العبادات، وهذه أول درجات سعادة الإنسان، وهو المراد بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } فإذا واظب على هذه الدرجة مدة فعند هذا يظهر له شيء من أنوار عالم الغيب، وهو أنه وحده لا يستقل بالإتيان بهذه العبادات والطاعات بل ما لم يحصل له توفيق الله تعالى وإعانته وعصمته فإنه لا يمكنه الإتيان بشيء من العبادات والطاعات، وهذا المقام هو الدرجة الوسطى في الكمالات، وهو المراد من قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ثم إذا تجاوز عن هذا المقام لاح له أن الهداية لا تحصل إلا من الله، وأنوار المكاشفات والتجلي لا تحصل إلا بهداية الله وهو المراد من قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وفيه لطائف: اللطيفة الأولى: أن المنهج الحق في الاعتقادات وفي الأعمال هو الصراط المستقيم، أما في الاعتقادات فبيانه من وجوه: الأول: أن من توغل في التنزيه وقع في التعطيل ونفي الصفات، ومن توغل في الإثبات وقع في التشبيه وإثبات الجسمية والمكان، فهما طرفان معوجان، والصراط المستقيم الإقرار الخالي عن التشبيه والتعطيل، والثاني: أن من قال فعل العبد كله منه فقد وقع في القدر، ومن قال لا فعل للعبد فقد وقع في الجبر وهما طرفان معوجان، والصراط المستقيم إثبات الفعل للعبد مع الإقرار بأن الكل بقضاء الله، وأما في الأعمال فنقول: من بالغ في الأعمال الشهوانية وقع في الفجور، ومن بالغ في تركها وقع في الجمود، والصراط المستقيم هو الوسط، وهو العفة، وأيضاً من بالغ في الأعمال الغضبية وقع في التهور، ومن بالغ في تركها وقع في الجبن، والصراط المستقيم هو الوسط، وهو الشجاعة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 150 | 151 | 152 | 153 | 154 | 155 | 156 | 157 | 158 | 159 | 160 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
اللطيفة الثانية: أن ذلك الصراط المستقيم وصفه بصفتين أولاهما إيجابية، والأخرى سلبية أما الإيجابية فكون ذلك الصراط صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأما السلبية فهي أن تكون بخلاف صراط الذين فسدت قواهم العملية بارتكاب الشهوات حتى استوجبوا غضب الله عليهم، وبخلاف صراط الذين فسدت قواهم النظرية حتى ضلوا عن العقائد الحقية والمعارف اليقينية. اللطيفة الثالثة: قال بعضهم: إنه لما قال: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } لم يقتصر عليه، بل قال: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وهذا يدل على أن المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات الهداية والمكاشفة إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل ويجنبه عن مواقع الأغاليط والأضاليل، وذلك لأن النقص غالب على أكثر الخلق، وعقولهم غير وافية بإدراك الحق وتمييز الصواب عن الغلط، فلا بدّ من كامل يقتدي به الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل ذلك الكامل فحينئذٍ يصل إلى مدارج السعادات ومعارج الكمالات. وقد ظهر بما ذكرنا أن هذه السورة وافية ببيان ما يجب معرفته من عهد الربوبية وعهد العبودية المذكورين في قوله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 150 | 151 | 152 | 153 | 154 | 155 | 156 | 157 | 158 | 159 | 160 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }** [البقرة: 40]. المسألة الثانية: في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة: اعلم أن أحوال هذا العالم ممزوجة بالخير والشر، والمحبوب والمكروه، وهذه المعاني ظاهرة لا شك فيها، إلا أنا نقول: الشر وإن كان كثيراً إلا أن الخير أكثر، والمرض وإن كان كثيراً إلا أن الصحة أكثر منه والجوع وإن كان كثيراً إلا أن الشبع أكثر منه، وإذا كان الأمر كذلك فكل عاقل اعتبر أحوال نفسه فإنه يجدها دائماً في التغيرات والانتقال من حال إلى حال، ثم إنه يجد الغالب في تلك التغيرات هو السلامة والكرامة والراحة والبهجة، أما الأحوال المكروهة فهي وإن كانت كثيرة إلا أنها أقل من أحوال اللذة والبهجة والراحة، إذا عرفت هذا فنقول أن تلك التغيرات لأجل أنها تقتضي حدوث أمر بعد عدمه تدل على وجود الإله القادر، ولأجل أن الغالب فيها الراحة والخير تدل على أن ذلك الإله رحيم محسن كريم، أما دلالة التغيرات على وجود الإله فلأن الفطرة السليمة تشهد بأن كل شيء وجد بعد العدم فإنه لا بدّ له من سبب، ولذلك فإنا إذا سمعنا أن بيتاً حدث بعد أن لم يكن فإن صريح العقل شاهد بأنه لا بدّ له من فاعل تولى بناء ذلك البيت، ولو أن إنساناً شككنا فيه لم نتشكك، فإنه لا بدّ وأن يكون فاعل تلك الأحوال المتغيرة قادراً، إذ لو كان موجباً بالذات لدام الأثر بدوامه، فحدوث الأثر بعد عدمه يدل على وجود مؤثر قادر، وأما دلالة تلك التغيرات على كون المؤثر رحيماً محسناً فلأنا بينا أن الغالب في تلك التغيرات هو الراحة و الخير والبهجة والسلامة، ومن كان غالب أفعاله راحة وخيراً وكرامة وسلامة كان رحيماً محسناً، ومن كان كذلك كان مستحقاً للحمد، ولما كانت هذه الأحوال معلومة لكل أحد وحاضرة في عقل كل أحد عاقل كان موجب حمد الله وثنائه حاضراً في عقل كل أحد فلهذا السبب علمهم كيفية الحمد فقال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ولما نبه على هذا المقام نبه على مقام آخر أعلى وأعظم من الأول، وكأنه قيل: لا ينبغي أن تعتقد أن الإله الذي اشتغلت بحمده هو إلهك فقط، بل هو إله كل العالمين، وذلك لأنك إنما حكمت بافتقار نفسك إلى الإله لما حصل فيك من الفقر والحاجة والحدوث والإمكان وهذه المعاني قائمة في كل العالمين، فإنها محل الحركات والسكنات وأنواع التغيرات، فتكون علة احتياجك إلى الإله المدبر قائمة فيها، وإذا حصل الاشتراك في العلة وجب أن يحصل الاشتراك في المعلول، فهذا يقتضي كونه ربًا للعالمين، وإلهًا للسموات والأرضين، ومدبراً لكل الخلائق أجمعين، ولما تقرر هذا المعنى ظهر أن الموجود الذي يقدر على خلق هذه العوالم على عظمتها ويقدر على خلق العرش والكرسي والسموات والكواكب لا بدّ وأن يكون قادراً على إهلاكها، ولا بدّ وأن يكون غنياً عنها، فهذا القادر القاهر الغني يكون في غاية العظمة والجلال، وحينئذٍ يقع في قلب العبد أني مع نهاية ذلتي وحقارتي كيف يمكنني أن أتقرب إليه، وبأي طريق أتوسل إليه، فعند هذا ذكر اللّه ما يجري مجرى العلاج الموافق لهذا المرض، فكأنه قال: أيها العبد الضعيف، أنا وإن كنت عظيم القدرة والهيبة والإلهية إلا أني مع ذلك عظيم الرحمة، فأنا الرحمن الرحيم وأنا مالك يوم الدين، فما دمت في هذه الحياة الدنيا لا أخليك عن أقسام رحمتي وأنواع نعمتي وإذا مت فأنا مالك يوم الدين، لا أضيع عملاً من أعمالك، فإن أتيتني بالخير قابلت الخير الواحد بما لا نهاية له من الخيرات، وإن أتيتني بالمعصية قابلتها بالصفح والإحسان والمغفرة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 150 | 151 | 152 | 153 | 154 | 155 | 156 | 157 | 158 | 159 | 160 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ثم لما قرر أمر الربوبية بهذا الطريق أمره بثلاثة أشياء: أولها: مقام الشريعة، وهو أن يواظب على الأعمال الظاهرة، وهو قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وثانيها: مقام الطريقة، وهو أن يحاول السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فيرى عالم الشهادة كالمسخر لعالم الغيب، فيعلم أنه لا يتيسر له شيء من الأعمال الظاهرة إلا بمدد يصل إليه من عالم الغيب، وهو قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وثالثها: أنه يشاهد عالم الشهادة معزولاً بالكلية، ويكون الأمر كله لله، وحينئذٍ يقول: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }. ثم إن ههنا دقيقة، وهي أن الروح الواحد يكون أضعف قوة من الأرواح الكثيرة المجتمعة على تحصيل مطلوب واحد، فحينئذٍ علم العبد أن روحه وحده لا يكفي في طلب هذا المقصود، فعند هذا أدخل روحه في زمرة الأرواح المقدسة المطهرة المتوجهة إلى طلب المكاشفات الروحانية والأنوار الربانية، حتى إذا اتصل بها وانخرط في سلكها صار الطلب أقوى والاستعداد أتم، فحينئذٍ يفوز في تلك الجمعية بما لا يقدر على الفوز به حال الوحدة، فلهذا قال: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }. ثم لما بين أن الاتصال بالأرواح المطهرة يوجب مزيد القوة والاستعداد بين أيضاً أن الاتصال بالأرواح الخبيثة يوجب الخيبة والخسران والخذلان والحرمان، فلهذا قال: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وهم الفساق { وَلاَ ٱلضَّالّينَ } وهم الكفار. ولما تمت هذه الدرجات الثلاث وكملت هذه المقامات الثلاثة ـ أعني الشريعة المدلول عليها بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، والطريقة المدلول عليها بقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، والحقيقة المدلول عليها بقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ـ ثم لما حصل الاستسعاد بالاتصال بأرباب الصفاء والاستكمال بسبب المباعدة عن أرباب الجفاء والشقاء، فعند هذا كملت المعارج البشرية والكمالات الإنسانية. المسألة الثالثة: في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة، اعلم أن الإنسان خلق محتاجاً إلى جر الخيرات واللذات، ودفع المكروهات والمخافات، ثم إن هذا العالم عالم الأسباب فلا يمكنه تحصيل الخيرات واللذات إلا بواسطة أسباب معينة، ولا يمكنه دفع الآفات والمخافات إلا بواسطة أسباب معينة، ولما كان جلب النفع ودفع الضرر محبوباً بالذات، وكان استقراء أحوال هذا العالم يدل على أنه لا يمكن تحصيل الخير ولا دفع الشر إلا بتلك الأسباب المعينة، ثم تقرر في العقول أن ما لا يمكن الوصول إلى المحبوب إلا بواسطته فهو محبوب ـ صار هذا المعنى سبباً لوقوع الحب الشديد لهذه الأسباب الظاهرة، وإذا علم أنه لا يمكنه الوصول إلى الخيرات واللذات إلا بواسطة خدمة الأمير والوزير والأعوان والأنصار بقي الإنسان متعلق القلب بهذه الأشياء، شديد الحب لها، عظيم الميل والرغبة إليها، ثم قد ثبت في العلوم الحكمية أن كثرة الأفعال سبب لحدوث الملكات الراسخة وثبت أيضاً أن حب التشبه غالب على طباع الخلق.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 160 | 161 | 162 | 163 | 164 | 165 | 166 | 167 | 168 | 169 | 170 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
أما الأول فكل من واظب على صناعة من الصنائع وحرفة من الحرف مدة مديدة صارت تلك الحرفة والصناعة ملكة راسخة قوية وكلما كانت المواظبة عليها أكثر كانت الملكة أقوى وأرسخ. وأما الثاني فهو أن الإنسان إذا جالس الفساق مال طبعه إلى الفسق، وما ذاك إلا لأن الأرواح جبلت على حب المحاكاة وإذا عرفت هذا فنقول: إنا بينا أن استقراء حال الدنيا يوجب تعلق القلب بهذه الأسباب الظاهرة التي بها يمكن التوسل إلى جر المنافع ودفع المضار، وبينا أنه كلما كانت مواظبة الإنسان عليها أكثر كان استحكام هذا الميل والطلب في قلبه أقوى وأثبت، وأيضاً فأكثر أهل الدنيا موصوفون بهذه الصفة مواظبون على هذه الحالة. وبينا أن النفوس مجبولة على حب المحاكاة وذلك أيضاً يوجب استحكام هذه الحالة. فقد ظهر بالبينات التي ذكرناها أن الأسباب الموجبة لحب الدنيا والمرغبة في التعلق بأسبابها كثيرة قوية شديدة جدًا ثم نقول: إنه إذا اتفق للإنسان هداية إلهية تهديه إلى سواء السبيل وقع في قلبه أن يتأمل في هذه الأسباب تأملاً شافياً وافياً فيقول: هذا الأمير المستولي على هذا العالم استولى على الدنيا بفرط قوته وكمال حكمته أم لا؟ الأول باطل، لأن ذلك الأمير ربما كان أكثر الناس عجزاً، وأقلهم عقلاً، فعند هذا، يظهر له أن تلك الأمارة والرياسة ما حصلت له بقوته، وما هيئت له بسبب حكمته، وإنما حصلت تلك الأمارة والرياسة لأجل قسمة قسام وقضاء حكيم علام لا دافع لحكمه ولا مرد لقضائه، ثم ينضم إلى هذا النوع من الاعتبار أنواع أخرى من الاعتبارات تعاضدها وتقويها، فعند حصول هذه المكاشفة ينقطع قلبه عن الأسباب الظاهرة، وينتقل منها إلى الرجوع في كل المهمات والمطلوبات إلى مسبب الأسباب ومفتح الأبواب، ثم إذا توالت هذه الاعتبارات وتواترت هذه المكاشفات صار الإنسان بحيث كلما وصل إليه نفع وخير قال هو النافع وكلما وصل إليه شر ومكروه قال: هو الضار، وعند هذا لا يحمد أحداً عى فعل إلا الله، ولا يتوجه قلبه في طلب أمر من الأمور إلا إلى الله، فيصير الحمد كله لله والثناء كله لله، فعند هذا يقول العبد { ٱلْحَمْدُ للَّهِ }.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 160 | 161 | 162 | 163 | 164 | 165 | 166 | 167 | 168 | 169 | 170 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أن الإستقراء المذكور يدل العبد على أن أحوال هذا العالم لا تنتظم إلا بتقدير الله، ثم يترقى من العالم الصغير إلى العالم الكبير فيعلم أنه لا تنتظم حالة من أحوال العالم الأكبر إلا بتقدير الله، وذلك هو قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } ثم إن العبد يتأمل في أحوال العالم الأعلى فيشاهد أن أحوال العالمين منظومة على الوصف الأتقن والترتيب الأقوم والكمال الأعلى والمنهج الأسنى فيرى الذرات ناطقة بالإقرار بكمال رحمته وفضله وإحسانه فعند ذلك يقول: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } فعند هذا يظهر للعبد أن جميع مصالحه في الدنيا إنما تهيأت برحمة الله وفضله وإحسانه، ثم يبقى العبد متعلق القلب بسبب أنه كيف يكون حاله بعد الموت فكأنه يقال: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } ليس إلا الذي عرفته بأنه هو الرحمن الرحيم، فحينئذٍ ينشرح صدر العبد وينفسح قلبه ويعلم أن المتكفل بإصلاح مهماته في الدنيا والآخرة ليس إلا الله، وحينئذٍ ينقطع التفاته عما سوى الله ولا يبقى متعلق القلب بغير الله، ثم إن العبد حين كان متعلق القلب بالأمير والوزير كان مشغولاً بخدمتهما، وبعد الفراغ من تلك الخدمة كان يستعين في تحصيل المهمات بهما وكان يطلب الخير منهما، فعند زوال ذلك التعلق يعلم أنه لما كان مشتغلاً بخدمة الأمير والوزير فلأن يشتغل بخدمة المعبود كان أولى، فعند هذا يقول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، والمعنى إني كنت قبل هذا أعبد غيرك، وأما الآن فلا أعبد أحداً سواك، ولما كان يستعين في تحصيل المهمات بالأمير والوزير فلأن يستعين بالمعبود الحق في تحصيل المرادات كان أولى، فيقول: وإياك نستعين والمعنى: إني كنت قبل هذا أستعين بغيرك وأما الآن فلا أستعين بأحد سواك، ولما كان يطلب المال والجاه اللذين هما على شفا حفرة الانقراض والانقضاء من الأمير والوزير فلأن يطلب الهداية والمعرفة من رب السماء والأرض أولى، فيقول: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، ثم إن أهل الدنيا فريقان: أحدهما: الذين لا يعبدون أحداً إلا الله ولا يستعينون إلا بالله ولا يطلبون الأغراض والمقاصد إلا من الله، والفرقة الثانية، الذين يخدمون الخلق ويستعينوا بهم ويطلبون الخير منهم، فلا جرم العبد يقول: إلهي اجعلني في زمرة الفرقة الأولى، وهم الذين أنعمت عليهم بهذه الأنوار الربانية والجلايا النورانية، ولا تجعلني في زمرة الفرقة الثانية وهم المغضوب عليهم والضالون، فإن متابعة هذه الفرقة لا تفيد إلا الخسار والهلاك كما قال إبراهيم عليه السلام: لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئاً؟ والله أعلم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 160 | 161 | 162 | 163 | 164 | 165 | 166 | 167 | 168 | 169 | 170 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الباب الرابع في المسائل الفقهية المستنبطة من هذه السورة فقه الفاتحة: المسألة الأولى: أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبة في الصلاة، وعن الأصم والحسن بن صالح أنها لا تجب. لنا أن كل دليل نذكره في بيان أن قراءة الفاتحة واجبة فهو يدل على أن أصل القراءة واجب وتزيد ههنا وجوهًا: ـ الأول: قوله تعالى:**{ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ وَقُرْءانَ ٱلْفَجْرِ }** [الإسراء: 78] والمراد بالقرآن القراءة، والتقدير: أقم قراءة الفجر، وظاهر الأمر للوجوب. الثاني: عن أبي الدرداء أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفي الصلاة قراءة فقال: **" نعم "** فقال السائل: وجبت، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل على قوله وجبت. الثالث: عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيقرأ في الصلاة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: **" أتكون صلاة بغير قراءة، "** وهذان الخبران نقلتهما من «تعليق الشيخ أبي حامد الإسفرايني». حجة الأصم قوله عليه الصلاة والسلام: **" صلوا كما رأيتموني أصلي "** جعل الصلاة من الأشياء المرئية، والقراءة ليست بمرئية، فوجب كونها خارجة عن الصلاة، والجواب أن الرؤية إذا كانت متعدية إلى مفعولين كانت بمعنى العلم. المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله: قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة، فإن ترك منها حرفاً واحداً وهو يحسنها لم تصح صلاته، وبه قال الأكثرون، وقال أبو حنيفة لا تجب قراءة الفاتحة. لنا وجوه: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة في الصلاة فوجب أن يجب علينا ذلك، لقوله تعالى: { وَٱتَّبِعُوهُ } ولقوله:**{ فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ }** [النور: 63] ولقوله تعالى:**{ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ }** [آل عمران: 31] ويا للعجب من أبي حنيفة أنه تمسك في وجوب مسح الناصية بخبر واحد، وذلك ما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه، في أنه عليه الصلاة والسلام مسح على الناصية، فجعل ذلك القدر من المسح شرطاً لصحة الصلاة، وههنا نقل أهل العلم نقلاً متواتراً أنه عليه الصلاة والسلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة ثم قال: إن صحة الصلاة غير موقوفة عليها، وهذا من العجائب. الحجة الثانية: قوله تعالى: { وأَقِيمُواْ الصلاة } والصلاة لفظة مفردة محلاة بالألف واللام فيكون المراد منها المعهود السابق، وليس عند المسلمين معهود سابق من لفظ الصلاة إلا الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها: وإذا كان كذلك كان قوله: «أقيموا الصلاة» جارياً مجرى قوله: «أقيموا الصلاة التي كان يأتي بها الرسول، والتي أتى بها الرسول عليه الصلاة والسلام هي الصلاة المشتملة على الفاتحة، فيكون قوله: { أقيمواٱلصَّلَوٰةِ } أمراً بقراءة الفاتحة وظاهر الأمر الوجوب، ثم إن هذه اللفظة تكررت في القرآن أكثر من مائة مرة فكان ذلك دليلاً قاطعاً على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 160 | 161 | 162 | 163 | 164 | 165 | 166 | 167 | 168 | 169 | 170 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحجة الثالثة: أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها طول عمرهم، ويدل عليه أيضاً ما روى في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، وإذا ثبت هذا وجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: **" عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي "** ولقوله عليه الصلاة والسلام: **" اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "** والعجب من أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تمسك في مسألة طلاق الفار بأثر عثمان مع أن عبد الرحمن وعبد الله بن الزبير كانا يخالفانه ونص القرآن أيضاً يوجب عدم الإرث، فلم لم يتمسك بعمل كل الصحابة على سبيل الأطباق والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة مع أن هذا القول على وفق القرآن والأخبار والمعقول؟. الحجة الرابعة: أن الأمة وإن اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا لكنهم اتفقوا عليه في العمل، فإنك لا ترى أحداً من المسلمين في المشرق والمغرب إلا ويقرأ الفاتحة في الصلاة، إذا ثبت هذا فنقول: إن من صلى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين فيدخل تحت قوله:**{ وَمَن يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً }** [النساء: 115] فإن قالوا إن الذين اعتقدوا أنه لا يجب قراءتها قرءوها لا على اعتقاد الوجوب، بل على اعتقاد الندبية فلم يحصل الإجماع على وجوب قراءتها، فنقول: أعمال الجوارح غير أعمال القلوب، ونحن قد بينا إطباق الكل على الإتيان بالقراءة، فمن لم يأتِ بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العمل، فدخل تحت الوعيد، وهذا القدر يكفينا في الدليل، ولا حاجة بنا في تقرير هذا الدليل إلى ادعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب. الحجة الخامسة: الحديث المشهور، وهو أنه سبحانه وتعالى قال: **" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين "** فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى: حمدني عبدي، إلى آخر الحديث، وجه الاستدلال أنه تعالى حكم على كل صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين ثم بين أن هذا التنصيف لم يحصل إلا بسبب آيات هذه السورة، فنقول: الصلاة لا تنفك عن هذا التنصيف، وهذا التنصيف لا يحصل إلا بسبب هذه السورة، ولازم اللازم لازم، فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة، وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة. الحجة السادسة: قوله عليه الصلاة والسلام:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 160 | 161 | 162 | 163 | 164 | 165 | 166 | 167 | 168 | 169 | 170 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "** قالوا: حرف النفي دخل على الصلاة، وذلك غير ممكن، فلا بدّ من صرفه إلى حكم من أحكام الصلاة، وليس صرفه إلى الصحة أولى من صرفه إلى الكمال، والجواب من وجوه: الأول: أنه جاء في بعض الروايات: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وعلى هذه الرواية فالنفي ما دخل على الصلاة وإنما دخل على حصولها للرجل، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها، وخروجه عن عهدة للتكليف بسببها، وعلى هذا التقدير فإنه يمكن إجراء النفي على ظاهره، الثاني: من اعتقد أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة فعند عدم قراءة الفاتحة لا توجد ماهية الصلاة لأن الماهية يمتنع حصولها حال عدم بعض أجزائها، وإذا ثبت هذا فقولهم إنه لا يمكن إدخال حرف النفي على مسمى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفاتحة ليست جزأ من الصلاة، وهذا هو أول المسألة، فثبت أن على قولنا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره. الثالث: هب أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره، إلا أنهم أجمعوا على أنه متى تعذر العمل بالحقيقة وحصل للحقيقة مجازان: أحدهما: أقرب إلى الحقيقة. والثاني: أبعد فإنه يجب حمل اللفظ على المجاز الأقرب، إذا ثبت هذا فنقول: المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحاً أتم من المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي يكون صحيحاً لكنه لا يكون كاملاً، فكان حمل اللفظ على نفي الصحة أولى. الوجه الرابع: أن الحمل على نفي الصحة أولى لوجوه: أحدها: أن الأصل إبقاء ما كان على ما كان، والثاني: أن جانب الحرمة راجح، والثالث: أن هذا أحوط. الحجة السابعة: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، غير تمام، "** قالوا: الخداج هو النقصان، وذلك لا يدل على عدم الجواز، قلنا: بل هذا يدل على عدم الجواز لأن التكليف بالصلاة قائم، والأصل في الثابت البقاء، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصلاة على صفة الكمال، فعند الإتيان بها على سبيل النقصان وجب أن لا نخرج عن العهدة، والذي يقوي هذا أن عند أبي حنيفة يصح الصوم في يوم العيد إلا أنه لو صام يوم العيد قضاء عن رمضان لم يصح، قال: لأن الواجب عليه هو الصوم الكامل، والصوم في هذا اليوم ناقص، فوجب أن لا يفيد هذا القضاء الخروج عن العهدة، وإذا ثبت هذا فنقول: فلم لم يقل بمثل هذا الكلام في هذا المقام. الحجة الثامنة: نقل الشيخ أبو حامد في «تعليقه» عن ابن المنذر أنه روى بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 160 | 161 | 162 | 163 | 164 | 165 | 166 | 167 | 168 | 169 | 170 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ".** والحجة التاسعة: روى رفاعة بن مالك أن رجلاً دخل المسجد وصلى، فلما فرغ من صلاته وذكر الخبر إلى أن قال الرجل: علمني الصلاة يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: **" إذا توجهت إلى القبلة فكبر، واقرأ بفاتحة الكتاب "** وجه الدليل أن هذا أمر، والأمر للوجوب، وأيضاً الرجل قال: علمني الصلاة، فكل ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم وجب أن يكون من الصلاة، فلما ذكر قراءة الفاتحة وجب أن تكون قراءة الفاتحة جزءاً من أجزاء الصلاة. الحجة العاشرة: روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: **" ألا أخبركم بسورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها»، قالوا: نعم، قال: «فما تقرؤن في صلاتكم؟» قالوا: الحمد لله رب العالمين، فقال: «هي هي»، "** وجه الدليل أنه عليه الصلاة والسلام لما قال: ما تقرؤن في صلاتكم فقالوا: الحمد لله، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عند الصحابة أنه لا يصلي أحد إلا بهذه السورة، فكان هذا إجماعاً معلوماً عندهم. الحجة الحادية عشرة: التمسك بقوله تعالى:**{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ }** [المزمل: 20] وجه الدليل أن قوله «فاقرؤا» أمر، والأمر للوجوب، فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة، فنقول: المراد بما تيسر من القرآن إما أن يكون هو الفاتحة أو غير الفاتحة، أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها والأول: يقتضي أن تكون الفاتحة بعينها واجبة، وهو المطلوب، والثاني: يقتضي أن تكون قراءة غير الفاتحة واجبة علينا، وهو باطل بالإجماع، والثالث: يقتضي أن يكون المكلف مخيراً بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها، وذلك باطل بالإجماع، لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها، وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص، والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز. واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين فهي متيسرة للكل، وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون، وحينئذٍ لا تكون متيسرة للكل. الحجة الثانية عشرة: الأمر بالصلاة كان ثابتاً، والأصل في الثابت البقاء، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بها للصلاة المشتملة على قراءة الفاتحة، لأن الأخبار دالة على أن سورة الفاتحة أفضل من سائر السور، ولأن المسلمين أطبقوا على أن الصلاة مع قراءة هذه السورة أكمل من الصلاة الخالية عن قراءة هذه السورة، فعند عدم قراءة هذه السورة وجب البقاء على الأصل. الحجة الثالثة عشرة: قراءة الفاتحة توجب الخروج عن العهدة باليقين، فكانت أحوط فوجب القول بوجوبها للنص والمعقول، أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 160 | 161 | 162 | 163 | 164 | 165 | 166 | 167 | 168 | 169 | 170 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "** ، وأما المعقول فهو أنه يفيد دفع ضرر الخوف عن النفس، ودفع الضرر عن النفس واجب فإن قالوا: فلو اعتقدنا الوجوب لاحتمل كوننا مخطئين فيه، فيبقى الخوف، قلت: اعتقاد الوجوب يورث الخوف المحتمل، واعتقاد عدم الوجوب يورثه أيضاً فيتقابل هذان الضرران، وأما في العمل فإن القراءة لا توجب الخوف، أما تركه فيفيد الخوف، فثبت أن الأحوط هو العمل. الحجة الرابعة عشرة: لو كانت الصلاة بغير الفاتحة جائزة وكانت الصلاة بالفاتحة جائزة لما كانت الصلاة بالفاتحة أولى لأن المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز، لكنهم أجمعوا على أن الصلاة بهذه السورة أولى، فثبت أن الصلاة بغير هذه السورة غير جائزة. الحجة الخامسة عشرة: أجمعنا على أنه لا يجوز إبدال الركوع والسجود بغيرهما، فوجب أن لا يجوز إبدال قراءة الفاتحة بغيرها، والجامع رعاية الاحتياط. الحجة السادسة عشرة: الأصل بقاء التكليف، فالقول بأن الصلاة بدون قراءة الفاتحة تقتضي الخروج عن العهدة، أما أن يعرف بالنص أو القياس، أما الأول فباطل، لأن النص الذي يتمسكون به هو قوله تعالى:**{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ }** [المزمل: 20] وقد بينا أنه دليلنا، وأما القياس فباطل، لأن التعبدات غالبة على الصلاة، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس. الحجة السابعة عشرة: لما ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام واظب على القراءة طول عمره فحينئذٍ تكون قراءة غير الفاتحة ابتداعاً وتركاً للاتباع وذلك حرام لقوله عليه الصلاة والسلام: **" اتبعوا ولا تبتدعوا "** ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: **" وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها ".** الحجة الثامنة عشرة: الصلاة مع الفاتحة وبدون الفاتحة إما أن يتساويا في الفضيلة أو الصلاة مع الفاتحة أفضل، والأول باطل بالإجماع لأنه عليه الصلاة والسلام واظب على الصلاة بالفاتحة، فتعين الثاني، فنقول: الصلاة بدون الفاتحة توجب فوات الفضيلة الزائدة من غير جابر فوجب أن لا يجوز المصير إليه، لأنه قبيح في العرف فيكون قبيحاً في الشرع. واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى:**{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ }** [المزمل: 20] وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج، وأنادي: **" لا صلاة إلا بقراءة، ولو بفاتحة الكتاب ".** والجواب عن الأول: أنا بينا أن هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا، وذلك لأن قوله**{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ }** [المزمل: 20] أمر، والأمر للوجوب، فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة فنقول: المراد بما تيسر من القرآن إما أن يكون هو الفاتحة، أو غير الفاتحة أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها، والأول: يقتضي أن يكون الفاتحة بعينها واجبة، وهو المطلوب، والثاني: يقتضي أن يكون قراءة غير الفاتحة واجبة بعينها، وهو باطل بالإجماع والثالث: يقتضي أن يكون المكلف مخيراً بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها، وذلك باطل بالإجماع لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها، وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 160 | 161 | 162 | 163 | 164 | 165 | 166 | 167 | 168 | 169 | 170 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين، فهي متيسرة للكل، وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون، وحينئذٍ لا تكون متيسرة للكل. وعن الثاني: أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وأيضاً لم لا يجوز أن يقال: المراد من قوله لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب هو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى؟ وإذا ثبت التعارض فالترجيح معنا لأنه أحوط، ولأنه أفضل، والله أعلم. المسألة الثالثة: لما كان قول أبي حنيفة وأصحابه أن قراءة الفاتحة غير واجبة لا جرم اختلفوا في مقدار القراءة، فقال أبو حنيفة: إذا قرأ آية واحدة كفت، مثل قوله: ألم، وحم والطور، ومدهامتان، وقال أبو يوسف ومحمد: لا بدّ من قراءة ثلاث آيات قصار أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين. المسألة الرابعة: قال الشافعي رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم آية من أول سورة الفاتحة، وتجب قراءتها مع الفاتحة، وقال مالك والأوزاعي رضي الله تعالى عنهما: إنه ليس من القرآن إلا في سورة النمل، ولا يقرأ لا سراً، ولا جهراً إلا في قيام شهر رمضان فإنه يقرؤها وأما أبو حنيفة فلم ينص عليه، وإنما قال: يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ويسر بها، ولم يقل إنها آية من أول السورة أم لا، قال يعلى: سألت محمد بن الحسن عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال: ما بين الدفتين قرآن، قال: قلت: فلم تسره؟ قال: فلم يجبني، وقال الكرخي لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدمي أصحابنا، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة، وقال بعض فقهاء الحنفية: تورع أبو حنيفة وأصحابه عن الوقوع في هذه المسألة لأن الخوض في إثبات أن التسمية من القرآن أو ليست منه أمر عظيم، فالأولى السكوت عنه. واعلم أن هذه المسألة تشتمل على ثلاث مسائل: إحداها: أن هذه المسألة هل هي مسألة اجتهادية حتى يجوز الاستدلال فيها بالظواهر وأخبار الآحاد، أو ليست من المسائل الاجتهادية بل هي من المسائل القطعية. وثانيتها: أن بتقدير أنها من المسائل الاجتهادية فما الحق فيها؟.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 160 | 161 | 162 | 163 | 164 | 165 | 166 | 167 | 168 | 169 | 170 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وثالثتها: الكلام في أنها تقرأ بالإعلان أو بالإسرار، فلنتكلم في هذه المسائل الثلاث. المسألة الخامسة: في تقرير أن هذه المسألة ليست من المسائل القطعية، وزعم القاضي أبو بكر أنها من المسائل القطعية، قال: والخطأ فيها إن لم يبلغ إلى حد التكفير فلا أقل من التفسيق، واحتج عليه بأن التسمية لو كانت من القرآن لكان طريق إثباته إما التواتر أو الآحاد والأول باطل، لأنه لو ثبت بالتواتر كون التسمية من القرآن لحصل العلم الضروري بأنها من القرآن، ولو كانت كذلك لامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمة. والثاني: أيضاً باطل لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، فلو جعلناه طريقاً إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية ولصار ذلك ظنياً، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض في أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف، وذلك يبطل الإسلام. واعلم أن الشيخ الغزالي عارض القاضي فقال: نفى كون التسمية من القرآن إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف، وإن ثبت بالآحاد فحينئذٍ يصير القرآن ظنياً، ثم أورد على نفسه سؤالاً وهو أنه لو قال قائل: «ليس من القرآن عدم» فلا حاجة في إثبات هذا العدم إلى النقل لأن الأصل هو العدم، وأما قولنا: أنه قرآن فهو ثبوت فلا بدّ فيه من النقل، ثم أجاب عنه بأن قال: هذا وإن كان عدماً إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهم كونها من القرآن، فههنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بدليل منفصل، وحينئذٍ يعود التقسيم المذكور من أن الطريق إما أن يكون تواتراً أو آحاداً، فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه، فهذا آخر ما قيل في هذا الباب. والذي عندي فيه أن النقل المتواتر ثابت بأن بسم الله الرحمن الرحيم كلام أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وبأنه مثبت في المصحف بخط القرآن وعند هذا ظهر أنه لم يبق لقولنا أنه من القرآن أو ليس من القرآن فائدة إلا أنه حصل فيها أحكام شرعية هي من خواص القرآن مثل أنه هل يجب قراءتها في الصلاة أم لا، وهل يجوز للجنب قراءتها أم لا وهل يجوز للمحدث مسها أم لا، ومعلوم أن هذه الأحكام اجتهادية، فلما رجع حاصل قولنا إن التسمية هل هي من القرآن إلى ثبوت هذه الأحكام وعدمها، وثبت أن ثبوت هذه الأحكام وعدمها أمور اجتهادية ظهر أن البحث اجتهادي لا قطعي، وسقط تهويل القاضي. المسألة السادسة: في بيان أن التسمية هل هي من القرآن وأنها آية من الفاتحة، قال قراء المدينة والبصرة وفقهاء الكوفة إنها ليست من الفاتحة، وقال قراء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز إنها آية من الفاتحة، وهو قول ابن المبارك والثوري، ويدل عليه وجوه: الحجة الأولى: روى الشافعي رضي الله عنه عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة أنها قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد بسم الله الرحمن الرحيم آية، الحمد لله رب العالمين آية، الرحمن الرحيم آية، مالك يوم الدين آية، إياك نعبد وإياك نستعين آية، إهدنا الصراط المستقيم آية، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الظالمين آية، وهذا نص صريح.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 160 | 161 | 162 | 163 | 164 | 165 | 166 | 167 | 168 | 169 | 170 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحجة الثانية: روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم. الحجة الثالثة: روى الثعلبي في «تفسيره» بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري، فقلت بلى، فقال: بأي شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصلاة؟ قلت: ببسم الله الرحمن الرحيم، قال: هي هي، فهذا الحديث يدل على أن التسمية من القرآن ".** الحجة الرابعة: روى الثعلبي بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة، قال: أقول الحمد لله رب العالمين، قال: قل: بسم الله الرحمن الرحيم. وروي أيضاً بإسناده عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. وروي أيضاً بإسناده عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وكان يقول: من ترك قراءتها فقد نقص. وروي أيضاً بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله:**{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِى }** [الحجر: 87] قال: فاتحة الكتاب، فقيل لابن عباس: فأين السابعة؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. وبإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا قرأتم أم القرآن فلا تدعوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها إحدى آياتها. وبإسناده أيضاً عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: **" قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم قال الله سبحانه مجدني عبدي، وإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله تبارك وتعالى حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله عزّ وجلّ أثنى علي عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين قال الله فوض إلي عبدي، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال إهدنا الصراط المستقيم قال الله تعالى هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 170 | 171 | 172 | 173 | 174 | 175 | 176 | 177 | 178 | 179 | 180 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وبإسناده عن أبي هريرة قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ دخل رجل يصلي، فافتتح الصلاة وتعوذ، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال له: يا رجل، قطعت على نفسك الصلاة أما علمت أن بسم الله الرحمن الرحيم من الحمد، من تركها فقد ترك آية منها، ومن ترك آية منها فقد قطع صلاته، فإنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، فمن ترك آية منها فقد بطلت صلاته. وبإسناده عن طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب الله "** واعلم أني نقلت جملة هذه الأحاديث من تفسير الشيخ أبي إسحاق الثعلبي رحمه الله. الحجة الخامسة: قراءة بسم الله الرحمن الرحيم واجبة في أول الفاتحة وإذا كان كذلك وجب أن تكون آية منها، بيان الأول قوله تعالى:**{ إقرأ باسم ربك }** [العلق: 1] ولا يجوز أن يقال: الباء صلة زائدة، لأن الأصل أن يكون لكل حرف من كلام الله تعالى فائدة، وإذا كان هذا الحرف مفيداً كان التقدير إقرأ مفتتحاً باسم ربك، وظاهر الأمر للوجوب ولم يثبت هذا الوجوب في غير القراءة في الصلاة، فوجب إثباته في القراءة في الصلاة صوناً للنص عن التعطيل. الحجة السادسة: التسمية مكتوبة بخط القرآن، وكل ما ليس من القرآن فإنه غير مكتوب بخط القرآن، ألا ترى أنهم منعوا من كتابة أسامي السور في المصحف، ومنعوا من العلامات على الأعشار والأخماس، والغرض من ذلك كله أن يمنعوا من أن يختلط بالقرآن ما ليس منه فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كتبوها بخط القرآن، ولما أجمعوا على كتبها بخط القرآن، ولما أجمعوا على كتبها بخط القرآن علمنا أنها من القرآن. الحجة السابعة: أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام الله والتسمية موجودة بين الدفتين، فوجب جعلها من كلام الله تعالى، ولهذا السبب حكينا أن يعلى لما أورد هذا الكلام على محمد بن الحسن بقي ساكتاً. واعلم أن مذهب أبي بكر الرازي أن التسمية من القرآن ولكنها ليست آية من سورة الفاتحة، بل المقصود من تنزيلها إظهار الفصل بين السور، وهذان الدليلان لا يبطلان قول أبي بكر الرازي. الحجة الثامنة: أطبق الأكثرون على أن سورة الفاتحة سبع آيات إلا أن الشافعي رضي الله تعالى عنه، قال: قوله بسم الله الرحمن الرحيم آية واحدة، وقوله صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية واحدة، وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإنه قال: بسم الله ليس بآية منها، لكن قوله صراط الذين أنعمت عليهم آية، وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية أخرى وسنبين في مسألة مفردة أن قول أبي حنيفة مرجوح ضعيف، فحينئذٍ يبقى أن الآيات لا تكون سبعاً إلا إذا اعتقدنا أن قوله بسم الله الرحمن الرحيم آية منها تامة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 170 | 171 | 172 | 173 | 174 | 175 | 176 | 177 | 178 | 179 | 180 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحجة التاسعة: أن نقول: قراءة التسمية قبل الفاتحة واجبة، فوجب أن تكون آية منها بيان الأول أن أبا حنيفة يسلم أن قراءتها أفضل، وإذا كان كذلك فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها فوجب أن يجب علينا قراءتها لقوله تعالى: { وَٱتَّبِعُوهُ } وإذا ثبت وجوب قراءتها ثبت أنها من السورة لأنه لا قائل بالفرق. الحجة العاشرة: قوله عليه السلام: **" كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر "** أو أجذم وأعظم الأعمال بعد الإيمان بالله الصلاة، فقراءة الفاتحة فيها بدون قراءة بسم الله يوجب كون هذه الصلاة بتراء، ولفظ الأبتر يدل على غاية النقصان والخلل، بدليل أنه تعالى ذكره في معرض الذم للكافر الذي كان عدواً للرسول عليه السلام فقال:**{ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ }** [الكوثر: 3] فلزم أن يقال: الصلاة الخالية عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم تكون في غاية النقصان والخلل وكل من أقر بهذا الخلل النقصان قال بفساد هذه الصلاة، وذلك يدل على أنها من الفاتحة وأنه يجب قراءتها. الحجة الحادية عشرة: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: **" ما أعظم آية في كتاب الله تعالى؟ "** فقال: بسم الله الرحمن الرحيم فصدقه النبي عليه السلام في قوله. وجه الاستدلال أن هذا الكلام يدل على أن هذا القدر آية، ومعلوم أنها ليست آية تامة في قوله:**{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }** [النمل: 30] بل هذا بعض آية، فلا بدّ وأن يكون آية تامة في غير هذا الموضع، وكل من قال بذلك قال إنه آية تامة في أول سورة الفاتحة. الحجة الثانية عشرة: إن معاوية قدم المدينة فصلى بالناس صلاة يجهر فيها فقرأ أم القرآن ولم يقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } ، فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين استفتحت القرآن؟ فأعاد معاوية الصلاة وقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } ، وهذا الخبر يدل على إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أنه من القرآن ومن الفاتحة، وعلى أن الأولى الجهر بقراءتها. الحجة الثالثة عشرة: أن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا عند الشروع في أعمال الخير يبتدئون بذكر بسم الله، فوجب أن يجب على رسولنا صلى الله عليه وسلم ذلك، وإذا ثبت هذا الوجوب في حق الرسول ثبت أيضاً في حقنا، وإذا ثبت الوجوب في حقنا ثبت أنه آية من سورة الفاتحة، أما المقدمة الأولى: فالدليل عليها أن نوحاً عليه السلام لما أراد ركوب السفينة قال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 170 | 171 | 172 | 173 | 174 | 175 | 176 | 177 | 178 | 179 | 180 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا }** [هود: 41] وأن سليمان لما كتب إلى بلقيس كتب بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قالوا: أليس أن قوله تعالى:**{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }** [النمل: 30] يدل على أن سليمان قدم اسم نفسه على اسم الله تعالى؟ قلنا: معاذ الله أن يكون الأمر كذلك، وذلك لأن الطير أتى بكتاب سليمان ووضعه على صدر بلقيس، وكانت المرأة في بيت لا يقدر أحد على الدخول فيه لكثرة من أحاط بذلك البيت من العساكر والحفظة، فعلمت بلقيس أن ذلك الطير هو الذي أتى بذلك الكتاب، وكانت قد سمعت باسم سليمان، فلما أخذت الكتاب قالت هي من عند نفسها: إنه من سليمان، فلما فتحت الكتاب رأت التسمية مكتوبة فقالت: { وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }. فثبت أن الأنبياء عليهم السلام كلما شرعوا في عمل من أعمال الخير ابتدؤا بذكر بسم الله الرحمن الرحيم، والمقدمة الثانية: أنه لما ثبت هذا في حق سائر الأنبياء وجب أن يجب على رسولنا ذلك، لقوله تعالى:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ }** [الأنعام: 90] وإذا ثبت ذلك في حق الرسول وجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى: { وَٱتَّبِعُوهُ } وإذا ثبت وجوب قراءته علينا ثبت أنه آية من الفاتحة، لأنه لا قائل بالفرق. الحجة الرابعة عشرة: أنه تعالى متقدم بالوجود على وجود سائر الموجودات لأنه تعالى قديم وخالق وغيره محدث ومخلوق، والقديم الخالق يجب أن يكون سابقاً على المحدث المخلوق، وإذا ثبت أنه تعالى سابق على غيره وجب بحكم المناسبة العقلية أن يكون ذكره سابقاً على ذكر غيره، وهذا السبق في الذكر لا يحصل إلا إذا كان قراءة بسم الله الرحمن الرحيم سابقة على سائر الأذكار والقراءات، وإذا ثبت أن القول بوجوب هذا التقدم حسن في العقول وجب أن يكون معتبراً في الشرع لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وإذا ثبت وجوب القراءة ثبت أيضاً أنها آية من الفاتحة، لأنه لا قائل بالفرق. الحجة الخامسة عشرة: أن بسم الله الرحمن الرحيم لا شك أنه من القرآن في سورة النمل ثم إنا نراه مكرراً بخط القرآن، فوجب أن يكون من القرآن كما أنا لما رأينا قوله تعالى:**{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ }** [الرحمن: 13] وقوله تعالى:**{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ }** [المرسلات: 10] مكرراً في القرآن بخط واحد وصورة واحدة، قلنا: إن الكل من القرآن.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 170 | 171 | 172 | 173 | 174 | 175 | 176 | 177 | 178 | 179 | 180 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحجة السادسة عشرة: روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب في أول الأمر على رسم قريش «باسمك اللهم» حتى نزل قوله تعالى:**{ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا }** [هود: 41] فكتب «بسم الله» فنزل قوله:**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ }** [الإسراء: 110] فكتب «بسم الله الرحمن» فلما نزل قوله تعالى**{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }** [النحل: 30] كتب مثلها، وجه الاستدلال أن أجزاء هذه الكلمة كلها من القرآن، ومجموعها من القرآن، ثم إنه ثبت في القرآن فوجب الجزم بأنه من القرآن، إذ لو جاز إخراجه من القرآن مع هذه الموجبات الكثيرة ومع الشهرة لجاز إخراج سائر الآيات كذلك، وذلك يوجب الطعن في القرآن. الحجة السابعة عشرة: قد بينا أنه ثبت بالتواتر أن الله تعالى كان ينزل هذه الكلمة على محمد عليه الصلاة والسلام وكان يأمر بكتبه بخط المصحف، وبينا أن حاصل الخلاف في أنه هل هو من القرآن فرجع إلى أحكام مخصوصة مثل أنه هل يجب قراءته، وهل يجوز للجنب قراءته، وللمحدث مسه؟ فنقول: ثبوت هذه الأحكام أحوط فوجب المصير إليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: دع ما يريبك إلا ما لا يريبك. واحتج المخالف بأشياء: الأول: تعلقوا بخبر أبي هريرة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله تعالى مجدني عبدي، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي والاستدلال بهذا الخبر من وجهين: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر التسمية، ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها، والثاني: أنه تعالى قال: جعلت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، والمراد من الصلاة الفاتحة وهذا التنصيف إنما يحصل إذا قلنا إن التسمية ليست آية من الفاتحة، لأن الفاتحة سبع آيات فيجب أن يكون فيها لله ثلاث آيات ونصف وهي من قوله الحمد لله إلى قوله إياك نعبد ـ وللعبد ثلاث آيات ونصف ـ وهي من قوله وإياك نستعين إلى آخر السورة ـ أما إذا جعلنا بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة حصل لله أربع آيات ونصف، وللعبد آيتان ونصف، وذلك يبطل التنصيف المذكور. الحجة الثانية: روت عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وهذا يدل على أن التسمية ليست آية من الفاتحة. الحجة الثالثة: لو كان قوله بسم الله الرحمن الرحيم آية من هذه السورة: لزم التكرار في قوله الرحمن الرحيم، وذلك بخلاف الدليل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 170 | 171 | 172 | 173 | 174 | 175 | 176 | 177 | 178 | 179 | 180 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والجواب عن الحجة الأولى من وجوه: الأول: أنا نقلنا أن الشيخ أبا إسحق الثعلبي روى بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا الحديث عد بسم الله الرحمن الرحيم آية تامة من سورة الفاتحة، ولما تعارضت الروايتان فالترجيح معنا، لأن رواية الإثبات مقدمة على رواية النفي. الثاني: روى أبو داود السختياني عن النخعي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وإذا قال العبد مالك يوم الدين يقول الله تعالى مجدني عبدي وهو بيني وبين عبدي، إذا عرفت هذا فنقول: قوله في مالك يوم الدين هذا بيني وبين عبدي، يعني في القسمة، وإنما يكون كذلك إذا حصلت ثلاثة قبلها وثلاثة بعدها، وإنما يحصل ثلاثة قبلها لو كانت التسمية آية من الفاتحة فصار هذا الخبر حجة لنا من هذا الوجه. الثالث: أن لفظ النصف كما يحتمل النصف في عدد الآيات فهو أيضاً يحتمل النصف في المعنى، قال عليه الصلاة والسلام: الفرائض نصف العلم، وسماه بالنصف من حيث أنه بحث عن أحوال الأموات، والموت والحياة قسمان، وقال شريح: أصبحت ونصف الناس علي غضبان، سماه نصفاً من حيث إن بعضهم راضون وبعضهم ساخطون، الرابع: إن دلائلنا في أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة صريحة، وهذا الخبر الذي تمكسوا به ليس المقصود منه بيان أن بسم الله الرحمن الرحيم هل هي من الفاتحة أم لا، لكن المقصود منه بيان شيء آخر، فكانت دلائلنا أقوى وأظهر. الخامس: أنا بينا أن قولنا أقرب إلى الاحتياط. والجواب عن حجتهم الثانية ما قال الشافعي فقال: لعل عائشة جعلت الحمد لله رب العالمين اسماً لهذه السورة، كما يقال: قرأ فلان «الحمد لله الذي خلق السموات» والمراد أنه قرأ هذه السورة، فكذا ههنا، وتمام الجواب عن خبر أنس سيأتي بعد ذلك. والجواب عن الحجة الثالثة أن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن، وتأكيد كون الله تعالى رحماناً رحيماً من أعظم المهمات، والله أعلم. المسألة السابعة: في بيان عدد آيات هذه السورة، رأيت في بعض الروايات الشاذة أن الحسن البصري كان يقول: هذه السورة ثمانِ آيات، فأما الرواية المشهورة التي أطبق الأكثرون عليها أن هذه السورة سبع آيات، وبه فسروا قوله تعالى:**{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي }** [الحجر: 87] إذا ثبت هذا فنقول: الذين قالوا إن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة قالوا إن قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } آية تامة، وأما أبو حنيفة فإنه لما أسقط التسمية من السورة لا جرم قال قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } آية، وقوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } آية أخرى، إذا عرفت هذا فنقول: الذي قاله الشافعي أولى، ويدل عليه وجوه: الأول: أن مقاطع قوله صراط الذين أنعمت عليهم لا يشابه مقطع الآيات المتقدمة ورعاية التشابه في المقاطع لازم لأنا وجدنا مقطاع القرآن على ضربين متقاربة ومتشاكلة فالمتقاربة كما في سورة «قۤ» والمتشاكلة كما في سورة القمر، وقوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ليس من القسمين، فامتنع جعله من المقاطع.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 170 | 171 | 172 | 173 | 174 | 175 | 176 | 177 | 178 | 179 | 180 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثاني: أنا إذا جعلنا قوله غير المغضوب عليهم ابتداء آية فقد جعلنا أول الآية لفظ غير، وهذا اللفظ إما أن يكون صفة لما قبله أو استثناء عما قبله، والصفة مع الموصوف كالشيء الواحد، وكذلك الاستثناء مع المستنثى منه كالشيء الواحد وإيقاع الفصل بينهما على خلاف الدليل، إما إذا جعلنا قوله صراط الذين أنعمت عليهم إلى آخر السورة آية واحدة، كنا قد جعلنا الموصوف مع الصفة والمستثنى مع المستثنى منه كلاماً واحداً وآية واحدة، وذلك أقرب إلى الدليل. الثالث: أن المبدل منه في حكم المحذوف، فيكون تقدير الآية إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم لكن طلب الاهتداء بصراط من أنعم الله عليهم لا يجوز إلا بشرطين: أن يكون ذلك المنعم عليه غير مغضوب عليه، ولا ضالاً، فإنا لو أسقطنا هذا الشرط لم يجز الاهتداء به، والدليل عليه قوله تعالى:**{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْرًا }** [إبراهيم: 28] وهذا يدل على أنه قد أنعم عليهم إلا أنهم لما صاروا من زمرة المغضوب عليهم ومن زمرة الضالين لا جرم لم يجز الاهتداء بهم، فثبت أنه لا يجوز فصل قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } عن قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } بل هذا المجموع كلام واحد، فوجب القول بأنه آية واحدة، فإن قالوا: أليس أن قوله الحمد لله رب العالمين آية واحدة، وقوله الرحمن الرحيم آية ثانية، ومع أن هذه الآية غير مستقلة بنفسها، بل هي متعلقة بما قبلها؟ قلنا: الفرق أن قوله الحمد لله رب العالمين كلام تام بدون قوله الرحمن الرحيم، فلا جرم لم يمتنع أن يكون مجرد قوله الحمد لله رب العالمين آية تامة، ولا كذلك هذا، لما بينا أن مجرد قوله إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ليس كلاماً تاماً، بل ما لم يضم إليه قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين لم يصح قوله إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم، فظهر الفرق. المسألة الثامنة: ذكر بعض أصحابنا قولين للشافعي في أن بسم الله الرحمن الرحيم هل هي آية من أوائل سائر السور أم لا: أما المحققون من الأصحاب فقد اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السور، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من أول كل سورة أو هي وما بعدها آية، وقال بعض الحنفية إن الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة لأن أحدًا ممن قبله لم يقل إن بسم الله آية من أوائل سائر السور، ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخط القرآن فوجب كونه قرآناً، واحتج المخالف بما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سورة الملك: إنها ثلاثون آية، وفي سورة الكوثر: إنها ثلاث آيات، ثم أجمعوا على أن هذا العدد حاصل بدون التسمية، فوجب أن لا تكون التسمية آية من هذه السور، والجواب أنا إذا قلنا بسم الله الرحمن الرحيم مع ما بعده آية واحدة فهذا الإشكال زائل، فإن قالوا: لما اعترفتم بأنها آية تامة من أول الفاتحة فكيف يمكنكم أن تقولوا إنها بعض آية من سائر السور؟ قلنا: هذا غير بعيد، ألا ترى أن قوله الحمد لله رب العالمين آية تامة، ثم صار مجموع قوله:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 170 | 171 | 172 | 173 | 174 | 175 | 176 | 177 | 178 | 179 | 180 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }** [يونس: 10] آية واحدة: فكذا ههنا وأيضاً فقوله سورة الكوثر ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات، وأما التسمية فهي كالشيء المشترك فيه بين جميع السور، فسقط هذا السؤال. الجهر بالبسملة في الصلاة: المسألة التاسعة: يروى عن أحمد بن حنبل أنه قال: التسمية آية من الفاتحة إلا أنه يسر بها في كل ركعة، وأما الشافعي فإنه قال: إنها آية منها ويجهر بها، وقال أبو حنيفة: ليست آية من الفاتحة إلا أنها يسر بها في كل ركعة ولا يجهر بها أيضاً، فنقول: الجهر بها سنّة، ويدل عليه وجوه وحجج. الحجة الأولى: قد دللنا على أن التسمية آية من الفاتحة، وإذا ثبت هذا فنقول: الاستقراء دل على أن السورة الواحدة إما أن تكون بتمامها سرية أو جهرية، فأما أن يكون بعضها سرياً وبعضها جهرياً فهذا مفقود في جميع السور وإذا ثبت هذا كان الجهر بالتسمية مشروعاً في القراءة الجهرية. الحجة الثانية: أن قوله بسم الله الرحمن الرحيم لا شك أنه ثناء على الله وذكر له بالتعظيم فوجب أن يكون الإعلان به مشروعاً لقوله تعالى:**{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }** [البقرة: 200] ومعلوم أن الإنسان إذا كان مفتخراً بأبيه غير مستنكف منه فإنه يعلن بذكره ويبالغ في إظهاره أما إذا أخفى ذكره أو أسره دل ذلك على كونه مستنكفاً منه، فإذا كان المفتخر بأبيه يبالغ في الإعلان والإظهار وجب أن يكون إعلان ذكر الله أولى عملاً بقوله:**{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }** [البقرة: 200]. الحجة الثالثة: هي أن الجهر بذكر الله يدل على كونه مفتخراً بذلك الذكر غير مبالٍ بإنكار من ينكره، ولا شك أن هذا مستحسن في العقل، فيكون في الشرع كذلك لقوله عليه السلام:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 170 | 171 | 172 | 173 | 174 | 175 | 176 | 177 | 178 | 179 | 180 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن "** ومما يقوي هذا الكلام أيضاً أن الإخفاء والسر لا يليق إلا بما يكون فيه عيب ونقصان فيخفيه الرجل ويسره، لئلا ينكشف ذلك العيب. أما الذي يفيد أعظم أنواع الفخر والفضيلة والمنقبة فكيف يليق بالعقل إخفائه؟ ومعلوم أنه لا منقبة للعبد أعلى وأكمل من كونه ذاكراً لله بالتعظيم، ولهذا قال عليه السلام: **" طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر الله "** وكان علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: يا من ذكرُه شرف للذاكرين. ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه؟ ولهذا السبب نقل أن علياً رضي الله عنه كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات، وأقول إن هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول ألبتة بسبب كلمات المخالفين. الحجة الرابعة: ما رواه الشافعي بإسناده، أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم، ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار. يا معاوية، سرقت منا الصلاة، أين بسم الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير عند الركوع والسجود؟ ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير، قال الشافعي: إن معاوية كان سلطاناً عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أن الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين و الأنصار وإلا لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية. الحجة الخامسة: روى البيهقي في «السنن الكبير» عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم إن الشيخ البيهقي روى الجهر عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأما أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى، والدليل عليه قوله عليه السلام: اللهم أدر الحق مع علي حيث دار. الحجة السادسة: إن قوله بسم الله الرحمن الرحيم يتعلق بفعل لا بدّ من إضماره، والتقدير بإعانة اسم الله اشرعوا في الطاعات، أو ما يجري مجرى هذا المضمر، ولا شك أن استماع هذه الكلمة ينبه العقل على أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، وينبه العقل على أنه لا يتم شيء من الخيرات والبركات إلا إذا وقع الابتداء فيه بذكر الله، ومن المعلوم أن المقصود من جميع العبادات والطاعات حصول هذه المعاني في العقول، فإذا كان استماع هذه الكلمة يفيد هذه الخيرات الرفيعة والبركات العالية دخل هذا القائل تحت قوله:**{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 170 | 171 | 172 | 173 | 174 | 175 | 176 | 177 | 178 | 179 | 180 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[آل عمران: 110] لأن هذا القائل بسبب إظهار هذه الكلمة أمر بما هو أحسن أنواع الأمر بالمعروف، وهو الرجوع إلى الله بالكلية والاستعانة بالله في كل الخيرات، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل أن يقول إنه بدعة. واحتج المخالف بوجوه وحجج: الحجة الأولى: روى البخاري بإسناده عن أنس أنه قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان، وكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، وروى مسلم هذا الخبر في صحيحه، وفيه أنهم لا يذكرون «بسم الله الرحمن الرحيم» وفي رواية أخرى «ولم أسمع أحداً منهم قال بسم الله الرحمن الرحيم» وفي رواية رابعة «فلم يجهر أحد منهم ببسم الله الرحمن الرحيم». الحجة الثانية: ما روى عبد الله بن المغفل أنه قال: سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال: يا بني إياك والحدث في الإسلام، فقد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر، وخلف عمر، وعثمان، فابتدؤا القراءة بالحمد لله رب العالمين، فإذا صليت فقل: الحمد لله رب العالمين، وأقول: إن أنساً وابن المغفل خصصا عدم ذكر بسم الله الرحمن الرحيم بالخلفاء الثلاثة، ولم يذكرا علياً، وذلك يدل على إطباق الكل على أن علياً كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. الحجة الثالثة: قوله تعالى:**{ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً }** [الأعراف: 55]**{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً }** [الأعراف: 205] وبسم الله الرحمن الرحيم ذكر الله، فوجب إخفاؤه، وهذه الحجة استنبطها الفقهاء واعتمادهم على الكلامين الأولين. والجواب عن خبر أنس من وجوه: الأول: قال الشيخ أبو حامد الإسفرايني: روى عن أنس في هذا الباب ست روايات، أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات: إحداها: قوله صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين. وثانيتها قوله: أنهم ما كانوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم. وثالثتها قوله: لم أسمع أحداً منهم قال بسم الله الرحمن الرحيم، فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية، وثلاث أخرى تناقض قولهم: إحداها: ما ذكرنا أن أنسًا روى أن معاوية لما ترك بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار، وقد بينا أن هذا يدل على أن الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم. وثانيتها: روى أبو قلابة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. وثالثتها: أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به فقال: لا أدري هذه المسألة فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب، فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل، وأيضاً ففيها تهمة أخرى، وهي أن علياً عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر، سعياً في إبطال آثار علي عليه السلام، فلعل أنساً خاف منهم فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه، ونحن وإن شككنا في شيء فإنا لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمره فإن الأخذ بقول علي أولى، فهذا جواب قاطع في المسألة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 170 | 171 | 172 | 173 | 174 | 175 | 176 | 177 | 178 | 179 | 180 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ثم نقول: هب أنه حصل التعارض بين دلائلكم ودلائلنا، إلا أن الترجيح معنا، وبيانه من وجوه: الأول: أن راوي أخباركم أنس وابن المغفل، وراوي قولنا علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة، وهؤلاء كانوا أكثر علماً وقرباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنس وابن المغفل. والثاني: أن مذهب أبي حنيفة أن خبر الواحد إذا ورد على خلاف القياس لم يقبل، ولهذا السبب فإنه لم يقبل خبر المصراة مع أنه لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأن القياس يخالفه إذا ثبت هذا فنقول قد بينا أن صريح العقل ناطق بإن إظهار هذه الكلمة أولى من إخفائها، فلأي سبب رجح قول أنس وقول ابن المغفل على هذا البيان الجلي البديهي؟ والثالث: أن من المعلوم بالضرورة أن النبي عليه السلام كان يقدم الأكابر على الأصاغر، والعلماء على غير العلماء، والأشراف على الأعراب، ولا شك أن علياً وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالاً في العلم والشرف وعلو الدرجة من أنس وابن المغفل، والغالب على الظن أن علياً وابن عباس وابن عمر كانوا يقفون بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أنس وابن المغفل يقفان بالعبد منه، وأيضاً أنه عليه السلام ما كان يبالغ في الجهر امتثالاً لقوله تعالى:**{ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }** [الإسراء: 110] وأيضاً فالإنسان أول ما يشرع في القراءة إنما يشرع فيها بصوت ضعيف ثم لا يزال يقوى صوته ساعة فساعة، فهذه أسباب ظاهرة في أن يكون علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة سمعوا الجهر بالتسمية من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن أنساً وابن المغفل ما سمعاه. الرابع: قال الشافعي: لعل المراد من قول أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين أنه كان يقدم هذه السورة في القراءة على غيرها من السور فقوله الحمد لله رب العالمين المراد منه تمام هذه فجعل هذه اللفظة اسماً لهذه السورة. الخامس: لعل المراد، من عدم الجهر في حديث ابن المغفل عدم المبالغة في رفع الصوت، كما قال تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 180 | 181 | 182 | 183 | 184 | 185 | 186 | 187 | 188 | 189 | 190 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }** [الإسراء: 110]. السادس: الجهر كيفية ثبوتية، والإخفاء كيفية عدمية، والرواية المثبتة أولى من النافية. السابع: أن الدلائل العقلية موافقة لنا، وعمل علي بن أبي طالب عليه السلام معنا، ومن اتخذ علياً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه. وأما التمسك بقوله تعالى:**{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً }** [الأعراف: 205] فالجواب أنا نحمل ذلك على مجرد الذكر، أما قوله بسم الله الرحمن الرحيم فالمراد منه قراءة كلام الله تعالى على سبيل العبادة والخضوع، فكان الجهر به أولى. المسألة العاشرة: في تفاريع التسمية وفيه فروع: فروع أحكام التسمية: الفرع الأول: قالت الشيعة: السنّة هي الجهر بالتسمية، سواء كانت في الصلاة الجهرية أو السرية، وجمهور الفقهاء يخالفونهم فيه. الفرع الثاني: الذين قالوا التسمية ليست آية من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المصحف في أول كل سورة وفيه قولان: الأول: أن التسمية ليست من القرآن، وهؤلاء فريقان: منهم من قال إنها كتبت للفصل بين السور، وهذا الفصل قد صار الآن معلوماً فلا حاجة إلى إثبات التسمية، فعلى هذا لو لم تكتب لجاز، ومنهم من قال: إنه يجب إثباتها في المصاحف، ولا يجوز تركها أبداً. والقول الثاني: أنها من القرآن، وقد أنزلها الله تعالى، ولكنها آية مستقلة بنفسها، وليست آية من السورة، وهؤلاء أيضاً فريقان: منهم من قال: إن الله تعالى كان ينزلها في أول كل سورة على حدة ومنهم من قال: لا، بل أنزلها مرة واحدة، وأمر بإثباتها في أول كل سورة، والذي يدل على أن الله تعالى أنزلها، وعلى أنها من القرآن ما روي عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد بسم الله الرحمن الرحيم آية فاصلة، وعن إبراهيم بن يزيد قال: قلت لعمرو بن دينار: أن الفضل الرقاشي يزعم أن بسم الله الرحمن الرحيم ليس من القرآن، فقال: سبحان الله ما أجرأ هذا الرجلٰ سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عباس يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم علم أن تلك السورة قد ختمت وفتح غيرها، وعن عبد الله بن المبارك أنه قال: من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية، وروي مثله عن ابن عمر، وأبي هريرة. الفرع الثالث: القائلون بأن التسمية آية من الفاتحة وأن الفاتحة يجب قراءتها في الصلاة لا شك أنهم يوجبون قراءة التسمية أما الذين لا يقولون به فقد اختلفوا، فقال أبو حنيفة وأتباعه والحسن بن صالح بن جنّي وسفيان الثوري وابن أبي ليلى: يقرأ التسمية سراً، وقال مالك: لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سراً ولا جهراً، وأما في النافلة فإن شاء قرأها وإن شاء ترك.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 180 | 181 | 182 | 183 | 184 | 185 | 186 | 187 | 188 | 189 | 190 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفرع الرابع: مذهب الشافعي يقتضي وجوب قراءتها في كل الركعات، أما أبو حنيفة فعنه روايتان روى يعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقرأها في كل ركعة قبل الفاتحة، وروى أبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد ثلاثتهم جميعاً عن أبي حنيفة، أنه قال: إذا قرأها في أول ركعة عند ابتداء القراءة لم يكن عليه أن يقرأها في تلك الصلاة حتى يفرغ منها، قال: وإن قرأها مع كل سورة فحسن. الفرع الخامس: ظاهر قول أبي حنيفة أنه لما قرأ التسمية في أول الفاتحة فإنه لا يعيدها في أوائل سائر السور، وعند الشافعي أن الأفضل إعادتها في أول كل سورة، لقوله عليه السلام كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر. الفرع السادس: اختلفوا في أنه هل يجوز للحائض والجنب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ والصحيح عندنا أنه لا يجوز. الفرع السابع: أجمع العلماء على أن تسمية الله على الوضوء مندوبة، وعامة العلماء على أنها غير واجبة لقوله صلى الله عليه وسلم: **" توضأ كما أمرك الله به "** ، والتسمية غير مذكورة في آية الوضوء، وقال أهل الظاهر إنها واجبة فلو تركها عمداً أو سهوًا لم تصح صلاته، وقال إسحق إن تركها عامداً لم يجز، وإن تركها ساهياً جاز. الفرع الثامن: متروك التسمية عند التذكية هل يحل أكله أم لا؟ المسألة في غاية الشهرة قال الله تعالى:**{ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ }** [الحج: 36] وقال تعالى:**{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ }** [الأنعام: 121]. الفرع التاسع: أجمع العلماء على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال وإلا ويقول «بسم الله» فإذا نام قال: «بسم الله» وإذا قام من مقامه قال: «بسم الله» وإذا قصد العبادة قال: «بسم الله» وإذا دخل الدار قال: «بسم الله» أو خرج منها قال: «بسم الله» وإذا أكل أو شرب أو أخذ أو أعطى قال: «بسم الله» ويستحب للقابلة إذا أخذت الولد من الأم أن تقول: «بسم الله» وهذا أول أحواله من الدنيا وإذا مات وأدخل القبر قيل: «بسم الله» وهذا آخر أحواله من الدنيا وإذا قام من القبر قال أيضاً: «بسم الله» وإذا حضر الموقف قال: «بسم الله» فتتباعد عنه النار ببركة قوله: «بسم الله». ترجمة القرآن: المسألة الحادية عشرة: قال الشافعي: ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها، وقال أبو حنيفة: أنها كافية في حق القادر والعاجز وقال أبو يوسف ومحمد: أنها كافية في حق العاجز وغير كافية في حق القادر، واعلم أن مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة بعيد جداً ولهذا السبب فإن الفقيه أبا الليث السمرقندي والقاضي أبا زيد الدبوسي صرحا بتركه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 180 | 181 | 182 | 183 | 184 | 185 | 186 | 187 | 188 | 189 | 190 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
لنا حجج ووجوه: الحجة الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم إنما صلى بالقرآن المنزل من عند الله تعالى باللفظ العربي، وواظب عليه طول عمره، فوجب أن يجب علينا مثله، لقوله تعالى: { فَٱتَّبَعُوهُ } والعجب أنه احتج بأنه عليه السلام مسح على ناصيته مرة على كونه شرطاً في صحة الوضوء ولم يلتفت إلى مواظبته طول عمره على قراءة القرآن باللسان العربي. الحجة الثانية: أن الخلفاء الراشدين صلوا بالقرآن العربي، فوجب أن يجب علينا ذلك، لقوله عليه السلام: **" اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر "** ، ولقوله عليه السلام: **" عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ "** الحجة الثالثة: أن الرسول وجميع الصحابة ما قرؤا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي، فوجب أن يجب علينا ذلك، لقوله عليه السلام: **" ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة "** قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: **" ما أنا عليه وأصحابي "** وجه الدليل أنه عليه السلام هو وجميع أصحابه كانوا متفقين على القراءة في الصلاة بهذا القرآن العربي، فوجب أن يكون القارىء بالفارسية من أهل النار. الحجة الرابعة: أن أهل ديار الإسلام مطبقون بالكلية على قراءة القرآن في الصلاة كما أنزل الله تعالى، فمن عدل عن هذا الطريق دخل قوله تعالى:**{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }** [النساء: 115]. الحجة الخامسة: أن الرجل أمر بقراءة القرآن في الصلاة، ومن قرأ بالفارسية لم يقرأ القرآن، فوجب أن لا يخرج عن العهدة، إنما قولنا إنه أمر بقراءة القرآن لقوله تعالى:**{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ }** [المزمل: 20] ولقوله عليه السلام للإعرابي: **" ثم إقرأ بما تيسر معك من القرآن "** وإنما قلنا إن الكلام المرتب بالفارسية ليس بقرآن لوجوه: الأول: قوله تعالى:**{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }** [الشعراء: 192] إلى قوله:**{ بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ }** [الشعراء: 195] الثاني: قوله تعالى:**{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ }** [إبراهيم: 4] الثالث: قوله تعالى:**{ وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ قُرْءاناً أعْجَمِيّاً }** [فصلت: 44] وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره وهذا يدل على أنه تعالى ما جعله قرآناً أعجمياً، فيلزم أن يقال: أن كل ما كان أعجمياً فهو ليس بقرآن. الرابع: قوله تعالى:**{ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }** [الإسراء: 88] فهذا الكلام المنظوم بالفارسية: إما أن يقال إنه عين الكلام العربي أو مثله، أو لا عينه ولا مثله، والأول معلوم البطلان بالضرورة، والثاني باطل، إذ لو كان هذا النظم الفارسي مثلاً لذلك الكلام العربي لكان الآتي به آتياً بمثل القرآن، وذلك يوجب تكذيب الله سبحانه في قوله: { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } ولما ثبت أن هذا الكلام المنظوم بالفارسية ليس عين القرآن ولا مثله ثبت أن قارئه لم يكن قارئاً للقرآن، وهو المطلوب، فثبت أن المكلف أمر بقراءة ولم يأتِ به، فوجب أن يبقى في العهدة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 180 | 181 | 182 | 183 | 184 | 185 | 186 | 187 | 188 | 189 | 190 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحجة السادسة: ما رواه ابن المنذر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تجزى صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فنقول: هذه الكلمات المنظومة بالفارسية إما أن يقول أبو حنيفة إنها قرآن أو يقول إنها ليست بقرآن، والأول جهل عظيم وخروج عن الإجماع، وبيانه من وجوه: الأول: أن أحداً من العقلاء لا يجوز في عقله ودينه أن يقول إن قول القائل دوستان در بهشت قرآن. الثاني: يلزم أن يكون القادر على ترجمة القرآن آتياً بقرآن مثل الأول وذلك باطل. الحجة السابعة: روى عبد الله بن أبي أوفى أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني لا أستطيع أن أحفظ القرآن كما يحسن في الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: **" قل سبحان الله والحمد لله إلى آخر هذا الذكر "** وجه الدليل أن الرجل لما سأله عما يجزئه في الصلاة عند العجز عن قراءة القرآن العربي أمره الرسول عليه السلام بالتسبيح، وذلك يبطل قول من يقول إنه يكفيه أن يقول دوستان دربهشت. الحجة الثامنة: يقال إن أول الإنجيل هو قوله بسم إلاهاً رحماناً ومرحياناً وهذا هو عين ترجمة بسم الله الرحمن الرحيم، فلو كانت ترجمة القرآن نفس القرآن لقالت النصارى إن هذا القرآن إنما أخذته من عين الإنجيل، ولما لم يقل أحد هذا علمنا أن ترجمة القرآن لا تكون قرآناً. الحجة التاسعة: أنا إذا ترجمنا قوله تعالى:**{ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ }** [الكهف: 19] كان ترجمته بفرستيديكي أزشما بانقره بشهربس بنكردكه كدام طعام بهترست ياره ازان بياورد، ومعلوم أن هذا الكلام من جنس كلام الناس لفظاً ومعنى فوجب أن لا تجوز الصلاة به، لقوله عليه الصلاة والسلام: **" إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس "** وإذا لم تنعقد الصلاة بترجمة هذه الآية فكذا بترجمة سائر الآيات، لأنه لا قائل بالفرق، وأيضاً فهذه الحجة جارية في ترجمة قوله تعالى:**{ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ }** [القلم: 11] إلى قوله:**{ عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ }** [القلم: 13] فإن ترجمتها لا تكون شتماً من جنس كلام الناس في اللفظ والمعنى، وكذلك قوله تعالى:**{ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا }** [البقرة: 61] فإن ترجمة هذه الآية تكون من جنس كلام الناس لفظاً ومعنى، وهذا بخلاف ما إذا قرأنا عين هذه الآيات بهذه الألفاظ لأنها بحسب تركيبها المعجز ونظمها البديع تمتاز عن كلام الناس والعجب من الخصوم أنهم قالوا: إنه لو ذكر في آخر التشهد دعاء يكون من جنس كلام الناس فسدت صلاته ثم قالوا: تصح الصلاة بترجمة هذه الآيات مع أن ترجمتها عين كلام الناس لفظاً ومعنى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 180 | 181 | 182 | 183 | 184 | 185 | 186 | 187 | 188 | 189 | 190 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحجة العاشرة: قوله عليه الصلاة والسلام: **" أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شافِ كافِ، "** ولو كا نت ترجمة القرآن بحسب كل لغة قرآناً لكان قد أنزل القرآن على أكثر من سبعة أحرف، لأن على مذهبهم قد حصل بحسب كل لغة قرآن على حدة، وحينئذٍ لا يصح حصر حروف القرآن في السبعة. الحجة الحادية عشرة: أن عند أبي حنيفة تصح الصلاة بجميع الآيات، ولا شك أنه قد حصل في التوراة آيات كثيرة مطابقة لما في القرآن من الثناء على الله ومن تعظيم أمر الآخرة وتقبيح الدنيا. فعلى قول الخصم تكون الصلاة صحيحة بقراءة الإنجيل والتوراة، وبقراءة زيد وإنسان، ولو أنه دخل الدنيا وعاش مائة سنة ولم يقرأ حرفاً من القرآن بل كان مواظباً على قراءة زيد وإنسان فإنه يلقى الله تعالى مطيعاً ومعلوم بالضرورة أن هذا الكلام لا يليق بدين المسلمين. الحجة الثانية عشرة: أنه لا ترجمة للفاتحة ألا نقول الثناء لله رب العالمين ورحمان المحتاجين والقادر على يوم الدين أنت المعبود وأنت المستعان إهدنا إلى طريق أهل العرفان لا إلى طريق أهل الخذلان، وإذا ثبت أن ترجمة الفاتحة ليست إلا هذا القدر أو ما يقرب منه فمعلوم أنه لا خطبة إلا وقد حصل فيها هذا القدر فوجب أن يقال الصلاة صحيحة بقراءة جميع الخطب، ولما كان باطلاً علمنا فساد هذا القول. الحجة الثالثة عشرة: لو كان هذا جائزاً لكان قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسي في أن يقرأ القرآن بالفارسية ويصلي بها، ولكان قد أذن لصهيب في أن يقرأ بالرومية، ولبلال في أن يقرأ بالحبشية ولو كان هذا الأمر مشروعاً لاشتهر جوازه في الخلق فإنه يعظم في أسماع أرباب اللغات بهذا الطريق، لأن ذلك يزيل عنهم أتعاب النفس في تعلم اللغة العربية، ويحصل لكل قوم فخر عظيم في أن يحصل لهم قرآن بلغتهم الخاصة، ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى اندراس القرآن بالكلية، وذلك لا يقوله مسلم. الحجة الرابعة عشرة: لو جازت الصلاة بالقراءة بالفارسية لما جازت بالقراءة بالعربية، وهذا جائز وذاك غير جائز، وبيان الملازمة أن الفارسي الذي لا يفهم من العربية شيئاً لم يفهم من القرآن شيئاً ألبتة، أما إذا قرأ القرآن بالفارسية فهم المعنى وأحاط بالمقصود وعرف ما فيه من الثناء على الله ومن الترغيب في الآخرة والتنفير عن الدنيا، ومعلوم أن المقصد الأقصى من إقامة الصلوات حصول هذه المعاني، قال تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 180 | 181 | 182 | 183 | 184 | 185 | 186 | 187 | 188 | 189 | 190 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ أقم ٱالصلاة لذكري }** [طه: 14] وقال تعالى:**{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }** [محمد: 24] فثبت أن قراءة الترجمة تفيد هذه الفوائد العظيمة، وقراءة القرآن باللفظ العربي تمنع من حصول هذه الفوائد، فلو كانت القراءة بالفارسي قائمة مقام القراءة بالعربية في الصحة ثم إن القراءة بالفارسية تفيد هذه الفوائد العظيمة والقراءة بالعربية مانعة منها لوجب أن تكون القراءة بالعربية محرمة، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن القراءة بالفارسية غير جائزة. الحجة الخامسة عشرة: المقتضى لبقاء الأمر بالصلاة قائم، والفارق ظاهر، أما المقتضى فلأن التكليف كان ثابتاً، والأصل في الثابت البقاء، وأما الفارق فهو أن القرآن العربي كما أنه يطلب قراءة لمعناه كذلك تطلب قراءته لأجل لفظه، وذلك من وجهين: الأول: إن الإعجاز في فصاحته وفصاحته في لفظه والثاني: أن توقيف صحة الصلاة على قراءة لفظه يوجب حفظ تلك الألفاظ، وكثرة الحفظ من الخلق العظيم يوجب بقاءه على وجه الدهر مصوناً عن التحريف، وذلك يوجب تحقيق ما وعد الله تعالى بقوله:**{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ }** [الحجر: 9] أما إذا قلنا إنه لا يتوقف صحة الصلاة على قراءة هذا النظم العربي فإنه يختل هذا المقصود، فثبت أن المقتضى قائم والفارق ظاهر. واحتج المخالف على صحة مذهبه بأنه أمر بقراءة القرآن، وقراءة الترجمة قراءة القرآن، ويدل عليه وجوه: الأول: روي أن عبد الله بن مسعود كان يعلم رجلاً القرآن فقال:**{ إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ طَعَامُ ٱلأَثِيمِ }** [الدخان: 43، 44] وكان الرجل عجمياً فكان يقول: طعام اليتيم: فقال: قل طعام الفاجر، ثم قال عبد الله إنه ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ مكان العليم الحكيم بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب الثاني: قوله تعالى:**{ وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ ٱلأَوَّلِينَ }** [الشعراء: 196] فأخبر أن القرآن في زبر الأولين وقال تعالى:**{ إِنَّ هَـٰذَا لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرٰهِيمَ وَمُوسَىٰ }** [الأعلى: 18، 19] ثم أجمعنا على أنه ما كان القرآن في زبر الأولين بهذا اللفظ لكن كان بالعبرانية والسريانية الثالث: أنه تعالى قال:**{ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـٰذَا القرآن لأنذركم به }** [الأنعام: 19] ثم إن العجم لا يفهمون اللفظ العربي إلا إذا ذكر تلك المعاني لهم بلسانهم، ثم أنه تعالى سماه قرآناً، فثبت أن هذا المنظوم بالفارسية قرآن. والجواب عن الأول أن نقول: إن أحوال هؤلاء عجيبة جداً، فإن ابن مسعود نقل عنه أنه كان يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولم ينقل عن أحد من الصحابة المبالغة في نصرة هذا المذهب كما نقل عن ابن مسعود، ثم أن الحنفية لا تلتفت إلى هذا، بل نقول: إن القائل به شاك في دينه، والشاك لا يكون مؤمناً، فإن كان قول ابن مسعود حجة فلم لم يقبلوا قوله في تلك المسألة؟ وإن لم يكن حجة فلم عول عليه في هذه المسألة؟ ولعمري هذه المناقضات عجيبة، وأيضاً فقد نقل عن ابن مسعود حذف المعوذتين وحذف الفاتحة عن القرآن ويجب علينا إحسان الظن به وأن نقول: أنه رجع عن هذه المذاهب، وأما قوله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 180 | 181 | 182 | 183 | 184 | 185 | 186 | 187 | 188 | 189 | 190 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ ٱلأَوَّلِينَ }** [الشعراء: 196] فالمعنى أن هذه القصص موجودة في زبر الأولين، وقوله تعالى: { لأِنذِرَكُمْ } فالمعنى لأنذركم معناه، وهذا القدر القليل من المجاز يجوز تحمله لأجل الدلائل القاهرة القاطعة التي ذكرناها. المسألة الثانية عشرة: قال الشافعي في القول الجديد تجب القراءة على المقتدي سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها، وقال في القديم: تجب القراءة إذا أسر الإمام، ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وابن المبارك وقال أبو حنيفة تكره القراءة خلف الإمام بكل حال، ولنا وجوه: الحجة الأولى: قوله تعالى:**{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ }** [المزمل: 20] وهذا الأمر يتناول المنفرد والمأموم. الحجة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصلاة فيجب علينا ذلك لقوله تعالى: { فَٱتَّبَعُوهُ } إلا أن يقال: إن كونه مأموماً يمنع منه إلا أنه معارضة. الحجة الثالثة: أنا بينا أن قوله تعالى: { وأقيموا الصلاة } أمر بمجموع الأفعال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها، ومن جملة تلك الأفعال قراءة الفاتحة، فكان قوله: { أَقِيمُواْ الصلاة } يدخل فيه الأمر بقراءة الفاتحة. الحجة الرابعة: قوله عليه السلام: **" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "** وقد ثبت تقرير وجه الدليل. فإن قالوا: هذا الخبر مخصوص بحال الانفراد لأنه روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلِ، إلا أن يكون وراء الإمام، قلنا: هذا الحديث طعنوا فيه. الحجة الخامسة: قوله عليه الصلاة والسلام للأَعرابي الذي علمه أعمال الصلاة: **" ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن "** وهذا يتناول المنفرد والمأموم. الحجة السادسة: روى أبو عيسى الترمذي في «جامعة» بإسناده عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قرأ النبي عليه الصلاة والسلام في الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: **" مالي أراكم تقرؤن خلف إمامكم "** قلنا: أي والله، قال: **" لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها "** قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن. الحجة السابعة: روى مالك في «الموطأ »عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام "**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 180 | 181 | 182 | 183 | 184 | 185 | 186 | 187 | 188 | 189 | 190 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
قال: فقلت يا أبا هريرة، إني أكون أحياناً خلف الإمام، قال: إقرأ بها يا فارسي في نفسك، والاستدلال بهذا الخبر من وجهين: الأول: أن صلاة المقتدي بدون القراءة مبرأة عن الخداج عند الخصم، وهو على خلاف النص الثاني: أن السائل أورد الصلاة خلف الإمام على أبي هريرة بوجوب القراءة عليه في هذه الحالة، وذلك يؤيد المطلوب. الحجة الثامنة: روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" إن الله تعالى يقول: «قسمت الصة بيني وبين عبدي نصفين "** بين أن التنصيف إنما يحصل بسبب القراءة، فوجب أن تكون قراءة الفاتحة من لوازم الصلاة، وهذا التنصيف قائم في صلاة المنفرد وفي صلاة المقتدي. الحجة التاسعة: روى الدارقطني بإسناده عن عبادة بن الصامت قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه الكريم فقال: **" هل تقرؤن إذا جهرت بالقراءة؟ فقال بعضنا إنّا لنصنع ذلك، فقال: وأنا أقول مالي أنازع القرآن، لا تقرؤا شيئاً من القرآن إذا جهرت بقراءتي إلا أم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها. "** الحجة العاشرة: أن الأحاديث الكثيرة دالة على أن قراءة القرآن توجب الثواب العظيم وهي متناولة للمنفرد والمقتدى، فوجب أن تكون قراءتها في الصلاة خلف الإمام موجبة للثواب العظيم، وكل من قال بذلك قال بوجوب قراءتها. الحجة الحادية عشرة: وافق أبو حنيفة رضي الله عنه على أن القراءة خلف الإمام لا تبطل الصلاة، وأما عدم قراءتها فهو عندنا يبطل الصلاة، فثبت أن القراءة أحوط، فكانت واجبة لقوله عليه الصلاة والسلام: **" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ".** الحجة الثانية عشرة: إذا بقي المقتدى ساكتاً عن القراءة مع أنه لا يسمع قراءة الإمام بقي معطلاً، فوجب أن يكون حال القارىء أفضل منه، لقوله عليه الصلاة والسلام: **" أفضل الأعمال قراءة القرآن "** وإذا ثبت أن القراءة أفضل من السكوت في هذه الحالة ثبت القول بالوجوب، لأنه لا قائل بالفرق. الحجة الثالثة عشرة: لو كان الاقتداء مانعاً من القراءة لكان الاقتداء حراماً، لأن قراءة القرآن عبادة عظيمة، والمانع من العبادة الشريفة محرم، فيلزمه أن يكون الاقتداء حراماً، وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الاقتداء لا يمنع من القراءة. واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى:**{ وَإِذَا قُرِىء ٱلْقُرْءانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وأنصتوا }** [الأعراف: 204] واعلم أنا بينا في تفسير هذه الآية أنها لا تدل على قولهم، وبالغنا، فليطالع ذلك الموضع من هذا التفسير وأما الأخبار فقد ذكروا أخباراً كثيرة والشيخ أحمد البيهقي بين ضعفها، ثم نقول: هب أنها صحيحة، ولكن الأخبار لما تعارضت وكثرت فلا بدّ من الترجيح، وهو معنا من وجوه: الأول: أن قولنا يوجب الاشتغال بقراءة القرآن، وهو من أعظم الطاعات، وقولهم يوجب العطلة والسكوت عن ذكر الله ولا شك أن قولنا أولى: الثاني: أن قولنا أحوط الثالث: أن قولنا يوجب شغل جميع أجزاء الصلاة بالطاعات والأذكار الجميلة، وقولهم يوجب تعطيل الوقت عن الطاعة والذكر.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 180 | 181 | 182 | 183 | 184 | 185 | 186 | 187 | 188 | 189 | 190 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
