surah_name
stringclasses 113
values | revelation_type
stringclasses 2
values | ayah
stringlengths 2
1.15k
| tafsir_book
stringclasses 84
values | tafsir_content
stringlengths 0
644k
|
---|---|---|---|---|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ | * تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ) | { خَتَمَ } - الآية، تعليل لعدم إيمانهم، وهو عبارة عن إضلالهم، فهو مجاز وقيل: حقيقة، وأن القلب كالكف ينقبض مع زيادة الضلال أصبعاً أصبعاً حتى يختم عليه، والأول أبرع، و { عَلَىٰ سَمْعِهِمْ } معطوف على قلوبهم، فيوقف عليه، وقيل الوقف على قلوبهم، والسمع راجع إلى ما بعده، والأول أرجح لقوله:**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ }** [الجاثية: 23] { غِشَٰوَةٌ } مجاز باتفاق، وفيه دليل على وقوع المجاز في القرآن خلافاً لمن منعه، ووحد السمع لأنه مصدر في الأصل، والمصادر لا تجمع.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ | * تفسير غريب القرآن / زيد بن علي (ت 120 هـ) | وقولهُ تعالى: { عَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } أي غِطاءٌ وسِترٌ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ | * تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) | قَوْلُهُ تَعَالَى: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ }. أي طبعَ على قلوبهم؛ والختمُ والطبعُ بمعنى واحدٍ؛ وهو التغطيةُ للشيء. والمعنى طبعَ الله على قلوبهم؛ أي أغلَقها وأقفلَها؛ فليست تفقهُ خيراً ولا تفهمهُ. (وَعَلَى سَمْعِهِمْ) فلا يسمعون الحقَّ ولا ينتفعون به، وإنَّما وحَّدهُ وقد تخللَّ بين جمعين؛ لأنه مصدرٌ؛ والمصدرُ لا يُثنى ولا يُجمع. وقيل: أراد سَمْعَ كلِّ واحدٍ منهم كما يقالُ: أتانِي برأسِ كَبشَين؛ أرادَ برأس كلِّ واحد منهما. وقال سيبويه: (تَوْحِيْدُ السَّمْعِ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ؛ لأَنَّهُ تَوَسَّطَ جَمْعَيْنِ) كقولهِ تعالى:**{ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ }** [البقرة: 257] وقولهِ تعالى:**{ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ }** [المعارج: 37] يعني الأنوارُ والإيْمانُ؛ وقرأ ابنُ عَبْلَةَ: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ }.
وتَمَّ الكلام عند قولهِ: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } ثُم قالَ: { وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ }. أي غطاءٌ وحجابٌ فلا يَرَوْنَ الحقَّ. وقرأ المفضَّلُ بن محمَّدٍ: (غِشَاوَةً) بالنصب؛ كأنه أضمرَ فعلاً أو جملةً على الختم؛ أي خَتَمَ على أبصارهم غِشاوةً، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى:**{ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً }** [الجاثية: 23]. وقرأ (غُشَاوَةً) بضمِّ الغَين. وقرأ الجُحْدَريُّ: (غَشَاوَةً) بفتح الغَين. وقرأ أصحابُ عبدِالله: (غَشْوَةً) بفتح الغين بغيرِ ألِفٍ. ومن رفعَ (غِشَاوَةٌ) فعلَى الابتداءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } ، يعني القتل والأسرُ. وقال الخليلُ: (العَذَابُ مَا يَمْنَعُ الإنْسَانَ مِنْ مُرَادِهِ). وقيل: هو إيصالُ الألَمِ إلى الحيِّ مع الْهَوَانِ بهِ؛ ولِهذا لا يُسمَّى ما يفعلُ اللهُ بالبهائم والأطفالِ عذاباً؛ لأنه لَيسَ على سبيل الْهَوانِ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ | * تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ) | قوله: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ }.
معناه طبع الله عليها مجازاة لهم بكفرهم.
وقيل: معناه: حكم الله عليهم بذلك لما سبق في / علمه من أنهم لا يؤمنون.
وقيل: معناه: أنهم [لما تجاهلوا عن] قبول أمر الله عز وجل وفهمه، وَصَمُّوا عن أمر الله سبحانه، جعل الله تعالى ذلك منسوباً إليهم عن فعلهم، كما يقال: " أهلكه المال " أي هلك به.
وقيل: معناه: أن الله تعالى جعل ذلك علامة تعرفهم بها الملائكة.
وأصل الختم الطبع. والرين على القلب دون الطبع، والقفل أشد من الختم.
قال مجاهد: " القلب مثل الكف، فإذا أذنب العبد قبض عليه - وأشار بقبض الخنصر تمثيلاً - ثم إذا أذنب قبض عليه، ومثل بقبض البنصر هكذا حتى ضَمَّ أصابعه كلها. ثم يطبع عليه أي يختم ".