المسألة الثالثة عشرة: قال الشافعي رضي الله عنه: قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة، فإن تركها في ركعة بطلت صلاته، قال الشيخ أبو حامد الإسفرايني: وهذا القول مجمع عليه بين الصحابة، قال به أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود. واعلم أن المذاهب في هذه المسألة ستة: أحدها: قول الأصم وابن علية، وهو أن القراءة غير واجبة أصلاً والثاني: قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن جني أن القرءة إنما تجب في ركعة واحدة، لقوله عليه الصلاة والسلام: **" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "** والاستثناء من النفي إثبات، فإذا حصلت قراءة الفاتحة في الصلاة مرة واحدة وجب القول بصحة الصلاة بحكم الاستثناء والثالث: قول أبي حنيفة، وهو أن القراءة في الركعتين الأولتين واجبة، وهو في الأخيرتين بالخيار، إن شاء قرأ، وإن شاء سبح، وإن شاء سكت، وذكر في كتاب «الاستحباب» أن القراءة واجبة في الركعتين من غير تعيين والرابع: نقل ابن الصباغ في كتاب «الشامل» عن سفيان أنه قال: تجب القراءة في الركعتين الأوليين وتكره في الأخريين والخامس: وهو قول مالك أن القراءة واجبة في أكثر الركعات، ولا تجب في جميعها، فإن كانت الصلاة أربع ركعات كفت القراءة في ثلاث ركعات، وإن كانت مغرباً كفت في ركعتين، وإن كانت صبحاً وجبت القراءة فيهما معاً والسادس: وهو قول الشافعي وهو أن القراءة واجبة في كل الركعات. ويدل على صحته وجوه: الحجة الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في كل الركعات فيجب علينا مثله، لقوله تعالى: { وَٱتَّبِعُوهُ }. الحجة الثانية: أن الأعرابي الذي علمه عليه الصلاة والسلام الصلاة أمره أن يقرأ بأم القرآن، ثم قال: وكذلك فافعل في كل ركعة، والأمر للوجوب، فإن قالوا قوله: «فافعل في كل ركعة» راجع إلى الأفعال لا إلى الأقوال، قلنا القول فعل اللسان فهو داخل في الأفعال. الحجة الثالثة: نقل الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتاب «الشامل» عن أبي سعيد الخدري أنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة فريضة كانت أو نافلة. الحجة الرابعة: القراءة في الركعات أحوط فوجب القول بوجوبها. الحجة الخامسة: أمر بالصلاة والأصل في الثابت البقاء، حكمنا بالخروج عن العهدة عند القراءة في كل الركعات لأجل أن هذه الصلاة أكمل، فعند عدم القراءة في الكل وجب أن يبقى في العهدة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 180 | 181 | 182 | 183 | 184 | 185 | 186 | 187 | 188 | 189 | 190 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واحتج المخالف بما روي عن عائشة أنها قالت: فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر، وإذا ثبت هذا فنقول: الركعتان الأوليان أصل والأخريان تبع، ومدار الأمر في التبع على التخفيف، ولهذا المعنى فإنه لا يقرأ السورة الزائدة فيهما، ولا يجهر بالقراءة فيهما. والجواب أن دلائلنا أكثر وأقوى، ومذهبنا أحوط، فكان أرجح. فروع على اشتراط الفاتحة في الصلاة: المسألة الرابعة عشرة: إذا ثبت أن قراءة الفاتحة شرط من شرائط الصلاة فله فروع: الفرع الأول: قد بينا أنه لو ترك قراءة الفاتحة أو ترك حرفاً من حروفها عمداً بطلت صلاته، أما لو تركها سهواً قال الشافعي في القديم لا تفسد صلاته، واحتج بما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: صلى بنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه المغرب فترك القراءة فلما انقضت الصلاة قيل له: تركت القراءة، قال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسناً، قال: فلا بأس، قال الشافعي: فلما وقعت هذه الواقعة بمحضر من الصحابة كان ذلك إجماعاً، ورجع الشافعي عنه في الجديد، وقال: تفسد صلاته لأن الدلائل المذكورة عامة في العمد والسهو، ثم أجاب عن قصة عمر من وجهين: الأول: أن الشعبي روى أن عمر رضي الله عنه أعاد الصلاة. والثاني: أنه لعله ترك الجهر بالقراءة لا نفس القراءة، قال الشافعي هذا هو الظن بعمر. الفرع الثاني: تجب الرعاية في ترتيب القراءة، فلو قرأ النصف الأخير ثم النصف الأول يحسب له الأول دون الأخير. الفرع الثالث: الرجل الذي لا يحسن تمام الفاتحة إما أن يحفظ بعضها، وإما أن لا يحفظ شيئاً منها، أما الأول: فإنه يقرأ تلك الآية ويقرأ معها ست آيات على الوجه الأقرب وأما الثاني ـ وهو أن لا يحفظ شيئاً من الفاتحة ـ فههنا إن حفظ شيئاً من القرآن لزمه قراءة ذلك المحفوظ، لقوله تعالى:**{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ }** [المزمل: 20] وإن لم يحفظ شيئاً من القرآن فههنا يلزمه أن يأتي بالذكر، وهو التكبير والتحميد، وقال أبو حنيفة لا يلزمه شيء، حجة الشافعي ما روى رفاعة بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ كما أمره الله، ثم يكبر، فإن كان معه شيء من القرآن فليقرأ، وإن لم يكن معه شيء من القرآن فليحمد الله وليكبر، بقي ههنا قسم واحد، وهو أن لا يحفظ الفاتحة ولا يحفظ شيئاً من القرآن ولا يحفظ أيضاً شيئاً من الأذكار العربية، وعندي أنه يؤمر بذكر الله تعالى بأي لسان قدر عليه تمسكاً بقوله عليه الصلاة والسلام:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 190 | 191 | 192 | 193 | 194 | 195 | 196 | 197 | 198 | 199 | 200 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".** المسألة الخامسة عشرة: نقل في الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة من القرآن، وكان ينكر كون المعوذتين من القرآن، واعلم أن هذا في غاية الصعوبة، لأنا إن قلنا إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بكون سورة الفاتحة من القرآن فحينئذٍ كان ابن مسعود عالماً بذلك فإنكاره يوجب الكفر أو نقصان العقل، وإن قلنا إن النقل المتواتر في هذا المعنى ما كان حاصلاً في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال إن نقل القرآن ليس بمتواتر في الأصل وذلك يخرج القرآن عن كونه حجة يقينية،والأغلب على الظن أن نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل كاذب باطل، وبه يحصل الخلاص عن هذه العقدة، وههنا آخر الكلام في المسائل الفقهية المفرعة على سورة الفاتحة،والله الهادي للصواب. الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، وفيه فصول: الفصل الأول تفسير «الحمد لله»: في تفسير قوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } وفيه وجوه: الأول: ههنا ألفاظ ثلاثة: الحمد، والمدح والشكر، فنقول: الفرق بين الحمد والمدح من وجوه: الأول: أن المدح قد يحصل للحي ولغير الحي، ألا ترى أن من رأى لؤلؤة في غاية الحسن أو ياقوتة في غاية الحسن فإنه قد يمدحها، ويستحيل أن يحمدها، فثبت أن المدح أعم من الحمد الوجه الثاني في الفرق: أن المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده، أما الحمد فإنه لا يكون إلا بعد الإحسان الوجه الثالث في الفرق: أن المدح قد يكون منهياً عنه، قال عليه الصلاة والسلام: **" احثوا التراب في وجوه المداحين "** أما الحمد فإنه مأمور به مطلقاً، قال صلى الله عليه وسلم: **" من لم يحمد الناس لم يحمد الله "** الوجه الرابع: أن المدح عبارة عن القول الدال على كونه مختصاً بنوع من أنواع الفضائل، وأما الحمد فهو القول الدال على كونه مختصاً بفضيلة معينة، وهي فضيلة الإنعام والإحسان فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد. وأما الفرق بين الحمد وبين الشكر فهو أن الحمد يعم ما إذا وصل ذلك الإنعام إليك أو إلى غيرك، وأما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك. إذا عرفت هذا فنقول: قد ذكرنا أن المدح حاصل للحي ولغير الحي، وللفاعل المختار ولغيره فلو قال المدح لله لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلاً مختاراً، أما لما قال الحمد لله فهو يدل على كونه مختاراً، فقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } يدل على كون هذا القائل مقراً بأن إله العالم ليس موجباً بالذات كما تقول الفلاسفة بل هو فاعل مختار وأيضاً فقوله الحمد لله أولى من قوله الشكر لله لأن قوله الحمد لله ثناء على الله بسبب كل إنعام صدر منه ووصل إلى غيره وأما الشكر لله فهو ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل، ولا شك أن الأول أفضل لأن التقدير كأن العبد يقول: سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين، وأنت مستحق للحمد العظيم، وقيل الحمد على ما دفع الله من البلاء، والشكر على ما أعطى من النعماء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 190 | 191 | 192 | 193 | 194 | 195 | 196 | 197 | 198 | 199 | 200 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فإن قيل: النعمة في الإعطاء أكثر من النعمة في دفع البلاء فلماذا ترك الأكثر وذكر الأقل قلنا في وجوه: الأول: كأنه يقول أنا شاكر لأدنى النعمتين فكيف لأعلاهما الثاني: المنع غير متناهٍ، والإعطاء متناهٍ، فكان الابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له أولى الثالث: أن دفع الضرر أهم من جلب النفع، فلهذا قدمه. الحمد لله أبلغ من أحمد الله: الفائدة الثانية: أنه تعالى لم يقل أحمد الله ولكن قال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } وهذه العبارة الثانية أولى لوجوه: أحدها: أنه لو قال أحمد الله أفاد ذلك كون ذلك القائل قادراً على حمده أما لما قال { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } فقد أفاد ذلك أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين، فهؤلاء سواء حمدوا أو لم يحمدوا وسواء شكروا أو لم يشكروا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم وثانيها: أن قولنا الحمد لله، معناه أن الحمد والثناء حق لله وملكه، فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد، فقولنا: الحمد لله معناه أن الحمد لله حق يستحقه لذاته ولو قال أحمد الله لم يدل ذلك على كونه مستحقاً للحمد لذاته ومعلوم أن اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصاً واحد حمده وثالثها: أنه لو قال أحمد الله لكان قد حمد لكن لا حمداً يليق به، وأما إذا قال الحمد لله فكأنه قال: من أنا حتى أحمده؟ لكنه محمود بجميع حمد الحامدين، مثاله ما لو سئلت: هل لفلان عليك نعمة؟ فإن قلت: نعم فقد حمدته ولكن حمداً ضعيفاً، ولو قلت في الجواب: بل نعمه على كل الخلائق، فقد حمدته بأكمل المحامد ورابعها: أن الحمد عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلاً منعماً مستحقاً للتعظيم والإجلال، فإذا تلفظ الإنسان بقوله أحمد الله مع أنه كان قلبه غافلاً عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذباً، لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامداً مع أنه ليس كذلك، أما إذا قال الحمد لله سواء كان غافلاً أو مستحضراً لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقاً لأن معناه أن الحمد حق لله وملكه، وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلاً بمعنى التعظيم والإجلال أو لم يكن، فثبت أن قوله الحمد لله أولى من قوله أحمد الله، ونظيره قولنا لا إله إلا الله فإنه لا يدخله التكذيب، بخلاف قولنا أشهد أن لا إله إلا الله لأنه قد يكون كاذباً في قوله أشهد، ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 190 | 191 | 192 | 193 | 194 | 195 | 196 | 197 | 198 | 199 | 200 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ }** [المنافقون: 1] ولهذا السر أمر في الأذان بقوله أشهد ثم وقع الختم على قوله لا إله إلا الله. معنى اللام في الحمد لله: الفائدة الثالثة: اللام في قوله الحمد لله يحتمل وجوهاً كثيرة: أحدها: الاختصاص اللائق كقولك الجل للفرس وثانيها: الملك كقولك الدار لزيد وثالثها: القدرة والاستيلاء كقولك البلد للسلطان، واللام في قولك الحمد لله يحتمل هذه الوجوه الثلاثة فإن حملته على الاختصاص اللائق فمن المعلوم أنه لا يليق الحمد إلا به لغاية جلاله وكثرة فضله وإحسانه، وإن حملته على الملك فمعلوم أنه تعالى مالك للكل فوجب أن يملك منهم كونهم مشتغلين بحمده، وإن حملته على الاستيلاء والقدرة فالحق سبحانه وتعالى كذلك لأنه واجب لذاته وما سواه ممكن لذاته والواجب لذاته مستولٍ على الممكن لذاته، فالحمد لله بمعنى أن الحمد لا يليق إلا به وبمعنى أن الحمد ملكه وملكه، وبمعنى أنه هو المستولي على الكل والمستعلي على الكل. الفائدة الرابعة: قوله الحمد لله ثمانية أحرف، وأبواب الجنة ثمانية، فمن قال هذه الثمانية عن صفاء قلبه استحق ثمانية أبواب الجنة. الفائدة الخامسة: الحمد لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف، وفيه قولان: الأول: أنه إن كان مسبوقاً بمعهود سابق انصرف إليه، وإلا يحمل على الاستغراق صوناً للكلام عن الإجمال والقول الثاني: أنه لا يفيد العموم إلا أنه يفيد الماهية والحقيقة فقط، إذا عرفت هذه فنقول: قوله الحمد لله إن قلنا بالقول الأول: أفاد أن كل ما كان حمداً وثناء فهو لله وحقه وملكه، وحينئذٍ يلزم أن يقال: إن ما سوى الله فإنه لا يستحق الحمد الثناء ألبتة، وإن قلنا بالقول الثاني: كان معناه أن ماهية الحمد حق الله تعالى وملك له، وذلك ينفي كون فرد من أفراد هذه الماهية لغير الله، فثبت على القولين أن قوله الحمد لله ينفي حصول الحمد لغير الله. فإن قيل: أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه، والأستاذ يستحق الحمد من التلميذ والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية، وقال عليه السلام: **" من لم يحمد الناس لم يحمد الله ".** قلنا: إن كل من أنعم على غيره بإنعام فالمنعم في الحقيقة هو الله تعالى، لأنه لولا أنه تعالى خلق تلك الداعية في قلب ذلك المنعم وإلا لم يقدم على ذلك الإنعام، ولولا أنه تعالى خلق تلك النعمة وسلط ذلك المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع لما حصل الانتفاع بتلك النعمة، فثبت أن المنعم في الحقيقة هو الله تعالى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 190 | 191 | 192 | 193 | 194 | 195 | 196 | 197 | 198 | 199 | 200 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفائدة السادسة: أن قوله الحمد لله كما دل على أنه لا محمود إلا الله، فكذلك العقل دل عليه، وبيانه من وجوه: الأول: أنه تعالى لو لم يخلق داعية الإنعام في قلب المنعم لم ينعم فيكون المنعم في الحقيقة هو الله الذي خلق تلك الداعية وثانيها: أن كل من أنعم على الغير فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضاً إما ثواباً أو ثناء أو تحصيل حق أو تخليصاً للنفس من خلق البخل، وطالب العوض لا يكون منعماً، فلا يكون مستحقاً للحمد في الحقيقة، أما الله سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته، والكامل لذاته لا يطلب الكمال، لأن تحصيل الحاصل محال، فكانت عطاياه جوداً محضاً وإحساناً محضاً، فلا جرم كان مستحقاً للحمد، فثبت أنه لا يستحق الحمد إلا الله تعالى وثالثها: أن كل نعمة فهي من الموجودات الممكنة الوجود، وكل ممكن الوجود فإنه وجد بإيجاد الحق إما ابتداء وإما بواسطة، ينتج أن كل نعمة فهي من الله تعالى ويؤكد ذلك بقوله تعالى:**{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ }** [النحل: 53] والحمد لا معنى له إلا الثناء على الإنعام فلما كان لا إنعام إلا من الله تعالى، وجب القطع بأن أحداً لا يستحق الحمد إلا الله تعالى ورابعها: النعمة لا تكون كاملة إلا عند اجتماع أمور ثلاثة: أحدها: أن تكون منفعة، والانتفاع بالشيء مشروط بكونه حياً مدركاً، وكونه حياً مدركاً لا يحصل إلا بإيجاد الله تعالى وثانيها: أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت خالية عن شوائب الضرر والغم، وإخلاء المنافع عن شوائب الضرر لا يحصل إلا من الله تعالى. وثالثها: أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت آمنة من خوف الانقطاع، وهذا الأمر لا يحصل إلا من الله تعالى، إذا ثبت هذا فالنعمة الكاملة لا تحصل إلا من الله تعالى، فوجب أن لا يستحق الحمد الكامل إلا الله تعالى، فثبت بهذه البراهين صحة قوله تعالى الحمد لله. الفائدة السابعة: قد عرفت أن الحمد عبارة عن مدح الغير بسبب كونه منعماً متفضلاً، وما لم يحصل شعور الإنسان بوصول النعمة إليه امتنع تكليفه بالحمد والشكر، إذا عرفت هذا فنقول: وجب كون الإنسان عاجزاً عن حمد الله وشكره ويدل عليه وجوه: الأول: أن نعم الله على الإنسان كثيرة لا يقوى عقل الإنسان على الوقوف عليها، كما قال تعالى:**{ وإن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }** [إبراهيم: 34 النحل: 18] إذا امتنع وقوف الإنسان عليها امتنع اقتداره على الحمد والشكر والثناء اللائق بها. الثاني: أن الإنسان إنما يمكنه القيام بحمد الله وشكره إذا أقدره الله تعالى على ذلك الحمد والشكر وإذا خلق في قلبه داعية إلى فعل ذلك الحمد، والشكر، وإذا زال عنه العوائق والحوائل، فكل ذلك إنعام من الله تعالى، فعلى هذا لا يمكنه القيام بشكر الله تعالى إلا بواسطة نعم عظيمة من الله تعالى عليه، وتلك النعم أيضاً توجب الشكر، وعلى هذا التقدير: فالعبد لا يمكنه الإتيان بالشكر والحمد إلا عند الإتيان به مراراً لا نهاية لها، وذلك محال، والموقوف على المحال محال، فكان الإنسان يمتنع منه الإتيان بحمد الله وبشكره على ما يليق به، الثالث: أن الحمد والشكر ليس معناه مجرد قول القائل بلسانه الحمد لله بل معناه علم المنعم عليه بكون المنعم موصوفاً بصفات الكمال والجلال وكل ما خطر ببال الإنسان من صفات الكمال والجلال فكمال الله وجلاله أعلى وأعظم من ذلك المتخيل والمتصور، وإذا كان كذلك امتنع كون الإنسان آتياً بحمد الله وشكره وبالثناء عليه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 190 | 191 | 192 | 193 | 194 | 195 | 196 | 197 | 198 | 199 | 200 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الرابع: أن الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل الإنعام الصادر من المنعم بشكر نفسه وبحمد نفسه وذلك بعيد لوجوه: أحدها: أن نعم الله كثيرة لا حد لها فمقابلتها بهذا الاعتقاد الواحد وبهذه اللفظة الواحدة في غاية البعد، وثانيها: أن من اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعم الله تعالى فقد أشرك، وهذا معنى قول الواسطي الشكر شرك، وثالثها: أن الإنسان محتاج إلى إنعام الله في ذاته وفي صفاته وفي أحواله، والله تعالى غني عن شكر الشاكرين وحمد الحامدين، فكيف يمكن مقابلة نعم الله بهذا الشكر وبهذا الحمد، فثبت بهذه الوجوه أن العبد عاجز عن الإتيان بحمد الله وبشكره فلهذه الدقيقة لم يقل أحمدوا الله، بل قال الحمد لله لأنه لو قال احمدوا الله فقد كلفهم ما لا طاقة لهم به، أما لما قال الحمد لله كان المعنى أن كمال الحمد حقه وملكه، سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا عليه ونقل أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك عليّ وهو أن توفقني لذلك الشكر؟ فقال: يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك. الفائدة الثامنة: عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه قال **" إذا أنعم الله على عبده نعمة فيقول العبد الحمد لله فيقول الله تعالى: «أنظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له "** وتفسيره أن الله إذا أنعم على العبد كان ذلك الأنعام أحد الأشياء المعتادة مثل أنه كان جائعاً فأطعمه، أو كان عطشاناً فأرواه، أو كان عرياناً فكساه، أما إذا قال العبد الحمد لله كان معناه أن كل حمد أتى به أحد من الحامدين فهو لله، وكل حمد لم يأتِ به أحد من الحامدين وأمكن في حكم العقل دخوله في الوجود فهو لله، وذلك يدخل فيه جميع المحامد التي ذكرها ملائكة العرش والكرسي وساكنو أطباق السموات وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأنبياء من آدم إلى محمد صلوات الله عليهم وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأولياء والعلماء وجميع الخلق وجميع المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قولهم:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 190 | 191 | 192 | 193 | 194 | 195 | 196 | 197 | 198 | 199 | 200 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ دَعْوٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }** [يونس: 10] ثم جميع هذه المحامد متناهية، وأما المحامد التي لا نهاية لها هي التي سيأتون بها أبد الآباد ودهر الداهرين، فكل هذه الأقسام التي لا نهاية لها داخلة تحت قول العبد { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فلهذا السبب قال تعالى: **" انظروا إلى عبدي قد أعطيته نعمة واحدة لا قدر لها فأعطاني من الشكر ما لا حد له ولا نهاية له ".** أقول: ههنا دقيقة أخرى، وهي أن نعم الله تعالى على العبد في الدنيا متناهية، وقوله الحمد لله حمد غير متناهٍ، ومعلوم أن غير المتناهي إذا سقط منه المتناهي بقي الباقي غير متناهٍ، فكأنه تعالى يقول: عبدي، إذا قلت الحمد لله في مقابلة تلك النعمة فالذي بقي لك من تلك الكلمة طاعات غير متناهية، فلا بدّ من مقابلتها بنعمة غير متناهية، فلهذا السبب يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي، فثبت أن قول العبد الحمد لله يوجب سعادات لا آخر لها وخيرات لا نهاية لها. الفائدة التاسعة: لا شك أن الوجود خير من العدم، والدليل عليه أن كل موجود حي فإنه يكره عدم نفسه، ولولا أن الوجود خير من العدم وإلا لما كان كذلك، وإذا ثبت هذا فنقول وجود كل شيء ما سوى الله تعالى فإنه حصل بإيجاد الله وجوده وفضله وإحسانه، وقد ثبت أن الوجود نعمة، فثبت أنه لا موجود في عالم الأرواح والأجسام والعلويات والسفليات إلا ولله عليه نعمة ورحمة وإحسان، والنعمة والرحمة والإحسان موجبة للحمد والشكر، فإذا قال العبد الحمد لله فليس مراده الحمد لله على النعم الواصلة إلى بل المراد، الحمد لله على النعم الصادرة منه وقد بينا أن إنعامه واصل إلى ما كل سواه، فإذا قال العبد الحمد لله كان معناه الحمد لله على إنعامه على كل مخلوق خلقه وعلى كل محدث أحدثه من نور وظلمة وسكون وحركة وعرش وكرسي وجني وأنسي وذات وصفة وجسم وعرض إلى أبد الآباد ودهر الداهرين، وأنا أشهد أنها بأسرها حقك وملكك وليس لا حد معك فيها شركة ومنازعة. الفائدة العاشرة: لقائل أن يقول: التسبيح مقدم على التحميد، لأنه يقال سبحانك الله والحمد لله فما السبب ههنا في وقوع البداية بالتحميد؟ والجواب أن التحميد يدل على التسبيح دلالة التضمن، فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والآفات، والتحميد يدل مع حصول تلك الصفة على كونه محسناً إلى الخلق منعماً عليهم رحيماً بهم، فالتسبيح إشارة إلى كونه تعالى تاماً والتحميد يدل على كونه تعالى فوق التمام، فلهذا السبب كان الابتداء بالتحميد أولى، وهذا الوجه مستفاد من القوانين الحكمية، وأما الوجه اللائق بالقوانين الأصولية فهو أن الله تعالى لا يكون محسناً بالعباد إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات ليعلم أصناف حاجات العباد، وإلا إذا كان قادراً على كل المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه، وإلا إذا كان غنياً عن كل الحاجات، إذ لو لم يكن كذلك لكان اشتغاله بدفع الحاجة عن نفسه يمنعه عن دفع حاجة العبد فثبت أن كونه محسناً لا يتم إلا بعد كونه منزهاً عن النقائض والآفات، فثبت أن الابتداء بقوله الحمد لله أولى من الابتداء بقوله سبحان الله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 190 | 191 | 192 | 193 | 194 | 195 | 196 | 197 | 198 | 199 | 200 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفائدة الحادية عشرة: الحمد لله له تعلق بالماضي وتعلق بالمستقبل، أما تعلقه بالماضي فهو أنه يقع شكراً على النعم المتقدمة، وأما تعلقه بالمستقبل فهو أنه يوجب تجدد النعم في الزمان المستقبل، لقوله تعالى:**{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ }** [إبراهيم: 7] والعقل أيضاً يدل عليه، وهو أن النعم السابقة توجب الإقدام على الخدمة، والقيام بالطاعة، ثم إذا اشتغل بالشكر انفتحت على العقل والقلب أبواب نعم الله تعالى، وأبواب معرفته ومحبته، وذلك من أعظم النعم، فلهذا المعنى كان الحمد بسبب تعلقه بالماضي يغلق عنك أبواب النيران، وبسبب تعلقه بالمستقبل يفتح لك أبواب الجنان، فتأثيره في الماضي سد أبواب الحجاب عن الله تعالى وتأثيره في المستقبل فتح أبواب معرفة الله تعالى، ولما كان لا نهاية لدرجات جلال الله فكذلك لا نهاية للعبد في معارج معرفة الله، ولا مفتاح لها إلا قولنا الحمد لله، فلهذا السبب سميت سورة الحمد بسورة الفاتحة. الفائدة الثانية عشرة: الحمد لله كلمة شريفة جليلة لكن لا بدّ من ذكرها في موضعها وإلا لم يحصل المقصود منها، قيل للسري السقطي: كيف يجب الإتيان بالطاعة؟ قال: أنا منذ ثلاثين سنة أستغفر الله عن قولي مرة واحدة الحمد لله، فقيل كيف ذلك؟ قال: وقع الحريق في بغداد واحترقت الدكاكين والدور فأخبروني أن دكاني لم يحترق فقلت الحمد لله وكان معناه أني فرحت ببقاء دكاني حال احتراق دكاكين الناس وكان حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة عن قولي الحمد لله، فثبت بهذا أن هذه الكلمة وإن كانت جليلة القدر إلا أنه يجب رعاية موضعها، ثم إن نعم الله على العبد كثيرة، إلا أنها بحسب القسمة الأولى محصورة في نوعين: نعم الدنيا، ونعم الدين، ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا لوجوه كثيرة، وقولنا الحمد لله كلمة جليلة شريفة فيجب على العاقل إجلال هذه الكلمة من أن يذكرها في مقابلة نعم الدنيا، بل يجب أن لا يذكرها إلا عند الفوز بنعم الدين، ثم نعم الدين قسمان: أعمال الجوارح، وأعمال القلوب، القسم الثاني: أشرف، ثم نعم الدنيا قسمان: تارة تعتبر تلك النعم من حيث هي نعم، وتارة تعتبر من حيث إنها عطية المنعم، والقسم الثاني: أشرف، فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يكون ذكر قولنا الحمد لله موافقاً لموضعه لائقاً بسببه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 190 | 191 | 192 | 193 | 194 | 195 | 196 | 197 | 198 | 199 | 200 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفائدة الثالثة عشرة: أول كلمة ذكرها أبونا آدم هو قوله الحمد لله، وآخر كلمة يذكرها أهل الجنة هو قولنا الحمد لله، أما الأول: فلأنه لما بلغ الروح إلى سرته عطس فقال الحمد لله رب العالمين، وأما الثاني: فهو قوله تعالى:**{ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }** [يونس: 10] ففاتحة العالم مبنية على الحمد وخاتمته مبنية على الحمد، فاجتهد حتى يكون أول أعمالك وآخرها مقروناً بهذه الكلمة فإن الإنسان عالم صغير فيجب أن تكون أحواله موافقة لأحوال العالم الكبير. الفائدة الرابعة عشرة: من الناس من قال: تقدير الكلام قولوا الحمد لله، وهذا عندي ضعيف، لأن الإضمار إنما يصار إليه ليصح الكلام، وهذا الإضمار يوجب فساد الكلام والذي يدل عليه وجوه: الأول: أن قوله الحمد لله إخبار عن كون الحمد حقاً له وملكاً له، وهذا كلام تام في نفسه، فلا حاجة إلى الإضمار. الثاني: أن قوله الحمد لله يدل على كونه تعالى مستحقاً للحمد بحسب ذاته وبحسب أفعاله سواء حمدوه أو لم يحمدوه، لأن ما بالذات أعلى وأجل مما بالغير. الثالث: ذكروا مسألة في الواقعات وهي أنه لا ينبغي للوالد أن يقول لولده إعمل كذا وكذا، لأنه يجوز أن لا يمتثل أمره فيأثم، بل يقول إن كذا وكذا يجب أن يفعل، ثم إذا كان الولد كريماً فإنه يجيبه ويطيعه، وإن كان عاقا لم يشافهه بالرد، فيكون إثمه أقل، فكذلك ههنا قال الله تعالى الحمد لله فمن كان مطيعاً حمده، ومن كان عاصياً كان إثمه أقل. الفائدة الخامسة عشرة: تمسكت الجبرية والقدرية بقوله الحمد لله: أما الجبرية فقد تمسكوا به من وجوه: الأول: أن كل من كان فعله أشرف وأكمل وكانت النعمة الصادرة عنه أعلى وأفضل كان استحقاقه للحمد أكثر، ولا شك أن أشرف المخلوقات هو الإيمان، فلو كان الإيمان فعلاً للعبد لكان استحقاق العبد للحمد أولى وأجل من استحقاق الله له ولما لم يكن كذلك علمنا أن الإيمان حصل بخلق الله لا بخلق العبد، الثاني: أجمعت الأمة على قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان لو كان الإيمان فعلاً للعبد وما كان فعلاً لله لكان قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان باطلاً فإن حمد الفاعل على ما لا يكون فعلاً له باطن قبيح لقوله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 190 | 191 | 192 | 193 | 194 | 195 | 196 | 197 | 198 | 199 | 200 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ }** [آل عمران: 188] الثالث: أنا قد دللنا على أن قوله الحمد لله يدل ظاهرة على أن كل الحمد لله وأنه ليس لغير الله حمد أصلاً وإنما يكون كل الحمد لله لو كان كل النعم من الله والإيمان أفضل النعم فوجب أن يكون الإيمان من الله، الرابع: أن قوله الحمد لله مدح منه لنفسه ومدح النفس مستقبح فيما بين الخلق، فلما بدأ كتابه بمدح النفس دل ذلك على أن حاله بخلاف حال الخلق وأنه يحسن من الله ما يقبح من الخلق، وذلك يدل على أنه تعالى مقدس عن أن تقاس أفعاله على أفعال الخلق، فقد تقبح أشياء من العباد ولا تقبح تلك الأشياء من الله تعالى، وهذا يهدم أصول الاعتزال بالكلية. والخامس: إن عند المعتزلة أفعاله تعالى يجب أن تكون حسنة ويجب أن تكون لها صفة زائدة على الحسن، وإلا كانت عبثاً، وذلك في حقه محال، والزائدة على الحسن إما أن تكون واجبة، وإما أن تكون من باب التفضل: أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب والعوض إلى المكلفين، وأما الذي يكون من باب التفضل فهو مثل أنه يزيد على قدر الواجب على سبيل الإحسان، فنقول: هذا يقدح في كونه تعالى مستحقاً للحمد، ويبطل صحة قولنا الحمد لله، وتقريره أن نقول: أما أداء الواجبات فإنه لا يفيد استحقاق الحمد ألا ترى أن من كان له على غيره دين دينار فأداه فإنه لا يستحق الحمد، فلو وجب على الله فعل لكان ذلك الفعل مخلصاً له عن الذم ولا يوجب استحقاقه للحمد، وأما فعل التفضل فعند الخصم أنه يستفيد بذلك مزيد حمد لأنه لو لم يصدر عنه ذلك الفعل لما حصل له ذلك الحمد، وإذا كان كذلك كانا ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره، وذلك يمنع من كونه تعالى مستحقاً للحمد والمدح. السادس: قوله الحمد لله يدل على أنه تعالى محمود، فنقول: استحقاقه الحمد والمدح إما أن يكون أمراً ثابتاً له لذاته أو ليس ثابتاً له لذاته، فإن كان الأول امتنع أن يكون شيء من الأفعال موجباً له استحقاق المدح، لأن ما ثبت لذاته امتنع ثبوته لغيره، وامتنع أيضاً أن يكون شيء من الأفعال موجباً له استحقاق الذم، لأن ما ثبت لذاته امتنع ارتفاعه بسبب غيره، وإذا كان كذلك لم يتقرر في حقه تعالى وجوب شيء عليه، فوجب أن لا يجب للعباد عليه شيء من الأعواض والثواب، وذلك يهدم أصول المعتزلة، وأما القسم الثاني ـ وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتاً له لذاته ـ فنقول: فيلزم أن يكون ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره، وذلك على الله محال أما المعتزلة فقالوا: إن قوله الحمد لله لا يتم إلا على قولنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبيح في فعله، ولا جور في أقضيته، ولا ظلم في أحكامه، وعندنا أن الله تعالى كذلك، فكان مستحقاً لأعظم المحامد والمدائح، أما على مذهب الجبرية لا قبيح إلا وهو فعله، ولا جور إلا وهو حكمه، ولا عبث إلا وهو صنعه، لأنه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه، ويؤلم الحيوانات من غير أن يعوضها، فكيف يعقل على هذا التقدير كونه مستحقاً للحمد؟ وأيضاً فذلك الحمد الذي يستحقه الله تعالى بسبب الإلهية إما أن يستحقه على العبد، أو على نفسه، فإن كان الأول وجب كون العبد قادراً على الفعل، وذلك يبطل القول بالجبر وإن كان الثاني كان معناه أن الله يجب عليه أن يحمد نفسه، وذلك باطل، قالوا: فثبت أن القول بالحمد لله لا يصح إلا على قولنا.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 190 | 191 | 192 | 193 | 194 | 195 | 196 | 197 | 198 | 199 | 200 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
شكر المنعم: الفائدة السادسة عشرة: اختلفوا في أن وجوب الشكر ثابت بالعقل أو بالسمع: من الناس من قال: إنه ثابت بالسمع، لقوله تعالى:**{ وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }** [الإسراء: 15] ولقوله تعالى:**{ رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ }** [النساء: 165] ومنهم من قال إنه ثابت قبل مجيء الشرع وبعد مجيئه على الإطلاق، والدليل عليه قوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } وبيانه من وجوه: الأول: أن قوله الحمد لله يدل أن هذا الحمد حقه وملكه على الإطلاق، وذلك يدل على ثبوت هذا الاستحقاق قبل مجيء الشرع. الثاني: أنه تعالى قال:**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }** [الفاتحة: 2] وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف، فههنا أثبت الحمد لنفسه ووصف نفسه بكونه تعالى رباً للعالمين رحماناً رحيماً بهم، مالكاً لعاقبة أمرهم في القيامة، فهذا يدل على أن استحقاق الحمد إنما يحصل لكونه تعالى مربياً لهم رحماناً رحيماً بهم، وإذا كان كذلك ثبت أن استحقاق الحمد ثابت لله تعالى في كل الأوقات سواء كان قبل مجيء النبي أو بعده. معنى الحمد: الفائدة السابعة عشرة: يجب علينا أن نبحث عن حقيقة الحمد وماهيته فنقول: تحميد الله تعالى ليس عبارة عن قولنا الحمد لله، لأن قولنا الحمد لله إخبار عن حصول الحمد، والأخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه، فوجب أن يكون تحميد الله مغايراً لقولنا الحمد لله، فنقول: حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً. وذلك الفعل إما أن يكون فعل القلب، أو فعل اللسان، أو فعل الجوارح، أما فعل القلب فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفاً بصفات الكمال والإجلال، وأما فعل اللسان فهو أن يذكر ألفاظاً دالة على كونه موصوفاً بصفات الكمال. وأما فعل الجوارح فهو أن يأتي بأفعال دالة على كون ذلك المنعم موصوفاً بصفات الكمال والإجلال، فهذا هو المراد من الحمد، واعلم أن أهل العلم افترقوا في هذا المقام فريقين: الفريق الأول: الذين قالوا أنه لا يجوز أن يأمر الله عبيده بأن يحمدوه، واحتجوا عليه بوجوه: الأول: أن ذلك التحميد إما أن يكون بناءً على إنعام وصل إليهم أولاً وبناءً عليه، فالأول باطل، لأن هذا يقتضي أنه تعالى طلب منهم على إنعامه جزاء ومكافأة، وذلك يقدح في كمال الكرم، فإن الكريم إذا أنعم لم يطلب المكافأة، وأما الثاني فهو إتعاب للغير ابتداء، وذلك يوجب الظلم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 200 | 201 | 202 | 203 | 204 | 205 | 206 | 207 | 208 | 209 | 210 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثاني: قالوا الاشتغال بهذا الحمد متعب للحامد وغير نافع للمحمود، لأنه كامل لذاته، والكامل لذاته يستحيل أن يستكمل بغيره، فثبت أن الاشتغال بهذا التحميد عبث وضرر، فوجب أن لا يكون مشروعاً. الثالث: أن معنى الإيجاب هو أنه لو لم يفعل لاستحق العقاب، فإيجاب حمد الله تعالى معناه أنه قال لو لم تشتغل بهذا الحمد لعاقبتك، وهذا الحمد لا نفع له في حق الله، فكان معناه أن هذا الفعل لا فائدة فيه لأحد، ولو تركته لعاقبتك أبد الآباد، وهذا لا يليق بالحكم الكريم. الفريق الثاني: قالوا الاشتغال بحمد الله سوء أدب من وجوه: الأول: أنه يجري مجرى مقابلة إحسان الله بذلك الشكر القليل، والثاني: أن الاشتغال بالشكر لا يتأتى إلا مع استحضار تلك النعم في القلب، واشتغال القلب بالنعم يمنعه من الاستغراق في معرفة المنعم. الثالث: أن الثناء على الله تعالى عند وجدان النعمة يدل على أنه إنما أثنى عليه لأجل الفوز بتلك النعم، وذلك يدل على أن مقصوده من العبادة والحمد والثناء الفوز بتلك النعم، وهذا الرجل في الحقيقة معبوده ومطلوبه إنما هو تلك النعمة وحظ النفس، وذلك مقام نازل، والله أعلم. الفصل الثاني في تفسير قوله رب العالمين، وفيه فوائد: أقسام العالم وأنواع كل قسم: الفائدة الأولى: اعلم أن الموجود إما أن يكون واجباً لذاته، وإما أن يكون ممكناً لذاته، أما الواجب لذاته فهو الله تعالى فقط، وأما الممكن لذاته فهو كل ما سوى الله تعالى وهو العالم، أن المتكلمين قالوا: العالم كل موجود سوى الله، وسبب تسمية هذا القسم بالعالم أن وجود كل شيء سوى الله يدل على وجود الله تعالى، فلهذا السبب سمي كل موجود سوى الله بأنه عالم. إذا عرفت هذا فنقول: كل ما سوى الله تعالى إما أن يكون متحيزاً، وإما أن يكون صفة للمتحيز، وإما أن لا يكون متحيزاً ولا صفة للمتحيز، فهذه أقسام ثلاثة: القسم الأول: المتحيز: وهو إما أن يكون قابلاً للقسمة، أو لا يكون، فإن كان قابلاً للقسمة فهو الجسم، وإن لم يكن كذلك فهو الجوهر الفرد أما الجسم فإما أن يكون من الأجسام العلوية أو من الأجسام السفلية أما الأجسام العلوية فهي الأفلاك والكواكب، وقد ثبت بالشرع أشياء أخر سوى هذين القسمين، مثل العرش والكرسي وسدرة المنتهى واللوح والقلم والجنة، وأما الأجسام السفلية فهي إما بسيطة أو مركبة: أما البسيطة فهي العناصر الأربعة: واحدها: كرة الأرض بما فيها من المفاوز والجبال والبلاد المعمورة، وثانيها: كرة الماء وهي البحر المحيط وهذه الأبحر الكبيرة الموجودة في هذا الربع المعمور وما فيه من الأودية العظيمة التي لا يعلم عددها إلا الله تعالى، وثالثها: كرة الهواء، ورابعها: كرة النار.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 200 | 201 | 202 | 203 | 204 | 205 | 206 | 207 | 208 | 209 | 210 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأما الأجسام المركبة فهي النبات، والمعادن، والحيوان، على كثرة أقسامها وتباين أنواعها، وأما القسم الثاني ـ وهو الممكن الذي يكون صفة للمتحيزات ـ فهي الأعراض، والمتكلمون ذكروا ما يقرب من أربعين جنساً من أجناس الأعراض. أما الثالث ـ وهو الممكن الذي لا يكون متحيزاً ولا صفة للمتحيز ـ فهو الأرواح، وهي إما سفلية، وإما علوية: أما السفلية فهي إما خيرة، وهم صالحو الجن، وإما شريرة خبيثة وهي مردة الشياطين. والأرواح العلوية إما متعلقة بالأجسام وهي الأرواح الفلكية، وإما غير متعلقة بالأجسام وهي الأرواح المطهرة المقدسة، فهذا هو الإشارة إلى تقسيم موجودات العالم، ولو أن الإنسان كتب ألف ألف مجلد في شرح هذه الأقسام لما وصل إلى أقل مرتبة من مراتب هذه الأقسام، إلا أنه لما ثبت أن واجب الوجود لذاته واحد، ثبت أن كل ما سواه ممكن لذاته، فيكون محتاجاً في وجوده إلى إيجاد الواجب لذاته، وأيضاً ثبت أن الممكن حال بقائه لا يستغنى عن المبقي، والله تعالى إله العالمين من حيث إنه هو الذي أخرجها من العدم إلى الوجود، وهو رب العالمين من حيث إنه هو الذي يبقيها حال دوامها واستقرارها. وإذا عرفت ذلك ظهر عندك شيء قليل من تفسير قوله الحمد لله رب العالمين، وكل من كان أكثر إحاطة بأحوال هذه الأقسام الثلاثة كان أكثر وقوفاً على تفسير قوله رب العالمين. الفائدة الثانية: المربي على قسمين: أحدهما: أن يربي شيئاً ليربح عليه المربي، والثاني: أن يربيه ليربح المربي، وتربية كل الخلق على القسم الأول، لأنهم إنما يربون غيرهم ليربحوا عليه إما ثواباً أو ثناءً، والقسم الثاني: هو الحق سبحانه، كما قال: خلقتكم لتربحوا علي لا لأربح عليكم فهو تعالى يربي ويحسن، وهو بخلاف سائر المربين وبخلاف سائر المحسنين. واعلم أن تربيته تعالى مخالفة لتربية غيره، وبيانه من وجوه: الأول: ما ذكرناه أنه تعالى يربي عبيده لا لغرض نفسه بل لغرضهم وغيره يربون لغرض أنفسهم لا لغرض غيرهم، الثاني: أن غيره إذا ربى فبقدر تلك التربية يظهر النقصان في خزائنه وفي ماله وهو تعالى متعالٍ عن النقصان والضرر، كما قال تعالى:**{ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 200 | 201 | 202 | 203 | 204 | 205 | 206 | 207 | 208 | 209 | 210 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[الحجر: 21] الثالث: أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليه أبغضه وحرمه ومنعه، والحق تعالى بخلاف ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام **" إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء. "** الرابع: أن غيره من المحسنين ما لم يطلب منه الإحسان لم يعط، أما الحق تعالى فإنه يعطي قبل السؤال، ألا ترى أنه رباك حال ما كنت جنيناً في رحم الأم، وحال ما كنت جاهلاً غير عاقل، لا تحسن أن تسأل منه ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته وما كان لك عقل ولا هداية. الخامس: أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه إما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت، والحق تعالى لا ينقطع إحسانه ألبتة. السادس: أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم ولا يمكنه التعميم أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكل كما قال:**{ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء }** [الأعراف: 156] فثبت أنه تعالى رب العالمين ومحسن إلى الخلائق أجمعين، فلهذا قال تعالى في حق نفسه الحمد لله رب العالمين. الفائدة الثالثة: أن الذي يحمد ويمدح ويعظم في الدنيا إنما يكون كذلك لأحد وجوه أربعة إما لكونه كاملاً في ذاته وفي صفاته منزهاً عن جميع النقائص والآفات وإن لم يكن منه إحسان إليك، وإما لكونه محسناً إليك ومنعماً عليك، وإما لأنك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل من الزمان، وإما لأجل أنك تكون خائفاً من قهره وقدرته وكمال سطوته، فهذه الحالات هي الجهات الموجبة للتعظيم، فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إن كنتم ممن يعظمون الكمال الذاتي فاحمدوني فإني إله العالمين، وهو المراد من قوله الحمد لله، وإن كنتم ممن تعظمون الإحسان فأنا رب العالمين، وإن كنتم تعظمون للطمع في المستقبل فانا الرحمن الرحيم، وإن كنتم تعظمون للخوف فأنا مالك يوم الدين. الفائدة الرابعة: وجوه تربية الله للعبد كثيرة غير متناهية، ونحن نذكر منها أمثلة: المثال الأول: لما وقعت قطرة النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم فانظر كيف أنها صارت علقة أولاً، ثم مضغة ثانياً، ثم تولدت منها أعضاء مختلفة مثل العظام والغضاريف والرباطات والأوتار والأوردة والشرايين، ثم اتصل البعض بالبعض، ثم حصل في كل واحد منها نوع خاص من أنواع القوى، فحصلت القوة الباصرة في العين، والسامعة في الأذن، والناطقة في اللسان، فسبحان من أسمع بعظم، وبصر بشحم، وأنطق بلحم، واعلم أن كتاب التشريح لبدن الإنسان مشهور، وكل ذلك يدل على تربية الله تعالى للعبد المثال الثاني: أن الحبة الواحدة إذا وقعت في الأرض فإذا وصلت نداوة الأرض إليها انتفخت ولا تنشق من شيء من الجوانب إلا من أعلاها وأسفلها، مع أن الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب: أما الشق الأعلى فيخرج منه الجزء الصاعد من الشجرة وأما الشق الأسفل فيخرج منه الجزء الغائص في الأرض، وهو عروق الشجرة، فأما الجزء الصاعد فبعد صعوده يحصل له ساق، ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة، ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أولاً، ثم الثمار ثانياً، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة واللطافة وهي القشور ثم اللبوب ثم الأدهان، وأما الجزء الغائص من الشجرة فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة، ومع غاية لطافتها فإنها تغوص في الأرض الصلبة الخشنة، وأودع الله فيها قوى جاذبة تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها، والحكمة في كل هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبد إليه من الغذاء والأدام والفواكه والأشربة والأدوية، كما قال تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 200 | 201 | 202 | 203 | 204 | 205 | 206 | 207 | 208 | 209 | 210 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَاء صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأرْضَ شَقّاً }** [عبس: 25، 26] الآيات. المثال الثالث: أنه وضع الأفلاك والكواكب بحيث صارت أسباباً لحصول مصالح العباد، فخلق الليل ليكون سبباً للراحة والسكون وخلق النهار ليكون سبباً للمعاش والحركة**{ هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقّ }** [يونس: 5]**{ وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ }** [الأنعام: 97] واقرأ قوله:**{ أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأرْضَ مِهَـٰداً وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً }** [النبأ: 5، 6] ـ إلى آخر الآية واعلم أنك إذا تأملت في عجائب أحوال المعادن والنبات والحيوان وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية الله كثيرة، ودلائل رحمته لائحة ظاهرة، وعند ذلك يظهر لك قطرة من بحار أسرار قوله الحمد لله رب العالمين. الفائدة الخامسة: أضاف الحمد إلى نفسه فقال تعالى الحمد لله، ثم أضاف نفسه إلى العالمين والتقدير: إني أحب الحمد فنسبته إلى نفسي بكونه ملكاً لي ثم لما ذكرت نفسي عرفت نفسي بكوني رباً للعالمين، ومن عرف ذاتاً بصفة فإنه يحاول ذكر أحسن الصفات وأكملها، وذلك يدل على أن كونه رباً للعالمين أكمل الصفات، والأمر كذلك لأن أكمل المراتب أن يكون تاماً، وفوق التمام، فقولنا الله يدل على كونه واجب الوجود لذاته في ذاته وبذاته وهو التمام، وقوله رب العالمين معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته وإحسانه وجوده وهو المراد من قولنا أنه فوق التمام. الفائدة السادسة: أنه يملك عباداً غيرك كما قال:**{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ }** [المدثر: 31] وأنت ليس لك رب سواه، ثم أنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وأنت تخدمه كأن لك رباً غيره، فما أحسن هذه التربية أليس أنه يحفظك في النهار عن الآفات من غير عوض، وبالليل عن المخافات من غير عوض؟ واعلم أن الحراس يحرسون الملك كل ليلة، فهل يحرسونه عن لدغ الحشرات وهل يحرسونه عن أن تنزل به البليات؟ أما الحق تعالى فإنه يحرسه من الآفات، ويصونه من المخافات بعد أن كان قد زج أول الليل في أنواع المحظورات وأقسام المحرمات والمنكرات، فما أكبر هذه التربية وما أحسنها، أليس من التربية أنه صلى الله عليه وسلم قال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 200 | 201 | 202 | 203 | 204 | 205 | 206 | 207 | 208 | 209 | 210 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" الآدمي بنيان الرب، ملعون من هدم بنيان الرب "** فلهذا المعنى قال تعالى:**{ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ }** [الأنبياء: 42] ما ذاك إلا الملك الجبار، والواحد القهار، ومقلب القلوب والأبصار، والمطلع على الضمائر والأسرار. الفائدة السابعة: قالت القدرية: إنما يكون تعالى رباً للعالمين ومربياً لهم لو كان محسناً إليهم دافعاً للمضار عنهم، أما إذا خلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ويأمر بالإيمان ثم يمنعه منه لم يكن رباً ولا مربياً، بل كان ضاراً ومؤذياً، وقالت الجبرية: إنما سيكون رباً ومربياً لو كانت النعمة صادرة منه والأَلطاف فائضة من رحمته، ولما كان الإيمان أعظم النعم وأجلها وجب أن يكون حصولها من الله تعالى ليكون رباً للعالمين إليهم محسناً بخلق الإيمان فيهم. الفائدة الثامنة: قولنا: «الله» أشرف من قولنا: «رب» على ما بينا ذلك بالوجوه الكثيرة في تفسير أسماء الله تعالى، ثم أن الداعي في أكثر الأمر يقول: يا رب، يا رب، والسبب فيه النكت والوجوه المذكورة في تفسير أسماء الله تعالى فلا نعيدها. الفصل الثالث في تفسير قوله { الرحمن الرحيم } ، وفيه فوائد: تفسير الرحمن الرحيم: الفائدة الأولى: الرحمن: هو المنعم بما لا يتصور صدور جنسه من العباد، والرحيم: هو المنعم بما يتصور جنسه من العباد، حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال كنت ضيفاً لبعض القوم فقدم المائدة، فنزل غراب وسلب رغيفاً، فاتبعته تعجباً، فنزل في بعض التلال، وإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه. وروى ذي النون أنه قال: كنت في البيت إذ وقعت ولولة في قلبي، وصرت بحيث ما ملكت نفسي، فخرجت من البيت وانتهيت إلى شط النيل، فرأيت عقرباً قوياً يعدو فتبعته فوصل إلى طرف النيل فرأيت ضفدعاً واقفاً على طرف الوادي، فوثب العقرب على ظهر الضفدع وأخذ الضفدع يسبح ويذهب، فركبت السفينة وتبعته فوصل الضفدع إلى الطرف الآخر من النيل، ونزل العقرب من ظهره، وأخذ يعدو فتبعته، فرأيت شاباً نائماً تحت شجرة، ورأيت أفعى يقصده فلما قربت الأفعى من ذلك الشاب وصل العقرب إلى الأفعى فوثب العقرب على الأفعى فلدغه، والأفعى أيضاً لدغ العقرب، فماتا معاً، وسلم ذلك الإنسان منهما. ويحكى أن ولد الغراب كما يخرج من قشر البيضة يخرج من غير ريش فيكون كأنه قطعة لحم أحمر، والغراب يفر منه ولا يقوم بتربيته، ثم أن البعوض يجتمع عليه لأنه يشبه قطعة لحم ميت، فإذا وصلت البعوض إليه التقم تلك البعوض واغتذى بها، ولا يزال على هذه الحال إلى أن يقوى وينبت ريشه ويخفى لحمه تحت ريشه، فعند ذلك تعود أمه إليه، ولهذا السبب جاء في أدعية العرب: يا رازق النعاب في عشه، فظهر بهذه الأمثلة أن فضل الله عام، وإحسانه شامل، ورحمته واسعة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 200 | 201 | 202 | 203 | 204 | 205 | 206 | 207 | 208 | 209 | 210 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أن الحوادث على قسمين: منه ما يظن أنه رحمة مع أنه لا يكون كذلك، بل يكون في الحقيقة عذاباً ونقمة، ومنه ما يظن في الظاهر أنه عذاب ونقمة، مع أنه يكون في الحقيقة فضلاً وإحساناً ورحمة: أما القسم الأول: فالوالد إذا أهمل ولده حتى يفعل ما يشاء ولا يؤدبه ولا يحمله على التعلم، فهذا في الظاهر رحمة وفي الباطن نقمة. وأما القسم الثاني: كالوالد إذا حبس ولده في المكتب وحمله على التعلم فهذا في الظاهر نقمة، وفي الحقيقة رحمة، وكذلك الإنسان إذا وقع في يده الآكلة فإذا قطعت تلك اليد فهذا في الظاهر عذاب، وفي الباطن راحة ورحمة، فالأبله يغتر بالظواهر، والعاقل ينظر في السرائر. إذا عرفت هذا فكل ما في العالم من محنة وبلية وألم ومشقة فهو وإن كان عذاباً وألماً في الظاهر إلا أنه حكمة ورحمة في الحقيقة، وتحقيقه ما قيل في الحكمة: إن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير، فالمقصود من التكاليف تطهير الأرواح عن العلائق الجسدانية كما قال تعالى:**{ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأِنفُسِكُمْ }** [الإسراء: 7] والمقصود من خلق النار صرف الأشرار إلى أعمال الأبرار، وجذبها من دار الفرار إلى دار القرار، كما قال تعالى:**{ فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ }** [الذاريات: 50] وأقرب مثال لهذا الباب قصة موسى والخضر عليهما السلام، فإن موسى كان يبني الحكم على ظواهر الأمور فاستنكر تخريق السفينة وقتل الغلام وعمارة الجدار المائل، وأما الخضر فإنه كان يبني أحكامه على الحقائق والأسرار فقال:**{ أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَـٰكِينَ يَعْمَلُونَ فِى ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وَأَمَّا ٱلْغُلَـٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَـٰناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَـوٰةً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا }** [الكهف: 79 ـ 82] فظهر بهذه القصة أن الحكيم المحقق هو الذي يبني أمره على الحقائق لا على الظاهر، فإذا رأيت ما يكرهه طبعك وينفر عنه عقلك فاعلم أن تحته أسراراً خفية وحكماً بالغة، وأن حكمته ورحمته اقتضت ذلك، وعند ذلك يظهر لك أثر من بحار أسرار قوله الرحمن الرحيم. الفائدة الثانية: الرحمن: اسم خاص بالله، والرحيم: ينطلق عليه وعلى غيره. فإن قيل: فعلى هذا: الرحمن أعظم: فلم ذكر الأدنى بعد ذكر الأعلى؟.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 200 | 201 | 202 | 203 | 204 | 205 | 206 | 207 | 208 | 209 | 210 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والجواب: لأن الكبير العظيم لا يطلب منه الشيء الحقير اليسير، حكي أن بعضهم ذهب إلى بعض الأكابر فقال: جئتك لمهم يسير فقال: اطلب للمهم اليسير رجلاً يسيراً، كأنه تعالى يقول: لو اقتصرت على ذكر الرحمن لاحتشمت عني ولتعذر عليك سؤال الأمور اليسيرة، ولكن كما علمتني رحماناً تطلب مني الأمور العظيمة، فأنا أيضاً رحيم فاطلب مني شراك نعلك وملح قدرك، كما قال تعالى لموسى: «يا موسى سلني عن ملح قدرك وعلف شاتك». الفائدة الثالثة: وصف نفسه بكونه رحماناً رحيماً، ثم إنه أعطى مريم عليها السلام رحمة واحدة حيث قال:**{ وَرَحْمَةً مّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً }** [مريم: 21] فتلك الرحمة صارت سبباً لنجاتها من توبيخ الكفار الفجّار، ثم أنا نصفه كل يوم أربعة وثلاثين مرة أنه رحمن وأنه رحيم، وذلك لأن الصلوات سبع عشرة ركعة، ويقرأ لفظ الرحمن الرحيم في كل ركعة مرتين مرة في بسم الله الرحمن الرحيم ومرة في قوله:**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }** [الفاتحة: 1، 2] فلما صار ذكر الرحمة مرة واحدة سبباً لخلاص مريم عليها السلام عن المكروهات أفلا يصير ذكر الرحمة هذه المرات الكثيرة طول العمر سبباً لنجاة المسلمين من النار والعار والدمار؟. الفائدة الرابعة: أنه تعالى رحمن لأنه يخلق ما لا يقدر العبد عليه، رحيم لأنه يفعل ما لا يقدر العبد على جنسه، فكأنه تعالى يقول: أنا رحمن لأنك تسلم إلى نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة، كما قال تعالى:**{ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ }** [غافر: 64] وأنا رحيم لأنك تسلم إلى طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة. الفائدة الخامسة: روي أن فتى قربت وفاته واعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا الله فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه به، فقام ودخل عليه، وجعل يعرض عليه الشهادة وهو يتحرك ويضطرب ولا يعمل لسانه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: **" أما كان يصلي؟ أما كان يصوم؟ أما كان يزكي؟ "** فقالوا: بلى، فقال: **" هل عق والديه؟ "** فقالوا: بلى، فقال عليه السلام: **" هاتوا بأمه "** ، فجاءت وهي عجوز عوراء فقال عليه السلام: «هلا عفوت عنه»، فقالت: لا أعفو لأنه لطمني ففقأ عيني، فقال عليه السلام: **" هاتوا بالحطب والنار "** ، فقالت: وما تصنع بالنار؟ فقال عليه السلام: **" أحرقه بالنار بين يديك جزاء لما عمل بك "** ، فقالت: عفوت عفوت، أللنار حملته تسعة أشهر؟ أللنار أرضعته سنتين؟ فأين رحمة الأم؟ فعند ذلك انطلق لسانه، وذكر أشهد أن لا إله إلا الله، والنكتة أنها كانت رحيمة وما كانت رحمانة فلأجل ذلك القدر القليل من الرحمة ما جوزت الإحراق بالنار، فالرحمن الرحيم الذي لم يتضرر بجنايات عبيده مع عنايته بعباده كيف يستجيز أن يحرق المؤمن الذي واظب على شهادة أن لا إله إلا الله سبعين سنة بالنار.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 200 | 201 | 202 | 203 | 204 | 205 | 206 | 207 | 208 | 209 | 210 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفائدة السادسة: لقد اشتهر أن النبي عليه السلام لما كسرت رباعيته قال: **" اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون "** ، فظهر أنه يوم القيامة يقول: **" أمتي، أمتي "** ، فهذا كرم عظيم منه في الدنيا وفي الآخرة، وإنما حصل فيه هذا الكرم وهذا الإحسان لكونه رحمة كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } فإذا كان أثر الرحمة الواحدة بلغ هذا المبلغ فكيف كرم من هو رحمن رحيم؟ وأيضاً روي أنه عليه السلام قال: **" اللهم اجعل حساب أمتي على يدي "** ، ثم إنه امتنع عن الصلاة على الميت لأجل أنه كان مديوناً بدرهمين، وأخرج عائشة / عن البيت بسبب الإفك فكأنه تعالى قال له إن لك رحمة واحدة وهي قوله:**{ وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ }** [الأنبياء: 107] والرحمة الواحدة لا تكفي في إصلاح عالم المخلوقات، فذرني وعبيدي واتركني وأمتك فإني أنا الرحمن الرحيم، فرحمتي لا نهاية لها، ومعصيتهم متناهية، والمتناهي في جنب غير المتناهي يصير فانياً، فلا جرم معاصي جميع الخلق تفنى في بحار رحمتي، لأني أنا الرحمن الرحيم. الفائدة السابعة: قالت القدرية: كيف يكون رحماناً رحيماً من خلق الخلق للنار ولعذاب الأبد؟ وكيف يكون رحماناً رحيماً من يخلق الكفر في الكافر ويعذبه عليه؟ وكيف يكون رحماناً رحيماً من أمر بالإيمان ثم صد ومنع عنه؟ وقالت الجبرية: أعظم أنواع النعمة والرحمة هو الإيمان فلو لم يكن الإيمان من الله بل كان من العبد لكان اسم الرحمن الرحيم بالعبد أولى منه بالله، والله أعلم. الفصل الرابع في تفسير قوله { مالك يوم الدين } ، وفيه فوائد: تفسير مالك يوم الدين: الفائدة الأولى: قوله مالك يوم الدين، أي: مالك يوم البعث والجزاء، وتقريره أنه لا بدّ من الفرق بين المحسن والمسيء، والمطيع والعاصي، والموافق والمخالف، وذلك لا يظهر إلا في يوم الجزاء كما قال تعالى:**{ لِيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى }** [النجم: 31] وقال تعالى:**{ أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِى ٱلأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ }** [صۤ: 28] وقال:**{ إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ }** [طه: 15] واعلم أن من سلط الظالم على المظلوم ثم إنه لا ينتقم منه فذاك إما للعجز أو للجهل أو لكونه راضياً بذلك الظلم، وهذه الصفات الثلاث على الله تعالى محال، فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين، ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا وجب أن يحصل في دار الأخرى بعد دار الدنيا، وذلك هو المراد بقوله:**{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ }** [الفاتحة: 4] وبقوله:**{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ }** [الزلزلة: 7] الآية روي أنه يجاء برجل يوم القيامة فينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة ألبتة، فيأتيه النداء، يا فلان أدخل الجنة بعملك، فيقول: إلهي، ماذا عملت؟ فيقول الله تعالى: ألست لما كنت نائماً تقلبت من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك «الله» ثم غلبك النوم في الحال فنسيت ذلك أما أنا فلا تأخذني سنة ولا نوم فما نسيت ذلك، وأيضاً يؤتى برجل وتوزن حسناته وسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة أن لا إله إلا الله فلا يثقل مع ذكر الله غيره.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 200 | 201 | 202 | 203 | 204 | 205 | 206 | 207 | 208 | 209 | 210 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أن الواجبات على قسمين: حقوق الله تعالى، وحقوق العباد: أما حقوق الله تعالى فمبناها على المسامحة لأنه تعالى غني عن العالمين، وأما حقوق العباد فهي التي يجب الاحتراز عنها. روي أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان له على بعض المجوس مال فذهب إلى داره ليطالبه به، فلما وصل إلى باب داره وقع على نعله نجاسة، فنفض نعله فارتفعت النجاسة عن فعله ووقعت على حائط دار المجوسي فتحير أبو حنيفة وقال: إن تركتها كان ذلك سبباً لقبح جدار هذا المجوسي، وإن حككتها انحدر التراب من الحائط، فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها: قولي لمولاك إن أبا حنيفة بالباب، فخرج إليه وظن أنه يطالبه بالمال، فأخذ يعتذر، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه، ههنا ما هو أولى، وذكر قصة الجدار، وأنه كيف السبيل إلى تطهيره فقال المجوسي: فأنا أبدأ بتطهير نفسي فأسلم في الحال، والنكتة فيه أن أبا حنيفة لما احترز عن ظلم المجوسي في ذلك القدر القليل من الظلم فلأجل تركه ذلك انتقل المجوسي من الكفر إلى الإيمان، فمن احترز عن الظلم كيف يكون حاله عند الله تعالى. الفائدة الثانية: اختلف القراء في هذه الكلمة، فمنهم من قرأ مالك يوم الدين، ومنهم من قرأ ملك يوم الدين. حجة من قرأ مالك وجوه: الأول: أن فيه حرفاً زائداً فكانت قراءته أكثر ثواباً. الثاني: أنه يحصل في القيامة ملوك كثيرون، أما المالك الحق ليوم الدين فليس إلا الله. الثالث: المالك قد يكون ملكاً وقد لا يكون كما أن الملك قد يكون مالكاً وقد لا يكون فالملكية والمالكية قد تنفك كل واحدة منهما عن الأخرى إلا أن المالكية سبب لإطلاق التصرف، والملكية ليست كذلك فكان المالك أولى. الرابع: إن الملك ملك للرعية، والمالك مالك للعبيد، والعبد أدون حالاً من الرعية، فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية، فوجب أن يكون المالك أعلى حالاً من الملك، الخامس: أن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك باختيار أنفسهم، أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكاً لذلك المالك باختيار نفسه، فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 200 | 201 | 202 | 203 | 204 | 205 | 206 | 207 | 208 | 209 | 210 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
السادس: أن الملك يجب عليه رعاية حال الرعية، قال عليه الصلاة والسلام وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، ولا يجب على الرعية خدمة الملك. أما المملوك فإنه يجب عليه خدمة المالك وأن لا يستقل بأمر إلا بإذن مولاه، حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة وإذا نوى مولاه السفر يصير هو مسافراً، وإن نوى مولاه الإقامة صار هو مقيماً فعلمنا أن الانقياد والخضوع في المملوكية أتم منه في كونه رعية، فهذه هي الوجوه الدالة على أن المالك أكمل من الملك. وحجة من قال أن الملك أولى من المالك وجوه: الأول: أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً أما الملك لا يكون إلا أعظم الناس وأعلاهم فكان الملك أشرف من المالك. الثاني: أنهم أجمعوا على أن قوله تعالى:**{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلنَّاسِ مَلِكِ ٱلنَّاسِ }** [الناس: 1، 2] لفظ الملك فيه متعين، ولولا أن الملك أعلى حالاً من المالك وإلا لم يتعين. الثالث: الملك أولى لأنه أقصر، والظاهر أنه يدرك من الزمان ما تذكر فيه هذه الكلمة بتمامها، بخلاف المالك فإنها أطول، فاحتمل أن لا يجد من الزمان ما يتم فيه هذه الكلمة، هكذا نقل عن أبي عمرو، وأجاب الكسائي بأن قال: إني أشرع في ذكر هذه الكلمة فإن لم أبلغها فقد بلغتها حيث عزمت عليها، نظيره في الشرعيات من نوى صوم الغد قبل غروب الشمس من اليوم في أيام رمضان لا يجزيه، لأنه في هذا اليوم مشتغل بصوم هذا اليوم، فإذا نوى صوم الغد كان ذلك تطويلاً للأمل، أما إذا نوى بعد غروب الشمس فإنه يجزيه لأنه وإن كان ذلك تطويلاً للأمل إلا أنه خرج عن الصوم بسبب غروب الشمس، ويجوز أن يموت في تلك الليلة، فيقول: إن لم أبلغ إلى اليوم فلا أقل من أكون على عزم الصوم، كذا ههنا يشرع في ذكر قوله مالك فإن تممها فذاك وإن لم يقدر على إتمامها كان عازماً على الإتمام وهو المراد. ثم نقول: أنه يتفرع على كونه ملكاً أحكام، وعلى كونه مالكاً أحكام أخر. أما الأحكام المتفرعة على كونه ملكاً فوجوه: الأول: أن السياسات على أربعة أقسام: سياسة الملاك وسياسة الملوك، وسياسة الملائكة، وسياسة ملك الملوك: فسياسة الملوك أقوى من سياسة الملاك لأنه لو اجتمع عالم من المالكين فإنهم لا يقاومون ملكاً واحداً، ألا ترى أن السيد لا يملك إقامة الحد على مملوكه عند أبي حنيفة وأجمعوا على أن الملك يملك إقامة الحدود على الناس، وأما سياسة الملائكة فهي فوق سياسات الملوك لأن عالماً من أكابر الملوك لا يمكنهم دفع سياسة ملك واحد، وأما سياسة ملك الملوك فإنها فوق سياسات الملائكة، ألا ترى إلى قوله تعالى:**{ يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 210 | 211 | 212 | 213 | 214 | 215 | 216 | 217 | 218 | 219 | 220 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[النبأ: 38] وقوله تعالى:**{ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }** [البقرة: 255] وقال في صفة الملائكة:**{ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ }** [الأنبياء: 28] فيا أيها الملوك لا تغتروا بما لكم من المال والملك فإنكم أسراء في قبضة قدرة مالك يوم الدين ويا أيها الرعية إذا كنتم تخافون سياسة الملك أفما تخافون سياسة ملك الملوك الذي هو مالك يوم الدين. الحكم الثاني: من أحكام كونه تعالى ملكاً أنه ملك لا يشبه سائر الملوك لأنهم إن تصدقوا بشيء انتقص ملكهم، وقلت خزائنهم أما الحق سبحانه وتعالى فملكه لا ينتقص بالعطاء والإحسان، بل يزداد، بيانه أنه تعالى إذا أعطاك ولداً واحداً لم يتوجه حكمه إلا على ذلك الولد الواحد، أما لو أعطاك عشرة من الأولاد كان حكمه وتكليفه لازماً على الكل، فثبت أنه تعالى كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكاً. الحكم الثالث: من أحكام كونه ملكاً كمال الرحمة، والدليل عليه آيات: إحداها: ما ذكر في هذه السورة من كونه رباً رحماناً رحيماً وثانيها: قوله تعالى:**{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ }** [الحشر: 22] ثم قال بعده:**{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ }** [الحشر: 23] ثم ذكر بعده كونه قدوساً عن الظلم والجور،ثم ذكر بعده كونه سلاماً، وهو الذي سلم عباده من ظلمه وجوره، ثم ذكر بعده كونه مؤمناً، وهو الذي يؤمن عبيده عن جوره وظلمه، فثبت أن كونه ملكاً لا يتم إلا مع كمال الرحمة. وثالثها: قوله تعالى:**{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ }** [الفرقان: 26] لما أثبت لنفسه الملك أردفه بأن وصف نفسه بكونه رحماناً، يعني إن كان ثبوت الملك له في ذلك اليوم يدل على كمال القهر، فكونه رحماناً يدل على زوال الخوف وحصول الرحمة. ورابعها: قوله تعالى:**{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلنَّاسِ مَلِكِ ٱلنَّاسِ }** [الناس:1، 2] فذكر أولاً كونه رباً للناس ثم أردفه بكونه ملكاً للناس، وهذه الآيات دالة على أن الملك لا يحسن ولا يكمل إلا مع الإحسان والرحمة، فيا أيها الملوك اسمعوا هذه الآيات وارحموا هؤلاء المساكين ولا تطلبوا مرتبة زائدة في الملك على ملك الله تعالى. الحكم الرابع: للملك أنه يجب على الرعية طاعته فإن خالفوه ولم يطيعوه وقع الهرج والمرج في العالم وحصل الاضطراب والتشويش ودعا ذلك إلى تخريب العالم وفناء الخلق، فلما شاهدتم أن مخالفة الملك المجازي تفضي آخر الأمر إلى تخريب العالم وفناء الخلق فانظروا إلى مخالفة ملك الملوك كيف يكون تأثيرها في زوال المصالح وحصول المفاسد؟ وتمام تقريره أنه تعالى بين أن الكفر سبب لخراب العالم، قال تعالى:**{ تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَـدَّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً }** [مريم: 90، 91] وبين أن طاعته سبب للمصالح قال تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 210 | 211 | 212 | 213 | 214 | 215 | 216 | 217 | 218 | 219 | 220 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ }** [طه: 132] فيا أيها الرعية كونوا مطيعين لملوككم، ويا أيها الملوك كونوا مطيعين لملك الملوك حتى تنتظم مصالح العالم. الحكم الخامس: أنه لما وصف نفسه بكونه ملكاً ليوم الدين أظهر للعالمين كمال عدله فقال:**{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ }** [فصلت: 46] ثم بين كيفية العدل فقال:**{ وَنَضَعُ ٱلْمَوٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً }** [الأنبياء: 47] فظهر بهذا أن كونه ملكاً حقاً ليوم الدين إنما يظهر بسبب العدل، فإن كان الملك المجازي عادلاً كان ملكاً حقاً وإلا كان ملكاً باطلاً فإن كان ملكاً عادلاً حقاً حصل من بركة عدله الخير والراحة في العالم وإن كان ملكاً ظالماً ارتفع الخير من العالم. يروى أن أنوشروان خرج إلى الصيد يوماً، وأوغل في الركض، وانقطع عن عسكره واستولى العطش عليه، ووصل إلى بستان، فلما دخل ذلك البستان رأى أشجار الرمان فقال لصبي حضر في ذلك البستان: أعطني رمانة واحدة، فأعطاه رمانة فشقها وأخرج حبها وعصرها فخرج منه ماء كثير فشربه، وأعجبه ذلك الرمان فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه ثم قال لذلك الصبي: أعطني رمانة أخرى، فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصاً مؤذياً، فقال: أيها الصبي لم صار الرمان هكذا؟ فقال الصبي: لعل ملك البلد عزم على الظلم، فلأجل شؤم ظلمه صار الرمان هكذا، فتاب أنوشروان في قلبه عن ذلك الظلم، وقال لذلك الصبي: أعطني رمانة أخرى، فأعطاه فعصرها فوجدها أطيب من الرمانة الأولى، فقال للصبي: لم بدلت هذه الحالة؟ فقال الصبي: لعل ملك البلد تاب عن ظلمه، فلما سمع أنوشروان هذه القصة من ذلك الصبي وكانت مطابقة لأحوال قلبه تاب بالكلية عن الظلم، فلا جرم بقي اسمه مخلداً في الدنيا بالعدل، حتى إن من الناس من يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ولدت في زمن الملك العادل». أما الأحكام المفرعة على كونه مالكاً فهي أربعة: الحكم الأول: قراءة المالك أرجى من قراءة الملك لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأساً برأس، أما المالك فالعبد يطلب منه الكسوة والطعام والرحمة والتربية فكأنه تعالى يقول: أنا مالككم فعلي طعامكم وثيابكم وثوابكم وجنتكم. الحكم الثاني: الملك وإن كان أغنى من المالك غير أن الملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه، وليست لنا طاعات ولا خيرات فلا يريد أن يطلب منا يوم القيامة أنواع الخيرات والطاعات، بل يريد أن نطلب منه يوم القيامة الصفح والمغفرة وإعطاء الجنة بمجرد الفضل، فلهذا السبب قال الكسائي: إقرأ مالك يوم الدين لأن هذه القراءة هي الدالة على الفضل الكثير والرحمة الواسعة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 210 | 211 | 212 | 213 | 214 | 215 | 216 | 217 | 218 | 219 | 220 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحكم الثالث: أن الملك إذا عرض عليه العسكر لم يقبل إلا من كان قوي البدن صحيح المزاج، أما من كان مريضاً فإنه يرده ولا يعطيه شيئاً من الواجب، أما المالك إذا كان له عبد فإن مرض عالجه وإن ضعف أعانه وإن وقع في بلاء خلصه، فالقراءة بلفظ المالك أوفق للمذنبين والمساكين. الحكم الرابع: الملك له هيبة وسياسة، والمالك له رأفة ورحمة، واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة. الفائدة الثالثة: الملك عبارة عن القدرة، فكونه مالكاً وملكاً عبارة عن القدرة، ههنا بحث: وهو أنه تعالى إما أن يكون ملكاً للموجودات أو للمعدومات، والأول: باطل، لأن إيجاد الموجودات محال فلا قدرة لله على الموجودات إلا بالإعدام، وعلى هذا التقرير فلا مالك إلا للعدم، والثاني: باطل أيضاً لأنه يقتضي أن تكون قدرته وملكه على العدم ويلزم أن يقال: إنه ليس لله في الموجودات مالكية ولا ملك وهذا بعيد. والجواب إن الله تعالى مالك الموجودات، وملكها، بمعنى أنه تعالى قادر على نقلها من الوجود إلى العدم، أو بمعنى أنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة، وهذه القدرة ليست إلا لله تعالى، فالملك الحق هو الله سبحانه وتعالى، إذا عرفت أنه الملك الحق فنقول: إنه الملك ليوم الدين وذلك لأن القدرة على إحياء الخلق بعد موتهم ليست إلا لله، والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس ليس إلا لله، فإذا كان الحشر والنشر والبعث والقيامة لا يتأتى إلا بعلم متعلق بجميع المعلومات وقدرة متعلقة بجميع الممكنات، ثبت أنه لا مالك ليوم الدين إلا الله، وتمام الكلام في هذا الفصل متعلق بمسألة الحشر والنشر. فإن قيل: إن المالك لا يكون مالكاً للشيء إلا إذا كان المملوك موجوداً، والقيامة غير موجودة في الحال، فلا يكون الله مالكاً ليوم الدين، بل الواجب أن يقال: مالك يوم الدين، بدليل أنه لو قال: أنا قاتل زيد، فهذا إقرار، ولو قال أنا قاتل زيداً بالتنوين كان تهديداً ووعيداً. قلنا: الحق ما ذكرتم، إلا أن قيام القيامة لما كان أمراً حقاً لا يجوز الإخلال في الحكمة جعل وجود القيامة كالأمر القائم في الحال الحاصل في الحال، وأيضاً من مات فقد قامت قيامته فكانت القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال. الفائدة الرابعة: أنه تعالى ذكر في هذه السورة من أسماء نفسه خمسة: الله، والرب، والرحمن والرحيم، والمالك. والسبب فيه كأنه يقول: خلقتك أولاً فأنا إله. ثم ربيتك بوجوه النعم فأنا رب، ثم عصيت فسترت عليك فأنا رحمن ثم تبت فغفرت لك فأنا رحيم، ثم لا بدّ من إيصال الجزاء إليك فأنا مالك يوم الدين. فإن قيل: إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية مرة واحدة، وفي السورة مرة ثانية فالتكرير فيهما حاصل وغير حاصل في الأسماء الثلاثة فما الحكمة؟.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 210 | 211 | 212 | 213 | 214 | 215 | 216 | 217 | 218 | 219 | 220 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
قلنا: التقدير كأنه قيل: أذكر أني إله ورب مرة واحدة، وأذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال: لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين، ونظيره قوله تعالى:**{ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِى ٱلطَّوْلِ }** [غافر: 3]. الفائدة الخامسة: قالت القدرية: إن كان خالق أعمال العباد هو الله امتنع القول بالثواب والعقاب والجزاء لأن ثواب الرجل على ما لم يعمله عبث، وعقابه على ما لم يعمله ظلم، وعلى هذا التقدير فيبطل كونه مالكاً ليوم الدين، وقالت الجبرية: لو لم تكن أعمال العباد بتقدير الله وترجيحه لم يكن مالكاً لها، ولما أجمع المسلمون على كونه مالكاً للعباد ولأعمالهم علمنا أنه خالق لها مقدر لها، والله أعلم. الفصل الخامس في تفسير قوله إياك نعبد وإياك نستعين وفيه فوائد معنى قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }: الفائدة الأولى: العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير، وهو مأخوذ من قولهم: طريق معبد، أي مذلل، واعلم أن قولك إياك نعبد معناه لا أعبد أحداً سواك، والذي يدل على هذا الحصر وجوه: الأول: أن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم، وهي لا تليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام، وأعظم وجوه الإنعام الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع وخلق المنتفع به، فالمرتبة الأولى ـ وهي الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع ـ وإليها الإشارة بقوله تعالى:**{ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }** [مريم: 9] وقوله:**{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ }** [البقرة: 28] ـ الآية والمرتبة الثانية ـ وهي خلق المنتفع به ـ وإليها الإشارة بقوله تعالى:**{ هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً }** [البقرة: 29] ولما كانت المصالح الحاصلة في هذا العالم السفلي إنما تنتظم بالحركات الفلكية على سبيل إجراء العادة لا جرم أتبعه بقوله:**{ ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ }** [البقرة: 29] فثبت بما ذكرنا أن كل النعم حاصل بإيجاد الله تعالى، فوجب أن لا تحسن العبادة إلا لله تعالى، فلهذا المعنى قال إياك نعبد، فإن قوله إياك نعبد يفيد الحصر. الوجه الثاني: في دلائل هذاالحصر والتعيين: وذلك لأنه تعالى سمى نفسه ههنا بخمسة أسماء: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، ومالك يوم الدين، وللعبد أحوال ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل: أما الماضي فقد كان معدوماً محضاً كما قال تعالى:**{ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }** [مريم: 9] وكان ميتاً فأحياه الله تعالى كما قال:**{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ }** [البقرة: 28] وكان جاهلاً فعلمه الله كما قال:**{ وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأبْصَـٰرَ وَٱلأفْئِدَةَ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 210 | 211 | 212 | 213 | 214 | 215 | 216 | 217 | 218 | 219 | 220 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[النحل: 78] والعبد إنما انتقل من العدم إلى الوجود ومن الموت إلى الحياة ومن العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى العلم لأجل أن الله تعالى كان قديماً أزلياً، فبقدرته الأزلية وعلمه الأزلي أحدثه ونقله من العدم إلى الوجود فهو إله لهذا المعنى، وأما الحال الحاضرة للعبد فحاجته شديدة لأنه كلما كان معدوماً كان محتاجاً إلى الرب الرحمن الرحيم، أما لما دخل في الوجوه انفتحت عليه أبواب الحاجات وحصلت عند أسباب الضرورات، فقال الله تعالى: أنا إله لأجل أني أخرجتك من العدم إلى الوجود. أما بعد أن أصرت موجوداً فقد كثرت حاجاتك إليّ فأنا رب رحمن رحيم، وأما الحال المستقبلة للعبد فهي حال ما بعد الموت والصفة المتعلقة بتلك الحالة هي قوله مالك يوم الدين، فصارت هذه الصفات الخمس من صفات الله تعالى متعلقة بهذه الأحوال الثلاثة للعبد فظهر أن جميع مصالح العبد في الماضي والحاضر والمستقبل لا يتم ولا يكمل إلا بالله وفضله وإحسانه، فلما كان الأمر كذلك وجب أن لا يشتغل العبد بعبادة شيء إلا بعبادة الله تعالى، فلا جرم قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين على سبيل الحصر. الوجه الثالث: في دليل هذا الحصر، وهو أنه قد دل الدليل القاطع على وجوب كونه تعالى قادراً عالماً محسناً جواداً كريماً حليماً، وأما كون غيره كذلك فمشكوك فيه لأنه لا أثر يضاف إلى الطبع والفلك والكواكب والعقل والنفس إلا ويحتمل إضافته إلى قدرة الله تعالى، ومع هذا الاحتمال صار ذلك الانتساب مشكوكاً فيه، فثبت أن العلم بكون الإله تعالى معبوداً للخلق أمر يقيني، وأما كون غيره معبوداً للخلق فهو أمر مشكوك فيه، والأخذ باليقين أولى من الأخذ بالشك، فوجب طرح المشكوك والأخذ بالمعلوم وعلى هذا لا معبود إلا الله تعالى فلهذا المعنى قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. الوجه الرابع: أن العبودية ذلة ومهانة إلا أنه كلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية به أهنأ وأمرأ، ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها فكانت عبوديته أولى من عبودية غيره، وأيضاً قدرة الله تعالى أعلى من قدرة غيره وعلمه أكمل من علم غيره وجوده أفضل من جود غيره، فوجب القطع بأن عبوديته أولى من عبودية غيره، فلهذا السبب قال إياك نعبد وإياك نستعين. الوجه الخامس: أن كل ما سوى الواجب لذاته يكون ممكناً لذاته وكل ما كان ممكناً لذاته كان محتاجاً فقيراً والمحتاج مشغول بحاجة نفسه فلا يمكنه القيام بدفع الحاجة عن الغير، والشي ما لم يكن غنياً في ذاته لم يقدر على دفع الحاجة عن غيره والغني لذاته هو الله تعالى فدافع الحاجات هو الله تعالى، فمستحق العبادات هو الله تعالى، فلهذا السبب قال: إياك نعبد وإياك نستعين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 210 | 211 | 212 | 213 | 214 | 215 | 216 | 217 | 218 | 219 | 220 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الوجه السادس: استحقاق العبادة يستدعي قدرة الله تعالى بأن يمسك سماء بلا علاقة، وأرضاً بلا دعامة، ويسير الشمس والقمر، ويسكن القطبين، ويخرج من السحاب تارة النار وهو البرق، وتارة الهواء وهي الريح، وتارة الماء وهو المطر، وأما في الأرض فتارة يخرج الماء من الحجر وهو ظاهر، وتارة يخرج الحجر من الماء وهو الجمد، ثم جعل في الأرض أجساماً مقيمة لا تسافر وهي الجبال وأجساماً مسافرة لا تقيم وهي الأنهار، وخسف بقارون فجعل الأرض فوقه، ورفع محمداً عليه الصلاة والسلام فجعل قاب قوسين تحته، وجعل الماء ناراً على قوم فرعون أغرقوا فأدخلوا ناراً، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، ورفع موسى فوق الطور، وقال له:**{ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ }** [طه: 12] ورفع الطور عى موسى وقومه**{ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ }** [البقرة: 63] وغرق الدنيا من التنور اليابسة لقوله:**{ وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ }** [هود: 40] وجعل البحر يبساً لموسى عليه السلام، فمن كانت قدرته هكذا كيف يسوى في العبادة بينه وبين غيره من الجمادات أو النبات أو الحيوان أو الإنسان أو الفلك أو الملك، فإن التسوية بين الناقص والكامل والخسيس والنفيس تدل على الجهل والسفه. الفائدة الثانية: قوله إياك نعبد يدل على أنه لا معبود إلا الله، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه لا إله إلا الله، فقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يدل على التوحيد المحض واعلم أن المشركين طوائف، وذلك لأن كل من اتخذ شريكاً لله فذلك الشريك إما أن يكون جسماً وإما أن لا يكون، أما الذين اتخذوا شريكاً جسمانياً فذلك الشريك أما أن يكون من الأجسام السفلية أو من الأجسام العلوية، أما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام السفلية فذلك الجسم إما أن يكون مركباً أو بسيطاً، أما المركب فأما أن يكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوان أو من الإنسان، أما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام المعدنية فهم الذين يتخذون الأصنام إما من الأحجار أو من الذهب أو من الفضة ويعبدونها، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام النباتية فهم الذين اتخذوا شجرة معينة معبوداً لأنفسهم، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الحيوان فهم الذين اتخذوا العجل معبوداً لأنفسهم، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الناس فهم الذين قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام البسيطة فهم الذين يعبدون النار وهم المجوس، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام العلوية فهم الذين يعبدون الشمس والقمر وسائر الكواكب ويضيفون السعادة والنحوسة إليها وهم الصابئة وأكثر المنجمين، وأما الذين اتخذوا الشركاء لله من غير الأجسام فهم أيضاً طوائف: الطائفة الأولى: الذين قالوا مدبر العالم هو النور والظلمة، وهؤلاء هم المانوية والثنوية. والطائفة الثانية: هم الذين قالوا: الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح معين من الأرواح الفلكية يدبره ولكل نوع من أنواع هذا العالم روح فلكي يدبره ويتخذون لتلك الأرواح صوراً وتماثيل ويعبدونها وهؤلاء هم عبدة الملائكة والطائفة الثالثة: الذين قالوا للعالم إلهان: أحدهما: خير، والآخر شرير، وقالوا: مدبر هذا العالم هو الله تعالى وإبليس، وهما أخوان، فكل ما في العالم من الخيرات فهو من الله وكل ما فيه من الشر فهو من إبليس.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 210 | 211 | 212 | 213 | 214 | 215 | 216 | 217 | 218 | 219 | 220 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
إذا عرفت هذه التفاصيل فنقول: كل ما اتخذ لله شريكاً فإنه لا بدّ وأن يكون مقدماً على عبادة ذلك الشريك من بعض الوجوه، إما طلباً لنفعه أو هرباً من ضرره، وأما الذين أصروا على التوحيد وأبطلوا القول بالشركاء والأضداد ولم يعبدوا إلا الله ولم يلتفتوا إلى غير الله فكان رجاؤهم من الله وخوفهم من الله ورغبتهم في الله ورهبتهم من الله فلا جرم لم يعبدوا إلا الله ولم يستعينوا إلا بالله فلهذا قالوا: إياك نعبد وإياك نستعين، فكان قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قائماً مقام قوله: { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ }. واعلم أن الذكر المشهور هو أن تقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقد دللنا على أن قولنا الحمد لله يدخل فيه معنى قولنا سبحان الله لأن قوله سبحانه الله يدل على كونه كاملاً تاماً في ذاته، وقوله الحمد لله يدل على كونه مكملاً متمماً لغيره، والشيء لا يكون مكملاً متمماً لغيره إلا إذا كان قبل ذلك تاماً كاملاً في ذاته، فثبت أن قولنا الحمد لله دخل فيه معنى قولنا سبحان الله ولما قال الحمد لله فأثبت جميع أنواع الحمد ذكر ما يجري مجرى العلة لإثبات جميع أنواع الحمد لله، فوصفه بالصفات الخمس وهي التي لأجلها تتم مصالح العبد في الأوقات الثلاثة على ما بيناه، ولما بين ذلك ثبت صحة قولنا سبحان الله والحمد لله ثم ذكر بعده قوله إياك نعبد، وقد دللنا على أنه قائم مقام لا إله إلا الله ثم ذكر قوله وإياك نستعين، ومعناه أن الله تعالى أعلى وأجل وأكبر من أن يتم مقصود من المقاصد وغرض من الأغراض إلا بإعانته وتوفيقه وإحسانه، وهذا هو المراد من قولنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فثبت أن سورة الفاتحة من أولها إلى آخرها منطبقة على ذلك الذكر، وآيات هذه السورة جارية مجرى الشرح والتفصيل للمراتب الخمس المذكورة في ذلك الذكر. الفائدة الثالثة: قال إياك نعبد، فقدم قوله إياك على قوله نعبد ولم يقل نعبدك، وفيه وجوه: أحدها: أنه تعالى قدم ذكر نفسه ليتنبه العابد على أن المعبود هو الله الحق، فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يميناً وشمالاً يحكى أن واحداً من المصارعين الأستاذين صارع رستاقياً جلفاً فصرع الرستاقي ذلك الأستاذ مراراً فقيل للرستاقي: إنه فلان الأستاذ، فانصرع في الحال منه، وما ذاك إلا لاحتشامه منه، فكذا ههنا: عرفه ذاته أولاً حتى تحصل العبادة مع الحشمة فلا تمتزج بالغفلة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 210 | 211 | 212 | 213 | 214 | 215 | 216 | 217 | 218 | 219 | 220 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وثانيها: أنه إن ثقلت عليك الطاعات وصعبت عليك العبادات من القيام والركوع والسجود فاذكر أولاً قوله إياك نعبد لتذكرني وتحضر في قلبك معرفتي، فإذا ذكرت جلالي وعظمتي وعزتي وعلمت أني مولاك وأنك عبدي سهلت عليك تلك العبادات، ومثاله أن من أراد حمل الجسم الثقيل تناول قبل ذلك ما يزيده قوة وشدة، فالعبد لما أراد حمل التكاليف الشاقة الشديدة تناول أولاً معجون معرفة الربوبية من بستوقة قوله إياك حتى يقوى على حمل ثقل العبودية، ومثال آخر وهو أن العاشق الذي يضرب لأجل معشوقه في حضرة معشوقه يسهل عليه ذلك الضرب، فكذا ههنا: إذا شاهد جمال إياك سهل عليه تحمل ثقل العبودية. وثالثها: قال الله تعالى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰـئِفٌ مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }** [الأعراف: 201] فالنفس إذا مسها طائف من الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة تذكروا حضرة جلال الله من مشرق قوله إياك نعبد فيصيرون مبصرين مستعدين لأداء العبادات والطاعات. ورابعها: أنك إذا قلت نعبدك فبدأت أولاً بذكر عبادة نفسك ولم تذكر أن تلك العبادة لمن، فيحتمل أن إبليس يقول هذه العبادة للأصنام أو للأجسام أو للشمس أو القمر، أما إذا غيرت هذا الترتيب وقلت أولاً إياك ثم قلت ثانياً نعبد كان قولك أولاً إياك صريحاً بأن المقصود والمعبود هو الله تعالى، فكان هذا أبلغ في التوحيد وأبعد عن احتمال الشرك. وخامسها: وهو أن القديم الواجب لذاته متقدم في الوجود على المحدث الممكن لذاته، فوجب أن يكون ذكره متقدماً على جميع الأذكار فلهذا السبب قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون ذكر الحق متقدماً على ذكر الخلق. وسادسها: قال بعض المحققين: من كان نظره في وقت النعمة إلى المنعم لا إلى النعمة كان نظره في وقت البلاء إلى المبتلى لا إلى البلاء، وحينئذٍ يكون غرقاً في كل الأحوال في معرفة الحق سبحانه، وكل من كان كذلك كان أبداً في أعلى مراتب السعادات، أما من كان نظره في وقت النعمة إلى النعمة لا إلى المنعم كان نظره في وقت البلاء إلى البلاء لا إلى المبتلى فكان غرقاً في كل الأوقات في الإشتغال بغير الله، فكان أبداً في الشقاوة، لأن في وقت وجدان النعمة يكون خائفاً من زوالها فكان في العذاب وفي وقت فوات النعمة كان مبتلي بالخزي والنكال فكان في محض السلاسل والأغلال، ولهذا التحقيق قال لأمة موسى:**{ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ }** [البقرة: 40]، وقال لأمة محمد عليه السلام:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 210 | 211 | 212 | 213 | 214 | 215 | 216 | 217 | 218 | 219 | 220 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ فَٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ }** [البقرة: 152]، إذا عرفت هذا فنقول: إنما قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون مستغرقاً في مشاهدة نور جلال إياك، ومتى كان الأمر كذلك كان في وقت أداء العبادة مستقراً في عين الفردوس، كما قال تعالى: لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً. وسابعها: لو قيل نعبدك لم يفد نفي عبادتهم لغيره، لأنه لا امتناع في أن يعبدوا الله ويعبدوا غير الله كما هو دأب المشركين أما لما قال إياك نعبد أفاد أنهم يعبدونهم ولا يعبدون غير الله. وثامنها: أن هذه النون نون العظمة، فكأنه قيل له متى كنت خارج الصلاة فلا تقل نحن ولو كنت في ألف ألف من العبيد، أما لما اشتغلت بالصلاة وأظهرت العبودية لنا فقل نعبد ليظهر للكل أن كل من كان عبداً لنا كان ملك الدنيا والآخرة. وتاسعها: لو قال إياك أعبد لكان ذلك تكبراً ومعناه أني أنا العابد أما لما قال إياك نعبد كان معناه أني واحد من عبيدك، فالأول تكبر، والثاني تواضع، ومن تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله. فإن قال قائل: جميع ما ذكرتم قائم في قوله الحمد لله مع أنه قدم فيه ذكر الحمد على ذكر الله. فالجواب أن قوله الحمد يحتمل أن يكون لله ولغير الله فإذا قلت لله فقد تقيد الحمد بأن يكون لله أما لو قدم قوله «نعبد» احتمل أن يكون لله واحتمل أن يكون لغير الله وذلك كفر والنكتة أن الحمد لما جاز لغير الله في ظاهر الأمر كما جاز لله، لا جرم حسن تقدم الحمد أما ههنا فالعبادة لما لم تجز لغير الله لا جرم قدم قوله إياك على نعبد، فتعين الصرف للعبادة فلا يبقى في الكلام احتمال أن تقع العبادة لغير الله. الفائدة الرابعة: لقائل أن يقول: النون في قوله نعبد أما أن تكون نون الجمع أو نون التعظيم، والأول: باطل، لأن الشخص الواحد لا يكون جمعاً، والثاني: باطل لأن عند أداء العبادة، فاللائق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعجز والذلة لا بالعظمة والرفعة. واعلم أنه يمكن الجواب عنه من وجوه، كل واحد من تلك الوجوه يدل على حكمة بالغة: فالوجه الأول: أن المراد من هذه النون نون الجمع وهو تنبيه على أن الأولى بالإنسان أن يؤدي الصلاة بالجماعة، واعلم أن فائدة الصلاة بالجماعة معلومة في موضعها، ويدل عليه قوله عليه السلام: **" التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها "** ثم نقول: إن الإنسان لو أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة لئلا يتأذى منه إنسان فكأنه تعالى يقول: هذه الطاعة التي لها هذا الثواب العظيم لا يفي ثوابها بأن يتأذى واحد من المسلمين برائحة الثوم والبصل، فإذا كان هذا الثواب لا يفي بذلك فكيف يفي بإيذاء المسلم وكيف يفي بالنميمة والغيبة والسعاية.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 210 | 211 | 212 | 213 | 214 | 215 | 216 | 217 | 218 | 219 | 220 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الوجه الثاني: أن الرجل إذا كان يصلي بالجماعة فيقول نعبد، والمراد منه ذلك الجمع، وإن كان يصلي وحده كان المراد أني أعبدك والملائكة معي في العبادة. فكان المراد بقوله نعبد هو وجميع الملائكة الذين يعبدون الله. الوجه الثالث: أن المؤمنين أخوة فلو قال إياك أعبد لكان قد ذكر عبادة نفسه ولم يذكر عبادة غيره، أما لما قال إياك نعبد كان قد ذكر عبادة نفسه وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً فكأنه سعى في إصلاح مهمات سائر المؤمنين، وإذا فعل ذلك قضى الله مهماته لقوله عليه السلام: **" من قضى لمسلم حاجة قضى الله له جميع حاجاته ".** الوجه الرابع: كأنه تعالى قال للعبد لما أثنيت علينا بقولك الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وفوضت إلينا جميع محامد الدنيا والآخرة فقد عظم قدرك عندنا وتمكنت منزلتك في حضرتنا، فلا تقتصر على إصلاح مهماتك وحدك، ولكن أصلح حوائج جميع المسلمين فقل " إياك نعبد وإياك نستعين ". الوجه الخامس: كأن العبد يقول: إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أستحق أن أذكرها وحدها لأنها ممزوجة بجهات التقصير، ولكني أخلطها بعبادات جميع العابدين، وأذكر الكل بعبارة واحدة وأقول إياك نعبد. وههنا مسألة شرعية، وهي أن الرجل إذا باع من غيره عشرة من العبيد فللمشتري إما أن يقبل الكل، أو لا يقبل واحداً منها، وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة فكذا هنا إذا قال العبد إياك نعبد فقد عرض على حضرة الله جميع عبادات العابدين، فلا يليق بكرمه أن يميز البعض عن البعض ويقبل البعض دون البعض، فأما أن يرد الكل وهو غير جائز لأن قوله إياك نعبد دخل فيه عبادات الملائكة وعبادات الأنبياء والأولياء، وإما أن يقبل الكل، وحينئذٍ تصير عبادة هذا القائل مقبولة ببركة قبول عبادة غيره، والتقدير كأن العبد يقول: إلهي إن لم تكن عبادتي مقبولة فلا تردني لأني لست بوحيد في هذه العبادة بل نحن كثيرون فإن لم أستحق الإجابة والقبول فأتشفع إليك بعبادات سائر المتعبدين فأجبني. الفائدة الخامسة: اعلم أن من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها وثقل عليه الاشتغال بغيرها، وبيانه من وجوه: الأول: أن الكمال محبوب بالذات، وأكمل أحوال الإنسان وأقواها في كونها سعادة اشتغاله بعبادة الله، فإنه يستنير قلبه بنور الإلهية، ويتشرف لسانه بشرف الذكر والقراءة، وتتجمل أعضاؤه بجمال خدمة الله، وهذه الأحوال أشرف المراتب الإنسانية والدرجات البشرية، فإذا كان حصول هذه الأحوال أعظم السعادات الإنسانية في الحال، وهي موجبة أيضاً لأكمل السعادات في الزمان المستقبل، فمن وقف على هذه الأحوال زال عنه ثقل الطاعات وعظمت حلاوتها في قلبه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 220 | 221 | 222 | 223 | 224 | 225 | 226 | 227 | 228 | 229 | 230 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثاني: أن العبادة أمانة بدليل قوله تعالى:**{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَاتِ }** [الأحزاب: 72] ـ الآية وأداء الأمانة واجب عقلاً وشرعاً، بدليل قوله:**{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأمَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا }** [النساء: 58] وأداء الأمانة صفة من صفات الكمال محبوبة بالذات ولأن الأداء الأمانة أحد الجانبين سبب لأداء الأمانة من الجانب الثاني قال بعض الصحابة: رأيت أعرابياً أتى باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء، فتعجبنا، فلما خرج لم يجد ناقته فقال: إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي؟ قال الراوي فزدنا تعجباً، فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه، والنكتة أنه لما حفظ أمانة الله حفظ الله أمانته، وهو المراد من قوله عليه السلام لابن عباس: **" يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات ".** الثالث: أن الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى عالم السرور، ومن الاشتغال بالخلق إلى حضرة الحق، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة: يحكى عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف، وتفرق الناس، وكان أبو حنيفة في الصلاة ولم يشعر بها، ووقعت الآكلة في بعض أعضاء عروة بن الزبير، واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو، فلما شرع في الصلاة قطعوا منه ذلك العضو فلم يشعر عروة بذلك القطع، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره، أزيزاً كأزيز المرجل، ومن استبعد هذا فليقرأ قوله تعالى:**{ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ }** [يوسف: 31] فإن النسوة لما غلب على قلوبهن جمال يوسف عليه السلام وصلت تلك الغلبة إلى حيث قطعن أيديهن وما شعرن بذلك، فإذا جاز هذا في حق البشر فلأن يجوز عند استيلاء عظمة الله على القلب أولى، ولأن من دخل على ملك مهيب فربما مر به أبواه وبنوه وهو ينظر إليهم ولا يعرفهم لأجل أن استيلاء هيبة ذلك الملك تمنع القلب عن الشعور بهم، فإذا جاز هذا في حق ملك مخلوق مجازى فلأن يجوز في حق خالق العالم أولى. ثم قال أهل التحقيق: العبادة لها ثلاث درجات: الدرجة الأولى: أن يعبد الله طمعاً في الثواب أو هرباً من العقاب، وهذا هو المسمى بالعبادة، وهذه الدرجة نازلة ساقطة جداً، لأن معبوده في الحقيقة هو ذلك الثواب، وقد جعل الحق وسيلة إلى نيل المطلوب، ومن جعل المطلوب بالذات شيئاً من أحوال الخلق وجعل الحق وسيلة إليه فهو خسيس جداً. والدرجة الثانية: أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته، أو يتشرف بقبول تكاليفه، أو يتشرف بالانتساب إليه، وهذه الدرجة أعلى من الأولى، إلا أنها أيضاً ليست كاملة، لأن المقصود بالذات غير الله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 220 | 221 | 222 | 223 | 224 | 225 | 226 | 227 | 228 | 229 | 230 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والدرجة الثالثة: أن يعبد الله لكونه إلهاً وخالقاً، ولكونه عبداً له، والإلهية توجب الهيبة والعزة، والعبودية توجب الخضوع والذلة، وهذا أعلى المقامات وأشرف الدرجات، وهذا هو المسمى بالعبودية، وإليه الإشارة بقول المصلي في أول الصلاة أصلي لله، فإنه لو قال أصلي لثواب الله، أو للهرب من عقابه فسدت صلاته. واعلم أن العبادة والعبودية مقام عالٍ شريف، ويدل عليه آيات: الأولى: قوله تعالى في آخر سورة الحجر:**{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ }** [الحجر: 97 ـ 99] والاستدلال بها وجهين: أحدهما: أنه قال: { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } فأمر محمداً عليه الصلاة والسلام بالمواظبة على العبادة إلى أنه يأتيه الموت، ومعناه أنه لا يجوز الإخلال بالعبادة في شيء من الأوقات، وذلك يدل على غاية جلالة أمر العبادة، وثانيهما: أنه قال: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } ثم إنه تعالى أمره بأربعة أشياء: التسبيح: وهو قوله فسبح والتحميد: وهو قوله بحمد ربك والسجود: وهو قوله: { وَكُنْ مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ } والعبادة وهي قوله: { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } وهذا يدل على أن العبادة تزيل ضيق القلب، وتفيد انشراح الصدر، وما ذاك إلا لأن العبادة توجب الرجوع من الخلق إلى الحق، وذلك يوجب زوال ضيق القلب. الآية الثانية: في شرف العبودية: قوله تعالى:**{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً }** [الإسراء: 1] ولولا أن العبودية أشرف المقامات، وإلا لما وصفه الله بهذه الصفة في أعلى مقامات المعراج، ومنهم من قال: العبودية أشرف من الرسالة، لأن بالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق، وأيضاً بسبب العبودية ينعزل عن التصرفات، وبسبب الرسالة يقبل على التصرفات، واللائق بالعبد والانعزال عن التصرفات، وأيضاً العبد يتكفل المولى بإصلاح مهماته، والرسول هو المتكفل بإصلاح مهمات الأمة، وشتان ما بينهما. الآية الثالثة: في شرف العبودية: أن عيسى أول ما نطق قال:**{ إِنّى عَبْدُ ٱللَّهِ }** [مريم: 30] وصار ذكره لهذه الكلمة سبباً لطهارة أمه، ولبراءة وجوده عن الطعن، وصار مفتاحاً لكل الخيرات، ودافعاً لكل الآفات، وأيضاً لما كان أول كلام عيسى ذكر العبودية كانت عاقبته الرفعة، كما قال تعالى:**{ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ }** [آل عمران: 55] والنكتة أن الذي ادعى العبودية بالقول رفع إلى الجنة، والذي يدعيها بالعمل سبعين سنة كيف يبقى محروماً عن الجنة. الآية الرابعة: قوله تعالى لموسى عليه السلام:**{ إِنَّنِى أَنَا ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱعْبُدْنِى }** [طه: 14] أمره بعد التوحيد بالعبودية، لأن التوحيد أصل، والعبودية فرع، والتوحيد شجرة والعبودية ثمرة، ولا قوام لأحدهما إلا بالآخر، فهذه الآيات دالة على شرف العبودية.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 220 | 221 | 222 | 223 | 224 | 225 | 226 | 227 | 228 | 229 | 230 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأما المعقول فظاهر، وذلك لأن العبد محدث ممكن الوجود لذاته، فلولا تأثير قدرة الحق فيه لبقي في ظلمة العدم وفي فناء الفناء ولم يحصل له الوجود فضلاً عن كمالات الوجود، فلما تعلقت قدرة الحق به وفاضت عليه آثار جوده وإيجاده حصل له الوجود وكمالات الوجود ولا معنى لكونه مقدور قدرة الحق ولونه متعلق إيجاد الحق إلا العبودية، فكل شرف وكمال وبهجة وفضيلة ومسرة ومنقبة حصلت للعبد فإنما حصلت بسبب العبودية، فثبت أن العبودية مفتاح الخيرات، وعنوان السعادات، ومطلع الدرجات، وينبوع الكرامات، فلهذا السبب قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، وكان علي كرم الله وجهه يقول: كفى بي فخراً أن أكون لك عبداً، وكفى بي شرفاً أن تكون لي رباً، اللهم إني وجدتك إلهاً كما أردت فاجعلني عبداً كما أردت. الفائدة السادسة: اعلم أن المقامات محصورة في مقامين: معرفة الربوبية، ومعرفة العبودية وعند اجتماعهما يحصل العهد المذكور في قوله:**{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }** [البقرة: 40] أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } فكون العبد منتقلاً من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلهاً، وحصول الخيرات والسعادات للعبد حال وجوده يدل على كونه رباً رحماناً رحيماً، وأحوال معاد العبد تدل على كونه مالك يوم الدين، وعند الإحاطة بهذه الصفات حصلت معرفة الربوبية على أقصى الغايات، وبعدها جاءت معرفة العبودية، ولها مبدأ وكمال، وأول وآخر، أما مبدؤها وأولها فهو الاشتغال بالعبودية وهو المراد، بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وأما كمالها فهو أن يعرف العبد أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، فعند ذلك يستعين بالله في تحصيل كل المطالب، وذلك هو المراد بقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ولما تم الوفاء بعهد الربوبية وبعهد العبودية ترتب عليه طلب الفائدة والثمرة، وهو قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وهذا ترتيب شريف رفيع عالٍ يمتنع في العقول حصول ترتيب آخر أشرف منه. الفائدة السابعة: لقائل أن يقول: قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين كله مذكور على لفظ الغيبة، وقوله إياك نعبد وإياك نستعين انتقال من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب، فما الفائدة فيه؟ قلنا فيه وجوه: الأول: أن المصلي كان أجنبياً عند الشروع في الصلاة، فلا جرم أثنى على الله بألفاظ المغايبة إلى قوله مالك يوم الدين، ثم إنه تعالى كأنه يقول له حمدتني واقررت بكوني إلهاً رباً رحماناً رحيماً مالكاً ليوم الدين، فنعم العبد أنت قد رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل إياك نعبد. الوجه الثاني: أن أحسن السؤال ما وقع على سبيل المشافهة، ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام لما سألوا ربهم شافهوه بالسؤال فقالوا:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 220 | 221 | 222 | 223 | 224 | 225 | 226 | 227 | 228 | 229 | 230 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا }** [الأعراف: 23]، و**{ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا }** [آل عمران: 147]، و**{ رَبّ هَبْ لِى }** [آل عمران: 38]، و**{ رَبّ أَرِنِى }** [الأعراف: 143] والسبب فيه أن الرد من الكريم على سبيل المشافهة والمخاطبة بعيد وأيضاً العبادة خدمة، والخدمة في الحضور أولى. الوجه الثالث: أن من أول السورة إلى قوله إياك نعبد ثناء، والثناء في الغيبة أولى، ومن قوله إياك نعبد وإياك نستعين إلى آخر السورة دعاء، والدعاء في الحضور أولى. الوجه الرابع: العبد لما شرع في الصلاة وقال نويت أن أصلي تقرباً إلى الله فينوي حصول القربة، ثم إنه ذكر بعد هذه النية أنواعاً من الثناء على الله، فاقتضى كرم الله إجابته في تحصيل تلك القربة، فنقله من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، فقال: إياك نعبد وإياك نستعين. الفصل السادس في قوله { وإياك نستعين } معنى قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }: اعلم أنه ثبت بالدلائل العقلية أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، ويدل عليه وجوه من العقل والنقل، أما العقل فمن وجوه: الأول: أن القادر متمكن من الفعل والترك على السوية، فما لم يحصل المرجح لم يحصل الرجحان، وذلك المرجح ليس من العبد، وإلا لعاد في الطلب، فهو من الله تعالى، فثبت أن العبد لا يمكنه الإقدام على الفعل إلا بإعانة الله. الثاني: أن جميع الخلائق يطلبون الدين الحق والاعتقاد الصدق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب، ففوز البعض بدرك الحق لا يكون إلا بإعانة معين، وما ذاك المعين إلا الله تعالى، لأن ذلك المعين لو كان بشراً أو ملكاً لعاد الطلب فيه. الثالث: أن الإنسان قد يطالب بشيء مدة مديدة ولا يأتي به، ثم في أثناء حال أو وقت يأتي به ويقدم عليه، ولا يتفق له تلك الحالة إلا إذا وقعت داعية جازمة في قلبه تدعوه إلى ذلك الفعل، فإلقاء تلك الداعية في القلب وإزالة الدواعي المعارضة لها ليست إلا من الله تعالى، ولا معنى للإعانة إلا ذلك. وأما النقل فيدل عليه آيات: أولاها: قوله وإياك نستعين، وثانيتها: قوله:**{ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ }** [الأعراف: 128] وقد اضطربت الجبرية والقدرية في هذه الآية: أما الجبرية فقالوا: لو كان العبد مستقلاً بالفعل لما كان للاستعانة على الفعل فائدة، وأما القدرية فقالوا الاستعانة إنما تحسن لو كان العبد متمكناً من أصل الفعل، فتبطل الإعانة من الغير، أما إذا لم يقدر على الفعل لم تكن للاستعانة فائدة. وعندي أن القدرة لا تؤثر في الفعل إلا مع الداعية الجازمة، فالإعانة المطلوبة عبارة عن خلق الداعية الجازمة، وإزالة الداعية الصارفة ولنذكر ما في هذه الكلمة من اللطائف والفوائد: الفائدة الأولى: لقائل أن يقول: الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع في العمل وههنا ذكر قوله إياك نعبد ثم ذكر عقيبه وإياك نستعين، فما الحكمة فيه؟ الجواب من وجوه: الأول: كأن المصلي يقول: شرعت في العبادة فأستعين بك في إتمامها، فلا تمنعني من إتمامها بالموت ولا بالمرض ولا بقلب الدواعي وتغيرها.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 220 | 221 | 222 | 223 | 224 | 225 | 226 | 227 | 228 | 229 | 230 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثاني: كأن الإنسان يقول: يا إلهي إني أتيت بنفسي إلا أن لي قلباً يفر مني، فأستعين بك في إحضاره، وكيف وقد قال عليه الصلاة والسلام: **" قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن "** فدل ذلك على أن الإنسان لا يمكنه إحضار القلب إلا بإعانة الله. الثالث: لا أريد في الإعانة غيرك لا جبريل ولا مكائيل، بل أريدك وحدك وأقتدي في هذا المذهب بالخليل عليه السلام لأنه لما قيد نمرود رجليه ويديه ورماه في النار جاء جبريل عليه السلام وقال له: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فقال: سله، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، بل ربما أزيد على الخليل في هذا الباب، وذلك لأنه قيد رجلاه ويداه لا غير، وأما أنا فقيدت رجلي فلا أسير، ويدي فلا أحركهما، وعيني فلا أنظر بهما، وأذني فلا أسمع بهما، ولساني فلا أتكلم به، وكان الخليل مشرفاً على نار نمروذ وأنا مشرف على نار جهنم، فكما لم يرض الخليل عليه السلام بغيرك معيناً فكذلك لا أريد معيناً غيرك، فإياك نعبد وإياك نستعين، فكأنه تعالى يقول: أتيت بفعل الخليل وزدت عليه، فنحن نزيد أيضاً في الجزاء لأنا ثمت قلنا:**{ يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ }** [الأنبياء: 69] وأما أنت فقد نجيناك من النار، وأوصلناك إلى الجنة، وزدناك سماع الكلام القديم، ورؤية الموجود القديم، وكما أنا قلنا لنار نمروذ { يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } فكذلك تقول لك نار جهنم: جز يا مؤمن قد أطفأ نورك لهبي. الرابع: إياك نستعين: أي: لا أستعين بغيرك، وذلك لأن ذلك الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته على تلك الإعانة، فإذا كانت إعانة الغير لا تتم إلا بإعانتك فلنقطع هذه الواسطة ولنقتصر على إعانتك. الوجه الخامس: قوله إياك نعبد يقتضي حصول رتبة عظيمة للنفس بعبادة الله تعالى، وذلك يورث العجب فأردف بقوله وإياك نستعين ليدل ذلك على أن تلك الرتبة الحاصلة بسبب العبادة ما حصلت من قوة العبد، بل إنما حصلت بإعانة الله فالمقصود من ذكر قوله وإياك نستعين إزالة العجب وإفناء تلك النخوة والكبر. الفصل السابع في قوله { اهدنا الصراط المستقيم } ، وفيه فوائد: معنى قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }: الفائدة الأولى: لقائل أن يقول: المصلي لا بدّ وأن يكون مؤمناً، وكل مؤمن مهتد، فالمصلي مهتد، فإذا قال: اهدنا كان جارياً مجرى أن من حصلت له الهداية فإنه يطلب الهداية فكان هذا طلباً لتحصيل الحاصل، وأنه محال، والعلماء أجابوا عنه من وجوه: الأول: المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 220 | 221 | 222 | 223 | 224 | 225 | 226 | 227 | 228 | 229 | 230 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
يحكى أن نوحاً عليه السلام كان يضرب في كل يوم كذا مرات بحيث يغشى عليه، وكان يقول في كل مرة: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. فإن قيل: إن رسولنا عليه الصلاة والسلام ما قال ذلك إلا مرة واحدة، وهو كان يقول كل يوم مرات فلزم أن يقال إن نوحاً عليه السلام كان أفضل منه، والجواب لما كان المراد من قوله اهدنا الصراط المستقيم طلب تلك الأخلاق الفاضلة من الله تعالى والرسول عليه السلام كان يقرأ الفاتحة في كل يوم كذا مرة كان تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة أكثر من تكلم نوح عليه السلام بها. الوجه الثاني في الجواب: أن العلماء بينوا أن في كل خلق من الأخلاق طرفي تفريط وإفراط، وهما مذمومان، والحق هو الوسط، ويتأكد ذلك بقوله تعالى:**{ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا }** [البقرة: 143] وذلك الوسط هو العدل والصواب، فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مؤمناً مهتدياً، أما بعد حصول هذه الحالة فلا بدّ من معرفة العدل الذي هو الخط المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في الأعمال الشهوانية وفي الأعمال الغضبية وفي كيفية إنفاق المال، فالمؤمن يطلب من الله تعالى أن يهديه إلى الصراط المستقيم الذي هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال، وعلى هذا التفسير فالسؤال زائل. الوجه الثالث: أن المؤمن إذا عرف الله بدليل واحد فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلائل على وجود الله وعلمه وقدرته وجوده ورحمته وحكمته، وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلاً عن سائر الدلائل، فقوله: اهدنا الصراط المستقيم معناه عرفنا يا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وقدرتك وعلمك، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل. الوجه الرابع: أنه تعالى قال:**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ }** [الشورى: 52، 53] وقال أيضاً لمحمد عليه السلام:**{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ }** [الأنعام: 153] وذلك الصراط المستقيم هو أن يكون الإنسان معرضاً عما سوى الله مقبلاً بكلية قلبه وفكره وذكره على الله، فقوله: اهدنا الصراط المستقيم المراد أن يهديه الله إلى الصراط المستقيم الموصوف بالصفة المذكورة، مثاله أن يصير بحيث لو أمر بذبح ولده لأطاع كما فعله إبراهيم عليه السلام، ولو أمر بأن ينقاد ليذبحه غيره لأطاع كما فعله إسمعيل عليه السلام ولو أمر بأن يرمي نفسه في البحر لأطاع كما فعله يونس عليه السلام، ولو أمر بأن يتلمذ لمن هو أعلم منه بعد بلوغه في المنصب إلى أعلى الغايات لأطاع كما فعله موسى مع الخضر عليهما السلام، ولو أمر بأن يصبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القتل والتفريق نصفين لأطاع كما فعله يحيـى وزكريا عليهما السلام، فالمراد بقوله إهدنا الصراط المستقيم هو الاقتداء بأنبياء الله في الصبر على الشدائد والثبات عند نزول البلاء ولا شك أن هذا مقام شديد هائل لأن أكثر الخلق لا طاقة لهم به، إلا أنا نقول: أيها الناس، لا تخافوا ولا تحزنوا، فإنه لا يضيق أمر في دين الله إلا اتسع لأن في هذه الآية ما يدل على اليسر والسهولة لأنه تعالى لم يقل صراط الذين ضربوا وقتلوا بل قال: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فلتكن نيتك عند قراءة هذه الآية أن تقول: يا إلهي، إن والدي رأيته ارتكب الكبائر، كما ارتكبتها وأقدم على المعاصي كما أقدمت عليها، ثم رأيته لما قرب موته تاب وأناب فحكمت له بالنجاة من النار والفوز بالجنة فهو ممن أنعمت عليه بأن وفقته للتوبة، ثم أنعمت عليه بأن قبلت توبته.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 220 | 221 | 222 | 223 | 224 | 225 | 226 | 227 | 228 | 229 | 230 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فأنا أقول: إهدنا إلى مثل ذلك الصراط المستقيم طلباً لمرتبة التائبين، فإذا وجدتها فاطلب الاقتداء بدرجات الأنبياء عليهم السلام، فهذا تفسير قوله اهدنا الصراط المستقيم. الوجه الخامس: كأن الإنسان يقول في الطريق: كثرة الأحباب يجرونني إلى طريق، والأعداء إلى طريق ثانٍ، والشيطان إلى طريق ثالث، وكذا القول في الشهوة والغضب والحقد والحسد، وكذا القول في التعطيل والتشبيه والجبر والقدر والإرجاء والوعيد والرفض والخروج، والعقل ضعيف، والعمر قصير، والصناعة طويلة، والتجربة خطرة، والقضاء عسير، وقد تحيرت في الكل فاهدني إلى طريق أخرج منه إلى الجنة. والمستقيم: السوي الذي لا غلظ فيه. يحكى عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله، فإذا أعرابي على ناقة له فقال: يا شيخ إلى أين؟ فقال إبراهيم إلى بيت الله، قال كأنك مجنون لا أرى لك مركباً ولا زاداً، والسفر طويل، فقال إبراهيم: إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها، قال: وما هي؟ قال: إذا نزلت على بلية ركبت مركب الصبر، وإذا نزل على نعمة ركبت مركب الشكر وإذا نزل بي القضاء ركبت مركب الرضا، وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى فقال الأعرابي: سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل. الوجه السادس: قال بعضهم: الصراط المستقيم: الإسلام، وقال بعضهم: القرآن، وهذا لا يصح لأن قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من { ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، وإذا كان كذلك كان التقدير إهدنا صراط من أنعمت عليهم من المتقدمين، ومن تقدمنا من الأمم ما كان لهم القرآن والإسلام، وإذا بطل ذلك ثبت أن المراد إهدنا صراط المحقين المستحقين للجنة، وإنما قال الصراط ولم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحداً ليكون لفظ الصراط مذكراً لصراط جهنم فيكون الإنسان على مزيد خوف وخشية.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 220 | 221 | 222 | 223 | 224 | 225 | 226 | 227 | 228 | 229 | 230 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
القول الثاني في تفسير إهدنا: أي ثبتنا على الهداية التي وهبتها منا، ونظيره قوله تعالى:**{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا }** [آل عمران: 80] أي ثبتنا على الهداية فكم من عالم وقعت له شبهة ضعيفة في خاطره فزاغ وذل وانحرف عن الدين القويم والمنهج المستقيم. الفائدة الثانية: لقائل أن يقول: لم قال إهدنا ولم يقل إهدني؟ والجواب من وجهين: الأول أن الدعاء كلما كان أعم كان إلى الإجابة أقرب. كان بعض العلماء يقول لتلامذته: إذ قرأتم في خطبة السابق «ورضي الله عنك وعن جماعة المسلمين» إن نويتني في قولك «رضي الله عنك» فحسن، وإلا فلا حرج، ولكن إياك وأن تنساني في قولك «وعن جماعة المسلمين» لأن قوله رضي الله عنك تخصيص بالدعاء فيجوز أن لا يقبل، وأما قوله وعن جماعة المسلمين فلا بدّ وأن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة، وإذا أجاب الله الدعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي، ولهذا السبب فإن السنة إذا أراد أن يذكر دعاء أن يصلي أولاً على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو ثم يختم الكلام بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً لأن الله تعالى يجيب الداعي في صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إذا أجيب في طرفي دعائه امتنع أن يرد في وسطه. الثاني: قال عليه الصلاة والسلام: **" ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها، قالوا: يا رسول الله ومن لنا بتلك الألسنة، قال يدعو بعضكم لبعض لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك. "** والثالث: كأنه يقول: أيها البعد، ألست قلت في أول السورة الحمد لله وما قلت أحمد الله فذكرت أولاً حمد جميع الحامدين فكذلك في وقت الدعاء أشركهم فقل إهدنا. الرابع: كان العبد يقول: سمعت رسولك يقول: الجماعة رحمة، والفرقة عذاب، فلما أردت تحميدك ذكرت حمد الجميع فقلت الحمد لله، ولما ذكرت العبادة ذكرت عبادة الجميع فقلت إياك نعبد، ولما ذكرت الاستعانة ذكرت استعانة الجميع فقلت وإياك نستعين، فلا جرم لما طلبت الهداية طلبتها للجميع فقلت إهدنا الصراط المستقيم، ولما طلبت الاقتداء بالصالحين طلبت الاقتداء بالجميع فقلت صراط الذين أنعمت عليهم، ولما طلبت الفرار من المردودين فررت من الكل فقلت غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فلما لم أفارق الأنبياء والصالحين في الدنيا فأرجو أن لا أفارقهم في القيامة، قال تعالى:**{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ }** [النساء: 69] الآية. الفائدة الثالثة: اعلم أن أهل الهندسة قالوا الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين، فالحاصل أن الخط المستقيم أقصر من جميع الخطوط المعوجة، فكان العبد يقول: إهدنا الصراط المستقيم لوجوه: الأول: أنه أقرب الخطوط وأقصرها، وأنا عاجز فلا يليق بضعفي إلا الطريق المستقيم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 220 | 221 | 222 | 223 | 224 | 225 | 226 | 227 | 228 | 229 | 230 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثاني: أن المستقيم واحد وما عداه معوجة وبعضها يشبه بعضاً في الإعوجاج فيشتبه الطريق على، أما المستقيم فلا يشابهه غيره فكان أبعد عن الخوف والآفات وأقرب إلى الأمان. الثالث: الطريق المستقيم يوصل إلى المقصود، والمعوج لا يوصل إليه. الرابع: المستقيم لا يتغير، والمعوج يتغير، فلهذه الأسباب سأل الصراط المستقيم، والله أعلم. الفصل الثامن في تفسير قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } ، وفيه فوائد: معنى قوله صراط الذين أنعمت عليهم: الفائدة الأولى: في حد النعمة، وقد اختلف فيها، فمنهم من قال إنها عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، قالوا وإنما زدنا هذا القيد لأن النعمة يستحق بها الشكر، وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر، والحق أن هذا القيد غير معتبر، لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظوراً، لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذنب والعقاب، فأي امتناع في اجتماعهما؟ ألا ترى أن الفاسق يستحق بإنعامه الشكر، والذم بمعصية الله، فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك. ولنرجع إلى تفسير الحد المذكور فنقول: أما قولنا «المنفعة» فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة، وقولنا «المفعولة على جهة الإحسان» لأنه لو كان نفعاً حقاً وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمة، وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها. إذا عرفت حد النعمة فيتفرع عليه فروع: الفرع الأول: اعلم أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى:**{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ }** [النحل: 53] ثم أن النعمة على ثلاثة أقسام: أحدها: نعمة تفرد لله بإيجادها، نحو أن خلق ورزق. وثانيها: نعمة وصلت من جهة غير الله في ظاهر الأمر، وفي الحقيقة فهي أيضاً إنما وصلت من الله تعالى، وذلك لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة، والخالق لذلك المنعم، والخالق لداعية الأنعام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم، إلا أنه تعالى لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد كان ذلك العبد مشكوراً، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى ولهذا قال:**{ أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ }** [لقمان: 14] فبدأ بنفسه تنبيهاً على أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام الله، وثالثها: نعم وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا، وهي أيضاً من الله تعالى لأنه لولا أن الله سبحانه وتعالى وفقنا للطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار عنا وإلا لما وصلنا إلى شيء منها، فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم في الحقيقة من الله تعالى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 220 | 221 | 222 | 223 | 224 | 225 | 226 | 227 | 228 | 229 | 230 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفرع الثاني: أن أول نعم الله على العبيد هو أن خلقهم أحياء، ويدل عليه العقل والنقل أما العقل فهو أن الشيء لا يكون نعمة إلا إذا كان بحيث يمكن الانتفاع به، ولا يمكن الانتفاع به إلا عند حصول الحياة، فإن الجماد والميت لا يمكنه أن ينتفع بشيء، فثبت أن أصل جميع النعم هو الحياة، وأما النقل فهو أنه تعالى قال:**{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ }** [البقرة: 28] ثم قال عقيبه:**{ هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلأرْضِ جَمِيعاً }** [البقرة: 29] فبدأ بذكر الحياة، وثنى بذكر الأشياء التي ينتفع بها، وذلك يدل على أن أصل جميع النعم هو الحياة. الفرع الثالث: اختلفوا في أنه هل لله تعالى نعمة على الكافر أم لا؟ فقال بعض أصحابنا: ليس لله تعالى على الكافر نعمة، وقالت المعتزلة: لله على الكافر نعمة دينية، ونعمة دنيوية واحتج الأصحاب على صحة قولهم بالقرآن والمعقول: أما القرآن فآيات. إحداها: قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمة لكانوا داخلين تحت قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولو كان كذلك لكان قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } طلباً لصراط الكفار، وذلك باطل، فثبت بهذه الآية أنه ليس لله نعمة على الكفار، فإن قالوا: إن قوله الصراط يدفع ذلك، قلنا: إن قولنا: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من قوله: { ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فكان التقدير إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، وحينئذٍ يعود المحذور المذكور. والآية الثانية: قوله تعالى:**{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌلأِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً }** [آل عمران: 178] وأما المعقول فهو أن نعم الدنيا في مقابلة عذاب الآخرة على الدوام قليلة كالقطرة في البحر، ومثل هذا لا يكون نعمة، بدليل أن من جعل السم في الحلواء لم يعد النفع الحاصل منه نعمة لأجل أن ذلك النفع حقير في مقابلة ذلك الضرر الكثير، فكذا ههنا. وأما الذين قالوا إن لله على الكافر نعماً كثيرة فقد احتجوا بآيات: إحداها: قوله تعالى:**{ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاء بِنَاء }** [البقرة: 21، 22] فنبه على أنه يجب على الكل طاعة الله لمكان هذه النعم العظيمة. وثانيها: قوله:**{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ }** [البقرة: 28] ذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم. وثالثها: قوله تعالى:**{ يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }** [البقرة:40] ورابعها: قوله تعالى:**{ وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ }** [سبأ: 13] وقول إبليس:**{ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ }** [الأعراف: 17] ولو لم تحصل النعم لم يلزم الشكر.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 230 | 231 | 232 | 233 | 234 | 235 | 236 | 237 | 238 | 239 | 240 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ولم يلزم من عدم إقدامهم على الشكر محذور لأن الشكر لا يمكن إلا عند حصول النعمة. الفائدة الثانية: قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه لأنا ذكرنا أن تقدير الآية: إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم فقال:**{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ }** [النساء: 69] الآية ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين، ولو كان أبو بكر ظالماً لما جاز الاقتداء به، فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه. الفائدة الثالثة: قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يتناول كل من كان لله عليه نعمة، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا أو نعمة الدين، ولما بطل الأول ثبت أن المراد منه نعمة الدين، فنقول: كل نعمة دينية سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان، وأما النعمة التي هي الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية، وهذا يدل على أن المراد من قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هو نعمة الإيمان، فرجع حاصل القول في قوله: إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم أنه طلب لنعمة الإيمان، وإذا ثبت هذا الأصل فنقول: يتفرع عليه أحكام: الحكم الأول: أنه لما ثبت أن المراد من هذه النعمة نعمة الإيمان، ولفظ الآية صريح في أن الله تعالى هو المنعم بهذه النعمة ثبت أن خالق الإيمان والمعطي للإيمان هو الله تعالى، وذلك يدل على فساد قول المعتزلة، ولأن الإيمان أعظم النعم، فلو كان فاعله هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله، ولو كان كذلك لما حسن من الله أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم. الحكم الثاني: يجب أن لا يبقى المؤمن مخلداً في النار، لأن قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مذكور في معرض التعظيم لهذا الإنعام، ولو لم يكن له أثر في دفع العقاب المؤبد لكان قليل الفائدة فما كان يحسن من الله تعالى ذكره في معرض التعظيم. الحكم الثالث: دلت الآية على أنه لا يجب على الله رعاية الصلاح والأصلح في الدين، لأنه لو كان الإرشاد واجباً على الله لم يكن ذلك إنعاماً لأن أداء الواجب لا يكون إنعاماً، وحيث سماه الله تعالى إنعاماً علمنا أنه غير واجب. الحكم الرابع: لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام هو أن الله تعالى أقدر المكلف عليه وأرشده إليه وأزاح أعذاره وعلله عنه لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار، فلما خص الله تعالى بعض المكلفين بهذا الإنعام مع أن هذا الأقدار وإزاحة العلل عام في حق الكل علمنا أن المراد من الأنعام ليس هو الأقدار عليه وإزاحة الموانع عنه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 230 | 231 | 232 | 233 | 234 | 235 | 236 | 237 | 238 | 239 | 240 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفصل التاسع في قوله تعالى { غير المغضوب عليهم ولاالضالين } وفيه فوائد: معنى قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ـ الخ: الفائدة الأولى: المشهور أن المغضوب عليهم هم اليهود، لقوله تعالى:**{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ }** [المائدة: 60] والضالين: هم النصارى لقوله تعالى:**{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ }** [المائدة: 77] وقيل: هذا ضعيف لأن منكري الصانع والمشركين أخبث ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز عن دينهم أولى، بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق، ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل، ويحتمل أن يقال: المغضوب عليهم هم الكفار، والضالون هم المنافقون، وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات من أول البقرة، ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }** [البقرة: 6] ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله:**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا }** [البقرة: 8] فكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله: { وَلاَ ٱلضَّالّينَ }. الفائدة الثانية: لما حكم الله عليهم بكونهم ضالين امتنع كونهم مؤمنين، وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً، وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال. الفائدة الثالثة: قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } يدل على أن أحداً من الملائكة والأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم الله عليهم، ولا على اعتقاد الذين أنعم الله عليهم، لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق، لقوله تعالى:**{ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ }** [يونس: 32] ولو كانوا ضالين لماجاز الاقتداء بهم، ولا الاهتداء بطريقهم، ولكانوا خارجين عن قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء والملائكة عليهم السلام. الفائدة الرابعة: الغضب: تغير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام، واعلم أن هذا على الله تعالى محال، لكن ههنا قاعدة كلية، وهي أن جميع الأعراض النفسانية ـ أعني الرحمة، والفرح، والسرور، والغضب، والحياء، والغيرة، والمكر والخداع، والتكبر، والاستهزاء ـ لها أوائل، ولها غايات، ومثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله تعالى لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الأضرار، وأيضاً، الحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس، وله غرض وهو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 230 | 231 | 232 | 233 | 234 | 235 | 236 | 237 | 238 | 239 | 240 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفائدة الخامسة: قالت المعتزلة: غضب الله عليهم يدل على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم وإلا لكان الغضب عليهم ظلماً من الله تعالى، وقال أصحابنا: لما ذكر غضب الله عليهم وأتبعه بذكر كونهم ضالين دل ذلك على أن غضب الله عليهم علة لكونهم ضالين، وحينئذٍ تكون صفة الله مؤثرة في صفة العبد، أما لو قلنا إن كونهم ضالين يوجب غضب الله عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى، وذلك محال. الفائدة السادسة: أول السورة مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمدح له، وآخرها مشتمل على الذم للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته، وذلك يدل على أن مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله تعالى، ومطلع الآفات ورأس المخافات هو الإعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته. الفائدة السابعة: دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق: أهل الطاعة، وإليهم الإشارة بقوله: أنعمت عليهم، وأهل المعصية وإليهم الإشارة بقوله غير المغضوب عليهم، وأهل الجهل في دين الله والكفر وإليهم الإشارة بقوله ولا الضالين. فإن قيل: لم قدم ذكر العصاة على ذكر الكفرة؟ قلنا: لأن كل واحد يحترز عن الكفر أما قد لا يحترز عن الفسق فكان أهم فلهذا السبب قدم. الفائدة الثامنة: في الآية سؤال، وهو أن غضب الله إنما تولد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه، فهذا العلم إما أن يقال إنه قديم، أو محدث، فإن كان هذا العلم قديماً فلم خلقه ولم أخرجه من العدم إلى الوجود مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العذاب الدائم، ولأن من كان غضبان على الشيء كيف يعقل إقدامه على إيجاده وعلى تكوينه؟ وأما إن كان ذلك العلم حادثاً كان الباري تعالى محلاً للحوادث، ولأنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سبق علم آخر، ويتسلسل، وهو محال، وجوابه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد. الفائدة التاسعة: في الآية سؤال آخر، وهو أن من أنعم الله عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه وأن يكون من الضالين، فلما ذكر قوله أنعمت عليهم فما الفائدة في أن ذكر عقيبه غير المغضوب عليهم ولا الضالين؟ والجواب: الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف، كما قال عليه السلام: **" لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا "** فقوله: صراط الذين أنعمت عليهم يوجب الرجاء الكامل، وقوله: غير المغضوب عليهم ولا الضالين يوجب الخوف الكامل، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه، وينتهي إلى حد الكمال. الفائدة العاشرة: في الآية سؤال آخر، ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة وهم الذين أنعم الله عليهم، والمردودين فريقين: المغضوب عليهم، والضالين؟ والجواب أن أن الذين كملت نعم الله عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فهؤلاء هم المرادون بقوله: أنعمت عليهم، فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة وهم المغضوب عليهم كما قال تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 230 | 231 | 232 | 233 | 234 | 235 | 236 | 237 | 238 | 239 | 240 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ }** [النساء: 93] وإن اختل قيد العلم فهم الضالون لقوله تعالى:**{ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ }** [يونس: 32] وهذا آخر كلامنا في تفسير كل واحدة من آيات هذه السورة على التفصيل، والله أعلم. القسم الثاني الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، وفيه فصول الفصل الأول في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة اعلم أن عالم الدنيا عالم الكدورة، وعالم الآخرة عالم الصفاء، فالآخرة بالنسبة إلى الدنيا كالأصل بالنسبة إلى الفرع، وكالجسم بالنسبة إلى الظل، فكل ما في الدنيا فلا بدّ له في الآخرة من أصل، وإلا كان كالسراب الباطل والخيال العاطل، وكل ما في الآخرة فلا بدّ له في الدنيا من مثال، وإلا لكان كالشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل، فعالم الروحانيات عالم الأضواء والأنوار والبهجة والسرور واللذة والحبور، ولا شك أن الروحانيات مختلفة بالكمال والنقصان ولا بدّ وأن يكون منها واحد هو أشرفها وأعلاها وأكملها وأبهاها، ويكون ما سواه في طاعته وتحت أمره ونهيه، كما قال:**{ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَـٰعٍ ثَمَّ أَمِينٍ }** [التكوير: 20، 21] وأيضاً فلا بدّ في الدنيا من شخص واحد هو أشرف أشخاص هذا العالم وأكملها وأعلاها وأبهاها، ويكون كل ما سواه في هذا العالم تحت طاعته وأمره، فالمطاع الأول هو المطاع في عالم الروحانيات والمطاع الثاني هو المطاع في عالم الجسمانيات، فذاك مطاع العالم الأعلى، وهذا مطاع العالم الأسفل ولما ذكرنا أن عالم الجسمانيات كالظل لعالم الروحانيات وكالأثر وجب أن يكون بين هذين المطاعين ملاقاة ومقارنة ومجانسة، فالمطاع في عالم الأرواح هو المصدر، والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر والمصدر هو الرسول الملكي، والمظهر هو الرسول البشري، وبهما يتم أمر السعادات في الآخرة وفي الدنيا. وإذا عرفت هذا فنقول: كمال حال الرسول البشري إنما يظهر في الدعوة إلى الله، وهذه الدعوة إنما تتم بأمور سبعة ذكرها الله تعالى في خاتمة سورة البقرة وهي قوله: { وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِٱللَّهِ } ـ الآية ويندرج في أحكام الرسل قوله:**{ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ }** [البقرة: 285] فهذه الأربعة متعلقة بمعرفة المبدأ، وهي معرفة الربوبية، ثم ذكر بعدها ما يتعلق بمعرفة العبودية وهو مبني على أمرين: أحدهما: المبدأ، والثاني: الكمال. فالمبدأ هو قوله تعالى:**{ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }** [البقرة: 285] لأن هذا المعنى لا بدّ منه لمن يريد الذهاب إلى الله، وأما الكمال فهو التوكل على الله والالتجاء بالكلية إليه وهو قوله: { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } وهو قطع النظر عن الأعمال البشرية والطاعات الإنسانية والالتجاء بالكلية إلى الله تعالى وطلب الرحمة منه وطلب المغفرة، ثم إذا تمت معرفة الربوبية بسبب معرفة الأصول الأربعة المذكورة وتمت معرفة العبودية بسبب معرفة هذين الأصلين المذكورين لم يبق بعد ذلك إلا الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب والاستعداد للذهاب إلى المعاد، وهو المراد من قوله: { وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } ويظهر من هذا أن المراتب ثلاثة: المبدأ والوسط، والمعاد، أما المبدأ فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمور أربعة: وهي معرفة الله، والملائكة، والكتب، والرسل، وأما الوسط فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمرين: «سمعنا وأطعنا» نصيب عالم الأجساد، و «غفرانك ربنا» نصيب عالم الأرواح، وأما النهاية فهي إنما تتم بأمر واحد، وهو قوله:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 230 | 231 | 232 | 233 | 234 | 235 | 236 | 237 | 238 | 239 | 240 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ }** [البقرة: 285] فابتداء الأمر أربعة، وفي الوسط صار اثنين، وفي النهاية صار واحداً. ولما ثبتت هذه المراتب السبع في المعرفة تفرع عنها سبع مراتب في الدعاء والتضرع: فأولها: قوله:**{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }** [البقرة: 286] وضد النسيان هو الذكر كما قال تعالى:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً }** [الأحزاب: 41] وقوله:**{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }** [الكهف: 24] وقوله:**{ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }** [الأعراف: 201] وقوله:**{ وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبّكَ }** [الإنسان: 25] وهذا الذكر إنما يحصل بقوله بسم الله الرحن الرحيم. وثانيها: قوله:**{ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا }** [البقرة: 286] ودفع الأصر ـ والأصر هو الثقل ـ يوجب الحمد، وذلك إنما يحصل بقوله الحمد لله رب العالمين. وثالثها: قوله:**{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ }** [البقرة: 286] وذلك إشارة إلى كمال رحمته، وذلك هو قوله الرحمن الرحيم. ورابعها: قوله: { وَٱعْفُ عَنَّا } لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين، وهو قوله مالك يوم الدين. وخامسها: قوله تعالى: { وَٱغْفِرْ لَنَا } لأنا في الدنيا عبدناك واستعنا بك في كل المهمات، وهو قوله إياك نعبد وإياك نستعين. وسادسها: قوله: { وَٱرْحَمْنَا } لأنا طلبنا الهداية منك في قولنا: اهدنا الصراط المستقيم. وسابعها: قوله:**{ أَنتَ مَوْلَـٰنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ }** [البقرة: 286] وهو المراد من قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين }. فهذه المراتب السبع المذكورة في آخر سورة البقرة ذكرها محمد عليه الصلاة والسلام في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت هذه الأنوار في عهد محمد عليه الصلاة والسلام من المصدر إلى المظهر، فلهذا السبب قال عليه السلام: **" الصلاة معراج المؤمن ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 230 | 231 | 232 | 233 | 234 | 235 | 236 | 237 | 238 | 239 | 240 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفصل الثاني: في مداخل الشيطان مداخل الشيطان: اعلم أن المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة: الشهوة، والغضب، والهوى، فالشهوة بهيمية، والغضب سبعية، والهوى شيطانية: فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منه، والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه، فقوله تعالى:**{ إن ٱلصلاة تنهى عن الفحشاء }** [العنكبوت: 45] المراد آثار الشهوة، وقوله: { وَٱلْمُنْكَرِ } المراد منه آثار الغضب، وقوله: { وَٱلْبَغْىَ } المراد منه آثار الهوى فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه، وبالغضب يصير ظالماً لغيره، وبالهوى يتعدى ظلمه إلى حضرة جلال الله تعالى، ولهذا قال عليه السلام: **" الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه، فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه "** فمنشأ الظلم الذي لا يغفر هو الهوى. ومنشأ الظلم الذي لا يترك هو الغضب، ومنشأ الظلم الذي عسى الله أن يتركه هو الشهوة، ثم لها نتائج فالحرص والبخل نتيجة الشهوة، والعجب والكبر نتيجة الغضب، والكفر والبدعة نتيجة الهوى، فإذا اجتمعت هذه الستة في بني آدم تولد منها سابع ـ وهو الحسد ـ وهو نهاية الأخلاق الذميمة. كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة، ولهذا السبب ختم الله مجامع الشرور الإنسانية بالحسد، وهو قوله:**{ وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }** [الفلق: 5] كما ختم مجامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة وهو قوله:**{ يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ ٱلنَّاسِ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ }** [الناس: 5، 6] فليس في بني آدم أشر من الحسد كما أنه ليس في الشياطين أشر من الوسواس، بل قيل: الحاسد أشر من إبليس، لأن إبليس روي أنه أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون من هذا؟ فقال إبليس: لو كنت إلهاً لما جهلتني، فلما دخل قال فرعون: أتعرف في الأرض شراً مني ومنك، قال: نعم، الحاسد، وبالحسد وقعت في هذه المحنة. إذا عرفت هذا فنقول: أصول الأخلاق القبيحة هي تلك الثلاثة، والأولاد والنتائج هي هذه السبعة المذكورة فأنزل الله تعالى سورة الفاتحة وهي سبع آيات لحسم هذه الآفات السبع وأيضاً أصل سورة الفاتحة هو التسمية، وفيها الأسماء الثلاثة، وهي في مقابلة تلك الأخلاق الأصلية الفاسدة، فالأسماء الثلاثة الأصلية في مقابلة الأخلاق الثلاثة الأصلية، والآيات السبع التي هي الفاتحة في مقابلة الأخلاق السبعة، ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة، وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة. أما بيان أن الأمهات الثلاثة في مقابلة الأمهات الثلاثة فنقول: إن من عرف الله وعرف أنه لا إله إلا الله تباعد عنه الشيطان والهوى لأن الهوى إله سوى الله يعبد، بدليل قوله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 230 | 231 | 232 | 233 | 234 | 235 | 236 | 237 | 238 | 239 | 240 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ }** [الجاثية: 23] وقال تعالى لموسى: يا موسى، خالف هواك فإني ما خلقت خلقاً نازعني في ملكي إلا الهوى، ومن عرف أنه رحمن لا يغضب، لأن منشأ الغضب طلب الولاية، والولاية للرحمن لقوله تعالى:**{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ }** [الفرقان: 26] ومن عرف أنه رحيم وجب أنه يتشبه به في كونه رحيماً وإذا صار رحيماً لم يظلم نفسه، ولم يلطخها بالأفعال البهيمية. وأما الأولاد السبعة فهي مقابلة الآيات السبع، وقبل أن نخوض في بيان تلك المعارضة نذكر دقيقة أخرى، وهي أنه تعالى ذكر أن تلك الأسماء الثلاثة المذكورة في التسمية في نفس السورة، وذكر معها اسمين آخرين: وهما الرب، والمالك فالرب قريب من الرحيم، لقوله:**{ سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ }** [يۤس: 58] والمالك قريب من الرحمن، لقوله تعالى: { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } فحصلت هذه الأسماء الثلاثة: الرب والملك، والإله، فلهذا السبب ختم الله آخر سورة القرآن عليها، والتقدير كأنه قيل: إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل:**{ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلنَّاسِ }** [الناس: 1] وإن أتاك من قبل الغضب فقل:**{ مَلِكِ ٱلنَّاسِ }** [الناس: 2] وإن أتاك من قبل الهوى فقل:**{ إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ }** [الناس: 3]. ولنرجع إلى بيان معارضة تلك السبعة فنقول: من قال الحمد لله فقد شكر الله، واكتفى بالحاصل، فزالت شهوته، ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد، وبخله فيما وجد فاندفعت عنه آفة الشهوة ولذاتها، ومن عرف أنه مالك يوم الدين بعد أن عرف أنه الرحمن الرحيم زال غضبه، ومن قال إياك نعبد وإياك نستعين زال كبره بالأول وعجبه بالثاني، فاندفعت عنه آفة الغضب بولديها، فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم اندفع عنه شيطان الهوى، وإذا قال صراط الذين أنعمت عليهم زال عنه كفره وشبهته، وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين اندفعت عنه بدعته، فثبت أن هذه الآيات السبع دافعة لتلك الأخلاق القبيحة السبعة. الفصل الثالث: في تقرير أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يحتاج الإنسان إليه في معرفة المبدأ والوسط والمعاد. جمع الفاتحة لكل ما يحتاج إليه: اعلم أن قوله الحمد لله إشارة إلى إثبات الصانع المختار، وتقريره: أن المعتمد في إثبات الصانع في القرآن هو الاستدلال بخلقة الإنسان على ذلك، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال:**{ رَبّيَ ٱلَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ }** [البقرة: 258]، وقال في موضع آخر:**{ ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ }** [الشعراء: 78]، وقال موسى عليه السلام:**{ رَبُّنَا ٱلَّذِى أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ }** [طه: 50]، وقال في موضع آخر:**{ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ ٱلأوَّلِينَ }** [الشعراء: 26]، وقال تعالى في أول سورة البقرة:**{ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }** [البقرة: 21] وقال في أول ما أنزله على محمد عليه السلام:**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِنْ عَلَقٍ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 230 | 231 | 232 | 233 | 234 | 235 | 236 | 237 | 238 | 239 | 240 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[العلق: 1، 2] فهذه الآيات الست تدل على أنه تعالى استدل بخلق الإنسان على وجود الصانع تعالى، وإذا تأملت في القرآن وجدت هذا النوع من الاستدلال فيه كثيراً جداً. واعلم أن هذا الدليل كما أنه في نفسه هو دليل فكذلك هو نفسه إنعام عظيم، فهذه الحالة من حيث إنها تعرف العبد وجود الإله دليل، ومن حيث أنها نفع عظيم وصل من الله إلى العبد إنعام، فلا جرم هو دليل من وجه، وإنعام من وجه، والإنعام متى وقع بقصد الفاعل إلى إيقاعه إنعاماً كان يستحق هو الحمد، وحدوث بدن الإنسان أيضاً كذلك، وذلك لأن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور والإشكال من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع، فحدوث هذه الأعضاء المختلفة يدل على وجود صانع عالم بالمعلومات قادر على كل المقدورات قصد بحكم رحمته وإحسانه خلق هذه الأعضاء على الوجه المطابق لمصالحنا الموافق لمنافعنا، ومتى كان الأمر كذلك كان مستحقاً للحمد والثناء، فقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } يدل على وجود الصانع، وعلى علمه، وقدرته، ورحمته، وكمال حكمته وعلى كونه مستحقاً للحمد والثناء والتعظيم، فكان قوله الحمد لله دالاً على جملة هذه المعاني، وأما قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فهو يدل على أن ذلك الإله واحد، وأن كل العالمين ملكه وملكه، وليس في العالم إله سواه، ولا معبود غيره، وأما قوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } فيدل على أن الإله الواحد الذي لا إله سواه موصوف بكمال الرحمة والكرم والفضل والإحسان قبل الموت وعند الموت وبعد الموت، وأما قوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } فيدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يحصل بعد هذا اليوم يوم آخر يظهر فيه تمييز المحسن عن المسيء، ويظهر فيه الانتصاف للمظلومين من الظالمين، ولو لم يحصل هذا البعث والحشر لقدح ذلك في كونه رحماناً رحيماً، إذا عرفت هذا ظهر أن قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } يدل على وجود الصانع المختار، وقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يدل على وحدانتيه، وقوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } يدل على رحمته في الدنيا والآخرة، وقوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } يدل على كمال حكمته ورحمته بسبب خلق الدار الآخرة. وإلى ههنا تم ما يحتاج إليه في معرفة الربوبية. أما قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ـ إلى آخر السورة فهو إشارة إلى الأمور التي لا بدّ من معرفتها في تقرير العبودية، وهي محصورة في نوعين: الأعمال التي يأتي بها العبد، والآثار المتفرعة على تلك الأعمال: أما الأعمال التي يأتي بها العبد فلها ركنان: أحدهما: إتيانه بالعبادة وإليه الإشارة بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }. والثاني: علمه بأن لا يمكنه الإتيان بها إلا بإعانة الله وإليه الإشارة بقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وههنا ينفتح البحر الواسع في الجبر والقدر، وأما الآثار المتفرعة على تلك الأعمال فهي حصول الهداية والانكشاف والتجلي، وإليه الإشارة بقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ثم إن أهل العالم ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: الكاملون المحقون المخلصون، وهم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته، ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإليهم الإشارة بقوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 230 | 231 | 232 | 233 | 234 | 235 | 236 | 237 | 238 | 239 | 240 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والطائفة الثانية: الذين أخلوا بالأعمال الصالحة، وهم الفسقة وإليهم الإشارة بقوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }. والطائفة الثالثة: الذين أخلوا بالاعتقادات الصحيحة، وهم أهل البدع والكفر، وإليهم الإشارة بقوله: { وَلاَ ٱلضَّالّينَ }. إذا عرفت هذا فنقول: استكمال النفس الإنسانية بالمعارف والعلوم على قسمين: أحدهما: أن يحاول تحصيلها بالفكر والنظر والاستدلال، والثاني: أن تصل إليه محصولات المتقدمين فتستكمل نفسه، وقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } إشارة إلى القسم الأول، وقوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } إشارة إلى القسم الثاني، ثم في هذا القسم طلب أن يكون اقتداؤه بأنوار عقول الطائفة المحقة الذين جمعوا بين العقائد الصحيحة والأعمال الصائبة، وتبرأ من أن يكون اقتداؤه بطائفة الذين أخلوا بالأعمال الصحيحة، وهم المغضوب عليهم، أو بطائفة الذين أخلوا بالعقائد الصحيحة، وهم الضالون، وهذا آخر السورة، وعند الوقوف على ما لخصناه يظهر أن هذه السورة جامعة لجميع المقامات المعتبرة في معرفة الربوبية ومعرفة العبودية. الفصل الرابع: قسمة الله للصلاة بينه وبين عباده. قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: **" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى ذكرني عبدي، وإذا قال الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله عظمني عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي، وفي رواية أخرى فوض إليّ عبدي، وإذا قال إياك نعبد يقول الله عبدني عبدي، وإذا قال وإياك نستعين يقول الله تعالى توكل علي عبدي، وفي رواية أخرى فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال إهدنا الصراط المستقيم يقول الله هذا لعبدي ولعبدي ما سأل "** فوائد هذا الحديث: الفائدة الأولى: قوله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين يدل على أن مدار الشرائع على رعاية مصالح الخلق، كما قال تعالى:**{ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا }** [الإسراء: 7] وذلك لأن أهم المهمات للعبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية، ثم بمعرفة العبودية لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد، كما قال:**{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }** [الذاريات: 56] وقال:**{ إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعاً بَصِيراً }** [الإنسان: 2] وقال:**{ يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }** [البقرة: 40] ولما كان الأمر كذلك لا جرم أنزل الله هذه السورة على محمد عليه السلام وجعل النصف الأول منها في معرفة الربوبية، والنصف الثاني منها في معرفة العبودية، حتى تكون هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه في الوفاء بذلك العهد.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 230 | 231 | 232 | 233 | 234 | 235 | 236 | 237 | 238 | 239 | 240 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفائدة الثانية: الله تعالى سمى الفاتحة باسم الصلاة، وهذا يدل على أحكام: الحكم الأول: أن عند عدم قراءة الفاتحة وجب أن لا تحصل الصلاة، وذلك يدل على أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، كما يقوله أصحابنا ويتأكد هذا الدليل بدلائل أخرى: أحدها: أنه عليه الصلاة والسلام واظب على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى: { فَٱتَّبَعُوهُ } ولقوله عليه الصلاة والسلام: **" صلوا كما رأتيموني أصلي ".** وثانيها: أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام: **" عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي "** وثالثها: أن جميع المسلمين شرقاً وغرباً لا يصلون إلا بقراءة الفاتحة فوجب أن تكون متابعتهم واجبة في ذلك لقوله تعالى:**{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ }** [النساء: 115] ورابعها: قوله عليه الصلاة والسلام: **" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "** خامسها: قوله تعالى:**{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ }** [المزمل: 20] وقوله: { فاقرؤا } أمر، وظاهره الوجوب، فكانت قراءة ما تيسر من القرآن واجبة، وقراءة غير الفاتحة ليست واجبة فوجب أن تكون قراءة الفاتحة واجبة عملاً بظاهر الأمر، وسادسها: أن قراءة الفاتحة أحوط فوجب المصير إليها، لقوله عليه السلام: **" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "** وسابعها: أن الرسول عليه السلام واظب على قراءتها فوجب أن يكون العدول عنه محرماً لقوله تعالى:**{ فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ }** [النور: 63] وثامنها: أنه لا نزاع بين المسلمين أن قراءة الفاتحة في الصلاة أفضل وأكمل من قراءة غيرها، إذا ثبت هذا فنقول: التكليف كان متوجهاً على العبد بإقامة الصلاة، والأصل في الثابت البقاء حكمنا بالخروج عن هذه العهدة عند الإيتاء بالصلاة مؤداة بقراءة الفاتحة، وقد دللنا على أن هذه الصلاة أفضل من الصلاة المؤداة بقراءة غير الفاتحة ولا يلزم من الخروج عن العهدة بالعمل الكامل الخروج عن العهدة بالعمل الناقص، فعند إقامة الصلاة المشتملة على قراءة غير الفاتحة وجب البقاء في العهدة، وتاسعها: أن المقصود من الصلاة حصول ذكر القلب، لقوله تعالى:**{ وأقم ٱلصلاة لذكري }** [طه: 14] وهذه السورة مع كونها مختصرة، جامعة لمقامات الربوبية والعبودية والمقصود من جميع التكاليف حصول هذه المعارف ولهذا السبب جعل الله هذه السورة معادلة لكل القرآن في قوله:**{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْءانَ ٱلْعَظِيمَ }** [الحجر: 87] فوجب أن لا يقوم غيرها مقامها ألبتة. وعاشرها: أن هذا الخبر الذي رويناه يدل على أن عند فقدان الفاتحة لا تحصل الصلاة. الفائدة الثالثة: أنه قال: «إذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى: «ذكرني عبدي» وفيه أحكام: أحدها: أنه تعالى قال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 240 | 241 | 242 | 243 | 244 | 245 | 246 | 247 | 248 | 249 | 250 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ فَٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ }** [البقرة: 152] فههنا لما أقدم العبد على ذكر الله لا جرم ذكره تعالى في ملأ خير من ملائه. وثانيها: أن هذا يدل على أن مقام الذكر مقام عالٍ شريف في العبودية، لأنه وقع الابتداء به، ومما يدل على كماله أنه تعالى أمر بالذكر فقال: { ٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ } ثم قال:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً }** [الأحزاب: 41] ثم قال:**{ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ }** [آل عمران: 191] ثم قال:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَـٰئِفٌ مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }** [الأعراف: 201] فلم يبالغ في تقرير شيء من مقامات العبودية مثل ما بالغ في تقرير مقام الذكر. وثالثها: إن قوله: " ذكرني عبدي " يدل على أن قولنا: «الله» اسم علم لذاته المخصوصة، إذ لو كان اسماً مشتقاً لكان مفهومه مفهوماً كلياً، ولو كان كذلك لما صارت ذاته المخصوصة المعينة مذكورة بهذا اللفظ، فظاهر أن لفظي الرحمن الرحيم لفظان كليان، فثبت أن قوله: «ذكرني عبدي» يدل على أن قولنا الله اسم علم، أما قوله: «وإذا قال الحمد لله يقول الله تعالى حمدني عبدي» فهذا يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر ويدل عليه أن أول كلام ذكر في أول خلق العالم هو الحمد، بدليل قول الملائكة قبل خلق آدم**{ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ }** [البقرة: 30] وآخر كلام يذكر بعد فناء العالم هو الحمد أيضاً، بدليل قوله تعالى في صفة أهل الجنة**{ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }** [يونس: 10] والعقل أيضاً يدل عليه لأن الفكر في ذات الله غير ممكن، لقوله عليه الصلاة والسلام: **" تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق "** ولأن الفكر في الشيء مسبوق بسبق تصوره، وتصور كنه حقيقة الحق غير ممكن، فالفكر فيه غير ممكن فعلى هذا الفكر لا يمكن إلا في أفعاله ومخلوقاته، ثم ثبت بالدليل أن الخير مطلوب بالذات، والشر بالعرض فكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر، فلا جرم كان اشتغاله بالحمد والشكر أكثر، فلهذا قال: الحمد لله رب العالمين، وعند هذا يقول: حمدني عبدي، فشهد الحق سبحانه بوقوف العبد بعقله وفكره على وجود فضله وإحسانه في ترتيب العالم الأعلى والعالم الأسفل، وعلى أن لسانه صار موافقاً لعقله ومطابقاً له، وإن غرق في بحر الإيمان به والإقرار بكرمه بقلبه ولسانه وعقله وبيانه، فما أجل هذه الحالة. وأما قوله: «وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله عظمني عبدي» فلقائل أن يقول: إنه لما قال بسم الله الرحمن الرحيم فقد ذكر الرحمن الرحيم وهناك لم يقل الله عظمني عبدي، وههنا لما قال الرحمن الرحيم قال عظمني عبدي فما الفرق؟ وجوابه أن قوله الحمد لله دل على إقرار العبد بكماله في ذاته، وبكونه مكملاً لغيره، ثم قال بعده: رب العالمين، وهذا يدل على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره واحد ليس له شريك، فلما قال بعده الرحمن الرحيم دل ذلك على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره المنزه عن الشريك والنظير والمثل والضد والند في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام، فلهذا السبب قال الله تعالى ههنا: «عظمني عبدي».
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 240 | 241 | 242 | 243 | 244 | 245 | 246 | 247 | 248 | 249 | 250 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأما قوله: «وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي» أي: نزهني وقدسني عما لا ينبغي ـ فتقريره أنا نرى في دار الدنيا كون الظالمين متسلطين على المظلومين، وكون الأقوياء مستولين على الضعفاء، ونرى العالم الزاهد الكامل في أضيق العيش، ونرى الكافر الفاسق في أعظم أنواع الراحة والغبطة، وهذا العمل لا يليق برحمة أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين، فلو لم يحصل المعاد والبعث والحشر حتى ينتصف الله فيه للمظلومين من الظالمين ويوصل إلى أهل الطاعة الثواب، وإلى أهل الكفر العقاب، لكان هذه الاهمال والامهال ظلماً من الله على العباد، أما لما حصل يوم الجزاء ويوم الدين اندفع وهم الظلم، فلهذا السبب قال الله تعالى:**{ لِيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى }** [النجم: 31] وهذا هو المراد من قوله تعالى: **" مجدني عبدي، الذي نزهني عن الظلم وعن شيمه. "** وأما قوله: «وإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي» فهو إشارة إلى سر مسألة الجبر والقدر، فإن قوله إياك نعبده معناه إخبار العبد عن إقدامه على عمل الطاعة والعبادة. ثم جاء بحث الجبر والقدر: وهو أنه مستقل بالإتيان بذلك العمل أو غير مستقل به، والحق أنه غير مستقل به، وذلك لأن قدرة العبد إما أن تكون صالحة للفعل والترك، وإما أن لا تكون كذلك: فإن كان الحق هو الأول امتنع أن تصير تلك القدرة مصدراً للفعل دون الترك إلا لمرجح، وذلك المرجح إن كان من العبد عاد البحث فيه، وإن لم يكن من العبد فهو من الله تعالى فخلق تلك الداعية الخالصة عن المعارض هو الإعانة، وهو المراد من قوله إياك نستعين، وهو المراد من قولنا: { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } ، أي: لا تخلق في قلوبنا داعية تدعونا إلى العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة، وهب لنا من لدنك رحمة، وهذه الرحمة خلق الداعية التي تدعونا إلى الأعمال الصالحة والعقائد الحقة، فهذا هو المراد من الإعانة والاستعانة، وكل من لم يقل بهذا القول لم يفهم ألبتة معنى قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وإذا ثبت هذا ظهر صحة قوله تعالى: هذا بيني وبين عبدي، أما الذي منه فهو خلق الداعية الجازمة، وأما الذي من العبد فهو أن عند حصول مجموع القدرة والداعية يصدر الأثر عنه، وهذا كلام دقيق لا بدّ من التأمل فيه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 240 | 241 | 242 | 243 | 244 | 245 | 246 | 247 | 248 | 249 | 250 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأما قوله: «وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول الله تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» وتقريره أنا نرى أهل العالم مختلفين في النفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية، وفي جميع مسائل النبوات، وفي جميع مسائل المعاد، والشبهات غالبة، والظلمات مستولية، ولم يصل إلى كنه الحق إلا القليل القليل من الكثير الكثير، وقد حصلت هذه الحالة مع استواء الكل في العقول والأفكار والبحث الكثير والتأمل الشديد فلولا هداية الله تعالى وإعانته وأنه يزين الحق في عين عقل الطالب ويقبح الباطل في عينه كما قال:**{ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَـٰنَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ }** [الحجرات: 7] وإلا لامتنع وصول أحد إلى الحق، فقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } إشارة إلى هذه الحالة، ويدل عليه أيضاً أن المبطل لا يرضى بالباطل، وإنما طلب الاعتقاد الحق والدين المتين والقول الصحيح، فلو كان الأمر باختياره لوجب أن لا يقع أحد في الخطأ ولما رأينا الأكثرين غرقوا في بحر الضلالات علمنا أن الوصول إلى الحق ليس إلا بهداية الله تعالى، ومما يقوي ذلك أن كل الملائكة والأنبياء أطبقوا على ذلك، أما الملائكة فقالوا:**{ سُبْحَـٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ }** [البقرة: 32] وقال آدم عليه السلام:**{ وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ }** [الأعراف: 23] وقال إبراهيم عليه السلام:**{ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالّينَ }** [الأنعام: 77] وقال يوسف عليه السلام:**{ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ }** [يوسف: 101] وقال موسى عليه السلام:**{ رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى }** [طه: 25] ـ الآية وقال محمد عليه السلام:**{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ }** [آل عمران: 8] فهذا هو الكلام في لطائف هذاالخبر والذي تركناه أكثر مما ذكرناه. الفائدة الرابعة: من فوائد هذا الخبر أن آيات الفاتحة سبع، والأعمال المحسوسة أيضاً في الصلاة سبعة، وهي: القيام، والركوع، والانتصاب، والسجود الأول، والانتصاب فيه، والسجود الثاني والقعدة، فصار عدد آيات الفاتحة مساوياً لعدد هذه الأعمال، فصارت هذه الأعمال كالشخص، والفاتحة لها كالروح، والكمال إنما يحصل عند اتصال الروح بالجسد، فقوله: { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } بإزاء القيام، ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله بقي قائماً مرتفعاً، وأيضاً فالتسمية لبداية الأمور، قال عليه الصلاة والسلام: **" كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر "** وقال تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 240 | 241 | 242 | 243 | 244 | 245 | 246 | 247 | 248 | 249 | 250 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبّهِ فَصَلَّىٰ }** [الأعلى: 14، 15] وأيضاً القيام لبداية الأعمال، فحصلت المناسبة بين التسمية وبين القيام من هذه الوجوه، وقوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } بإزاء الركوع، وذلك لأن العبد في مقام التحميد ناظر إلى الحق وإلى الخلق لأن التحميد عبارة عن الثناء عليه بسب الإنعام الصادر منه، والعبد في هذا المقام ناظر إلى المنعم وإلى النعمة، فهو حالة متوسطة بين الإعراض وبين الاستغراق، والركوع حالة متوسطة بين القيام وبين السجود وأيضاً، الحمد يدل على النعم الكثيرة، والنعم الكثيرة مما تثقل ظهره، فينحني ظهره للركوع وقوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } مناسب للانتصاب لأن العبد لما تضرع إلى الله في الركوع فيليق برحمته أن يرده إلى الانتصاب، ولذلك قال عليه السلام: **" إذا قال العبد سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة "** وقوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } مناسب للسجدة الأولى: لأن قولك مالك يوم الدين يدل على كمال القهر والجلال والكبرياء، وذلك يوجب الخوف الشديد، فيليق به الإتيان بغاية الخضوع والخشوع، وهو السجدة وقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } مناسب للقعدة بين السجدتين، لأن قوله إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت، وقوله وإياك نستعين استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية. وأما قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فهو سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية الدالة على نهاية الخضوع. وأما قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } إلى آخره فهو مناسب للقعدة، وذلك لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابل الله تواضعه بالإكرام، وهو أن أمره بالقعود بين يديه، وذلك إنعام عظيم من الله على العبد، فهو شديد المناسبة لقوله أنعمت عليهم، وأيضاً أن محمداً عليه السلام لما أنعم الله عليه بأن رفعه إلى قاب قوسين قال عند ذلك: **" التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، "** والصلاة معراج المؤمن، فلما وصل المؤمن في معراجه إلى غاية الإكرام ـ وهي أن جلس بين يدي الله ـ وجب أن يقرأ الكلمات التي ذكرها محمد عليه السلام، فهو أيضاً يقرأ التحيات، ويصير هذا كالتنبيه على أن هذا المعراج الذي حصل له شعلة من شمس معراج محمد عليه السلام وقطرة من بحره وهو تحقيق قوله:**{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ }** [النساء: 69] ـ الآية. واعلم أن آيات الفاتحة وهي سبع صارت كالروح لهذه الأعمال السبعة، وهذه الأعمال السبعة صارت كالروح للمراتب السبعة المذكورة في خلقة الإنسان، وهي قوله:**{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ مِن سُلَـٰلَةٍ مّن طِينٍ }** [المؤمنون: 12] إلى قوله:**{ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ }** [المؤمنون: 14] وعند هذا ينكشف أن مراتب الأجساد كثيرة، ومراتب الأرواح كثيرة، وروح الأرواح ونور الأنوار هو الله تعالى، كما قال سبحانه وتعالى:**{ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ }** [النجم: 42]. الفصل الخامس: في أن الصلاة معراج العارفين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 240 | 241 | 242 | 243 | 244 | 245 | 246 | 247 | 248 | 249 | 250 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الصلاة معراج العارفين: اعلم أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معراجان: أحدهما: من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والآخر من الأقصى إلى أعالي ملكوت الله تعالى، فهذا ما يتعلق بالظاهر، وأما ما يتعلق بعالم الأرواح فله معراجان: أحدهما: من عالم الشهادة إلى عالم الغيب. والثاني: من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب، وهما بمنزلة قاب قوسين متلاصقين، فتخطاهما محمد عليه السلام وهو المراد من قوله تعالى:**{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ }** [النجم: 9] وقوله: { أَوْ أَدْنَىٰ } إشارة إلى فنائه في نفسه، أما الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فاعلم أن كل ما يتعلق بالجسم والجسمانيات فهو من عالم الشهادة، لأنك تشاهد هذه الأشياء ببصرك، فانتقال الروح من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح هو السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وأما عالم الأرواح فعالم لا نهاية له، وذلك لأن آخر مراتب الأرواح هو الأرواح البشرية، ثم تترقى في معارج الكمالات ومصاعد السعادات حتى تصل إلى الأرواح المتعلقة بسماء الدنيا ثم تصير أعلى وهي أرواح السماء الثانية وهكذا حتى تصل إلى الأرواح الذين هم سكان درجات الكرسي، وهي أيضاً متفاوتة في الاستعلاء، ثم تصير أعلى وهم الملائكة المشار إليهم بقوله تعالى:**{ وَتَرَى ٱلْمَلَـٰئِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ }** [الزمر: 75] ثم تصير أعلى وأعظم وهم المشار إليهم بقوله تعالى:**{ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَـٰنِيَةٌ }** [الحاقة: 17] وفي عدد الثمانية أسرار لا يجوز ذكرها ههنا ثم تترقى فتنتهي إلى الأرواح المقدسة عن التعلقات بالأجسام، وهم الذين طعامهم ذكر الله، وشرابهم محبة الله، وأنسهم بالثناء على الله، ولذتهم في خدمة الله، وإليهم الإشارة بقوله:**{ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ }** [الأنبياء: 19] وبقوله:**{ يُسَبّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ }** [الأنبياء: 20] ثم لهم أيضاً درجات متفاوتة، ومراتب متباعدة، والعقول البشرية قاصرة عن الإحاطة بأحوالها، والوقوف على شرح صفاتها، ولا يزال هذا الترقي والتصاعد حاصلاً كما قال تعالى:**{ وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ }** [يوسف: 76] إلى أن ينتهي الأمر إلى نور الأنوار، ومسبب الأسباب، ومبدأ الكل، وينبوع الرحمة، ومبدأ الخير، وهو الله تعالى، فثبت أن عالم الأرواح هو عالم الغيب، وحضرة جلال الربوبية هي غيب الغيب، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: **" إن لله سبعين حجاباً من النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك البصر "** وتقدير عدد تلك الحجب بالسبعين مما لا يعرف إلا بنور النبوة. فقد ظهر بما ذكرنا أن المعراج على قسمين: أولهما: المعراج من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، والثاني: المعراج من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب، وهذه كلمات برهانية يقينية حقيقية. إذا عرفت هذا فلنرجع إلى المقصود فنقول: إن محمداً عليه السلام لما وصل إلى المعراج وأراد أن يرجع قال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 240 | 241 | 242 | 243 | 244 | 245 | 246 | 247 | 248 | 249 | 250 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" يا رب العزة إن المسافر إذا أراد أن يعود إلى وطنه احتاج إلى محمولات يتحف بها أصحابه وأحبابه، فقيل له: إن تحفة أمتك الصلاة "** وذلك لأنها جامعة بين المعراج الجسماني، وبين المعراج الروحاني: أما الجسماني فبالأفعال، وأما الروحاني فبالأذكار، فإذا أردت أيها العبد الشروع في هذا المعراج فتطهر أولاً، لأن المقام مقام القدس، فليكن ثوبك طاهراً، وبدنك طاهراً لأنك بالوادي المقدس طوى، وأيضاً فعندك ملك وشيطان، فانظر أيهما تصاحب: ودين ودنيا، فانظر أيهما تصاحب: وعقل وهوى، فانظر أيهما تصاحب: وخير وشر، وصدق وكذب، وحق وباطل، وحلم وطيش، وقناعة وحرص وكذا القول في كل الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية، فانظر أنك تصاحب أي الطرفين وتوافق أي الجانبين فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة، ألا ترى أن الصديق اختار صحبة محمد عليه السلام فلزمه في الدنيا، وفي القبر، وفي القيامة، وفي الجنة وأن كلباً صحب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا، وفي الآخرة، ولهذا السر قال تعالى:**{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ }** [التوبة: 119] ثم إذا تطهرت فارفع يديك، وذلك الرفع إشارة إلى توديع عالم الدنيا وعالم الآخرة فاقطع نظرك عنهما بالكلية، ووجه قلبك وروحك وسرك وعقلك وفهمك وذكرك وفكرك إلى الله، ثم قل: الله أكبر، والمعنى أنه أكبر من كل الموجودات، وأعلى وأعظم وأعز من كل المعلومات، بل هو أكبر من أن يقاس إليه شيء أو يقال أنه أكبر، ثم قل: سبحانك اللهم وبحمدك، وفي هذا المقام تجلى لك نور سبحات الجلال، ثم ترقيت من التسبيح إلى التحميد ثم قل: تبارك اسمك، وفي هذا المقام انكشف لك نور الأزل والأبد، لأن قوله تبارك إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام، وذلك يتعلق بمطالعة حقيقة الأزل في العدم، ومطالعة حقيقة الأبد في البقاء، ثم قل: وتعالى جدك، وهو إشارة إلى إنه أعلم وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور، ثم قل: ولا إله غيرك، وهو إشارة إلى أن كل صفات الجلال وسمات الكمال له لا لغيره، فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو، والمقدس الذي لا مقدس إلا هو، وفي الحقيقة لا هو إلا هو ولا إله إلا هو، والعقل ههنا ينقطع، واللسان يعتقل، والفهم يتبلد، والخيال يتحير، والعقل يصير كالزمن، ثم عد إلى نفسك وحالك وقل: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، فقولك: «سبحانك اللهم وبحمدك» معراج الملائكة المقربين، وهو المذكور في قوله:**{ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ }** [البقرة: 30] وهو أيضاً معراج محمد عليه السلام، لأن معراجه مفتتح بقوله: «سبحانك اللهم وبحمدك» وأما قولك: «وجهت وجهي» فهو معراج إبراهيم الخليل عليه السلام، وقولك: «إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله» فهو معراج محمد الحبيب عليه السلام، فإذا قرأت هذين الذكرين فقد جمعت بين معراج أكابر الملائكة المقربين وبين معراج عظماء الأنبياء والمرسلين، ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لتدفع ضرر العجب من نفسك.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 240 | 241 | 242 | 243 | 244 | 245 | 246 | 247 | 248 | 249 | 250 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أن للجنة ثمانية أبواب، ففي هذا المقام انفتح لك باب من أبواب الجنة، وهو باب المعرفة، والباب الثاني: هو باب الذكر وهو قولك بسم الله الرحمن الرحيم، والباب الثالث: باب الشكر، وهو قولك الحمد لله رب العالمين والباب الرابع: باب الرجاء، وهو قولك الرحمن الرحيم، والباب الخامس: باب الخوف، وهو قولك مالك يوم الدين، والباب السادس: باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية، وهو قولك إياك نعبد وإياك نستعين، والباب السابع: باب الدعاء والتضرع كما قال:**{ أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ }** [النمل: 62] وقال:**{ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ }** [غافر: 60] وهو ههنا قولك اهدنا الصراط المستقيم، والباب الثامن: باب الاقتداء بالأرواح الطيبة الطاهرة والاهتداء بأنوارهم، وهو قولك صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وبهذا الطريق إذا قرأت هذه السورة. ووقفت على أسرارها انفتحت لك ثمانية أبواب الجنة، وهو المراد من قوله تعالى:**{ جَنَّـٰتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلأبْوَابُ }** [صۤ: 50] فجنات المعارف الربانية انفتحت أبوابها بهذه المقاليد الروحانية، فهذا هو الإشارة إلى ما حصل في الصلاة من المعراج الروحاني. وأما المعراج الجسماني فالمرتبة الأولى أن تقوم بين يدي الله مثل قيام أصحاب الكهف، وهو قوله تعالى:**{ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ }** [الكهف: 14] بل قم قيام أهل القيامة وهو قوله تعالى:**{ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }** [المطففين: 6] ثم اقرأ سبحانك اللهم، وبعده وجهت وجهي، وبعده الفاتحة، وبعدها ما تيسر لك من القرآن، واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله، فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين، وهذا سر قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. واعلم أن النفس الآن جارية مجرى خشبة عرضتها على نار خوف الجلال فلانت، فاجعلها محنية بالركوع فقل: سمع الله لمن حمده، ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بنهاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو، وقل: سبحان ربي الأعلى، فإذا أتيت بالسجدة الثانية فقد حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة: الركوع الواحد، والسجودان، وبها تنجو من العقبات الثلاث المهلكة، فبالركوع تنجو عن عقبة الشهوات، وبالسجود الأول تنجو عن عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات، وبالسجود الثاني تنجو عن عقبة الهوى الذي هو الداعي إلى كل المهلكات والمضلات، فإذا تجاوزت هذه العقبات وتخلصت عن هذه الدركات فقد وصلت إلى الدرجات العاليات، وملكت الباقيات الصالحات، وانتهيت إلى عتبة جلال مدبر الأرض والسموات، فقل عند ذلك التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، فالتحيات المباركات باللسان، والصلوات بالأركان، والطيبات بالجنان وقوة الإيمان، ثم في هذا المقام يصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى الله عليه وسلم فيتلاقى الروحان، ويحصل هناك الروح والراحة والريحان، فلا بدّ لروح محمد عليه الصلاة والسلام من محمدة وتحية، فقل: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فعند ذلك يقول محمد عليه الصلاة والسلام: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، وكأنه قيل لك فهذه الخيرات والبركات بأي وسيلة وجدتها؟ وبأي طريق وصلت إليها؟ فقل بقولي: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقيل لك أن محمداً هو الذي هداك إليه، فأي شيء هديتك له؟ فقل: اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد، فقيل لك: إن إبراهيم هو الذي طلب من الله أن يرسل إليك مثل هذا الرسول فقال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 240 | 241 | 242 | 243 | 244 | 245 | 246 | 247 | 248 | 249 | 250 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ }** [البقرة: 129] فما جزاؤك له؟ فقل: كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فيقال لك: فكل هذه الخيرات من محمد أو من إبراهيم أو من الله؟ فقل: بل من الحميد المجيد إنك حميد مجيد. ثم إن العبد إذا ذكر الله بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله عزّ وجلّ: **" إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه "** فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى هذا العبد فقال الله: «إن ملائكة السموات اشتاقوا إلى زيارتك وأحبوا القرب منك، وقد جاؤك فابدأ بالسلام عليهم لتحصل لك فيه مرتبة السابقين، فيقول العبد عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فلا جرم أنه إذا دخل الجنة الملائكة يدخلون عليه من كل باب فيقولون:**{ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ }** [الرعد: 24]. الفصل السادس:في الكبرياء والعظمة الكبرياء والعظمة: أعظم المخلوقات جلالة ومهابة المكان والزمان: أما المكان فهو الفضاء الذي لا نهاية له، والخلاء الذي لا غاية له، وأما الزمان فهو الامتداد المتوهم الخارج من قعر ظلمات عالم الأزل إلى ظلمات عالم الأبد، كأنه نهر خرج من قعر جبل الأزل وامتد حتى دخل في قعر جبل الأبد فلا يعرف لانفجاره مبدأ، ولا لاستقراره منزل، فالأول والآخر صفة الزمان، والظاهر والباطن صفة المكان، وكمال هذه الأربعة الرحمن الرحيم، فالحق سبحانه وسع المكان ظاهراً وباطناً، ووسع الزمان أولاً وآخراً، وإذا كان مدبر المكان والزمان هو الحق تعالى كان منزهاً عن المكان والزمان. إذا عرفت هذا فنقول: الحق سبحانه وتعالى له عرش، وكرسي، فعقد المكان بالكرسي فقال:**{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 240 | 241 | 242 | 243 | 244 | 245 | 246 | 247 | 248 | 249 | 250 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[البقرة: 255] وعقد الزمان بالعرش فقال:**{ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَاء }** [هود: 7] لأن جري الزمان يشبه جري الماء، فلا مكان وراء الكرسي، ولا زمان وراء العرش، فالعلو صفة الكرسي وهو قوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } والعظمة صفة العرش وهو قوله:**{ فَقُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ }** [التوبة: 129] وكمال العلو والعظمة لله كما قال:**{ وَلاَ يُؤَدّهِ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ }** [البقرة: 255]. واعلم أن العلو والعظمة درجتان من درجات الكمال، إلا أن درجة العظمة أكمل وأقوى من درجة العلو، وفوقهما درجة الكبرياء قال تعالى: **" الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري "** ، ولا شك أن الرداء أعظم من الإزار، وفوق جميع هذه الصفات بالرتبة والشرف صفة الجلال، وهي تقدسه في حقيقته المخصوصة وهويته المعينة عن مناسبة شيء من الممكنات، وهو لتلك الهوية المخصوصة استحق صفة الإلهية، فلهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام: **" ألظوا بياذا الجلال والإكرام "** ، وقال:**{ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ ذُو ٱلْجَلْـٰلِ وَٱلإكْرَامِ }** [الرحمن: 27] وقال:**{ تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَ ذِى ٱلْجَلَـٰلِ وَٱلإكْرَامِ }** [الرحمن: 78] إذا عرفت هذا الأصل فاعلم أن المصلى إذا قصد الصلاة صار من جملة من قال الله في صفتهم:**{ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }** [الأنعام: 52، الكهف: 28] ومن أراد الدخول على السلطان العظيم وجب عليه أن يطهر نفسه من الأدناس والأنجاس، ولهذا التطهير مراتب: المرتبة الأولى: التطهير من دنس الذنوب بالتوبة، كما قال تعالى:**{ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً }** [التحريم: 8] ومن كان في مقام الزهد كانت طهارته من الدنيا حلالها وحرامها، ومن كان في مقام الإخلاص كانت طهارته من الالتفات إلى أعماله، ومن كان في مقام المحسنين كانت طهارته من الالتفات إلى حسناته، ومن كان في مقام الصديقين كانت طهارته من كل ما سوى الله، وبالجملة فالمقامات كثيرة والدرجات متفاوتة كأنها غير متناهية، كما قال تعالى:**{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ }** [الروم: 30] فإذا أردت أن تكون من جملة من قال الله فيهم: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } فقم قائماً واستحضر في نفسك جميع مخلوقات الله تعالى من عالم الأجسام والأرواح وذلك بأن تبتدىء من نفسك وتستحضر في عقلك جملة أعضائك البسيطة والمركبة وجميع قواك الطبيعية والحيوانية والإنسانية، ثم استحضر في عقلك جملة ما في هذا العالم من أنواع المعادن والنبات والحيوان من الإنسان وغيره، ثم ضم إليه البحار والجبال والتلال والمفاوز وجملة ما فيها من عجائب النبات والحيوان وذرات الهباء، ثم ترق منها إلى سماء الدنيا على عظمها واتساعها، ثم لا تزال ترقى من سماء إلى سماء حتى تصل إلى سدرة المنتهى والرفرف واللوح والقلم والجنة والنار والكرسي والعرش العظيم، ثم انتقل من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح واستحضر في عقلك جميع الأرواح الأرضية السفلية البشرية وغير البشرية، واستحضر جميع الأرواح المتعلقة بالجبال والبحار مثل ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام عن ملك الجبال وملك البحار ثم استحضر ملائكة سماء الدنيا وملائكة جميع السموات السبع كما قال عليه الصلاة والسلام:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 240 | 241 | 242 | 243 | 244 | 245 | 246 | 247 | 248 | 249 | 250 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" ما في السموات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد "** واستحضر جميع الملائكة الحافين حول العرش وجميع حملة العرش الكرسي ثم انتقل منها إلى ما هو خارج هذا العالم كما قال تعالى:**{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ }** [المدثر: 31] فإذا استحضرت جميع هذه الأقسام من الروحانيات والجسمانيات فقل: الله أكبر، وتريد بقولك: «الله» الذات التي حصل بإيجادها وجود هذه الأشياء وحصلت لها كمالاتها في صفاتها وأفعالها، وتريد بقولك أكبر أنه منزه عن مشابهتها ومشاكلتها، بل هو منزه عن أن يحكم العقل بجواز مقايسته بها ومناسبته إليها فهذا هو المراد من قوله في أول الصلاة الله أكبر. والوجه الثاني: في تفسير هذا التكبير: أنه عليه الصلاة والسلام قال: **" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "** فتقول: الله أكبر من أن لا يراني ومن أن لا يسمع كلامي. والوجه الثالث: أن يكون المعنى الله أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأوهامهم وأفهامهم، قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: التوحيد أن لا تتوهمه. الوجه الرابع: أن يكون المعنى الله أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته، فطاعاتهم قاصرة عن خدمته، وثنائهم قاصر عن كبريائه، وعلومهم قاصرة عن كنه صمديته. واعلم أيها العبد أنك لو بلغت إلى أن يحيط عقلك بجميع عجائب عالم الأجسام والأرواح فإياك أن تحدثك نفسك بأنك بلغت مبادىء ميادين جلال الله فضلاً عن أن تبلغ الغور والمنتهى ونعم ما قال الشاعر:
| **أساميا لم تزده معرفة** | | **وإنما لذة ذكرناها** |
| --- | --- | --- |
ومن دعوات رسول الله عليه السلام وثنائه على الله: **" لا ينالك غوص الفكر، ولا ينتهي إليك نظر ناظر، ارتفعت عن صفة المخلوقين صفات قدرتك، وعلا عن ذلك كبرياء عظمتك "** وإذا قلت الله أكبر فاجعل عين عقلك في آفاق جلال الله وقل: سبحانك اللهم وبحمدك، ثم قل: وجهت وجهي، ثم انتقل منها إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لك تبصر فيها عجائب عالم الدنيا والآخرة، وتطالع فيها أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والمذاهب الماضية، وأسرار الكتب الإلهية والشرائع النبوية، وتصل إلى الشريعة، ومنها إلى الطريقة، ومنها إلى الحقيقة، وتطالع درجات الأنبياء والمرسلين، ودركات الملعونين والمردودين والضالين، فإذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم فابصر به الدنيا إذ باسمه قامت السموات والأرضون وإذا قلت الحمد لله رب العالمين أبصرت به الآخرة إذ بكلمة الحمد قامت الآخرة كما قال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 250 | 251 | 252 | 253 | 254 | 255 | 256 | 257 | 258 | 259 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }** [يونس: 10] وإذا قلت الرحمن الرحيم فابصر به عالم الجمال، وهو الرحمة والفضل والإحسان، وإذا قلت مالك يوم الدين فأبصر به عالم الجلال وما يحصل فيه من الأحوال والأهوال، وإذا قلت إياك نعبد فأبصر به عالم الشريعة، وإذا قلت وإياك نستعين فابصر به الطريقة، وإذا قلت اهدنا الصراط المستقيم فابصر به الحقيقة، وإذا قلت صراط الذين أنعمت عليهم فابصر به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وإذا قلت غير المغضوب عليهم فابصر به مراتب فساق أهل الآفاق، وإذا قلت ولا الضالين فابصر به دركات أهل الكفر والشقاق والخزي والنفاق على كثرة درجاتها وتباين أطرافها وأكنافها. ثم إذا انكشفت لك هذه الأحوال العالية والمراتب السامية فلا تظنن أنك بلغت الغور والغاية، بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء، ولنفسك بالذلة والمسكنة، وقل: الله أكبر، ثم أنزل من صفة الكبرياء إلى صفة العظمة، فقل: سبحان ربي العظيم، وإن أردت أن تعرف ذرة من صفة العظمة فاعرف أنا بينا أن العظمة صفة العرش، ولا يبلغ مخلوق بعقله كنه عظمة العرش وإن بقي إلى آخر أيام العالم، ثم اعرف أن عظمة العرش في مقابلة عظمة الله كالقطرة في البحر فكيف يمكنك أن تصل إلى كنه عظمة الله؟ ثم ههنا سر عجيب وهو أنه ما جاء سبحان ربي الأعظم وإنما جاء سبحان ربي العظيم، وما جاء سبحان ربي العالي وإنما جاء سبحان ربي الأعلى، ولهذا التفاوت أسرار عجيبة لا يجوز ذكرها، فإذا ركعت وقلت سبحان ربي العظيم فعد إلى القيام ثانياً، وادع لمن وقف موقفك وحمد حمدك وقل: سمع الله لمن حمده، فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك وهو المراد من قوله عليه السلام: **" لا يزال الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم "** فإن قيل: ما السبب في أنه لم يحصل في هذا المقام التكبير؟. قلنا: لأن التكبير مأخوذ من الكبرياء وهو مقام الهيبة والخوف، وهذا المقام مقام الشفاعة، وهما متباينان. ثم إذا فرغت من هذه الشفاعة فعد إلى التكبير وانحدر به إلى صفة العلو وقل سبحان ربي الأعلى، وذلك لأن السجود أكثر تواضعاً من الركوع، لا جرم الذكر المذكور في السجود هو بناء المبالغة ـ وهو الأعلى ـ والذكر المذكور في الركوع هو لفظ العظيم من غير بناء المبالغة، روي أن لله تعالى ملكاً تحت العرش اسمه حزقيل أوحى الله إليه: أيها الملك، طر فطار مقدار ثلاثين ألف سنة ثم ثلاثين ثم ثلاثين فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني، فأوحى الله إليه لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ الطرف الثاني من العرش، فقال الملك عند ذلك: سبحان ربي الأعلى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 250 | 251 | 252 | 253 | 254 | 255 | 256 | 257 | 258 | 259 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فإن قيل: فما الحكمة في السجدتين؟ قلنا: فيه وجوه: الأول: أن السجدة الأولى للأزل، والثانية للأبد، والارتفاع فيما بينهما إشارة إلى وجود الدنيا فيما بين الأزل والأبد، وذلك لأنك تعرف بأزليته أنه هو الأول لا أول قبله فتسجد له، وتعرف بأبديته أنه الآخر لا آخر بعده فتسجد له ثانياً. الثاني: قيل: إعلم بالسجدة الأولى فناء الدنيا في الآخرة، وبالسجدة الثانية فناء عالم الآخرة عند ظهور نور جلال الله. الثالث: السجدة الأولى فناء الكل في نفسها والسجدة الثانية بقاء الكل بإبقاء الله تعالى:**{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }** [القصص: 88] الرابع: السجدة الأولى تدل على انقياد عالم الشهادة لقدرة الله، والسجدة الثانية تدل على انقياد عالم الأرواح لله تعالى، كما قال:**{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأمْرُ }** [الأعراف: 54] والخامس: السجدة الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته، والسجدة الثانية سجدة العجز والخوف مما لم يصل إليه من أداء حقوق جلاله وكبريائه. واعلم أن الناس يفهموم من العظمة كبر الجثة، ويفهمون من العلو علو الجهة، ويفهمون من الكبر طول المدة، وجل الحق سبحانه عن هذه الأوهام، فهو عظيم لا بالجثة، عالٍ لا بالجهة، كبير لا بالمدة، وكيف يقال ذلك وهو فرد أحد، فكيف يكون عظيماً بالجثة وهو منزه عن الحجمية، وكيف يكون عالياً بالجهة وهو منزه عن الجهة؟ وكيف يكون كبيراً بالمدة والمدة متغيرة من ساعة إلى ساعة فهي محدثة فمحدثها موجود قبلها فكيف يكون كبيراً بالمدة؟ فهو تعالى عالٍ على المكان لا بالمكان، وسابق على الزمان لا بالزمان، فكبرياؤه كبرياء عظمة، وعظمته عظمة علو، وعلوه علو جلال، فهو أجل من أن يشابه المحسوسات، ويناسب المخيلات، وهو أكبر مما يتوهمه المتوهمون، وأعظم مما يصفه الواصفون، وأعلى مما يجده الممجدون، فإذا صور لك حسك مثالاً: فقل الله أكبر، وإذا عين خيالك صورة فقل: سبحانك الله وبحمدك، وإذا زلق رجل طلبك في مهواة التعطيل فقل: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، وإذا جال روحك في ميادين العزة والجلال ثم ترقى إلى الصفات العلى والأسماء الحسنى وطالع من مرقومات القلم على سطح اللوح نقشاً وسكن عند سماع تسبيحات المقربين وتنزيهات الملائكة الروحانيين إلى صورة فاقرأ عند كل هذه الأحوال:**{ سُبْحَـٰنَ رَبّكَ رَبّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ، وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }** [الصافات: 180 ـ 182]. الفصل السابع: في لطائف قوله الحمد لله، وفوائد الأسماء الخمسة. المذكورة في هذه السورة. لطائف الحمد لله: أما لطائف قوله الحمد لله فأربع نكت: النكتة الأولى: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم الخليل عليه السلام سأل ربه وقال: يا رب، ما جزاء من حمدك فقال: الحمد لله؟ فقال تعالى: الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته، قال أهل التحقيق: لما كانت هذه الكلمة فاتحة الشكر جعلها الله فاتحة كلامه، ولما كانت خاتمته جعلها الله خاتمة كلام أهل الجنة فقال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 250 | 251 | 252 | 253 | 254 | 255 | 256 | 257 | 258 | 259 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }** [يونس: 10]. روي عن علي عليه السلام، أنه قال: خلق الله العقل من نور مكنون مخزون من سابق علمه، فجعل العلم نفسه، والفهم روحه، والزهد رأسه، والحياء عينه، والحكمة لسانه، والخير سمعه، والرأفة قلبه، والرحمة همه، والصبر بطنه، ثم قيل له تكلم، فقال: الحمد لله الذي ليس له ند ولا ضد ولا مثل ولا عدل، الذي ذل كل شيء لعزته فقال الرب: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعز عليّ منك وأيضاً نقل أن آدم عليه السلام لما عطس فقال: الحمد لله، فكان أول كلامه ذلك، إذا عرفت هذا فنقول: أول مراتب المخلوقات هو العقل، وآخر مراتبها آدم، وقد نقلنا أول كلام العقل هو قوله: الحمد لله وأول كلام آدم هو قوله: الحمد، فثبت أن أول كلام لفاتحة المحدثات هو هذه الكلمة، وأول كلام لخاتمة المحدثات هو هذه الكلمة، فلا جرم جعلها الله فاتحة كتابه فقال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وأيضاً ثبت أن أول كلمات الله قوله: الحمد لله، وآخر أنبياء الله محمد رسول الله، وبين الأول والآخر مناسبة، فلا جرم جعل قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } أول آية من كتاب محمد رسوله، ولما كان كذلك وضع لمحمد عليه السلام من كلمة الحمد اسمان: أحمد ومحمد وعند هذا قال عليه السلام: **" أنا في السماء أحمد، وفي الأرض محمد "** فأهل السماء في تحميد الله، ورسول الله أحمدهم والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال تعالى:**{ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا }** [الإسراء: 19] ورسول الله محمدهم. والنكتة الثانية: أن الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالنعمة والرحمة، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال والأحكام، فلهذا السبب قال: **" سبقت رحمتي غضبي "** النكتة الثالثة: أن الرسول اسمه أحمد، ومعناه أنه أحمد الحامدين أي: أكثرهم حمداً، فوجب أن تكون نعم الله عليه أكثر لما بينا أن كثرة الحمد بحسب كثرة النعمة والرحمة، وإذا كان كذلك لزم أن تكون رحمة الله في حق محمد عليه السلام أكثر منها في حق جميع العالمين، فلهذا السبب قال:**{ وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ }** [الأنبياء: 107]. النكتة الرابعة: أن المرسل له اسمان مشتقان من الرحمة، وهما الرحمن الرحيم، وهما يفيدان المبالغة، والرسول له أيضاً اسمان مشتقان من الرحمة، وهما محمد وأحمد، لأنا بينا أن حصول الحمد مشروط بحصول الرحمة، فقولنا محمد وأحمد جار مجرى قولنا مرحوم وأرحم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 250 | 251 | 252 | 253 | 254 | 255 | 256 | 257 | 258 | 259 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وجاء في بعض الروايات أن من أسماء الرسول: الحمد، والحامد، والمحمود، فهذه خمسة أسماء للرسول دالة على الرحمة إذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى قال:**{ نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ }** [الحجر: 49] فقوله: نبىء إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مذكور قبل العباد، والياء في قوله: عبادي ضمير عائد إلى الله تعالى والياء في قوله: أني عائد إليه، وقوله: أنا عائد إليه، وقول: الغفور الرحيم، صفتان لله فهي خمسة ألفاظ دالة على الله الكريم الرحيم، فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول عليه الصلاة والسلام مع خمسة أسماء تدل على الرحمة، وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تدل على الرحمة، ورحمة الرسول كثيرة كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } ورحمة الله غير متناهية كما قال تعالى:**{ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء }** [الأعراف: 156] فكيف يعقل أن يضيع المذنب مع هذه البحار الزاخرة العشرة المملوءة من الرحمة؟. وأما فوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة فأشياء: النكتة الأولى: أن سورة الفاتحة فيها عشرة أشياء، منها خمسة من صفات الربوبية، وهي: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، والمالك وخمسة أشياء من صفات العبد وهي: العبودية، والاستعانة، وطلب الهداية، وطلب الاستقامة، وطلب النعمة كما قال: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فانطبقت تلك الأسماء الخمسة على هذه الأحوال الخمسة، فكأنه قيل: إياك نعبد لأنك أنت الله، وإياك نستعين لأنك أنت الرب، إهدنا الصراط المستقيم لأنك أنت الرحمن، وارزقنا الاستقامة لأنك أنت الرحيم، وأفض علينا سجال نعمك وكرمك لأنك مالك يوم الدين. النكتة الثانية: الإنسان مركب من خمسة أشياء: بدنه، ونفسه الشيطانية، ونفسه الشهوانية، ونفسه الغضبية، وجوهره الملكي العقلي، فتجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب الخمسة فتجلى اسم الله للروح الملكية العقلية الفلكية القدسية فخضع وأطاع كما قال:**{ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ }** [الرعد: 28] وتجلى النفس الشيطانية بالبر والإحسان ـ وهو اسم الرب ـ فترك العصيان وانقاد لطاعة الديان، وتجلى للنفس الغضبية السبعية باسم الرحمن وهذا الاسم مركب من القهر واللطف كما قال:**{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ }** [الفرقان: 26] فترك الخصومة وتجلى للنفس الشهوانية البهيمية باسم الرحيم وهو أنه أطلق المباحات والطيبات كما قال:**{ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ }** [المائدة: 5] فلان وترك العصيان، وتجلى للأجساد والأبدان بقهر قوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } فإن البدن غليظ كثيف، فلا بدّ من قهر شديد، وهو القهر الحاصل من خوف يوم القيامة، فلما تجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب انغلقت أبواب النيران، وانفتحت أبواب الجنان. ثم هذه المراتب ابتدأت بالرجوع كما جاءت فأطاعت الأبدان وقالت: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وأطاعت النفوس الشهواينة فقالت: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } على ترك اللذات والإعراض عن الشهوات، وأطاعت النفوس الغضبية فقالت: { ٱهْدِنَا } وأرشدنا وعلى دينك فثبتنا، وأطاعت النفس الشيطانية وطلبت من الله الاستقامة والصون عن الانحراف فقالت: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وتواضعت الأرواح القدسية الملكية فطلبت من الله أن يوصلها بالأرواح القدسية العالية المطهرة المعظمة فقالت: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ }.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 250 | 251 | 252 | 253 | 254 | 255 | 256 | 257 | 258 | 259 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
النكتة الثالثة: قال عليه السلام **" بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت "** فشهادة أن لا إله إلا الله حاصلة من تجلي نور اسم الله، وإقام الصلاة من تجلي اسم الرب لأن الرب مشتق من التربية والعبد يربي إيمانه بمدد الصلاة، وإيتاء الزكاة من تجلى اسم الرحمن، لأن الرحمن مبالغة في الرحمة، وإيتاء الزكاة لأجل الرحمة على الفقراء، ووجوب صوم رمضان من تجلي اسم الرحيم لأن الصائم إذا جاع تذكر جوع الفقراء فيعطيهم ما يحتاجون إليه، وأيضاً إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات فعند الموت يسهل عليه مفارقتها، ووجوب الحج من تجلي اسم مالك يوم الدين لأن عند الحج يجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد، وذلك يشبه سفر يوم القيامة، وأيضاً الحاج يصير حافياً حاسراً عارياً وهو يشبه حال أهل القيامة وبالجملة فالنسبة بين الحج وبين أحوال القيامة، كثيرة جداً. النكتة الرابعة: أنواع القبلة خمسة: بيت المقدس، والكعبة، والبيت المعمور، والعرش وحضرة جلال الله: فوزع هذه الأسماء الخمسة على الأنواع الخمسة من القبلة. النكتة الخامسة: الحواس خمس: أدب البصر بقوله:**{ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِى أُوْلِى ٱلأبْصَـٰرِ }** [الحشر: 2] والسمع بقوله:**{ ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }** [الزمر: 18] والذوق بقوله:**{ يأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحاً }** [المؤمنون: 51] والشم بقوله:**{ إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ }** [يوسف: 94] واللمس بقوله:**{ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ }** [المعارج: 29، المؤمنون: 5] فاستعن بأنوار هذه الأسماء الخمسة على دفع مضار هذه الأعداء الخمسة. النكتة السادسة: اعلم أن الشطر الأول: من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة فتفيض الأنوار على الأسرار، والشطر الثاني: منها مشتمل على الصفات الخمسة لعبد فتصعد منها أسرار إلى مصاعد تلك الأنوار، وبسبب هاتين الحالتين يحصل للعبد معراج في صلاته: فالأول: هو النزول، والثاني: هو الصعود، والحد المشترك بين القسمين هو الحد الفاصل بين قوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } وبين قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وتقرير هذا الكلام أن حاجة العبد إما في طلب الدنيا وهو قسمان: إما دفع الضرر، أو جلب النفع، وإما في طلب الآخرة، وهو أيضاً قسمان: دفع الضرر وهو الهرب من النار وطلب الخير وهو طلب الجنة، فالمجموع أربعة، والقسم الخامس ـ وهو الأشرف ـ طلب خدمة الله وطاعته وعبوديته لما هو هو لا لأجل رغبة ولا لأجل رهبة، فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب من الله شيئاً سوى الله، وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة، وإن طالعت منه نور الرحمن طلبت منه خيرات هذه الدنيا، وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه أن يعصمك عن مضار الآخرة، وإن طالعت نور مالك يوم الدين طلبت منه أن يصونك عن آفات هذه الدنيا وقبائح الأعمال فيها لئلا تقع في عذاب الآخرة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 250 | 251 | 252 | 253 | 254 | 255 | 256 | 257 | 258 | 259 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
النكتة السابعة: يمكن أيضاً تنزيل هذه الأسماء الخمسة على المراتب الخمس المذكورة في الذكر المشهور ـ وهو قوله سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ـ أما قولنا سبحان الله فهو فاتحة سورة واحدة وهي:**{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً }** [الإسراء: 1] وأما قولنا الحمد لله فهو فاتحة خمس سور، وأما قولنا لا إله إلا الله فهو فاتحة سورة واحدة وهي قوله:**{ الم ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }** [آل عمران:1، 2] وأما قولنا الله أكبر فهو مذكور في القرآن لا بالتصريح في موضعين مضافاً إلى الذكر تارة وإلى الرضوان أخرى فقال:**{ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ }** [التوبة: 72] وقال:**{ وَرِضْوٰنٌ مّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ }** [العنكبوت: 45] وأما قولنا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فهو غير مذكور في القرآن صريحاً، لأنه من كنوز الجنة، والكنز يكون مخفياً ولا يكون ظاهراً، فالأسماء الخمسة المذكورة في سورة الفاتحة؟ لهذه الأذكار الخمسة، فقولنا: الله مبدأ لقولنا سبحان الله، وقولنا: رب مبدأ لقولنا الحمد لله، وقولنا الرحمن مبدأ لقولنا لا إله إلا الله، فإن قولنا: لا إله إلا الله إنما يليق بمن يحصل له كمال القدرة وكمال الرحمة، وذلك هو الرحمن وقولنا: الرحيم مبدأ لقولنا الله أكبر ومعناه أنه أكبر من أن لا يرحم عباده الضعفاء، وقولنا: مالك يوم الدين مبدأ لقولنا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لأن الملك والمالك هو الذي لا يقدر عبيده على أن يعملوا شيئاً على خلاف إرادته، والله أعلم. الفصل الثامن: في السبب المقتضي لاشتمال بسم اللّه الرحمن الرحيم على الأسماء الثلاثة السبب في اشمال البسملة على الأسماء الثلاثة: وفيه وجوه: الأول: لا شك أنه تعالى يتجلى لعقول الخلق، إلا أن لذلك التجلي ثلاث مراتب: فإنه في أول الأمر يتجلى بأفعاله وآياته، وفي وسط الأمر يتجلى بصفاته، وفي آخر الأمر يتجلى بذاته، قيل إنه تعالى يتجلى لعامة عباده بأفعاله وآياته، قال:**{ وَمِنْ ءايَـٰتِهِ ٱلْجَوَارِ فِى ٱلْبَحْرِ كَٱلأعْلَـٰمِ }** [الشورى: 32] وقال:**{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لاَيَـٰتٍ }** [آل عمران: 190] ثم يتجلى لأوليائه بصفاته، قال:**{ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً }** [آل عمران: 191] ويتجلى لأكابر الأنبياء ورؤساء الملائكة بذاته**{ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }** [الأنعام: 91] إذا عرفت هذا فنقول: اسم الله عزّ وجلّ أقوى الأسماء في تجلي ذاته، لأنه أظهر الأسماء في اللفظ، وأبعدها معنى عن العقول، فهو ظاهر باطن، يعسر إنكاره.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 250 | 251 | 252 | 253 | 254 | 255 | 256 | 257 | 258 | 259 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ولا تدرك أسراره، قال الحسين بن منصور الحلاج: ـ
| **اسم مع الخلق قد تاهوا به وَلَهَاً** | | **ليعلموا منه معنى من معانيه** |
| --- | --- | --- |
| **والله ما وصلوا منه إلى سبب** | | **حتى يكون الذين أبداه مبديه** |
وقال أيضاً: ـ
| **يا سر سر يدق حتى** | | **يخفي على وهم كل حي** |
| --- | --- | --- |
| **فظاهراً باطناً تجلى** | | **لكل شيء بكل شيء** |
وأما اسمه الرحمن فهو يفيد تجلي الحق بصفاته العالية، ولذلك قال:**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ }** [الإسراء: 110] وأما اسمه الرحيم فهو يفيد تجلى الحق بأفعاله وآياته ولهذا السبب قال:**{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً }** [غافر: 7]. الفصل التاسع: في سبب اشتمال الفاتحة على الأسماء الخمسة سبب اشتمال الفاتحة على الأسماء الخمسة: السبب فيه أن مراتب أحوال الخلق خمسة: أولها: الخلق، وثانيها: التربية في مصالح الدنيا، وثالثها: التربية في تعريف المبدأ، ورابعها: التربية في تعريف المعاد، وخامسها: نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى دار المعاد، فاسم الله منبع الخلق والإيجاد والتكوين والإبداع واسم الرب يدل على التربية بوجوه الفضل والإحسان، واسم الرحمن يدل على التربية في معرفة المبدأ، واسم الرحيم في معرفة المعاد حتى يحترز عما لا ينبغي ويقدم على ما ينبغي، واسم الملك يدل على أنه ينقلهم من دار الدنيا إلى دار الجزاء، ثم عند وصول العبد إلى هذه المقامات انتقل الكلام من الغيبة إلى الحضور فقال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } كأنه يقول: إنك إذا انتفعت بهذه الأسماء الخمسة في هذه المراتب الخمس وانتقلت إلى دار الجزاء صرت بحيث ترى الله، فحينئذٍ تكلم معه على سبيل المشاهدة لا على سبيل المغايبة، ثم قل: إياك نعبد وإياك نستعين، كأنه قال: إياك نعبد لأنك الله الخالق، وإياك نستعين لأنك الرب الرازق، إياك نعبد لأنك الرحمن، وإياك نستعين لأنك الرحيم، إياك نعبد لأنك الملك، وإياك نستعين لأنك المالك. واعلم أن قوله مالك يوم الدين دل على أن العبد منتقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة، ومن دار الشرور إلى دار السرور، فقال: لا بدّ لذلك اليوم من زاد واستعداد، وذلك هو العبادة، فلا جرم قال: إياك نعبد، ثم قال العبد: الذي اكتسبته بقوتي وقدرتي قليل لا يكفيني في ذلك اليوم الطويل فاستعان بربه فقال، ما معنى قليل، فأعطني من خزائن رحمتك ما يكفيني في ذلك اليوم الطويل فقال: وإياك نستعين، ثم لما حصل الزاد ليوم المعاد قال: هذا سفر طويل شاق والطرق كثيرة والخلق قد تاهوا في هذه البادية فلا طريق إلا أن أطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق فقال: اهدنا الصراط المستقيم، ثم أنه لا بدّ لسالك الطريق من رفيق ومن بدرقة ودليل فقال: صراط الذين أنعمت عليهم، والذين أنعم الله عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، فالأنبياء هم الأدلاء، والصديقون هم البدرقة، والشهداء والصالحون هم الرفقاء، ثم قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وذلك لأن الحجب عن الله قسمان: الحجب النارية ـ وهي عالم الدنيا ـ ثم الحجب النورية ـ وهي عالم الأرواح ـ فاعتصم بالله سبحانه وتعالى من هذين الأمرين، وهو أن لا يبقى مشغول السر لا بالحجب النارية ولا بالحجب النورية.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 250 | 251 | 252 | 253 | 254 | 255 | 256 | 257 | 258 | 259 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفصل العاشر: في هذه السورة كلمتان مضافتان إلى اسم الله، واسمان مضافان إلى غير الله: أما الكلمتان المضافتان إلى اسم الله فهما قوله: بسم الله، وقوله: الحمد لله فقوله بسم الله لبداية الأمور، وقوله الحمد لله لخواتيم الأمور، فبسم الله ذكر، والحمد لله شكر، فلما قال بسم الله استحق الرحمة، ولما قال الحمد لله استحق رحمة أخرى، فبقوله بسم الله استحق الرحمة من اسم الرحمن، وبقوله الحمد لله استحق الرحمة من اسم الرحيم، فلهذا المعنى قيل: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. وأما قوله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يو م الدين فالربوبية لبداية حالهم بدليل قوله:**{ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ }** [الأعراف: 172] وصفة الرحمن لوسط حالهم، وصفة الملك لنهاية حالهم بدليل قوله:**{ لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ }** [غافر: 16]. والله أعلم بالصواب، وهو الهادي إلى الرشاد.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 250 | 251 | 252 | 253 | 254 | 255 | 256 | 257 | 258 | 259 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 250 | 251 | 252 | 253 | 254 | 255 | 256 | 257 | 258 | 259 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 260 | |
| --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) | { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } بدل من { ٱلَّذِينَ } على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال. أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من الغضب والضلال وذلك إنما يصح بأحد تأويلين، إجراء الموصول مجرى النكرة إذا لم يقصد به معهود كالمحلى في قوله:
| **ولَقَد أَمرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني** | | |
| --- | --- | --- |
وقولهم: إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني. أو جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ماله ضد واحد وهو المنعم عليهم، فيتعين تعين الحركة من غير السكون.
وعن ابن كثير نصبه على الحال من الضمير المجرور والعامل أنعمت. أو بإضمار أعني. أو بالاستثناء إن فسر النعم بما يعم القبيلين، والغضب: ثوران النفس إرادة الانتقام، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية على ما مر، وعليهم في محل الرفع لأنه نائب مناب الفاعل بخلاف الأول، ولا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي، فكأنه قال: لا المغضوب عليهم ولا الضالين، ولذلك جاز أنا زيداً غير ضارب، كما جاز أنا زيداً لا ضارب، وإن امتنع أنا زيداً مثل ضارب، وقرىء { وَغَيْرُ ٱلضَّالّينَ } والضلال: العدول عن الطريق السوي عمداً أو خطأ، وله عرض عريض والتفاوت ما بين أدناه وأقصاه كثير.
قيل: { ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } اليهود لقوله تعالى فيهم:**{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ }** [المائدة: 60] و { ٱلضَّالّينَ } النصارى لقوله تعالى:**{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً }** [المائدة: 77] وقد روي مرفوعاً، ويتجه أن يقال: المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله، لأن المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، وكان المقابل له من اختل إحدى قوتيه العاقلة والعاملة. والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمداً**{ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ }** [النساء: 93] والمخل بالعقل جاهل ضال لقوله: { فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ }. وقرىء: ولا «الضألين» بالهمزة على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين.
ـ آمين ـ اسم الفعل الذي هو استجب. وعن ابن عباس قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معناه فقال: **" افعل بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين "** وجاء مد ألفه وقصرها قال:
| **ويرحَمُ الله عبداً قالَ آمِينا** | | |
| --- | --- | --- |
وقال:
| **أمينَ فزادَ الله ما بيننا بُعدا** | | |
| --- | --- | --- |
وليس من القرآن وفاقا، لكن يسن ختم السورة به لقوله عليه الصلاة والسلام **" علمني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة وقال إنه كالختم على الكتاب ".** وفي معناه قول علي رضي الله عنه: آمين خاتم رب العالمين، ختم به دعاء عبده.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر **" أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته ".** وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا يقوله، والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد الله بن مغفل وأنس، والمأموم يؤمن معه لقوله عليه الصلاة والسلام: **" إذا قال الإمام { وَلاَ ٱلضَّالّينَ } فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ".** وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ **" ألا أخبرك بسورة لم يُنَزَّل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها ".** قال: قلت بلى يا رسول الله. قال: **" فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ".** وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: **" بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ أتاه ملك فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أعطيته ".** وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) | وقد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد**{ ;هْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }** الفاتحة6 إلى آخرها أن الله يقول **" هذا لعبدي ولعبدي ما سأل "** وقوله تعالى { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مفسر للصراط المستقيم، وهو بدل منه عند النحاة، ويجوز أن يكون عطف بيان، والله أعلم. والذين أنعم الله عليهم المذكورون في سورة النساء، حيث قال تعالى**{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّـٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً }** النساء 69 - 70 وقال الضحاك عن ابن عباس صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين. وذلك نظير ما قال ربنا تعالى**{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم }** النساء 69 الآية. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } قال هم النبيّون. وقال ابن جريج عن ابن عباس هم المؤمنون، وكذا قال مجاهد. وقال وكيع هم المسلمون. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه. والتفسير المتقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أعم وأشمل، والله أعلم. وقوله تعالى { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قرأ الجمهور غير بالجر على النعت، قال الزمخشري وقرىء بالنصب على الحال، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، ورويت عن ابن كثير. وذو الحال الضمير في عليهم. والعامل أنعمت. والمعنى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره، غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحق، وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين، وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة، لا يهتدون إلى الحق. وأكد الكلام بلا ليدل على أن ثَمّ مسلكين فاسدين، وهما طريقة اليهود والنصارى، وقد زعم بعض النحاة أن غير ههنا استثنائية، فيكون على هذا منقطعاً لاستثنائهم من المنعم عليهم، وليسوا منهم، وما أوردناه أولى لقول الشاعر
| **كَأَنَّكَ مِنْ جِمال بَني أُقَيْشٍ يُقَعْقَعُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ بِشَن** | | |
| --- | --- | --- |
أي كأنك جمل من جمال بني أقيش، فحذف الموصوف، واكتفى بالصفة. وهكذا غير المغضوب عليهم، أي غير صراط المغضوب عليهم، اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف، وقد دل عليه سياق الكلام، وهو قوله تعالى { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ثم قال تعالى { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ومنهم من زعم أن لا في قوله تعالى { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } زائدة، وأن تقدير الكلام عنده غير المغضوب عليهم والضالين، واستشهد ببيت العجاج
| **في بئرٍ لا حَوَر سعى وما شَعَر** | | |
| --- | --- | --- |
أي في بئرحور، والصحيح ما قدمناه، ولهذا روى أبو القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقرأ غير المغضوب عليهم، وغير الضالين، وهذا الإسناد صحيح، وكذلك حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك، وهو محمول على أنه صدر منهما على وجه التفسير، فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء لتأكيد النفي لئلا يتوهم أنه معطوف على الذين أنعمت عليهم، وللفرق بين الطريقتين ليجتنب كل واحد منهما فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهود فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا الغضب لليهود، والضلال للنصارى لأن من علم وترك استحق الغضب، خلاف من لم يعلم، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئاً، لكنهم لا يهتدون إلى طريقه لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه، وهو اتباع الحق، ضلوا، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ }** المائدة 60 وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم**{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** المائدة 77 وبهذا جاءت الأحاديث والآثار، وذلك واضح بين فيما قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت سماك بن حرب يقول سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم، قال **" جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا عمتي وناساً، فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوا له، فقالت يا رسول الله نأى الوافد، وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة، فمنّ علي منّ الله عليك، قال من وافدك؟ قالت عدي بن حاتم، قال الذي فر من الله ورسوله؟ قالت فمنّ علي، فلما رجع، ورجل إلى جنبه ترى أنه علي، قال سليه حملاناً فسألته، فأمر لها، قال فأتتني، فقالت لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، فأتيته، فإذا عنده امرأة وصبيان، وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم قال فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فقال يا عدي ما أفرك؟ أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل من إله إلا الله؟ ما أفرك؟ أن يقال الله أكبر، فهل شيء أكبر من الله عز وجل؟ قال فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر، وقال إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى "** ، وذكر الحديث. ورواه الترمذي من حديث سماك بن حرب، وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه قلت وقد رواه حماد بن سلمة عن مُرَي بن قَطَريّ عن عدي بن حاتم قال
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } قال هم اليهود { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال النصارى هم الضالون "** وهكذا رواه سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم به، وقد روي حديث عدي هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن بديل العقيلي أخبرني عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرسه، وسأله رجل من بني القين، فقال يا رسول الله من هؤلاء؟ قال **" المغضوب عليهم - وأشار إلى اليهود - والضالون هم النصارى "** وقد رواه الجريري وعروة وخالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق، فأرسلوه، ولم يذكروا من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن عمرو. فا لله أعلم، وقد روى ابن مردويه من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم قال **" اليهود "** قلت الضالين قال **" النصارى "** ، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير المغضوب عليهم هم اليهود، ولا الضالين هم النصارى، وقال الضحاك وابن جريج عن ابن عباس غير المغضوب عليهم هم اليهود، ولا الضالين النصارى، وكذلك قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد، وقال ابن أبي حاتم ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافاً. وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون، الحديث المتقدم، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة**{ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }** البقرة 90 وقال في المائدة**{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** المائدة 60 وقال تعالى**{ لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـٰهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }** المائدة 78 - 79 وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف، قالت له اليهود إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، فقال أنا من غضب الله أفر، وقالت له النصارى إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله، فقال لا أستطيعه، فاستمر على فطرته، وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين، ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى، وأما أصحابه فتنصروا، ودخلوا في دين النصرانية لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك، وكان منهم ورقة بن نوفل حتى هداه الله بنبيه، لما بعثه آمن بما وجد من الوحي، رضي الله عنه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
مسألة والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما، وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا، ولأن كلاً من الحرفين من الحروف المجهورة، ومن الحروف الرخوة، ومن الحروف المطبقة، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك، والله أعلم. وأما حديث أنا أفصح من نطق بالضاد، فلا أصل له، والله أعلم. فصل اشتملت هذه السورة الكريمة، وهي سبع آيات، على حمد الله، وتمجيده، والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد، وهو يوم الدين، وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله، والتضرع إليه، والتبرؤ من حولهم وقوتهم إلى إخلاص العبادة له، وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدين القويم، وتثبيتهم عليه، حتى يفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون. وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة كما قال تعالى**{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم }** المجادلة 14 الآية. وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به، وإن كان هو الذي أضلهم بقدره كما قال تعالى**{ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا }** الكهف 17 وقال**{ مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ }** الأعراف 186 إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال، لا كما تقول الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلون، ويحتجون على بدعتهم بمتشابه من القرآن، ويتركون ما يكون فيه صريحاً في الرد عليهم، وهذا حال أهل الضلال والغي، وقد ورد في الحديث الصحيح
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم "** يعني في قوله تعالى**{ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ }** آل عمران 7 فليس، بحمد الله، لمبتدع في القرآن حجة صحيحة لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل، مفرقاً بين الهدى والضلال، وليس فيه تناقض ولا اختلاف لأنه من عند الله تنزيل من حكيم حميد. فصل يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها آمين، مثل يس، ويقال أمين بالقصر أيضاً، ومعناه اللهم استجب. والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل ابن حجر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } فقال **" آمين "** مد بها صوته، ولأبي داود رفع بها صوته، وقال الترمذي هذا حديث حسن، وروي عن علي وابن مسعود وغيرهم. وعن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال **" آمين "** حتى يسمع من يليه من الصف الأول، رواه أبو داود وابن ماجه، وزاد فيه فيرتج بها المسجد. والدارقطني، وقال هذا إسناد حسن. وعن بلال أنه قال يا رسول الله لا تسبقني بآمين، رواه أبو داود، ونقل أبو نصر القشيري عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل { ءَامِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ }. قال أصحابنا وغيرهم ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة، ويتأكد في حق المصلي، وسواء كان منفرداً أو إماماً أو مأموماً، وفي جميع الأحوال لما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه "** ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" إذا قال أحدكم في الصلاة آمين، والملائكة في السماء آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه "** قيل بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان، وقيل في الإجابة، وقيل في صفة الإخلاص. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعاً **" إذا قال - يعني الإمام - ولا الضالين، فقولوا آمين، يجبكم الله "** وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قلت يا رسول الله ما معنى آمين؟ قال **" رب افعل "** وقال الجوهري معنى آمين كذلك فليكن. وقال الترمذي معناه لا تخيب رجاءنا. وقال الأكثرون معناه اللهم استجب لنا. وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق وهلال بن يساف أن آمين اسم من أسماء الله تعالى. وروي عن ابن عباس مرفوعاً، ولا يصح، قاله أبو بكر بن العربي المالكي.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقال أصحاب مالك لا يؤمن الإمام، ويؤمن المأموم لما رواه مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" وإذا قال - يعني الإمام - ولا الضالين، فقولوا آمين "** الحديث. واستأنسوا أيضاً بحديث أبي موسى عند مسلم **" وإذا قرأ { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } فقالوا آمين "** وقد قدمنا في المتفق عليه **" إذا أمن الإمام فأمنوا "** وأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤمن إذا قرأ { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } وقد اختلف أصحابنا في الجهر بالتأمين للمأموم في الجهرية. وحاصل الخلاف أن الإمام إن نسي التأمين، جهر المأموم به، قولاً واحداً، وإن أمن الإمام جهراً، فالجديد أن لا يجهر المأموم، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن مالك لأنه ذكر من الأذكار، فلا يجهر به كسائر أذكار الصلاة. والقديم أنه يجهر به، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل، والرواية الأخرى عن مالك لما تقدم «حتى يرتج المسجد» ولنا قول آخر ثالث أنه إن كان المسجد صغيراً، لم يجهر المأموم لأنهم يسمعون قراءة الإمام، وإن كان كبيراً، جهر ليبلغ التأمين من في أرجاء المسجد، والله أعلم. وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده اليهود، فقال **" إنهم لن يحسدونا على شيء كما يحسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين "** ورواه ابن ماجه، ولفظه **" ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين "** وله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول آمين، فأكثروا من قول آمين "** وفي إسناده طلحة بن عمرو، وهو ضعيف، وروى ابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين "** وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" أعطيت آمين في الصلاة، وعند الدعاء، لم يعط أحد قبلي إلا أن يكون موسى، كان موسى يدعو، وهارون يؤمن، فاختموا الدعاء بآمين، فإن الله يستجيبه لكم "** قلت ومن هنا نزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى**{ وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَٰلِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاَْلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
يونس 88 - 89 فذكر الدعاء عن موسى وحده، ومن سياق الكلام ما يدل على أن هارون أمّن، فنزل منزلة من دعا لقوله تعالى**{ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا }** يونس 89 فدل ذلك على أن من أمّن على دعاء فكأنما قاله، فلهذا قال من قال إن المأموم لا يقرأ لأن تأمينه على قراءة الفاتحة بمنزلة قراءتها، ولهذا جاء في الحديث **" من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة "** رواه أحمد في مسنده. وكان بلال يقول لا تسبقني بآمين يا رسول الله. فدل هذا المنزع على أن المأموم لا قراءة عليه في الجهرية والله أعلم. ولهذا قال ابن مردويه حدثنا أحمد بن الحسن حدثنا عبد الله بن محمد بن سلام حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير عن ليث بن أبي سليم عن كعب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقال آمين، فوافق آمين أهل الأرض آمين أهل السماء، غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه، ومثل من لا يقول آمين كمثل رجل غزا مع قوم، فاقترعوا، فخرجت سهامهم، ولم يخرج سهمه، فقال لمَ لم يخرج سهمي؟ فقيل إنك لم تقل آمين ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ) | { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بالهداية ويبدل من الذين بصلته { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وهم اليهود { وَلاَ } وغير { ٱلضَّالّينَ } وهم النصارى ونكتة البدل إفادة أن المهتدين ليسوا يهوداً ولا نصارى
والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) | قوله تعالى: { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ }
قال ابن عباس: هم النبيُّون، والصديقون، والشهداء، والصالحون. وقرأ الأكثرون «عليهم» بكسر الهاء، وكذلك «لديهم» و «إِليهم» وقرأهنَّ حمزة بضمها. وكان ابن كثير يصل [ضم] الميم بواو. وقال ابن الأنباري: حكى اللغويون في «عليهم» عشر لغات، قرى بعامتها «عليهُمْ» بضم الهاء وإِسكان الميم و«عليهِمْ» بكسر الهاء وإِسكان الميم، و«عليهمي» بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة، و«عليهُمو» بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة، و«عليهمو» بضم الهاء والميم وإِدخال واو بعد الميم و«عليهُمُ» بضم الهاء والميم من غير زيادة واو، وهذه الأوجه الستة مأثورة عن القراء، وأوجه أربعة منقولة عن العرب «عليهُمي» بضم الهاء وكسر الميم وإِدخال ياء، و«عليهُمِ» بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياءٍ، و«عليهِمُ» بكسر الهاء وضم الميم من غير إِلحاق واو، و «عليهِمِ» بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم.
فأما «المغضوب عليهم» فهم اليهود؛ و «الضالون»: النصارى.
رواه عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن قتيبة: والضلال: الحيرة والعدول عن الحق.
فصل
ومن السنة في حق قارىء الفاتحة أن يعقبها بـ «آمين». قال شيخنا أبو الحسن علي ابن عبيد الله: وسواء كان خارج الصلاة أو فيها، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" إذا قال الامام { غَيْرِ المغْضُوبِ عَليْهم ولا الضَّالين } فقال من خلفه: آمين، فوافق ذلك قول أهل السماء، غفر له ما تقدم من ذنبه "**
وفي معنى آمين: ثلاثة أقوال.
أحدها: أن معنى آمين: كذلك يكون. حكاه ابن الأنباري عن ابن عباس، والحسن.
والثاني: أنها بمعنى: اللهم استجب. قاله الحسن والزجاج.
والثالث: أنه اسم من أسماء الله تعالى. قاله مجاهد، وهلال بن يساف، وجعفر ابن محمد.
وقال ابن قتيبة: معناها: يا أمين أجب دعاءنا، فسقطت يا، كما سقطت في قوله:**{ يوسف أعرض عن هذا }** [يوسف:29] تأويله: يا يوسف. ومن طوَّل الألف فقال: آمين، أدخل ألف النداء على ألف أمين، كما يقال، آزيد أَقبل. ومعناه: يا زيد. قال ابن الأنباري: وهذا القول خطأ عند جميع النحويين، لأنه إِذا أدخل «يا» على« آمين» كان منادىً مفرداً، فحكم آخره الرفع، فلما أجمعت العرب على فتح نونه، دل على أنه غير منادى، وإنما فتحت نون «آمين» لسكونها وسكون الياء التي قبلها، كما تقول العرب: ليت، ولعل. قال: وفي «آمين» لغتان: «أمين» بالقصر، «وآمين» بالمد، والنون فيهما مفتوحة.
أنشدنا أبو العباس عن ابن الاعرابي:
| **سقى الله حياً بين صارة والحمى** | | **(حمى) فيْدَ صوبَ المُدْجِنات المواطر** |
| --- | --- | --- |
| **أمين وأَدى الله ركباً إليهمُ** | | **بخير ووقَّاهم حِمام المقادر** |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
وأَنشدنا أبو العباس أيضاً:
| **تباعد مني فُطْحُل وابن أمه** | | **أَمين فزاد الله ما بيننا بعدا** |
| --- | --- | --- |
وأنشدنا أبو العباس أيضاً:
| **يا رب لا تسلبنّي حبها أبداً** | | **ويرحم الله عبداً قال آمينا** |
| --- | --- | --- |
وأَنشدني أَبي:
| **أمين ومن أعطاك مني هوداة** | | **رمى الله في أطرافه فاقفعلَّت** |
| --- | --- | --- |
وأنشدني أبي:
| **فقلت له قد هجت لي بارح الهوى** | | **أصَاب حمام الموت أَهوننا وجدا** |
| --- | --- | --- |
| **أمين وأضناه الهوى فوق ما به** | | **أمين ولاقى من تباريحه جهدا** |
فصل
نقل الأكثرون عن أحمد أن الفاتحة شرط في صحة الصلاة، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصح صلاته، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا تتعين، وهي رواية عن أحمد، ويدل على الرواية الأولى ما روي في «الصحيحين» من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "**
والله تعالى أعلم بالصواب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ) | { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }: اليهود، والضالون، النصارى. اتفاقاً خُصت اليهود بالغضب لشدة عداوتها، والغضب هو المعروف من العباد، أو إرادة الانتقام، أو ذمه لهم، أو نوع من العقاب سماه غضباً كما سمى نعمته رحمة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ) | قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ... }.
دليل على أن الهداية إلى الطّاعة محض نعمة وتفضل من الله تعالى (لا باستحقاقه) بوجه، والمراد بالهداية خلق القدرة على الطاعة وعند المعتزلة (تيسير) أسباب الفعل والتمكن منه (ومنح الألطاف) لأنهم يقولون: إن العبد يستقل بأفعاله ويخلقها.
قال الزمخشري: فإن قلت ما أفاد الوصف بغير المغضوب مع أنه معلوم من الأول؟
فأجاب: بأن الإنعام يشمل الكافر والمسلم فبين أن المراد به المسلم. وردّه ابن عرفة بما تقدم لنا من أن المراد الإنعام الأخص.
قال: وإنّما الجواب أنه وصف به تنبيها وتحريضا للإنسان على استحضار مقام الخوف والرّجاء خشية أن يستغرق في استحضار مقام الإنعام فيذهل عن المقام الآخر وأشار إليه ابن الخطيب هنا.
قال ابن عرفة: وغضب الله تعالى إما راجع لإرادته من العبد المعصية والكفر أو راجع لخلقه الكفر والمعصية في قلبه، هَذَا عِنْدنَا. وعند المعتزلة راجع لإرادته الانتقام منه لأنهم يقولون أن الله تعالى لم يخلق الشر ولا أراده ووافقونا في (الدّاعى) أنه مخلوق لله تعالى.
فإن قلت لم قال: { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بلفظ الفعل، و { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } بلفظ الاسم وهلاّ قال صِرَاطَ المنعم عليهم كَما قال { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ }؟
قلت: (فالجواب أنه) قصد التنبيه على التأدب مع الله تعالى بنسبة الإنعام إليه وعدم (نسبة) الشر إليه بل أتى به بلفظ المفعول الذي لم يتم فاعله فلم ينسب الغضب إليه على معنى الفاعلية وإن كان هو الفاعل المختار لكل شيء لكن جرت العادة في مقام التأدب أن ينسب للفاعل الخير دون الشر.
وأجاب القاضي العماد بوجوه:
-الأول: من (ألطاف) الله (أنه) إذا ذكر نعمة أسندها (إليه) فقال:**{ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ }** ولذلك قال إبراهيم عليه السلام:**{ وإذا مرضت فهو يشفين }** - الثاني: إنما قال: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } (ليدخل غضبه) وغضب الملائكة والأنبياء والمؤمنين فهو أعمّ/ فائدة.
- الثالث: إنما لم يقل صراط المنعم عليهم لأن إبراز (ضمير) فاعل النعمة ذِكْر وشكر له باللّسان وبالقلب، فيكون (دعاء) مقرونا بالشكر والذكر.
-الرابع: فيه فائدة بيانية، وهو أنه من (التفنن) في الكلام لأنه (لو أجري) على أسلوب واحد لم يكن فيه تلك (اللّذاذة) وإذا اختلف أسلوبه ألقى السامع إليه سمعه (وهو تنبيه) وطلب إحضار ذهنه من قريب ومن بعيد.
(قلت): وإشارة إلى قوله تعالى:**{ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ }** فالنعمة تفضل ورحمة، والانتقام عدل وقصاص.
قلت: ونقل بعضهم أن القاضي (محمد) بن عبد السلام الهواري سئل ما السر في أن قيل: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ } بنُون العظمة والداعي واحد وهو محل تضرع وخضوع، وهلا قال: اهدِنِي؟
فأجاب بأنّ المصلّي إن كان واحدا فهو طالب لنفسه ولجميع المسلمين.
قال: أو تقول إنّ المصلي لما حصّل (مناجاة) الله وهي من أعظم الأشياء عظم لذلك وهو الجواب في " نَعْبُدُ - ونَسْتَعِينُ " والله أعلم بالصواب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) | قولُه تَعَالَى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.
" صِرَاطَ الذِيْنَ " بدل منه، بدل كُلِّ مِنْ كُلّ، وهو بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ.
والبدلُ سبعةُ أَقْسَامٍ على خلاف في بعضها:
بدلُ كُلّ من كُلّ، وبدل بَعْضٍ من كُلّ، وبدلُ اشْتِمَالٍ، وبدلُ غَلَطٍ، وبدل نِسْيَان، وبدل بَدَاء، وبدل كُلّ من بعض.
أما الأقسامُ الثلاثَةُ الأُوَلُ، فلا خلافَ فِيها.
وأما بدلُ البدَاء، فأثبته بعضُهم؛ مستدلاًّ بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: **" وإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصلاَة، وما كتب له نِصْفُهَا ثُلُثُهَا رُبعُهَا إلى العُشُرِ "** ولا يَرِدُ هذا في القرآن الكريمِ.
وأما الغَلَطُ والنسْيَانُ، فأثبتهما بعضُهم؛ مُسْتَدِلاًّ بقول ذي الرُّمَّةِ: [البسيط]
| **75- لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ** | | **وَفِي اللِّثَاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ** |
| --- | --- | --- |
قال: لأنَّ " الحُوّة " السّوادُ الخالِصُ، و " اللَّعَسُ " سواد يشوبه حُمْرَة، ولا يرِدُ هذان البدلان في كَلاَمٍ فصيحٍ.
وأما بدل الكُلّ من البعض، فأثبته بعضهُم، مُسْتَدِلاًّ بظاهِر قوله: [الخفيف]
| **76- نَضَرَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا** | | **بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ** |
| --- | --- | --- |
في رواية مَنْ نَصَبَ " طَلْحَةَ " ، قال: لأنَّ " الأَعْظُمَ " بعضُ " طَلْحَةَ " ، و " طَلْحَةَ " كُلّ وقد أُبْدِلَ منها؛ واستدلّ - أيضاً - بقول امرىء القيس [الطويل]
| **77- كَأَنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا** | | **لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ** |
| --- | --- | --- |
فـ " غَدَاةَ " بعضُ " اليوم " ، وقد أُبْدِلَ " اليوم " منها.
ولا حُجَّةَ في البيتيْنِ، أما الأولُ: فإنَّ الأَصْلَ " أعظماً دفنوها أَعْظُمَ طلحة " ثم حُذِفَ المضافُ، وأقيم المُضَافُ إليهِ مُقَامه؛ ويدلُّ على ذلك الروايةُ المشهورةُ وهي جَرُّ " طَلْحَةَ " على أنَّ الأصل: " أعظم طلحة " ولم يُقَم المضاف إليه مقامَ المضاف.
وأما الثاني: فإنَّ " اليَوْمَ " يُطلقُ على القطعةِ من الزمان، كما تقدّم، وليس هذا موضعَ البَحْثِ عَن دَلائِلِ المذهبيْن.
وقيل: " الصراط " الثاني غير الأول، والمرادُ به: العلمُ بالله تعالى. قاله جَعْفَرُ بنُ محمد رحمه الله تعالى: وعلى هذا فتخريجته أن يكونَ مَعْطُوفاً حُذِفَ منه حَرْفُ العَطْفِ، وبالجملة فهو مُشْكلٌ.
والبدلُ ينقسمُ أيضاً إلى:
بدل مَعرفةٍ، ونكرةٍ منْ نكرةٍ، ومعرفةٍ منْ نكرةٍ، ونكرةٍ مِنْ معرفةٍ.
ويَنْقَسمُ أيضاً إلى:
بدل ظاهِر من ظاهرٍ: ومُضْمَرٍ مِنْ مُضْمَرٍ، وظاهرٍ مِنْ مضمر، ومضمرٍ من ظاهر.
وفائدةُ البَدلِ: الإيضاحُ بعد الإبْهَامِ؛ لأنهُ يُفِيدُ تأكيداً من حَيْثُ المعنى، إذ هو على نيّةِ تَكْرَار العامل.
و " الذين " في مَحَلِّ جرٍّ بالإضافة، وهو اسمُ موصولٍ، لافتقاره إلى صِلَةٍ وعائدٍ، وهو جمع " الذي " في المعنى، والمشهور فيه أن يكونَ بالياءِ، رفعاً، ونصباً، وجرًّا؛ وبعضُهم يرفعُه بالواوِ؛ جَرْياً له مَجْرَى جَمْعِ المذكَّر السَّالم؛ ومنه: [الرجز]
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| **78- نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحَا** | | **يَوْمَ الفَسَادِ غَارَةً مِلْحَاحَا** |
| --- | --- | --- |
وقد تُحْذَفُ نُونُه اسْتِطَالةً بصلته؛ كقوله: [الطويل]
| **79- وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دمَاؤُهُمْ** | | **هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ** |
| --- | --- | --- |
ولا يقع إلاَّ على أُولي العلمِ، [ولا يقع مجرى جمع المذكر السَّالم، بخلاف مجرده فإنه يقع على أولي العلم] وغيرهم.
و " أَنْعَمْتَ ": فِعْلٌ، وفاعلٌ، صِلَة المَوْصُولِ.
والتاء في " أنعمتَ " ضميرُ مرفوعٍ مُتَّصل. و " عليهم " جار ومجرور متعلّق بـ " أنعمتَ " ، والضميرُ هو العائدُ، وهو ضمير جمع المذكرين العقلاء، ويستوي فيه لفظ مُتَّصِلِه ومُنْفَصِلِهِ.
والهمزةُ في " أنعمتَ "؛ لجَعْلِ الشيءِ صَاحِبَ ما صِيَغَ منه، فحقُّه أن يَتَعَدَّى بِنَفْسِه، ولكن ضُمِّنَ معنى " تَفَضَّلَ " فَتَعَدَّى تَعْدِيَتَهُ.
وقرأ عمر بنُ الخَطّابِ، وابنُ الزُّبَيْرِ رضي الله - تعالى - " صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ ".
ولـ " أَفْعَلَ " أربعةٌ وعشرُونَ مَعْنى، تقدّمَ وَاحِدٌ.
والتعدِيَةُ؛ نحو: " أَخْرَجتُه ".
والكثرةُ؛ نحو: " أَظْبَى المَكَانُ " أَيْ: " كَثُرَ ظِبَاؤُه ".
والصَّيرورةُ؛ نحو: " أَغَدَّ البَعِيرُ " صار ذا غُدّة.
والإعانة؛ نحو: " أَحْلَبْتُ فُلاَناً " أي: أعنتُه على الحَلْبِ.
والتَّشْكِيَةُ؛ نحو: " أَشكيتُه " أي: أزلتُ شِكَايَتَهُ.
والتَّعرِيضُ؛ نحو: " أبعتُ المبتاعَ " ، أي: عرضتُه للبيع.
وإصابةُ الشيءِ بمعنى ما صيغ منه؛ نحو: " أحمدتُه " أي: وجدتُه محموداً.
وبلوغُ عَدَدٍ؛ نحو: " أعْشَرتِ الدَّرَاهِمُ " ، أي: بلغتِ العَشَرَة.
أو بلوغُ زَمانٍ؛ نحو " أصبح " ، أو مَكَانٍ؛ نحو " أَشْأَمَ ".
وموافقَةُ الثّلاثي؛ نحو: " أحزتُ المكانَ " بمعنى: حُزْتُهُ.
أَوْ أَغْنَى عن الثلاثي؛ نحو: " أَرْقَلَ البعيرُ ".
ومطاوعةُ " فَعَلَ "؛ نحو قَشَع الريح، فَأَقْشَع السّحابُ.
ومطاوعَةُ " فَعَّلَ "؛ نحو: " فَطَّرْتُه، فَأَفْطَرَ ".
ونَفْيُ الغريزَةِ؛ نحو: " أسرع ".
والتَّسميةُ؛ نحو: " أخطأتهُ " ، أَيْ: سَمَّيْتُه مخْطِئاً.
والدعاءُ؛ نحو: " أسقيتُه " ، أَي: قلتُ له: سَقَاكَ الله تعالى.
والاستحقاقُ؛ نحو " أَحْصَدَ الزرعُ " ، أَيْ: استحقَّ الحصادَ.
والوصولُ؛ نحوه: " أَعْقَلْتُهُ " ، أَيْ: وَصَّلْتُ عقلي إليه.
والاستقبالُ نحو: " أَفَفْتُه " ، أَي: استقبلتُه بقول: أُفٍّ.
والمجيءُ بالشيء؛ نحو: " أكثرتُ " أَيْ: جئتُ بالكثير.
والفرقُ بين أَفْعَلَ وفَعَل، نحو: أَشْرَقَتِ الشَّمسُ: أضاءتْ، وشَرَقَتْ: طَلَعَتْ.
والهجومُ؛ نحو: أَطْلَعْتُ على القوم، أيْ: اطَّلعْتُ عَلَيْهِمْ.
و " على " حرف استعلاء حقيقةً أو مجازاً؛ نحو: عليه دَيْنٌ: ولها معانٍ أُخَرُ، منها: المُجَاوزة؛ كقوله: [الوافر]
| **80- إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ** | | **لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا** |
| --- | --- | --- |
أيْ: عَنِّي.
وبمعنى " الباءِ "**{ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ }** [الأعراف: 105]، أي: بأَنْ، وبمعنى " فِي "؛
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَٰنَ }** [البقرة: 102] أيْ: فِي [مُلْكِ]،**{ ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ }** [البقرة: 177].
والتعليلُ:**{ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ }** [البقرة: 185]؛ أي لأجلِ هِدَايَتِه إياكم.
وبمعنى " مِن ":**{ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ }** [المؤمنون: 5، 6]، أيْ: إلاّ مِنْ أَزواجهم.
والزيادة كقوله: [الطويل]
| **81- أبَى اللهُ إلاَّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ** | | **عَلَى كُلِّ أَفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ** |
| --- | --- | --- |
لأنَّ " تُروقُ " يتعدى بنفسِه، ولكل موضع من هذه المواضعِ مَجَالٌ للنظر.
وهي مترددةٌ بين الحَرْفِيَّةِ، والاسْمِيَّةِ؛ فتكون اسماً في موضعين:
أحدهُما: أن يدخلَ عليها حَرْفُ الجَرّ؛ كقول الشاعر: [الطويل]
| **82- غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَمَّ ظِمْؤُهَا** | | **تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيزَاءَ مَجْهَلِ** |
| --- | --- | --- |
ومعناها " فَوْق " ، أيْ: من فوقه.
والثاني: أنْ يؤدي جعلُه حرفاً، إلى تعدِّي فعل المضمر المنفصل إلى ضمير المُتّصل في غيرِ المَوَاضِع الجَائِز فيها؛ ومن ذلك قوله: [المتقارب]
| **83- هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمُورَ** | | **بِكَفِّ الإِلهِ مَقَادِيرُهَا** |
| --- | --- | --- |
ومثلُها في هذيْن الحُكْمَيْن " عَنْ " ، وستأتي إنْ شاء الله تعالى.
وزعم بعضُهم أنَّ " على " مترددةٌ بين الاسم، والفِعْلِ، والحرفِ.
أما الاسمُ والحرفُ، فقد تقدما.
وأما الفعلُ: قال: فإنك تقولُ: " عَلاَ زيدٌ " أي: ارتفع. وفي هذا نَظَرٌ؛ لأن " عَلاَ " إذا كان فِعْلاً، مُشْتَقٌّ من العُلُوِّ، وإذا كان اسماً أو حرفاً، فلا اشتقاقَ له، فليس هو ذَاكَ، إلاَّ أنَّ هذا القَائِلَ يَرُدُّ هذا النظرَ، [بقولهم: إنَّ " خَلاَ " ، " وَعَدا " مترددانِ بين الفعليَّةِ والحرفيَّةِ، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر].
والأصلُ في هاء الكِناية الضَّمُّ، فإنْ تقدمها ياءٌ ساكنة، أو كسرةٌ، كَسَرَها غيرُ الحِجازَيين؛ نحو: عَلَيْهِم وفِيهِمْ وَبِهِمْ.
والمشهورُ في مِيمِهَا السكونُ قبل متحرك، والكسرُ قبلَ ساكن، هذا إذا كَسَرْتَ الهاء، أما إذا ضممتَ، فالكَسْرُ ممتنع إلاّ في ضَرُورة؛ كقوله: " وفِيهُمِ الحكام " بِكَسْرِ المِيمِ.
وفي " عَلَيْهِمْ " عشرُ لُغاتٍ:
قُرِىءَ بِبَعْضِها: " عَلَيْهُِمْ " بكسر الهاء وضمها، مع سُكُون الميم.
" عَلَيْهِمِي " ، بكسر الهاء، وزيادة الياء، وبكسر الميم فقط.
" عليهُمُو " بضم الميم، وزيادة واو، أو الضم فقط.
" عليهِمُو " بِكَسْرِ الهاءِ، وضم الميمِ، بزيادة الواو.
" عليهُمِي " بِضَمِّ الهاء، وزيادة ياء بعد الميم.
أو الكسر فقط " عليهِمُ " بكسر الهاء، وضم الميم، حكى ذلك ابنُ الأَنْبَارِي.
والتفسيرُ، قال البَغَويُّ - رحمه الله تعالى -: صراط الذين أنعمت عليهم أي: مَنَنْتَ عليهم بِالهِدَايَةِ والتوفيق، وقال عِكْرَمة - رضي الله تعالى عنه -: مَنَنْتَ عليهم بالثَّبات على الإيمان والاسْتِقَامَة وعلى الأنبياء عليهم السلام.
وقِيل: على كُلِّ مَنْ ثَبَتَهُ الله - تعالى - من النَّبِيِّين والمُؤْمنين الذي ذكرهم الله - تَعَالَى - في قوله:**{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[النساء: 69] وقال ابنُ عباس - رضي الله تعالى عنهما - هُمْ قومُ مُوسَى، وعِيسَى - عليهما الصلاة والسلام، قبل أن غيروا دينهم.
وقال أَبُو العَالِيَةَ: هم آلُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما.
وقال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ - رضي الله عنه -: هم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل بَيْتِهِ.
وقرأ حَمْزَةُ " عَلَيْهُمْ " ، و " إلَيْهُمْ " ، و " لَدَيْهُمْ " بضم الهاء.
ويضم يَعْقُوب كُلَّ هاءٍ قبلها ياءٌ ساكنة تثنيةً وجمعاً، إلاّ قولَه تعالى:**{ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ }** [الممتحنة: 12].
والآخرُونَ: بكسرها. فَمَنْ ضَمَّها ردّها إلى الأصل؛ لأنها مضمومة عند الانفراد.
ومَنْ كسرها، فالأصل الياءُ السَّاكنة، والياءُ أختُ الكسرة.
وضم ابنُ كَثِير، وأَبُو جَعْفَر كُلَّ ميم جمع مُشْبِعاً في الوَصْلِ، إذا لم يلقها ساكن، فإنْ لقيها ساكِنٌ فلا يُشْبِع.
ونَافِعٌ يُخَيِّرُ، ويضمُّ وَرْش عند ألِفِ القطع.
وإذا تلقته ألفُ الوصلِ، وقبل الهاء كسرٌ، أو ياءٌ ساكنةٌ، ضمّ الهاءَ والمِيمَ حَمْزَةُ والكسائي - رحمهما الله - وكسرَهُما أَبُو عَمْرو، وكذلك يَعْقُوبُ إذَا انْكَسر ما قبله.
والآخرون: بضمّ الميم، وكسرِ الهاء؛ لأجل الياء أو لكسر ما قبلها، وضمّ الميم على الأصل، وقرأ عمرُ بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه -: " صرَاطَ مَنْ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ".
قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله تعالى -: اخْتُلِفَ في حَدّ النّعْمَةِ:
فقال بعضُهم: إنَّها عِبَارَةٌ عن المَنْفَعةِ المفعولة على جِهَةِ الإحسان إلَى الغيرِ.
[ومنهم مَنْ يقولُ: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحْسَان إلى الغير].
قالوا: وإنما زدْنا على هذا القَيْدِ، لأن النعمةَ يستحقّ لها الشكر والإحسان [والحقّ أن هذا القيد غير معتبر؛ لأنه لا يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان]، وإنْ كان فعله محظوراً؛ لأن جهةَ استحقاقِ الشكر غير جهةِ استحقاق الذَّنْب والعِقاب، فأيُّ امتناعٍ في اجتماعهما؟ أَلاَ ترى أن الفاسِقَ يستحقُّ بإنعامه الشُّكْرَ، والذَّمَّ بمعصيةِ الله تعالى، فلا يجوزُ أنْ يَكُونَ الأمرُ ها هنا كذلك.
ولنرجع إلى تفسير الحَدّ: فنقول: أما قَولُنا: " المنفعة "؛ فلأن المَضَرّةَ المحضةَ لا تكون نِعْمَةً.
وقولنا: المفعولة على جهة الإحسان؛ لأنه لو كان نفعاً حقًّا وقَصَدَ الفاعلُ به نفعَ نفسه، نَفْعَ المفعولِ به، فلا يكون نِعْمَةً، كَمَنْ أحسن إلى جَاِريَتِهِ، ليربَحَ عليها.
وها هنا فوائدُ:
الفائِدَةُ الأُوْلَى: أَنَّ كلّ ما يصل إلى الخلق من النفع، ودفع الضَّرر، فهو من الله تعالى على ما قال تبارك وتعالى:**{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ }** [النحل: 53]، ثمَّ إنَّ النعمةَ على ثلاثةِ أَقْسَامٍ:
أحدُها: نِعمةٌ تَفَرَّدَ الله - تعالى - بإيجَادِهَا، نحو: أنْ خَلَق ورَزَقَ.
وثانيها: نعمةٌ وصلت إلينا من جهةِ غير الله - تعالى - في ظاهرِ الأَمْرِ، وفي الحقيقة فهي - أيضاً - إنّما وصلتْ من الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأنه - تعالى - هو الخالقُ لتلك النعمةِ، والخالقُ لذلك المنعِِمِ، وخالقٌ لداعيةِ الإنْعَام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم، إلاّ أنه تبارك وتعالى لَمّا أَجْرَى تلك النعمة على يَدِ ذلك العَبْدِ، كان ذلك العبدُ مشكوراً، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله - تعالى - ولهذا قال تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ }** [لقمان: 14] فبدأ بنفسِه، تنبيهاً على أن إنعامَ الخلقِ لا يتمّ إلاّ بإنعام الله تعالى.
وثالثها: نِعمٌ وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا، وهي أيضاً من الله تعالى؛ لأنه لولا أنَّ الله - سبحانه وتعالى - وَفّقنا للطاعات، وأعاننا عليها، وهدانا إليها، وأَزَاحَ الأعذار عَنا، وإِلاَّ لَمَا وَصَلْنَا إلى شَيْءٍ منها، فظهر بها التقرير أنَّ جَمِيعَ النعم في الحقيقة من الله تَعَالى.
الفائدةُ الثَّانيةُ: اختلفوا [في أنه] هل لله - تعالى - نعمةً على الكافرِ أَم لاَ؟ فقال بعضُ أصحابنا: ليس لله - تعالى - على الكافر نعمة.
وقالت المعتزلةُ: لله - تعالى - على الكافر نعمة دينية، ونعمة دنيوية.
واحتجَّ الأصحابُ على صحّةِ قولهم، بالقرآن [الكريم]، والمعقول.
أما القرآنُ؛ فقوله تبارك وتعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }؛ وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمةٌ، لكانوا داخِلِينَ تحت قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فيكون طلباً لصراطِ الكُفّارِ، وذلك بَاطِلٌ، فثبت بهذه الآيةِ أنه ليس لله - تعالى - على الكافر نعمةٌ.
فإن قَالُوا: إنَّ قَوْله: { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } يدفعُ ذَلكَ.
قلنا: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل مِنْ قَوْلِه: { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }؛ فكان التَّقْدِير: " اهْدِنا صراطَ الذين أنعمت عليهم " ، وحينئذٍ يَعُودُ المحذوفُ المذكورُ.
وقوله تبارك وتعالى:**{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْماً }** [آل عمران: 178].
وأما المَعْقُولُ: فهو أَنَّ نِعَمَ الدنيا الفانيةَ في مُقَابلةِ عَذَابِ الآخرة على الدوام، كالقَطْرة في البحر، ومثل هذا لا يكون نِعْمَةً، بدليل أنَّ مَنْ جعل السُّمَّ في الحَلْوَى لم يَعُدِ النفعُ الحاصلُ منه نعمةً؛ لأجل أن ذلك النفع حقيرٌ في مُقابلةِ ذلك الضَّرر الكبير، فكذا ههُنا.
وأما الَّذِين قالوا: إن لله على الكافر نعمةً، فقد احتجُّوا بقوله تعالى:**{ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءً }** [البقرة: 21، 22]، على أنه يَجبُ على الكُلِّ طاعةُ الله - تعالى - لأجلِ هذه النعم، وإلاّ لما كانت هذه النعمُ العظيمةُ معتبرةً؛ وقولِه تعالى:**{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ }** [البقرة: 28]، ذكر ذلك في معرض الامْتِنَانِ، وشرحِ النعم.
وقولِه تعالى:**{ يَٰبَنِي إِسْرَٰءِِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }** [البقرة: 40].
وقولِه تعالى:**{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ }** [سبأ: 13].
وقول إبليس:**{ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ }** [الأعراف: 17].
ولو لم تحصل النعمة، لم يلزمْ من عَدَمِ إقدامِهم على الشكر محذورٌ؛ لأنّ الشكر لا يمكن إلاَّ عند حصول النعمة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الفائدة الثالثةُ: قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله -: قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يدل على إمامةِ أبي بكر - رضي الله عنه؛ لأنا ذكرنا أن تقديرَ الآية: " اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم " والله - تعالى - قد بيّن في آية أُخْرَى أَنَّ { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من هم؛ بقوله تعالى:**{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ }** [النساء: 69] ورئيسهم أبو بكر الصّديق - رضي الله تعالى عنه - فكان معنى الآية أن الله - تعالى - أمرنا أن نطلب الهداية [التي كان عليها أبو بكر الصديق، وسائر الصّديقين، ولو كان أبو بَكْرٍ - رضي الله تعالى عنه - غيرَ إمامٍ، لما جَازَ الاقتداء به]، فثبت [بما ذكرناه دلالة هذه الآية على] إمامة أبي بكر رضي الله عنه.
الفائدة الرابعة: قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يتناول كُلّ من كان لله - تعالى - عليه نعمة، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا، أو نعمة الدين، والأول باطل فثبت أن المراد منه نعمة الدين.
فنقول: كل نعمة ديِنِيّة سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان، وأمّا نعمة الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية، وهذا يدلّ على أن المراد من قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هو نعمة الإيْمَان، فرجع حاصل القول في قوله تعالى: { 1649;هْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } أنه طلب لنعمة الإيمان، وإذا ثبت هذا الأصل، فيتفرع عليه أحكام:
الأول: أنه لما ثبت أن المُرادَ من هذه النعمة نِعْمَةُ الإيمان، إذ لفظ الآية الكريمة صريح في أن الله - تعالى - هو المنعم بالنعمة، ثبت أنّ الخالق للإيمان، والمعطي للإيمان هو الله تعالى، وذلك يدلّ على فساد قول المعتزلة، وكان الإيمان أعظم النعم، فلو كان الفاعل للإيمان هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله تعالى، ولو كان كذلك لما حسن من الله - تعالى - أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم.
الحكم الثاني: يجب ألاَّ يبقى المؤمن مخلداً في النار؛ لأن قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مذكور في معرض التَّعْظيم بهذا الإنعام، ولو لم يكن له أثر في دفع العَذَاب المؤبّد لكان قليل الفائدة، فما كان يحسن من الله - تعالى - ذكره في معرض التَّعْظيم.
الحكم الثالث: دلّت الآية الكريمة على أنه لا يجب على الله - تعالى - رعاية [الصلاح والأصلح] في الدين؛ لأنه لو كان الإرْشاد على الله - تعالى - واجباً لم يكن ذلك إنعاماً، وحيث سماه الله - تعالى - إنعاماً علمنا أنه غير واجب.
الحكم الرابع: لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام الإقدار على الإيمان؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قدر المكلف عليه، وأرشده إليه، وأزاح أعْذَارَهُ وعِلَلَهُ عَنْهُ، لأن كل ذلك حاصل في حَقّ الكفار، فلما خص - تعالى - بعض المكلفين بهذا الإنعام، مع أن الإقدار، وإزاجة العلل حاصل في حَقّ الكل، علمنا أن المراد ليس هو الإقدار، وإزاحة الموانع.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }
" غير " بدل من " الذين " بدل نكرة من معرفة.
وقيل: نعت لـ " الذين " ، وهو مشكل؛ لأن " غير " نكرة و " الذين " معرفة، وأجابوا عنه بجوابين:
أحدهما: أن " غير " إنما يكون نكرة إذا لم يقع بين ضدّين، فأما إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغيرية، فيتعرف " غير " حينئذ بالإضافة، تقول: " مررت بالحركة غير السكون " والآية من هذا القبيل، وهذا إنما يتمشّى على مذهب ابن السّراج، وهو مرجوح.
والثاني: أن الموصول أَشْبَهَ النكرات في الإبْهَام الذي فيه، فعومل معاملة النكرات.
وقيل: إن " غير " بدل من المضمر المجرور في " عليهم " ، وهذا يشكل على قول من يرى أن البدل يحل محلّ المبدل منه، وينوي بالأول الطّرح؛ إذ يلزم منه خلو الصّلة من العائد، ألا ترى أن التقدير يصير: " صراط الذين أنعمت على غير المغضوب عليهم ".
و " المغضوب " خفض بالإضافة، وهو اسم مفعول، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور، فـ " عليهم " الأولى منصوبة المَحَلّ، والثانية مرفوعته، و " أل " فيه موصولة، والتقدير: " غير الذين غُضِب عليهم ".
والصحيح في " أل " الموصولة أنها اسم لا حَرْفٌ.
واعلم أن لفظ " غير " مفرد مذكر أبداً، إلا أنه إن أريد به مؤنث جاز تأنيث فعله المسند إليه، نقول: " قامت غيرك " ، وأنت تعني امرأة، وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل، وهو مغاير، ولذلك لا تتعرف بالإضافة، وكذلك أخواتها، أعني نحو: " مِثْل وشِبْه وشَبِيه وخِدْن وتِرْب ".
وقد يستثنى بها حملاً على " إلاّ " كما يوصف بـ " إلاّ " حملاً عليها، وقد يراد بها النفي كـ " لا " ، فيجوز تقديم معمول معمولها عليها، كما يجوز في " لا " تقول: " أنا زيداً غَيْرُ ضارب " أي: غير ضارب زيداً؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]
| **84- إِنَّ امْرَءًا خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتْهُ** | | **عَلَى التَّنَائِي لَعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ** |
| --- | --- | --- |
تقديره: غير مكفور عندي، ولا يجوز ذلك فيها إذا كانت لغير النَّفي.
لو قلت: " جاء القوم زيداً غير ضارب " ، تزيد: غير ضارب زيداً لم يجز؛ لأنها ليست بمعنى " لا " التي يجوز فيها ذلك على الصَّحيح من الأقوال في " لا ".
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وفيها قول ثانٍ يمنع ذلك مطلقاً.
وقول ثالث: يفصل بين أن تكون جَوَاب قَسَمٍ، فيمتنع فيها ذلك، وبين ألاّ يكون فيجوز.
وهي من الألفاظ اللاَّزمة للإضافة لفظاً وتقديراً، فإدْخَال الألف واللام عليها خَطَأ.
واختلفوا هل يجوز دخول " أل " على " غير وبعض وكل " والصحيح جوازه.
قال البغوي - رحمه الله تعالى -: " غير " ها هنا بمعنى " لا " و " لا " بمعنى " غير " ، ولذلك جاز العَطْفُ عليها، كما يقال: " فلان غير مُحْسن ولا مجمل " ، فإذا كان " غير " بمعنى " لا " ، فلا يجوز العَطْفُ عليها بـ " لا "؛ لا يجوز في الكلام: " عندي سوى عبد الله ولا زيد ".
وقرىء: " غَيْرَ " نصباً، فقيل: حال من " الَّذِين " وهو ضعيف؛ لمجيئه من المُضَاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذَلِكَ، كما ستعرفه إن شَاءَ اللهُ تعالى: وقيل: من الضمير في " عليهم ".
وقيل على الاستثناء المنقطع، ومنعه الفَرَّاء؛ قال: لأن " لا " لا تُزَادُ إلاَّ إذا تقدمها نفي، كقول الشاعر: [البسيط]
| **85- مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا** | | **وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ** |
| --- | --- | --- |
وأجابوا بأن " لا " صلة زائدة مثلها في قوله تعالى:**{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }** [الأعراف: 12]؛ وقول الشَّاعر: [الرجز]
| **86- فَمَا أَلُومُ البِيضَ ألاّ تَسْخَرَا** | | |
| --- | --- | --- |
وقول الآخر: [الطويل]
| **87- وَيَلْحَيْنَني في اللَّهْوِ أَلاَّ أُحِبَّهُ** | | **ولِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ** |
| --- | --- | --- |
وقول الآخر: [الطويل]
| **88- أَبَى جُودُهُ لاَ البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ** | | **نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ** |
| --- | --- | --- |
فـ " لا " في هذه المواضع كلها صلةٌ.
وفي هذا الجواب نظر؛ لن الفَرَّاء لم يقل: إنها غير زائدة، وقولهم: إن " لا " زائدة في الآية، وتنظيرهم بالمَوَاضِعِ المتقدّمة لا تفيد، وإنّما تحرير الجواب أن يقولوا: وجدت " لا " زائدةً من غير تقدّم نفي، كهذه المواضع المتقدمة.
ويحتمل أن تكون " لا " في قوله: " لا البُخْلَ " مفعولاً به لـ " أَبَى " ، ويكون نصب " البُخْلَ " على أنه بدل من " لا " أي: أبى جُودُهُ قَوْلَ لا، وقول: لا هو البخل، ويؤيد هذا قوله: " واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ " فجعل " نَعَمْ " فاعل " اسْتَعْجَلَتْ " ، فهو من الإِسْنَادِ اللَّفْظي، أي: إلى جود هذا اللَّفظ، واستعجل به هذا اللفظ.
وقيل: إن نصب " غير " بإضمار أعني. ويحكى عن الخليل، وقدّر بعضهم بعد " غير " محذوفاً قال: التقدير: " غير صِرَاط المَغْضُوب " ، وأطلق هذا التَّقدير، فلم يقيده بِجَرّ " غير " ، ولا نصبه ولا يتأتى ذلك إلاَّ مع نصبها، وتكون صفةً لقوله تعالى: { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وهذا ضعيف؛ لأنه متى اجتمع البدل والوصف قدم الوصف، فالأولى أن تكون صفةً لـ " صراط الذين " ، ويجوز أن تكون بدلاً من " الصراط المستقيم " ، أو من " صراط الذين " إلا أنه يلزم منه تكرار البدل، وفي جوازه نَظَر، وليس في المَسْألة نقل، إلاّ أنهم قد ذكروا ذلك في بَدَلِ البَدَاء خَاصّة، أو حالاً من " الصراط " الأول أو الثاني.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أنّه حيث جعلنا " غير " صفةً فلا بد من القول بتعريف " غير " ، أو إبهام الموصوف، وجريانه مجرى النكرة، كما تقدم تقريره ذلك في القراءة بجرّ " غير ".
و " لا " في قوله تعالى: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } زائدة لتأكيد معنى النَّفي المفهوم من " غير " لئلا يتوهّم عطف " الضَّالين " على " الذين أنعمت ".
وقال الكوفيون: هي بمعنى " غير " وهذا قريبٌ من كونها زائدةً، فإنه لو صرح بـ " غير " كانت للتأكيد أيضاً، وقد قرأ بذلك عمر بن الخَطَّاب وأبيٌّ رضي الله عنهما.
و " الضَّالين " مجرور عطفاً على " المغضوب " ، وقرىء شاذاً " الضَّأَلِّينَ " ، بهمز الألف؛ وأنشدوا: [الطويل]
| **89- وَلِلأَرْضِ أَمَّا سُودُهَا فَتَجَلَّلََتْ** | | **بَيَاضاً، وأَمَّا بِيضُهَا فَادْهَأَمَّتِ** |
| --- | --- | --- |
قال الزَّمَخْشَرِي: " وفعلوا ذلك، لِلْجِدِّ في الهَرَبِ من التقاء السَّاكنين ".
وقد فعلوا ذلك حتى لا سَاكِنَانِ؛ قال الشاعر: [الرجز]
| **90- وَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العَأْلَمِ** | | |
| --- | --- | --- |
بهمز " العألم ".
وقال آخر: [البسيط]
| **91- وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً** | | **..................** |
| --- | --- | --- |
بهمز ألف " زَوْرَأَة " ، والظَّاهر أنها لغةٌ مطَّردةٌ؛ فإنهم قالوا في قراءة ابن ذَكْوَان: " مِنْسَأَتَهُ " بهمز ساكنة: إنّ أصلها ألف، فقلبت همزة ساكنة.
فإن قيل: لم أتى بصلة " الذين " فعلاً ماضياً؟
قيل: ليدلّ ذلك على ثبوت إنعام الله - تبارك وتعالى - عليهم وتحقيقه لهم، وأتى بصلة " أل " اسماً ليشمل سائر الأزمان، وجاء مبنيًّا للمفعول؛ تحسيناً للفظ؛ لأنّ من طلبت منه الهداية، ونسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه، لأنه مقام تلطُّف، وترفّق لطلب الإحسان، فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام.
والإنعام: إيصال الإحسان إلَى الغير، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه الإحْسَان من العُقَلاَء، فلا يقال: أنعم فلان على فَرَسِهِ، ولا حماره.
والغضب: ثَورَان دم القلب إرادة الانتقام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: **" اتَّقُوا الغَضَبَ فإنه جَمْرَةٌ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، ألم تَرَ إلى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ وحُمْرَةِ عينيه ".** وإذا وصف به الباري - تبارك وتعالى - فالمراد به الانتقام لا غيره.
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -: هنا قاعدة كليةٌ، وهي أن جميع الأعراض النَّفْسَانية - أعني الرحمة، والفرح، والسُّرور، والغضب، والحَيَاء، والعُتُوّ، والتكبر، والاستهزاء -لها أوائل ولها غايات.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ومثاله: الغضب: فإنّ أول غليان دم القلب، وغايته: إرادة إيصال الضَّرَرِ إلى [المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار، وأيضاً الحَيَاءُ] له أول وهو انكسار النفس، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب.
ويقال: فُلاَن غُضبَّة: إذا كان سريع الغَضَبِ.
ويقال: غضبت لفلان إذا كان حيًّا وغضبت به إذا كان ميتاً.
وقيل: الغضب تغيُّر القلب لمكروه.
وقيل: إن أريد بالغضب العُقُوبة كان صفة فعل، وإن أريد به إرادة العقوبة كان صفة ذاتٍ.
والضلال: الخَفَاء والغيبوبة.
وقيل: الهلاك، فمن الأول قولهم: ضَلَّ الماءُ في اللبن.
[وقال القائل]: [الوافر]
| **92- أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيَارُ** | | **عَن الحَيِّ المُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا؟** |
| --- | --- | --- |
" والضَّلضلَة ": حجر أملس يَرُده السَّيْل في الوادي.
ومن الثاني:**{ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ }** [السجدة: 10]، وقيل: الضّلال: العُدُول عن الطريق المستقيم، وقد يُعَبَّرُ به عن النِّسْيان كقوله تعالى:**{ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا }** [البقرة: 282] بدليل قوله:**{ فَتُذَكِّرَ }** [البقرة: 282].
التفسير: قيل: " المغضوب عليهم " هم اليهود.
وقيل: " الضالون " هم النصارى؛ لأن الله - تعالى - حكم على اليهود بالغَضَبِ فقال تعالى:**{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ }** [المائدة: 60]، وحكم على النصارى بالضَّلال فقال تعالى:**{ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ }** [المائدة: 77].
وقيل: هذا ضعيف؛ لأن منكري الصَّانع والمشركين أَخْبَثُ ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز من دينهم أولى.
وقيل: " المغضوب عليهم ": هم: الكُفّار، و " الضّالون ": هم المنافقون.
وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنهما: " غير المغضوب عليهم " بالبِدْعَةِ، " والضّالين " عن السُّنَّة.
والأَوْلَى أن يحمل " المغضوب عليهم " على كل من أَخْطَأَ في الاعتقاد؛ لأن اللفظ عام، والتقييد خلاف الأصل.
فَصْلٌ في عصمة الأنبياء والملائكة
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -: " غير المغضوب عليهم " يدلُّ على أن أحداً من الملائكة، والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ما أَقْدَمَ على عملٍ مخالف قول الدين، ولا على اعتقاد مخالف اعتقاد دين الله؛ لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضَلّ عن الحق، لقوله تعالى:**{ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ }** [يونس: 32]، ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم، ولا بطريقهم، ولكانوا خارجين عن قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عِصْمةَ الملائكة، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فَصْلٌ في إضافة الغضب لله
قالت المعتزلة: غَضَبُ الله - تعالى - عليهم يدلُّ على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم، وإلاَّ لكان الغضب عليهم ظلماً من الله - تعالى - عليهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقال أصحابنا - رحمهم الله تعالى -: لما ذكر غضب الله عليهم، وأتبعه بذكر كونهم ضالين دلّ ذلك على أن غضب الله - تعالى - عليهم علّة لكونهم ضالين، وحينئذ تكون صفة الله - تعالى - مؤثرةً في صفة العبد.
أما لو قلنا: إن كونهم ضالين يوجب غضب الله - تعالى - عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى، وذلك مُحَال.
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -: دلّت هذه الآية على أن المكلّفين ثلاث فرق:
أهل الطاعة، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.
وأهل البغي والعدوان، وهم المراد بقوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }.
وأهل الجهل في دين الله، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }.
فإن قيل: لم قدم ذكر العُصَاة على ذكر الكَفَرَةِ؟
قلنا: لأن كل أحد يحترز عن الكفر، أما قد لا يحترز عن الفِسْق، فكان أهم فقدم لهذا السّبب ذلك.
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -: ها هنا سؤال، وهو أن غضب الله إنما تولَّد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه، فهذا العلم إما أن يقال: إنه قديم، أو محدث، فإن كان قديماً فلم خلقه، ولم أخرجه من العَدَمِ إلى الوجود، مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العَذَاب الدَّائم، ولأنه من كان غضبان على الشَّيء كيف [يعقل] إقدامه على إيجَادِهِ وتكوينه؟ فإن كان ذلك العلم حادثاً لكان الباري - تعالى - محلاًّ للحوادث، إلاَّ أنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سَبْقِ علمٍ آخر، وتسلسل، وهو مُحَال.
والجواب: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.
سؤال آخر
وهو أن من أنعم الله - تعالى - عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه، وأن يكون من الضَّالين، فلما ذكر قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، فما الفائدة في أن ذكر عقيبه: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }؟
والجواب: الإيمان إنما يكمل بالرَّجَاء والخوف، كما قال عليه الصلاة والسلام: **" لَوْ وُزِنَ خَوْفُ المُؤْمِن وَرَجَاؤُهُ لاعتْدَلا "** ، فقوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يوجب الرَّجَاء الكامل، وقوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } يوجب الخوف الكامل، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه، وينتهي إلى حَدِّ الكمال.
سؤال آخر
ما الحكمة في أنه - تَعَالَى - جعل المقبولين طائفةً واحدةً، وهم الذين أنعم الله عليهم، والمردودين فريقين: المغضوب عليهم، والضَّالين؟
فالجواب: أنّ الذين كملت نعم الله - تَعَالَى - عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحَقّ لذاته، والخير لأجل العمل به، فهؤلاء هم المُرَادون بقوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، فإن اختلّ قيد العمل فهم الفَسَقَةُ، وهم المغضوب عليهم، كما قال تعالى:**{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[النساء: 93].
وإن اختلّ قيد العلم فهم الضَّالون لقوله تعالى:**{ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ }** [يونس: 32].
فصل في حروف لم ترد في هذه السورة
قالوا: إنّ هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف، وهو الثاء، والجيم، والخاء، والزاي، والشين، والظاء، والفاء، والسبب فيه أن هذه الحروف مُشْعرة بالعذاب، فالثناء أوّل حروف الثبور.
والجيم أوّل حروف جهنم.
والخاء: أول حروف الخِزْي.
والزاي والشين أول حروف الزفير والشّهيق، والزّقوم والشّقاوة.
والظَّاء أول حرف ظلّ ذي ثلاث شعب، ويدل أيضاً على لَظَى الظاء.
والفاء أول حروف الفراق قال تعالى:**{ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ }** [الروم: 14].
قلنا: فائدته أنه - تعالى - وصف جَهَنّم بأن**{ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ }** [الحجر: 44] فلما أسقط هذه الحروف السّبعة الدّالة على العَذَاب من هذه السورة نبّه بذلك على أن من قرأ هذه السورة، وآمن بها، وعرف حقائقها أمن من دَرَكَاتِ جهنم السّبعة.
القول في " آمين ": ليست من القرآن إجماعاً، ومعناها: اللَّهم اسمع واستجب.
وقال ابن عباس وقتادة - رضي الله تعالى عنهما -: معناه كذلك يكون، فهي اسم فعل مَبْنِيّ على الفَتْحِ.
وقيل: ليس باسم فعل، بل هو من أسماء البَارِي تعالى، والتقدير: يا آمين، وضعف أبو البقاء هذا بوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كذلك لَكَانَ ينبغي أن يبني على الضَّمِّ، لأنه منادى مفرد معرفة.
والثاني: أن أسماء الله - تعالى - توقيفيةٌ.
ووجه الفارسي قول من جعله اسماً لله - تعالى - على معنى: أن فيه ضميراً يعود على الله تعالى؛ لأنه اسم فعل، وهو توجيه حسن نقله صاحب " المُغْرِب ".
وفي " آمين " لغتان: المَدّ، والقَصْر، فمن الأول قول القائل: [البسيط]
| **93- آمِينَ آمِينَ لاَ أَرْضَى بِوَاحِدةٍ** | | **حَتَّى أُبَلِّغَهَا أَلْفَيْنِ آمِينَا** |
| --- | --- | --- |
وقال الآخر: [البسيط]
| **94- يَا رَبِّ لاَ تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَداً** | | **وَيَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ: آمِينَا** |
| --- | --- | --- |
ومن الثاني قوله: [الطويل]
| **95- تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحُلٌ إِذْ رَأَيْتُهُ** | | **أَمِينَ فَزَادَ اللهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَا** |
| --- | --- | --- |
وقيل: الممدود: اسم أَعْجَمِيّ، لأنه بِزِنَةِ قَابِيل وهَابِيل.
وهل يجوز تشديد الميم؟
المشهور أنه خطأ، نقله الجَوْهَرِيّ - رحمه الله تعالى -، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفر الصّادق - رضي الله تعالى عنهما - التشديد، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ، من أمَّ: إذا قصد، أي: نحن قاصدون نحوك.
ومنه:**{ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ }** [المائدة: 2].
وقيل: معناه: هو طابع الدعاء.
وقيل: هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم كخاتم الكتاب يمنعه من الفسادِ، وظهور ما فيه. وقال النَّووي - رحمه الله تعالى - في " التهذيب ": وقال عطية العوفي: [ " آمين " ] كلمة عبرانية، أو سُرْيانية، وليست عربية.
وقال عَبْدُ الرَّحمن بن زيد: " آمِينَ " كَنْزٌ من كنوز العَرْشِ لا يعلم أحد تأويله إلاّ الله تعالى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وروي فيها الإِمَالَة مع المَدّ عن حَمْزَةَ والكِسَائي، والنون فيها مفتوحة أبداً مثل: أَيْنَ وَكَيْفَ.
وقيل: آمين درجة في الجَنَّة تجب لقائلها.
وقيل: معناه: اللَّهم آمنا بخير.
وقال بعضهم: بنيت لأنها ليست عربية، وأنها سم فعل [كـ " صَهٍ " " ومَهٍ " أَلاَ ترى أن معناها: " اللهم استجب، وأعطنا ما سألناك ".
وقالوا: إن مجيء " آمِين " دليلٌ على أنها ليست عربيةً]؛ إذ ليس في كلام العرب " فَاعِيل ".
فأما " آري " فليس بـ " فَاعِيل " ، بل هو عند جماعة " فَاعُول ".
وعند بعضهم " فَاعِلي ".
وعند بعضهم [ " فَاعِي " ] بالنقصان.
وقال بعضهم: إن " أمين " المقصورة لم يجىء عن العرب، والبيت الذي ينشد مقصوراً لا يصح على هذا الوجه إنما هو: [الطويل]
| **96-..........................** | | **فآمِينَ زَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا** |
| --- | --- | --- |
روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" إِذَا قَالَ الإمَامُ: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } ، فقولوا: آمِين، فإنّ المَلائِكَةَ تقول: آمين، فمن وافق تَأْمِينُهُ تأمينَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذَنْبِهِ ".** فصل في وجوب القراءة في الصلاة
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -: أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبةٌ في الصلاة.
وعن الأَصَمّ والحسن بن صالح - رضي الله تعالى عنهما - أنهما قالا: لا تجب لنا [أن كلّ دليل نذكره في بيان أن] قراءة الفاتحة واجبة، فهو يدلّ على أن أصل القراءة واجب، ونزيد - ها هنا - وجوهاً:
الأول: فهو قوله تبارك وتعالى:**{ أَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلْلَّيْلِ وَقُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ }** [الإسراء: 78].
والمراد بالقرآن القراءة، والتقدير: أقم قراءة الفجر، وظاهر الأمر الوجوب.
الثاني: عن أبي الدَّرْدَاء - رضي الله تعالى عنه - **" أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفي الصَّلاَةِ قِراءةٌ فقال: " نَعَمْ " فقال السَّائل: وجبت، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل على قوله: " وَجَبَتْ " ".** الثالث: عن ابن مَسْعُودٍ - رضي الله تعالى عنه - **" أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أيقرأ في الصلاة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " أتَكُونُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ "** ، هذان الخبران نقلهما من تعليق الشيخ أبي أحمد الإسفرايني.
وحجّة الأصم - رحمه الله تعالى - قوله عليه الصلاة والسلام: **" صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلّي "** جعل الصلاة من الأشياء المرئية، والقراءة ليست مرئية، فوجب كونها خارجةً عن الصلاة، والجواب: أنّ الرؤية إذا كانت متعديةً إلى مفعولين كانت بمعنى العلم.
فصْلٌ
قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: قراءة الفاتحة واجبةٌ في الصلاة، فإن ترك منها حرفاً واحداً وهو يحسنها لم تصحّ صلاته، وبه قال الأكثرون.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه -: لا تجب قراءة الفَاتِحَةِ.
لنا وجوه:
الأول: أنه - عليه الصّلاة والسلام - وَاظَبَ طول عمره على قراءة الفاتحة في الصَّلاة، فوجب علينا ذلك، لقوله تعالى:**{ وَٱتَّبِعُوهُ }** [الأعراف: 158]، ولقوله:**{ فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ }** [النور: 63]، ولقوله تعالى:**{ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ }** [آل عمران: 31].
ويا للعجب من أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - أنه تمسّك في وجوب مسح النّاصية بخبر واحدٍ، في أنه - عليه الصلاة والسلام - مسح على النّاصية، فجعل ذلك القَدْرَ من المسح شرطاً لصحة الصلاة، وها هنا نقل أهل العلم نقلاً متواتراً أنه - عليه الصلاة والسلام - واظب على قراءة الفاتحة، ثم قال: إن صحّة الصَّلاة غير موقوفةٍ عليها، وهذا من العَجَائب.
الثاني: قوله تعالى:**{ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ }** [البقرة: 43]، والصلاة لفظ مُحَلّى بالألف واللام، فيكون المراد منها المعهود السَّابق، وليس عند المسلمين معهودٌ سابق من لفظ الصَّلاة إلى الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها.
وإذا كان كذلك كان قوله تعالى:**{ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ }** [البقرة:43] جارياً مجرى أمره بقراءة الفاتحة، وظاهر الأمر [الوجوب]، ثم إنّ هذه اللَّفظة تكررت في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة، فكان ذلك دليلاً قاطعاً على وجوب قراءة الفَاتحَةِ في الصَّلاةِ.
الثالث: أنّ الخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم - واظبوا على قراءتها طول عمرهم، ويدلُّ عليه ما روي في " الصّحيحين " **" أن النَّبي - عليه الصلاة والسلام - وأبا بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - كانوا يستفتحون القراءة بـ { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، وإذا ثبت هذا وجَبَ علينا ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام: " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ من بَعْدِي " ".** ولقوله عليه الصلاة والسلام: **" اقْتَدُوا باللَّذينِ مِنْ بَعْدِي: أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ "** رضي الله عنهما.
والعجب من أبي حنيفة - رحمه الله - أنه تمسَّك بطلاق الفَارّ بأثر عثمان - رضي الله عنه - مع أن عبد الرحمن، وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - كانا يخالفانه - ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرْث، فلم يتمسّك بعمل [كل] الصحابة - رضي الله عنهم - على سبيل الإطباق، والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة، مع أن هذا القول على وَفْقِ القرآن، والإخبار، والمعقول!
الرابع: أن الأمّة [وإن] اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا؟ لكنهم اتفقوا عليه في العَمَلِ فإنك لا ترى أحداً من المسلمين في العرف إلا ويقرأ الفاتحة في الصَّلاة، وإذا ثَبَتَ هذا فنقول: إنَّ من صَلَّى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين، فيدخل تحت قوله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }** [النساء: 115] فإن قالوا: إنَّ الذين اعتقدوا أنَّهُ لا يَجِب قراءتها قَرَءُوهَا لا عن اعتقاد الوجوب، بل على اعتقاد النّدبية، فلم يحصل الإجماع على وجوب قرَاءتها.
فنقول: أعمال الجوارح غير أعمال القلوب، ونحن قد بَيَّنَّا إطباق الكُلّ على الإتيان بالقراءة، فمن لم يَأْتِ بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العَمَلِ فدخل تَحْتَ الوَعِيدِ، وهذا القدر يكفينا في الدَّلِيلِ، ولا حاجة في تقرير هذا الدَّليل إلى ادِّعَاء الإجماع في اعتقاد الوجوب.
الخامس: قوله عَزَّ وجَلَّ: **" قسمتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْن، فإذا قَالَ العَبْدُ: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } يقول الله تَعَالى: حَمِدَنِي عَبْدِي... "** ، إلى آخر الحديث.
وجه الاستدلال: أنه - تَعَالَى - حكم على كلّ صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين، ثم بين أنّ هذا التصنيف لم يحصل إلاّ بسبب هذه السورة، ولازم اللازم لازم، فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة، وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا: قراءة الفاتحة شرط في صِحّة الصلاة.
السَّادس: قوله عليه الصلاة والسلام: **" لا صَلاَةَ إلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ ".** قالوا: حرف النفي دخل على الصَّلاة، ودخل على غير مُمْكِنٍ، فلا بُدّ من صرفه إلى حكم من أحكام الصَّلاة، وليس صرفه إلى الصِّحة أولى من صرفه إلى الكمال.
والجواب من وجوه:
الأول: أنه جاء في بعض الرِّوَايات: **" لا صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ "** ، وعلى هذه الرواية فالنَّفي ما دخل على الصَّلاة، وإنما دخل على حصولها للرَّجل، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها، وخروجه عن عُهْدَةِ التَّكْليف بسببها، وعلى هذا التَّقدير فإنه يمكن إجراء حرف النَّفي على ظاهره.
الثاني: من اعتقدوا أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة، فعند عدم القراءة لا توجد ماهية الصلاة؛ لأنّ الماهية تمنع حصولها حال عدم بعض أجزائها، وإذا ثبت هذا فقولهم: إنه لا يمكن إدخال حرف النَّفي على مُسَمَّى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفَاتحَةَ ليست جزءاً من الصّلاة، وهذا [هو] أول المسألة، فثبت أن قولنا: يمكن إجراء هذه اللفظة على أنه متى تعذّر العمل بالحقيقة، وحصل للحقيقة مجازان أحدهما: أقرب إلى الحقيقة، والثاني: أبعد؛ فإنه يجب حمل اللَّفظ على المَجَاز الأقرب.
إذا ثبت هذا فنقول: المُشَابهة بين المعدوم، وبين الموجود الذي يكون صحيحاً [أتم من المُشابَهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحاً]، لكنه لا يكون كاملاً، فكان حمل هذا اللَّفظ على نفي الصِّحة أولى.
الحُجَّة السَّابعة: عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" كُلّ صَلاَةٍ لم يقرأ فيها بِأُمِّ القُرْآنِ فهي خِدَاج، فهي خداج "** أي غير تمام، قالوا: الخِدَاجُ هو النقصان، وذلك لا يدل على عدم الجواز.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
قلنا: بل هذا يدلّ على عدم الجواز؛ لأن التكليف بالصَّلاة دائم، والأصل في الثابت، البقاء، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصَّلاة على صفة الكَمَالِ، فعند الإتيان بها على سبيل النُّقصان يوجب ألاّ يخرج عن العُهْدَةِ، والذي يقوي هذا أنَّ عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - يصح الصوم في يوم العيد إلا أنه قال: لو صام يوم العِيدِ قضاء عن رَمَضَان لم يصح؛ لأن الواجب عليه هو الصَّوم الكامل، والصوم في هذا اليوم ناقص، فوجب ألا يفيد هذا القضاء الخروج عن العُهْدَةِ.
وإذا ثبت هذا فنقول: فلم لم يقل بمثل هذا الكلام ها هنا؟
الحُجّة الثامنة: نقل الشيخ أبو حامد في " تعليقه " عن ابن المُنْذِرِ أنه روى بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" لا تُجْزِىء صَلاَةٌ لا يُقْرأ فيها بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ ".** الحُجّة التاسعة: روى رفاعة بن مالك - رضي الله عنه - أن رَجُلاً دخل المَسْجِد فصلّى، فلما فرغ من صلاته، ذكر في الخبر أن الرجل قال: علّمني الصَّلاة يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: **" إذا تَوَجَّهْتُم إلى القِبْلَةِ فَكَبِّرُوا، واقْرَءُوا بفاتحة الكِتَابِ "** ، وهذا أمر، والأمر للوجوب.
الحُجّة العاشرة: **" روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أخبركم بِسُورَةٍ ليس في التَّوْرَاة ولا في الإِنْجِيل ولا في الزَّبُور مثلها " ، قالوا: نعم، قال: " فما تقرءونه في صَلاَتكم "؟ فقالوا: الحمد لله ربّ العالمين، قال: " هِيَ هِيَ " ".** وجه الدليل: **" أنه - عليه الصلاة والسلام - لما قال: " ما تَقْرَءُونَهُ في صلاتكم "؟ قالوا: الحمد لله رب العالمين "** ، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عند الصحابة - رضي الله عنهم - أنه لا يصلي أحد إلاّ بهذه السورة، فكان هذا إجماعاً معلوماً عندهم.
الحُجّة الحادية عشرة: التمسُّك بقوله تعالى:**{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }** [المزمل: 20] فهذا أمر، والأمر للوجوب، فهذا يقتضي أن قراءة ما تَيَسَّرَ من القرآن واجبةٌ.
فنقول: المراد بما تيسّر من القرآن، إما أن يكون هو الفاتحة بعينها واجبة، وهو المطلوب وإمّا يقتضي أن قراءة غير الفاتحة واجبة، وذلك باطل بالإجماع، أو يقتضي التخيير بين قراءة الفاتحة، وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع، لأن الأمّة مجمعةٌ على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها.
وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خِدَاجٌ ناقصة، والتخيير بين النقائص والكامل لا يجوز.
واعلم أنه إنما سمى قراءة الفاتحة لما تيسّر من القرآن؛ لأن هذه السّورة محفوظة لجميع المكلّفين من المسلمين، فهي متيسّرة للكل، أما سائر السُّور فقد تكون محفوظة، وقد لا تكون، وحينئذٍ لا تكون متيسّرة للكلّ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الحُجّة الثَّانية عشرة: الأصل بقاءُ التكليف، فالقولُ بأنَّ الصَّلاةَ بدون قراءة الفاتحة يقتضي الخروج عن العهدة، إما أنْ يعرف بالنَّص أو بالقياس.
أما الأول فباطل.
[لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى:**{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }** [المزمل:20] وقد بينا أنه دليلنا.
وأما القياس] فباطل؛ لأن التعبدّات غالبة على الصَّلاة، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس.
الحُجّة الثالثة عشرة: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - وَاظَبَ على الصَّلاة بها طول عمره، فيكون قراءة غير الفاتحة ابتداعاً وتركاً للاتباع، وذلك حرام لقوله صلى الله عليه وسلم: **" اتَّبِعُوا وَلاَ تَبْتَدِعُوا "** ، و **" أَحْسَن الهَدْي هَدْيُ مُحَمّدٍ، وَشَرّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ".** واحتج أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - بالقرآن والخبر.
أما القرآن الكريم فقوله تبارك وتعالى:**{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }** [المزمل:20].
وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهما - قال " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي: لا صَلاَةَ إلا بِقَرَاءَةٍ، ولو بفاتحة الكِتَاب ".
والجواب عن الأول: أنا بَيّنا أنّ هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا.
وعن الثاني: أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة، وأيضاً لا يجوز أن يقال: المراد من قوله: **" لا صَلاَةَ إلا بقراءة، ولو بفاتحة الكتاب "** وهو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى.
فصل في بيان هل التسمية آية من الفاتحة أم لا؟
قال الشافعي - رضي الله عنه -: التّسمية آية من الفاتحة، ويجب قراءتها مع الفاتحة، وقال مالك والأوزاعي، - رضي الله تعالى عنهما -: إنها ليست من القرآن إلاّ في سورة النَّمل، ولا يجب قراءتها سرّا ولا جهراً، إلاّ في قيام شهر رمضان، فإنه يقرؤها.
وأما أبو حنيفة - رحمه الله - فلم ينص عليها، وإنما قال: يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ويُسِرّ بها، ولم يقل: إنها آية من أول السورة أم لا.
قال: سُئل محمد بن الحسن - رحمه الله - عن " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال: ما بين الدّفَّتَيْنِ كلام الله - عز وجل - القرآن.
قلت: فَلِمَ يُسَرّ بها؟ فلم يجبني.
وقال الكَرْخي - رحمه الله تعالى -: لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدّمي أصحابنا، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة.
وقال بعض الحنفية - رحمهم الله -: تورّع أبو حنيفة وأصحابه - رحمهم الله - عن الوقوع في هذه المسألة؛ لأن الخوض في أن التسمية من القرآن، أو ليست من القرآن أمر عظيم، فالأولى السّكوت عنه.
حُجّة من قال: إن التسمية من الفاتحة:
روى الشافعي عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مُلَيْكة عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب، فعد بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم آية منها والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ آية، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ آية، إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ آية، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ آية، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ آية "** ، وهذا نَصّ صريح.
وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال: **" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أُخْبِرُكَ بآية لم تنزل على أَحَدٍ بعد سُلَيْمَانَ بن داود - عليهما السلام - غيري "؟ فقلت: بلى قال:** **" بأي شيء يُفْتَتَحُ القرآن إذا افتتحت الصَّلاَة؟ " قلت: ببسم الله الرحمن الرحيم قال: " هِيَ هِي "** وهذا يدل على أنَّ التسمية من القرآن.
وروى الثَّعْلبي بإسناده عن جعفر بن مُحَمَّدٍ عن أبيه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - **" أنّ النبي - عليه الصّلاة والسلام - قال له: " كيف تَقُول إذا قُمْتَ إلى الصَّلاة "؟ قال: أقول: الحمد لله رب العالمين، قال: " قل: بسم الله الرحمن الرحيم " ".** وروى أيضاً بإسناده عن سعيد بن جُبَيْرٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تبارك وتعالى:**{ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ }** [الحجر: 87] قال: فاتحة الكتاب، فقيل للنابغة، أين السَّابعة؟ فقال: { بسم الله الرحمن الرحيم }.
وبإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: **" كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، والنبي يحدث أصحابه، إذ دخل رجل يصلّي، فافتتح الصَّلاة وتعوّذ، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رجل، قَطَعْتَ عَلى نَفْسِكَ الصَّلاة، أما علمت أن بسم الله الرَّحمن الرحيم من الحَمْد؟ من تركها فقد تركها فقد تَرَكَ آيةً منها، ومن ترك أيةً منها فقد قطع عليه صلاته، فإنه لا صَلاَةَ إلا بِهَا ".** وروى بإسنادة عن طَلْحَةَ بن عبيد الله - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: **" مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالَى ".** وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كَعب - رضي الله عنهما -: **" " مَا أعظم آيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى "؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فصدقة النبي صلى الله عليه وسلم ".** ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل، فتعيّن أن تكون آية تامةً في أوّل الفاتحة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وروي أن معاوية - رضي الله عنه - لما قدم " المدينة " فصلّى بالناس صَلاَةً يجهر فيها، فقرأ أمّ القرآن، ولم يقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " ، فلما قضى صلاته نَادَاهُ المُهَاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين اسْتَفْتَحْتَ القرآن؟
فأعاد معاوية الصَّلاة؟ وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.
وهذا يدلّ على إجماع الصَّحَابة على أنها من القُرْآن ومن الفاتحة، وعلى أن الأولى الجَهْرُ بقراءتها.
فصل في بيان عدد آيات الفاتحة
حكي عن الزَّمخشري: الاتفاق على كَوْن الفاتحة سَبْعَ آيات.
وحكى ابن عطية قولين آخرين:
أحدهما: هي ستّ آيات، فأسقط البَسْمَلَة، وأسقط " أنعمت عليهم ".
والثاني: أنها ثماني آيات فأثبتهما.
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -: رأيت في بعض الروايات الشَّاذة أن الحسن البَصْري - رضي الله تعالى عنه - كان يقول: إنّ هذه السورة ثماني آيات، فأما الرواية المشهورة التي عليها الأكثرون أنها سبع آيات، وبه فسّروا قوله تعالى:**{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي }** [الحجر: 87].
إذا ثبت هذا، فنقول: إنَّ الذين قالوا: إن البَسْمَلَة آية من الفاتحة قالوا: قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7] إلى آخرها آية تامة منها.
وأما أبو حنيفة - رضي الله عنه - فإنه لما أسقط البَسْمَلَة قال: قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } آية، وقوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } آية أخرى.
ودليل الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - أن مقطع قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لا يشابه مقطع الآيات المتقدمّة، ورعاية التَّشابه في المَقَاطع لازم، لأنَّا وجدنا مقاطع القرآن على ضربين: مُتَقَاربة، ومُتَشَاكلة. فالمتقاربة كَسُورَةِ " ق ".
والمُتشَاكلَة في سورة " القمر " ، وقوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ليس من القسمين، فامتنع جعله من المَقَاطع.
وأيضاً إذا جعلنا قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ابتداء آية، فقد جعلنا أول الآية لفظ " غير " ، وهذا اللفظ إمّا أن يكون صفةً لما قبله، أو استثناء مما قبله، والصّفة مع الموصوف كالشَّيءِ الواحد، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كالشيء الواحد، وإيقاع الفَصْل [بينهما] على خلاف الدليل، أما إذا جعلنا قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } إلى آخر السورة آية واحدة [كُنّا قَدْ جعلنا الموصوف مع الصّفة، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كلاماً واحداً، وآية واحدة]، وذلك أقرب إلى الدّليل.
فَصْلٌ هل البَسْمَلَةُ آية من أوائل السور أم لا؟
وللشافعي قولان:
قال ابن الخطيب: " والمُحَقّقون من أصحابنا اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السّور، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من كل سورة، أو هي مع ما بعدها آية ".
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقال بعض الحنفية: إنّ الشّافعي خالف الإجماع في هذه المسألة؛ لأن أحداً ممن قبله لم يقل: إن بسم الله آية من أوائل سائر السُّور.
ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخطّ القرآن، فوجب كونه قرآناً، واحتج المخالف بما روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال في سورة " الملك " إنها ثلاثون آية، وفي سورة " الكوثر " إنها ثلاث آيات، ثم أجمعوا على أنَّ هذا العدد حاصل بدون التسمية، فوجب ألاّ تكون التسمية آية من هذه السّور.
والجَوَاب أنا إذا قلنا: بسم الله الرحمن الرحيم مع ما بعدها آية واحدة، فالإشْكَال زائل.
فإن قالوا: لما اعترفتم بأنها آية تامةٌ من أول الفاتحة، فكيف يمكنكم أن تقولوا: إنها بعض آية من سائر السور؟
قلنا: هذا غير بعيدٍ، ألا ترى أن قوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } آية تامة؟ ثم صار مجموع قوله تعالى:**{ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [يونس: 10] آية واحدة، فكذا ها هنا.
وأيضاً فقوله: سورة " الكوثر " ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات، وأما التسمية فهي كالشّيء المشترك فيه بين جميع السُّور، فسقط هذا السُّؤال، والله أعلم.
فصل في الجهر بالتسمية والإسرار بها
يروى عن أحمد بن حَنْبَل - رضي الله عنه - أن التسمية آية من الفاتحة إلاّ أنه يُسرّ بها في كل ركعة.
وأما الشافعي - رضي الله تعالى عنه - فإنه قال: ليست آية من الفاتحة ويجهر بها.
وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: ليست آية من الفاتحة، ولا يجهر بها.
والاستقراء دلّ على أن السورة الواحدة، إما أن تكون بتمامها سريةً أو جهريةً، وإما أن يكون بعضها سرياً، وبعضها جهرياً، فهذا مفقودٌ في جميع السور، وإذا ثبت هذا كان الجَهْرُ بالتسمية شروعاً في القراءة الجهرية.
وقالت الشِّيعة: السُّنة هي الجَهْر بالتسمية، سواء كانت الصلاة [جهرية أو سرية].
والذين قالوا: إن التسمية ليست من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المُصْحَف في أول كل سورة، وفيه قولان:
الأول: أن التسمية ليست من القرآن، وهؤلاء فريقان:
منهم من قال: كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بين السُّور، وهذا الفصل قد صار الآن معلوماً، فلا حاجة إلى إثبات التسمية، فعلى هذا لو لم تكتب لَجَازَ.
ومنهم من قال: إنه يجب إثباتها في المُصْحف، ولا يجوز تركها أبداً.
والقول الثاني: أنها من لقرآن، وقد أنزلها الله تعالى، ولكنها آية مستقلة بنفسها، وليست بآية من السورة، وهؤلاء أيضاً فريقان:
منهم من قال: إن الله - تعالى - كان ينزلها في أول كل سورة على حِدَةٍ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ومنهم من قال: لا، أنزلها مرة واحدة، وأمَرَ بإثباتها في [أول] كل سورة.
والذي يدلّ على أن الله - تعالى - أنزلها، وعلى أنها من القرآن ما روي عن أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد " بسم الله الرحمن الرحيم " آية فاصلةً.
وعن إبراهيم بن يزيد قال: قلت لعمرو بن دينار: إنّ الفضل الرقاشي يزعم أن " بسم الله الرحمن الرحيم " ليست من القرآن، فقال: سبحان الله ما أَجْرَأَ هذا الرجل! سمعت سعيد بن جُبَيْرٍ يقول: سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا أنزل عليه " بسم الله الرحمن الرحيم " على أن تلك السُّورة ختِمَتْ وفُتِحَ غيرها.
وعن عبد الله بن المُبارك أنه قال: من ترك " بسم الله الرحمن الرحيم " فقد ترك مائةً وثلاث عشرة آيةً.
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب - رحمه الله -: نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان ينكر كَوْنَ سورة الفاتحة من القرآن الكريم، وكان ينكر كون المُعَوّذتين من القرآن.
واعلم أن هذا في غاية الصعوبة؛ لأنا إن قلنا: إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بِكَوْنِ سورة الفاتحة من القرآن، فحينئذٍ كان ابن مسعود - رضي الله عنه - عالماً بذلك فإنكاره يوجب الكُفْر أو نقصان العقل.
وإن قلنا: النقل المتواتر ما كان حاصلاً في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال: إن نقل القرآن ليس بمتواترٍ في الأصل، وذلك يخرج القرآن عن كونه حُجَّةً يقينية.
والأغلب على الظن أن يقال: هذا المذهب عن ابن مسعود نَقْلٌ كاذِبٌ باطل، وبه يحصل الخلاص عن هذه العُقْدَةِ، والله الهادي إلى الصواب، إليه يرجع الأمر كله في الأول والمآب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | |
| --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | |
| --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ) | قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.
صراط الذين أنعمت عليهم أى: مقام الدين. أنعمت عليهم بالمعرفة وهم العارفون، وأنعم على الأولياء بالصدق والرضا واليقين، وأنعم على الأبرار بالحلم والرأفة وأنعم على المريدين بحلاوة الطاعة، وأنعم على المؤمنين بالاستقامة، هذا قول ابن عطاء.
وحُكى عن أبى عثمان أنه قال: صراط الذين أنعمت عليهم بأن عَرَّفتهم مهالك الصراط ومكايد الشيطان وخيانة النفس.
وحُكى عن محمد بن الفضل أنه قال: صراط الذين أنعمت عليهم لقبول ما افترضت عليهم.
وقال أبو الحسن الوراق: صراط الذين أنعمت عليهم بالعناية على الاستقامة فى طريق مناجاتك.
وقال بعضهم صراط الذين أنعمت عليهم فى سابق الأزل بالسعادة.
وحُكى عن بعض البغداديين أنه قال: مَن أفنيته عن النظر إلى النعمة بدوام التنعم بقربك ومؤانستك.
وقال بعضهم: صراط الذين أنعمت عليهم بالنظر إلى جريان ما جرى عليهم فى الأزل فلم يشغلهم كشف ذلك لهم عن الشغل بك.
وحُكى عن مالك بن أنس أنه سئل عن قوله { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فقال: متابعة النبى صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: صراط الذين أنعمت عليهم بالإيمان والهداية والتوفيق والرعاية والمراقبة والكلاءة.
وقال جعفر بن محمد: صراط الذين أنعمت عليهم بالعلم بك والفهم عنك.
وقال بعض البغداديين: صراط الذين أنعمت عليهم بفناء حظوظهم وقيامهم معك حسن الأدب.
وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم بمشاهدة المنعم بغير النعمة.
وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم بالإسلام ظاهرًا والإيمان باطنًا. قال الله تعالى**{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً }** [لقمان: 20] وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم بإزالة ظلمات الأكوان عن سرائرهم وطهرت أرواحهم بنور قدسك فشاهدوك بهممهم، ولم يشاهدوا معك سواك.
وقال محمد بن على: صراط الذين أنعمت عليهم قال الذين زممت جوارحهم بالهيبة عند خدمتك.
وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم من غيبك المستتر بأنوار هدايتك.
وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم بعبادتك على المشاهدة. كما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم **" أن تعبد الله كأنك تراه ".** وسُئل سهل بن عبد الله عن قوله صراط الذين أنعمت عليهم قال: متابعة السُّنة.
وقيل أيضاً: صراط الذين أنعمت عليهم بأن أذنت لهم فى مناجاتك وسؤالك.
أخبرنا نصر بن محمد الأندلسى قال: حدثنا أبو عمر أحمد بن هلال بن نزار العطار قال: حدثنا الحسن بن محمد بن حيان الفريانى قال: حدثنا أحمد بن عبد الواحد قال: حدثنا محمد بن ميمون قال حدثنا معاذ بن هلال قال: حدثنا إسماعيل بن حسام عن الحسن فى قوله صراط الذين أنعمت عليهم قال: أبو بكر وعمر رضى الله عنهم.
قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }.
قال ابن عطاء: غير المخذولين ولا المطرودين ولا المهانين ولا الضالين الذين ضلوا عن طريق هدايتك ومعرفتك وسبيل ولايتك.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
وقيل: غير المغضوب عليهم فى طريق الهلكى، ولا الضالين عن طريق الهدى باتباع الهوى.
وقيل: غير المغضوب عليهم المستهلكين فى مفاوز الشيطان، ولا الضالين المطرودين عن طاعة الرحمن.
وقيل: غير المغضوب عليهم برؤية الأفعال ولا الضالين عن رؤية المنن، وقيل غير المغضوب عليهم بطلب الأعواض على أعمالهم ولا الضالين عن طريق الشكر بتيسير الخدمة عليهم.
وقيل: غير المغضوب عليهم بترك حسن الأدب فى أوقات القيام بخدمتك، ولا الضالين عن... فيستغفر وينيب.
وقيل: غير المغضوب عليهم بالرياء ولا الضالين بترك السنن فى أركان العبادات.
وقال أبو عثمان: غير المغضوب عليهم بترك قراءة هذه السورة فى صلواتهم، ولا الضالين عن ترك قراءتها.
وقيل: غير المغضوب عليهم بأن وكلتهم إلى أنفسهم ولا الضالين بقطعك الاعتصام عنهم.
وقيل: غير المغضوب عليهم باتباع البدع ولا الضالين عن سنن الهدى والسنة فى قول القائل آمين بعد قراءة هذه السورة فى صلاته والجهر به.
وقال ابن عطاء: أى كذلك فافعل ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين.
وقال جعفر: آمين أى: قاصدين نحوك وأنت أكرم من أن تجيب قاصدك.
وقال الجنيد رحمه الله: معنى آمين أى: عاجزين عن بلوغ الثناء عليك بصفاتنا إلا باتباع محمد الأمين فيه.
وقال بعض العراقيين: آمين أى: راجين لإجابة هذه الدعوات التى دعوتك بها.
وقال بعضهم مستقيلين من جميع اسؤلَتِنا؛ لأن حسن اختيارك لنا خير من اختيارنا.
وقيل: آمين أى: راضين بما قضيت علينا ولنا.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) | قوله جل ذكره { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.
يعني طريق من أنعمتَ عليهم بالهداية إلى الصراط المستقيم، وهم الأولياء والأصفياء. ويقال طريق من (أفنيتهم) عنهم، وأقمتهم بك لك، حتى لم يقفوا في الطريق، ولم تصدهم عنك خفايا المكر. ويقال صراط من أنعمت عليهم بالقيام بحقوقك دون التعريج على استجلاب حظوظهم.
ويقال صراط من (طهرتهم) عن آثارهم حتى وصلوا إليك بك.
ويقال صراط من أنعمت عليهم حتى تحرروا من مكائد الشيطان، ومغاليط النفوس ومخاييل الظنون، وحسبانات الوصول قبل خمود آثار البشر (ية).
ويقال صراط من أنعمت عليهم بالنظر والاستعانة بك، والتبري من الحول والقوة، وشهود ما سبق لهم من السعادة في سابق الاختيار، والعلم بتوحيدك فيما تُمضيه من المَسَار والمضار.
ويقال صراط الذين أنعمت عليهم بحفظ الأدب في أوقات الخدمة، واستشعار نعت الهيبة.
ويقال صراط الذين أنعمت عليهم بأن حفظت عليهم آداب الشريعة وأحكامها عند غلبات (بواده) الحقائق حتى لم يخرجوا عن حد العلم، ولم يُخِلُّوا بشيء من أحكام الشريعة. ويقال صراط الذين أنعمت عليهم حتى لم تطفئ شموسُ معارفهم أنوارَ ورعهم ولم يُضيِّعُوا شيئاً من أحكام الشرع.
ويقال صراط الذين أنعمتَ عليهم بالعبودية عند ظهور سلطان الحقيقة.
قوله جل ذكره: { غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }.
المغضوب عليهم الذين صدمتهم هواجم الخذلان، وأدركتهم مصائب الحرمان، وركبتهم سطوة الرد، وغلبتهم بَوَاده الصد والطرد.
ويقال هم الذين لحقهم ذل الهوان، وأصابهم سوء الخسران، فشغلوا في الحال باجتلاب الحظوظ - وهو في التحقيق (شقاء)؛ إذ يحسبون أنهم على شيء، وللحق في شقائهم سر.
ويقال هم الذين أنِسُوا بنفحات التقريب زماناً ثم أظهر الحق سبحانه في بابهم شانا؛ بُدِّلوا بالوصول بعاداً، وطمعوا في القرب فلم يجدوا مراداً، أولئك الذين ضلّ سعيُهم، وخاب ظنهم.
ويقال غير المغضوب عليهم بنسيان التوفيق، والتعامي عن رؤية التأييد. ولا الضالين عن شهود سابق الاختيار، وجريان التصاريف والأقدار.
ويقال غير المغضوب عليهم بتضييعهم آداب الخدمة، وتقصيرهم في أداء شروط الطاعة.
ويقال غير المغضوب عليهم هم الذين تقطعوا في مفاوز الغيبة، وتفرّقت بهم الهموم في أودية وجوه الحسبان.
فصل: ويقول العبد عند قراءة هذه السورة آمين، والتأمين سُنَّة، ومعناه يا رب افعل واستجب، وكأنه يستدعي بهذه القالة التوفيق للأعمال، والتحقيق للآمال، وتحط رِجْلُه بساحات الافتقار، ويناجي حضرة الكرم بلسان الابتهال، ويتوسل (بتبريه) عن الحول والطاقة والمُنَّة والاستطاعة إلى حضرة الجود. وإن أقوى وسيلة للفقير تعلقه بدوام الاستعانة لتحققه بصدق الاستغاثة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ) | قوله تعالى { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } اي منازل الدينَ انْعَمْتَ عليهم بالمعرفة وحسن الادَبَ في الخدمة وايضاً أنعمت عليهم باليقين التّام والصدق على الدَّوام واطلاعِهم على مكائد النفس والشيطان وكشف غرائب الصفات وعجائب انوار الذاتِ والاستقامة في جميع الاحوال وبسعادة الهداية الى القربة بعناية الازلية وهم الانبياء والاولياء والصديقون والمقربون والعارفون والامناءُ والنخباء قال ابو عثمان انعمت عليهم بان عَرّفتَهم مهالك الصّراط ومكائد الشيطانِ وجناية النفس وقال بعضهم أنعمت عليهم في سابق الازل بالسعادة وقال جعفر بن محمد انعمت عليهم بالعلم بك والفهم منك وقيل انعمتُ عليهم بمشاهدة المنعم دون النعمة وقال بعضهم انعمتَ عليهم بالرّضا بقضائك وقَدرك وقيل انعمت عليهم بمخالفة النفس والهوى والاقبال عليك بدوم الوفاء وقال حميد فيما قضيتَه من المضارّ والمسارّ وقال بعضهم انعمت عليهم بالاقبال عليك والفهم عنك ويقال طريق من اَفْنَيْتَهم عنهم طاقتهم بك حتى لم يقفوا في الطريق ولم يسدَّهم عنك خفايا المكر وقيل صراط من انعمت عليهم حتى يُحرسوا من مكائد الشيطان ومغاليط النفوس ومخايل الظنون ويقالُ من طهرتَهم من اثارهم حتى وصلوا اليك بك ويقال صراط من انعمت عليهم بالنظر اليك والاستعانة بك والتبرى من الحول والقوّة وشهود ما سبق لَهُم من السعادة في سابق الاختيار والعلم بتَوَحدك فيما قَضَيْته من المسارّ والمضار ويقال انعمت عليهم بحفظ الأدب في اوقات الخدمة واستشعار نعت الهيبة وقيل صراط من أنعمت عليهم من تأدَّبوا بالخلوة عند غليات بوادي الحقائق حتى لم يخرجوا عن حد العلم فلم يخلوا بشئ من اعد الهيبة ولم يضيعوا من احكام العبودية عند ظهور سلطان الحقيقة وقيل صراط مَن انعمتَ عليهم بل حفظت عليهم آداب الشريعة واحكامَها الشرع وقيل صراط من انعمت عليهم حتى لم يطف شموسُ معارفهم انوارَ ورَعهم ولم يضيعوا من احكام العبودية عند ظهور سلطان الحقيقة.
قوله تعالى { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } يعني المطرودين عن باب العبودية وقال ابو عثمان الذين غَضَبت عليهم وخذلتهم ولم تحفظ قلوبهم حتى تَهَوَّدوا وتنصَّروا وقال الاستاذ الذين صدْمتهم هوازم الخذلان وأدركتهم مصائب الحرمان قال ابو العباس الدينَورَى وكلتهم الى حَوْلهم وقوتهم وعرّيتهم من حولك وقوّتك وقيل هم الذّين لَحِقَهم ذُلّ الهوان واصابهم سوء الخسران وشَغَلوا في الحلال باجتلاب الحظوظ وهو في التحقيق مكرر ويحسبون انهم على شئ وللحق في شقاوَتهم سِرّ ولا الضّالين عن شهود سابق الاختيار وجَرَيان تصاريف الاقدار { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } يعني المفلسين عن نفائس المعرفة وايضا غير المغضوب عليهم بالمكر والاستدراج { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } عن انوار السبل والمنهاج وايضاً { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } بالحجاب { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } عن رؤية المآب وايضاً غير المغضوب عليهم بالانفصال ولا الضالين عن الوِصَال وقال ابن عطاء غير المخذولين والمطرودين والمنهانين الذين ضلوا عن الطريق الحقّ وقيل { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } في طريق الهلكى { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } عن طريق الهدى لاتباع الهوى واما في قوله آمين اي استدعاء العارفين مزيد القربة مع استقامة المعرفة من رب العالمين والافتقار الى الله بنعت الانظار لاقتباس الانوار وايضا قاصدين الى الله بمراتب النوعية والرّهبة وقال ابن عطاء اي كذلك فافعل ولا تكلني الى نفسى طرفة عين وقال جعفر آمين قاصدين نحوك وانْتَ اعَزُّ من ان تخيبَ قاصِداً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ) | { صراط الذين انعمت عليهم } بدل من الاول بدل الكل والانعام ايصال النعمة وهى فى الاصل الحالة التى يستلذها الانسان فاطلقت على ما يستلذه من نعمة الدين الحق. قال ابو العباس ابن عطاء هؤلاء المنعم عليهم هم طبقات فالعارفون انعم الله عليهم بالمعرفة والاولياء انعم الله عليهم بالصدق والرضى واليقين والصفوة والابرار انعم الله عليهم بالحلم والرأفة والمريدون انعم الله عليهم بحلاوة الطاعة والمؤمنون انعم الله عليهم بالاستقامة. وقيل هم الانبياء والصديقون والشهداء والصالحون كما قال تعالى**{ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين }** النساء 69 واضيف الصراط هنا الى العباد وفى قوله**{ وأن هذا صراطي مستقيما }** الأَنعام 153 الى ذاته تعالى كما اضيف الدين والهدى تارة الى الله تعالى نحو**{ أفغير دين الله }** آل عمران 83**{ قل إن الهدى هدى الله }** آل عمران 73 وتارة الى العباد نحو**{ اليوم أكملت لكم دينكم }** المائدة 3**{ فبهداهم اقتده }** الأَنعام 90 وسره من وجوه. الاول بيان ان ذلك كله له شرعا ولنا نفعا كما قال تعالى**{ شرع لكم من الدين }** الشورى 13. والثانى انه له ارتضاء واختيارا ولنا سلوكا وائتمارا. والثالث انه اضافه الى نفسه قطعا لعجب العبد والى العبد تسلية لقلبه. والرابع انه اضافه الى العبد تشريفا له وتقريبا والى نفسه قطعا لطمع ابليس عنه كما قيل لما نزل قوله تعالى**{ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين }** المنافقون 8 قال الشيطان ان لم اقدر على سلب عزة الله ورسوله اسلب عزة المؤمنين فقال الله تعالى**{ فلله العزة جميعا }** فاطر 10 فقطع طمعه كذا فى التيسير. وتكرار الصراط اشارة الى ان الصراط الحقيقى صراطان من العبد الى الرب ومن الرب الى العبد فالذى من العبد الى الرب طريق مخوف كم قطع فيه القوافل وانقطع به الرواحل ونادى منادى العزة لاهل العزة الطلب رد والسبيل سد وقاطع الطريق يقطع على هذا الفريق**{ لأَقعدن لهم صراطك المستقيم }** الأعراف 16 الآية والذى من الرب الى العبد طريق آمن وبالامان كائن قد سلم فيه القوافل وبالنعم محفوف المنازل يسير فيه سيارته ويقاد بالدلائل قادته**{ مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين }** النساء 69 الآية اى انعم الله على اسرارهم بانوار العناية وعلى ارواحهم باسرار الهداية وعلى قلوبهم بآثار الولاية وعلى نفوسهم فى قمع الهوى وقهر الطبع وحفظ الشرع بالتوفيق والرعاية وفى مكايد الشيطان بالمراقبة والكلاية. والنعم اما ظاهرة كارسال الرسل وانزال الكتب وتوفيق قبول دعوة الرسل واتباع السنة واجتناب البدعة وانقياد النفس للاوامر والنواهي والثبات على قدم الصدق ولزوم العبودية. واما باطنة وهى ما انعم على ارواحهم فى بداية الفطرة باصابة رشاش نوره كما قال عليه السلام **" ان الله خلق الخلق فى ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن اصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن اخطأه فقد ضل "**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فكان فتح باب صراط الله الى العبد من رشاش ذلك النور واول الغيث رش ثم ينسكب فالمؤمنون ينظرون بذلك النور المرشوش الى مشاهدة المغيث وينتظرون الغيث ويستعينون { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم } بجذبات الطافك وفتحت عليهم ابواب فضلك ليهتدوا بك اليك فأصابوا بما اصابهم بك منك كذا فى التأويلات النجمية. قال الشيخ صدر الدين القنوى قدس سره فى الفكوك فى تأويل الحديث المذكور لا شك ان الوجود المحض يتعقل فى مقابلته العدم المضاد له فان للعدم تعينا فى التعقل لا محالة وله الظلمة كما ان الوجود له النورانية ولهذا يوصف الممكن بالظلمة فانه يتنور بالوجود فيظهر فظلمته من احد وجهيه الذى يلى العدم وكل نقص يلحق الممكن ويوصف به انما ذلك من احكام النسبة العدمية واليه الاشارة بقوله النبى صلى الله عليه وسلم **" ان الله خلق الخلق فى ظلمة ثم رش عليه من نوره فظهر "** وخلق ههنا بمعنى التقدير فان التقدير سابق على الايجاد ورش النور كناية عن افاضة الوجود على الممكنات فاعلم ذلك انتهى كلام الشيخ. { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } بدل من الذين على معنى ان المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال. وكلمة غير على ثلاثة اوجه الاول بمعنى المغايرة وفارسيته " جز " قال الله تعالى**{ لتفترى علينا غيره }** الإسراء 73. والثانى بمعنى لا وفارسيته " نا " قال تعالى**{ فمن اضطر غير باغ ولا عاد }** البقرة 173. والثالث بمعنى الا وفارسيته " مكر " قال تعالى**{ فما وجدنا فيها غير بيت من المسليمن }** الذاريات 36. وصرفها ههنا على هذه الوجوه محتمل غير ان معنى الاستثناء مخصوص بقراءة النصب. والغضب ثوران النفس عند ارادة الانتقام يعنى انه حالة نفسانية تحصل عند غليان النفس ودم القلب لشهوة الانتقام وهنا نقيض الرضى او ارادة الانتقام او تحقيق الوعيد او الاخذ الاليم او الطبش الشديد او هتك الاستار والتعذيب بالنار لان القاعدة التفسيرية ان الافعال التى لها اوائل بدايات واواخر غايات اذا لم يمكن اسنادها الى الله باعتبار البدايات يراد بها حين الاسناد غاياتها كالغضب والحياء والتكبر والاستهزاء والغم والفرح والضحك والبشاشة وغيرها والضلال والعدول عن الطريق السوى عمدا او خطأ. والمراد بالمغضوب عليهم العصاة وبالضالين الجاهلون بالله لان المنعم عليهم هم الجامعون بين العلم والعمل فكان المقابل لهم من اختل احدى قوتيه العاقلة والعاملة والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى فى القاتل عمدا**{ وغضب الله عليه ولعنه }** النساء 93 والمخل بالعلم جاهل ضال كقوله تعالى**{ فماذا بعد الحق إلا الضلال }** يونس 32 والمغضوب عليهم هم اليهود لقوله تعالى فى حقهم
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ من لعنه الله وغضب عليه }** المائدة 60 والضالون النصارى لقوله تعالى فى حقهم**{ قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا }** المائدة 77 وليس المراد تخصيص نسبة الغضب باليهود ونسبة الضلال بالنصارى لان الغضب قد نسب ايضا الى النصارى وكذا الضلال قد نسب الى اليهود فى القرآن بل المراد انهما اذا تقابلا فالتعبير بالغضب الذى هو ارادة الانتقام لا محالة باليهود فى القرآن بل المراد انهما اذا تقابلا فالتعبير الذي هو ارادة الانتقام لا محالة باليهود أليق لغاية تمردهم فى كفرهم من اعتدائهم وقتلهم الانبياء وقولهم**{ قالوا إن الله فقير ونحن أغيناء }** آل عمران 181 وغير ذلك. فان قلت من المعلوم ان المنعم عليهم غير الفريقين فما الفائدة فى ذكرهما بعدهم. قلت فائدته وصف ايمانهم بكمال الخوف من حال الطائفتين بعد وصفه بكمال الرجاء في قوله { الذين انعمت عليهم } قال عليه السلام **" لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ".** واعلم ان حكم الغضب الالهى تكميل مرتبة قبضة الشمال فانه وان كان كلتا يديه المقدستين يمينا مباركة لكن حكم كل واحدة يخالف الاخرى فالارض جميعا قبضته والسموات مطويات بيمينه فلليد الواحدة المضاف اليها عموم السعداء الرحمة والحنان وللاخرى القهر والغضب ولوازمهما فسر حكم الغضب هو التكميل المشار اليه فى الجمع بين حكم اليدين والوقاية ولصاحب الاكلة اذا ظهرت فى عضو واحد وقدر أن يكون الطبيب والده او صديقه او شقيقه فانه مع فرط محبته يبادر لقطع العضو المعتل لما لم يكن فيه قابلية الصلاح والسر الثالث التطهير كالذهب الممزوج بالرصاص والنحاس اذا قصد تمييزه لا بد وان يجعل فى النار الشديدة والضلال هو الحيرة فمنها ما هى مذمومة ومناه ما هى محمودة ولها ثلاث مراتب حيرة اهل البدايات وحيرة المتوسطين من اهل الكشف والحجاب وحيرة اكابر المحققين واول مزيل للحيرة الاولى تعين المطلب المرجح كرضى الله والتقرب اليه والشهود الذاتي ثم معرفة الطريق الموصل كملازمة شريعة الكمل ثم السبب المحصل كالمرشد ثم ما يمكن الاستعانة به فى تحصيل الغرض من الذكر والفكر وغيرهما ثم معرفة العوائق وكيفية ازالتها كالنفس والشيطان فاذا تعينت هذه الامور الخمسة حينئذ تزول هذه الحيرة وحيرة الاكابر محمودة لا تظنن ان هذه الحيرة سببها قصور فى الادراك ونقص مانع من كمال الجلاء هنا والاستجلاء لما هناك بل هذه حيرة يظهر حكمها بعد كمال التحقق بالمعرفة والشهود ومعاينة سر كل وجود والاطلاع التام على احدية الوجود. وفى تفسير النجم**{ غير المغضوب عليهم ولا الضالين }** الفاتحة 7 هم الذين اخطأهم ذلك النور فضلوا فى تيه هوى النفس وتاهوا فى ظلمات الطبع والتقليد فغضب الله عليهم مثل اليهود ولعنهم بالطرد والتبعيد حتى لم يهتدوا الى الشرع القويم ووقعوا عن الصراط المستقيم اى عن المرتبة الانسانية التى خلق فيها الانسان فى احسن تقويم ومسخوا قردة وخنازير صورة أو معنى او لما وقعوا عن الصراط المستقيم فى سد البشرية نسوا ألطاف الربوبية وضلوا عن صراط التوحيد فاخذهم الشيطان بشرك الشرك كالنصارى فاتخذوا الهوى الها والدنيا الها وقالوا
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ ثالث ثلاثة }** المائدة 73**{ نسوا الله فنسيهم }** التوبة 67 هذا بحسب اول الحال وفيه وجه آخر معتبر فيه عارض المآل وهوان يراد غير المغضوب عليهم بالغيبة بعد الحضور والمحنة بعد السرور والظلمة غب النور نعوذ بالله من الحور بعد الكور اى من الرجوع الى النقصان بعد الزيادة ولا الضالين بغلبة الفسق والفجور وانقلاب السرورة بالشرور ووجه ثالث يعبر فى السلوك الى ملك الملوك وهو غير المغضوب عليهم بالاحتباس فى المنازل والانقطاع عن القوافل ولا الضالين بالصدود عن المقصود**{ آمّين }** المائدة 2 اسم فعل بمعنى استجب معناه يا الله استجب دعاءنا او افعل يا رب بنى على الفتح كأين وكيف لالتقاء الساكنين وليست من القرآن اتفاقا لانها لم تكتب فى الامام ولم ينقل احد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم رضى الله تعالى عنهم أنها قرآن لكن يسن ان يقول القارئ بعد الفاتحة آمين مفصولة عنها لقوله عليه السلام **" علمنى جبريل آمين عند فراغى من قراءة الفاتحة وقال انه كالختم على الكتاب "** وزاده على رضى الله عنه توضيحا فقال آمين خاتم رب العالمين ختم به دعاء عبده فسره ان الخاتم كما يمنع عن المختوم الاطلاع عليه والتصرف فيه يمنع آمين عن دعاء العبد الخيبة. وقال وهب يخلق بكل حرف منه ملك يقول اللهم اغفر لمن قال آمين وفى الحديث **" الداعى والمؤمن شريكان "** يعنى به قوله تعالى**{ قد أجيبت دعوتكما }** يونس 89 قال عليه السلام **" اذا قال الامام ولا الضالين فقولوا آمين فان الملائكة تقولها فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه "** وسره ما مر فى كلام وهب اما الموافقة فقيل فى الزمان وقيل فى الاخلاص والتوجه الاحدى. واختلف فى هؤلاء الملائكة قيل هم الحفظة وقيل غيرهم ويعضده ما روى انه عليه السلام قال **" فان من وافق قوله قول اهل السماء "** ويمكن ان يجمع بين القولين بان يقولها الحفظة واهل السماء ايضا. قال المولى الفنارى فى تفسير الفاتحة ان الفاتحة نسخة الكمال لمن اخرج للاستكمال من ظلمة العدم والاستهلاك فى نور القدم الى انوار الروحانية ثم بواسطة النفخ الى عالم الجسمانية ليكمل مرتبة الانسانية التى لجمعيتها مظنة الانانية فاحتاج الى طلب الهداية الى منهاج العناية التى منها جاء ليرجع من الوجود الى العدم بل من الحدوث الى القدم فيفقد الموجود فقدانا لا يجده ليجد المفقود وجدانا لا يفقده ولما حصل لهم رتبة الكمال بقبول هذا السؤال كما قال ولعبدى ما سأل فاضافه الى نفسه بلام التمليك ثم ختم اكرم الا كرمين نسخة حالهم بخاتم آمين اشارة الى ان عباده المخلصين ليس لاحد من العالمين ان يتصرف فيهم بان يفك خاتم رب العالمين ولهذا ايس ابليس فقال
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ إلا عبادك منهم المخلصين }** الحجر 40 وعدد آيات سورة الفاتحة سبع فى قول الجمهور على ان احداها ما آخرها انعمت عليهم لا التسمية او بالعكس وعدد كلماتها، ففى التيسير انها خمس وعشرون وحروفها مائة وثلاثة وعشرون. وفى عين المعانى كلماتها سبع وعشرون وحروفها مائة واثنان واربعون وسبب الاختلاف بعد عدم إعتبار البسملة اعتبار الكلمات المنفصلة كتابة او المستقلة تلفظا واعتبار الحروف الملفوظة او المكتوبة او غيرهما. وسئل عطاء أى وقت انزلت فاتحة الكتاب قال انزلت بمكة يوم الجمعة كرامة اكرم الله بها محمد عليه السلام وكان معها سبعة آلاف ملك حين نزل بها جبريل على محمد عليهما السلام. روى ان عيرا قدمت من الشام لابى جهل بمال عظيم وهى سبع فرق ورسول الله واصحابه ينظرون اليها واكثر الصحابة بهم جوع وعرى فخطر ببال النبى صلى الله عليه وسلم شئ لحاجة اصحابه فنزل قوله تعالى**{ ولقد ءاتيناك سبعا من المثانى }** الحجر 87 اى مكان سبع قوافل لابى جهل لا ينظر الى ما اعطيناك مع جلالة هذه العطية فلم تنظر الى ما اعطيته من متاع الدنيا الدنية ولما علم الله ان تمنيه لم يكن لنفسه بل لاصحابه قال**{ ولا تحزن عليهم }** النحل 127 وامره بما يزيد نفعه على نفع المال فقال**{ واخفض جناحك للمؤمنين }** الحجر 88 فان تواضعك اطيب لقلوبهم من ظفرهم بمحبوبهم ومن فضائلها ايضا قوله عليه السلام **" لو كانت فى التوراة لما تهود قوم موسى ولو كانت فى الانجيل لما تنصر قوم عيسى ولو كانت فى الزبور لما مسخ قوم داود عليهم السلام وأيما مسلم قرأها اعطاه الله من الاجر كانما قرأ القرآن كله وكأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة "** ومن فضائلها ايضا ان الحروف المعجمة فيها اثنان وعشرون واعوان النبى صلى الله عليه وسلم بعد الوحى اثنان وعشرون وان ليست فيها سبعة احرف ثاء الثبور وجيم الجحيم وخاء الخوف وزاى الزقوم وشين الشقاوة وظاء الظلمة وفاء الفراق فمعتقد هذه السورة وقارئها على التعظيم والحرمة آمن من هذه الاشياء السبعة. وعن حذيفة رضى الله عنه انه عليه السلام قال **" ان القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبى من صبيانهم فى المكتب الحمد لله رب العالمين فيسمعه ويرفع عنهم بسببه العذاب اربعين سنة "** وقد مر ما روى من ايداع علوم جميع الكتب فى القرآن ثم فى الفاتحة فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير الكل ومن قرأها فكأنما قرأ الكل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
قال تفسير الكبير والسبب ان المقصود من جميع الكتب علم الاصول والفروع والمكاشفات وقد علم اشتمالها عليها. قال الفنارى وذلك لما علم ان اولها الى قوله تعالى**{ مالك يوم الدين }** الفاتحة 4. اشارة الى العقائد المبدئية المتعلقة بالإلهيات ذاتا وصفة وفعلا لان حصر الحمد يقتضى حصر الكمالات الذاتية والوصفية والفعلية ثم بالنبوات والولايات لانهما اجلاء النعم او اخصاؤها ثم الى العقائد المعادية لكونه مالكا للامر كله يوم المعاد واوسطها من قوله { اياك نعبد واياك نستعين } الى اقسام الاحكام الرابطة بين الحق والعبد من العبادات وذلك ظاهر من المعاملات والمزاجر لان الاستعانة الشرعية اما لجلب المنافع او لدفع المضار وآخرها الى طلب المؤمن وجوه الهداية المرتبة على الايمان المشار اليه فى القسم الاول والاسلام المشار اليه فى القسم الثانى وهى وجوه الاحسان اعنى المراتب الثلاث من الالخلاق الروحانية المحمودة ثم المراقبات المعهودة فى قوله عليه السلام **" أن تعبد الله كأنك تراه "** ثم الكمالات المشهودة عند الاستغراق فى مطالع الجلال الرافع لكاف التشبيه الذى فى ذلك الخبر والدافع لغضب تنزيه الجبر وضلال نسبة القدر وهذه هى المسماة بعلوم المكاشفات والله اعلم باسرار كلية المبطنات.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) | قلت: { صراط } بدل من الأول - بدل الكل من الكل - وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة، وفائدته: التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة، على آكد وجه وأبلغه لأنه جعله كالتفسير والبيان له، فكأنه من البيِّن الذي لا خفاء فيه، وأن الصراط المستقيم ما يكون طريق المؤمنين، و { غير المغضوب عليهم } بدل من { الذين } على معنى أن المُنْعَمَ عليهم هم الذي سَلِمُوا من الغضب والضلال. أو صفة له مُبيَّنة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من الغضب والضلال، وذلك إنما يصح بأحد تأويلين: إجراء الموصول مجرى النكرة، إذ لم يُقصد به معهود كالمعرَّف في قوله:
| **ولَقَد أَمُرُ علُى اللئيم يَسُبنّي** | | |
| --- | --- | --- |
أو يُجعل { غير } مَعْرِفةً لأنه أُضيف إلى مآلَهُ ضدٍّ واحد، وهو المنعمُ عليه، فيتعينُ تَعيُّن الحركة غير السكون، وإلا لزِم عليه نعت المعرفة بالنكرة. فتأملْهُ. والغضبُ: ثَوَرانُ النفس إرادةَ الانتقام، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد غايته وهو العقوبة، و { عليهم } نائب فاعل: و { لا } مَزيدة لتأكيد ما في { غير } من معنى النفي، فكأنه قال: ولا المغضوب عليهم ولا الضالين، وقرأ عمرُ رضي الله عنه: { وغير الضالين } ، والضلال: والعدول عن الطريق السوي عمداً أو خطأً، وله عرض عَريضٌ والتفاوت بين أدناه وأقصاه كبير. قاله البيضاوي. وإنما أَسند النعمة إلى الله والغضبَ إلى المجهول تعليماً للأدب،**{ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ... }** [النِّساء: 79] الآية. يقول الحقّ جلّ جلاله في تفسير الطريق المستقيم: هو طريق الذين أنعمتُ عليهم بالهداية والاستقامة، والمعرفة العامة والخاصة، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، والمُنعَم عليهم في الآية مطلق، يصدق كل منعَم عليه بالمعرفة والاستقامة في دينه، كالصحابة وأضرابِهِمْ، وقيل: المراد بهم أصحاب سيّيدنا موسى عليه السلام قبل التحريف. وقيل: أصحاب سيدنا عيسى قبل التغيير. والتحقيق أنه عام. قال البيضاوي: ونِعَمُ الله وإن كانت لا تُحصى كما قال الله:**{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ }** [إبراهيم: 34] تنحصر في جنسين: دنيوي وأخروي. فالأول: وهو الدنيوي - قسمان: موهبي وكَسْبِي، والموهبي قسمان: رُوحاني، كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوي، كالفهم والفكر والنطق، وجسماني: كتخليق البدن بالقوة الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء. والكسبي: كتزكية النفس عن الرذائل، وتحليتها بالأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحُلي المستحسنة، وحصول الجاه والمال. والثاني: وهو الأُخروي: أن يغفر له ما فَرَطَ منه ويرضى عنه ويُبوأهُ في أعلى علِّيين، مع الملائكة المقربين أبد الآبدين، والمراد القسمُ الأخير، وما يكون وُصْلة إلى نيله من القسم الأول، وأما ما عدا ذلك فيشترك فيه المؤمن والكافر.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
هـ. قال ابن جُزَيّ: النعم التي يقع عليها الشكر ثلاثة أقسام، دنيوية: كالصحة والعافية والمال الحلال. ودينية: كالعلم والتقوى والمعرفة. وأخرويةٌ: كالثواب على العمل القليل بالعطاء الجزيل: وقال أيضاً: والناس في الشكر على مقامين: منهم مَن يشكر على النعم الواصلة إليه، الخاصة به، ومنهم مَن يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم. والشكر على ثلاث درجات: فدرجة العوام، الشكر على النعم، ودرجة الخواص: الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص: أن يغيب عن رؤية النعمة بمشاهدة المُنعم. قال رجل لإبراهيم بن أدهَمَ رضي الله عنه: الفقراء إذا أُعْطُوا شَكَرُوا وإذا مُنعوا صَبَبروا، فقال إبراهيم: هذه أخلاقُ الكلاب، ولكن القومَ إذا مُنِعوا شكروا وإذا أُعْطُوا آثروا. هـ. ثم احترس من الطريق غير المستقيمة، فقال: { غير المغضوب عليهم } أي: غير طريق الذين غضبت عليهم، فلا تهدنا إليها ولا تسلك بنا سبيلها، بل سلَّمنَا من مواردها. والمراد بهم: اليهود، كذا فسرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَصْدُقُ بحسب العموم على كل من غضب الله عليهم، { ولا الضالين } أي: ولا طريق الضالين، أي: التالفين عن الحق، وهم النصارى كما قال صلى الله عليه وسلم. والتفسيران مأخوذان من كتاب الله تعالى. قال تعالى في شأن اليهود:**{ فَبَآءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ }** [البَقَرَة: 90]، وقال في حق النصارى:**{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ }** [المَائدة: 77 }. واعلم أن الحق - سبحانه - قسم خلقه على ثلاثة أقسام: قسم أعدَّهم للكرم والإحسان، ليُظْهِرَ فيهم اسم الكريم أو الرحيم، وهو المنعم عليه بالإيمان والاستقامة. وقسم أعدَّهم للانتقام والغضب، ليُظهر فيهم اسمه المنتقم أو القهار، وهم المغضوب وعليهم والضالون عن طريق الحق عقلاً أو عملاً، وهم الكفار، وقسم أعدَّهم الله للحِلْم والعفو، ليُظهر فيهم اسمه تعالى الحليم والعفو، وهم أهل العصيان من المؤمنين. فمن رَامَ أن يكونَ الوجودُ خالياً من هذه الأقسام الثلاثة، وأن يكون الناس كلهم سواء في الهداية أو ضدها، فهو جاهل بالله وبأسمائه إذ لا بد من ظهور آثار أسمائه في هذا الآدمي، من كرم وقهرية وحِلْم وغير ذلك. والله تعالى أعلم. الإشارة: الطريق المستقيم التي أمرنا الحق بطلبها هي: طريق الوصول إلى الحضرة، التي هي العلم بالله على نعت الشهود والعيان، وهو مقام التوحيد الخاص، الذي هو أعلى درجات أهل التوحيد، وليس فوقه إلا مقامُ توحيد الأنبياء والرسل، ولا بد فيه من تربية على يد شيخ كامل عارف بطريق السير، قد سلك المقامات ذوقاً وكشفاً، وحاز مقام الفناء والبقاء، وجمع بين الجذب والسلوك لأن الطريق عويص، قليلٌ خُطَّارُهُ، كثيرٌ قُطَّاعُه، وشيطانُ هذا الطريق فَقِيهٌ بمقاماته ونوازِله، فلا بد فيه من دليل، وإلا ضلّ سالكها عن سواء السبيل، وإلا هذا المعنى أشار ابن البنا، حيث قال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| **وَإِنَّمَا القَوْمُ مُسَافِرُونَ لِحَضْرَةِ الْحَقِّ وَظَاعِنُونَ فَافْتَقَرُوا فِيهِ إلَى دَلِيل ذِي بَصَرٍ بالسَّيْرِ وَالْمَقِيلِ قَدْ سَلَكَ الطَّرِيقَ ثُمَّ عَادَ لِيُخْبِرَ الْقَوْمَ بِمَا اسْتَفَادَ** | | |
| --- | --- | --- |
وقال في لطائف المنن: من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع، ويكشف له عن قلبه القناع، فهو في هذا الشأن لَقيطٌ لا أب له، دَعِيٍّ لا نَسَبَ له، فإن يكن له نور فالغالب غلبة الحال عليه، والغالب عليه وقوفه مع ما يرد من الله إليه، لم تَرْضْهُ سياسةُ التأديب والتهذيب، ولم يَقُدْهُ زمَانمُ التربية والتدريب، فهذا الطريق الذي ذكرنا هو الذي يستشعره القارئ للفاتحة عند قوله: { اهدنا الصراط المستقيم } مع الترقي الذي ذكره الشيخ أو العباس المرسي رضي الله عنه المتقدم، وإذا قرأ { صراط الذين أنعمت عليهم } استشعر، أَيْ: أنعمتَ عليهم بالوصول والتمكين في معرفتك. وقال الورتجبي: اهدنا مُرَادَك مِنَّا لأن الصراط المستقيم ما أراد الحق من الخلق، من الصدق والإخلاص في عبوديته وخدمته. ثم قال: وقيل: اهدنا هُدَى العِيَانِ بعد البيان، لتستقيم لك حسب إرادتِك. وقيل: اهدنا هُدَى مَنْ يكون منك مبدؤه ليكون إليك منتهاه. ثم قال: وقال بعضهم: اهدنا، أي: ثبِّتْنا على الطريق الذي لا اعوجاج فيه، منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة والمحبة وحسن الأدب في الخدمة. ثم قال: وقال بعضهم: اهدنا، أي: ثبِّتْنا على الطريق الذي لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام، وهو الطريق المستقيم والمنهاج القويم { صراط الذين أنعمت عليهم } أي: منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة والمحبة وحسن الأدب في الخدمة. ثم قال: { غير المغضوب عليهم } يعني: المطرودين عن باب العبودية، { ولا الضالين } يعني المُفْلِسين عن نفائس المعرفة. هـ. قلت: والأحسن أن يقال: { غير المغضوب عليهم } هم الذين أَوْقَفَهُمْ عن السير اتباعُ الحظوظ والشهوات، فأوقعهم في مَهَاوِي العصيان والمخالفات، { ولا الضالين } هم الذين حبسهم الجهل والتقليد، فلم تنفُذْ بصائرهم إلى خالص التوحيد، فنكصوا عن توحيد العيان إلى توحيد والبرهان، وهو ضلال عند أهل الشهود والعِيان، ولو بلغ في الصلاح غايةَ الإمكان. وقال في الإحياء: إذا قلت: { بسم الله الرحمن الرحيم } فافْهَمْ أن الأمور كلها بالله، وأن المراد ها هنا المُسمَّى، وإذا كانت الأمورُ كلها بالله فلا جرَم أنَّ الحمد كله لله، ثم قال: وإذا قلت: { الرحمن الرحيم } فأحضرْ في قلبك أنواعَ لطفه لتتفتحَ لك رحمتُه فينبعث به رجاؤُك، ثم استشعر من قلبك التعظيم والخوف من قولك: { يوم الدين }. ثم قال: ثم جَدَّد الإخلاص بقولك: { إياك نعبد }. وجدَّد العجز والاحتياج والتبرِّيَ من الحوْل والقوة بقولك: { وإياك نستعين } ، ثم اطلب اسم حاجتك، وقل: { اهدنا الصراط المستقيم } الذي يسوقنا إلى جوارك ويُفضي بنا إلى مرضاتك، وزِدْهُ شرحاً وتفصيلاً وتأكيداً، واستشهد بالذين أفاض عليهم نعم الهداية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، دون الذين غضب عليهم من الكفار والزائغين واليهود والنصارى والصابئين. هـ. ملخصاً. وقال القشيري: قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم } الأمر في هذه الآية مضمر، أي: قولوا: اهدنا. والصراط المستقيم: طريق الحق، وهو ما عليه أهل التوحيد، أي: أرشدْنا إلى الحق لئلا نتكل على وسائط المعاملات، فيقعَ على وجه التوحيد غُبَارُ الظنون والحسابات لتكون دليلنا عليك، ثم قال: { صراط الذين أنعمت عليهم } أي: الواصلين بك إليك، ثم قال: { غير المغضوب عليهم } بنسيان التوفيق والتَّعامِي عن رؤية التأييد، { ولا الضالين } عن شهودِ سابقِ الاختيار، وجريان تصاريف الأقدار. هـ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) | الاعراب:
أجمع المفسرون والقراء على جر { غير } لأنها نعت للذين، وانما جاز أن تكون نعتاً للذين، والذين معرفة وغير نكرة لأن الذين بصلتها ليست بالمعرفة كالأسماء المعية التي هي أعلام كزيد وعمرو وانما هي كالنكرات اذا عرّفت كالرجل والبعير فلما كانت الذين كذلك كانت صفتها كذلك ايضاً وجاز ان تكون نعتاً للذين، كما يقال لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل، ولو كانت بمنزلة الأعلام لما جاز، كما لم يجز في قولهم: مررت بزيد غير الظريف، فلا يجرها على انها نعت، وان نصبتها في مثل هذا جاز على الحال. ويحتمل ايضاً ان تكون مجرورة لتكرير العامل الذي خفض الذين فكأنك قلت: صراط الذين انعمت عليهم، صراط غير المغضوب عليهم ويتقارب معناهما لأن الذين انعمت عليهم هم الذين لم يغضب عليهم وقرىء في الشواذ غير المغضوب عليهم بالنصب، ووجهها ان تكون صفة للهاء والميم اللتين في عليهم، العائدة على الذين؛ لانها وان خفضت بعلى فهي موضع نصب بوقوع الانعام عليها، ويجوز ان يكون نصباً على الحال وقال الاخفش والزجّاج: انها نصب على وجه الاستثناء من معاني صفة الذين أنعمت عليهم، وتقديره: إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم إلا المغضوب عليهم الذين لم تنعم عليهم في اديانهم فلا تجعلنا منهم، ويكون استثناء من غير جنس كما قال النابغة للذبياني:
| **وقفت فيها أصيلا لا اسائلها** | | **أعيت جوابا وما بالربع من أحد** |
| --- | --- | --- |
| **إلا الاواري لأيا ما ابينها** | | **والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد** |
وقال الفرّاء: وتغلب هذا خطأ، لأنه لو كان كذلك لما قال: ولا الضالين لأن لا نفي وجحد. ولا يعطف على جحد إلا بجحد، ولا يعطف بالجحد على الاستثناء وانما يعطف بالاستثناء على استثناء وبالجحد على الجحد. يقولون قام القوم إلا أخاك وإلا أباك ولا قام أخوك ولا أبوك، ولا يقولون ما قام القوم إلا أخاك ولا أباك، فعلى هذا تكون { غير } بمعنى: لا فكأنه قال لا المغضوب عليهم ولا الضالين. قال الرماني: من نصب على الاستثناء جعل لا صلة، كما انشد ابو عبيدة
| **في بئر لا حور سرى وما شعر** | | |
| --- | --- | --- |
أي في بئر هلكة.
{ والمغضوب عليهم } هم اليهود عند جميع المفسرين الخاص والعام، لأنه تعالى قد أخبر انه غضب عليهم وجعل فيهم القردة والخنازير، { ولا الضالين } هم النصارى لأنه قال:**{ وضلوا عن سواء السبيل }** وقال { لعن الذين كفروا } يعني النصارى. وروي ذلك عن النبي (صلى الله عليه وسلم). وقال بعضهم لا: زائدة تقديره: غير المغضوب عليهم والضالين كما قال:**{ ما منعك أن لا تسجد }** أي معناه أن تسجد قال ابو النجم:
| **فما ألوم البيض ألا تسخرا** | | **لما رأين الشِّمط القفندرا** |
| --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
يعني أن تسخر. وتكون غير بمعنى سوى. وقد بينا ضعف هذا عند الكوفيين لما مضى، ولأنه انما يجوز ذلك اذا تقدمه نفي كقول الشاعر:
| **ما كان يرضى رسول الله فعلهم** | | **والطيبان ابو بكر ولا عمر** |
| --- | --- | --- |
واما الغضب من الله فهو ارادة العقاب المستحق بهم، ولعنهم وبراءته منهم واصل الغضب الشدة ومنه الغضبة الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل المخالفة له ورجل غضوب شديد الغضب والغضوب الحية الخبيثة لشدتها والغضوب الناقة العبوس واصل الضلال الهلاك ومنه قوله { أإذا ضللنا في الأرض } أي هلكنا ومنه قوله تعالى { وأضل أعمالهم } أي أهلكها. والضلال في الدين الذهاب عن الحق والاضلال الدعاء إلى الضلال والحمل عليه ومنه قوله تعالى:**{ وأضلهم السامري }** والاضلال الاخذ بالعاصين إلى النار والاضلال الحكم بالضلال والاضلال التحيير بالضلال بالتشكيك لتعدل عنه. واليهود ـ وان كانوا ضلالا ـ والنصارى ـ وان كانوا مغضوباً عليهم - فانما خص الله تعالى كل فريق منهم بسمة يعرف بها ويميز بينه وبين غيره بها وان كانوا مشتركين في صفات كثيرة وقيل انه أراد بـ { المغضوب عليهم ولا الضالين } جميع الكفار وانما ذكروا بالصفتين لاختلاف الفائدتين
وروى جابر ابن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال الله تعالى: **" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي فله ما سأل فاذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال حمدني عبدي واذا قال الرحمن الرحيم قال أَثنى عليّ عبدي، واذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي ثم قال هذا لي وله ما بقي "** ولا يجوز عندنا ان يقول القارىء عند خاتمة الحمد: آمين فان قال ذلك في الصلاة متعمداً بطلت صلاته لانه كلام لا يتعلق بالصلاة، ولأنه كلام لا يستقل بنفسه وانما يفيد اذا كان تأميناً على ما تقدم ومتى قصد بما تقدم الدعاء لم يكن تالياً للقرآن، فتبطل صلاته وان قصد التلاوة لا يكون داعياً فلا يصح التأمين وان قصدهما فعند كثير من الاصوليين ان المعنيين المختلفين لا يصح ان يردا بلفظ واحد ومن اجاز ذلك ـ وهو الصحيح ـ منع منه لقيام الدلالة على المنع من ذلك فلأجل ذلك لم يجز.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) | قوله جل اسمه:
{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }
صفة للأول أو بدلٌ عنه بدل الكلّ
والفرق بين الصفة والبدل، أنّ البدل في حكم تكرير العامل من حيث انّه المقصود بالنسبة، كتكرير الجار في قوله تعالى:**{ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ }** [الأعراف:75]. بخلاف الصفة، فكأنّه قال: اهدنَا صراطَ الذين أنعمت عليهم. وفائدته التوكيد المنفهم من التثنية، والتنصيص على أنّ طريق المؤمنين هو المشهود عليه بالاستقامة المُفضي لسالكه إلى المطلوب على أبلغ وجه وآكده، فإنّك إذا قلت مثلاً: " هل ادلّك على أعلم الناس وأفضلهم؛ فلان " فكأنّك قد ثنّيت ذكرَه أولاً إجمالاً، وثانياً تفصيلاً، وجعلت اسمه كالتفسير والبيان لنعته المذكور، أولاً إشعاراً بأنّه من البيّن الذي لا خفاء فيه، فجعلته علَماً في العِلم والفضيلة فيكون ذلك أبلغ من قولك: هل أدلّك على فلانٍ الأعلم الأفضل.
فها هنا قد وقع الإشعار بأن الطريق المنعوت بالاستقامة هو طريق المؤمنين المنعَم عليهم على أبلغ الوجوه وآكده.
و " الذين " موصول و " أنعمت عليهم " صلته. وقد تمّ بها إسماً مفرداً يكون في موضع الجرّ باضافة صراطٍ اليه، ولا يقال في موضع الرفع " اللذون " لأنّه اسم غير متمكّن.
وقد حكى ذلك شاذاً، كما حكي " الشياطون " في حال الرفع، وقرأ عمر بن الخطاب وعمرو بن عبد الله الزبيري: صراط من أنعمت عليهم، وهو المروي عن أهل بيت النبيّ عليه وعليهم السلام.
وقيل: المراد بالمنعَم عليهم هم الأنبياء. وقيل: النبي (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام). وعن ابن عباس: هم أصحاب موسى (عليه السلام). وقيل: أصحاب موسى وعيسى (عليهما السلام) قبل التحريف والنسخ.
وقرأ ابن مسعود: صراطَ من أنعمت عليهم.
وأصل النَعمة، هي الحالة التي يستلذّها الإنسان، فاطلقت لما يستلذّه من النَعمة وهي اللّين.
وفي مجمع البيان: أصلها المبالغة والزيادة يقال دققت الدواء فأنعمت دقّة.
وأما ما يراد في العرف من النعمة، ويسمى به، فكلّ خير ولذّة وسعادة، بل كلّ مطلوب ومؤثَر يسمّى نَعمةً عند الناس، وهذه تختلف بالإضافة، فَرُبّ نعيم لأحد يكون أليماً لآخر.
وأما النعمة الحقيقية، فهي السعادة الأخرويّة، وأصلها المعرفة بالله وملكوته، ولها صورةٌ وروحٌ وسرٌّ، فصورتها الإسلام والإذعان، وروحها الايمان والإحسان، وسرّها التوحيد والايقان.
فحكم الاسلام متعلّقٌ بظاهر الدنيا، والايمان بباطنها وباطن النشأة الظاهرة، والإحسان للحكم البرزخي ونشأته، وإليه الاشارة بقوله (صلّى الله عليه وآله): **" الإحسانُ أن تعبدَ الله كأنكَ تَراه "** ، هذا هو المشهود في الاستحضار البرزخي، وسرّ التوحيد وعين اليقين مختصّ بالآخرة، فافهم ما أدرجتُ لك من أسرار الشريعة في طيّ هذه الكلمات الوجيزة، تعلم أنّ كلّ شيء فيه كلّ شيء والله المرشد.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقد يكون اسم النعمة لغيرها صدقاً، ولكن من حيث يفضي إلى النعمة الحقيقيّة من الأسباب المعينة واللذّات المسماة نعمة مما نوضحها ونشرحها بهذه التقاسيم.
القسمة الأولى: إن الأشياء كلّها بالاضافة إلينا على أربعة اقسام: الضروري النافع، والنافع الغير الضروري، وعكسه، والذي لا ضرورة فيه ولا نفع.
أما الأول: فهو إما في الدنيا، وهو كالنَفس، فإنه لو انقطع منك لحظةً واحدة مات القلبُ. وإما في الآخرة، وهو معرفةُ الله فإنها إن زالت عن القلب المعنوي لحظة مات القلبُ واستوجب العذاب الابدي.
وأما الثاني: فهو كالمال في الدنيا، وسائر العلوم والمعارف في الآخرة.
وأما الثالث: فهو كالمضارُ التي لا بدّ منها، كالموت والهرم والمرض، ولا نظير لهذا القسم في الآخرة، فإن منافع تلك الدار لا يلزمها شيء من المضارّ.
وأما الرابع: فهو كالفقر في الدنيا، والجهل والعذاب في الآخرة.
إذا عرفت هذا التقسيم فنقول: أعظم نِعَم الله علينا الهداية بالمعرفة، فإنّا قد ذكرنا أنّه كما انّ النَفَس في الدنيا ضروريٌّ نافع، وبانقطاعه يموت القلب، فكذا المعرفة في الآخرة، فلو زالت عن القلب لحظة لهلَك، لكن الموت الأول أسهل من الثاني، لأنّه لا يتألّم فيه إلا ساعة واحدة، وأما الموت الثاني فإنّه يبقى أبد الآباد فأى نعمة أعظم وأشرف من نعمة الايمان.
ثمَّ ها هنا دقيقة؛ لا تخفى عليك انّه كما انّ التنفّس له أثران: إدخال النسيم الطيّب على القلب، وإبقاء اعتداله وسلامته، وإخراج الهواء الفاسد الردي الحارّ المحترق عن القلب؛ كذلك الفكر، له أثران: أحدهما: ايصال نسيم الحجّة وروح البرهان وبرْد اليقين الى القلب الحقيقي، وابقاء اعتدال الايمان والمعرفة عليه، والثاني: إخراج الأهوية الفاسدة والإعتقادات المؤلمة المتولَّدة من نيران الشبهات عنه، وما ذلك إلاّ بأن يعرف أنّ هذه المحسوسات الدنيويّة فانية منتهية إلى الفناء بعد وجودها، فمَن وقفَ على هذا علم إنّ أجلّ ما أنعمه الله على عبده، تجريده عن المحسوسات، وتنوير قلبه بالمعارف الإلهيات.
الثانية: إنّ الأمور كلّها بالنسبة إلينا تنقسم الى ما هو نافع في الدنيا والآخرة جميعاً كالعلم وحُسْن الخُلْق، وإلى ما هو ضار فيهما كالجهل وسوء الخُلْق، وإلى ما ينفع في الحال ويضرّ في المآل كالتلذّذ باتّباع الشهوات، وإلى ما هو عكس ذلك كقمْع الشهوات ومخالفة النفْس.
الثالثة: إعلم أنّ النعم والخيرات باعتبار آخر، تنقسم الى ما هي مؤثَرة لِذَاتها، وإلى ما هي مؤثَرةٌ لغيرها، وإلى ما هي مؤثرة لذاتها ولغيرها.
فالأول: كلذّة النظر إلى وجه الله، وسعادة لقائه، وبالجملة سعادة الآخرة التي لا انقضاء لها، فإنّها لا تُطلب ليُتوصّل بها الى غاية اخرى مقصودةٍ وراءَها، بل تطلب لِذَاتِها.
والثاني: كالدراهم والدنانير، إذ لا فائدة فيها إلاّ كونها وسيلةً لأمر آخر.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثالث: كالصّحة والسلامة، فإنّها تقصد ليقدر بسببها على التفكّر والتذكّر الموصلَين الى لقاء الله، وليتوصّل بها إلى الذّات الدنيا، وتقصد أيضاً لِذاتِها، فإنّ الإنسان وإن استغنى عن المشي الذي يراد سلامة الرِجْل لأجله، فيريد أيضاً سلامة الرِجْل من حيث إنّها سلامة، لأنها أمر وجودي بلا ضرر، فيكون مطلوباً، إذ الوجود الذي لا ضرر فيه خيرٌ محض مؤثر لذاته. فاذن المؤثر لِذَاتِهِ فقط هو الخير والنعمة تحقيقاً، وما يؤثَر لذاته ولغيره فهو نعمة أيضاً، ولكن دون الأول، إذ المؤثَر لأجل أمر آخر لا يخلو من نقص، لأن ما لا نقص له أصلاً لو أريد لشيء آخر - ولو بوجه - لكان ذلك الشيء خيراً منه من ذلك الوجه، فلم يكن بريئاً من كل نقص بكلّ وجهٍ، وقد فرضنا كذلك وهذا خُلْفٌ، وأما ما لا يؤثَر إلا لغيره كالنقدين، فلا يوصفان في أنفسهما من حيث إنّهما جوهران بأنّهما نعمة، بل من حيث هما وسيلتان، وربما لا يكونان وسيلة في حق بعض بل بلاء وآفة، فلا يكونان نعمة، وكذلك أمور هذا العالَم.
الرابعة: إنّ الخيرات باعتبار آخر، تنقسم إلى نافعٍ وجميلٍ ولذيذٍ، فاللذيذُ هو الذي تُدرك راحته في الحال، والنافع هو الذي يفيد في المآل، والجميل هو الذي يستحسن في سائر الأحوال.
والشر أيضاً قد ينقسم إلى ضارّ وقبيح ومؤلم، وكل واحد من القسمين ضربان: مطلقٌ ومقيّد. فالمطلق؛ هو الذي اجتمعت فيه الأوصاف الثلاثة، أما في الخير فكالعلم والحكمة، فإنّها نافعة وجميلة ولذيذة عند أهل العلم والحكمة، وأما في الشرّ فكالجهل المركّب، فإنّه ضارّ وقبيح ومؤلم، وإنّما لا يحس الجاهل بألم جهله، لشواغل الدنيا وغطاء الطبيعة. والمقيّد؛ هو الذي فيه بعض هذه الأوصاف دون بعض.
فربّ نافعٍ مؤلمٍ كقطع الإصبع المتآكلة، وربّ نافع قبيح كالحُمق، فإنّه يوجب استراحة الأحمق في الحال إلى أن يجيء وقتُ هلاكه في المآل، ولذلك قيل: استراح من لا عقل له.
الخامسة: وهي الحاوية لمجامع النعم. اعلم أنّ النعَم تنقسم إلى ما هي غاية مطلوبة لذاتها، وإلى ما هي مطلوبة لغيرها. أما الغاية فهي السعادة، ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور: بقاءٌ لا فناء له، وسرورٌ لا غمّ فيه، وعلمٌ لا جهل معه، وغنىً لا فقر معه؛ وهي النعمة الحقيقية. وغيرها يراد لأجلها ولذلك قال النبي (صلّى الله عليه وآله): **" لا عيش إلاّ عيش الآخرة ".** وأما الوسائل؛ فتنقسم الى الأقرب الأخصّ، كفضائل النفس. وإلى ما يليه في القُرب، كفضائل البدن. وإلى ما يليه في القُرب ويجاوز إلى غير البدن كالأسباب المطيفة بالبدن من المال والأهل والعشيرة. والى ما يجمعُ بين هذه الأسباب الخارجة عن النفس وبين الحاصلة لها، كالتوفيق والهداية. فهي إذن من أربعة أنواع.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
أما النوع الأول: فيرجع حاصلها - مع انشعاب أطرافها - إلى الايمان والعدالة. أما الايمان فهو العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأما العدالة وهي حسن صورة الباطن، فعبارة عن تهذيب الأخلاق، وتصفية القلب عن الرذائل، وصرْف القُوى الشهويّة والغضبية والوهميّة فيما خلقت لأجله حتى يكون شجاعاً لا متهوّراً، ولا جباناً، ويكون عفيفاً لا فاجراً ولا خاملاً، ويكون حكيماً لا مكّاراً ولا أبله، فالفضائل المختصّة بالنفس المقرّبة الى الله علم مكاشفة وعلمُ معاملةٍ، وحسْن خُلْقٍ وحُسْن سياسةٍ. ولا تتمّ هذه النعمة في غالب الأمر إلاّ بالنوع الثاني وهي الفضائل البدنيّة. وهي أربعة: الصحّة، والقوّة، والجمال، وطول العمْر، ولا تتهيّأ هذه الأمور البدنيّة إلا بالنوع الثالث وهي النعم الخارجة المطيفة بالبدن وهي أربعة: المال والأهل والجاه وكرم العشيرة. ولا يُنتفع بشيء من هذه الأسباب الخارجة البدنيّة إلاّ بالنوع الرابع من النعم، وهي أربعة: هداية الله ورشده وتسديده وتأييده.
فمجموع مجامع النعم ستّة عشر، وهذه الجملة يحتاج البعض منها إلى الآخر، إمّا حاجة ضروريّة، أو نافعة. ولو أخذنا في بيان الحاجة لطريق الآخرة إلى كلّ واحد واحد من الأقسام التي ذكرناها من النعم النفسية والبدنيّة والخارجة عنها كالمال والجاه والأهل والنسب، لطال الكلامُ، لكن أخفى النعم البدنية في كونها محتاجاً إليها هو الجمال، وأخفى النعم الخارجة في ذلك هو النسب، فلنبيّن وجهَ الحاجة إليهما.
أما الجمال؛ فلا يخفى نفعه في الدنيا، فإنّ الطبائع من القبيح مستنفرة، وحاجات الجميل أقرب الى الإجابة، وجاهه أوسع في الصدور، وكلّ معينٍ في الدنيا معينٌ في الآخرة، ولأن الجمال في الأكثر يدلّ على فضيلة النفس، لأن نور النفس إذا تمّ اشراقُه تأدّى الى البدن، فالمنظَر والمخبَر كثيراً ما يتلازمان، ولذلك عوّل أصحابُ الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيئات البدن وقالوا: الوجهُ والعين مرآة الباطن، وقيل: الروح إن أشرقَ على الظاهر فصباحةٌ، وإن أشرقَ على الباطن ففصاحةٌ. ولذلك قال (صلّى الله عليه وآله): **" اطلبوا الخيرَ عند حِسان الوجوه "** وقال الفقهاء: إذا تساوت درجاتُ المُصَلّين، فأحسنهم وجهاً أولاهم بالامامة. وقال سبحانه ممتناً بذلك:**{ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ }** [البقرة:247]. وليس المعنى ما يحرّك الشهوة، فإنّ ذلك أنوثيّة، بل تناسب الأعضاء واعتدال الخِلقة.
وأمّا النَسَب، فكرم العشيرة نعمة جليلة، ولذلك قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) **" الأئمّةُ من قريش "** ، ولذلك كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أَكْرم ارُومَة في نسب آدم. ولذلك قال (صلّى الله عليه وآله): **" تخيَّروا لنُطفِكم "** ، وقال: **" وإيّاكم وخضْراءُ الدمن فقيل: وما خضراءُ الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء ".** فإن قلت: فما معنى النعم التوفيقية الراجعة إلى الهداية والرشد والتأييد والتسديد؟. فنقول: التوفيق، عبارة عن التأليف بين إرادة العبد وبين قضاء الله وقدَره، ويستعمل في الخير والسعادة، ولا خفاء في الحاجة إليه، ولذلك قيل:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| **إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى** | | **فأكثر ما يجني عليه اجتهاده** |
| --- | --- | --- |
وأمّا الهداية، فلا سبيل لأحد الى سعادة الآخرة إلاّ بها، لأن داعية الإنسان قد تكون مائلةً إلى ما فيه صلاح آخرته، ولكن إذا كان جاهلاً به فمِن أين ينفعه مجرد الإرادة؟ فلا فائدة في الإرادة والقُدرة وسائر الأسباب إلاّ بعد الهداية، ولذلك قال تعالى:**{ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ }** [طه:50]. وقال**{ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ }** [النور:21].
وللهُدى ثلاث مراتب:
الأولى: معرفة طريق الخير والشرّ المشار إليه بقوله تعالى:**{ وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ }** [البلد:10]. وقد أنعم الله به على كافّة الخَلْق، بعضه بالعقل، وبعضه على لسان الكتب والرسل ولذلك قال:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصلت:17]. فأسباب ٱلهدىٰ هي الكتب والرسل وبصائر العقول، وهي مبذولة للجميع، ولهذا كُلّفوا بتكليف واحدٍ، وتساووا في أسباب سلوك طريق النجاة بهذه الهداية العامّة.
المرتبة الثانية: هي التي يمدّ الله بها العبد حالاً بعد حالٍ، وهي ثمرة المجاهدة حيث قال:**{ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }** [العنكبوت:69]. وهو المراد بقوله:**{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى }** [محمد:17].
والمرتبة الثالثة: وراء الثانية، وهي النور الذي يشرق في عالَم الولاية بعد كمال المجاهدة، فيهتدي بها الى ما لا يهتدى إليه بالعقل الذي يحصل به التكليف، وامكان تعلّم العلوم، وهو الهُدى المطلق، وما عداه حجابٌ له، ومقدمات، وهو الذي شرّفه الله تعالى بتخصيص الإضافة إليه، وإن كان الكلّ من جهته فقال:**{ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ }** [البقرة:120]. وهو المسمّى حياة في قوله:**{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ }** [الأنعام:122]. وبقوله:**{ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ }** [الزمر:22].
ووجه انحصار مراتب الهدى في الثلاث: انّ كلّ مقامٍ من مقامات الايمان ومنزلٍ من منازل السالكين ينتظم من أمورٍ ثلاثة: أعمال، وأحوال، وأنوار هي معارف. ولا بدّ لكلّ منها من هداية تخصّ به.
وأما الرشد، فيعني به العناية الإلهيّة التي تعين الإنسان عند توجّهه إلى مقاصده فيقوّيه على ما فيه صلاحه، ويفترّه عمّا فيه فسادُه، ويكون ذلك من جانب الباطن كما قال تعالى:**{ وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ }** [الأنبياء:51]. فالرشْد عبارة عن هداية باعثة الى جهة السعادة، محرّكة للعبد إيّاها، فهو بهذا الاعتبار أكمل من مجرّد الهداية الى وجوه الأعمال، وكم من مهتدٍ غير رشيدٍ، فهي نعمةٌ عظيمة.
وأمّا التسديد؛ فهو توجيه حركاته الى صوب المطلوب، وتيسيرها عليه ليشتدّ في صوب الصواب في أسرع وقت، فكما أنّ أصل الهداية لا يكفي، بل لا بدّ من هدايةٍ محركّةٍ للداعية، وهي الرشد، فكذا الرشْدُ، لا يكفي، بل لا بدّ من تيسير الحركات بمساعدة الآلات حتّى يتّصلَ بما انبعثت الداعية إليه، فالهداية محض التعريف، والرشد هو تنبية الداعية لتستيقظ وتتحرك، والتسديد إعانة ونُصرة بتحريك الأعضاء في صوب السداد.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأمّا التأييد؛ فكأنه جامع للكلّ، وهو عبارة عن تقوية أمره بالبصيرة من داخل، وتقوية البطش ومساعدة الأسباب من خارج، وهو المعنيّ بقوله تعالى:**{ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ }** [المائدة:110].
وتقرُبُ منه العصمة، وهي عبارة عن جوهر إلهي يسنح في الباطن، يقوى به الإنسان على تحرّي الخير وتجنّب الشرّ، حتّى يصير كمانع من باطنه غير محسوس، وإيّاه عنى بقوله:**{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ }** [يوسف:24].
فهذه هي مجامع النعم، ولن تستتبّ إلاّ بما يخوّله الله من الفهم الثاقب، والذهنا الصافي، والسمع الواعي، والقلب البصير، والطبع المتواضع، والمعلّم الناصح، والمال الزائد على ما يقصر عن المهمات بقلّته، القاصر عمّا يشغل عن الدين بكثرته، والعزّ الذي يصونه عن سفه السفهاء وتسلّط الأعداء، ويستدعي كلّ واحد من هذه النعم الستة عشر أسباباً، وتستدعي تلك الأسباب أسباباً، وهكذا إلى أن تنتهي بالآخرة إلى مسبّب الأسباب وربّ الأرباب، دليل المتحيّرين ملجأ المضطرّين.
وإذا كانت تلك الأسباب متسلسلة طويلة لا يمكن الاستقصاء فيها، فلنصرف عنان القلم عن ذكرها لخروجها عن الحصر والإحصاء، فإنّ صحّة البدن من جملتها نعمة من النعم الواقعة في الرتبة المتأخّرة، ولو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمّت هذه النعمة، لم نقدر عليها، لأنّ الأكل مثلاً، أحد أسباب الصحّة، وهو متوقّف على أسباب غير محصورة بها تتمّ نعمة الأكل، إذ لا يخفى انّ الأكْل فِعْلٌ، وكل فعَلٍ من هذا العالَم حركة إرادية، وكل حركة إرادية لا بدّ لها من جسمٍ متحرّك هو آلتها، ولا بدّ لها من قدرة على الحركة، ولا بدّ لها من إرادة والإرادة متوقّفة على العلم بالمراد، والعلم صورة نفسانيّة ونقش باطنيّ لا بدّ لها من قابل ومنقوش به، وهو لوح النفس، ومن فاعل ناقش، وهو مَلَك روحانيٌ مستفيد من مَلَك فوقه، وهكذا إلى مالك الملكوت.
ثمّ لا بدّ للآكْل من مأكول، وهو جسمٌ مركب من أصول متخالفة الطبائع والأمكنة والأحوال، ولا بدّ لها من أسباب تجمعها وتجبرها على الالتيام، وتحفظها على مزاج تتهيّأ صورة التمام، ولا بدّ لتلك الأصول من أمكنة تتكوّن فيها، وجَهاتٍ تتوجّه إليها عند خروجها، وأزمنةٍ تتحرّك فيها، ولا بدّ للأمكنة والأزمنة الموجودة للأجسام المستقيمة الحركة من محدّد مطيف بها تتعيّن به جهات أمكنتها، وحدود أزمنتها، فيكون المحدد من جنس جملة الأجرام الأكريّة الدائمة الحركة إلى أن يشاء الله.
ولا بدّ لها من أسباب محرّكة على سبيل المباشرة والمزاولة، ولأسبابها أسباب اخرى محرّكة على سبيل التشويق والامداد والعناية، إذ ليست حركتها شهويّة أو غضبيّة لتكون حيوانيّة محضة، ولا مجازفة أو وهميّة محضة طلباً لثناءٍ أو حُسْنِ ذكْر أو صيت، أو نفعاً للسافل، بل حركة شوقيّة علويّة، وخدمة إلهيّة، وطاعة ربّانية، فلها ملائكة تديرها، وفوقها ملائكة أخرى تدبّرها وتشوّقها طلباً لبارئ الكلّ وتشوّقاً إليه، وطاعة له على وجه يلزمها رشح الخَير الدائم على الأداني والأسافل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ثمّ لا بدّ للمأكول من صانعٍ يُصلحه، ولا بدّ من أسباب لإصلاحه، من أرضٍ ينبت فيها، وهواءٍ يصلح لها، وحرارةٍ تنضجها، وماء يسقيها، والماء لا يتحرّك بنفسه من مكانه كالبحْر، فلا بدّ لحركته من أسباب، بعضها طبيعيّة عنصريّة، وبعضها نفسانيّة فلكيّة، وبعضها قدَرية إلهيّة، كما يعلمه العلماء الإلهيّون، ولذلك قال:**{ فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً }** [عبس:24 - 25].
ثمّ لا يكفي وجود الماء والتراب والهواء، إذ لو تُركت الحبَّة في أرض نديّة صُلبة لم تنبت، لفقْد نفوذ الهواء في باطنها، فلا بدّ من أرضٍ متخلخلة مشقوقة لدخول الماء فيها وخروج النبت منها، لا يتمّ شيء منها إلاّ بأسباب علويّة وراء أسباب سفليّة منتهية إلى الله، كما قال:**{ ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا }** [عبس:26 - 27] الآية.
ولا بدّ أيضاً لحركة الهواء في باطن الأرض من محرّكٍ شديدٍ يحرّكه ويَضربُه بعُنفٍ على الأرض حتّى ينفذ فيها، فيحتاج بمثْل ما ذكرنا الى أسباب منتهيةٍ الى الله تعالى، كما أشار إليه بقوله:**{ وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ }** [الحجر:22].
فانظر في نعم الله في خلْق البحار والأمطار، وتحريك السُحب إلى أرض الزراعة، ثمّ الأرض، ربما كانت مرتفعةً والمياه لا ترتفع إليها، فانظر كيف خلَق الله الغيومَ فسلّط الرياح عليها ليسوقها بإذنه إلى أقطار العالَم وهي سُحبٌ ثِقالٌ بالماء، ثمّ انظر كيف يرسله مدراراً على الأرض. ثمّ انظر كيف خلَق الجبال حافظةً للمياه تنفجر منها العيون والأنهار تدريجاً، فلو خرجت دفعة، لخربت البلاد، وهلكت الزروع والمواشي.
وأما الحرارة، فإنّها لا تنزل من الأثير بطبيعتها، ولا تحصل من الماء والأرض وهما باردان؛ فانظر كيف سخَّر الشمس، وكيف أسكنها الله في موضعٍ لائقٍ لا يتضرّر أهلُ الأرض بقُربها المفرط للتحليل والتسخين، ولا ببُعدها المفرط للتجميد والتبريد، وجعلها دائرة حول الأرض شمالاً في فصل، وجنوباً في فصل، ومتوسّطاً فيما بينهما في فصلين آخرين من الفصول الأربعة، لتنتفع بها جميعُ النواحي، وتتسخّن بها في وقت دون وقت، فيحصل البرْد عند الحاجة إليه، والحرارة عند الحاجة إليها، فهذه إحدى حِكَم الشمس، والحِكَم فيها أكثر من أن يحصى.
وكذا في القمر الذي هو كالخليفة لها، وكذا سائر الكواكب مع انّها في أنفسها موجودات شريفة مطيعة لله تعالى، خُلقَت للخدمة والطاعة لله، والتقرّب اليه في صلواتها الدائمة، وسجودها وركوعها، ولو لم تكن كذلك، لكان خلْقها عبثاً وباطلاً، ولم يصح قوله تعالى:**{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[الدخان:38]. وقوله:**{ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }** [آل عمران:191].
ولهذا لما نظر رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) إلى السماء، قرأ هذه الآية ثمّ قال: **" ويلٌ لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته.. "** معناه أن يقرأها ويترك التأمّل في أحوال ملكوت السماء، ويقتصر من فهْم ملكوت السموات على أن يعرف لونَ الفلك وضوءَ الكواكب، وذلك مما يشترك في معرفته الدوابّ أيضاً.
فللّه في ملكوت السموات والأرض والآفاق والأنفس عجائب عظيمة يطلب معرفتها المحبّون لله، المشتاقون إلى لقائه. فإنّ من أحبّ عالِماً فلا يزال مشغوفاً بطلب تصانيفه ودقائق معانيه.
فكذلك الأمر في عجائب صنع الله وملكوت بدائعه، فإنّ العالَم كلّه من تصنيفه، بل تصنيف المصنفّين من تصنيفه الذي صنّفه بواسطة قلوب عباده، فلا يتعجّب من المصنّف بل من الذي سخّره لتأليفه بما أنعم عليه من هدايته وتعليمه، وإرشاده وتسديده. فالمقصود؛ أنّ غذاء النبات الذي يتوقّف عليه غذاء الإنسان، لا يتمّ بالعناصر الأربعة والشمس والقمر والكواكب، ولا تتمّ تلك إلاّ بالأفلاك التي مركوزة فيها، ولا تتمّ الأفلاك إلاّ بحركاتها. ولا تتمّ حركاتها إلاّ بملائكة سماويّة يحرّكونها، وكذلك يتمادى إلى أسباب بعيدةٍ تركنا ذكرَها تنبيهاً بما ذكر على ما اهمل.
روى الشيخ الجليل محمد بن عليّ بن بابويه القمّي رحمه الله في عيون أخبار الرضا مسنداً عن الإمام محمد بن علي، عن أبيه الرضا عليّ بن موسى، عن أبيه موسى بن جعفر بن محمّد، عن جده (عليهم السلام). قال: دعا سلمانُ أبا ذرَ رحمة الله عليهما إلى منزله، فقدّم إليه رغيفين، فأخذ أبو ذر الرغيفين يقلّبهما، فقال سلمان: يا أبا ذر، لأيّ شيء تقلّبهما؟ قال: خفتُ ألاّ يكونا نضيجين. فغضبَ سلمانُ من ذلك غضباً شديداً، ثم قال: ما أجرأك حيث تقلّب هذين الرغيفين، فوالله لقد عمِل في هذا الخبز الماءُ الذي تحت العرش، وعملت فيه الملائكةُ حتى ألقوه الى الريح، وعملت فيه الريحُ حتّى ألقته الى السحاب، وعمل فيه السحابُ حتّى أمطره الى الأرض، وعمل فيه الرعدُ والملائكةُ حتّى وضَعوه مواضعَه، وعملت فيه الأرضُ والخشبُ والحديدُ والبهائمُ والنارُ والحطَبُ والمِلحُ وما لا أحصيه أكثر، فكيف لك أن تقوم بهذا الشكر؟ فقال أبو ذر: إلى الله أتوبُ، وأستغفر الله مما أحدثتُ، وإليك اعتذر مما كرهت.
فهذا من نعم الله في خلْق الأسباب لأجل غذاء النبات، ولا يخفى أنّ ما ذكرناه بعض من أسباب غذائه الجليّة منها، إذ قد طوَينا ذكرَ تفاصيل القوى النباتيّة الباطنة عن الأبصار، كالغاذية مع فروعها - من الجاذبةِ والماسكةِ والهاضمةِ والدافعةِ - وكالنامية مع خدمها، والمولّدة مع جنودها ولَواحِقها. ولكلّ منها مواضع وأسباب وملائكة تسخّره وتحرّكه لأجل فعله المخصوص، لو أردنا ذكرَها لأدّى الى التطويل قبل حصول الاستقصاء فيها، فلنصرف عن ذكرها، ولنذكر شيئاً من نعمه تعالى في خلْق الأسبابِ الموصلة للأطعمة إلى جوف الإنسان.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فمنها الإدراك والحركة، فمن نعم الله عليك أن خلَق لك آلة الإحساس وآلة الحركة في طلب الغذاء، فانظر الى ترتيب حكمته في خلق الحواسّ الخمس التي هى آلة للادراك.
فأولها حاسّة اللمس، التي تعمّ الحيوانات، لكونها واقعة في عالَم الأضداد، فيقع بها الاحتراز عن الحرّ الشديد والبرْد الشديد مثلاً، وخصوصاً في الأكل، وهذه لا تكفي لاقتصار إدراكها على القريب، ولا تقدر بها على طلب الغذاء من حيث يبعُد عنك. فافتقرتَ الى حسّ تدرك به ما بعُد عنك، فخلَق الله فيك حسّ الشمّ، إلاّ انّك تدرك به الرائحة ولا تدري انّها جاءت من أيّ ناحية، فتحتاج الى أن تطوف كثيراً من الجوانب، فخلَق لك البصَر لتدرك ما بعُد عنك وجهته معاً فتقصده، ولا تدرك به ما وراء الجدران والحجب، فخلَق لك السمْع حتّى تدرك به الأصوات من وراء الجِدار عند جريان الحركات، ولأنّك لا تدرِك بالبصَر إلاّ موجوداً حاضراً وأمّا الغائب فلا يمكنكَ معرفته إلاّ بكلام ينتظم من حروف وأصوات، فأنعم الله عليك بهذه الحاسّة، وميّزك بفهْم الكلام عن سائر الحيوانات.
وكلّ ذلك ما كان يغنيكَ لو لم يكن لكَ حسُّ الذوق لتدرك أنّ غذاءك موافق لك أو مخالف فتأكله فتهلك، ثمّ هذه كلّها لا تكفيك لو لم يخلق في مقدّم دماغك حسّ آخر يجتمع عنده مدركات هذه الخمس، فتحتاج الى هذا الحسّ، وإلى الحافظة لتحفظ عندك صورة ما ادّخرته من الغذاء الى وقت الحاجة، وإلى مدرك للمعاني المتعلّقة بأفراد نوعك وجنسك التي تحتاج الى صداقتها ودفع عداوتها في تحصيل الغذاء الذي يحصل لك بالصناعة لا بالطبيعة، وإلى حافظٍ لها، وإلى متصرّفٍ فيها وفي الصور المخزونة بالتفصيل والتركيب والاستحضار، وهذه كلّها تشاركك فيها الحيوانات.
فلو لم يكن لك إلا هي لكنتَ ناقصاً لعدم ادراكك عواقب الأمور، فميّزك الله وأكرمك بصفةٍ أخرى هي أشرف من الكلّ وهو العقل، فتدرك مضرّة الأطعمة ومنفعتها الجليّة والخفية بحسب الحال والمآل جميعاً.
وبه تدرك كيفيّة طبخ الأطعمة وإصلاحها، وذلك أخسّ فوائد العقل، وأقلّ الحكمة في انشائه، بل الحكمة الكبرى فيه معرفة الله، ومعرفة أفعاله، ومعرفة الحكمة في عالمه.
وعند ذلك تنقلب فوائدُ الحواسّ في حقك إلى ما ينفعك في طلب الخَير الأقصى، فتكون الحواسّ الخمس كالجواسيس وأصحاب الأخبار والموكّلين بنواحي المملكة لاقتناص الأخبار المختلفة من الأقطار، وتسليمها إلى الحسّ المشترك القاعد في سرير مقدّم الدماغ، كصاحب القصص والكتب للملك، فيأخذها وهي مختومة إذ ليس له إلاّ اخذها وحفظها، وأما حقائق ما فيها فلا، ولكن الملك يسلّم إليه هذه الإنهاءآت مختومة فيفتحها ويطّلع منها على أسرار المملكة، ويحكم فيها بأحكام عجيبةٍ لا يمكن استقصاؤها في هذا المقام، وبحسب ما يلوح له يحرك الجنود.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فهذه سياقة نعمة الله عليك في الإدراكات، ولا يمكن استيفاؤها وما يتوقّف عليها من الأسباب، فإنّ الحواسّ الظاهرة بعض المدارك، والبصر واحد من جملتها، والعين آلة واحدة لها، وقد ركّبت على عشر طبقات مختلفة، بعضها رطوبات، وبعضها أغشية، وبعض تلك الأغشية كأنّها نسج العنكبوت، وبعضها كالمشيمة، وبعض تلك الرطوبات كبياض البيض، وبعضها كأنه الجمد، ولكل منها صفةٌ وصورةٌ وهيئة وشكل وتدوير، ولكل منها أمساح وأجزاء وقُوى وكيفيات، لكل منها أحكام من الصحّة والمرض والسلامة والآفة لا يعلمها إلاّ الله.
ولو اختلّت طبقةٌ واحدة بل شيء من أسبابها، لاختلّ البصرُ وعجَز عنه الأطباء والكحّالون.
وقد صُنِّفت في تشريح العين مجلدات كثيرة، مع انّ حجمها لا يزيد على جوزة صغيرة، وأعجب من هذا دخول الأفلاك وطبقاتها وما تحويه من جملة العناصر في هذه الجوزة الصغيرة، من غير أن يتضايق ولا يتصاغَر ذلك الكبير ويتعاظم هذا الصغير، وقس بما ذُكر حاسّة السمع وسائر الحواسّ الظاهرة، ولا نسبة لها في الصنع والحكْمة إلى الحواسّ الباطنة، كما لا نسبة للباطنة إلى العقل الذي هو وراء كلّها.
فهذه نعم الله في أسباب الإدراك، فقسْ عليها حالَ نعم الله في خلْق أسباب التحريك الذي هو قرين الإدراك في كلّ نفس، كما قال تعالى:**{ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ }** [ق:21] فالسائق هو مبدء مبادي الإدراك، والشهيد هو مبدء مبادي التحريك، فإنّك بعد خلق الإدراكات فيك لا يكفيك مشاهدة الطعام، بل تفتقر الى شهوة الأكل والميل إليه تستحثّك على الحركة والطلَب، فخلَق الله فيك شهوةَ الطعام وسلّطها عليك كالمتقاضي. ثمّ هذه الشهوة لو لم تسكن إذا أخذت مقدارَ الحاجة منك، أهلكتَ نفسَك. فخلَق فيك الكراهةَ عند الشَبَع. ثمَّ خلق فيك شهوةَ المجامعة لبقاء نوعك ودوام نسلك، وفي خلْق أسباب التوليد من الانثيين والرحِم ودمِ الحيض والمني والمجاري والعروق والأوعية، وكيفيّة توليد النُطفة وتشكّلها، وكيفية إدارتها في أطوار الخلْقة إلى تمام الأعضاء، من العجائب ما لا يحصى.
ثمّ الشهوةُ والغضبُ، لا يدعوان الا إلى ما ينفع ويضرّ في الحال. وهما لا يكفيانك، فميّزك الله عن الحيوانات بقوّة أخرى هي الإرادة العقليّة إكراماً لك وإفراداً عن البهائم، كما أفردك بمعرفة العواقب.
ثمّ هذه القوى لا تكفيك، فكمْ من زَمِن مدرِكٍ مشتاقٍ إلى شيء بعيدٍ منه لا يقدر على المشي إليه، فخلَق لك قدرةً على المشي والطلب لمشتهياتك، وآلات مُعِينَةٍ عليهما، وعلى الدفع والهرب لما يمنعك وعما يضادّك، وتلك الآلات بعضها طبيعيّة كالأعضاء، وبعضها خارجيّة كالاسلحة والمراكب والدوابّ والفنّ وآلات الزرْع ومباديها وأسبابها وفواعلها من الصنّاع والمُصلحين وغير ذلك.
وفي كل ذلك من نِعَم الله وحكمته ما لا يعدّ ولا يحصى، فلتعتبر رغيفاً واحداً ولتنظر ما تحتاج إليه حتّى يصلح للأكل من بعد إلقاء البذر إلى الأرض.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فانظر إلى أعمال الصنّاع في إصلاح آلات الحراثة والطحْن والخبز من نجّار وحداد وغيره، وانظر إلى حاجة الحدّاد إلى الحديد والرصاص والنُحاس، وانظر كيف خلَق الله الجبالَ والأحجار والمعادن، فإن فتّشتَ علمتَ انّ رغيفاً واحداً لا يستدير ما لم يعمل عليه أكثر من ألف صانع، ابتداؤها من المَلَك الذي يزجي السحاب لينزل الماء، الى آخر الأعمال من جهة الملائكة، حتّى تنتهي النوبةُ إلى الإنسان، فإذا استدير طلبه قريب من سبعة آلاف صانع، كلّ صانع أصل من أصول الصنائع التي بها تتمّ مصلحة الخلْق، ثم تأمّل في كثرة أعمال الإنسان في تلك الآلات.
حتّى أن الإبرة الصغيرة التي فائدتها خياطة اللباس الذي يمنع عنك البرْد، لا يكمل صورتها إلاّ بعد أن تمرّ على يد الإبريّ خمسة وعشرين مرّة.
ثمّ اعلم أنّ هؤلاء الصنّاع، لو تفرّقت آراؤهم، وتنافروا تنافر طباع الوحش وتبدّدها بحيث لا يحويهم مكانٌ واحدٌ ولا يجمعهم غرَضٌ واحد، فانظر كيف ألّف الله بين قلوبهم، فلأجل الإلْف وتعارف الأرواح اجتمعوا وائتلفوا، وبنوا البلدان والمُدن، ورتَّبوا المساكن والدور والأسواق والخانات وما أشبهها مما يطولُ شرحُه.
ثمّ هذه المحبّة تزولُ بأغراض يزاحمون عليها، ويتنافسون فيها، حتّى ينجرّ إلى الحسَد والغَيظ، وذلك يؤدّي الى التقابل والتفاسد، فانظر كيف سلّط الله عليهم السلاطين وأيّدهم بالقوّة والشوكة والعدّة والأسباب، وألقى رُعبهم في قلوبُ الرعايا حتّى أذعنوا لها طَوعاً وكُرهاً، وكيف هَدى الله السلاطين إلى طريق إصلاح البلاد، حتّى رتّبوا أجزاء المدينة كأنّها أزاء شخص واحد تتعاون تلك الأجزاء على غرضٍ واحدٍ يتبع البعض منا بالبعض، ورتّبوا الرؤساء والقضاة والحكّام وزعماء الأسواق، واضطرّوا الخَلْق الى قانون العدل، وألزموهم للتساعد والتعاون بذلك القانون.
فانظر كيف بعث الأنبياء حتّى أصلحوا السلاطين المصلحين للرعايا، وعرّفوهم قوانين الشرع في حفظ العدْل بين الخَلق، وقوانين السياسة في ضبطهم، وكشفوا من أحكام الإمامة والإمارة وأحكام الفقه والقضاء ما اهتدوا به الى إصلاح الدنيا، فضلاً عما أرشدوهم إليه من إصلاح الدين.
فانظر كيف أصلح الله الأنبياء بالملائكة، وكيف أصلح الملائكة بعضهم ببعض، إلى أن ينتهي إلى الملَك المقرّب الذي لا واسطة بينه وبين الله، فينتهي إلى حضرة الربوبيّة التي هي ينبوع كلّ نظام، ومطلع كلّ حسْن وجمال، ومنشأ كلّ كمال واعتدال.
وكل ذلك الذي عدّدناه قطرةٌ من بحار كرمه ونعمه، ولولا فضله ورحمته إذ قال:**{ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }** [العنكبوت:69]، لما اهتدينا إلى معرفة هذه النبذة اليسيرة. ولولا عزله إيّانا لكمال رأفته عن أن نطمح بعين الطمع إلى الاحاطة بكنْه نعمه، لتشوّقنا إلى طلب الاحاطة والاستقصاء، لكنّه عزلنا عن ذلك إذ قال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }** [إبراهيم:34].
فبإذنه انبسطنا، وبمنعه انقبضنا، لأنّه القابض والباسط لأزمّة أفكارنا، وهو الممسك والمرسل لأعِنّة عقولنا واختيارنا.
فهذا ما أردنا ايرادَه من بيان حقيقة النعمة وتقسيمها، وذكْر أقسامها ودرجاتها ومجامعها وأصنافها، والإشعار بأنّها متسلسلة، وأنّ الإحاطة بها ليس بمقدور البشر وإنّما هو شأن من خلَق القُوى والقدر.
وليعذرني إخوان الحقيقة في اطناب الكلام في هذا المقام، وايراد نكات لخّصتها وجرّدتها من صُحف الكرام، تكثيراً لفوائد هذا الباب، وتشبّهاً بالبرَرة الكتّاب، ومنه البداية وإليه المآب.
قوله جل اسمه:
{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }
قرئ " غيرَ " بالنصب في الشواذّ ورويت عن ابن كثير وهي قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقرئ " غير الضالين " وروي ذلك عن عليّ (عليه السلام).
وأما النصب فعلى الحاليّة عن الضمير المجرور، والعامل فيه " أنعمْتَ " ، أو بإضمار " أعْني " أو بالإستثناء، إن فسّر النعم بما يشمل القبيلين ويعمّ.
وفي الجرّ ثلاثةُ وجوهٍ: كونه بدلاً من ضمير " عليهم " ، وكونه بدلاً من الموصول، وكونه صفة له موضحة أو مخصصة على معنى كونهم جامعين بين أسباب النعمة والكمال، وبين أسباب السلامة من مظاهر الغضَب والضلال، وإن كان الأصل في " غير " أن يكون صفة للنكرة فذلك إنّما يستصح بأحد وجهين:
جعل الموصوف مجرى النكرة، بأن لم يُقصد بهذا الموصول موقّت معهود كالمحلّى في قوله: وَلقد أمرّ على اللئيم يسبّني.
أو جعل الصفة مجرى المعرفة لكون " غير " مضافاً إلى ما له ضدٌّ واحد، فإنّ للمغضوب عليه ضداً واحداً هو المنعمَ عليه. فيكون متعيّناً معروفاً عندك تعريف الحركة بغير السكون، فإذا قلت: عليك بالحركة غير السكون، فوصفت المعرفة بالمعرفة، بل وصفتَ الشيء بنفسه لأنّها عينه، فكأنك كرّرت الحركة تأكيداً.
و " عليهم " الاول في محلّ النصب على المفعولية، والثاني في محلّ الرفع على الفاعليّة بالنيابة.
و " لا " زائدة تأكيداً لما في " غير " من معنى النفي الحرفيّ، ولهذا تقول: أنا زيداً غير ضارب، كما تقول: أنا زيداً لا ضارب. ولا تقول: أنا زيداً مثل ضارب.
والغضَب - ها هنا - بمعنى إرادة إنزال العقوبة على من يستحقّها في صورة الانتقام حكمةً من الله، لا بمعنى كيفيّة نفسانية توجب ثَوران الدم للانتقام تشفّياً عن حالة الغيظ كما في الحيوان. فاطلاق الغضَب ونحوه على الله تعالى باعتبار غاياته الفعليّة لا باعتبار مباديه الإنفعالية كما مرّ في معنى الرحمة. هذا ما أدّى إليه النظر العقلي، وتحقيق ذلك ونحوه مما يُحوج إلى نور المكاشفة كما وقعت الإشارة إليه.
والضلال؛ هو العدول والذهاب عن طريق التوحيد ومنهج الحقّ، وأصله الهلاك، ومنه قوله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ }** [السجدة:10]. أي هلكنا، ومنه قوله تعالى:**{ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ }** [محمد:8]. أي أهلكها.
وللعدول جهاتٌ وشُعبٌ كثيرة، ولكلّ منها عرض عريض، وبازاء كلّ ضرب من العدول ضرب من الغضب.
وعند المفسّرين: المغضوب عليهم اليهود لقوله تعالى فيهم:**{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ }** [المائدة:60]. والضالّون النصارى لقوله تعالى:**{ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** [المائدة:77].
وقال الحسن البصري: إنّ الله لم يبرئ اليهود عن الضلالة بإضافتها الى النصارى، ولم يبرئ النصارى عن الغضب بإضافته الى اليهود، بل كلّ من الطائفتين مغضوبٌ عليهم وهم ضالّون، إلاّ انّه تعالى قد خصّ كلَّ فريق بسِمةٍ تُعرفُ بها مع كونهم مشتركين في صفات كثيرة.
وقال عبد القاهر: حقّ اللفظ فيه خروجُه مخرج الجنس وأن لا يُقصد به قوم بأعيانهم كما تقول: اللهمّ اجعلني ممّن انعمتَ عليهم ولا تجعلني ممن غضبتَ عليهم، فإنك لا تريد أنّ ها هنا قوماً باعيانهم هذه صفتهم. وفيه موضع تأمّل كما لا يخفى على من عرف العُرف.
ويتّجه لأحد أن يقول: إنّ المغضوب عليهم هم العُصاة والفسقةُ، والضّالّين هم الجهّال والكفّرةُ، لأنّ المهتدى بنور الحقّ الى الصراط المسقيم، والفائز بكرامة الوصول الى النعيم، من جمع الله له بين تكميل عقله النظري بنور الايمان، وتكميل عقله العملي بتوفيق العمل بالأركان، فكان المقابل له في الجملة من اختلّ إحدى كريمتيه وقوّتيه العاقلةُ والعاملةُ فالمخلّ بالعمل فاسقٌ مغضوبٌ عليه لقوله تعالى في القاتل عمداً:**{ َغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ }** [النساء:93]. والمخلّ بالعلْم والإدراك للحقّ جاهلٌ كافر لقوله تعالى:**{ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ }** [يونس:32].
وإنما لم يقلْ: غير الذين غضبتَ عليهم، على وفاق: الذينَ أنعَمْتَ عَلَيْهِم، ترجيحاً لجانب النعمة على جانب النقمة، بنسبة الفعل إليه تعالى في الأولى صريحاً، وفي الثانية بخلاف ذلك، كما هو دأب كرمه وجرْيُ عادته في سَوق كلامه المجيد، مثل قوله تعالى:**{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }** [إبراهيم:7]. حيث لم يقل: لأعذبنّكم في مقابلة: " لأزيدنّكم " ، ومراعاة للأدب في الخطاب، واختياراً لحسْن اللفظ المستطاب.
مكاشفة
[استعارة الالفاظ للايصال الى المعانى العرفانية]
اعلم أنّ تمام التحقيق في هذه الآية، يحتاج الى الاستمداد من بحر عظيم من بحار علوم المكاشفة، فنقول على طبق ما حقّقه صاحب البصيرة المكحّلة بنور الهداية: إنّ لله في جلاله وكبريائه صفةٌ بها يفيض على الخلْق نورَ حكمته وجُوده تكويناً واختراعاً، يعبّر عنها بلفظ، جلّت عظمة تلك الصفة أن تكون في عالم الألفاظ عبارة تدلّ على كنه حقيقتها، لعلوّ شأنها، وانحطاط رتبة واضعي اللغات أن يمتدّ طرفُهم إلى مبادي إشراقاتها، فانخفضت عن ذُروتها أبصارُهم انخفاض أبصار الخفافيش عن ذُروة الشمس، فاضطرّ الذين فُتحت أبصارُهم لملاحظة جلالها، إلى ان يستعيروا من حضيض عالَم الظلمات عبارةً توهِم من مبادي أنوار حقيقتها شيئاً ضعيفاً جداً، فاستعاروا لها لفظ " القدرة " فتجاسَرنا بتوقيفٍ من جانب الشرع أنّ لله صفةً يصدر عنها الخَلْق والاختراع، ثمّ الخَلْق ينقسم في الوجود تقسيماً عقلياً إلى أقسام، لتنوّعات فصول ومبادي انقسام، فاستُعير لمصدَر هذه الأقسام ومبدء هذه التخصيصات بمثل تلك الضرورة الواقعة في عالَم الألفاظ والأصوات عبارة " المشيّة " ، ثمّ انقسمت الأفعال الصادرة من القُدرة المنبعثة عن المشيّة الناشية عن الحكمة التي هي علمُه بالنظام الأكمل وهو عين ذاته، إلى ما ينساق الى المنتهى الذي هو غاية حكْمتها الى ما يوقف به دون الغاية، وكان لكلّ منهما نسبة الى صفة المشيّة لرجوعها إلى الاختصاصات التي بها يتمّ الاختلاف والقسمة، فاستُعير لنسبة البالغ غايته عبارة المحبوب، وهو المنعَم عليه، ولنسبة الواقف دون غايته عبارة المكروه، وهو المغضوب عليه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقيل: إنّهما جميعاً داخلان تحت المشيّة، إلاّ انّ لكلّ منهما خاصيّة أخرى في النسبة، يوهِم لفظ المحبّة والكراهةُ منهما أمراً مجملاً عند طلاّب اكتساب العلوم من اطلاقات الألفاظ واللغات.
ثمّ نقول: لمّا كان لكلّ منهما خاصيّة لازمة تكون مقتضى ذاته من غير تخلّل جعل مستأنف بينه وبينها، وهي مستدعيةٌ لأن تنزل إليه من سلطان الأزل لباساً يناسبه ويردّ عليه من المشية السابقة كسوة ملائمة، فانقسَم عبادُه الذين هم أيضاً من خلْقه واختراعه، إلى من سبقت له في المشيّة الأزليّة أن يستعمله لاستيقاف حكمته دون غايتها، ويكون ذلك قهراً في حقّهم بتسليط الدواعي والبواعث عليهم، وإلى من سبقت لهم في الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمته الى غايتها في بعض الأمور، ويكون ذلك لطفاً في حقّهم.
فكان لكلّ من الفريقين نسبةٌ خاصّة إلى المشيّة، فاستعير لإحداهما عبارةُ " الرضا " وللأخرى عبارة " الغضب ".
وظهَر على من غضب عليه في الأزل فعلٌ وقفت الحكمة به دون غايتها، فاستعير له " الكفران " ، واردف ذلك بنقمة اللعن زيادة في النكال.
وظهر على من ارتضاه في الأزل فعلٌ انساقت به الحكمة الى غايتها، فاستعير له الشكْر، واردف بخلعة الثناء زيادة في الرضاء والقبول.
فكان الحاصل انّه أعطى الجمال ثم أثنى عليه، وأعطى النكال ثمّ قبّح وأردى، فيكون بالحقيقة هو المجمِل والمُثني على الجمال، والمثنى عليه بكلّ حال.
وكأنّه لم يثن إلا على نفسه، وإنما العبد هدف الثناء من حيث الظاهر، فهكذا كانت الأمور في أزل الآزال، وهكذا تسلسلت الأسباب بتقدير ربّ الأرباب، ولم يكن شيء من ذلك عن اتّفاق وبخت كما زعمَه أصحابُ ذيمقراطيس. ولا عن إرادة بحت من دون غاية وحكمة كما عليه أصحاب الأشعري، بل عن إرادةٍ وحكمةٍ وحكْمٍ جزْمٍ، وأمرٍ حتْمٍ، استُعير له لفظ " القضاء ".
وقيل: إنّه كلمحٍ بالبصر، ففاضت بحار المقادير بحكم ذلك القضاء المبرم بما سبق به التقديرُ، فاستُعير لترتّب آحاد المقدورات بعضها على بعض، لفظ " القَدَر " ، فكان لفظ القضاء بإزاء ذلك الأمر العقلي الكلّي، ولفظ القدَر بإزاء ذلك الأمر التفصيلي القدَري المتمادي إلى غير النهاية.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقيل: ليس شيء من ذلك بخارجٍ عن قانون القضاء والقدَر، فخطَر لبعض العباد أنّ القسمة لِماذا اقتضت هذا التفصيل؟ وكيف انتظم العدل مع هذا التفاوت في الايجاد والتكميل؟
وكأنّ بعضهم لقصورهم لم يطيقوا ملاحظةَ كُنْه الأمر والإحتواء على مجَامعه، فأُلجموا عمّا لم يطيقوا خوض غمرته بلجام المنع، وقيل لهم: اسكتوا، فما لهذا خلقتم " لا يُسألُ عما يفعلَ وهمْ يُسألون " ، عليكم بدين العجائز والزَمنى عن سلوك عالَم السماء، وقُصارى إيمانكم أن تؤمنوا بالغيب ايمانَ الأكمه بالألوان، اسكتوا، وأنّى للعميان والسؤال عن حقائق الألوان.
وأما من امتلأت مشكاة عقلهم المنفعل من نور الله النافذ في السموات والأرض، وكان زيتهم أولاً صافياً يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فمسّته نارُ العقل الفعّال فاشتعل نوراً على نور، فأشرقت أقطار الملكوت بين أيديهم بنور ربّها فأدركوا الأمور كما هي عليه، فقيل لهم: تأدّبوا بأدب الله، واسكتوا، واذا ذُكر القدَر فأَمسكوا فإنّ للحيطان آذان، وحواليكم ضعفاءُ الأبصار فسيروا بسَير أضعفكم، ولا تكشفوا حجاب الشمس لأبصار الخفافيش، فيكون ذلك سبب هلاكهم، فتخلّقوا بأخلاق الله، وانزلوا إلى السماء الدنيا من منتهى علوِّكم ليأنس بكم الضعفاء، ويقتبسوا من بقايا أنواركم المشرِقة من وراء حجابكم، كما يقتبس الخفّاش من بقاء نور الشمس والكواكب في جنح الليل، فيحيى به حياة تحتملها شخصُه وحالُه لا حياة المتردّدين في كمال نور الشمس، وكونوا كما قيل:
| **شرِبنا وأهرَقنا على الأرضِ فضلةً** | | **وللأرضِ من كأسِ الكِرامِ نَصيبٌ** |
| --- | --- | --- |
تمثيل نوري
[بيان أن لا مؤثر في الوجود إلا الله، والحكمة في أفعاله]
وقد ضرَب الله مثلاً لهذا المرام تقريباً إلى أفهام الأنام، وقد عرّف أنه ما خلَق الجِنَّ والإنس إلاّ ليعبدون، وكانت عبادتهم ومعرفتهم غاية الحكمة في حقِّهم، فأخبَر انّ له عبدين يُحبّ أحدَهما واسمه جبرائيل وروح القدس والروح الأمين، وهو عنده محبوب مطاع مكين، ويُبغض الآخر واسمه إبليس، وهو اللعين المنظَر إلى يوم الدين.
ثمّ أحال الإرشاد والتعليم إلى جبرائيل فقال:**{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ }** [النحل:102]. وقال:**{ يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ }** [غافر:15]. وقال:**{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ }** [النجم:5 - 6].
وأحال الإغواء والإضلال على إبليس فقال: { لِيضِلَّهُمْ عَنْ سَبيله }.
والهداية: تبليغ العباد وسياقتهم الى غاية الحكمة، فانظر كيف نسبَها الى العبد الذي أحبّه.
والإغواءُ: استيقافهم دون بلوغ غاية الحكمة، فانظُر كيف نسبَه إلى العبد الذي غضِب عليه مع انّه لا فاعِل ولا حاكِم إلاّ هو كما قال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }** [الشمس:7 - 8]. وهذا محض العدل وحُسن الترتيب في النظام.
ولهذا الأمر، يوجَد لك في الشاهد مثال، فالملك إذا كان له عبدان، ويريد أن يسقيه أحدهما، ويكنس الآخر فناءَ منزلة من القاذورات، لا يفوّض سقي الشراب الطيّب إلاّ إلى أحسنهما وأطيبهما منظراً وأحبهما إليه، ولا يعيّن للكُنْس إلاّ أقبحهما صورة وأخسّهما، ولا ينبغي لك أن تقول: هذا فعلي، فلم يكن فعله على مذاق فعلي، فإنّك أخطأت إذا أضفت ذلك الى نفسك، بل هو الذي صرفك وداعيتك لتخصيص الفعلِ المكروه بالشخصِ المكروهِ، والفعْل الحسَن بالشخص المحبوب، إتماماً للعدل، فإنّ عدلَه تارةً يتمّ بما لا مدخل لك فيه وتارةً يتمّ فيك أو بمالَكَ فيه مدخلٌ فإنّك ايضاً من أفعاله.
فداعيتُك وعلمُك وقدرتُك وسائرُ أسباب حركتك في التعيين هو فِعْله الذي رتّبه بالعدْل والحكْمة ترتيباً تصدر منه الأفعال المعتدلة، إلاّ انّك لا ترى إلاّ نفسك، فتظنّ إنّ ما يظهر عليك في عالَم الشهادة ليس له سببٌ من عالَم الغيب والملكوت، فلذلك تضيفه الى نفسك.
وإنّما أنتَ مِثْل الصَبيّ الذي ينظر ليلاً الى لعب المشعبِذ الذي يُخرج صوراً من وراء حجاب، يرقص ويَزْعق ويقوم ويقعد، فيتعجّب لظنّه أنّ هذه الأفعال إنّما تصدُر من تلك الصوَر. ولم يعلم أنّها لا تتحرّك بأنفسها، وإنّما تحركها خيوطٌ شَعريّة دقيقة لا تظهر في ظلام الليل، ورؤوسها في يد المشعبِذ، وهو محتجب عن الصبيان فيفرحون ويتعجّبون.
وأما العقلاء، فإنّهم يعلمون أنّ ذلك يُحرَّك وليس يتحرَّك، ولكنّهم ربما لم يعلموا تفصيله، والذي يعلم بعضَ تفصيله لا يعلمه كما يعلم المشعبِذ الذي يعود الأمرُ إليه، والجاذبة بيديه، فكذلك صبيان الدنيا والخَلْق كلُّهم صبيانٌ، إلاّ العلماء، إلاّ إنّهم لا يعرفون كيفيّة التحريك، وهم الأكثرون، إلاّ الراسخون في العلم، فإنّهم أدركوا بحدّة أبصارهم خيوطاً ورباطاتٍ دقيقةً معلقةً من السماء، متشبّثة الأطراف بأشخاص أهل الأرض، لا تُدرَك تلك الخيوط لدقّتها بهذه الأنظار الظاهرة، ثمّ شاهَدوا رؤوسَ تلك الخيوط في مناطات لها هي معلّقة منها، ولها أيضاً مقابضٌ وعُرىً هي في أيدي الملائكة المحرّكين للسماوات، وشاهَدوا أبصار ملائكة السموات مصروفةً إلى حمَلةِ العرْشِ ينتظرون منهم ما ينزل إليهم من الأمر من حضرة الربوبيّة، كي لا يعصون الله ما أمرَهم ويفعلون [ما يؤمرون].
وعبّر عن هذه المكاشفات في القرآن:**{ وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ }** [الذاريات:22]. وعبّر عن انتظار الملائكة لما ينزل إليهم من الأمر والقُدرَة بقوله تعالى:**{ خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَاتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا }** [الطلاق:12].
مكاشفة أخرى
[مظاهر الرحمة والغضب]
إنّ لله مع تقدّس ذاته وتنزّه صفاته عن الأجزاء والأعضاء، يدَين مقدّستين كلتاهما يمين الله، وهما في الأفعال العاليَة بإزاء الصفَتين المتقابلتين؛ كالرحمة والغضب، والرضاء والسخط في الصفات.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ولهما قبضتان، كما يدل عليه قوله تعالى:**{ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }** [الزمر:67].
ووَرد في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): **" يطوي الله السمواتِ يومَ القيامة ثمّ يأخذهنّ بيده اليُمنى ثمّ يقول: أنا الملِك، أين الجبَّارون؟ أين المتكبّرون؟ ثم يطوي الأرَضين بشماله ".** وفي رواية يأخذهنّ بيده الأخرى ثمّ يقول: أين الجبّارون، أين المتكبرون؟
وله أيضاً عند إستوائه على العرش قدَمان متدلّيتان إلى الكرسي، إحداهما ما يعبّر عنه بقدَم الصدْق يعطي ثبوت أهل الجنّات في جنّاتهم، والأخرى ما يعبَّر عنه بقدَم الجبروت، يعطي ثبوت أهل جهنّم في جهنّم.
فهذه الأمور من المراتب الإلهيّة، ولوازمها من الأمور العامّة، وهي التي تعرض للموجودات الإمكانية لقصور درجتها عن درك المراتب الإلهيّة.
فاعلم انّ حكم الغضبَ الإلهي تكميل مرتبة قبضة الشمال، فإنّه وإن كانت كِلتا يدَيه المقدّستين يميناً مباركة، لكن حكْم كلّ واحدة منهما يُخالف الأخرى، والشماليّة واليمينيّة، باعتبار أصحابهما فلهذا قال:**{ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }** [الزمر:67]. فجعل الأرض مقبوضة والسماء مطوية، فافهم.
فلليدِ الواحدة - المضاف إليها عموم السعداء - الرحمة والجنان، وللأخرى العذاب والنيران.
ولكلٍّ منهما دولة وسلطنة يظهر حكمها في السعداء القائمين بشروط العبوديّة وحقوق الربوبيّة حسَب المقدور، وفي الأشقياء المعتدين الجائرين المنحرفين عن سنن الاستقامة ومسلك الاعتدال، المفرَطين في حقوق الإلهية، والمضيفين إلى أنفسهم ما لا يستحقّونه.
وغاية حظّهم من تلك الأحكام ما اتّصل لهم بشفاعة ظاهر الصورة الإنسانية المحاكية لصورة الإنسان الحقيقي، وشفاعة نسبة الجمعيّة والقدْر المشترك الظاهر بعموم الرحمة الظاهرة الحكْم في هذه الدار، فلما جهلوا كنْه الأمر فاغترّوا وادّعوا وأشركوا وأخطأوا في الإضافة، فلا جرَم استعدّوا بتلك الأحكام الغضبَ والانتقام، فالحقّ يطالبهم بحقّه في القيامة.
ولولا سبق الرحمةِ الغضب، ما تأخّرت عقوبة مَنْ شأنُهُ ما ذكرناه، مع انّه ما ثمَّ من سُلم من الجور بالكليّة، ولو لم يكن إلاّ جورنا في ضمن أبينا آدم حين مخالفته فلكلّ منّا نصيبٌ من ذلك، يجني ثمرته عاجلاً بالمحن، وآجلاً بحكم:**{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }** [مريم:71].
وإلى عموم الجور وقعت الإشارة في قوله:**{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ }** [النحل:61]. ولكن الرحمة العامّة أخّرت سلطنة الحكم العدْل إلى يوم القيامة، الذي هو يومَ الكشف، ويومُ الفصل والقضاء، فهناك يظهر الأمر تماماً، ولهذا قال: { مَالِكِ يَومِ الدِّين } ، لأنّه يوم المجازات بالعدل الحقيقي، والسرّ فيه أنّه لو ظهَر الحكم العدل ها هنا، ما جارَ أحدٌ على أحدٍ ولا تجاسَر على ظلْمه، ولا افترى على الله وعلى غيره، ولكان الناس أمّة واحدةً، ولم تكمل مرتبة القبضتين وحكم القدَمين ولا مظاهر الأسماء المتقابلة، فأين إذاً:**{ كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[الإسراء:20]، أي: ممنوعاً، فالرحمة العامّة تستلزم العطاءَ الشامل لكل شيءٍ، لا جرم وقع الأمر هكذا، فحقّت الكلمة، وعمّت النعمة، وظهَر حكم الغضب، ثمّ غلبت الرحمة، فلا يخلو منها شيء من الممكنات، كلّ منها على حسب حاله وقدْر منزلته.
فكما انّ رحمتُه تعالى شاملة واسعة لكلّ شيءٍ، فكذلك غضبُه، إلاّ انّ جانب الرحمة ارجح لكونها ذاتيّة، والغضب عارض، لقصور الممكن لإمكانه عن قبول النور الأتمّ.
وإليه الإشارة في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): سبحانَ مَن أتّسعت رحمتُه لأوليائه في شدة نقمته، واشتدّت نقمته لأعدائه في سعة رحمته.
وكذا الوعد والايعاد شاملٌ للكلّ، إذ وعده في الحقيقة عبارةٌ عن ايصال كلّ واحد منّا إلى غايته وكماله المعيّن له أزلاً، فكما انّ الجنّة موعودٌ بها، كذلك النار. ووعيده هو العذاب الذي يتعلّق بالإسم المنتقم، فأهل الجنّة إنما يدخلونها بالايعاد والابتلاء بأنواع المصائب والمحَن، كما ورَد في الخبر عنه (صلّى الله عليه وآله): **" أشدّ الناس بلاءً في الدنيا الأنبياء، ثمّ الأولياء، ثمّ الصالحون، ثمّ الأمثلُ فالأمثَلُ وقال أيضاً: ما أوذي نبيٌّ مثل ما أوذيت ".** ثمّ فوق هذا سرٌّ عزيزٌ جداً قلّما يجد له ذائقاً، وهو انّ الكمّل من أهل الله كالانبياء والأولياء ومن شاركهم في بعض صفات الكمال، إنّما امتازوا عن من سواهم أولاً بسعة الدائرة الوجوديّة، وصفاء جوهر الروح، والاستيعاب الذي هو من لوازم الجمعيّة، كما نبّهت عليه في حقيقة الإنسان الكامل، الذي هو برزخ الحضرتين ومرآتهما، وحضرة الحق مشتملة على جميع الأسماء والصفات، بل هي منبعٌ لسائر النِسب والإضافات، والغضب من امّهاتها، والمحاذاة الشريفة الصفاتية إنّما قامت بين الغضب والرحمة.
فمَن ظهر بصورة الحضرة الجمعيّة بتمامها، وكانت ذاته مرآة كاملة، لا بدّ وأن يظهر فيها كلُّ ما اشتملت الحضرة، وما اشتمل عليه الإمكان على الوجه الأتمّ الأشرف، فلا جرم وقع الأمر كما مرّ من سرّ قوله: ما أوذي نبيٌّ مثلَ ما أوذيت. وما يجري مجرى ذلك.
ولولا سبق الرحمة الغضب، كان الأمر أشدّ، فكما ان حظّهم من النعيم أشدّ، فكذا في الطرف الآخر، لكن في الدنيا، لأن هذه النشأة هي الظاهرة بأحكام حضرة الإمكان المقتضية للنقائص والآلام، ولذا قال: نحنُ معاشر الأنبياء أشدّ الناس بلاءً في الدنيا.
ومن بُعث رحمةً للعالمين فدى بنفسه - في الأوقات الشديدة كالغَزوات المقتضية عموم العقوبة لسلطنة الغضب - ضعفاء الخلق.
وكذا نبّه على هذا السرّ (صلّى الله عليه وآله) أهلَ الذوق، الأتمّ لمّا رأى جهنّم وهو في صلاة الكسوف يتّقي حرَّها عن وجهه وثوبه، ويتأخّر عن مكانه، ويتضرّع ويقول: ألم تعدني يا ربّ أنّك لا تعذّبهم وأنا فيهم؟ ألم ألم حتّى حجبت عنه فأفهم واغتنم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأهل النار إنّما يدخلونها بالجاذب والسائق والجاذب إلى النار المناسبةُ الواقعةُ بينها وبين أهلها. والسائق لهم هو الشيطان، كما أنّ الجاذبَ لأهل الجنّة إلى الجنّة المناسبةُ بينهما، والسائق لهم المَلَك، فالوعْد والوعيد كلاهما شاملان لكلّ العبيد وفيه سرّ قوله (صلى الله عليه وآله): **" حُفَّت الجنّةُ بالمكاره وحُفّت النارُ بالشهوات "** بل الجنّة نفسُ المكاره عند من كره لقاءَ الله وكره الله لقائهم. والنار مبدأ الشهوات وصورتها الأخرويّة لمن يستحقّها، وهي نعيمهم، كما أنّ الجنَة نعيمُ أهلها، ويملأ الله جهنَّم بغضبه المشوب وقضائه، ويملأ الجنّة برحمته المشوبة ورضاه، فيعم الوجود رحمة، ويبسط النعمة فيكون الخَلق كما هم في الدنيا كلُّ حزبٍ بما لدَيهم فرِحون، لأنّهم أفعاله الصادرة منه.
وقد ورد في الخبر: إنّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال، وهو صانعُ العالَم وأوجده على شاكلته كما قال:**{ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ }** [الإسراء:84] فَربُّكُم الغفُورُ ذُو الرَّحْمةِ. فالعالَم كلّه على غاية الجمال لأنّه مرآة الحق. ولهذا هَامَ فيه العارفون، وتحقّق بمحبّته المتحقّقون، لأنه المنظور إليه في كل عين، والمحبوب بكلّ محبّة، والمعبود بكلّ عبادة، والمقصود في الغيب والشهود، وجميع العالم له مصلٍّ وحامد ومسبّح.
فيتحوّلون لتحوّله في الأحكام والآثار، وآخر صورة يتحوّل إليها في الحكم في عباده صورةُ الرضا. فيتحوّل الحقّ في صورة النعيم، فإن الرحيم والمعافي أول من رحم ويعفو وينعم على نفسه بإزالة ما كان فيه من الحرَج والكرَب والغضَب على من أغضبه، ثمّ سرى ذلك في المغضوب عليه، فمن فهم هذا فقد أمِنَ من غضبه، ولم يأمن من مكر الله، ومن لم يفهَم، فسيَعلمُ ويفهم، فإنّ المآل إليه.
هذا نظر البالغين من الرجال بنور الرياضة والمجاهدة الى مقام الولاية والمحبّة والأحوال، وأمّا الذي وردت به الأخبار، وأعطاه الايمان والعلْم، إنّما هي أحوالٌ تظهر ومقامات تتشخّص ومعانٍ تتجسّد، ليعلم الله عباده معنى الإسم الإلهي الظاهر، وهو ما بدا من هذا كلّه، والإسم الإلهي الباطن، وهو هويّته، وقد تسمّى لنا بهما.
وأما قوله:**{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }** [مريم:71]. فإنّ الطريق الى الجنّة عليها، فلا بدّ من الورود.
ولما تقرّرت هذه المكاشفات فنقول: لمّا خلَق الله العرشَ وجعله محل استواء الرحمة الوجوديّة، وأحديّة كلمة الايجاديّة التي هي قول " كن " ، وخلَق الكرسي وانقسمت فيه الكلمة إلى أمرين: أمر وخَلْق ليخلق من كلّ شيء زوجين. وظهرت الشفعيّة من الكرسي بالفعل، وكانت قبله بالقوّة، وبحسب الوهم، إذ كل ممكن زوج تركيبي كما قالته الحكماء، وهما جهتا الإمكان والوجوب، أو الماهية والوجود، أو الفقر والمحبّة، باختلاف العبارات، ليعلم أنّ الحق مستأثرٌ بالأحديّة وإنّ الموجدَ الأول وإن كان واحد العين فله حكم نسبة إلى ما ظهر عنه، فهذا أصل شفعيّة العالَم، فتدلّت إلى الكرسي القدمان حتّى انقسمت فيه الكلمةُ الروحانيّة، لأنه الثاني بعد العرش في الصورة، والشكل فيه حصل شكلان في جسم العالَم الطبيعي، فتدلّت اليه القدمان، فاستقرّت كلّ قدم في مكان، فسمّي المكان الواحد جنّة والآخر جهنّماً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وليس بعدهما مكان تنتقل اليه هاتان القدمان، وهما لا يستمدّان إلاّ من الأصل الذي ظَهَرَتا منه وهو الرحمن، فلا يعطيان إلاّ الرحمة، فإن النهاية ترجع الى البداية بالحكمة، غير أن بين البداية والنهاية طريقاً، وإلاّ لم يكن بدؤ ولا نهاية، والسفر مظنّة التعب والشقاء واللغوب. فهذا سبب ظهور ما ظهر في العالم دنياً وآخرةً، وبرزخاً، من الشقاء، وعند انتهاء الاستقرار يلقي عصى التسيار، وتقع الراحة في دار القرار والبوار.
ولأحد أن يقول: فكان ينبغي عند الحلول في الدار الواحدة المسمّاة ناراً أن توجد الراحة وليس الأمر كذلك.
فيقال له: صدقتَ، ولكن فاتك النظر التمام، وذلك انّ المسافرين على نوعين: مسافر يكون سفره مما هو فيه مترفهاً، من كونه محبوباً مخدوماً، حاصلاً له جميع أغراضه في محفّة محمولة على أعناق الرجال، محفوظاً عن تغير الأهواء، فهذا مثلَه في الوصول الى المنزل، مثَل أهل الجنّة في الجنّة.
ومسافر يقطع الطريق على قدميه، قليل الزاد، ضعيف المؤنة، إذا وصَل إلى المنزل بقيت معه بقيّة التعب والمشقّة زماناً، حتى تذهب عنه، ثمّ يجد الراحة، فهذا مثَل من يتعذّب ويشقى في النار التي هي منزله، ثمّ تعمّه الراحة التي وسعت كلّ شيء.
ومسافر بينهما ليست له رفاهيّة صاحب الجنّة، ولا عذاب صاحب النار التي منزله، فهو بين راحة وتعب، فهي الطائفة التي تخرج من النار بشفاعة الشافعين، وبإخراج أرحم الراحمين.
وهم على طبقات بقدر ما يبقى عنهم من التعب فيزول في النار شيئاً فشيئاً، فإذا انتهت مدّته، خرج الى الجنة وهو محلّ الراحة.
وآخر من بقي هم الذين ما عملوا خيراً قط، لا من جهة الايمان، ولا بإتيان مكارم الأخلاق، غير انّ العناية سبقت لهم أن يكونوا من أهل تلك الدار وهم من أهل الدار، الذين هم أهلها، فغلّقت الأبواب، واطبقت النار، ووقع اليأس من الخروج، فحينئذ تعمّ الراحة لأهلها، لأنّهم قد يئسوا من الخروج منها كما يئس الكفّار من أصحاب القبور.
وقد جعلهم على مزاج يصلح ساكن تلك الدار، فلما يئسوا فرِحوا، فنعيمُهم هذا القدر، وهو أول نعيم يجدونه، وحالهم فيها كما قدمنا بعد فراغ مدّة الشقاء، انّهم يستعذبون العذاب فتزول الآلام، ويصير العذاب عذباً كما يستحلي صاحبُ الجرَب من يحكّه، هذا ما أدّى اليه نظر صاحب المشرب الختمي والمقام الجمعي، حيث ذكر بعد ما نقَلناه من مكاشفاته. فافهم نعيم كل دار تستعذبه إنشاء الله.
ألا ترى صدق ما قلناه، النار لا تزال متألّمة لما فيها من النقص وعدم الإمتلاء حتّى يضع الجبّارُ قدمَه فيها كما ورد في الحديث، وهي إحدى تينك القدَمين المذكورتين في الكرسي.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والاخرى التي مستقرّها الجنّة قوله:**{ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ }** [يونس:2] والاسم " الربّ " مع هؤلاء، و " الجبار " مع هؤلاء الآخرين. لأنها دار جلال وجبروت وهيبة، والجنّة دار جمال وانس ومنزل إلهي لطيف، وهما بأزاء القبضتين المذكورتين في الحديث القدسي: الواحد لأهل النار ولا يبالي، والآخرة لأهل الجنّة ولا يبالي، لأن مآلهما الى الرحمة الواسعة.
ولو كان الأمر كما يتوهّمه مَن لا علْم له من عدم المبالاة، ما وقع الأمر بالجرائم والحدود، ولا وصَف نفسَه بغضَب، ولا البطش الشديد، فهذا كلّه من المبالاة والهمّ بالمأخوذ المحدود، إذ لو لم يكن له قدْر ما عذّب ولا استعذب، وقد قيل في أهل التقوى: إنّ الجنّة اعدّت للمتّقين. وقال في أهل الشقاء:**{ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }** [الإنسان:31] فلولا المبالاة ما ظهر هذا الحكم.
فللأمور والأحكام مواطن عرفها أهلها، ولم يتعدّ بكل حكم موطنه، والعالَم لا يزال يتأدّب مع الله وبعالَمه في كل موطن بما يريد الحقّ، ومن لا يعلم ليس كذلك، فبالقدمين أغنى وأفقر، وبهما أمات وأحيى، وبهما خلق الزوجين الذكر والأنثى، وبهما أعزّ وأذلّ، وأعطى ومنع، وأضرّ ونفع، ولولاهما ما وقَع في العالم شركٌ، فانهما اشتركتا في الحكم والعالَم، فلكل منهما دارٌ يحكم فيها، وأهلٌ يحكم فيهم بما شاء الله من الحُكم.
مكاشفة اخرى
[درجات غضبه تعالى]
اعلم أنّ النعيم والعذاب ثمرةُ الرضا والغضَب، ولكل منهما ثلاث مراتب كما في باقي الصفات. فأول درجات الغضب يقضي بالحرمان وقطع الإمداد العلمي المستلزم لتسلّط الجهل والهوى والنفس والشيطان. لكن كلّ ذلك موقتاً إلى أجل معلوم عند الله في الدنيا، إلى النفس التي قبل آخر الانفاس في حق من يختم له بالسعادة الأخرويّة، كما ثبت في الحديث، سواء كانت سلطنة ما ذكر ظاهراً أو باطناً، أو هما معاً. ولا شك في أن كلاّ من الأمور المذكورة مبادي كمالات دنيويّة، ولذّات عاجلية لمن في حزبها. والرتبة الثانية تقضي بانسحاب الحكم المذكور باطناً ها هنا، وظاهراً في الآخرة برهة من الزمان الأخروي، أو يتّصل الحكم إلى حين دخول جهنّم وفتح باب الشفاعة، وآخر مدّة الحكم حال ظهور حكم أرحم الراحمين بعد انتفاء حكم شفاعة الشافعين.
والرتبة الثالثة تقتضي التأبيد ودوام حكم التبعيد، كما في قوله (صلّى الله عليه وآله): **" انّ الله لم ينظر الى الأجسام مذ خلقها "** ، وكمال حكم هذا الغضب يظهر يوم القيامة، كما أخبر الرسل عن ذلك قاطبة بقولهم الذي حكاه نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) وعليهم: إن الله غضب اليومَ غضَباً لم يغضب قبله، ولن يغضب بعده مثله. فشهدت بكماله شهادة يستلزم بشارة لو عرفت لم تيأس من رحمة الله، ولو جاز إفشاء ذلك، وكذا سرّ تردّد الناس إلى الأنبياء (عليهم السلام)، وابتهالهم الى نبيّنا عليه وعليهم السلام، وسرّ فتح الله باب الشفاعة، وسرّ وضع الجبّار قدمَه فيها - يعني في جهنّم - فينزوي بعضها الى بعض وتقول قطّ قطّ - أي حسبي حسبي - وسرّ السجدات الأربع، وما يخرج من النار كلّ دفعة، وما تلك المعاودة، وسرّ قول مالك خازن جهنّم لنبيّنا (صلّى الله عليه وآله) في آخر مرّة يأتيه لاخراج آخر من يخرج بشفاعته: يا محمّد ما تركتَ لغضَب ربك شيئاً، وسرّ قوله: شفعت الملائكة وشفع النبيّون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، وسرّ قوله سبحانه لنبيه عند شفاعته في أهل لا إله إلاّ الله: ليس ذلك لك.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الذي يقول في أثره شفعت الملائكة الحديث، وغير ذلك من الأسرار التي رمزت واجمل ذكرها مما يبهر العقول ويحيّر الألباب كما قيل:
| **وما كلُّ معلومٍ يُباح مصونة** | | **وما كلّ ما املتْ عيونُ الظبا يُروى** |
| --- | --- | --- |
مكاشفة اخرى
[باطن الغضب]
وكلّ صفة إلهيّة واسم ربّاني - كما ان لها مظاهر ولوازم ايجادية - فلها أيضاً غايات وحِكَم مترتّبة عليها، وثمرات أخرويّة تنبعث عنها، فنقول: حِكمة الغضَب وباطنُه الذي ينسحب عليه حكم الرحمة العامّة، وتظهر منه الغاية الوجوديّة في المغضوب عليهم كما قال**{ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ }** [الحديد:13] أمور ثلاثة: وقايةٌ وتطيرٌ وتكميلٌ.
اما النوع الأول: هو الوقاية، فكصاحب الآكِلة إذا ظهرت في عضو، وقدّر أن يكون الطبيبُ والده أو صديقه، فإنّه مع فرط محبته يبادر لقطع العضو المعتلّ، لمّا لم يكن فيه قابليّة الصلاح والمعالجة، فستراه يباشر الايذاء الظاهر، وهو شريك المتأذّي، ولا مندوحة، لتعذّر الجمع بين العافية وترك القطع، لمّا لم يساعد استعداد العضو على ذلك، وكذا في يد من لسعته الحيّة، والمعاصي بمنزلة الآلام والآفات الحاصلة لباطن الإنسان من لذع حيّة الهوى وعقارب الشهوات الكامنة، التي ستظهر بصورها الخاصّة في نشأة القبر والبرزخ وغيرها، فافهم ذلك، وتذكّر: " ما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مسإته ولا بدّ له من ذلك " والوالد يُظهر الغضبَ لولده رعايةً لمصلحة، وهو في ذاته غير غاضبٍ، وإنّما يظن الولد والده مغضباً لما يشاهد من الآثار الدالّة على الغضَب عادة، والأمر بخلافه في نفس الأمر، وإنّما ذلك لقصور نظر الولَد، قال الله تعالى:**{ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }** [آل عمران:131].**{ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ }** [البقرة:24].
ألا ترى أنّ النار قد يتخذ دواء لبعض الأمراض في الدنيا، فهي وقاية وهو الداء الذي لا يشفى إلاّ بالكَيّ من النار.
فكما جعل الله النار وقاية في هذا الموطن من داء هو أشدّ منها في حقّ المبتلى به فكذلك جعل في الآخرة النار دواء كالكيّ من داء، وأيّ داء أكبر من الكبائر، فدفع بدخولهم يوم القيامة داء عظيماً أعظم من النار، وهو البُعد عن حضرته، كما في الحدود الدنيويّة وقاية من عذاب الآخرة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأما النوع الثاني، وهو التطهير، فمثالُه لو أنّ ذهباً مزج برصاص ونحاس لمصلحة لا يمكن حصولها إلا بالمجموع ثم إذا انقضى الوقت المراد لأجله هذا الجمع والتركيب، وحصل المطلوب، وقصد تميز الذهب ممّا مازجه من غير جنسه، لا بدّ وأن يجعل في النار الشديدة لينفرد الذهب عن غير جنسه، ويظهر كماله الذاتي، ويذهب ما جاورَه مما لم يطلب لنفسه وإنّما اريد لمعنى فيه يتّصل بالذهب، وقد اتّصل، كماء الورد، كان أصله ماءً فعاد الى أصله لكن بمزيد عطريّة وكيفيّات مطلوبة.
وهكذا الأمر في الغذاء، توصله الغاذية، وتضمّه الى الإنسان، فإذا استخلصت الطبيعة منه المراد، رمت بالثفل إذ لا غرض فيه، وإليه الإشارة بقوله تعالى:**{ لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }** [الأنفال:37].
وقال أيضاً في هذا المعنى ببيان أوضح وأتمّ تفصيلاً:**{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ }** [الرعد:17 - 18]. الآيات، فتدبّر.
ففيها تنبيهاتٌ شريفةٌ على أحوال أهل قبضة الغضب وأهل قبضة الرحمة.
وأما النوع الثالث: وهو التكميل وهو الأصل في الغاية وما سبق من التوقّي والتطهير كان لأجله، فمشارٌ إليه في تبديل السيّئات حسنات. وأنت إذا تدبّرت وفتّشت حالَ الموجودات عند شدائدها وآلامها، وانقلاباتها الطبيعيّة والذاتيّة، التي بحسب الأسباب الباطنة، لا تجد منها أحداً إلاّ وقد ولاّه الله إلى ما هو خيرٌ له مما كان أولاً، ووجّهه إلى أصله وكماله.
هذا ما اقيم عليه البرهان كما أشرنا من قبل، وحكَم به الاستقراء والتجربةُ والوجدانُ، وفيه سرُّ الربوبيّة وأحدِيّة الفعل من حيث الأصل والفاعل والغاية، مع أنّه لا مُكرِه ولا مُغضِب ولا مُزاحِم ولا رادّ له تعالى من خارج.
وكان أصل ايجاده للعالَم على أكمل وجهٍ اقتضته حكمتُه ومشيّته، فليس في الوجود جهةٌ من الجهات، ولا وجهٌ من الوجوه الوجوديّة، إلاّ وهو أصله ومبدأه ومنشأه فافهم وارْقَ، فإنّك إن علوتَ من هذه النمط، استحليت بسرّ القدَر المتحكّم في العلم والعالم والمعلوم. ومن رقا فوقَ ذلك رأى غلط الإضافات الشائعة في الأفعال والأسماء والصفات والأحوال، وإن رَقا فوق ذلك، رأى الجمالَ المطلق الذي لا قُبح عنده، ولا شرّ فيه، ولا غلظ ولا نقص ولا تخويف.
وإن رقا فوقَ ذلك، رأى الجورَ والعدلَ، والظُلَم والحِلَم والتعظيمَ والإهانةَ، والكتمانَ والإبانَة، والوعْدَ الوعيدَ، كلَّها محترقةً بنور السَبَحات الوجهيّة مستهلكةً في عرصة الحضرة الذاتيّة الأحديّة، فإن رقا عن ذلك، سكتَ فلم يفصح، وعمي فلم ينظر، وذهب فلم يظهر، فإن أعيد ظهرَ بكل وصفٍ، وكان المعنى المحيط بكل حرف.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فصل
في بيان نبذ من فضائل سورة الفاتحة
اعلم أنّ المقصد الأقصى واللباب الأصفى من إنزال القرآن وتنزيله على أشرف خَلْق الله (صلّى الله عليه وآله) أولاً، وعلى أمّته الذين هم خير الأمم ثانياً، هو هداية الخلْقِ وإرشادهم وتكميلهم بسياقتهم إلى الله ودار كرامته، على أتمّ وجهٍ وأشرفه.
وذلك إنّما يحصل بتزيين نفوسهم بأنوار الحكمة والمعرفة، وتجريدها عن رقّ الطبيعة، وأسْر قواها الشهويّة والغضبيّة والوهميّة، التي هي مداخل الشيطان في باطن الإنسان، وتطهيرها عن أرجاس العنصريّات وقاذوراتها، وتخليصها عن مكائد الشياطين وجنودها الداخليّة والخارجيّة.
فالقرآن مشتملٌ من الحكمة والمعرفة على عظائمها وأصولها، التي عجزت عن دركها أفهام السابقين واللاحقين، ومن الشريعة والطريقة على لطائفها ولبابها، التي خلت عنها زُبر المتقدّمين والمتأخّرين.
ولعمري، إنّه كصورة جمعيّة العالَم المخلوق على صورة الرحمن، الدالّ بهيئته ونِظامه، واشتماله على مَظاهر الصفات الجماليّة من الملائكة وأنوارها ومَن ضاهاها، والصفات الجلاليّة من الأجسام وقواها وما شابَهها، على وجود مَن له الخلْق والأمر.
ونسبة سورة الفاتحة الى القرآن كلّه، كنسبة الإنسان - وهو العالَم الصغير - إلى العالَم - وهو الإنسان الكبير-.
وكما أنّ الإنسان الكامل كتابٌ وجيزٌ ونسخةٌ منتخبةٌ، يوجَد فيه كلّ ما في الكتاب الكبير الجامع الذي لا رطب ولا يابس إلاّ ويوجد فيه، ولا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها. كما قيل:
| **من كلّ أمرٍ لبُّه ولطيفُه** | | **مستودَعٌ في هذه المجموعة** |
| --- | --- | --- |
فكذلك فاتحة الكتاب، مع قِصرها ووجازتها، توجَد فيها مجامع مقاصد القرآن، وأسرارها وأنوارها، وليس لغيرها من سائر السور القرآنيّة هذه الجامعيّة، كما ليس لواحد من صوَر أجزاء العالَم ما للإنسان من صورة الجمعيّة الإلهيّة على ما قيل:
| **ليسَ من الله بمستنكرٍ** | | **أن يجمعَ العالَم في واحدٍ** |
| --- | --- | --- |
والعارف المحقّق، يفهم من هذه السورة الواحدة جميعَ المعارف والعلوم الكليّة المنتشرة في آيات القرآن وسوَره، كما وقعَ التنبهُ عليه، ومن لم يفهم هذه السورة على وجه يستنبط منها عمدة أسرار العلوم الإلهيّة والمعالم الربّانية؛ من أحوال المبدَعو المَعاد، وعلم النفس وما بعدها وما فوقها، الذي هو مفتاحُ سائر العلوم كلّها، فليس هو بعالِم ربّاني، ولا مهتدٍ بتفسيرها على وجهه.
ولو لم تكن هذه السورة مشتملة كما قلنا على أسرار المبدء والمعاد، وعلم سلوك الإنسان إلى ربّه، لما وردت الأخبار على فضلها، وأنّها تُعادل كلَّ القرآن، إذ لا مرتبة ولا فضيلة لشيءٍ بالحقيقة إلاّ بسبب اشتماله على الأمور الإلهيّة وأحوالها كما مرّ مراراً.
ولو أن إنساناً أراد أن يعلم انّ أي الأشياء هو أفضل ما به يتقرّب العبدُ الى الله تعالى، وأيّها اكسير السعادة الأخرويّة التي يجعل حديد قلب الإنسان ذهباً خالصاً وإبريزاً صافيا يليق أن تتختم به يد الملك ويختم به خزائنه الشريفة، فليتأمّل وليذعن ان ذلك يجب أن يكون من الأمور التي أنزلها الله على قلب بشر، ويجب أن يكون ذلك الشيء من قبيل ما يوجَد في كتب الأنبياء سلام الله عليهم وخزائن أسرارهم، والذي أفاض على قلوبهم من العلوم والمعارف.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ولا بدّ أن يكون النبيّ الذي أوحى الله إليه بهذا الأمر الذي هو أشرف ما يستكمل به جوهر الإنسان، هو أشرف الأنبياء وأفضلهم وخاتمهم عليه وآله أفضل التحيّات وأنور التحميدات.
ولا بدّ أن يكون المكانُ والزمانُ الذي وقع الايحاء والتكليم والهدايةُ له (صلّى الله عليه وآله) بهذا أعلى الأمكنة، وأسعد الأزمنة، فلا بدّ أن يكون ذلك الإنعام عليه عند عروجه إليه تعالى ليلة المعراج، والذي نزلَ ليلة المعراج على النبي (صلّى الله عليه وآله) من السوَر والآيات، كان هذه السورة وخواتيم سورة البقرة.
فهذا مما دلّ على أن أفضل السوَر سورة الفاتحة، وأفضل الآيات خواتيم سورة البقرة، ولهذا لا بدّ وأن يكون كلاً منهما مشتملاً على غاية الكمال الإنساني.
وسبب ذلك، أن سعادة الدارين، إنّما تتمّ بدعوة الخلْق من قِبَله تعالى بواسطة متوسّطٍ مؤيَّدٍ شريفٍ مطاعٍ أمينٍ كما قال تعالى:**{ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ }** [التكوير:20- 21]. ولكلّ مؤيَّد مطاع في الروحانيات مطاع في الجسمانيات، بل المطاع في الروحانيّات ثمرة المطاع في الجسمانيّات، فإنّ الدنيا بحذافيرها مظاهر وفروع لِما في الروحانيات، لأنّ نسبة عالَم الغيب إلى عالَم الشهادة نسبة الأصل إلى الفرع، ونسبة النور الى الظلّ، فكلّ شاهد فله في الغائب أصل، وإلاّ لكان كسراب زايل وخيال باطل، وكلّ غائب فله في الشاهد مثال، وإلاّ لكان الشاهد كشجرة بلا ثمرةٍ، ودليل بلا مدلولٍ، فالمطاعُ ها هنا صورةُ المطاعِ هناك، والمطاعُ في عالَم الأرواح هو المصدر، والمطاع في عالَم الأجسام هو المظهر، وبينهما ملاقاة واتّصال، وبهما تتمّ سعادة الدارَين، لأنهما يدعوان الى الله بالرسالة.
وحاصل الدعوة والرسالة أمور سبعة تشتمل عليها خواتيم سورة البقرة، منها أربعةٌ متعلقةٌ بأسرار المبدء وهي: معرفة الربوبيّة وعلم المفارقات من الحكمة الإلهيّة، أعني معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله:**{ آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ }** [البقرة:285].
ومنها ما يتعلّق بالوسط وهو إثنان: أحدهما معرفة العبوديّة:**{ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }** [البقرة:285]. والثاني كمال العبوديّة، وهو الإلتجاء الى الله تعالى وطلب المغفرة منه:**{ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا }** [البقرة:285]، وواحد يتعلق بالمعاد، وهو الذهاب الى الملك الجواد:**{ وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ }** [البقرة:285] فكذلك تشتمل هذه السورة على هذه الأمور السبعة:
فقوله: { بسم الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ، مشتملٌ على توحيد الذات والصفات.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، فيه توحيد الأفعال وهي قسمان: عالم الأمر، وفيه الملائكة المقرّبون، وعالَم الخلْق، وأصله وصفوته الأنبياء والمرسلون ومن يتلوهم.
وقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ، إشارة إلى عالم التحميد والتقديس والتسبيح، وفيه الملائكة المسبّحون بحمده تعالى.
وقوله: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، إشارة الى كُمَّل أهل العلم والعرفان، وهم الأنبياء والأولياء ومن يتلوهم.
وقوله: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ، أي رحمـٰن الدنيا ورحيم الآخرة، فيه إشارة الى أهل الرحمة الإلهية في كِلا العالَمين، وهم الملائكة والرسل.
وقوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } ، إشارة الى حقيقة المعاد، ورجوع الكل إليه تعالى، لأنه غاية الغايات.
وقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، إشارة الى كيفية العبودية بتهذيب الأخلاق وتصفية الباطن، وإلى طلب الالتجاء الى الله، وهي حالة الإنسان فيما بين البداية والنهاية.
وقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، إشارة الى العلم بكلمات الله وآياته.
وقوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، إلى آخر السورة، إشارة الى القرآن المجيد الذي هو أشرف الكتب السماوية، وهي الألواح النفسية النازلة على الأنبياء السابقين، لأن الجوهر النفسي العقلي من النبي (صلّى الله عليه وآله) الذي هو جوهر النبوة، كلمة إلهية بوجه، وكتاب مبين فيه آيات الحكمة والمعرفة بوجه، هو بعينه صراط الله العزيز الحميد، إذ لا يمكن وصول العبد الى الله إلا بعد الوصول الى معرفة ذاته، وكذا من ينوب عنه (ع)، كما دلّ عليه الحروف المقطّعات القرآنية: " عليٌّ صراط حقّ نُمسكه ".
وتنبعث من هذه المراتب سبع مقامات في المكالمة الحقيقية مع الله بالدعاء:
أولها: الذِكْر:**{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا }** [البقرة:286]. فضد النسيان وهو الذكر،**{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }** [الكهف:24]. وهذا الذكر إنما يحصل بقوله: { بسم الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }.
وثانيها:**{ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا }** [البقرة:286]، ورفع الإصْر والمشقّة في الحمل يوجب الحمد: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }.
وثالثها:**{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ }** [البقرة:286]، وذلك إشارة الى كمال رحمته: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }.
ورابعها:**{ وَٱعْفُ عَنَّا }** [البقرة:286] لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة يوم الآخرة: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }.
وخامسها:**{ وَٱغْفِرْ لَنَا }** [البقرة:286]، لأنا التجأنا بكليّتنا إليك، وتوكّلنا في جميع الأمور عليك: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.
وسادسها:**{ وَٱرْحَمْنَآ }** [البقرة:286]، لأنا طلبنا الهداية منك { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }.
وسابعها:**{ أَنتَ مَوْلاَنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ }** [البقرة:286]، { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }.
فهذه المراتب ذكَرها محمد (صلّى الله عليه وآله) في عالم الأرواح عند صعوده إلى المعراج، فلمّا نزل من المعراج الجسماني السماوي، فاض أثر المصدر على المظهر، فوقع التعبير عنها بالمكالمة الصورية في عالم السماء الدنيا بينهما بسورة الفاتحة، فمن قرأها في صلاته، صعدت هذه الانوار من المظهَر إلى المصدَر، كما نزلت في عهد محمّد (عليه وآله السلام) من المصدَر الى المظهرَ، ولهذا السبب قال صلوات الله عليه وآله:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" الصَلاةُ معراجُ المؤمنِ ".** وأما الاخبار الدالّة على فضلها فكثيرة. منها ما روي مسنداً الى أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): **" أيّما مسلم قرءَ فاتحةَ الكتاب، أُعطي من الأجر كأنّما قرءَ ثُلثَي القرآن. وفي رواية: كأنّما قرءَ القرآن ".** وروي عنه بسند آخر قال: قرأتُ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاتحة الكتاب، فقال: **" والذي نفسي بيده، ما أنزل الله في التوراة والإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلَها. هي أمّ الكتابِ. وهي السبع المثاني. وهي مقسومةٌ بين الله وبين عبده ولعبده ما سأل ".** وفي كتاب محمد بن مسعود العيّاشي، باسناده عن النبي (عليه وآله السلام) قال لجابر بن عبد الله: **" يا جابِر، ألا اعلّمك بفضل سورةٍ أنزلها الله في كتابه؟ قال: فقال له جابر: بلى بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، علّمنيها، قال: فعلّمه الحمدَ، أمّ الكتابِ، ثمّ قال: يا جبر، ألا أُخبِركَ عنها؟ قال: بلى بأبي أنت وأمّي، فأخبرني. فقال: هي شفاءٌ من كلّ داءٍ إلاّ السام "** ، والسام الموت.
وعن جعفر الصادق (عليه السلام) قال: من لم يبرأه الحمدِ لم يبرأه شيء.
وروي عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): **" إنّ الله عزَّ وجلّ قال: يا محمد، { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثاني والقُرْآنُ الْعظيم }. فأفرد الامتنان عليَّ بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن "** وإنّ فاتحةَ الكتاب أشرفُ ما في كنوز العرشِ، وإنّ الله خصَّ محمداً وشرَّفه بها، ولم يشرك فيها أحداً من أنبيائه، ما خلا سليَمان (عليه السلام)، فإنّه أعطاه منها: { بِسْمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيم } ، أَلاَ ترى يحكى عن بلقيس حين قالت:**{ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }** [النمل:29 - 30]. ألا فمَن قرأها معتقداً لموالاة محمد وآله، منقاداً لأمرها، مؤمناً بظاهرها وباطنها، أعطاه الله بكلّ حرفٍ منها حسنةً، كلّ واحدٍ منها أفضل له من الدنيا بما فيها، ومن استمع الى قارئ يقرأها كان له قدْر ثُلث ما للقاري، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرّض له، فإنّه غنيمةٌ لا يذهبن أوانُه فيبقى في قلوبكم الحسرة.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: إنّ القوم ليبعثُ الله عليهم العذابَ حتماً مقضيّاً، فيقرأ صبيٌّ من صِبيانهم في الكتاب: الحمدُ لله ربِّ العالمين فيسمعه الله تعالى، فيرفع عنهم العذابَ أربعين سنة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بَينا نحنُ عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إذ أتاه مَلَك فقال: ابشر بنورَين اوتيتَهما، لم يؤتهما نبيٌّ قبلَك: فاتحةُ الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن يقرأ [أحد] حرفاً منها إلا اعطيته (ما يتضمّنه - ن).
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
أقول: وفي طيِّ هذه الأخبار - سيما هذا الأخير - إشاراتٌ علميّةٌ، وتعريفات سرّية، ورموز معنويّة، وتنبيهات عرفانيّة على جوامع الكمالاتِ العقليّة، والمعارج الإلهية المندرجة في هذه السورة، لا يعرفُ قدرَها، ولا يفهم غورَها إلاّ الراسخون في العلم والدين، والسالكون طرقَ الكشف واليقين. لا المتشبثّون بذيل العبارات، والمتردّدون كالخفافيش في ظلمات هذه الاستعارات.
تتمة استبصارية
[جامعية السورة لأهم المعارف]
ومن فضائل هذه السورة، إنّها جامعةٌ لكلّ ما يفتقرُ إليه الإنسان في معرفة المبدء والوسط والمعاد:
الحَمدُ لله: إشارة الى إثبات الصانع المختار العليم الحكيم، المستحقّ للحمدِ والتعظيم.
ربِّ العَالَمين: يدلّ انّ ذلك الإله واحدٌ، وانّ كل العالمين ملكه، وليس في العالَم إله سواه ولهذا جاء في القرآن الاستدلال بخَلْق الخلائق كثيراً:**{ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ }** [البقرة:258].**{ ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }** [الشعراء:78].**{ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ }** [طه:50].**{ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ }** [الشعراء:26].**{ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }** [البقرة:21]**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ }** [العلق:1 - 2].
وهذه الحالة، كما انّها في نفسها دليلٌ على وجود الربّ، فكذلك هي في نفسها إنعامٌ عظيمٌ، وذلك لأنّ تولّد الأعضاء المختلفة الطبائع والصوَر من النطفة المتشابهة الأجزاء، لا يمكن، إلاّ إذا قصَد الخالِق ايجادَ تلك الأجزاء على تلك الصوَر والطبائع، وكلٌّ منها مطابقٌ للمطلوب، موافقٌ للغرض، كما يشهد به علم تشريح الأبدان، فلا أحقَّ بالحمْد والثناء من هذا المنعِم المنّان الكريم، الرحمن الرحيم، الي شمل إحسانُه وعمَّ امتنانه قبل الموت وبعد الموت.
مَالِكِ يَومِ الدين: يدلّ على أن من لوازم حكمته ورحمته، أن يقدّر بعد هذا اليوم يوماً آخر يظهر فيه تمييز المُحسِن من المُسيء، وانتقام المظلومِ من الظالِم، وها هنا تمّت معرفة الربوبيّة.
ثمّ من قوله: { إيَّاك نَعبُدُ } ، اشارة الى الأمور التي لا بدّ من معرفتها في تقرير العبوديّة وهي نوعان: والآثار المتفرّعة على الأعمال، كالأحوال، ثمّ الأعمال لها رُكنان، أحدهما: الإتيان بالعبادة وهو قوله: { إيَّاكَ نعبُدُ } ، والثاني: علمه بأنّه لا يمكنه ذلك إلاّ بإعانة الله، وهو قوله: { وَإيَّاكَ نَستَعينُ }.
وأما الآثار والأحوال المتفرّعة على الأعمال، فهي حصول الهداية، والتحلّي بالأخلاق الفاضلة المتوسّطة بين الطرفين، المستقيمة بين المنحرفين { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمِ } إلى آخره.
وفي قوله: { صِرَاطَ الّذينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِم } ، دليلٌ على أن الاستضاءَة بأنوار أرباب الكمال وأهل الحقّ، خلّةٌ محمودةٌ، وشيمةٌ مرضيّةٌ: هم القوم لا يشقى جليسهم.
**{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ }** [آل عمران:31].
وفي قوله: { غَيْر المَغْضُوبِ عَلَيهِم وَلاَ الضّالّين } ، إشارة الى أنّ التجنّب عن مرافقة أصحاب البِدعِ والأهواء أمرٌ واجب. شعر:
| **الجمْر يوضَع في الرمادِ فيخمده** | | **فكلّ قرينٍ بالمقارِن يقتدي** |
| --- | --- | --- |
فصل
في نظم هذه السورة وترتيبها
إنّ العاقل الفِهم المميّز، لما نظَر في وجودات هذا العالَم، علم بالمشاهدة والقياس افتقار بعضها إلى بعض، تحقّق وتيقّن أنّها في سلسلة الحاجة منتهية الى موجودٍ قديمٍ قادرٍ يفعل الخيرات كلّها، ويرحم على خلقه في الآخرة والأولى، فابتدء بآية التسمية تبرّكاً واستفتاحاً باسمه، واعترافاً بآلهيّته، واسترواحاً الى ذكر فضله ورحمته وكرمه ورأفته.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ولمّا كان الاعتراف بالحقّ، والعلم بالله الفرد الأحد الذي هو مبدء الخيرات كلّها، وفاتح المهمات جلّها، نعمة جليلة، اشتغل بالشكر له والحمد فقال: الحَمْدُ لله، ولما رأى سراية نور التوحيد ونفوذ رحمة الوجود على غيره واضحة بنور الحجّة والبرهان، كما شاهَد آثارها على نفسه لائحةً بقوّة الكشف والعيان؛ عرف انّه ربّ الخلائق أجمعين فقال: رَبِّ العَالَمين.
ثمّ لما رأى شمول فضله للمربوبين ثابتاً بعد إفاضة أصل الوجود عليهم، وعموم رزقه للمرزوقين حاصلاً بعد إكمال الصورة في أطوار الخلقة لهم، قال: الرَّحْمٰن
فلما رأى تفريطهم في حقّه وواجب شكره، وتقصيرهم في عبادته والانزجار عند زجره، واجتناب نهيه، وامتثال أمره، وأنّه تعالى يتجاوز بالغفران، ولا يؤاخذهم عاجلاً بالعصيان، ولا يسلبهم نعمَه بالكفران، قال: الرحيم.
ولما رأى ما بين العباد من التباغي والتظالم، والتكالم والتلاكم، وأن ليس بعضهم من شرّ بعضهم بسالمٍ، علِم أنّ وراءَهم يوماً ينتصف فيه للمظلوم من الظالِم فقال: { مَالِك يَومِ الدّين }.
وإذا عرف هذه الجملة، فقد علم أنّ له خالقاً رازقاً رحيماً، يحيي ويميت، ويبدئ ويعيد وهو الحي الذي لا يموت، والإله الذي لا يستحق العبادة سواه والمستعان الذي لا يستعين بغيره من عرفه ووالاه، وعلم أنّ الموصوف بهذه الأوصاف كالمدرَك بالعيان والمشهود بالبرهان، تحوّل عن لفظ الغيبة الى لفظ الخطاب فقال: ايّاكَ نَعبُد.
ولما رأى اعتراض الأهواء والشبهات، وتعاور الآراء المختلفات، ولم يجد مُعِيناً غير الله، سأله الإعانة على الطاعات بجمع الأسباب لها والوصلات فقال: ايّاكَ نَستَعينُ. ولما عرف هذه الجملة، وتبيّن أنّه بلغ في معرفة الحقّ المدى، واستقام على منهج الهُدى، ولا يأمن العثْرة لارتفاع العصْمة، سأل الله تعالى التوفيق للدوام عليه، والثبات والعصْمة من الزلاّت فقال: { اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقيم }. وهذا لفظ جامع كما علمتَ، مشتمل على مجامع أسباب التوفيق والتسديد، ولطائف نعم الله في حق من يختاره للنهاية ويريد، وأوجب الله طاعتهم بعد طاعته من الأئمة الهادين والأولياء المرضيين.
وإذا علم ذلك، علم أنّ لله عباداً خصّهم بنعمته، واصطفاهم على بريّته وجعلهم حُججاً على عباده، ومناراً في بلاده، فسأله أن يلحقه بهم ويسلم به سبيلهم فقال: صِرَاطَ الّذينَ انْعَمْتَ عَلَيْهِم.
وسأله أيضاً أن يعصمه عن مثل أحوال الذين زلّت أقدامُهم فضلّوا، وعدلت أفهامُهم فأضلّوا، ممن عانَد الحقّ وعمي عن طريق الرشد وخالَف سبيلَ القصد، فغضب الله عليه ولعنَه وأعدّ له عذاباً أليماً وخزياً مقيماً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
إذ قد شكّ في واضح الدليل فضلّ عن سواء السبيل، فقال: { غيْرِ الْمَغضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضّالّين }.
منهج آخر
في نظم فاتحة الكتاب
وهو إن للإنسان أيّاماً ثلاثة:
الأمس: والبحث عنه يسمّى بمعرفة المبدء واليوم الحاضر: والبحث عنه يسمى بالوسيط والغد: والبحث عنه يسمى بعلم المعاد. والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب وتعليم هذه المعارف الثلاثة التي كمال النفس الإنسانية منوط بمعرفتها، ونفس الأعمال البدنيّة إنّما تراد لأجلها، لأنّ غايتها تصفية مرآة القلب عن الغواشي البدنيّة، والظلمات الدنيويّة، لأن يستعدّ لحصول هذه الأنوار العقليّة، وإلاّ فنفس هذه الأعمال الحسَنة ليس إلا من باب الحركات والمتاعِب، ونفس التصفية المترتبة عليها ليست إلا أمراً عدميّاً لو لم يكن معها استنارة صفحة القلب بأنوار الهداية، وتصوّرها بصورة المطالِب الحقّة الإلهيّة، والقرآن متضمّن لها وهي العمدة الوثقى فيه لما ذكرنا.
ولمّا كانت هذه السورة مع وجازتها متضمنة لمعظم ما في الكتب الإلهيّة من المسائل الحقّة، والمقاصد اليقينيّة المتعلّقة بتكميل الإنسان، وسياقته إلى جوار الرحمن، فلا بد أن يتحقّق فيها جميع ما يحتاج اليه الإنسان منها، فنقول هي هكذا.
أمّا اشتمالها على علم المبدء، فقوله تعالى: { الْحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمين } ، إشارةٌ الى العلم بوجود الحقّ الأول، وأنّه مبدأ سلسلة الموجودات، وموجِد كلّ العوالِم والمخلوقات.
وقوله: { الرَّحْمٰنِ الرَّحيـم } إشارة إلى العلم بصفاته الجلاليّة وأسمائه الحُسنى.
وقوله: { مَالِكِ يَومِ الدّين } هو إثبات كونه سبباً غائيّاً للمخلوقات كلّها، كما انّه سببٌ فاعليٌ لها جميعاً، ليدلّ على أنّ فاعليّته على غاية الحِكْمة والتمام، ورعاية المصلحة للأنام.
وأما اشتمالها على علْم الوسط فلأن قوله: { ايّاكَ نَعبُدُ وايّاكَ نَستَعين } ، إشارة الى الأعمال والأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عاملاً بها ومديماً عليها، ما دام كونه في هذه الحياة الدنيا. وهي قسمان: بدنيّة وقلبيّة. فالبدني: تهذيب الظاهر عن النجاسة، وتزيينه بالعبادة، كالصلاة والصيام وغيرها.
والقلبي: تهذيب الباطن عن الغشاوات وخبائث الملكات، بإعانة الله وتوفيقه، لتستعدّ نفسه بذلك لأن تتنوّر بأنوار المعارف الإلهية، وتستكمل بالحقائق الربّانية، ليتقرّب بذلك الى الله ويحشر الى دار كرامته كما دلّ عليه قوله تعالى: { اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمِ } ، أي علّمنا طريق الوصول إليك.
وأما اشتمالها على علم المعاد، وهو العلم بأحوال النفس الإنسانيّة الكاملة في العلم والعمل، المبرأة عن آفة الجهل ونقص العصيان، فقوله: { صِرَاطَ الّذينَ انْعَمْتَ عَلَيْهِم } إلى آخراها؛ إشارة الى علم النفس، وهي صراط الله العزيز الحميد، وباب الله المؤتى منه الى الحق، فبالنفس الإنسانيّة العالِمة العامِلة المهتدية بنور الله، يُساق الخلْق الى الحقّ، ويدخل الخلائق كلهم في طريق العود من هذا الباب الى الخالِق، فإنّ الوجود في صورة دائرة انعطف آخرها على أولها، فكما أنّ الوجود في الابتداء كان أولاً العقل، ثمّ النفس الكليّة، ثمّ الطبيعة الكليّة، ثمّ الأبعاد والأجرام كلّها، ففي الإنتهاء كان أولاً جماداً، ثمّ نباتاً، ثمّ حيواناً، ثمّ إنسانا، وله مراتب باطنيّة، كان أولاً في مقام الطبيعة والنفس الكليّة، ثمّ الطبيعة الكليّة، ثمّ الأبعاد والأجرام كلّها، ففي الإنتهاء كان أولاً جماداً، ثمّ نباتاً، ثمّ حيواناً، ثمّ إنساناً، وله مراتب باطنيّة، كان أولاً في مقام الطبيعة والنفس، ثمّ في مقام القلب والعقل، ثمّ في مقام الروح والسرّ، وإذا بلغ الى هذا المقام، اتّصل بغاية الكمال والتمام.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
تذييل
ثمّ إنّ لهذه الكريمة نكاتٍ ووجوهاً أخرى من التأويل كثيرة، مذكور بعضها في التفاسير المعتبرة لأهل العلم والتحصيل، كالكبير والنيسابوري وغيرهما، اخترت منها وجوهاً ثلاثة فأردت ايرادها هاهنا تكميلاً للكتاب، وتكثيراً للفوائد في هذا الباب.
الوجه الاول
إن آيات الفاتحة سبعٌ، وأعمال الصلاة المحسوسة الواجبة بالإتّفاق سبعةٌ، إذ النيّة فعلُ القلب وليس بمحسوس، ومراتب خلقة الإنسان وأطوارها سبع، كما قال تعالى:**{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }** [المؤمنون:12 - 14].
وكذلك مراتب جوهر باطنه وأطواره سبعٌ وهي الطبعُ والنفسُ والقلبُ والروحُ والسروُّ والخفيُّ والأخفى، فنور آيات الفاتحة يسري من ألفاظها المسموعة الى الأعمال السبعة المحسوسة، ومنها الى هذه المراتب الخلقيّة، ومن معانيها الى النيّات المتعلّقة بتلك الأعمال، ومنها الى هذه المراتب الباطنيّة الأمريّة، فيحصل للقلب أنوارٌ روحانيةٌ ثمّ ينعكس منه الى ظاهر المؤمن: مَن كثُر صلاتُه بالليلِ حسُن وجهُه بالنهار.
الوجه الثاني
كان لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) معراجان من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى، ثمّ من المسجد الأقصى الى ملكوت السماء، هذا في عالَم الحسّ، وأمّا في عالَم الروح، فمن الشهادة الى الغيب، ثمّ من الغيب الى غيب الغيب، هذا بمنزلة قوسين متلاصقين. فتخطّاهما محمّدٌ (صلّى الله عليه وآله)، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ، وقوله: او ادْنىٰ، إشارة الى فنائه في نفسه.
والمراد بعالَم الشهادة، كلّ ما يتعلق بالجسم والجسمانيات.
وبعالَم الأرواح، ما فوق ذلك من الأرواح السفليّة، ثمّ المتعلّقة بسماءٍ سماءٍ إلى الملائكة الحافّين من حول العرش، ثمّ الى حَمَلة العرش من عند الله الذين طعامهم وشرابهم محبّته تعالى، وانسهم بالثناء عليه، ولذّتهم في خدمته، لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبّحون الليل والنهار لا يفترون.
وهكذا يتصاعد إلى نور الأنوار وروح الأرواح، ولا يعلم تفاصيلها إلا الله أو من ارتضاه.
والمقصود؛ أنّ نبيّنا (صلّى الله عليه وآله)، لما عرج وأراد أن يرجع، قال ربّ العزة: المسافرُ إذا عادَ إلى وطنه أتحف أصحابَه. وإنّ تحفةَ أمّتك الصلاة الجامعة بين المعراجين: الجسمانيّ بالأفعال، والروحاني بالأذكار والنيّات.
فليكن المصلّي ثوبه طاهراً وبدنه طاهراً، لأنه بالواد المقدس طُوى، ويصفي النفس عن الكدورات الشيطانيّة، والهواجس البشريّة، لأنه بين يدي الله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والصلاة هي التعبّد للمعبود الأعظم، والتعبّد هو عرفان الحقّ الأول بالسرّ الصافي والقلب النقيّ.
وأيضاً، عنده مَلَكٌ وشيطانٌ ودينٌ وعقلٌ وهوىً، وخيرٌ وشرٌّ وصدقٌ وكذبٌ، وحقّ وباطلٌ، وقناعةٌ، وحِرصٌ وحِلم وطيْشٌ، وسائر الأخلاق المتضادّة والصفات المتنافية، فلينظر أيّها يختار، فإنّه إذا استحكم المرافقة تعذّرت المفارقة، قال تعالى:**{ يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ }** [التوبة:119].
ثمّ إذا تطهَّر وتجرَّد، فليرفع يدَيه إشارة الى توديع الدنيا والآخرة، وليوجّه قلبَه وروحَه وسرَّه الى الله تعالى، ثم ليقُل: الله أكبرَ، أي من كلّ الموجودات، بل هو أكبر من أن يقاس إليه غيره.
وقل: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَّماواتِ والارْضَ حَنيفاً، فقولك: وَجَّهتُ وجهي؛ هو معراج الخليل على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام. كما انّ قولك: سُبْحَانَكَ اللّهمَ وبِحمْدِك، معراج الملائكة حيث قالوا: نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، وقولك: انّ صلاتي وَنُسُكي وَمَحْيَايَ وَمَماتي لله رَبِّ العَالَمِين، معراج الحبيب محمّد (صلّى الله عليه وآله).
فقد جمع المصلّي بين معراج الملائكة المقرّبين، ومعراج عظماء الأنبياء المرسلين.
ثمّ إذا فرغتَ من هذه الحالة فقل: اعُوذُ بالله منَ الشّيطانِ الرَجيم، حذرَاً عن مَكْره وإغوائه، ودفعاً لإعجابك عن نفسك، وفي هذا المقام يُفتح لك أحدُ أبواب الجنّةِ وهو بابُ المعرفة.
وبقولك: { بِسْم الله الرّحمنِ الرَّحيم } ، يُفتح باب الذِكْر.
وبقولك: { الحَمدُ لله ربِّ العالَمين } ، يُفتح باب الشكْر.
وبقولك: { الرّحمٰن الرَّحيـم } ، يُفتح باب الرَجاء.
وبقولك: { مَالِك يَوم الدينِ } ، يُفتح باب الخوف.
وبقولك: { ايَّاك نعبدُ وايّاكَ نستعين } ، يفتح باب الإخلاص المتولّد من معرفة العبوديّة.
وبقولك: { اهدِنَا الصرَاطَ المستقيم } ، يفتح باب الدعاء والتضرّع، ادْعوني اسْتَجِب لَكُمْ.
وبقولك: { صِرَاطَ الذينَ أنْعَمتَ علَيهِم } إلى آخره، يفتح بابُ الإقتداء بالأرواح الطيّبة، والإهتداء بأنوارهم.
فجنّات المعارف الربّانية انفتحت لك أبوابُها الثمانية بهذه المقاليد الروحانيّة، فهذا بيان المعراج الروحاني في الصلاة.
وأمّا الجسماني، فأولى المراتب أن يقومَ بين يدَي الله كقيام أصحاب الكهف:**{ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ }** [الكهف:14]، بل قيام أهل القيامة يوم يقوم الناس لربّ العالَمين.
ثمّ اقرء: سبحانَك اللهم وبحمدِك، ثمّ وجَّهت وجهي، ثمّ الفاتحة، وبعدها ما تيسّر لك من القرآن، واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك، حتّى تستحقرها، وايّاك وأن تنظر من عبادتك الى الله، فإنّك إن فعلتَ ذلك صرتَ من الهالكين، وهذا سرّ قوله: { ايّاكَ نَعْبدُ وايَّاكَ نَستَعينُ } ، كما ذكر.
واعلم أنّ نفسك إلى الآن جارية مجرى خشبَة عرضتَها على نار خوف الجلال، فلانَت، فاجعَلْها منحنيةً بالركوع، ثمّ اتركها لتستقيم مرّة أخرى، فإنّ هذا الدين متينٌ فأَوْغِل فيه بالرفْق، فلا تبغّض طاعةَ الله الى نفسك، فان المُنْبَتّ لا أرضاً قطَعَ ولا ظهْراً أبقى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فإذا عادت الى استقامتها فانحدر الى الأرض بغاية التواضع، واذكُر ربّك بغاية العلوّ وقل: سُبحان ربّي الأعلى، فإذا سجدتَ ثانية فقد حصل ثلاثة أنواع من الطاعة، ركوع واحد، وسجدتان، فبالركوع تنجو من عقبة الشهوات.
وبالسجود الأول من عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات.
وبالسجود الثاني تنجو من عقبة الهوى الداعي الى كل المضلاّت، فإذا تجاوزت عن هذه الدركات وصلتَ الى الدرجات العاليات، وملكت الباقيات الصالحات، وانتهيتَ الى عتبة باب الجلال والإكرام، مدبّر عالَمي النور والظلام، فقل: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له؛ لتتمّ لك بهذه الشهادة معرفة المبدأ، وأشهدُ أنّ محمداً عبده ورسوله، لتتمّ لك معرفةُ المعاد، وليصعد إليه نورُ روحك، وينزل اليك روح محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فيتلاقى الروحان، ويحصل هناك الرَوْح والريحان، فقل: السلامُ عَلَيكَ أيّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته، فعند ذلك يقول محمد (صلّى الله عليه وآله): السلامُ علَينَا وعَلَى عِبادِ الله الصَّالِحين.
ثمّ إذا ذكرتَ الله في صلاتك بهذه الأثنية والمَحامد، ذكَر الله ايّاك في محافل الملائكة كما قال …………………: مَن ذكَرني في ملاءٍ ذكرتُه في مَلاءٍ خيرٍ من مَلائِه.
وإذا سمع الملائكةُ ذلك اشتاقوا الى العبد، فقال الله: إن الملائكة اشتاقوا الى زيارتك، وقد جاؤوك زائرين، فابدأ بالسلام عليهم لتكون من السابقين، فقل: السلامُ عَليكُمْ ورحمةُ الله وبركاتُه، كلام أهل الجنة الذين تحيّتهم فيها سلام، فلا جَرَم إذا دخَل المصلّون الجنةَ { يَدخُلُونَ عليْهمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقَبى الدَّارِ }.
الوجه الثالث
إنّ آياتِ الفاتحة سبعٌ، والأعمال المحسوسة في الصلاة غير القراءة والأذكار سبعةٌ: القيامُ، والركوعُ، والانتصابُ منه، والسجودُ الأول، والانتصاب منه، والسجودُ الثاني، والقَعْدةُ.
فهذه الأعمال كالشخص، والفاتحةُ لها كالروح، وإنّما يحصل الكمال والحياة عند اتّصال الروح بالجسَد. فقوله: { بِسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ } ، بإزاء القيام، ألاَ ترى أنّ الباء في بِسْمِ الله، لمّا اتّصل باسم الله حصَل قائماً مرتفعاً.
وأيضاً، التسمية لبداية الأمور، كلّ امرٍ ذي بالٍ يُبدأ فيه باسم الله فهو أبتر والقيام أيضاً أول الأعمال.
وقوله: { الحمدُ لله ربِّ العَالَمين } ، بإزاء الركوع، لأنّ الحمد في مقام التوحيد نظراً إلى الحقّ وإلى الخلْق، والمنعم والنعمة. لأنّه الثناء على الله بسبب الإنعام الصادر منه إلى العبد، فهو حالةُ متوسّطة بين الإعراض والإستغراق، كما انّ الركوع حالةٌ متوسّطة ين القيام والسجود، وأيضاً ذكْر النعمة الكثيرة مما يثقل الظَهْر فينحني.
وقوله: الرحمٰنِ الرحيـم، مناسب للانتصاب، لأنّ العبد لمّا تضرّع الى الله بالركوع، فاللائق برحمته أن يردّه الى الانتصاب، ولهذا قال (صلّى الله عليه وآله): إذا قال العبدُ: " سمِع الله لِمنْ حَمِدَه " نظَر إليه بالرحمة.
وقوله: مَالِك يوم الدين مناسبٌ للسجدة الأولى، لدلالته على كمال القهر والجلال والكبرياء، وذلك يوجب الخوف الشديد المستتبع لغاية الخضوع.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقوله: { ايَّاكَ نعبدُ واياكَ نَستعين } ، مناسب للقعدة بين السجدتين، لأن إيّاك نعبدُ إخبار عن السجدة التي تقدّمت، وإيّاك نَستعينُ، إستعانة بالله في أن يوفّقه للسجدة الثانية.
وقوله: { اهدِنا الصِّرَاطَ المُستَقيمِ } ، سؤالٌ لأهم الأشياء، فتليق به السجدة الثانية لتدلّ على نهاية الخضوع.
وقوله: { صِرَاطَ الذينَ انْعَمْتَ عَلَيْهِم } إلى آخره، مناسبٌ للقعود، لأنّ العبدَ لمَا أتى بغاية التواضع، قابلَه الله بالإكرام والقعود بين يديه، وحينئذ يقرأ ما قرأه محمّد (صلّى الله عليه وآله) في معراجه، فالصلاة معراجُ المؤمن.
وجه رابع
إنّ المداخل التي يأتي الشيطان من قِبلَها ثلاثة: الشهوةُ والغضبُ والهوى والشهوةُ بهيمةٌ والغضب سَبْعٌ والهوى شيطان، فالشهوة آفة عظيمة، لكن الغضب أعظم منها. والغضب آفة عظيمة، لكن الهوى أعظم منه، قال سبحانه:**{ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ }** [النحل:90].
الفحشاء: الشهوة والمنكَر: الغضب والبغي: الهوى. وبهذه الثلاثة وقع المسخ في أمّة موسى (عليه السلام):**{ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً }** [المائدة:60].
فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه، وبالغضب ظالماً لغيره، وبالهوى [ظالماً] لربه، ولهذا قال (صلّى الله عليه وآله): **" الظلمُ ثلاثةٌ ظلم لا يُغفَر وظلم لا يُترَك وظلم عسى الله أن يتركه ".** فالظُلم الذي لا يُغفَر هو الشرك بالله:**{ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }** [لقمان:12]. والظلم الذي لا يُترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً. والظُلم الذي عسى الله أن يتركه، هو ظلم الإنسان نفسه.
ونتيجة الشهوة الحرص والبخل، ونتيجة الغضب العُجب والكِبر، ونتيجة الهوى الكفر والبِدْعَة، ويحصل من اجتماع هذه الستّة في بني آدم خصلةٌ سابعة، هي العُدوان المستلزم للبُعد عن رحمة الله، أي الاحتجاب عنه، وهي نهاية الأخلاق الذميمة، كما انّ الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومين.
فإذا تقرَّر هذا نقول: الأسماء الثلاثة في التسمية دافعةٌ للأخلاق الثلاثة الأصليّة، والآيات السبع التي هي الفاتحة دافعة للأخلاق السبعة.
بيان ذلك: انّ من عرف الله تباعَد عنه شيطانُ الهوى:**{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ }** [الجاثية:23]. يا موسى، خالِف هواكَ فإنّي ما خلقتُ خلقاً نازَعَني في ملكي إلاّ هواك.
ومن عرف انّه رحمٰن لم يغضب، لأن منشأ الغضب طلبُ الولاية والولاية للرحمن:**{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ }** [الفرقان:26].
ومن عرف انّه رَحيمٌ، صحّح نسبتَه إليه، فلا يظلم نفسه، ولا يلطخها بالأفعال البهيميّة.
وأما الفاتحة، فإذا قال { الحمدُ لله } فقد شكَر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته. ومن عرف انّه { رب العالمين } زالَ حرصُه فيما لم يجد، وبخله فيما وجَد، ومن عرف انّه { مالك يومِ الدين } بعد أن عرف انّه { الرحمن الرحيم } زال غضبه.
ومن قال: { ايّاكَ نعبدُ وايّاك نستعينِ } زال كِبْره بالأول، وعُجْبه بالثاني.
وإذا قال: { اهدِنا الصِّراط المُستَقيم } اندفع عنه شيطانُ الهوى، وإذا قال: { صِراطَ الّذينَ انعَمتَ عَلَيْهِم } زالَ عنه كفرُه، وإذا قال: { غَيرِ المَغضُوبِ علَيهِم وَلاَ الضَّالّين } اندفعت بِدْعَتُه، وإذا زالت عنه الأخلاق الستّة التي هي مجامع الشرور كلّها، زالَ عنه حجابُه وبُعده عن جناب القدس.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير الصافي في تفسير كلام الله الوافي/ الفيض الكاشاني (ت 1090 هـ) | { (7) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }: في المعاني وتفسير الامام عن أمير المؤمنين عليه السلام: أي قولوا إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك لا بالمال والصحة فانهم قد يكونون كفاراً أو فساقاً. وقال: هم الذين قال الله تعالى: ومن يُطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً.
{ (7) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }: قال هم اليهود الذين قال الله فيهم من لعنه الله وغضب عليه.
{ وَلاَ الْضَّالِّيْنَ }: قال هم النصارى الذين قال الله فيهم: قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً.
وزاد في تفسير الامام عليه السلام ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام كل من كفر بالله فهو مغضوب عليه وضال عن سبيل الله.
وفي المعاني عن النبي صلّى الله عليه وآله الذين أنعمت عليهم شيعة عليّ عليه السلام يعني أنعمت عليهم بولاية عليّ بن ابي طالب عليه السلام لم تغضب عليهم ولم يضلوا.
وعن الصادق عليه السلام يعني محمداً وذريته.
والقمّي عنه عليه السلام أن المغضوب عليهم النصاب، والضالين أهل الشكوك الذين لا يعرفون الإمام.
أقول: ويدخل في صراط المنعم عليهم كل وسط واستقامة في اعتقاد أو عمل فهم الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا. وفي صراط المغضوب عليهم كل تفريط وتقصير ولا سيما إذا كان عن علم كما فعلت اليهود بموسى وعيسى ومحمد وفي صراط الضالين كل افراط وغلو لا سيما إذا كان عن جهل كما فعلت النصارى بعيسى وذلك لأن الغضب يلزمه البعد والطرد والمقصّر هو المدبر المعرض فهو البعيد والضّلال هو الغيبة عن المقصود والمفرط هو المقبل المجاوز فهو الذي غاب عنه المطلوب.
والعيّاشي عن النبي صلّى الله عليه وآله **" أن ام الكتاب أفضل سورة أَنزلها الله في كتابه وهي شفاء من كل داء إلا السّام يعني الموت ".** وفي الكافي عن الباقر عليه السلام: من لم يبرئه الحمد لم يبرئه شيء.
وعن الصادق عليه السلام: لو قرأت الحمد على ميت سبعين مرّة ثم ردت فيه الروح ما كان عجيباً.
وفي رواية: أنها من كنوز العرش.
وفي العيون وتفسير الإمام عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: قال الله عزّ وجلّ: **" قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله جلّ جلاله: بدأ عبدي باسمي وحق علي أن أُتمم له أموره وأُبارك له في أحواله فإذا قال الحمد لله ربّ العالمين قال جلّ جلاله: حمدني عبدي وعلم أن النعم التي له من عندي وان البلايا التي اندفعت عنه فبتطولي اشهدكم أني اضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وادفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، وإذا قال الرحمن الرحيم قال جل جلاله: شهد لي عبدي بأني الرحمن الرحيم أشهدكم لأوفرن من نعمتي حظه ولأجزلن من عطائي نصيبه فإذا قال مالك يوم الدين قال الله تعالى: أشهدكم كما اعترف بأني الملك يوم الدين لأسهلن يوم الحساب حسابه ولأقبلن حسناته ولأجاوزن عن سيئاته فإذا قال العبد: إِياك نعبد قال الله عز وجل صدق عبدي إياي يعبد أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثواباً يغبطه كل من خالفه في عبادته لي فإذا قال وأِيّاك نستعين قال الله تعالى: بي استعان وإليّ التجأ أشهدكم لأعيننه على أمره ولأغيثنه في شدائده ولآخذن بيده يوم نوائبه فإذا قال إهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة قال الله جل جلاله هذا لعبدي ولعبدي ما سأل فقد استجبت لعبدي واعطيته ما أمل ومنته بما منه وَجَل ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) | { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فانّ الانعام للانسان ايتائه ما يلائم انسانيّته والملايم لانسانيّته هى الولاية المخرجة له الى فعليّاته الانسانيّة، والفعليّات الانسانيّة من مراتب الولاية والآثار الصّادرة والّلازمة من فعليّاته الانسانيّة من التّوسط فى الامور المذكورة وهكذا الاعمال المعينة على الخروج المذكور انّما هى نعمة باعتبار اتّصالها بالنّعمة الّتى هى الولاية ولذلك ورد عن مولينا امير المؤمنين (ع) فى تفسيره انّه قال: قولوا اهدنا صراط الّذين انعمت عليهم بالتّوفيق لدينك وطاعتك لا بالمال والصّحة فانّهم قد يكونون كفّارا او فسّاقاً قال وهم الّذين قال الله تعالى**{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم }** [النساء: 69] الى قوله**{ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً }** [النساء: 69]. والنّعم الصوريّة ان كانت مرتبطة بالولاية كانت نعمةً والاّ صارت نقمة اذا كانت معينة على الخروج الى الفعليّات الغير الانسانيّة وهكذا كان حال الفعليّات الانسانيّة بعد ما حصلت بالولاية يعنى اذا صارت مسخّرة للشّيطان بعد ما كانت مسخّرة للرّحمن صارت نقمة بعد ما كانت نعمةً، ولمّا كان المنعم عليهم بالولاية هم المتوسّطين بين التفريط والتقصير فى ترك الولاية والافراط المخرج عن حدّ الولاية وصراطهم كان متوسّطاً بين التّفريط والافراط فى جملة الامور وصفهم بقوله { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } فانّه قد فّسر المغضوب عليهم بالمفرّطين المقصّرين والضّالّون بالمفرطين المتجاوزين لانّ المفرّط المقصّر لمّا لم يبلغ الى الولاية لم يصر مرضيّاً اصلاً والمفرط فى امر الولاية لمّا صار بالوصول الى حدّ الولاية مرضيّاً خرج من المغضوبيّة لكنّه بتجاوزه عن حدّ الولاية ضلّ عن طريق الانسانيّة وعن طريق الرّضا فانّ المعيار للرّضا والغضب وللافراط والتفريط هو الولاية لا غير لانّها حدّ استقامة الانسان وسبب ارتضائه وقد يفّسر " المغضوب " عليهم بمن لم يبلغ فى وصفه مقام النّبىّ (ص) او الامام (ع) والضّالّ بمن وصفهما بما هو فوق ادراكه او فوق مقامهما وبهذا المعنى فّسرا باليهود والنّصارى وان كان يجوز ان يكون تفسيرهما باليهود والنّصارى باعتبار المعنى الاوّل ويجوز ان يجعل عطف الضّالّين من قبيل عطف الاوصاف المتعدّدة لذات واحدة فانّ المفرّط والمفرط كليهما مغضوب عليهما وضالاّن بمعنى انّهما فاقدان للطّريق سواء كان الفقدان بعد الوجدان او قبل الوجدان، وقد يفسّر " المغضوب عليهم " بالنّصاب لشدّة غضب الله عليهم " والضّالون " بمن لم يعرف الامام وبمن كان شاكّاً فيه.
اعلم انّ السّورة المباركة تعليم للعباد كيف يحمدون ويثنون على الله تعالى وكيف يقرؤن ويرتقون فى قراءتهم وكيف يخاطبون ويسألون فالامر بالاستعاذة فى اوّل القراءة للاشارة الى انّ الانسان واقع بين تصرّف الرّحمن والشّيطان الاّ من عصمه الله فاذا اراد القرائة او الثّناء على الله والمناجاة له ينبغى ان يستعيذ من تصرّف الشّيطان ويلتجئ الى حفظ الله وامانه حتّى لا يكمن الشّيطان خلف قلبه ولا يخلى الفاظ ثنائه ومقرؤاته من معانيها المقصودة لله ولا يدخل فيها المعانى الشّيطانيّة فيصير الحامد حامداً للشّيطان وقارياً لكتاب الشّيطان وهو يحسب انّه حامد لله وقار لكتاب الله ويكون داخلاً فى مصداق قوله تعالى
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
**{ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ }** [آل عمران: 78] يعنى لا لسان الله**{ بِٱلْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ }** [آل عمران: 78] فلا بدّ للمستعيذ ان يكون ملتفتاً الى ما يقول ويجعل حاله حال الاستعاذة من الشّيطان والاّ كان استعاذته كقراءته بتصرّف الشّيطان واستعاذة من الرّحمن لا الى الرّحمن وجعل التسميّة جزء من اوّل كلّ سورة والامر بها فى اوّل كلّ امر اشارة الى انّ الفاعل لكلّ فعل وخصوصاً عند تلاوة القرآن الّذى هو كلام الله ينبغى ان يسم نفسه بسمة من سمات الله حتّى يصير لسانه وسائر اعضائه آلات لتلك السّمة وكلامه وافعاله كلاماً وافعالاً لذلك الاسم فيصبح جعلها لله فانها ان لم تكن من الله لم تكن لله ولم يسم نفسه بسمة من سمات الله صار متّسماً بسمة من سمات نفسه وسمات الشّيطان فصارت اعضاؤه آلات للشّيطان فكان افعالها افعالاً صادرة من الشّيطان وراجعة اليه وصار القارى والفاعل ممّن يلوون السنتهم بالكتاب وممّن قال الله فيهم**{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ }** [البقرة: 79] لا بيد الله ثمّ ينظر الى سعة ظهوره تعالى بصفاته فى كلّ سمة من سماته فينظر الى جملة اضافاته تعالى الظّاهرة من تلك السّمة بالنّسبة الى اهل مملكته ان كان قاصراً عن رؤية اضافاته بالنّسبة الى خارج مملكته فيصفها بأمّهات اضافاته تعالى وهى رحمته الرّحمانيّة الدّالة على الابداء والابقاء ورحمته الرّحيميّة الدّالة على الاعادة وافاضة الكمالات الاختياريّة الانسانيّة حتّى يستعدّ بذلك التّوصيف للنّظر الى الله تعالى وتوصيفه بصفاته فى حمده وثنائه بدون وساطة سماته وتختلف السّمات بحسب اختلاف حال القارى والمتّسم فتلك السّمة بالنّسبة الى المنقادين القابلين للولاية الغائبين عن الله وعن امامهم هى جهة النّفس المنقادة لولىّ امرها وهى المقوّمة والرّازقة المبقية بالنّسبة الى اهل مملكتها والمفيضة لكمالاتها الاختياريّة وبالنّسبة الى من عرف ووجد انموذجات اسمائه تعالى فى وجوده تلك الانموذجات وبالنّسبة الى من حضر عند شيخه ووجد مثال شيخه فى مملكته هى صورة شيخه وهو اوّل مقامات المعرفة بالنّورانيّة، وبالنّسبة الى من خرج من مقام التقدّر وعاين الاشياء مجرّدة عن التقدّر روحانيّة شيخه مجرّدة عن التقدّر، وبالنّسبة الى من خرج عن مقام التحدّد والتقيّيدات الامكانيّة مقام الاطلاق المعبّر عنه بالمشيّة وبالنّسبة الى الجامع لجميع المقامات سمات تمام المقامات وبعد الاستعداد للنّظر الى الذّات من غير احتجاب بحجب السمات ينبغى للقارى ان يجرّد النّظر عن الاسماء وينظر الى الله فى كلّ شيئ وفيئ، ولا يرى من الاشياء الاّ الحدود والنقائص ولا يرى صفات الكمال الاّ من الله، ويطلق لسانه بصيغة الحمد انشاءً او اخباراً بنحو حصر المحامد او الحامديّة او المحموديّة فيه تعالى، ويصفه بربوبيّته الّتى هى حفظ الاشياء بكمالاتها الموجودة وتبليغها الى كمالاتها المفقودة وهكذا الى آخر السورة بنحو ما ذكر سابقاً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
ثمّ اعلم انّ للسّالكين الى الله اسفاراً ومنازل ومقامات ومراحل لا يحصيها الاّ الله وقد قالوا انّها بحسب الامّهات منحصرة فى أربعة اسفار، الاوّل، السّفر من الخلق الى الحقّ وهو السّير من حدود الكثرات والنّظر اليها الى الحقّ الاوّل، ومنتهى هذا السّفر الوصول الى حدود القلب ومشاهدة الحقّ الاوّل فى مظاهره بصفاته واسمائه، ولا ينفكّ السّالك فى هذا السّفر من العنا وكلفة التّكليف وفى حقّ هذا السّالك قال المولوى قدّس سرّه:
| **جملة دانسته كه اين هستى فخ است** | | **ذكرو فكر اختيارى دوزخ است** |
| --- | --- | --- |
والثّاني، السّفر من الحقّ فى مظاهره الى الحقّ المطلق وفى هذا السّفر يتبدّل الكلفة راحة والمرارة لذّة والخوف أمناً، وفى هذا السّفر ورطات مهلكات كما سيجيئ. والثّالث، السّفر بالحقّ فى الحقّ، وفى هذا السّفر يسير السّالك بتسيير الحقّ من غير شعور منه بسيره ولا بذاته، والسّلاّك فى هذا السّفر احد مصاديق قوله تعالى **" انّ اوليائى تحت قبابى لا يعرفهم غيرى "** والرّابع، السّفر الحقّ فى الخلق وابتداء هذا السّفر ابتداء الرّبوبيّة وانتهاء العبوديّة ومقامات هذا السّفر لا يحصيها الاّ الله وتحديد عدد الانبياء (ع) والاوصياء (ع) بمأئةٍ واربعة وعشرين الفاً اشارة الى امّهات تلك المقامات وسيجيئ تحقيق تامٌّ لبيان الاسفار ومراتب الانسان عند قوله تعالى**{ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا }** [البقرة: 219] فى سورة البقرة. اذا تنبّهت بذلك فاعلم انّ السّورة المباركة اشارة اجمالاً الى الاسفار الاربعة المذكورة فانّ الاستعاذة اشارة الى السّفر من الخلق الى الحقّ لانّ هذا السّفر فرار من الكثرات ومظاهر الشّيطان الى عالم التّوحيد ومظاهر الحقّ تعالى، و الاستعاذة القّولية اخبار بهذا الالتجاء والاستعاذة الفعليّة نفس ذلك الالتجاء والفرار، والتسميّة الى قوله مالك يوم الدّين اشارة الى السّفر من الحقّ الى الحقّ فانّ التسميّة اخبار بالاتّصاف بصفاته تعالى وما بعده الى مالك يوم الدّين اعلام بحركة السّالك فى صفات الحقّ تعالى الى ظهور مالكيّته وفناء العبد من ذاته وهذا السّفر حركة فى صفات الحقّ تعالى الى فناء العبد، وقوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } اشارة الى السّفر بالحقّ في الحقّ لانّ مالكيّته تعالى لا يظهر الاّ اذا صار العبد فانياً من فعله ووصفه وذاته وبفناء ذاته يتمّ عبوديّته وبعد كمال عبوديّته لا يكون سيره الاّ فى الحقّ المطلق ولا يكون الاّ بالحقّ لعدم ذات له، وقوله تعالى { اهدنا الصّراط المستقيم } اشارة الى السّفر بالحقّ فى الخلق وهذا هو الرّجعة الاختياريّة فى العالم الصّغير والبقاء بعد الفناء والصّحو بعد المحو، وينبغى ان يكون هذا السّفر بحفظ الوحدة فى الكثرات والصّراط المستقيم فى هذا السّفر هو محفوظيّة الوحدة فى الكثرة بحيث لا يغلب احديهما على الاخرى ولا يختفى احديهما تحت الاخرى وهذه الاحوال قد تطرؤ على السّلاك سواء استشعروا بها او لم يستشعروا.
اذاقنا الله وجميع المؤمنين منها ومكنّنا فيها والحمد لله اوّلاً وآخراً ولا حول ولا قوّة الاّ بالله العلىّ العظيم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ) | { صِرَٰطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بعلم الدين والعمل به، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من كل أمة { غَيْرِ } قال سيبويه: نعت الذين، لأن الذين كالنكرة، لأنه جنس، ولفظ غير نكرة ولو أضيف إلى معرفة، ولا سيما أنه أضيف لمعرفة هى للجنس فهى كالنكرة، وعندى جواز إبدال لمشتق الوصف وما أول به. { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } اليهود المخالفين لموسى وعيسى. { وَلاَ الضَّالِّينَ } النصارى المخالفين لها، قال صلى الله عليه وسلم: **" المغضوب عليهم لتقدمهم زمانا، ولأن الإنعام يقابل بالانتقام، ولأنهم أشد في الكفر والعناد والفساد، وأشد عداوة للذين آمنوا، ولأنهم كفروا بنبيين، عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، والنصارى بواحد، وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم "** ، وروى ابن عدى والديلمى والسلفى عنه صلى الله عليه وسلم: **" من لم يجد صدقة فليلعن اليهود ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) | فصراط هنا بدل من الصراط الذي ذكر من قبل، وهذا النوع من البدل يعبر عنه النحويون ببدل الكل من الكل، وزعم بعضهم بأن { صِّرَاطَ } الثاني غير { ٱلصِّرَاطَ } الأول، وكأنه نُوى فيه حرف عطف، واختلف هؤلاء في تعيينه، فجعفر بن محمد يرى أنه العلم بالله والفهم عنه، وبعضهم يرى أنه موافقة الباطن للظاهر في إسباغ النعمة، ومنهم من يرى أنه التزام الفرائض والسنن. ودعوى أن { صِّرَاطَ } الثاني غير الأول، ما هي إلا هروب من الواضح إلى المشكل، وفائدة المجيء بالبدل والمبدل منه، التنصيص على أن صراط هؤلاء هو عَلمَ في الإِستقامة، فلو قيل: إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، لم تحصل هذه الفائدة، ومثال ذلك إذا أردت المبالغة في وصف أحد بالكرم والفضل فإنك تقول: (هل أدُلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان، فإنك بذلك جعلته علما على الكرم والفضل، بحيث إذا ذكر تُصوِّر الكرم والفضل في أعلى مراتبهما، بين يدي السامع وأمام ناظريه، ولو جئت بأسلوب آخر وقلت: هل أدُلك على فلان أكرم الناس وأفضلهم، لم تفد العبارة هذه المبالغة، وكذلك هنا ذُكر أولا الصراط المستقيم ثم فُسر بصراط الذين انعم الله عليهم، ليكون نصّاً في أن هؤلاء المنعم عليهم هم معالم الإستقامة وأعلام الاعتدال والرشد، يُهتدى بهم إلى مرضاة الرب تعالى.
واختلف في المقصود بهم فالجمهور يرون أنهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، أخذا من قوله تعالى:**{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً }** [النساء: 69] ويعتضد ذلك بذكر الصراط المستقيم في هذا السياق قبل هذه الآية في قوله عز وجل:**{ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّـآ أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }** [النساء: 66- 68] وهذا هو الذي رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي عنه: أنهم المؤمنون. وأخرج عبد ابن حميد عن الربيع بن أنس أنهم النبيون، وقيل: هم قوم موسى وعيسى قبل النسخ والتبديل، وقيل: هم المسلمون، وقيل: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وروي عن أبي العالية أنهم محمد صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهم، وانتقد الإِمام محمد عبده تفسير المنعَم عليهم بالمسلمين، محتجا بأن الفاتحة أول سورة نزلت، كما روى عن الإِمام على كرم الله وجهه، وكما حققه الإِمام محمد عبده نفسه.
وإن لم تكن أول سورة على الإِطلاق، فلا خلاف في أنها من أوائل السور ولم يكن المسلمون حال نزول السورة بحيث يطلب الإِهتداء بهداهم، لأن هداهم معقود بالوحي، وتلك هي بداية الوحي، ثم انهم هم المأمورون بأن يطلبوا من الله أن يهديهم هذا الصراط، صراط الذين أنعم عليهم من قبلهم فهم قطعا غيرهم، ورجح الإِمام محمد عبده قول الجمهور أنهم هم الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وانتقاد الإِمام موجه إلى الذين يزعمون أن هؤلاء المنعم عليهم هم مسلمو هذه الأمة وهو لا ينافي أن يكون المعنيون - وإن كانوا قبل هذه الأمة - من المسلمين أيضا، لما علمت من أن الإِسلام ليس محصورا في هذه الأمّة، وإنما هو دين جميع النبيين والصالحين، وأوضح الإِمام محمد عبده أن ما جاء من ذكر المنعم عليهم إلى آخره، مجمل لما فصل في سائر القرآن من أخبار الأمم وبيان أحوالها مما يقدر بثلاثة أرباع القرآن تقريباً، والمراد من ذلك توجيه الأنظار إلى الإِعتبار بأحوال الأمم في الكفر والإِيمان، والشقاوة والسعادة إذ لا شيء - يهدي الإِنسان كالمثلات والوقائع، فإذا إمتثل المسلمون الأمر والإِرشاد، ونظروا في أحوال الأمم السالفة، وأسباب علمهم، وجهلهم، ورقيهم، وانحطاطهم، وقوتهم، وضعفهم، وعزهم، وذلهم، وسائر ما يعرض للأمم، كان لهذا النظر أثر إيجابي في نفوس المسلمين، يحملهم على الإِقتداء بالصالحين من قبلهم واتباع أسباب العلم والرقي والقوة والعز، ليتمكنوا في الأرض، واجتناب أسباب الجهل والإِنحطاط والضعف والذل التي تؤدي إلى الشقاوة والهلاك والدمار.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ثم أشار الأستاذ محمد عبده إلى علم التاريخ، وما فيه من الفوائد والثمرات وذكر أن العاقل تأخذه الدهشة والحيرة إذا سمع أن كثيرا من شيوخ الدين من أمة هذا كتابها يعادون بإسم الدين، ويزهدون فيه غيرهم، كما يرغبون بأنفسهم عنه، زاعمين أنه لا حاجة إليه ولا فائدة منه، ثم قال وكيف لا يدهش ويحار والقرآن ينادي بأن معرفة أحوال الأمم من أهم ما يدعو إليه هذا الدين**{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ }** [الرعد: 6].
وأورد بعد هذا سئوالا وهو: كيف يأمرنا الله باتباع صراط من تقدمنا؟! وعندنا احكام وإرشادات لم تكن عندهم، وبذلك كانت شريعتنا أكمل من شرائعهم، وأصلح لزماننا، وما بعده؟ وأجاب عمّا ذكرناه من قبل أن دين الله في جميع الأمم واحد، وانما تختلف الأحكام بالفروع التي تختلف بإختلاف الزمان، وأما الأصول فلا خوف فيها فالإِيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، وترك الشر وعمل البر، والتحلي بالأخلاق الفاضلة والتخلي عن العادات المذمومة، كل من ذلك أمر مشترك بين الجميع، وقد أمرنا الله بالنّظر فيما كانوا عليه، والاعتبار بما صاروا إليه، لنقتدي بهم في القيام على أصول الخير، وهو أمر يتضمن الدليل على أن في ذلك الخير والسعادة، على حسب طريقة القرآن، في قرن الدليل بالمدلول، والعلة بالمعلول والجمع بين السبب والمسبب، وتفصيل الأحكام التي هذه كلياتها بالإِجمال نعرفه من شرعنا، وهدى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وزاد السيد محمد رشيد رضا عما قال أستاذه، أن في الإِسلام من ضروب الهداية ما قد يُعَد من الأصول الخاصة به، ويَرى أنه مما يقتضي الاستدراك على ما قرره الأستاذ الشيخ محمد عبده، وذلك نحو بناء العقائد في القرآن على البراهين العقلية والكونية، وبناء الأحكام الأدبية والعملية على قواعد جلب المصالح والمنافع، ودفع المضار والمفاسد، ونحو بيان أن للكون سننا مطّردة تجري عليها عوالمه العاقلة وغيرالعاقلة، وكالحث على النظر في الكائنات لقصد العلم والمعرفة، لما فيها من الحكمة والأسرار التي يرتقي بها العقل، وتتسع بها أبواب المنافع للإِنسان، وكل ذلك مما امتاز به القرآن، وأجاب عن ذلك أنه تكميل لأصول الدين الثلاث، التي بعث بها كل نبي مرسل لجعل بنائه رصينا مناسبا لارتقاء الإِنسان، والأصول الثلاثة هي الإِيمان الصحيح، وعبادة الله تعالى وحده، وحسن المعاملة مع الناس، ولا خلاف فيها في رسالات جميع المرسلين.
والإِنعام أطلق في الآية الكريمة لأن من رُزِق نعمة التوفيق للخير، فكأنما استجمع جميع النعم، والخير بأسره محصور في الإِسلام، فمن هُدي إليه فقد جمع بين نعمة الحال والمآل، وللعلماء رأيان في الكفرة، هل يقال فيهم: إن الله أنعم عليهم أو يمنع ذلك؟ فالمعتزلة يجيزون هذا الوصف في غير المسلمين، وأكثر علماء الكلام من غيرهم يمنعونه، ونجد الفخر الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) يستدل للقائلين بالمنع بأنه لو جاز نحو هذا الوصف في غير المؤمنين، لأدى ذلك إلى دخولهم ضمنا في قوله سبحانه: { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وهذا يقتضي جواز أن يقول الإِنسان في دعائه: (إهدني صراط من أنعمت عليهم من القوم الكافرين) ولما امتنع ذلك بالإِجماع، ثبت لدينا عدم صدق وصف الإِنعام على غير المؤمنين، وأنت إذا تدبرت ما جاء من تقييد في نفس هذه الآية الكريمة إتضح لك بطلان ما يقوله الرازي، فإن قوله سبحانه { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } وصف تقييدي للمنعم عليهم، يُخرج مما يقتضيه إطلاق لفظ الإِنعام، كل من لم يكن على طريقة أصحاب الصراط المستقيم المعنيين في الدعاء، ويدل على ذلك ما جاء في القرآن، من تذكير الناس - مؤمنهم وكافرهم - بآلاء الله، وقد يأتي الخطاب موجها إلى غير المؤمنين، ومما ورد هذا المورد قول الله عز وجل:**{ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }** [البقرة: 21- 22] وقوله:**{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }** [البقرة: 28- 29] وقوله عز وجل
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }** [البقرة: 40] وقوله سبحانه:**{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ }** [البقرة: 122] وقوله تعالى:**{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ. ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }** [قريش].
إلى ما وراء ذلك من آيات الإِمتنان، التي تعم المؤمن والكافر تارة، وتخص الكافرين تارة أخرى، أمّا ما قيل من أن هذه العطايا التي بسطها الله للكفار ليست إنعاما عليهم، وإنما هي استدراج ولا تساوى شيئا، إذا قيست بما ينتظرهم من عقاب، فالجواب عنه: أنه وإن كانت استدراجا فهي لا تنافي أن تكون إنعاما، كما نص عليه الكتاب في خطاب بني إسرائيل، والعقاب العظيم الذي ينتظر الكفار ليس مترتبا على النعم، وإنما هو مترتب على كفرهم بها وبواهبها سبحانه وتعالى، والكفر قد كان باختيارهم، ولم يكونا عليه مكرهين.
والنعمة عرّفها بعض العلماء بأنها الحالة التي يستلذها الإِنسان، وقسمها بعضهم إلى دنيوية وأخروية، والدنيوية إلى روحانية وجسمانية، فالروحانية نفخ الروح وإنارة العقل وإذكاء المشاعر، والجسمانية تكوين الجسم وتجهيزه بالطاقات المختلفة والحواس المتنوعة، والأخروية هي الفوز برضوان الله والسعادة بجواره، في جنات عدن، وهي تترتب على نعمة الهداية المترتبة على التوفيق لاستخدام العقل فيما يؤدي إلى الخير، وبهذا التقسيم يتضح لك أن من النعم ما يكون مشتركا بين المؤمن والكافر، ومنها ما يكون خاصا بالمؤمنين، والمنعم عليهم هنا هم المؤمنون، لأنهم الذين وفقوا لسلوك صراط الحق، المؤدى إلى رضوان الله عز وجل، وطريقهم هو طريق العز والنصر في الدنيا، والفوز والسعادة في الدار الآخرة، فإن الله سبحانه قد وعد بالاستخلاف والتمكين للمؤمنين الملتزمين لنهج الإِيمان**{ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً }** [النور: 55].
{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }
الجمهور قرأوا بجر { غَيْرِ } وابن كثير قرأ بنصبها، وروى عنه الجر، ولا إشكال في قراءة النصب، لأن { غَيْرِ } يلزمها التنكير، وإن أضيفت إلى المعارف كمثل، وذلك أنك إذا قلت: رأيت غيرك فكل، ما سوى المخاطب يحتمل أن يكون المراد، وكذلك إذ قلت: رأيت مثلك فإن الاعداد المحتمل قصدها من أمثاله لا تحصى، لكثرة ووجوه المماثلة، وعليه فالنصب هنا على الحال، وأما قراءة الجر فلعلماء العربية فيها رأيان: أولهما أن تكون { غَيْرِ } بدلا من { ٱلَّذِينَ } أو بدلا من الضمير في { عَلَيْهِم } والوجه الثاني ضعيف، وهذا الرأي مبني على جواز الإِبدال بالمشتق وما في حكمه، ويرى أبو حيان ضعفه. ثانيهما: أن تكون { غَيْرِ } صفة للذين وهو مبني على أحد أمرين إما اعتبار { ٱلَّذِينَ } في حكم المعرّف بلام الجنس، وهو المعبر عنه بالمعهود الذهني، فإنه يكون مَعرفة بالنظر إلى مدلوله وله حكم النكرة بالنظر إلى قرينة البعضية المبهمة، ولذلك يعامل معاملتها في الوصف بالجملة وهى في حكم النكرة، نحو قول الشاعر:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| **ولقد أمر على اللئيم يسبني** | | **فمضيت ثمت قلت لا يعنيني** |
| --- | --- | --- |
وإما اعتبار { غَيْرِ } في حكم المعرفة، نظراً إلى وقوعها بين معرفتين متضادتين، وفي مثل هذه الحالة تكتسب التعريف، نحو قولك: إلزم العلم غير الجهل، وقولك: إرغب في الحياة غير الموت، فإنه لا ضد للعلم إلا الجهل، ولا ضد للحياة إلا الموت، وكذلك قول الله تعالى: { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فإن هؤلاء لا ضد لهم إلا ما جاء بعد { غَيْرِ }.
وانتقد أبو السعود إعتبار { ٱلَّذِينَ } في حكم المعهود الذهني في الإِبهام، لأنه لا معنى لأن يضاف بدل { الصراط المستقيم } إلى الموصول إلا لشهرته وتميزه، المنافيين للإِبهام، فإن البدل يراد به إيضاح المبدل منه. أما الزمخشري فإنه سوغ كل واحد من الإِعتبارين. وابن جرير اعتبرهما في حكم الوجه الواحد، وأضاف إليه وجها آخر وهو تقدير { صِرَاطَ } مضاف إلى { غَيْرِ } ، وفي هذا تكلف لا يخفى على متأمل، وأنت إذا نظرت في الرأي الأول، وجدته لا يخلو من مسوغ، فإن توغل { غَيْرِ } في الإِسمية كافٍ لإِعطائها بعض أحكام الجوامد كالبدلية، وإن كانت في حكم المشتق، والوصف أيضا ليس بالضعيف لإِمكان اعتبار إكتساب { غَيْرِ } هنا للتعريف بسبب وقوعها بين ضدين، وقد علمت مما نقلناه عن أبي السعود بطلان دعوى أن الإِسم الموصول في قوله { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } في حكم النكرة، وبهذا تعلم عدم صحة ما قاله العلامة الساليكوتي وغيره، في تسويغ تلك الدعوى مما حاصله أنه لا صحة لإِرادة جنس المنعم عليهم من حيث هو إذ لا صراط له، ولا غرض يتعلق بطلب صراط من أنعم عليهم على سبيل الاستغراق، سواء أريد استغراق الأفراد والجماعات، أو المجموع من حيث المجموع، فالمطلوب صراط جماعة ممن أنعم عليهم بالنعم الأُخروية وهم طائفة من المؤمنين لا بأعيانها، فإن نظر إلى البعضية المبهمة المستفادة من إضافة الصراط إليهم كالنكرة، وإن نظر إلى مفهومه الجنسي أي المنعم عليهم كان معرفة، نقل ذلك العلامة الألوسي ولم يعقب عليه إلا بقوله: ولا يخلو من دغدغة، وبطلانه يظهر من حيث أن صراط جميع المنعم عليهم صراط واحد، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله:**{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }** [الأنعام: 153] وقد صوره النبي صلى الله عليه وسلم للأذهان في صورة المحسوس، عندما خط خطا في الأرض مستقيما لا عوج فيه، وقال: **" (هذا صراط الله) وخط عن يمينه، خطوطا وقال: (هذه السبل، ما من سبيل إلاَّ وعلى رأسه شيطان يدعو إليه) "** ثم تلا الآية، وهذا يعني أن صراط أي فرد من المنعم عليهم هو صراط الجنس كله، وليس لكل طائفة منهم صراط خاص، حتى يقال بأن الصراط المقصود هنا هو صراط طائفة من المؤمنين، ويؤكد ذلك أن الصراط المبدل منه معرّف، وما أريد بالبدل إلا مزيد الإِيضاح فلا معنى لمجيئه مبهما، ولو كان مبهما - كما قالوا - لما صح أن يكون علما على الاستقامة ومجانبة الإِنحراف والاعوجاج.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
و { غَيْرِ } هنا أشربت معنى النفي، فلذلك صح أن تقابل بلا النافيه، ولو كانت للإستثناء المحض لما جاز ذلك.
و " الغضب " هو انفعال نفسي يدفع صاحبه إلى الإِنتقام، وهذا لا يليق بجلال الله سبحانه، المنزه عن جميع صفات المخلوقين، فلذلك أول الغضب في مثل هذا المقام، إما بمسبِّبه القريب وهو إرادة الانتقام، أو بمسبّبه البعيد وهو إنزال العقوبة، ولفظة الغضب تدل على الشدة، ولذلك يطلق العرب وصف الغضوب على الناقة العبوس، وعلى الحيّة الخبيثة، ويسمون الدرقة من جلد البعير المطويّ بعضه على بعض " غضبه " كما يسمون بذلك الصخرة المتميزة في الجبل، ومنه قول الراجز: أو غضبة في هضبة ما أمنعا.
و { الضلال } يطلق على الذهاب عن الطريق السوي، ومنه قوله عز من قائل:**{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ }** [السجدة: 10] أي غبنا فيها بالموت، ومنه قول العرب: ضل اللبن في الماء إذا إمتزج به.
وجيء بفعل الإِنعام مسندا إلى ضمير الخطاب، الموجه إلى الله، بخلاف الغضب والإِضلال، لأجل تعليم العباد كيف يتأدبون في مخاطبته عز وجل.
وجمهور المفسرين: على أن المراد بالمغضوب عليهم اليهود وبالضالين النصارى، وذكر ابن أبي حاتم أنه لا يعلم خلافا بين المفسرين في ذلك، وهو من التفسير المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج عبد الرزاق وأحمد في مسنده وعبد بن حميد وابن جرير والبغوي وابن المنذر وأبو الشيخ عن عبد الله بن شقيق قال: **" أخبرني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرس له، ويسأله رجل من بني القيْن فقال: من المغضوب عليهم يا رسول الله؟ قال: (اليهود) قال فمن الضالون؟ قال: (النصارى) "** وأخرجه إبن مردويه عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه بما ذكر، وأخرج البيهقي عن عبد الله بن شقيق عن رجل من بني القيْن أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله.. إلخ وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير عن عبد الله بن شقيق قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاصر أهل وادي القرى فقال له رجل.. إلخ، وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسّنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" إن المغضوب عليهم هم اليهود وإن الضالين هم النصارى "** وأخرج أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححه والطبراني **" عن الشريد قال: مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي فقال: أتقعد قعدة المغضوب عليم "** وهذا التفسير مروي عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وروى عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وكثير من أئمة التابعين فَمن بعدهم، قال الشوكاني: والمصير إلى هذا التفسير النبوي متعين وهو الذي أطبق عليه أئمة التفسير من السلف.
وعضد هذا التفسير باقتران ذكر اليهود بالغضب وذكر النصارى بالضلال في عدة آيات من الكتاب نحو قوله عز وجل:**{ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }** [البقرة: 90] وقوله:**{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** [المائدة: 60] وقوله عز من قائل:**{ لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }** [المائدة: 78] وقوله تعالى:**{ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** [المائدة: 77]، والأوْلى - كما قال الألوسي: الاستدلال بالحديث، لأن الغضب والضلال وردا في القرآن لجميع الكفار على العموم قال تعالى:**{ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ }** [النحل: 106] وقال:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَٰلاً بَعِيداً }** [النساء: 167] وقال**{ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }** [الفرقان: 44].
واليهود والنصارى جميعا جديرون بوصف الضلال، حقيقون بالغضب، لذا يتوجه السئوال عن وصف اليهود " بالمغضوب عليهم " والنصارى " بالضالين " وأجاب عنه ابن جرير: بأن الله وسم لعباده كل فريق بما تكررت العبارة عنه به وفهم به امره ولم يره ابن عطية هذه الإِجابة تشفي غليلا - وإنها لكذلك - لذلك عدل عنها إلى الجواب، بأن أفاعيل اليهود من اعتدائهم وتعنتهم وكفرهم، مع رؤيتهم الآيات، وقتلهم الأنبياء بغير حق أمور توجب الغضب في عرف الناس فسمى الله ما أحل بهم غضبا، والنصارى لم تصدر منهم هذه الأشياء، وإنما ضلوا من أول أمرهم، دون أن يقع منهم ما يوجب غضبا خاصا بأفاعيلهم في عرف الناس بل، الغضب العام الذي يستحقه كل كافر، فلذلك وصفت كل واحدة من الطائفتين بما وصفت به.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ونقل الفخر الرازي تضعيف هذا التفسير، لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى، فكان الإِحتراز عن دينهم أوْلى، واختار الفخر أن يُحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق، ويَحمل الضالون على كل من أخطأ في الإِعتقاد، لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل، وذكر وجها آخر وهو أن المغضوب عليهم الكفار، والضالين المنافقون، لأن الله تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في أوائل البقرة ثم ثنَّى بذكر الكفار وتوعّدهم، ثم ثلّث بذكر المنافقين وتصوير أحوالهم، فيُحتمل أن يكون المغضوب عليهم هنا الكفار والضالون المنافقين كما أن المُنعَم عليهم المؤمنون، ورد ذلك الألوسي بأنه لا قول لقائل، ولا قياس لقايس بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين، وحكى القرطبي أن المغضوب عليهم هم متبعو البدع، والضالين هم الذين ضلوا عن سنن الهدى وذكر عن السُّلَمِيّ في حقائقه، والماوردي في تفسيره، أنهما حكيا: بأن المغضوب عليهم من أسقط فرض هذه السورة في الصلاة، والضالين من ضل عن بركة قراءتها.
قال القرطبي: وليس بشيء، ونقل عن الماوردي قوله: وهذا وجه مردود لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار، وانتشر فيه الخلاف، لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم.
ويرى بعض المفسرين أن المغضوب عليهم هم الذين نبذوا الحق وراء ظهورهم بعد معرفتهم به، وقيام حجته عليهم، والضالين هم الذين لم يعرفوا الحق رأسا، أو عرفوه على غير وجهه الصحيح، ومن بين القائلين بذلك الإِمام محمد عبده، وأوضح أن المغضوب عليهم ضالون أيضا، لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا الغاية واستقبلوا غير وجهتها، فلا يصلون منها إلى مطلوب ولا يهتدون فيه إلى مرغوب، ولكن فرقا بين من عرف الحق فأعرض عنه على علم، وبين من لم يظهر له الحق فهو تائه بين الطرق لا يهتدي إلى الجادة الموصلة منها، وهم من لم تبلغهم الرسالة، أو بلغتهم على وجه لم يتبين لهم فيه الحق، فهؤلاء هم أحق باسم الضالين، فإن الضال حقيقة هو التائه الواقع في عماية، لا يهتدي معها إلى المطلوب، والعَماية في الدين هي الشبهات التي تلبس الحق بالباطل، وتشبّه الصواب بالخطأ.
وقسّم الإِمام محمد عبده الضّالين إلى أقسام:-
الأول: من حُرموا بلوغ دعوة الرسالة إليهم، أو بلغتهم على غير وجهها الصحيح، فهؤلاء لم يُرزَقُوا من أنواع الهداية إلا ما يحصل بالحس والعقل، وحُرموا رشد الدين ومن الطبيعي أن لا تستقيم أحوالهم في شئونهم الدنيوية، ولو قُدِّر أن استقامت على الوجه الصحيح، فلا محيص لهم عن الضلال فيما تكون به نجاة الأرواح وتتحقق به سعادتها في الدار الآخرة على أنَّ الدين المستقيم من شأنه أن يفيض على أهله من روح الحياة ما تكون به سعادتهم في الدنيا والآخرة معا، فمن حرم الدين حرم السعادتين، وظهر أثر التخبط والإِضطراب في أعماله المعاشية، وحل به الرزايا ما يكون عادة نتيجة الضلال والخبط وهي سنة الله في هذا العالم ولن تجد لسنته تبديلا.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ويرى الإِمام محمد عبده أن أمر هؤلاء في الآخرة إلى الله إن شاء عفا عنهم وإن شاء أخذهم ولن يساووا المهتدين في منازلهم. وزاد السيد محمد رشيد رضا على كلام أستاذه، أن الذين حُرموا هداية الدين لا يُعقل أن يُؤاخذوا في الآخرة على ترك شيء مما لا يُعرف إلا بهذه الهداية، وهو معنى كونهم غير مكلفين، ونسبه إلى جمهور المتكلمين واستدل له بقوله عز وجل:**{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }** [الإسراء: 15].
وانتقد السيد محمد رشيد رضا من قال إنهم مكلفون بالعقل لعدم ظهور وجه لقوله، إلا إن أراد أن حالهم في الآخرة تكون على حسب ارتفاع أرواحهم بهداية العقل وسلامة الفطرة، لأن الناس يتفاوتون في إدراكهم وأعمالهم، بسبب تفاوت استعدادهم الفطري ولإِختلاف وسائل تربيتهم.
ويرى السيد محمد رشيد رضا بهذا الجمع بين القولين في تكليفهم وعدمه أو الفصل بينهما، وذكر أن ما يعطيهم الله تعالى إياه في الدار الآخرة على حسب ما يكونون عليه من الخير أو الشر، ومن الفضيلة أو الرذيلة هو الجزاء العادل على أعمالهم الإِختيارية ويزيدهم الله من فضله إن شاء.
هذه خلاصة كلامهما وأنت تدري أن من الأمور التكليفية ما تكون طريقة معرفته العقل كمعرفة الخالق عز وجل وصفاته الواجبة وانتقاء أضدادها ولذلك يحيل القرآن الكريم إلى التفكر في ملكوت السماوات والأرض، لأجل الإِهتداء إلى معرفة الخالق وعظمته وتقوية الإِيمان به عز وجل، ويشير القرآن الكريم إلى أن الذين يستفيدون من ذلك هم أولوا الألباب الذين يستخدمون ما وهبهم الله تعالى من طاقات العقل والفكر في استجلاء الحقيقة واستظهار الحق، ومن ذلك قوله عز وجل:**{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }** [البقرة: 164] وقوله عز من قائل:**{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }** [آل عمران: 190] والكفار الذين حُرموا نعمة الهداية والدين، قد طمسوا أنوار بصائرهم بما أخلدوا إليه من الكفر وجنحوا إليه من الضلال، ولذلك حكى الله تعالى عنهم قولهم يوم القيامة:**{ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ }** [الملك: 10].
إذا تدبرت ذلك، اتضح لك أن من لاحت له معالم الحقيقة وانكشفت لبصيرته أعلام الحق فتعامى عنها مستمسكا بما ورثه من العقائد، لن يكون سالما، وكذلك الذي لا يكلف نفسه مؤونة البحث عن الحق والتفتيش عن الصواب، أما الذي ينشد الحق ويتبع كل بارقة تلمع له من نوره ويحرص على أداء واجباته الإِجتماعية من غير تفريط فيها فذلك الذي تُرجى له السلامة عند الله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
على أن الحجة قد قامت على الناس بما يسمعون عنه من أخبار النبوات وأحوال النبيين وما عليهم إلا أن يفتشوا عن ضالتهم المنشوده والله لا يضيع عمل عامل**{ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }** [العنكبوت: 69].
ونحن نسلم أن الشرع هو الحكم في العقائد والأعمال ولكنا نرى وجوب استخدام العقل مع تعذر الوصول إلى الشرع وهذا يقضي أن يتجنب الإِنسان كل ما يستقبحه عقله قبل التوصل إلى حكمه الشرعي ولا ريب أن العقول السليمة كلها تقضي بمنع الإِعتداء والظلم والفساد، لأجل ذلك ذهب من ذهب من علمائنا - كالإِمامين أبي سعيد وابن بركه - إلى وجوب تحكيم العقل عند تعذر الوصول إلى الشرع حتى في الأمور العملية ولهذه المسألة مباحث ليس من غرضنا استيفاؤها، فمن أرادها فليطلبها من مظانها ككتاب الإِستقامة للإِمام الكُدَمي ومشارق أنوار العقول للإِمام السالمي رحمهما الله.
الثاني: من بلغته الدعوة على وجه يؤدي إلى النظر، فساق همته إليه واستفرغ جهده فيه ولكن لم يوفق إلى الإِيمان بما دُعي إليه، وانقضى عمره وهو جاد في الطلب، وهذا القسم لا يتكون إلا من أفراد متفرقين في الأمم ولا ينطبق على شعب بأسره من الشعوب، فلا يظهر له أثر سلبي في أحوال شعب أو أمة، وما يكون لهما من سعادة أو شقاء في الحياة الدنيا، أما منزلة صاحب هذه الحالة في الدار الآخرة، فقد نقل الإِمام محمد عبده عن بعض الأشاعرة، أنه ممن تُرجى له رحمة الله تعالى، وعزا صاحب هذا الرأي مثله عن أبي الحسن الأشعري، وعزا الإِمام محمد عبده إلى الجمهور - بناء على رأيهم - أن مؤاخذته أخف من مؤاخذة الجاحد، الذي أنكر التنزيل واستعصى على الدليل وكفر بنعمة العقل ورضي بحظه من الجهل.
هذا ملخص ما قاله في أصحاب هذا القسم، ولكنني أستبعد جدا أن يتجه إنسان إلى الحق غير راغب عن شيء منه ولا مؤثر لهواه عن بعض ما يقتضيه الحق ويستلزمه الرشد مستخدما كل الوسائل الممكنة له في الوصول إليه، ثم يحال بينه وبينه لأن الله تعالى يقول: { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } والله لا يخلف الميعاد، فلا يتصور هذا بحال وإذا ضل الإِنسان عن جملة الحق أو عن بعضه فما هو إلا نتيجة تقصيره في البحث أو اتباعه الهوى بعدما تبين له الهدى، ومثل هذا لا يصح أن تُرجى له رحمة الله، لأن رحمة الله إنما هى للمتقين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثالث: من بلغتهم الرسالة وصدّقوا بها، بدون نظر في أدلتها ولا وقوف على أصولها فكانت عقائدهم نابعة من أهوائهم، وهم أصحاب البدع المنحرفون في إعتقادهم عن هداية الوحي، وهم الذين مزّقوا شمل الأمّة، لإِنحرافهم عن نهج سلفها الصالح، وأشار الإِمام محمد عبده إلى طَرَفٍ من آثار هؤلاء في الناس، فذكر أن الرجل منهم يأتي إلى دوائر القضاة، فيستحلف بالله العلي العظيم أنه لم يفعل ما نسب إليه فيحلف وعلامة الكذب بادية على وجهه فإذا أتاه المستحلف من طريق آخر وحمله على الحلف بشيخ من المشايخ الذين يعتقد لهم الولاية، لم يلبث أن يتغير لونه وتتزلزل أركانه ويرجع في قسمه ويقول الحق، مقرا بأنه فعل ما حلف أولا بالله أنه لم يفعله، تكريما لاسم ذلك الشيخ وخوفا منه أن يسلب عنه نعمة أو ينزل به نقمة إذا حلف باسمه كاذبا، ويرد الإِمام محمد عبده هذا الضلال إلى الضلال في الإِيمان بالله وما يجب له من الوحدانية في الأفعال، ثم أشار بعد ذلك إلى الضلالات المتنوعة التي عرضت على دين الإِسلام وسلكت بهذه الأمة سبلا معوجة، لا توصل إلى حق ولا رشدٍ، وذكر أن من أشنع هذه الضلالات أثرا وأشدها ضررا خوض رؤساء الفرق منهم في مسائل القضاء والقدر والاختيار والجبر والوعد والوعيد وتهوين مخالفة الله على النفوس، ثم ذكر أنه لا بد لمن أراد تمحيص الإِعتقاد ومعرفة ما فيه من الضلال والرشاد من تنزيه القرآن عن إدخال أي شيء مما في أدمغة الناس من المعتقدات فيه وبدون ذلك لا يمكن معرفة الهداية من الضلال، لاختلاط الموزون بالميزان، فلا يُدرى ما هو الموزون به، ثم أوضح أن معنى ذلك أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين، لا أن تكون المذاهب أصلا والقرآن هو الذي يحمل عليها، ويُرجع بالتأويل أو التحريف إليها كما جرى عليه المخذولون وتاه فيه الضالون.
الرابع: الذين ضلوا في الأعمال وحرفوا الأحكام عما وضعت له نتيجة الخطأ في فهم مقاصد الشعائر الدينية والواجبات الاجتماعية التي فرضت في الإِسلام وضرب الإِمام محمد عبده لذلك مثلا: الإِحتيال في الزكاة بتحويل المال إلى ملك الغير قبل حلول الحول ثم استرداده بعد مضي جزء من الحول الثاني هروبا من الزكاة المفروضة، ويظن المحتال أنه بحيلته قد خلص من أداء الفريضة ونجا من غضب من لا تخفى عليه خافية، ولا يعلم أنه بذلك يهدم ركنا من أركان دينه ويعمل عمل من يعتقد أن الله قد فرض فرضا وشرع بجانب ذلك الفرض ما يذهب به ويمحو أثره وذلك محال على الله سبحانه وتعالى.
ومثل هذا التحايل الذي ذكره الأستاذ الإِمام، الحيل الرِّبَويّةِ التي كثيرا ما يستخدمها الذين لا يرعون للدين حرمة ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، نحو ما تعارف عليه الناس من بيوع الإِقالة، فتجد أحدهم إذا احتاج يبيع عقاراً للآخر بثمن معلوم ولا يشترط الإِقالة إلى مدة معلومة ويتفق البائع والشاري على أن يستأجر البائع المبيع من المشتري في كل شهر بقدر معلوم من غير أن يتخلى عنه ويقبضه المشتري، وفي هذا العقد حُرَم متعددة:-
الأولى: حرمة التذرع إلى الربا والتحايل على من لا تخفى عليه خافية، وحرمة الربا لما فيه من الاستغلال وابتزاز ثروات المحتاجين، وهذا المعنى حاصل في هذه المعاملة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثانية: حرمة بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن، وقد صح النهي عن ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالثة: حرمة بيعين في بيع، وللإِيجار حكم البيع، فاجتماع عقدته وعقدة البيع معاً يُضفي على هذا العقد هذا الحكم نفسه.
الرابعة: حرمة الشرطين في بيع، وهذا العقد ليس منطويا على شرطين فحسب، بل على ثلاثة شروط: أولها شرط الإِقالة، ثانيها شرط الاستئجار، ثالثها اشتراط كون الاستئجار بثمن معلوم، ومثل هذا قد تفشى في معاملات الناس، نتيجة الجهل والإِسخفاف بأحكام الله تعالى.
وذكر الأستاذ الإِمام أن ثلاثة أقسام من هذا الضلال، أولها وثالثها ورابعها يظهر أثرها في الأمم، فتختل فيها قوى الإِدراك، وتفسد الأخلاق وتضطرب الأعمال، ويحل بها الشقاء عقوبة من الله، لا بد من نزولها بهم، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تحويلا، وذكر أن حلول الضعف ونزول البلاء بأمة من الأمم، من العلامات والدلالات على غضب الله تعالى، بما أحدثته في عقائدها وأعمالها ما يخالف سننه، لهذا علمنا الله تعالى كيف ندعوه بأن يهدينا طريق الذين ظهرت نعمته عليهم، بالوقوف عند حدوده وتقويم العقول والأعمال بفهم ما هدانا إليه، وأن يجنبنا طرق أولئك الذين ظهرت فيهم آثار نقمه، بالإِنحراف عن شرائعه، سواءً كان ذلك عمداً وعناداً أو غواية وجهلاً، وذكر أن الأمة إذا ضلت سبيل الحق ولعب الباطل بأهوائها فسدت أخلاقها واعتلت أعمالها وقعت في الشقاء لا محالة، وسلط الله عليها من يستذلها ويستأثر بشئونها ولا يؤخر لها العذاب إلى يوم الحساب وإن كانت ستلاقى منه نصيبا أيضا، فإذا تمادى بها الغي، وصل بها إلى الهلاك ومحا أثرها من الوجود، لهذا علمنا الله تعالى كيف ننظر في أحوال من سبقنا، ومن بقيت آثارهم بين أيدينا من الأمم لنعتبر ونميز بين ما تكون به سعادة الأمة أو شقاؤها، أما في الأفراد فلم تجر سنة الله بلزوم العقوبة لكل ضال في هذه الحياة الدنيا، فقد يُستدرج الضال من حيث لا يعلم ويدركه الموت قبل أن تزول النعمة عنه وإنما يلقى جزاءه
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }** [الإنفطار: 19] انتهى كلامه وهو بحث نفيس ولأجل نفاسته حرصت على إيراد أقسام الضالين التي ذكرها وإن كنت أجنح إلى تفسير الضالين في الآية بما أثر النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف.
ويرى السيد محمد رشيد رضا الجمع بين التفسير المأثور والتفسير الذى عزاه إلى المحققين - ومنهم شيخه الإِمام محمد عبده - بما حاصله، أنّ ما ذكره المحققون ليس مخالفا للمأثور، لورود المأثور مورد التمثيل لا التخصيص والحصر.
ونستفيد أمرين جليلين من قوله تعالى { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }:
أولها: وجوب الترابط والتلاحم بين المؤمنين بحيث يكوّن أفرادهم كتلة منيعة، وتأتي أجيالهم حلقات متتابعة في سلسلة واحدة، يواصل كل جيل منها ما بدأه الجيل الذي تقدمه.
ثانيهما: وجوب نفرة المؤمنين عن أعداء الدين ومنابذتهم بحيث لا يلتقون معهم على فكر ولا خلق ولا سلوك.
وهذان الأمران هما المعروفان عند العلماء - وخاصة أصحابنا - بالولاية والبراءة ولأجل أهميتهما جاءت هذه السورة التي هي أكثر تكرارا على ألسنة المسلمين في الصلاة وغيرها، مؤكدة عليهما، فالله تعالى يُعَلِّم عباده أن يطلبوا منه، بأن يهديهم صراط الذين أنعم عليهم، من سلفهم الصالحين الذين استقاموا على الطريقة وقاوموا الإِنحراف، وأن يطلبوا بأن يوفقهم لمجانبة طرق أضدادهم من المغضوب عليهم والضالين، وما أجملته الآية الكريمة هنا قد فصّلته وأكدته آيات أخرى في سائر القرآن منها قوله عز وجل:**{ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }** [التوبة: 71] وقوله:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي ٱلأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }** [الأنفال: 72- 73] وقوله تعالى:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ، إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ }** [الممتحنة: 1- 2] وضرب الله مثلا لعباده المؤمنين ابراهيم عليه السلام ومن معه الذين أعلنوا براءتهم من القوم الكافرين وإن كانوا من ذوي قرباهم حيث قال:**{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ، رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[الممتحنة: 4- 5] ثم تلا ذلك ما يدل على وجوب التأسي بهم وعلى أن ذلك لازم الإِيمان بالله واليوم الآخر، حيث قال:**{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ }** [الممتحنة: 6] ومفهوم هذا أن من لم يتأس بهم ليس من الذين يرجون الله واليوم الآخر، وفي خاتمة الآية ما لا يخفى من الوعيد لمن أعرض عن هذا الأمر واستخف بهذا الواجب، وبين سبحانه أنه ليس من شأن المؤمن أن يوالي أحدا ممن عرف عداوته لله ولدينه، ولو كان أقرب قريب، فقد قال عز وجل:**{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ }** [المجادلة: 22] وأكد سبحانه وتعالى أن من تولى كافرا فله حكمه، حيث قال:**{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }** [المائدة: 51] وبين عز وجل أن هذه الموالاة لا تنشأ إلا عن مرض نفساني عضال، يستحكم في قلوب الذين لا يرجون الله واليوم الآخر، حيث قال:**{ فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ }** [المائدة: 52] وحذّر في هذا السياق من الإِرتداد تعريضا بالذين إتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتنبيها على أن هذه الموالاة تؤدي إلى الردة والعياذ بالله وذلك في قوله:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ }** [المائدة: 54] ويأتي في هذا السياق نفسه بيان صفات القوم الذين يجب على المؤمن أن يرتبط بهم بحبل الولاية، وهم الذين يجمعون بين الإِيمان الراسخ والعمل الصالح، وذلك حيث يقول:**{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }** [المائدة: 55] وأتبع ذلك ما يكشف عن عاقبة الترابط بين المؤمنين برباط الولاية في قوله تعالى:**{ وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ }** [المائدة: 56] ثم أتبع ذلك كله تأكيد التحذير من ولاية جميع القوم الكافرين في قوله:**{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[المائدة: 57].
وفي هذا ما يكفي العاقل تنفيرا وتحذيرا من الإِندفاع وراء خطوات الكافرين وهم الذين لا يضمرون لهذه الأمة إلا الحقد الأسود الدفين ولا يريدون لها إلا الذوبان في بوتقة الإِلحاد، أو الغرق في خِضِمِّ الفساد، ولذلك ينصبون كل ما يمكن من شراك المكائد، لاصطياد مرضى القلوب وضعاف الإِيمان من هذه الأمة الذين يعيشهم بريق المظهر وتستهويهم نغمة التضليل والإِفساد، وما الغاية من ذلك إلا ترغيبها في سفاسف الأمور، وتزهيدها في معاليها، هذا بجانب التآمر عليها في استقلالها وثرواتها.
ولا ريب أن غفلة هذه الأمة عن ذلك كله، هو الداء العضال المستعصي على العلاج، وإذا ألقينا نظرة على طريقة السلف الصالح، الذين مكّن الله لهم في الأرض واستخلفهم فيها، نجد حياتهم تنم عن عمق فهمهم لمقاصد هذه التوجيهات الربانية، ولذلك كانوا ينأوْن بأنفسهم ويربأون عن الدنو حول ما يوهم مودة لأعدائهم أو إعجابا بشيء من أمرهم وذلك كله نتيجة التربية العملية التي رُبوا بها على هداية القرآن، وإرشاده ونصحه وتعاليمه، وكان على رأس من قام بهذه التربية في هذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما يتجلى ذلك في أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم فقد بلغ الحال أن كانت صلوات الله وسلامه عليه يحرص على مخالفة الكفار حتى في الأمور العادية، ومن ذلك ما يروى أنه عليه أفضل الصلاة والسلام، كان واقفا في حال دفن ميت وكان أصحابه وقوفا معه، فمر بهم يهودي وقال: هكذا تصنع أحبارنا، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بالقعود، مخالفة لمسلك اليهود، وكثيرا ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه في معرض الأمر والنهي، **" خالفوا اليهود أو خالفوا المشركين "** وذلك لئلا يتأثر السلوك فتتأثر بالتالي العقيدة، وهنا لا يملك المؤمن إلا أن يقف خاشعا أمام عظمة الإِسلام وعمق حكمته وسلامة تربيته ولكن يا للأسف الشديد، أين هذه التعاليم القرآنية والتوجيهات النبوية من أمة اليوم؟ التي أخذت تلهث وراء بهرجة الجاهلية الحديثة، واطئة بأقدامها على قيمها وأخلاقها وعقيدتها، فما أكثر أولئك الذين يقيسون التقدم الحضاري بمقياس التأثر بحياة الغرب الجاهلية، فأصبحوا يتأسون بالغربيين في مأكلهم ومشربهم وملبسهم ونومهم وحديثهم، وجميع أمورهم المعاشية معتقدين بأن ذلك رمز الوعي وعنوان الترقي ولا يدري هؤلاء البله أن ذلك إن دل على شيء، فإنما يدل على الحماقة والتخلف والإِنحطاط والذوبان.
هذا وقد بلغ الإِسلام من دقته في هذه الأمور أن كل ما أراد أن يصل إلى هذه الأمة من مواريث النبوات السابقة، أوصله إليها بطريق الوحي لا بطريق العادات الجاهلية، بل قطع أولا صلتهم بالجاهلية رأسا، لئلا تبقى هذه الأمة عالة على غيرها من الأمم، في شيء من عقيدتها، ولا في شيء من عباداتها وعاداتها، ويكفي مثلا لذلك تعظيم البيت الحرام، الذي بقي عند العرب مما ورثوه عن أبي الأنبياء ابراهيم عليه السلام، ولكن بما أن ذلك قد تلوث بلوثات الجاهلية، صرف الله تعالى هذه الأمة أولاً، حتى عن الإِتجاه إلى البيت الحرام في صلاتها، لتتلقى جميع أمور دينها عن ربها سبحانه، من طريق الوحي، لا من طريق العادات الجاهلية ولما استقرت عقيدتها ورسخ إيمانها وصارت لا تتلقى إلا عن الله تعالى، أُمرت من جديد باستقبال البيت الحرام، وشُرعت لها المناسك العظام، بعدما محصتهم هداية الله ونجحوا في مرحلة الامتحان، ولذلك يقول الله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ }** [البقرة: 143] وفي هذا ما يكفي لأن يكون عبرة لأولى الألباب، نسأل الله العون والتوفيق والتأييد والتسديد، وهو حسبنا وكفى.
تلاوة الفاتحة في الصلاة
فاتحة الكتاب هي أم القرآن، بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وبما ذكرناه من اشتمالها على مجمل معاني القرآن، ولذلك شُرعت تلاوتها في الصلاة، لتذكير المصلي بما تحتويه من المعاني القيمة، التى أنزل القرآن لتبيانها، ولا خلاف بين الامة في مشروعية تلاوة الفاتحة في الصلاة، ولكنهم اختلفوا في فرعين من فروع هذه المسألة، نقسم الحديث عنهما إلى مبحثين:-
المبحث الأول: في وجوب تلاوة الفاتحة في الصلاة، لقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دالة على مشروعية تلاوة الفاتحة في الصلاة، بل على وجوبها منها ما أخرجه الربيع رحمه الله عن أبي عبيدة، عن جابر بن زيد عن أنس بن مالك رضى الله عنهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج "** ورواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج "** رواه أحمد وابن ماجه، ورواه البيهقي من طريق علي مرفوعا بلفظ **" كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج "** ، وفسّر الربيع رحمه الله الخداج بالناقصة وهي غير التمام، ومنها ما أخرجه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يخرج فينادي: (لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد) وهو وإن أعل بجعفر ابن ميمون الذي قال النسائي عنه: ليس بثقة، وقال أحمد: ليس بقوي، وقال ابن عدي يكتب حديثه في الضعفاء، فإنه يعتضد بما أخرجه مسلم وأبو داود وابن حبّان عن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا "** والحديث مروي عند الجماعة بدون لفظة (فصاعدا) وإنما تفرد بها منهم مسلم وأبو داود، وأخرجه الدارقطني بلفظ **" لا تجزيء صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "** وقال إسناده صحيح وصححه ابن القطان أيضا، ويعتضد بشاهد من حديث أبي هريرة مرفوعا بهذا اللفظ، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، ورواه أحمد بلفظ **" لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن "** والأحاديث في ذلك كثيرة يعزز بعضها بعضا، منها حديث أنس عند أحمد والترمذي، وحديث أبي قتادة عند أبي داود والنسائي، وابن عمر عند ابن ماجه، وأبي سعيد عند أحمد وأبي داود وابن ماجه، وأبي الدرداء عند النسائي وابن ماجه، وجابر عند ابن ماجه.
وجمهور الأمة يحملون هذه الأحاديث على الوجوب، حتى أن الفخر الرازي نقل عن ابي حامد الإِسفرائينى أنه حكى إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة، وذكر جماعة عن أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ما يدل على عدم وجوب قراءتها، وذلك أنهم قالوا: إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك، وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة: أقله ثلاث آيات، أو آية طويلة، كآية الديْن، وذكر عن محمد بن الحسن أيضا أنه قال: أسوغ الإِجتهاد في مقدار آية ومقدار كلمة مفهومة نحو الحمد لله، ولا أسوغه في حرف لا يكون كلاما.
وذكر القرطبي عن الطبري أنه قال: يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها في القرآن عدد آياتها وحروفها، ونقل القرطبي عن ابن عبد البر قوله: وهذا لا معنى له، لأن التعيين لها والنص عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها، ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه فتركها وهو قادر عليها، وإنما عليه أن يجيء بها ويعود إليها كسائر المفروضات المتعينات في العبادات، وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح، أن الحنفية يتفقون مع غيرهم على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، لكن بنوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطا في صحة الصلاة، لأن وجوبها إنما ثبت بالسنة والذي لا تتم الصلاة إلا به هو فرض، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن، وقد قال تعالى:**{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }** [المزمل: 20] فالفرض قراءة ما تيسر، وتعيين الفاتحة إنما ثبت بالحديث فيكون واجبا يأثم من يتركه وتجزيء الصلاة بدونه.
وَأَتْبَعَ الحافظ ذلك قولُه: وإذا تقرر ذلك، لا ينقضي عجبي ممن يتعمد ترك قراءة الفاتحة منهم وترك الطمأنينة، فيصلي صلاة يريد أن يتقرب بها إلى الله تعالى وهو يتعمد ارتكاب الإِثم فيها مبالغة في تحقيق مخالفته لمذهب غيره، والذي نسبه إلى الحنفية من وجوب الفاتحة في الصلاة، نص عليه الكاساني منهم في بدائع الصنائع وإنما حصر الوجوب في الركعتين الأوليين من ذوات الأربع والثلاث، وفي كلتا الركعتين من ذات الركعتين وذكر أن من تركها عمدا كان مسيئا، ومن تركها سهوا لزمه سجود السهو، قال: وهذا يعني عندنا - يعني الحنفية -.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وهذا التفصيل نسبه الفخر الرازي إلى أبي حنيفة نفسه وقال في الركعتين الأخيرتين، يخير المصلي إن شاء قرأ وإن شاء سبّح وإن شاء سكت، ونسب الفخر إلى صاحب كتاب الاستحباب أن القراءة واجبة في الركعتين من غير تعيين، وحكى عن ابن الصبَّاغ أنه نقل في كتاب الشامل عن سفيان، وجوب القراءة في الركعتين الأوليين وكراهتها في الأخريين، والقول بالاكتفاء بالتسبيح في الأخريين منسوب في بعض كتب أصحابنا إلى الإِمام أبي معاوية عزان بن الصقر رحمه الله، وحكى الفخر عن الأصم وابن عليّة أن القراءة غير واجبة أصلا، وذهب الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي إلى أن قراءتها في ركعة واحدة مجزئة، سواء كانت الصلاة ثنائية، أو ثلاثية أو رباعية، ونسبه القرطبي إلى المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني، وإلى أكثر أهل البصرة. وحاصل المقام أن في المسألة أقوالا:-
أولها: قول الجمهور، وهو اشتراط الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة، وحكى الإِسفرائيني إِجماع الصحابة عليه، وذكر أنه قال به أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود، ونسبه غيره إلى ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وأبي بن كعب وأبي أيوب الإِنصاري وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي سعيد الخدري وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير، وعليه جمهور أصحابنا، وبه قال مالك والشافعي، وهو المشهور عن أحمد، ونسبه القرطبي إلى مشهور مذهب الأوزاعي ونسبه الشوكاني إلى العترة.
ثانيها: عدم وجوب القراءة في الصلاة أصلا، وهو قول الأصم وابن عليَّة.
ثالثها: وجوبها في ركعة من ركعات الصلاة فقط وهو قول الحسن البصري ومن تابعه، ونُسب إلى داود وإِسحاق والهادي والمؤيَّد بالله.
رابعها: وجوبها في الركعتين الأوليين والإِجتزاء بالتسبيح في الأخريين وهو رأي الحنفية وبه يقول أبو معاوية عزان بن الصقر من أصحابنا، غير أن الحنفية لا يرون بطلان الصلاة بدونها، كما تقدم، بناءً على تفرقتهم بين الفرض والواجب.
خامسها: الاستغناء عن الفاتحة بغيرها من القرآن نحو ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الديْن، وهو رأي أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وسوّغ محمد بن الحسن الاجتهاد في آية أو كلمة مفهومة نحو { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } دون حرف لا يكون كلاما، وذكر ابن قدامة في المغني عن أحمد رواية أنها لا تتعين وتجزىء قراءة آية من القرآن من أي موضع كان.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سادسها: اشتراط قراءة الفاتحة أو مثلها من القرآن في عدد آياتها وحروفها نسبه القرطبي إلى الطبري.
سابعها: وجوب قراءتها في الركعتين الأوليين، وكراهتها في الأخريين، وهو قول سفيان حسبما نقله الفخر الرازي، عن كتاب الشامل لابن الصبّاغ.
والصحيح من هذه الآراء القول بوجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وهو الذي تقتضيه الأحاديث التي أسلفنا ذكرها، ويعضده إجماع الصحابة الذي حكاه أبو حامد الإِسفرائيني، أما القول بإسقاط وجوب القراءة رأسا فهو منافٍ لدلالة قوله تعالى:**{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }** [المزمل: 20] ومصادم لنصوص الأحاديث التي أسلفنا ذكرها.
وأما القائلون بالإِجتزاء بتلاوتها في ركعة من ركعات الصلاة فيرد عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: **" ثم افعل ذلك في صلاتك كلها "** ، بعد أن أمره بالقراءة. رواه الجماعة من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، وفي رواية لأحمد وابن حبان والبيهقي في قصة المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: **" ثم افعل ذلك في كل ركعة "** كما يرد عليهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري عن إبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب.. والنبي عليه أفضل الصلاة والسلام تأتي أفعاله في العبادات، تشريعا لأمته يستوضح بها ما انبهم ويستبان بها ما أجمل، وقد قال: **" صلوا كما رأيتموني أصلي "** ولا متعلق لهم في نحو قوله صلى الله عليه وسلم **" لا تقبل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن "** اعتبارا أن الاستثناء من النفي إثبات، فإذا حصلت قراءة الفاتحة في الصلاة مرة واحدة صحت الصلاة، لأن سنته صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية بينت أن هذه القراءة المطلوبة يجب أن تكون في كل ركعة من ركعات الصلاة، لا في ركعة واحدة فحسب، فاتضح بذلك أن صحة الصلاة موقوفة على تلاوة الفاتحة في كل ركعة، وبهذا يُرد على القائلين بالاجتزاء بها في الركعتين الأوليين من صلاة رباعية أو ثلاثية.
وأما القائلون بكفاية غيرها عنها - سواء القائلون بكفاية آية أو ثلاث آيات أو مثل الفاتحة في مثل عدد آياتها وحروفها - فأحاديث اشتراط الفاتحة كافية في هدم رأيهم والكشف عن ضعفه، ولا حجة لهم في إطلاق قوله تعالى { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي المسيء صلاته: **" ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن "** ، لأن المجمل يحمل على المبين والمطلق يرد إلى المقيد، على أنه ورد في حديث المسيء أيضا، عند أحمد وأبي داود وابن حبان بلفظ:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" ثم اقرأ بأم القرآن "** وروى الشافعي بإسناده عن رفاعة بن رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: **" ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله أن تقرأ "** وفي مثل هذا دليل على تعين الفاتحة وأن ما تيسر محمول على ما زاد عليها، مع احتمال أنه لم يكن يحسن الفاتحة، والآية الكريمة جاءت في سياق أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، وليست في الصلوات الخمس، وذكر بعض العلماء احتمال أنها نزلت قبل نزول الفاتحة، لأنها نزلت بمكة المكرمة في صدر زمن الرسالة، فليس فيها ما يدل على معارضة الأحاديث، أما ما يتعلقون به من حديث أبي سعيد بلفظ: **" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو غيرها "** فإن ابن سيد الناس يقول: لا يدرى بهذا اللفظ من أين جاء وقد صح عن أبي سعيد عند أبي داود أنه قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر.. وإسناده صحيح ورواته ثقات.
وأما تعلقهم بحديث أبي هريرة عند أبي داود بلفظ: **" لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب "** فيجاب عنه بأنه من رواية جعفر بن ميمون وقد سبق أن ذكرنا عن النسائي وأحمد وابن عدي تضعيفه وهو أيضا مردود بأن أبا داود أخرج من طريقه عن أبي هريرة بلفظ: **" أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أخرج فأنادي، أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد "** وليست تلك الرواية بأولى من هذه، بل هذه أولى بما يشدها من الروايات الأخرى، التي هي أقوى سندا وأصح متنا، على أنه يحتمل أن المراد بقوله عليه أفضل الصلاة والسلام - لو صحت الرواية - **" لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب "** الاجتزاء بقراءة الفاتحة وحدها، في بعض الصلوَات كصلاة السر، كما هو المذهب عندنا.
وبالجملة فإن كل ما يتعلق به المخالف في هذه المسألة، إما رواية واهية أو ذات احتمال، والدليل إذا طرقه الإِحتمال سقط به الاستدلال، أما أدلتنا على وجوب الفاتحة في كل ركعة فهي أقوى من أن تُغمز، وأظهر من أن تؤوّل، وإن حاول جماعة قلب الاستدلال بها لصالح رأيهم، ومن ذلك دعواهم أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: **" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج "** يدل على صحة الصلاة بدونها، لأن غاية ما في الحديث أن الصلاة دونها ناقصة، وهو لا يدل على بطلانها، ويُجاب عن ذلك بأن الصلاة المطلوبة شرعاً هي الصلاة المستكملة لشروطها وأركانها، فإذا اختل شيء منها انهدم جميعها، والخداج هو في الأصل، اسم لإِلقاء الناقة ولدها لغير تمام الحمل، كما قال اللغويون، وهو سبب من أسباب هلاك الحمل، على أن الروايات الأخرى التي جاءت تارة بلفظ
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "** وأخرى بلفظ **" لا تجزىء صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "** صريحة في بيان المقصود بالخداج.
وحاولوا كذلك قلب الأدلة - من قوله صلى الله عليه وسلم **" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "** زاعمين بأن المراد نفي الكمال لا نفي الذات، لأن الذات قائمة غير منتفية، ونفي الكمال يدل بمفهومه على وجود الحقيقة، وأجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح بما حاصله: إما أن يدعى هؤلاء أن المراد بالصلاة حقيقتها اللغوية، وإما أن يسلّموا أن المراد بها معناها الشرعي، والأول غير مُسَلّم لأن ألفاظ الشرع محمولة على مصطلحاته، إذ هي المستوجبة للبيان ولم يُبعث الشارع لبيان الموضوعات اللغوية ولكنه بُعث لبيان الحقائق الشرعية، وإذا ثبت أن الصلاة المنفية هنا هى الصلاة الشرعية اتضح نفي حقيقتها، من غير احتياج إلى إضمار الإِجزاء ولا الكمال، لأنه يؤدى إلى الإِجمال، كما نُقل عن القاضى أبي بكر وغيره حتى مال إلى التوقف لأن نفي الكامل يُشعر بحصول الإِجزاء، فلو قدر الإِجزاء منتفيا لأجل العموم قدر ثابتا لأجل إشعار نفي الكمال بثبوته، فيؤدي إلى التناقض ولا سبيل إلى إضمارهما معا، لأن الاضمار إنما احتيج إليه للضرورة وهي تندفع باضمار فرد فلا حاجة إلى أكثر منه ودعوى إضمار أحدهما ليست بأولى من الآخر، قاله ابن دقيق العيد، وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن في هذا الأخير نظرا، لأنا إن سلمنا تعذر الحمل على الحقيقة، فالحمل على أقرب المجازين إليها أولى من الحمل على أبعدهما، ونفى الاجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة وهو السابق إلى الفهم، ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس، فيكون أولى، وأيد الحافظ ذلك برواية " لا تجزىء " التي ذكرناها، وبرواية " لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " وإذا علمت وجوب قراءتها في كل ركعة من الصلاة، فاعلم أن تركها عمداً أو نسياناً، أو ترك شيء منها، مفض إلى بطلان الصلاة على الصحيح، وهو قول أصحابنا في العمد، ونسيان أكثرها، وقول أكثرهم في نسيان الأقل منها، ووافقنا عليه الشافعي في الجديد، وعليه ابن حزم الظاهرى في المحلّى، وذهب الشافعي في قديمه إلى أن نسيانها لا يفسد الصلاة، واحتج بما روى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: صلى بنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه المغرب، فترك القراءة، فلما انقضت الصلاة قيل له: تركت القراءة، قال: كيف كان الركوع والسجود، قالوا: حسنا، قال: فلا بأس، واعتبر الشافعي حدوث هذه الواقعة بمحضر الصحابة من غير نكير منهم في حكم الإِجماع، ثم رجع عنه في الجديد، كما ذكرنا، أخذا بالأدلة العامة التي تشمل العمد والسهو، وأجاب عن قصة عمر بجوابين:
أولهما: أن الشعبي روى أن عمر رضي الله عنه أعاد الصلاة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وهي زيادة من الثقة حكمها القبول، والمثبت مقدم على النافي عند التعارض.
ثانيهما: احتمال أن يكون عمر رضى الله عنه لم يترك نفس القراءة وإنما ترك الجهر بها، قال الشافعي: هذا هو الظن بعمر.
وضعّف القرطبي ما رُوى عن عمر أنه اعتد بالصلاة التي لم يقرأ فيها بعدم إعادته لها، وقال عنه: منكر اللفظ، منقطع الإِسناد، لأنه يرويه ابراهيم بن حارث التيمي عن عمر، ومرة يرويه ابراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عمر، وكلاهما منقطع لا حجة فيه، وقد ذكره مالك في الموطأ، وهو عند بعض الرواة وليس عند يحيى وطائفة معه، لأنه رماه مالك من كتابه بأخره، وقال ليس عليه العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج "** ثم ذكر القرطبي ما رُوى عن عمر، أنه أعاد تلك الصلاة، وقال: وهو الصحيح عنه، روى يحيى بن يحيى النيسابورى قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش: عن ابراهيم النخعي عن همام بن الحارث، أن عمر نسي القراءة في المغرب، فأعاد بهم الصلاة، قال ابن عبد البرّ: وهذا حديث متصل شهده همام بن عمر، رُوى ذلك من وجوه، وروى أشهب عن مالك قال: سُئل مالك عن الذي نسى القراءة، أيعجبك ما قال عمر، قال: أنا أنكر أن يكون عمر فعله - وأنكر الحديث - وقال: يرى الناس عمر يصنع هذا في المغرب ولا يسبحون به، أرى أن يعيد الصلاة من فعل هذا.
والمفهوم من كلام المالكية أن مالكا يرى رأينا في من يتركها عمدا وهو خلاف ما ذكره عنه ابن حزم وغيره، والاعتماد على ما يرويه عنه أصحابه أولى، أما في حالة النسيان، فذكر ابن خويزمنداد البصري المالكي، عدم اختلاف قول مالك، في بطلان صلاة من تركها في ركعة من صلاة ركعتين ولزوم الإِعادة عليه، واختلف قوله من تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية، فقال مرة يعيد الصلاة، وقال مرة أخرى يسجد سجدتي السهو، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عن مالك، قال ابن خويزمنداد: وقد قيل إنه يعيد تلك الركعة، ويسجد للسهو بعد السلام، قال ابن عبد البر: الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة، والاتيان بركعة بدلا منها كمن أسقط سجدةً سهوا، وهو اختيار ابن القاسم.
في تلاوة الفاتحة للإِمام والمأموم والمنفرد
فاتحة الكتاب جامعة لما لم يجمعه غيرها من مجملات معاني القرآن، وهذا سر مشروعية قراءتها في الصلاة كما أسلفنا، ومن هنا أطلق عليها اسم الصلاة. أخرج الإِمام الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" يقول الله عزّ وجل قُسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل "** وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إذا قال العبد الحمد لله فيقول الله حمدني عبدي، فإذا قال العبد: الرحمن الرحيم فيقول الله أثنى علىّ عبدي، وإذا قال العبد: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } فيقول الله: مجدني عبدي، فيقول: العبد إياك نعبد وإياك نستعين، فيقول الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فيقول العبد: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فيقول الله: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل ".** وأخرج الحديث الجماعة إلا البخاري وإبن ماجه بلفظ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج "** ، فقيل لأبي هريرة إِنا نكون وراء الإِمام فقال: إقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي.. إلخ ".** والحديث الأول هنا حديث مستقل، أخرجه الإِمام الربيع رحمه الله، من طريق أنس رضي الله عنه كما سبق، وإطلاق إسم الصلاة على الفاتحة يدل على أهميتها في الصلاة، وضرورة قراءتها، لتوقف صحة الصلاة عليها، فهي بمثابة العمود الفقري فيها، وفي هذا ما يكفي حجة لإِيجابها على كل مصل، إماما كان أو مأموما أو منفردا، فإن الفاتحة في الصلاة لا تقل أهمية عن الركوع والسجود، بل الحديث يدل على سبق أهميتها، وإذا كان الركوع والسجود لا يحملهما إمام عن المأموم، فأجدر أن يكون هذا الحكم على الفاتحة، ووجوب قراءتها على المأموم كالإمام والمنفرد مروي عن جماعة الصحابة رضي الله عنهم، منهم عمر بن الخطاب، فقد روى الدار قطني عن يزيد بن شريك قال: سألت عمر عن القراءة خلف الإِمام فأمرني أن أقرأ، قلت: وإن كنت أنت، قال: وإن كنت أنا، قلت، وإن جهرت، قال: وإن جهرت.
قال الدارقطني هذا إسناد صحيح، وأخرجه ابن حزم مسندا في المحلّى عن يزيد بن شريك وعباية بن رداد وخيثمة بن عبد الرحمن عن عمر رضي الله عنه وذكر الترمذي في جامعه أن أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين يقولون بذلك، وعزاه إلى مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد واسحق، وصحح هذا الرأي القرطبي من المالكية في تفسيره، وعليه جمهور أصحابنا، ونُسب إلى الناصر من أهل البيت ورجّحه الشوكاني.
وقيل: بعدم القراءة مطلقا خلف الإِمام سواءً أسَرَّ أو جهر، وهو قول: أبي حنيفة وأصحابه، وبه قال: ابن وهب وأشهب وابن الحكم وابن حبيب من أصحاب مالك، وقال: بعض سلف مشارقتنا، حتى قال بعضهم: جمرة في عينه أحب إليه من أن يقرأ الفاتحة خلف الإِمام، وعزي هذا القول إلى الإِمام ابن محجوب رحمه الله، وعزا إليه القطب رحمه الله في الشامل وشرح النيل رجوعه عنه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقيل بالتفرقة بين الجهرية السرية، فينصت لها المأموم من إمامه في الجهر ويقرؤها في السر، وهو مشهور مذهب مالك، ونسبه الشوكاني إلى زيد بن على والهادي والقاسم وأحمد بن عيسى وعبيد الله بن الحسن العنبري واسحاق بن راهويه وأحمد، وذكر ابن قدامة في المغني أنه رواية الجماعة عن أحمد، وعزاه أيضا إلى الزهري والثوري وابن عيينه وإلى إسحاق، واعتمده، من قبله سلفه الخرقي في مختصره.
وذكر ابن حزم الظاهري اختلاف أصحابه الظاهرية في ذلك، فمنهم من رأى وجوب القراءة مطلقا خلف الإِمام، كما هو القول الأول ورجحه هو وعُزِي إلى سلفه داود، ومنهم من فرق بين قراءتي السر والجهر كما هو القول الثالث، ويؤيد القول الأول، ما أخرجه الربيع عن عبادة بن الصامت رضي الله، عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: (لعلكم تقرأون خلف إمامكم) قلنا أجل، قال: **" لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة إلا بها "** والحديث أخرجه عن عبادة أيضا أحمد والبخاري في جزء القراءة، وصححه ابو داود والنسائي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي، من طريق ابن اسحاق قال: حدثني مكحول عن محمود بن ربيعه، عن عبادة، وتابعه زيد بن واقد وغيره عن مكحول، وأخرجه أبو داود عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري قال: أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح، فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة فصلى أبو نعيم بالناس، وأقبل عبادة ابن الصامت وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم، وأبو نعيم يجهر بالقراءة، فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن فلما انصرف قلت: لعبادة سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر، قال: أجل " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فالتبست عليه، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال: هل تقرأون إذا جهرت بالقراءة فقال: بعضنا: إنا نصنع ذلك، قال: **" فلا وأنا أقول مالي ينازعني القرآن فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن "** وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث محمد بن اسحاق بمعناه وحسنه، وقال الدارقطني: هذا إسناد حسن ورجاله كلهم ثقات، وجاء في كثير من روايات الحديث **" لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها "**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
، وذكر الشوكاني من شواهده، ما رواه أحمد من طريق خالد الحذّاء، عن ابي قلابة بن أبي عائشة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" لعلكم تقرأون والإِمام يقرأ " ، قالوا: إنا لنفعل، قال: " لا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب "** ، قال الحافظ: إسناده حسن، ورواه ابن حبان من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس، وزعم أن الطريقتين محفوظتان، وخالفه البيهقي فقال: إن طريق أبي قلابة عن أنس ليست محفوظة، وفي لفظ للدارقطني عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" لا يقرأ أحد منكم شيئا من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن "** قال الدارقطني: رِجاله كلهم ثقات.
فهذه الأحاديث ناصة على أن للفاتحة حكما خاصا في الصلاة، فلا يكتفي فيها بسماعها من الإِمام بخلاف غيرها، وهذا لتوغلها في الوجوب، لأنها ركن من أركان الصلاة، ولذلك أطلق عليها اسم الصلاة بالنص الصريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه رب العالمين، لأنها بمثابة القلب منها.
واحتج القائلون بعدم القراءة خلف الإِمام مطلقا أو فيما يُجْهر به بعموم قوله تعالى**{ وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ }** [الأعراف: 204] وبعموم روايات، منها ما أخرجه الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة قال: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة جهر فيها بالقرأ، فقال: **" هل قرأ معي أحد منكم آنفا؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا فيما جهر به من الصلاة "** ، ورواه مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسّنه، وابن ماجة وابن حبان بلفظ: **" فإني أقول مالي أُنازع القرآن "** وزيادة فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه سلم فيما يجهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الزيادة مدرجة في الخبر كما نقله الشوكاني عن الخطيب، وذكر أنه اتفق على ذلك البخاري في التاريخ وأبو داود ويعقوب بن سفيان والذهلي والخطابي وغيرهم.
قال النووي: وهذا مما لا خلاف فيه بينهم، ومنها حديث أبي هريرة عند الخمسة إلا الترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" إنما جُعل الإِمام لِيؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا "** ونُسب إلى مسلم تصحيحه، ولكن أبا داود قال في زيادة قوله (وإذا قرأ فأنصتوا)، ليست بمحفوظة، ونسب الوهم فيها إلى أبي خالد، ورد عليه المنذري بأن أبا خالد هذا هو سليمان ابن حيان الأحمر وهو من الثقات الذين احتج بهم البخاري ومسلم في صحيحهما، وأجاب عنه الإِمام نور الدين السالمي رحمه الله، بأن ذلك لا ينافي وقوع الوهم منه، لأن أبا داود لم يدّع كذبه، وإنما ادّعى وهمه، وهو غير الكذب بل هو في معنى الغلط، غير أن المنذري عزز ثبوت هذه الزيادة، ونفي الوهم عن راويها أبي خالد، بعدم تفرده بها، فقد تابعه عليها أبو سعيد محمد بن سعد الأنصاري الأشهلي المدني نزيل بغداد، وقد سمع من عجلان وهو ثقة وثَّقَهُ يحيى بن معين ومحمد بن عبد الله المحزمي وأبو عبد الرحمن النسائي وقد أخرج النسائي هذه الزيادة في سننه من حديث أبي خالد الأحمر ومحمد بن سعد، ونسب المنذري إلى مسلم إخراج هذه الزيادة في حديث أبي موسى الأشعري من رواية جرير ابن عبد الحميد، عن سليمان التَّيمي عن قتادة وأقر الشوكاني نسبتها إلى رواية مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري، ورأيت جماعة من العلماء عزوا إخراجها إلى مسلم من حديث أبي موسى، منهم القرطبي في تفسيره، والحافظ ابن حجر في فتح الباريء، وعزا إليه ابن قدامة في المغنى إخراج حديث أبي هريرة الذي تقدم ذكره، وقد راجعت أبواب القراءة في الصلاة وأبواب صلاة الجماعة من صحيح مسلم بابا بابا، وتأملت ما فيها حديثا حديثا، فلم أجد ما عزوه اليه من رواية أبي موسى، ولا من رواية أبي هريرة، ولا من رواية غيرهما، وإنما رأيت في باب ائتمام المأموم بالإِمام أربعة أحاديث أخرحها مسلم من رواية أنس وعائشة، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة رضي الله عنهم أما حديث أنس فلفظه
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" إنما جعل الإِمام ليؤتم به فإذا كبّر فكبِّروا، فإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا وإذا قال: سمع الله لمن الحمده فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قعودا فصلوا قعودا أجمعون "** وفي بعض طرقه عنه زيادة **" فإذا صلى قائما فصلوا قياما "** ولفظ حديث عائشة **" إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا "** ولفظ حديث جابر **" إئتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا "** ولفظ حديث أبي هريرة **" إنما الإِمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون "** وفي بعض الطرق في نفس صحيح مسلم زيادة بعض ألفاظ في رواية أبي هريرة منها **" إذا صلى قائما فصلوا قياما "** وليس في شيء منها **" وإذا قرأ فأنصتوا "** ولم تأت رواية في هذا الباب عن أبي موسى الأشعري، ولست أدري أين تقع هذه الرواية التي نسبوها إليه، مع العلم أن هؤلاء الذين عزوا إخراج مسلم لهذا الحديث عن أبي موسى وتصحيحه حديث أبي هريرة معدودون في مقدمة أئمة الحديث رواية ودراية، هذا وقد أعلّ الدارقطني زيادة " وإذا قرأ فأنصتوا " الواردة في رواية سليمان التيمي عن قتادة بأن الحفاظ من أصحاب قتادة لم يذكروها منهم شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة وهمام وأبو عوانة ومعمر وعدي بن أبي عمارة، قال الدارقطنى: فإجماعهم يدل على وهمه، وقد روي عن عبد الله بن عامر عن قتادة متابعة التيمي، ولكن ليس هو بالقوي تركه القطان، لكن روى بعضهم تصحيحها عن أحمد بن حنبل وابن المنذر.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ومنها حديث **" من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة "** وهو حديث مرسل من طريق عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أسنده عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن عماره: وأبو حنيفه وقد ضعفهما الدارقطنى الراوى للحديث قال: وروي هذا الحديث سفيان الثوري، وشعبة وإسرائيل بن يونس وشريك وأبو خالد الدالاني وأبو الأحوص وسفيان بن عيينه وحريث ابن عبد الحميد وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. وذكر الحافظ وغيره أنه مشهور من كلام جابر بن عبد الله موقوفا عليه، وقد رواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر، قال ابن عبد البر: " ورواه يحيى بن سلام، صاحب التفسير عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصوابه موقوف على جابر كما في الموطأ ".
وليس في شيء مما احتجُّوا به ما يدل على صحة ما ذهبوا إليه، أما الآية الكريمة فإنها ليست نصا في الموضوع، إذ يحتمل أن تكون القراءة المقصودة فيها خارج الصلاة وهي مكية، وتحريم الكلام في الصلاة كان في المدينة، كما قال زيد بن الأرقم: وليس ببعيد أن يكون المقصود بها المشركين الذين يرفعون أصواتهم عند تلاوة القرآن حذر أن يصل إلى نفوسهم إن أنصتوا إليه فيستولى عليها، وقد رُوي مثل ذلك عن سعيد بن المسيب ويشهد له قول الله تعالى:**{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }** [فصلت: 26] ولو سُلِّم أنها نزلت في قراءة الصلاة، فهي مخصصة بالأحاديث الناصة على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم، والخصوص إذا ثبت قُدِّم على العموم ولو كان قرآنًا، لأن العام ظني الدلالة - وإن كان قطعي المتن - بخلاف الخصوص، وأما الأحاديث فهي أيضا عمومات محمولة على ما فوق الفاتحة، لوجوب تقديم الخاص على العام، ولا تقوى هذه العمومات على معارضة الخصوصات الصريحة الواضحة، وقد علمت ما في بعض تلك الأحاديث من مطاعن لأئمة الحديث في أسانيدها، فكيف تقوى على معارضة الروايات الصحيحة الصريحة في إيجاب تلاوة الفاتحة على كل مصلٍّ؟.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
هذا وإذا ثبت الأمر بقراءة الفاتحة خلف الإِمام فإن ذلك لا يتقيد بحال سكوته إذ ليس في تلك الأحاديث ما يدل عليه، وقد اختلفت الشافعية في قراءة الفاتحة، هل تكون عند سكتات الإِمام وعند قراءته، قال الشوكاني: وظاهر الأحاديث أنها تقرأ عند قراءة الإمام، وفعلها حال سكوت الإِمام إن أمكن أحوط، لأنه يجوز عند أهل القول الأول فيكون فاعل ذلك آخذاً بالإِجماع - قال - وأما اعتياد قراءتها حال قراءة الإِمام للفاتحة فقط، أو حال قراءته للسورة فقط، فليس عليه دليل بل الكل جائز وسنة، نعم حال قراءة الإِمام للفاتحة مناسب، من جهة عدم الاحتياج إلى تأخير الإِستعاذة عن محلها، أو تكريرها عند إرادة قراءة الفاتحة إن فعلها في محلها أول وآخر الفاتحة إلى حال قراءة الإِمام للسورة. إنتهى كلامه بتصرف.
ثم ذكر الشوكاني عن بعض الشافعية أنه بالغ، فصرح بأنه إذا اتفقت قراءة الإِمام والمأموم في آية خاصة من آي الفاتحة بطلت صلاته، وذكر عن صاحب البيان من الشافعية، أنه رواه عن بعض أهل الوجوه منهم، قال: وهو من الفساد بمكان يغني عن رده، وللحافظ ابن حجر بحث قيم في هذه المسألة في الفتح، فبعد أن ذكر حديث **" وإذا قرأ فأنصتوا "** أتى باحتمالين في المقصود به:-
أولهما: أن الإِنصات المطلوب فيما عدا الفاتحة.
ثانيهما: أن ينصت إذا قرأ الإِمام ويقرأ إذا سكت، قال: وعلى هذا فيتعين على الإِمام السكوت في الجهرية ليقرأ المأموم، لئلا يوقعه في ارتكاب النهي، حيث لا ينصت إذا قرأ الإِمام، ثم قال: وقد ثبت الإِذن بقراءة المأموم الفاتحة في الجهرية بغير قيد، وذلك فيما أخرجه البخاري في جزء القراءة والترمذي وابن حبّان وغيرهما، من رواية مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم ثقلت عليه القراءة في الفجر.. وأورد حديث عبادة الذي ذكرناه، ثم قال: وله شاهد من حديث أبي قتادة عند أبي داود والنسائي ومن حديث أنس عند ابن حبّان.
ويمكنك بهذا استظهار رجحان القول بقراءة الفاتحة، ولو في حال قراءة الإِمام، وهو الذي عليه العمل عندنا، وذكر صاحب الإِيضاح وغيره عن بعض أصحابنا اختيار ما عليه بعض الشافعية من قراءتها في سكتات الإِمام.
وتلاوة الفاتحة في الصلاة أو في غيرها يجب أن تكون بحسب ألفاظها المنزلة، فلا تَصِح ترجمتها إلى أي لغة أخرى، كالفارسية مثلا، لأن ذلك يسلبها قرآنيتها، وذهب أبو حنيفة إلى جواز قراءتها في الصلاة وغيرها باللغة الفارسية، وهو رأي غير سديد، وقد أطال العلماء في الرد عليه، وقد كنت أرغب في بحث هذا الموضوع هنا، ولكني رجحت تأخيره إلى موضعه وهو ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى، وأرجو أن أوفق لذلك عندما أصل في التفسير إن شاء الله إلى الآيات التي تنص علي عربية القرآن، وقول أبي حنيفة مهجور عملا إذ لم يعمل به أي أحد حتى من أصحابه الذين يرون رأيه، وبهذا كان الإِجماع العَملي من الأمة مخالفا لرأيه، وهذا ما يسر الله إملاءه في هذا الجزء المشتمل على مقدمات مهمة في التفسير والإِعجاز، بجانب تفسير الفاتحة، أسأل الله أن يتقبله مني، وأن يجزي الخير كل من أعانني عليه، وأن يوفقني لمواصلة العمل الذي بدأته إلى نهايته، إنه سبحانه ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) | { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }. بدل أو عطف بيان من { الصراط المستقيم } ، وإنما جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان دون أن يقال اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم، لفائدتين الأولى أن المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة، وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان فضله. الفائدة الثانية ما في أسلوب الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي، وأيضاً لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم فيحصل مفهومه مرتين فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي واعتبار البدلية مساوٍ لاعتباره عطف بيان لا مزية لأحدهما على الآخر خلافاً لمن حاول التفاضل بينهما، إذ التحقيق عندي أن عطف البيان اسم لنوع من البدل وهو البدل المطابق وهو الذي لم يفصح أحد من النحاة على تفرقة معنوية بينهما ولا شاهداً يعين المصير إلى أحدهما دون الآخر. قال في «الكشاف» «فإن قلت ما فائدة البدل؟ قلت فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير» ا هـ فأفهم كلامه أن فائدة الإبدال أمران يرجعان إلى التوكيد وهما ما فيه من التثنية أي تكرار لفظ البدل ولفظ المبدل منه وعنى بالتكرير ما يفيده البدل عند النحاة من تكرير العامل وهو الذي مهد له في صدر كلامه بقوله «وهو في حكم تكرير العامل كأنه قيل اهدنا الصراط المستقيم اهدنا صراط الذين، وسماه تكريراً لأنه إعادة للفظ بعينه، بخلاف إعادة لفظ المبدل منه فإنه إعادة له بما يتحد مع ما صدقه فلذلك عبر بالتكرير وبالتثنية، ومراده أن مثل هذا البدل وهو الذي فيه إعادة لفظ المبدل منه يفيد فائدة البدل وفائدة التوكيد اللفظي، وقد علمت أن الجمع بين الأمرين لا يتأتى على وجه معتبر عند البلغاء إلا بهذا الصوغ البديع. وإن إعادة الاسم في البدل أو البيان لِيُبنى عليه ما يُراد تعلقه بالاسم الأول أسلوبٌ بهيج من الكلام البليغ لإشعار إعادة اللفظ بأن مدلولَه بمحلِّ العناية وأنه حبيب إلى النفس، ومثله تكرير الفعل كقوله تعالى**{ وإذا مروا باللغو مروا كراماً }** الفرقان 72وقوله**{ ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا }** القصص 63 فإن إعادة فعل { مروا } وفعل { أغويناهم } وتعليق المتعلِّق بالفعل المعاد دون الفعل الأول تَجِدُ له من الروعة والبهجة ما لا تجده لتعليقه بالفعل الأول دون إعادة، وليست الإعادة في مثله لمجرد التأكيد لأنه قد زيد عليه ما تعلق به. قال ابن جني في «شرح مشكل الحماسة» عند قول الأحوص
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| **فإذَا تزولُ تزول عن مُتَخَمِّطٍ تُخْشَى بَوَادِرُه على الأَقرانِ** | | |
| --- | --- | --- |
محالٌ أن تقول إذا قُمتَ قُمتَ وإذا أقْعُدُ أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول فإذَا تزولُ تزولِ لما اتصل بالفعل الثاني من حَرْف الجر المفادة منه الفائدةُ، ومثله قول الله تعالى { هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } وقد كان أبو علي يعني الفارسي امتنع في هذه الآية مما أخذناه ا هـ. قلت ولم يتضح توجيه امتناع أبي علي فلعله امتنع من اعتبار { أغويناهم } بدلاً من { أغوينا } وجعله استئنافاً وإن كان المآل واحداً. وفي استحضار المنعم عليهم بطريق الموصول، وإسناد فعل الإنعام عليهم إلى ضمير الجلالة، تنويه بشأنهم خلافاً لغيرهم من المغضوب عليهم والضالين. ثم إن في اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه صراط الذين أنعمتَ عليهم دون بقية أوصافه تمهيداً لبساطة الإجابة فإن الكريم إذا قلت له أعطني كما أعطيتَ فلاناً كان ذلك أَنْشَطَ لكرمه، كما قرره الشيخ الجد قدس الله سره في قوله صلى الله عليه وسلم «كما صليتَ على إبراهيم»، فيقول السائلون إهدنا الصراط المستقيم الصراط الذين هديت إليه عبيد نعمك مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لاحقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم، وتهمماً بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات، قال تعالى**{ لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة }** الممتحنة 6، وتوطئةً لما سيأتي بعد من التبرىء من أحوال المغضوب عليهم والضالين فتضمن ذلك تفاؤلاً وتعوذاً. والنعمة - بالكسر وبالفتح - مشتقة من النعيم وهو راحة العيش ومُلائم الإنسان والترفه، والفعل كسمع ونصر وضرب. والنعمة الحالة الحسنة لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات ومتعلق النعمة اللذاتُ الحسية ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع ولو لم يحس بها صاحبها. فالمراد من النعمة في قوله { الذين أنعمت عليهم } النعمةُ التي لم يَشُبْها ما يكدرها ولا تكون عاقبتها سُوأَى، فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة ولخيرات الآخرة، وهي الأهم، فيشمل النعم الدنيوية الموهوبيَّ منها والكسبيَّ، والرُّوحانيَّ والجثماني، ويشمل النعم الأخروية. والنعمة بهذا المعنى يرجع معظمها إلى الهداية، فإن الهداية إلى الكسبي من الدنيويّ وإلى الأخرويّ كلِّه ظاهرة فيها حقيقة الهداية، ولأن الموهوب في الدنيا وإن كان حاصلاً بلا كسب إلا أن الهداية تتعلق بحسن استعماله فيما وُهب لأجله. فالمراد من المنعم عليهم الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة ولا تخفى تمام المناسبة بين المنعم عليهم وبين المهديين حينئذٍ فيكون في إبدال { صراط الذين } من { الصراط المستقيم } معنى بديع وهو أن الهداية نعمة وأن المنعَم عليهم بالنعمة الكاملة قد هُدوا إلى الصراط المستقيم. والذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة. وإنما يلتئم كون المسؤول طريق المنعم عليهم فيما مضى وكونه هو دينَ الإسلام الذي جاء من بعدُ باعتبار أن الصراط المستقيم جار على سَنن الشرائع الحقة في أصول الديانة وفروع الهداية والتقوى، فسألوا ديناً قويماً يكون في استقامته كصراط المنعم عليهم فأجيبوا بدين الإسلام، وقد جمع استقامة الأديان الماضية وزاد عليها، أو المراد من المنعم عليهم الأنبياءُ والرسل فإنهم كانوا على حالة أكمل مما كان عليه أممهم، ولذلك وصف الله كثيراً من الرسل الماضين بوصف الإسلام وقد قال يعقوب لأبنائه
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }** البقرة 132 ذلك أن الله تعالى رفق بالأمم فلم يبلغ بهم غاية المراد من الناس لعدم تأهلهم للاضطلاع بذلك ولكنه أمر المرسلين بأكمل الحالات وهي مراده تعالى من الخلق في الغاية، ولْنمثل لذلك بشرب الخمر فقد كان القدرُ غيرُ المسكر منه مباحاً وإنما يحرم السُّكر أوْ لا يحرم أصلاً غير أن الأنبياء لم يكونوا يتعاطون القليل من المسكرات وهو المقدار الذي هدى الله إليه هذه الأمة كلها، فسواء فسرنا المنعم عليهم بالأنبياء أو بأفضل أَتْبَاعهم أو بالمسلمين السابقين فالمقصد الهداية إلى صراط كامل ويكون هذا الدعاء محمولاً في كل زمان على ما يناسب طرق الهداية التي سبقت زمانَه والتي لم يبلغ إلى نهايتها. والقول في المطلوب من { اهدنا } على هذه التقادير كلها كالقول فيما تقدم من كون { اهدنا } لطلب الحصول أو الزيادة أو الدوام. والدعاء مبني على عدم الاعتداد بالنعمة غير الخالصة، فإن نعم الله على عباده كلهم كثيرة والكافر منعم عليه بما لا يمترَى في ذلك ولكنها نعم تحفها آلام الفكرة في سوء العاقبة ويعقبها عذاب الآخرة، فالخلاف المفروض بين بعض العلماء في أن الكافر هل هو منعم عليه خلاف لا طائل تحته فلا فائدة في التطويل بظواهر أدلة الفريقين. { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }. كلمة غير مجرورة باتفاق القراء العشرة، وهي صفة للذين أنعمت عليهم، أو بدل منه والوصف والبدلية سواء في المقصود، وإنما قدم في «الكشاف» بيان وجه البدلية لاختصار الكلام عليها ليفضي إلى الكلام على الوصفية، فيورد عليها كيفية صحة توصيف المعرفة بكلمة غير التي لا تتعرف، وإلا فإن جعل { غير المغضوب } صفة للذين هو الوجه وكذلك أعربه سيبويه فيما نقل عنه أبو حيان ووجهه بأن البدل بالوصف ضعيف إذ الشأن أن البدل هو عين المبدل منه أي اسم ذات له، يريد أن معنى التوصيف في { غير } أغلب من معنى ذات أخرى ليست السابقة، وهو وقوف عند حدود العبارات الاصطلاحية حتى احتاج صاحب «الكشاف» إلى تأويل { غير المغضوب } بالذين سلموا من الغضب، وأنا لا أظن الزمخشري أراد تأويل غير بل أراد بيان المعنى. وإنما صح وقوع غير صفة للمعرفة مع قولهم إن غير لتوغلها في الإبهام لا تفيدها الإضافة تعريفاً أي فلا يكون في الوصف بها فائدة التمييز فلا توصف بها المعرفة لأن الصفة يلزم أن تكون أشهر من الموصوف، فغير وإن كانت مضافة للمعرفة إلا أنها لما تضمنه معناها من الإبهام انعدمت معها فائدة التعريف، إذ كل شيء سوى المضاف إليه هو غير، فماذا يستفاد من الوصف في قولك مررت بزيد غير عمرو، فالتوصيف هنا إما باعتبار كون { الذين أنعمت عليهم } ليس مراداً به فريق معين فكان وزان تعريفه بالصلة وزان المعرف بأل الجنسية المسماة عند علماء المعاني بلام العهد الذهني، فكان في المعنى كالنكرة وإن كان لفظه لفظ المعرفة فلذلك عرف بمثله لفظاً ومعنى، وهو { غير المغضوب } الذي هو في صورة المعرفة لإضافته لمعرفة وهو في المعنى كالنكرة لعدم إرادة شيء معين، وإما باعتبار تعريف غير في مثل هذا لأن غير إذا أريد بها نفي ضد الموصوف أي مساوي نقيضه صارت معرفة، لأن الشيء يتعرف بنفي ضده نحو عليك بالحركة غير السكون، فلما كان من أُنعم عليه لا يعاقب كان المعاقب هو المغضوب عليه، هكذا نقل ابن هشام عن ابن السراج والسيرافي وهو الذي اختاره ابن الحاجب في أماليه على قوله تعالى
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ غير أولي الضرر }** النساء 95 ونقل عن سيبوبه أن غيراً إنما لم تتعرف لأنها بمعنى المغاير فهي كاسم الفاعل وألْحَقَ بها مِثْلاً وسِوى وحَسب وقال إنها تتعرف إذا قصد بإضافتها الثبوت. وكأن مآل المذهبين واحد لأن غيراً إذا أضيفت إلى ضد موصوفها وهو ضد واحد أي إلى مساوي نقيضه تعينت له الغيرية فصارت صفة ثابتة له غير منتقلة، إذ غيرية الشيء لنقيضه ثابتة له أبداً فقولك عليك بالحركة غيرِ السكون هو غير قولك مررت بزيد غيرِ عمرو وقوله { غير المغضوب عليهم } من النوع الأول. ومن غرض وصف { الذين أنعمتَ عليهم } بأنهم { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } التعوذُ مما عرض لأمم أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها وما رعَوْها حق رعايتها، والتبرُّؤ من أن يكونُوا مثلهم في بَطَر النعمة وسوء الامتثال وفساد التأويل وتغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين حتى حق عليهم غضب الله تعالى، وكذا التبرؤ من حال الذين هُدوا إلى صراط مستقيم فما صرفوا عنايتهم للحفاظ على السير فيه باستقامة، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية إذْ أساءوا صفة العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالاً. والظاهر أنهم لم يحق عليهم غضب الله قبل الإسلام لأنهم ضلوا عن غير تعمد فلم يسبق غضب الله عليهم قديماً واليهود من جملة الفريق الأول، والنصارى من جملة الفريق الثاني كما يعلم من الاطلاع على تاريخ ظهور الدينين فيهم. وليس يلزم اختصاص أول الوصفين باليهود والثاني بالنصارى فإن في الأمم أمثالَهم وهذا الوجه في التفسير هو الذي يستقيم معه مقام الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ولو كان المراد دين اليهودية ودين النصرانية لكان الدعاء تحصيلاً للحاصل فإن الإسلام جاء ناسخاً لهما.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ويشمل المغضوب عليهم والضالون فِرَق الكفر والفسوق والعصيان، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جداً، والضالون جنس للفِرَق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته، واليهود من الفريق الأول والنصارى من الفريق الثاني. وما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى فهو إشارة إلى أن في الآية تعريضاً بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان الوصفان لأن كلاً منهما صار عَلَماً فيما أريد التعريض به فيه. وقد تبين لك من هذا أن عطف { ولا الضالين } على { غير المغضوب عليهم } ارتقاء في التعوذ من شر سوء العاقبة لأن التعوذ من الضلال الذي جلب لأصحابه غَضَبَ اللَّهِ لا يغني عن التعوذ من الضلال الذي لم يبلغ بأصحابه تلك الدركات وذلك وجه تقديم { المغضوب عليهم } على { ولا الضالين } ، لأن الدعاء كان بسؤال النفي، فالتدرج فيه يحصل بنفي الأضعف بعد نفي الأقوى، مع رعاية الفواصل. والغضب المتعلق بالمغضوب عليهم هو غضبُ اللَّهِ. وحقيقة الغضب المعروفِ في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام، فالكيفيةُ سبب لطلب الانتقام وطلب الإنتقام سبب لحصول الانتقام. والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ولكنها قد تكون من آثاره، وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملتُه بالعُنف وبقطع الإحسان وبالأذى وقد يفضى ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه، فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنَوا على القوانين العربية. وإذْ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادُها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية، فقد وجب على المؤمن صَرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي، وطريقةُ أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه، أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية. وكان السلف في القرن الأول ومنتصفِ القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس فلما نشأ النظر في العلم وطَلَبُ معرفة حقائق الأشياء وحدَث قول الناس في معاني الدين بما لا يلائم الحق، لم يجد أهل العلم بداً من توسيع أساليب التأويل الصحيح لإفهام المسلم وكبت الملحد، فقام الدين بصنيعهم على قواعِده، وتميز المخلص له عن ماكِره وجاحده.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وكلٌّ فيما صنعوا على هُدى. وبعد البيانِ لا يُرْجَع إلى الإجمال أبداً. وما تأوَّلوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله. فغضَبُ الله تعالى على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره ويترتب عليه الانتقام وهو مراتب أَقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار ودون الغضب الكراهية فقد ورد في الحديث «ويَكْرَهُ لكم قيلَ وقال وكثرةَ السؤال»، ويقابلهما الرضى والمحبة وكل ذلك غيرُ المشيئة والإرادةِ بمعنى التقدير والتكوينِ،**{ ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم }** الزمر 7**{ ولو شاء ربك ما فعلوه }** الأنعام 112**{ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً }** يونس 99 وتفصيل هذه الجملة في علم الكلام. واعلم أن الغضب عند حكماء الأخلاق مبدأ من مجموع الأخلاق الثلاثة الأصلية التي يعبر عن جميعها بالعدالة وهي الحكمة والعفة والشجاعة، فالغضب مبدأ الشجاعة إلا أن الغضب يعبر به عن مبدأ نفساني لأَخلاق كثيرة متطرفةٍ ومعتدلة فيلقِّبون بالقوة الغضبية ما في الإنسان من صفات السَّبُعِية وهي حب الغلبة ومن فوائدها دفع ما يضره ولها حد اعتدال وحد انحراف فاعتدالها الشجاعة وكِبَر الهمة، وثباتُ القلب في المخاوف، وانحرافُها إما بالزيادة فهي التهور وشدة الغضب من شيء قليل والكبرُ والعُجب والشراسةُ والحِقْد والحَسَد والقَساوة، أو بالنقصان فالجبن وخور النفس وصغر الهمة فإذا أُطلق الغضب لغةً انصرف إلى بعض انحراف الغضبية، ولذلك كان من جوامع كَلِم النبي صلى الله عليه وسلم **" أن رجلاً قال له أوصني قال لا تغضب فكرَّرَ مِراراً فقال لا تغضب "** رواه الترمذي. وسُئل بعض ملوك الفرس بم دام ملككم؟ فقال لأنا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب. فالغضب المنهى عنه هو الغضب للنَّفس لأنه يصدر عنه الظلم والعدوان، ومن الغضب محمودٌ وهو الغضب لحماية المصالح العامة وخصوصاً الدينية وقد ورد أن النبي كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب لله. وقوله { ولا الضالين } معطوف على { المغضوب عليهم } كما هو متبادر، قال ابن عطية قال مكي ابن أبي طالب إن دخول لا لدفع توهم عطف الضالين على الذين أَنْعَم عليهم، وهو توجيه بعيد فالحق أن لا مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من لفظ غير على طريقة العرب في المعطوف على ما في حيز النفي نحو قوله
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير }** المائدة 19 وهو أسلوب في كلام العرب. وقال السيد في «حواشي الكشاف» لئلا يتوهم أن المنفي هو المجموع فيجوِّز ثبوتَ أحدهما، ولما كانت غير في معنى النفي أجريت إعادة النفي في المعطوف عليها، وليست زيادة لا هنا كزيادتها في نحو**{ ما منعك ألاَّ تسجد إذ أمرتك }** الأعراف 12 كما توهمه بعض المفسرين لأن تلك الزيادة لفظية ومعنوية لأن المعنى على الإثبات والتي هنا زيادة لفظية فحسب والمعنى على النفي. والضلال سلوك غير الطريق المراد عن خطإٍ سواء علم بذلك فهو يتطلب الطريق أم لم يعلم، ومنه ضالة الإبل، وهو مقابل الهُدى وإطلاقُ الضال على المخطىء في الدين أو العلم استعارة كما هنا. والضلال في لسان الشرع مقابل الاهتداء والاهتداء هو الإيمان الكامل والضلال ما دون ذلك، قالوا وله عَرض عريض أدناه ترك السنن وأقصاه الكفر. وقد فسرنا الهداية فيما تقدم أنها الدلالة بلطف، فالضلال عدم ذلك، ويطلق على أقصى أنواعه الختمُ والطبعُ والأَكِنَّةُ. والمراد من المغضوب عليهم والضالين جنسَا فِرَق الكفر، فالمغضوب عليهم جنس للفِرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد وعن تأويل بعيد جداً تَحمِل عليه غلبة الهوى، فهؤلاء سلكوا من الصراط الذي خط لهم مسالك غير مستقيمة فاستحقوا الغضب لأنهم أخطأوا عن غير معذرة إذ ما حملهم على الخطأ إلا إيثار حظوظ الدنيا. والضالون جنس للفِرق الذين حرفوا الديانات الحق عن عمد وعن سوء فهم وكلا الفريقين مذموم معاقب لأن الخلق مأمورون باتباع سبيل الحق وبذل الجهد إلى إصابته والحذر من مخالفة مقاصده. وإذ قد تقدم ذكر المغضوب عليهم وعلم أن الغضب عليهم لأنهم حادُوا عن الصراط الذي هُدوا إليه فحرموا أنفسهم من الوصول به إلى مرضاة الله تعالى، وأن الضالين قد ضلوا الصراط، فحصل شِبْه الاحتباك وهو أن كلا الفريقين نال حظاً من الوصفين إلا أن تعليق كل وصف على الفريق الذي علق عليه يرشد إلى أن الموصوفين بالضالين هم دون المغضوب عليهم في الضلال فالمراد المغضوب عليهم غضباً شديداً لأن ضلالهم شنيع. فاليهود مَثَلٌ للفريق الأول والنصارى من جملة الفريق الثاني كما ورد به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في «جامع الترمذي» وحسَّنه. وما ورد في الأثر من تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى، فهو من قبيل التمثيل بأشْهَر الفرق التي حق عليها هذان الوصفَانِ، فقد كان العرب يعرفون اليهود في خيبر والنضير وبعض سكان المدينة وفي عرب اليمن. وكانوا يعرفون نصارى العرب مثل تغلب وكلب وبعض قضاعة، وكل أولئك بدلوا وغيروا وتنكبوا عن الصراط المستقيم الذي أرشدهم الله إليه وتفرقوا في بنيات الطرق على تفاوت في ذلك. فاليهود تمردوا على أنبيائهم وأحبارهم غير مرة وبدلوا الشريعة عمداً فلزمهم وصفُ المغضوب عليهم وعَلِقَ بهم في آيات كثيرة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والنصارى ضلوا بعدَ الحواريين وأساءوا فهم معنى التقديس في عيسى عليه السلام فزعموه ابن الله على الحقيقة قال تعالى**{ قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل }** المائدة 77. وفي وصف الصراط المسؤول في قوله { اهدنا الصراط المستقيم } بالمستقيم إيماء إلى أن الإسلام واضح الحجة قويم المحجة لا يَهْوى أهلُه إلى هُوة الضلالة كما قال تعالى**{ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً }** الأنعام 161 وقال**{ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }** الأنعام 153، على تفاوت في مراتب إصابة مراد الله تعالى ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم **" من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد "** ولم يترك بيانُ الشريعة مجاريَ اشتباه بين الخلافِ الذي تحيط به دائرة الإسلام والخلافِ الذي يَخرج بصاحبه عن محيط الإسلام قال تعالى**{ إنك على الحق المبين }** النمل 79. واختلف القراء في حركة هاء الضمير من قوله { أنعمت عليهم } ، وقوله { غير المغضوب عليهم } ، وما ضاهاهما من كل ضمير جمع وتثنية مذكر ومؤنث للغائب وقع بعد ياء ساكنة، فالجمهور قرأوها بكسر الهاء تخلصاً من الثقل لأن الهاء حاجز غير حصين فإذا ضمت بعد الياء فكأن ضمتها قد وليت الكسرة أو الياء الساكنة وذلك ثقيل وهذه لغة قيس وتميم وسعد بن بكر. وقرأ حمزة عليهم وإليهم ولديهم فقط بضم الهاء وما عداها بكسر الهاء نحو إليهما وصياصيهم وهي لغة قريش والحجازيين. وقرأ يعقوب كل ضمير من هذا القبيل مما قبل الهاء فيه ياء ساكنة بضم الهاء. وقد ذكرنا هذا هنا فلا نعيد ذكره في أمثاله وهو مما يرجع إلى قواعد علم القراءات في هاء الضمير. واختلفوا أيضاً في حركة ميم ضمير الجمع الغائب المذكر في الوصل إذا وقعت قبل متحرك فالجمهور قرأوا { عليهم غير المغضوب عليهم } بسكون الميم وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وقالون في رواية عنه بضمة مشبعة { غير المغضوب عليهمو } وهي لغة لبعض العرب وعليها قول لبيد
| **وهمو فوارسها وهمْ حكامها** | | |
| --- | --- | --- |
فجاء باللغتين، وقرأ ورش بضم الميم وإشباعها إذا وقع بعد الميم همز دون نحو { غير المغضوب عليهم } وأجمع الكل على إسكان الميم في الوقف.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير/ أبو بكر الجزائري (مـ 1921م) | { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }
شرح الكلمات:
الصراط: تقدم بيانه.
الذين أنعمت عليهم: هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وكل من أنعم الله عليهم بالإيمان به تعالى ومعرفته، ومعرفة محابه، ومساخطه، والتوفيق لفعل المحاب وترك المكاره.
معنى الآية:
لما سأل المؤمن له ولإخوانه الهداية إلى الصراط المستقيم، وكان الصراط مجملاً بيّنه بقوله صراط الذين أنعمت عليهم وهو المنهج القويم المفضي بالعبد إلى رضوان الله تعالى والجنة وهو الإسلام القائم على الإيمان والعلم والعمل مع اجتناب الشرك والمعاصي.
هداية الآية:
من هداية الآية ما يلي:
1- الاعتراف بالنعمة.
2- طلب حسن القدوة.
{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }
شـرح الكلمـات:
غيـر: لفظ يستثنى به كإلاّ.
المغضوب عليهم: من غضب الله تعالى عليهم لكفرهم وافسادهم في الأرض كاليهود.
الضـاليـن: من اخطأوا طريق الحق فعبدوا الله بما لم يشرعه كالنصارى.
معنى الآية:
لما سأل المؤمن ربَّه الصراط المستقيم وبينه بأنه صراط من أنعم عليهم بنعمة الإيمان والعلم والعمل. ومبالغة في طلب الهداية إلى الحق، وخوفاً من الغواية استثنى كلاً من طريق المغضوب عليهم، والضالين.
هداية الآية:
من هداية الآية:
الترغيب في سلوك سبيل الصالحين: والترهيب من سلوك سبيل الغاوين.
ـ [تنبيه أول]: كلمة آمين ليست من الفاتحة: ويستحب أن يقولها الإمام إذا قرأ الفاتحة يمد بها صوته ويقولها المأموم، والمنفرد كذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أمن الإِمام فأمنوا. أي قولوا آمين بمعنى اللهم استجب دعاءنا، ويستحب الجهر بها؛ لحديث ابن ماجة: **" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال آمين حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد ".** [تنبيه ثان]: قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة من الصلاة، أمَّا المنفرد والإِمام فلا خلاف في ذلك، وأمَّا المأموم فإن الجمهور من الفقهاء على أنه يسن له قراءتها في السريِّة دون الجهرية لحديث: **" من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة "** ويكون مخصصاً لعموم حديث: **" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م) | { صِرَاطَ }
(7) - وَهُوَ طَرِيقُ عِبَادِكَ الَّذِينَ وَفَّقتَهُمْ إلى الإِيمَانِ بِكَ، وَوَهَبْتَ لَهُمُ الهِدَايَةَ والرِّضَا مِنْكَ، لاَ طَرِيقُ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا غَضَبَكَ، وَضَلُّوا طَرِيقَ الحَقِّ والخَيْرِ لأَِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الإِيمَانِ بِكَ، والإِذْعَانِ لِهَدْيِكَ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ) | { صِرَاطَ } بدل من الأول { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يعني: طريق الذين أنعمت عليهم بالتوفيق والرعاية، والتوحيد والهداية، وهم الأنبياء والمؤمنون الذين ذكرهم الله تعالى في قوله:**{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً }** [النساء: 69].
قال ابن عباس: هم قوم موسى وعيسى من قبل أن يغيّروا نعم الله عليهم.
وقال شهر بن حوشب هم أصحاب الرسول صلى الله عليه ورضي عنهم وأهل بيته (عليهم السلام). وقال عكرمة: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ) بالثبات على الإيمان والإستقامة.
وقال علي بن الحسين بن داود: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بالشكر على السرّاء والصبر على الضرّاء. وقال.... بن....: بما قد سنّه محمد صلى الله عليه وسلم وقال الحسين بن الفضل: يعني أتممت عليهم النعمة فكم من منعم عليه.....
وأصل النعمة المبالغة والزيادة، يقال: دققت الدواء فأنعمت دقّه أي بالغت في دقه، ومنه قول العرب النبي صلى الله عليه وسلم **" إن أهل الجنة يتراءون الغرفة منها كما يتراءون الكوكب الدرّي الشرقي أو الغربي في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما ".** أي زادا عليه. وقال أبو عمرو: بالغاً في الخير.
وقرأ الصادق: (صراط من أنعمت عليهم)، وبه قرأ عمرو بن الزبير وعلي، حرف اللام يجر ما بعده. وفي { عَلَيْهِمْ } سبع قراءات:
الأولى: عليهم ـ بكسر الهاء وجزم الميم ـ وهي قراءة العامّة.
والثانية: عليهم ـ بضم الهاء وجزم الميم ـ وهي قراءة الأعمش وحمزة. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمر (رضي الله عنه).
والثالثة: عليهم ـ بضم الهاء والميم وإلحاق الواو ـ وهي قراءة عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق.
والرابعة: عليهمو - بكسر الهاء وضم الميم وإلحاق الواو ـ وهي قراءة ابن كثير والأعرج.
والخامسة: عليهم ـ بكسر الهاء والميم وإلحاق الياء ـ وهي قراءة الحسن.
والسادسة: عليهم ـ بكسر الهاء وضم الميم مضمومة مختلسة ـ وهي رواية عبد الله بن عطاء الخفّاف عن أبي عمرو.
والسابعة: عليهم ـ بكسر الهاء والميم ـ وهي قراءة عمرو بن حامد.
فمن ضمّ الهاء ردّه إلى الأصل لأنه لو أفرد كان مضموماً عند الابتداء به، ومن كسره فلأجل الياء الساكنة. ومن كسر الهاء وجزم الميم فإنه يستثقل الضمّ مع مجاورة الياء الساكنة، والياء أخت الكسرة والخروج من الضم إلى الكسر ثقيل. ومن ضمّ الهاء والميم أتبع فيه الضمّة. ومن كسر الهاء وضمّ الميم فإنه كسر الهاء لأجل الياء وضمّ الميم على الأصل، والاختلاس للاستخفاف، وإلحاق الواو والياء للإتباع والله أعلم. قال الشاعر في الميم المختلسة:
| **والله لولا شعبة من الكرم** | | **وسطة في الحي من خال وعم** |
| --- | --- | --- |
| **لكنت فيهم رجلا بلا قدم** | | |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ } غير: صفة الذين. والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف إلاّ إن الذين ليس بمعرفة موقتة ولكنّه بمنزلة قولك: إني لأمرُّ بالصادق غير الكاذب، كأنك قلت: من يصدق لا من يكذب. ولا يجوز: مررت بعبد الله غير الظريف.
ومعنى كلامه: غير صراط الذين غضبت { عَلَيْهِم }.
في معنى الغضب
واختلفوا في معنى الغضب من الله عزّ وجلّ، فقال قوم: هو إرادة الانتقام من العصاة. وقيل: هو جنس من العقاب يضادّ والرضا. وقيل: هو ذم العصاة على قبح أفعالهم.
ولا يلحق غضب الله تعالى العصاة من المؤمنين بل يلحق الكافرين.
{ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } عن الهدى.
وأصل الضلال الهلاك، يقال ضلَّ الماء في اللبن إذا خفي وذهب، و: رجل ضالّ إذا أخطأ الطريق، و: مضلِّل إذا لم يتوجّه لخير، قال الشاعر:
| **ألم تسأل فتخبرك الديار** | | **عن الحي المضلل أين ساروا** |
| --- | --- | --- |
قال الزجاج وغيره: وإنما جاز أن يعطف بـ (لا) على غير؛ لأن غير متضمِّن معنى النفي؛ فهو بمعنى لا، مجازه: غير المغضوب عليهم وغير الضالين كما تقول: فلان غير محسن ولا مجمل. فإذا كان (غير) بمعنى سوى لم يجز أن يعطف عليها ب (لا)؛ لأنه لا يجوز في الكلام عندي سوى عبد الله ولا زيد. وروى الخليل بن أحمد عن ابن كثير: { غَيْرَ ٱلْمَغْضُوبِ } نصباً.
وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ: (وغير الضالين)، وقرأ السختياني (ولأ الضالئين) بالهمزة؛ لالتقاء الساكنين، والله أعلم. فأما التفسير:
فأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني، حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان، أخبرنا أحمد بن حنبل ومحمد بن دينار قالا: حدّثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سماك قال: سمعت عباد بن حبيش عن عديّ بن حاتم **" عن النبي صلى الله عليه وسلم { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } قال: " اليهود " ، { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال: " النصارى ".** وأخبرنا أبو القاسم الحبيبي، أخبرنا أبو زكريا العنبري، حدّثنا محمد بن عبد الله الوراق، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن بديل العقيلي عن عبد الله بن شقيق **" أنه أخبره من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرسه فسأله رجل من القيْن، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء الذين يقاتلونك؟ قال: " المغضوب عليهم " ، وأشار إلى اليهود. فقال: من هؤلاء الطائفة الأخرى؟ فقال: " الضالون " ، وأشار إلى النصارى ".** وتصديق هذا الحديث حكم الله تعالى بالغضب على اليهود في قوله:**{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ }** [المائدة: 60]، وحكم الضلال على النصارى في قوله:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ }** [المائدة: 77].
وقال الواقدي: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } بالمخالفة والعصيان، { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } عن الدين والإيمان.
وقال التستري: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } البدعة، { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } عن السنة.
فصل في آمين
والسنّة المستحبة أن يقول القارئ بعد فراغه من قراءة فاتحة الكتاب: آمين؛ سواء كان في الصلاة أو غير الصلاة؛ لما أخبرنا عبد الله بن حامد الاصفهاني، أخبرنا محمد بن جعفر المطيري، حدّثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدّثنا أبو داود عن سفيان، وأخبرنا عبد الله قال: وأخبرنا عبدوس بن الحسين، حدّثنا أبو حاتم الرازي، حدّثنا ابن كثير، أخبرنا سفيان عن سلمة عن حجر أبي العنبس الحضرمي عن أبي قايل بن حجر قال: **" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } ، قال: " آمين " ، ورفع بها صوته ".** وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" " لقّنني جبرائيل عليه السلام آمين عند فراغي من فاتحة الكتاب ".** وقال **" إنّه كالخاتم على الكتاب "** وفيه لغتان: أمين بقصر الألف، وأنشد:
| **تباعد منّي فعطل إذ سألته** | | **أمين فزاد الله ما بيننا بعداً** |
| --- | --- | --- |
وآمين بمد الألف وأنشد:
| **يا ربّ لا تسلبني حبّها أبداً** | | **ويرحم الله عبداً قال آمينا** |
| --- | --- | --- |
وهو مبني على الفتح مثل أين.
واختلفوا في تفسيره فأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر، أخبرنا أبو العباس محمد ابن إسحاق بن أيوب، أخبرنا الحسن بن علي بن زياد، حدّثنا عبيد بن يعيش عن محمد ابن الفضل عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: **" سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن معنى " آمين " قال: " ربِّ افعل ".** وقال ابن عباس وقتادة: معناه: كذلك يكون.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان، أخبرنا مكي بن عبدان، حدّثنا عبد الله بن حاتم، حدّثنا عبد الله بن نمير، أخبرنا سفيان عن منصور عن هلال بن يساف قال: آمين اسم من أسماء الله تعالى، و(بذلك) قال مجاهد.
وقال سهل بن عبد الله: معناه: لا يقدر على هذا أحد سواك. وقال محمد بن علي النهدي: معناه لا تخيّب رجانا.
وقال عطية العوفي: آمين كلمة ليست بعربية، إنما هي عبرية أو سريانية ثمّ تكلمت به العرب فصار لغة لها. وقال عبد الرَّحْمن بن زيد: آمين كنز من كنوز العرش لا يعلم تأويله أحد إلاّ الله عزّ وجلّ.
وقال أبو بكر الورّاق: آمين قوة للدعاء واستنزال للرحمة.
وقال الضحّاك بن مزاحم: آمين أربعة أحرف مقتطعة من أسماء الله تعالى، وهو خاتم رب العالمين يختم به براءة أهل الجنة وبراءة أهل النار، وهي الجائزة التي منها يجوزون إلى الجنة والنار.
يدلّ عليه ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر، حدّثنا أبو الحسن محمد بن محمود بن عبد الله، حدّثنا محمد بن علي الحافظ، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه، حدّثنا سعيد بن جبير، حدّثنا المؤمل بن عبد الرَّحْمن بن عياش الثقفي، عن أبي أمية بن يعلى الثقفي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين ".** أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون بن الفضل بقراءتي عليه في صفر سنة ثمان وأربعمائة أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين بن الشرقي، حدّثنا محمد بن يحيى وعبد الرَّحْمن بن بِشْرْ وأحمد بن يوسف قالوا: حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمّر عن همّام بن منبّه قال: حدّثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافق إحداهما الأخرى غُفر له ما تقدم من ذنبه ".** وحدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمّد بن جعفر، أخبرنا محمّد أبو الحسن محمد بن الحسن بهراة، حدّثنا رجاء بن عبد الله، حدّثنا مالك بن سليم، عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج عن عطاء قال: آمين دعاء [وعنه عن] النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" ما حسدكم اليهود على شيء، كما حسدوكم على آمين، وتسليم بعضكم على بعض ".** وقال وهب بن منبه: آمين على أربع أحرف، يخلق الله تعالى من كل حرف ملكاً يقول: اللهم اغفر لمن قال: آمين.
فصل في أسماء هذه السورة
هي عشرة، وكثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمّى:
الأول: فاتحة الكتاب، سمّيت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم والقراءة في الصلاة، وهي مفتتحة بالآية التي تفتتح بها الامور تيمّناً وتبرّكاً وهي التسمية. وقيل: سمّيت بذلك لأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن. وقال الحسين بن الفضل: لأنها أول سورة نزلت من السماء.
والثاني: سورة الحمد، لأن فيها ذكر الحمد، كما قيل: سورة (الأعراف) و(الأنفال) و(التوبة) ونحوها.
والثالث: أُمّ الكتاب والقرآن؛ سمّيت بذلك لأنها أوّل القرآن والكتب المنزلة، فجميع ما أودعها من العلوم مجموع في هذه السورة؛ فهي أصل لها كالأم للطفل، وقيل: سمّيت بذلك؛ لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة سميت أُم القرى لأنها أشرف البلدان. وقيل: سمّيت بذلك لأنها مقدّمة على سور القرآن، فهي أصل وإمام لما يتلوها من السور، كما أن أُم القرى أصل جميع البلدان دحيت الأرض من تحتها. وقيل: سمّيت بذلك لأنها مجمع العلوم والخيرات، كما أن الدماغ يسمى أُمّ الرأس؛ لأنها مجمع الحواس والمنافع.
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمّد المفسّر يقول: سمعت أبا بكر القفّال يقول: سمعت أبا بكر البريدي يقول: الأُم في كلام العرب: الراية ينصبها العسكر.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
قال قيس بن الخطيم:
| **نصَبنا أُمّنا حتى ابذعرّوا** | | **وصاروا بعد إلفتهم شلالا** |
| --- | --- | --- |
فسمّيت أُم القرآن؛ لأن مفزع أهل الإيمان إليها كمفزع العسكر إلى الراية. والعرب تسمي الأرض أُمّاً؛ لأنّ معاد الخلق إليها في حياتهم وبعد مماتهم، قال أُمية بن أبي الصلت:
| **والأرض معقلنا وكانت أُمّنا** | | **فيها مقابرنا وفيها نولد** |
| --- | --- | --- |
وأنشدني أبو القاسم قال: أنشدنا أبو الحسين المظفّر محمد بن غالب الهمداني قال: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال: أنشدنا أبي قال: أنشدني أحمد بن عبيدة:
| **نأوي إلى أُمّ لنا تعتصب** | | **كما وَلِها أنف عزيز وذنب** |
| --- | --- | --- |
| **وحاجب ما إن نواريها الغصب** | | **من السحاب ترتدي وتنتقب** |
يعني: نصبه كما وصف لها. وسميت الفاتحة أُمّاً لهذه المعاني. وقال الحسين بن الفضل: سميت بذلك؛ لأنها إمام لجميع القرآن تقرأ في كل [صلاة و] تقدم على كل سورة، كما أن أُمّ القرى إمام لأهل الإسلام. وقال ابن كيسان: سميت بذلك؛ لأنها تامة في الفضل.
والرابع: السبع المثاني، وسيأتي تفسيره في موضعه إن شاء الله.
والخامس: الوافية، حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري، حدّثنا أبي عن أمّه عن محمد بن نافع السنجري، حدّثنا أبو يزيد محبوب الشامي، حدّثنا عبدالجبار بن العلاء قال: كان يسمي سفيان بن عُيينة فاتحة الكتاب: الوافية، وتفسيرها لأنها لا تنصف ولا تحتمل الاجتزاء إلاّ أن كل سورة من سور القرآن لو قرئ نصفها في ركعة والنصف الآخر في ركعة كان جائزاً، ولو نصفت الفاتحة وقرئت في ركعتين كان غير جائز.
والسادس: الكافية، أخبرنا أبو القاسم السدوسي، أخبرنا أبو جعفر محمد بن مالك المسوري، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عمران قال: حدّثنا سهيل بن (محمّد)، حدّثنا عفيف بن سالم قال: سألت عبد الله بن يحيى بن أبي كثير عن قراءة الفاتحة خلف الإمام فقال: عن الكافية تسأل؟
قلت: وما الكافية؟ قال: أما علمت أنها تكفي عن سواها، ولا يكفي سواها عنها. إياك أن تصلي إلاّ بها.
وتصديق هذا الحديث ما حدّثنا الحسن بن محمد بن جعفر المفسر، حدّثنا عبد الرَّحْمن بن عمر ابن مالك الجوهري بمرو، حدّثنا أبي، حدّثنا أحمد بن يسار، عن محمد بن عباد الاسكندراني عن أشهب بن عبد العزيز، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" أمّ القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها منها عوضاً ".** والسابع: الأساس، حدّثنا أبو القاسم الحسين بن محمد المذكر، حدّثنا أبو عمرو بن المعبّر محمد بن الفضل القاضي بمرو، حدّثنا أبو هريرة مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي، حدّثنا جارود بن معاد، أخبرنا وكيع قال: إن رجلا أتى الشعبي فشكا إليه وجع الخاصرة، فقال: عليك بأساس القرآن. قال: وما أساس القرآن؟ قال: فاتحة الكتاب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
قال الشعبي: سمعت عبد الله بن عباس غير مرّة يقول: إن لكل شيء أساساً وأساس العمارة مكة؛ لأنها منها دُحيت الأرض وأساس السماوات غريباً، وهي السماء السابعة، وأساس الأرض عجيباً، وهي الأرض السابعة السفلى، وأساس الجنان جنة عدن، وهي سرّة الجنان، وعليها أُسّست الجنان، وأساس النار جهنم، وهي الدركة السابعة السفلى وعليها أُسست الدركات، وأساس الخلق آدم عليه السلام، وأساس الأنبياء نوح عليه السلام، وأساس بني اسرائيل يعقوب، وأساس الكتب القرآن، وأساس القرآن الفاتحة، وأساس الفاتحة { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }. فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى.
والثامن: الشفاء، حدّثنا أبو القاسم بن أبي بكر المكتّب لفظاً، حدّثنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الرفّاء، أخبرنا محمد بن أيوب الواقدي، حدّثنا أبو عمرو بن العلاء، حدّثنا سلام الطويل، عن زيد العمي، عن محمد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" فاتحة الكتاب شفاء من كل سمّ ".** وأخبرنا محمد بن القاسم الفقيه، حدّثنا أبو الحسين محمّد بن الحسن الصفار الفقيه، حدّثنا أبو العباس السرّاج، حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا معاوية بن صالح، عن أبي سليمان قال: **" مرّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواتهم على رجل مقعد متربّع فقرأ بعضهم في أذنه شيئاً من القرآن فبرئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هي أُمّ القرآن، وهي شفاء من كل داء ".** أخبرنا أحمد بن أُبيّ الخوجاني، أخبرنا الهيثم بن كليب الشامي، حدّثنا عيسى بن أحمد العسقلاني، أخبرنا النضر بن شميل، أخبرنا سعيد بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي عن خارجة بن الصلت التميمي، عن عمّه قال: **" جاء عمي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرّوا بحيّ من الأعراب، فقالوا: انّا نراكم قد جئتم من عند هذا الرسول، إنّ عندنا رجلا مجنوناً مخبولا، فهل عندكم من دواء أو رقية؟ فقال عمّي: نعم. فجيىء به، فجعل عمي يقرأ أُمّ القرآن وبزاقه فإذا فرغ منها بزق فجعل ذلك ثلاثة أيام، فكأنّما أهبط من جبال، قال عمي: فأعطوني عليه جعلا، فقلت: لا نأكله حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: " كُلهُ، فمن الحلّ تُرقيه بذلك. لقد أكلت بِرُقية حق ".** والتاسع: الصلاة، قد تواترت الأخبار بأن الله تعالى سمّى هذه السورة، وهو ما يعرف انّه لا صلاة إلاّ بها.
أخبرنا عبد الله بن حامد وأحمد بن يوسف بقراءتي عليهما قالا: أخبرنا مكي بن عبد الله، حدّثنا محمد بن يحيى قال: وفيما قرأته على ابن نافع، وحدّثنا مطرف عن مالك بن أنس عن العلاء بن عبد الرَّحْمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول: سمعت أبا هريرة يقول:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله عزّ وجلّ: قسمت الصلاة ـ يعني هذه السورة ـ بيني وبين عبدي نصفين؛ فنصفها لي ونصفها لعبدي، فإذا قرأ العبد: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } يقول الله: حمدني عبدي. وإذا قال العبد: { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } يقول الله تعالى: أثنى عليّ عبدي. وإذا قال العبد: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } يقول الله: مجّدني عبدي. وإذا قال العبد: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال الله: هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } إلى آخرها قال: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل ".** والعاشر: سورة تعلم المسألة؛ لأن الله تعالى علّم فيه عباده آداب السؤال، فبدأ بالثناء ثم الدعاء، وذلك سبب النجاح والفلاح.
القول في وجوب قراءة هذه السورة في الصلاة.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن جعفر الطبري، حدّثنا بشر بن مطير، حدّثنا سفيان، حدّثنا العلاء بن عبد الرَّحْمن عن أبيه أنه سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" من صلّى صلاة فلم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ـ ثلاث مرات ـ غير تمام ".** وأخبرنا عبد الله قال: أخبرنا ابن عباس، حدّثنا عبد الرَّحْمن بن بشر، حدّثنا ابن عيينة عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" لا صلاة لمن لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ".** أخبرنا عبد الله، أخبرنا عبدوس بن الحسين، حدّثنا أبو حاتم الرازي، حدّثنا أبو قبيصة، حدّثنا سفيان عن جعفر بن علي بيّاع الأنماط عن أبي هريرة قال: **" أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي: " لا صلاة إلاّ بقراءة فاتحة الكتاب ".** وأخبرنا عبد الله، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق، أخبرنا أبو المثنى، حدّثنا مسدِّد، حدّثنا عبدالوارث بن حنظلة السدوسي قال: قلت لعكرمة: إنّي ربّما قرأت في المغرب**{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ }** [الفلق: 1] و**{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ }** [الناس: 1] وأنّ الناس يعيبون عليَّ ذلك، فقال: سبحان الله إقرأ بهما فإنّهما من القرآن، ثمّ قال: حدّثنا ابن عبّاس **" أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلّى ركعتين لم يقرأ فيهما إلاّ بفاتحة الكتاب لم يزد على ذلك غيره ".** وأخبرنا أبو القاسم الحبيبي، حدّثنا أبو العبّاس الأصمّ، أخبرنا الربيع بن سليمان، حدّثنا الشافعي، حدّثنا سفيان عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب "** واحتجّ من أجاز الصلاة بغيرها بقوله:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }** [المزمل: 20].
وأخبرنا أبو محمّد عبد الله بن حامد بقراءتي عليه أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا أبو المثنّى حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عمر قال: حدّثنا سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة **" أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل وصلّى ثم جاء فسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ " حتى فعل ذلك ثلاث مرات. قال الرجل: والذي بعثك بالحق نبياً ما أحسن غير هذا، فعلِّمني. قال: " إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن ثم اركع ".** وهذه اللفظة يحتمل أنه أراد أن كل ما وقع عليه اسم قرآن وجهل إنما يراد سورة بعينها، فلمّا احتمل الوجهين نظرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم صلى بفاتحة الكتاب وأمر بها (وشدّد على) من تركها، فصار هذا الخبر مجملا، والأخبار التي رويناها مفسرة، والمجمل يدل على المفسر، وهذا كقوله:**{ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ }** [البقرة: 196] ثم لم يجز أحد (ترك الهدي) بل ثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة أن لا يكون أعور ولا أعرج ولا معيوباً، فكذلك أراد بقوله عزّ وجلّ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فسّر بالصفة التي بينها أن تكون سورة الحمد إذا أحسنها، وقدرها إذا لم يحسنها. فبالعلة التي أوجبوا قراءة آية تامة مع قوله: " ما تيسّر " له وجه ظاهره العلم، والله أعلم.
ذكر وجوب قراءتها على المأموم كوجوبها على الإمام واختلاف الفقهاء فيه:
قال مالك بن أنس: يجب عليه قراءتها إذا خَافَتَ الإمام، فأمّا إذا جهر فليس عليه [شيء]. وبه قال الشافعي في القديم وقال في الجديد: يلزمه القراءة أسرَّ الإمام أو جَهَر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يلزمه القراءة خافت أو جهر.
واتّفق المسلمون على أن صلاته [صحيحة] إذا قرأ خلف الإمام.
والدليل على وجوب القراءة على المأموم كوجوبها على الإمام ما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا مكي بن عبد الله، حدّثنا أبو الأزهر، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدّثنا أبي عن أبي إسحاق، حدّثنا مكحول، وأخبرنا عبد الله، أخبرنا أحمد بن عبد الرَّحْمن بن سهل، حدّثنا سهل بن عمار، حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود ابن الربيع عن عبادة ابن الصامت قال: **" صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فثقلت عليه القراءة فلمّا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته أقبل علينا بوجهه وقال: " إني لأراكم تقرؤون خلفي؟ ". قلنا: أجل والله يا رسول الله هذا. قال: " فلا تفعلوا إلاّ بأُمّ الكتاب فإنّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وجابر وابن مسعود وعمران بن حصين وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وهشام بن عامر ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبد الله بن عمر وأبي الدرداء وعائشة وأبي هريرة وجماعة كبيرة من التابعين وأئمة المسلمين روي عنهم جميعاً أنهم رأوا القراءة خلف الإمام واجبة.
ووجه القول القديم ما روى سفيان عن عاصم بن أبي النجود، عن ذكوان، عن أبي هريرة وعائشة أنهما كانا يأمران بالقراءة وراء الإمام إذا لم يجهر. واحتج أبو حنيفة وأصحابه بما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، أخبرنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا الوليد ابن حمّاد اللؤلؤي: حدّثنا الحسن بن زياد اللؤلؤي: حدّثنا أبو حنيفة عن الحسن عن عبد الله بن شدّاد بن الماد عن جابر بن عبد الله قال: **" قال النبي صلى الله عليه وسلم " من صلّى خلف امام فإنّ قراءة الإمام له قراءة ".** وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا محمد بن أيوب، أخبرنا أحمد بن يونس، حدّثنا الحسن بن صالح، عن جابر الجعفي، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" من كان له إمام فقراءته له قراءة ".** فأمّا حديث عبد الله بن شدّاد فهو مرسل، رواه شعبة وزائدة وابن عينية وأبو عوانة وإسرائيل وقيس وجرير وأبو الأحوص مرسلا، والمرسل لا تقوم به حجّة، والوليد بن حماد والحسن لا يدرى من هما. وأما خبر جابر الجعفي فهو ساقط، قال زائدة: جابر كذاب، وقال أبو حنيفة: ما رأيت أكذب من جابر. وقال ابن عينية: كان جابر لا يوقن بالرجعة.
وقال شعبة: قال لي جابر: دخلت إلى محمد بن علي فسقاني شربة وحفظت عشرين ألف حديث. ولا خلاف بين أهل النقل في سقوط الاحتجاج بحديثه.
وقد روي عن جابر بن عبد الله ما خالف هذه الأخبار، أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر ابن إسحاق، حدّثنا عبد الله بن محمد، حدّثنا محمد بن يحيى، أخبرنا سعد بن عامر، عن شعبة، عن مسعر عن يزيد بن الفقير، عن جابر بن عبد الله، قال: كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام، ومحال أن يروي جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قراءة الإمام قراءة المأموم ثم يقرأ خلف الإمام ويأمر به مخالفة للنبي صلى الله عليه وسلم.
واحتجوا أيضاً بما روي عن عاصم بن عبد العزيز عن أبي سهيل عن عوان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" يكفيك قراءة الإمام جَهَرَ أو لم يجهر ".** وهذا الحديث أيضاً لا يثبته أهل المعرفة بالحديث؛ لأنه غير متن الحديث، وإنما الخبر الصحيح فيه عن أبي هريرة ما أخبرنا أبو عمرو الفراتي، أخبرنا الهيثم بن كليب، حدّثنا العباس ابن محمد الدوري، حدّثنا بشر بن كلب، حدّثنا شعبة، عن العلاء بن عبد الرَّحْمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج غير تمام ". قال: فقلت له: إذا كان خلف الإمام؟ قال: فأخذ بذراعي وقال: " يا فارسي ـ أو قال: يا بن الفارسي ـ اقرأ بها في نفسك ".** واحتجوا أيضاً بما روى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كانوا يقرؤون خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: **" خلطتم عليّ القرآن ".** وهذا الخبر فيه نظر، ولو صحّ لكان المنع من القراءة كما رواه النضر بن شميل.
أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، **" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقوم يقرؤون القرآن ويجهرون به: " خلطتم عليّ القرآن "** ، فليس في نهيه عن القراءة خلف الإمام جهراً ما يمنع عن القراءة سرّاً. ونحن لا نجيز الجهر بالقراءة خلف الإمام؛ لما فيه من سوء الأدب والضرر الظاهر. وقد روى يحيى بن عبد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي حازم، عن البياضي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إذا قام أحدكم يصلّي، فإنه يناجي ربّه، فلينظر بما يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن ".** ودليل هذا التأويل حديث عبد الله بن زياد الأشعري قال: صليت إلى جنب عبد الله بن مسعود خلف الإمام فسمعته يقرأ في الظهر والعصر. وكذلك الجواب عن إحتجاجهم بخبر عمران بن الحصين قال: **" صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر فلما انصرف قال: أيّكم قرأ (سبح اسم ربك الأعلى)، قال رجل: أنا ولم أرد به إلاّ الخير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد عرفت أن بعضكم خالجنيها ".** واحتجّوا أيضاً بحديث أبي هريرة: فإذا قرأ فأنصتوا، وليس الانصات بالسكوت فقط إنّما الإنصات أن تحسن استماع الشيء ثم يؤدى كما سمع، يدل عليه قوله تعالى في قصّة الجن:**{ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ \* قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ }** [سورة الأحقاف: 29-30].
وقد يسمى الرجل منصتاً وهو قارىء مسبّح إذا لم يكن جاهراً به، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" من أتى الجمعة فأنصت ولم يلغ حتى يصلي الإمام كان له كذا وكذا ".** فسمّاه منصتاً وإن كان مصليّاً ذاكراً، **" وقيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما تقول أيضاً؟ قال: " أقول اللّهمّ اغسلني من خطاياي "** فدلّ أنّ الإنصات وهو ترك الجهر بالقراءة دون المخافتة بها، يدل عليه ما أخبرنا به أبو القاسم الحسين، حدّثنا أبو العباس الأصم، حدّثنا أبو الدرداء هاشم بن محمد، حدّثنا عبيد بن السكن، حدّثنا إسماعيل بن عباس، أخبرنا محمد بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" من صلّى صلاةً مكتوبة أو سبحة فليقرأ بأُمّ القرآن ".** **قال: قلت: يا رسول الله، إني ربما أكون وراء الإمام.** **قال صلى الله عليه وسلم " اقرأ إذا سكت إنما جعل الإمام ليؤتمّ به ".** قد رواه الثقات الأثبات عن أبي هريرة مثل الأعرج وهمام بن منبّه وقيس بن أبي حازم وأبي صالح وسعيد المقبري والقاسم بن محمد وأبي سلمة، ولم يذكروا: (وإذا قرأ القرآن فأنصتوا).
وأمّا احتجاجهم بقوله تعالى:**{ وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ }** [الأعراف: 204]، فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | |
| --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | |
| --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) | قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ }: بدلٌ منه بدلُ كلٍ من كل، وهو بدلُ معرفةٍ من معرفة، والبدلُ سبعة أقسام، على خلافٍ في بعضها، بدلُ كلٍ من كل، بدلُ بعض من كل، بدلُ اشتمال، بدل غلط، بدل نسيان، بدل بَداء، بدل كل من بعض. أمّا الأقسامُ الثلاثة الأُوَلُ فلا خلافَ فيها، وأمّا بَدَلُ البَدَاء فأثبته بعضهم مستدلاً بقوله عليه السلام: **" إنَّ الرجل ليصلي الصلاةَ، وما كُتب له نصفُها ثلثُها ربعُها إلى العُشْر "** ، ولا يَرِدُ هذا في القرآن، وأمّا الغَلطُ والنِّسيانُ فأثبتهما بعضُهم مستدلاً بقول ذي الرمة:
| **72ـ لَمْياءُ في شفَتْيها حُوَّةٌ لَعَسٌ** | | **وفي اللِّثاثِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ** |
| --- | --- | --- |
قال: لأنَّ الحُوَّة السوادُ الخالص، واللَّعَسُ سوادٌ يَشُوبه حمرة. ولا يَرِدُ هذان البدلان في كلامٍ فصيحٍ، وأمَّا بدلُ الكلِّ من البعضِ فأثبته بعضُهم مستدلاً بظاهر قوله:
| **73ـ رَحِم اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوها** | | **بسجِسْتَان طَلْحَةَ الطَّلَحاتِ** |
| --- | --- | --- |
وفي روايةِ مَنْ نَصَبَ " طلحة " قال: لأن الأعظُمَ بعضُ طلحة، وطلحة كلٌ، وقد أُبْدِل منها، واستدلَّ على ذلك أيضاً بقول امرئ القيس:
| **74ـ كأني غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلوا** | | **لدى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ** |
| --- | --- | --- |
فغذاةَ بعضُ اليوم، وقَد أبدل " اليومَ " منها. ولا حُجَّة في البيتين، أمَّا الأولُ: فإن الأصل: أعظُماً دفنُوها أعظمَ طلحة، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضاف إليه مُقامه، ويَدُلُّ على ذلك الروايةُ المشهورة وهي جر " طلحة " ، على أن الأصل: أعظُمَ طلحة، ولم يُقِم المضافَ إليه مُقامَ المضاف، وأمَّا الثاني فإن اليوم يُطلق على القطعة من الزمان كما تقدَّم. ولكلِّ مذهبٍ من هذه المذاهب دلائلُ وإيرادات وأجوبةٌ، موضوعُها كتب النحو.
وقيل: إن الصراطَ الثاني غيرُ الأول والمرادُ به العِلْمُ بالله تعالى، قاله جعفر بن محمد، وعلى هذا فتخريجُه أن يكونَ معطوفاً حُذِف منه حرفُ العطفِ وبالجملةِ فهو مُشْكِلٌ.
والبدلُ ينقسِمُ أيضاً إلى بدلِ معرفةٍ من معرفة ونكرةٍ من نكرة ومعرفةٍ من نكرة ونكرة من معرفة، وينقسم أيضاً إلى بدلِ ظاهرٍ من ظاهرٍ ومضمرٍ من مضمرٍ وظاهرٍ من مضمر ومضمرٍ من ظاهر. وفائدةُ البدلِ: الإِيضاحُ بعد الإِبهام، ولأنه يُفيد تأكيداً من حيث المعنى إذ هو على نيَّةِ تكرارِ العاملِ.
و " الذين " في محلِّ جرٍّ بالإِضافة، وهو اسمٌ موصولٌ لافتقارِه إلى صلةٍ وعائدٍ وهو جمع " الذي " في المعنى، والمشهورُ فيه أن يكون بالياء رفعاً ونصباً وجراً، وبعضهم يرفعه بالواو جَرْياً له مَجْرى جمعِ المذكر السالم ومنه:
| **75ـ نحن اللذونَ صَبَّحوا الصَّباحا** | | **يومَ النُّخَيْلِ غَارةً مِلْحاحَا** |
| --- | --- | --- |
وقد تُحْذف نونه استطالةً بصلتِه، كقوله:
| **76ـ وإنَّ الذي حَانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ** | | **هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ** |
| --- | --- | --- |
ولا يقع إلا على أولي العلم جَرْياً به مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ، بخلاف مفرده، فإنه يقع على أولي العلمِ وغيرهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأَنْعَمْتَ: فعلٌ وفاعلٌ صلةُ الموصول، والتاءُ في " أنعمتَ " ضميرُ المخاطبِ ضميرٌ مرفوعٌ متصلٌ. و " عليهم " جارٌّ ومجرور متعلقٌ بأَنْعمت، والضميرُ هوالعائد وهو ضميرُ جمعِ المذكَّرِين العقلاءِ، ويستوي لفظُ متصلهِ ومنفصلهِ.
والهمزة في " أَنْعمت " لجَعْلِ الشيء صاحبَ ما صيغ منه فحقُّه أن يتعدَّى بنفسه ولكنه ضُمِّن معنى تفضَّل فتعدَّى تعديَتَه. ولأفعل أربعةٌ وعشرون معنى، تقدَّم واحدٌ، والباقي: التعديةُ نحو: أخرجته، والكثرة نحو: أَظْبىٰ المكان أي كَثُر ظِباؤه، والصيرورة نحو: أَغَدَّ البعير صار ذا غُدَّة، والإِعانة نحو: أَحْلَبْتُ فلاناً أي أَعَنْتُه على الحَلْب، والسَّلْب نحو: أَشْكَيْتُه أي: أَزَلْتُ شِكايته، والتعريض نحو: أَبَعْتُ المتاعَ أي: عَرَضْتُه للبيع، وإصابة الشيء بمعنىٰ ما صيغ منه نحو: أَحْمدته أي وجدتُه محموداً، وبلوغُ عدد نحو: أَعْشَرَتِ الدراهم، أي: بَلَغَتْ عشرةً، أو بلوغُ زمانٍ نحو أَصْبح، أو مكان نحو: أَشْأَمَ، وموافقهُ الثلاثي نحو: أَحَزْتُ المكانِ بمعنى حُزْته، أو أغنى عن الثلاثي نحو: أَرْقَلَ البعير، ومطاوعة فَعَل نحو: قَشَع الريحُ فَأقْشع السحابُ، ومطاوعة فَعَّل نحو: قَطَّرْته فَأَقْطَرَ، ونفي الغزيرة نحو: أَسْرع، والتسمية نحو: أخْطَأْتُه أي سَمَّيْتُه مخطئاً، والدعاء نحو: أَسْقيته أي قلت له: سَقاك الله، والاستحقاق نحو: أَحْصَدَ الزرعُ أي استحق الحصاد، والوصولُ نحو: أَعْقَلْته، أي: وَصَّلْتُ عَقْلِي إليه، والاستقبال نحو/: أفَفْتُه أي استقبلته بقولي أُفّ، والمجيء بالشيء نحو: أكثرتُ أي جئتُ بالكثير، والفرقُ بين أَفْعَل وفَعَل نحو: أشرقت الشمس أضاءت، وشَرَقَتْ: طَلَعت، والهجومُ نحو: أَطْلَعْتُ على القوم أي: اطَّلَعْتُ عليهم.
و " على " حرف استعلاء حقيقةً أو مجَازاً، نحو: عليه دَيْنٌ، ولها معانٍ أُخَرُ، منها: المجاوزة كقوله:
| **77ـ إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر** | | **لَعَمْرُ الله أعجبني رضاها** |
| --- | --- | --- |
أي: عني، وبمعنى الباء:**{ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ }** [الأعراف: 105] أي بأَنْ، وبمعنى في:**{ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ }** [البقرة: 102] أي: في ملك، والمصاحبة نحو:**{ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ }** [البقرة: 177] والتعليل نحو:**{ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ }** [البقرة: 185]، أي: لأجل هدايته إياكم، وبمعنى مِنْ:**{ حَافِظُونَ \* إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ }** [المؤمنون: 5 - 6] أي: إلا من أزواجهم، والزيادة كقوله:
| **78ـ أبى الله إلاَّ أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ** | | **على كلِّ أَفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ** |
| --- | --- | --- |
لأن " تروق " يتعدَّى بنفسه، ولكلِّ موضعٍ من هذه المواضع مجالٌ للنظر.
وهي مترددةٌ بين الحرفية والاسمية، فتكونُ اسماً في موضعين، أحدُهما: أَنْ يدخلَ عليها حرفُ الجر كقوله:
| **79ـ غَدَتْ مِنْ عليه بعد ما تَمَّ ظِمْؤُها** | | **تَصِلُ وعن قَيْضٍ بزَيْزَاءَ مَجْهَلِ** |
| --- | --- | --- |
ومعناها معنى فوق، أي من فوقه، والثاني: أن يُؤَدِّيَ جَعْلُها حرفاً إلى تعدِّي فعلِ المضمرِ المنفصل إلى ضميرِه المتصلِ في غيرِ المواضعِ الجائزِ فيها ذلك كقوله:
| **80ـ هَوِّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ** | | **بكفِّ الإِلهِ مقاديرُها** |
| --- | --- | --- |
ومثلُها في هذين الحكمين: عَنْ، وستأتي إن شاء الله تعالى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وزعم بعضُهم أنَّ " على " مترددة بين الاسم والفعل والحرف: أمَّا الاسمُ والحرفُ فقد تقدَّما، وأمَّا الفعلُ قال: فإنك تقول: " علا زيدٌ " أي ارتفع وفي هذا نظرٌ، لأنَّ " على " إذا كان فعلاً مشتقٌ من العلوِّ، وإذا كان اسماً أو حرفاً فلا اشتقاقَ له فليس هو ذاك، إلا أنَّ هذا القائلَ يَرُدُّ هذا النظرَ بقولهم: إن خَلاَ وعدا مترددان بين الفعلية والحرفية، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر.
والأصل في هاء الكناية الضمُّ، فإنْ تقدَّمها ياءٌ ساكنة أو كسرة كسرها غيرُ الحجازيين، نحو: عَلَيْهِم وفيهم وبهم، والمشهورُ في ميمها السكونُ قبل متحرك والكسرُ قبل ساكنٍ، هذا إذا كَسَرْتَ الهاءَ، أمّا إذا ضَمَمْتَ فالكسرُ ممتنعٌ إلا في ضرورة كقوله: " وفيهُمِ الحكام " بكسر الميم.
وفي " عليهم " عشر لغات قُرئ ببعضها: عليهِمْ الهاء وضمِّها مع سكون الميم، عليهِمي، عَلَيْهُمُ، عليهِمُو: بكسر الهاء وضم الميم بزيادة الواو، عليهُمي بضم الهاء وزيادة ياء بعد الميم أو بالكسر فقط، عليِهِمُ بكسر الهاء وضم الميم، ذكر ذلك أبو بكر ابن الأنباري.
و " غيرِ " بدلٌ من " الذين " بدلُ نكرة من معرفة، وقيل: نعتٌ للذين وهو مشكلٌ لأن " غير " نكرةٌ و " الذين " معرفةٌ، وأجابوا عنه بجوابين: أحدهما: أن " غير " إنما يكون نكرةً إذا لم يقع بين ضدين، فأمَّا إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغَيْريَّةُ فيتعرَّفُ " غير " حينئذٍ بالإِضافة، تقول: مررتُ بالحركة غير " السكون " والآيةُ من هذا القبيل، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب ابن السراج وهو مرجوح. والثاني: أن الموصولَ أَشْبَهَ النكرات في الإِبهام الذي فيه فعومل معاملةَ النكراتِ، وقيل: إنَّ " غير " بدلٌ من الضمير المجرور في " عليهم " ، وهذا يُشْكِلُ على قول مَنْ يرى أن البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه، ويُنوَى بالأول الطرحُ، إذ يلزم منه خَلوُّ الصلة من العائدِ، ألا ترى أنَّ التقديرَ يصير: صراطَ الذين أنعمت على غيرِ المغضوبِ عليهم.
و " المغضوب ": خفضٌ بالإِضافةِ، وهو اسمُ مفعول، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرور، فـ " عَليهم " الأولى منصوبةُ المحلِّ والثانيةُ مرفوعتُه، وأَلْ فيه موصولةٌ والتقديرُ: غيرِ الذين غُضِبَ عليهم. والصحيحُ في ألْ الموصولة أنها اسمٌ لا حرفٌ.
واعلَمْ أنَّ لفظَ " غير " مفردٌ مذكرٌ أبداً، إلا أنه إنْ أريد به مؤنثٌ جاز تأنيثُ فعلِه المسندِ إليه، تقول: قامت غيرُك، وأنت تعني امرأة، وهي في الأصل صفةٌ بمعنى اسم الفاعل وهو مغايرٌ، ولذلك لا يتعرَّف بالإِضافة، وكذلك أخواتُها، أعني نحوَ: مثل وشِبْه وشبيه وخِدْن وتِرْب، وقد يُستثنى بها حَمْلاً على " إلاّ " ، كما يوصف بإلاّ حَمْلاً عليها، وقد يُرَاد بها النفيُ كـ لا، فيجوز تقديمُ معمولِ معمولها عليها كما يجوز في " لا " تقول: أنا زيداً غيرُ ضاربٍ، أي غير ضاربٍ زيداً، ومنه قول الشاعر:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| **81ـ إنَّ امرأً خَصَّني عَمْداً مودَّتَه** | | **على التنائي لَعِنْدي غيرُ مَكْفورِ** |
| --- | --- | --- |
تقديرُه: لغيرُ مكفورٍ عندي، ولا يجوز ذلك فيها إذا كَانَتْ لغير النفي، لو قلت: جاء القومُ زيداً غيرَ ضاربٍ، تريد: غيرَ ضاربٍ زيداً لم يَجُزْ، لأنها ليست بمعنى " لا " التي يجوز فيها ذلك على الصحيح من الأقوالِ في " لا ". وفيها قولٌ ثانٍ يمنعُ ذلك مطلقاً، وقولٌ ثالثٌ: مفصِّلٌ بين أن تكونَ جوابَ قَسَمٍ فيمتنعَ فيها ذلك وبين أن لا تكونَ فيجوزَ.
وهي من الألفاظ الملازمة للإِضافة لفظاً أو تقديراً، فإدخالُ الألفِ واللامِ عليها خطأٌ.
وقرئ " غيرَ " نصباً، فقيل: حالٌ من " الذين " وهو ضعيفٌ لمجيئهِ من المضافِ إليه في غير المواضعِ الجائزِ فيها ذلك، كما ستعرِفُه إن شاء الله تعالى، وقيل: من الضمير في " عليهم " وقيل: على الاستثناءِ المنقطعِ، ومنعه الفراء قال: لأن " لا " لا تُزاد إلا إذا تقدَّمها نفيٌ، كقوله:
| **82ـ ما كان يَرْضَىٰ رسولُ الله فِعْلَهما** | | **والطيبان أبو بكرٍ ولا عُمَرُ** |
| --- | --- | --- |
وأجابوا بأنَّ " لا " صلةٌ زائدةٌ، مِثْلُها في قوله تعالى:**{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }** [الأعراف: 12] وقول الشاعر:
| **83ـ وما ألومُ البيضَ ألاَّ تَسْخَرا** | | **.................................** |
| --- | --- | --- |
وقول الآخر:
| **84ـ وَيلْحَيْنَني في اللهو ألاَّ أُحِبُّه** | | **وللَّهوِ داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ** |
| --- | --- | --- |
وقول الآخر:
| **85ـ أَبَىٰ جودُه لا البخلَ واستعجلتْ نَعَمْ** | | **به مِنْ فتىً لا يمنعُ الجودَ نائِلُه** |
| --- | --- | --- |
فـ " لا " في هذه المواضع صلةٌ. وفي هذا الجواب نظرٌ، لأن الفراء لَمْ يَقُلْ إنها غيرُ زائدة، فقولُهم: إن " لا " زائدةٌ في هذه الآية وتنظيرهُم لها بالمواضع المتقدمة لا يفيد/، وإنما تحريرُ الجواب أن يقولوا: وُجِدَتْ " لا " زائدةً من غير تقدُّم نفي كهذه المواضعِ المتقدمة. وتحتملُ أن تكونَ " لا " في قوله: " لا البخلَ " مفعولاً به لـ " أبىٰ " ، ويكونَ نصبُ " البخلَ " على أنه بدلٌ من " لا " ، أي أبىٰ جودُه قولَ لا، وقولُ لا هو البخلُ، ويؤيِّدُ هذا قولُه: " واستعجَلَتْ به نَعَمْ " فَجَعَلَ " نَعَم " فاعلَ " استعجَلَتْ " ، فهو من الإِسناد اللفظي، أي أبىٰ جودُه هذا اللفظ، واستعجل به هذا اللفظُ.
وقيل: إنَّ نَصْبَ " غيرَ " بإضمار أعني، ويُحكى عن الخليل. وقدَّر بعضُهم بعد " غير " محذوفاً، قال: التقديرُ: غيرَ صراطِ المغضوبِ، وأَطْلَقَ هذا التقديرَ، فلم يقيِّدْه بجرِّ " غير " ولا نصبِه، ولا يتأتَّى إلا مع نصبها، وتكون صفةً لقوله: { ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، وهذا ضعيفٌ، لأنه متى اجتمع البدلُ والوصفُ قُدِّم الوصفُ، فالأوْلَىٰ أن يكون صفةً لـ " صراطَ الذين " ويجوز أن تكونَ بدلاً من { ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } أو من { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ } إلا انه يلزم منه تكرارُ البدل، وفي جوازِه نظرٌ، وليس في المسألة نقلٌ، إلا انهم قد ذكروا ذلك في بدلِ البَداء خاصة، أو حالاً من " الصراط " الأول أو الثاني.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
.. واعلم أنه حيث جَعَلْنَا " غير " صفةً فلا بد من القول بتعريف " غير " أو بإبهامِ الموصوف وجريانه مَجْرى النكرةِ، كما تقدَّم تقريرُ ذلك في القراءة بجرِّ " غير ".
و " لا " في قوله: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } زائدةٌ لتأكيد معنى النفي المفهومِ من " غير " لئلا يُتَوَهَّم عَطْفُ " الضالِّين " على { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ } وقال الكوفيون: هي بمعنى " غير " ، وهذا قريبٌ من كونها زائدةً، فإنه لو صُرِّح بـ " غير " كانَتْ للتأكيد أيضاً، وقد قرأ بذلك عمر بن الخطاب.
و " الضَّالين " مجرورٌ عطفاً على " المغضوب " ، وقُرِئَ شاذاً: الضَّأَلِّين بهمز الألف، وأنشدوا:
| **86ـ وللأرضِ أمَّا سُودُها فَتَجلَّلَتْ** | | **بياضاً وأمَّا بِيضُها فادْهََأمَّتِ** |
| --- | --- | --- |
قال أبو القاسم الزمخشري: " فعلوا ذلك للجَدّ في الهرب من التقاء الساكنين " انتهى وقد فعلوا ذلك حيث لا ساكنان، قال الشاعر:
| **87ـ فخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَألَمِ** | | **.....................................** |
| --- | --- | --- |
بهمز " العَأْلَمِ " وقال آخر:
| **88ـ ولَّى نَعامُ بني صفوانَ زَوْزَأَةً** | | **...................................** |
| --- | --- | --- |
بهمز ألف " زَوْزأة " ، والظاهر أنها لغةٌ مُطَّردةٌ، فإنهم قالوا في قراءة ابن ذكوان: " مِنْسَأْتَه " بهمزة ساكنة: إن أصلَها ألفٌ فقُلِبَتْ همزةً ساكنةً.
فإن قيل: لِمَ أتى بصلة الذين فعلاً ماضياً؟ قيلٍ: لِيَدُلَّ ذلِك على ثبوتِ إنعام الله عليهم وتحقيقه لهم، وأتى بصلة أل اسماً ليشمل سائرَ الأزمانِ، وجاء به مبنياً للمفعول تَحْسِيناً للفظ، لأنَّ مَنْ طُلِبتْ منه الهدايةُ ونُسِب الإِنعامُ إليه لا يناسِبُه نسبةُ الغضبِ إليه، لأنه مَقامُ تلطُّفٍ وترفُّق لطلبِ الإِحسانِ فلا يُحْسُنُ مواجَهَتُه بصفةِ الانتقام.
والإِنعام: إيصالُ الإِحسان إلى الغير، ولا يُقال إلا إذا كان الموصَلُ إليه الإِحسانُ من العقلاءِ، فلا يقال: أَنْعم فلانٌ على فرسِه ولا حماره.
والغضبُ: ثَورَان دم القلب إرادَة الانتقامِ، ومنه قولُه عليه السلام: **" اتقوا الغضبَ فإنه جَمْرةٌ تُوقَدُ في قلب ابن آدم، ألم تَرَوْا إلى انتفاخ أَوْداجه وحُمْرةِ عينيه "** ، وإذا وُصف به الباري تعالى فالمرادُ به الانتقام لا غيره، ويقال: فلانٌ غَضَبة " إذا كان سريعَ الغضبِ.
ويقال: غضِبت لفلانٍ [إذا كان حَيًّا]، وغضبت به إذا كان ميتاً، وقيل: الغضبُ تغيُّر القلبِ لمكروهٍ، وقيل: إن أريدَ بالغضبِ العقوبةُ كان صفةَ فِعْلٍ، وإنْ أريدَ به إرادةُ العقوبةِ كان صفةَ ذاتٍ.
والضَّلال: الخَفاءُ والغَيْبوبةُ، وقيل: الهَلاك، فمِن الأول قولُهم: ضَلَّ الماءُ في اللبن، وقوله:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| **89ـ ألم تسأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيارُ** | | **عن الحيِّ المُضَلَّلِ أين ساروا** |
| --- | --- | --- |
والضَّلْضَلَةُ: حجرٌ أملسُ يَردُّه السيلُ في الوادي. ومن الثاني:**{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ }** [السجدة: 10]، وقيل: الضلالُ: العُدول عن الطريق المستقيم، وقد يُعَبَّر به عن النسيان كقوله تعالى:**{ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا }** [البقرة: 282] بدليلِ قوله: { فَتُذَكِّرَ }.
القول في " آمين ": ليست من القرآن إجماعاً، ومعناها: استجِبْ، فهي اسمُ فعلٍ مبنيٌ على الفتحِ، وقيل: ليس باسم فِعْل، بل هو من أسماءِ الباري تعالى والتقدير: يا آمين، وضَعَّفَ أبو البقاء هذا بوجهين: أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يُبنى على الضم لأنه منادى مفردٌ معرفةٌ، والثاني: أن أسماءَ الله تعالى توقيفيةٌ. ووجَّه الفارسي قولَ مَنْ جعله اسماً لله تعالى على معنى أنَّ فيه ضميراً يعودُ على اللهِ تعالى: لأنه اسمُ فعلٍ، وهو توجيهٌ حسنٌ، نقله صاحب " المُغْرِب ".
وفي آمين لغتان: المدُّ والقصرُ، فمن الأول قوله:
| **90ـ آمينَ آمينَ لا أرضىٰ بواحدةٍ** | | **حتى أُبَلِّغَهَا ألفينِ آمينا** |
| --- | --- | --- |
وقال الآخر:
| **91ـ يا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّها أبداً** | | **ويَرْحمُ اللهُ عبداً قال آمينا** |
| --- | --- | --- |
ومن الثاني قوله:
| **92ـ تباعَدَ عني فُطْحُلٌ إذ دعوتُه** | | **آمينَ فزاد الله ما بيننا بُعْدا** |
| --- | --- | --- |
وقيل: الممدودُ اسمٌ أعجمي، لأنه بزنة قابيل وهابيل. وهل يجوز تشديدُ الميم؟ المشهورُ أنه خطأ نقله الجوهري، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفَر الصادق التشديدُ، وهو قولُ الحسين بن الفضل من أمِّ إذا قصد، أي نحن قاصدون نحوك، ومنه**{ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ }** [المائدة: 2].
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) | قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مفسّر للصراط المستقيم، والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء:**{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً }** [النساء: 69]، وعن ابن عباس: صراط الذين أنعمتَ عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصدّيقين والشهداء والصالحين، وذلك نظير الآية السابقة، وقال الربيع بن أنَس: هم النبيّون، وقال ابن جريج ومجاهد: هم المؤمنون، والتفسير المتقدم عن ابن عباس أعم وأشمل.
وقوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } بالجر على النعت، والمعنى: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمتَ عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة، غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين علموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق، وأكد الكلام بـ (لا) ليدل على أن ثَمَّ مسلكين فاسدين وهما: طريقة اليهود، وطريقة النصارى، فجيء بـ (لا) لتأكيد النفي وللفرق بين الطريقتين ليجتنب كل واحدٍ منهما، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهودُ فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى، لكن أخصُّ أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم:**{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ }** [المائدة: 60]، وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم:**{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** [المائدة: 77]، وبهذا وردت الأحاديث والآثار، فقد روي عن عدي بن حاتم أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } قال: هم اليهود { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال: النصارى. ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: (آمين) ومعناه: اللهم استجب، لما روي عن أبي هريرة أنه قال: **" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال: آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) | قَوْلُهُ تَعَالَى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }؛ همُ الأنبياءُ وأهلُ طاعةِ الله تعالى. واختلافُ القراءة في { صِرَاطَ } كاختلافِهم في { ٱلصِّرَاطَ }.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } { ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } هم اليهودُ؛ و { ٱلضَّآلِّينَ } هم النصارى.
وأما (آمِيْن) فليس من السُّورةِ؛ ولكن رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقولهُ ويأمر به. وقال: **" لَقَّنِّي جِبْريْلُ عليه السلام بَعْدَ فَرَاغِي مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَاب: آمِيْن، وقال: إِنَّهُ كَالطَّابَعِ عَلَى الْكِتَاب "** وَقِيْلَ: معنى آمين: اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ. وَقِيْلَ: معناهُ: يا آمِينَ؛ أي يَا اللهُ. فآمِينَ اسمٌ مِن أسماءِ الله. وَقِيْلَ: معناهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. وفي آمين لُغتان: الْمَدُّ والقصرُ؛ قال الشاعرُ في القصر:
| **تَبَاعَدَ مِنِّى فَطْحُلٌ إذْ رَأَيْتُهُ** | | **أمِينَ فَزَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا** |
| --- | --- | --- |
وقال آخرُ في المدِّ:
| **صَلَّى الإلَهُ عَلَى لُوطٍ وَشِيْعَتِهِ** | | **أبَا عُبَيْدَة قُلْ باللهِ آمِيْنَ** |
| --- | --- | --- |
وقال آخرُ في الْمَدِّ أيضاً:
| **يَا رَبِّ لاَ تَسَلُبَنِى حُبَّهَا أبَداً** | | **وَيَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ آمِيْنَا** |
| --- | --- | --- |
قال صلى الله عليه وسلم: **" فَاتِحَةُ الْكِتَاب رُقْيَةٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلاَّ السَّأْمَ "** وهو الموتُ. وروي أن جبريلَ قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: **" كُنْتُ أخْشَى الْعَذَابَ عَلَى أُمَّتِكَ فَلَمَّا نَزَلَتِ الْفَاتِحَةُ أمِنَتْ؛ لأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ؛ وَجَهَنَّمُ لَهَا سَبْعَةُ أبْوَابٍ، فَمَنْ قَرَأَهَا صَارَتْ كُلُّ آيَةٍ طَبَقاً عَلَى بَابٍ ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ) | قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.
صراط بدل من الأول.
والذين أنعم عليهم هم الأنبياء صلوات الله عليهم والصدِّيقون والصالحون بدلالة قوله:**{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ }** [النساء: 69].
وقيل: هم أصحاب النبي [عليه السلام]، قاله الحسن.
وقيل: هم المؤمنون من بني إسرائيل الذين لم يغيروا ولا بدلوا، بدليل قوله:**{ يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }** [البقرة: 40]. فلذلك قال هنا: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.
وقيل: هم المسلمون.
وقال أبو العالية: " هم محمد [عليه السلام] وأبو بكر وعمر ".
وقال قتادة: " هم الأنبياء خاصة ".
وقال ابن عباس: " هم أصحاب موسى قبل أن يبدلوا ".
وهذا دعاء أمر الله عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يدعوا به وألا يكونوا مثل المغضوب / عليهم - وهم اليهود -، ولا مثل الضالين - وهم النصارى -، ولا على صراطهم.
ودخلت " لا " في قوله: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } لئلا يتوهم أن { ٱلضَّآلِّينَ } عطف على { ٱلَّذِينَ } في قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ }. فبدخول " لا " امتنع أن يتوهم متوهم ذلك إذ لا تقع " لا " إلا بعد نفي أو ما هو في معنى النفي.
وقيل: " لا " زائدة.
وقيل: هي تأكيد بمعنى: " غير ".
ولم يجمع { ٱلْمَغْضُوبِ } ، لأنه في معنى الذين غضب عليهم / فلا ضمير فيه إذ لا يتعدى إلا بحرف جر. فلو قدرت فيه ضميراً، كنت قد عديته إلى مفعولين أحدهما بحرف جر / وهذا ليس يحسن فيه. إنما تقول: " غضبت على زيد " و " غضب على زيد ". فالمخفوض يقوم مقام الفاعل. وكذلك { عَلَيْهِم } في موضع رفع يقوم مقام المفعول الذي لم يسم فاعله. والهاء والميم يعودان على الألف واللام.
والغضب من الله البعد من رحمته. والضلال الحيرة.
" و { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ } " خفض على النعت " للذين " من قوله { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ } ، وحَسَنٌ ذلك لأنه شائع لا يراد به جمع بعينه فصار كالنكرة، فجاز نعته " بغير " ، و " غير " نكرة وإن أضيفت إلى معرفة. ويجوز أن تخفض " غير " على البدل من [الذين. وقد قرئ] بالنصب على الحال أو على الاستثناء، وقد شرحت هذا في كتاب: " مشكل الإعراب " بأشبع من هذا.
ويقول المأموم إذا سمع { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }: آمين. ويقولها وحده. واختلف في قول الإمام إياها عن مالك.
و (آمين)، قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى.
وقيل: هو دعاء بمعنى: " اللَّهم استجب ".
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
وقال ابن عباس والحسن: " معنى " آمين ": كذلك يكون ". وهي تمد وتقصر لغتان.
والمؤمن داع. فقد قال الله لموسى وهارون:**{ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا }** [يونس: 89]. وموسى كان هو الداعي، وهارون يؤمن، والمؤمن إذا قال: " اللهم استجب " فهو داع بالإجابة، وهو مبني لوقوعه موقع الدعاء / وبني على حركة لالتقاء الساكنين وكان / الفتح أولى به لأن قبل آخره ياء.
وروى أبو هريرة عن النبي [عليه السلام] قال: **" إِذَا قَالَ الإمَامُ { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } ، فَقُولُوا: آمينَ، فإنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ "** ، أي من وافقه في الإجابة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ | Meccan | صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ | * تفسير تفسير النسائي/ النسائي (ت 303 هـ) | قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [7] 3- أنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن سُمَيٍّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن/ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضَّالين، فقولوا: آمين فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدَّم من ذنبه ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|