وقال ابن عباس: " إنما سمي القلب قلباً لأنه يتقلب ".
وروى أبو موسى الأشعري أن النبي [عليه السلام] قال: **" الْقَلْبُ مِثْلُ رِيشَةٍ فِي فَلاَةٍ يُقَلّبُهَا الرّيحُ ".** وعنه في حديث آخر: **" تُقَلِّبُهَا الرِّيحُ بِأرضِ " فضاءِ ظَهْر البَطْنٍ " ".** قوله: { عَلَىٰ قُلُوبِهمْ }. تكتب " على " " وإلى " و " لدى " بالياء دون سائر الحروف مثلها لأنها أخف من الأفعال، وكثر استعمالها، ولأن ألفها يرجع إلى الياء مع المضمر دون سائر الحروف فكتبت مع المظهر بالياء لذلك.
وتقع " على " بمعنى الباء، تقول: " آركب على اسم الله " أي باسم الله.
وتقع بمعنى " مع " نحو قولك: " جئت على زيد " أي معه. وتقع بمعنى " من " نحو قوله:**{ عَلَى ٱلنَّاسِ / يَسْتَوْفُونَ }** [المطففين: 2] أي من الناس. وتقع أيضاً في مواضع حروف أخر قد ذكرناها في كتاب مفرد للحروف.
وقوله: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ }.
إنما وُحِّد السمع لأنه مصدر يقع على القليل والكثير.
وقيل: وُحِّد لأنه يؤدي عن الجمع.
وقيل: التقدير: " وعلى مواضع سمعهم " ، ثم حذف المضاف وإنما أعيدت " على " في قوله: " { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ } للتأكيد في الوعيد.
وقيل: أعيدت لأجل مخالفة السمع للقلوب في أنه أتى / بلفظ التوحيد، وأتت القلوب بالجمع.
وقيل: أعيدت لأن الفعل مضمر مع الحرف تقديره: " وختم على سمعهم ". فأما إعادة الحرف في { وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ } ، فلِلعِلَلِ التي ذكرنا، ولأنه حرف متصل بفعل مضمر غير الأول فقويت فيه الإعادة، والتقدير: " وجعل على أبصارهم غشاوة ". وهذا، إنما هو على قراءة من نصب غشاوة، وهو مروي عن عاصم.
فأما من رفع، فإنما أعيد الحرف لأنه مخالف للأول، لأنه خبر ابتداء.
ومعنى الغشاوة الغطاء، ومنه: " غاشية السيف والسرج " أي غطاؤه.
وفي { غِشَاوَةٌ } ، لغات قرئ بها، وهي فتح الغين؛ وبه قرأ أبو حيوة، وضم الغين؛ وبه قرأ الحسن. وقرأ الأعمش " غَشْوَة " على فعلة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ | * تفسير تفسير سفيان الثوري/ عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي (ت161هـ) | 1: 110. قال سفين، نزلت أربع آيات من أول البقرة في نعت المؤمنين، وثلث آيات في نعت الكافرين، وثلث عشرة آية في نعت المنافقين.
2: 109. قال سفين، وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقرءونها { عَلَىٰ قُلُوبِهمْ (وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ) وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ }. [الآية 7].
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ | * تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) | استنئاف معلّل لما سبق من الحكم، أو بيانٌ وتأكيدٌ له. والختم على الشيء: الاستيثاق منه بضرب الخاتم عليه. والمراد: إحداث حالة تجعلها - بسبب تماديهم في الغي، وانهماكهم في التقليد، وإعراضهم عن منهاج النظر الصحيح - بحيث لا يؤثر فيها الإنذار، ولا ينفذ فيها الحق أصلاً.
قال أبو السعود: وإسناد إحداث تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى، لاستناد جميع الحوادث عندنا - من حيث الخلق - إليه سبحانه، وورود الآية الكريمة ناعية عليهم سوء صنيعهم، ووخامة عاقبتهم، لكون أفعالهم - من حيث الكسب - مستندةً إليهم، فإن خَلْقَها منه سبحانه ليس بطريق الجبر، بل بطريق الترتيب - على ما اقترفوه من القبائح - كما يعرب عنه قوله تعالى:**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }** [النساء: 155] ونحو ذلك يعني كقوله تعالى:**{ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ }** [الصف: 5] وقوله:**{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ }** [الأنعام: 110].
وأما المعتزلة فقد سلكوا مسلك التأويل، وذكروا في ذلك عدةً من الأقاويل:
منها: أن القوم لما أعرضوا عن الحق، وتمكن ذلك في قلوبهم، حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلْقيّ المجبول عليه.
ومنها: أن المراد به تمثيل قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خاليةً عن الفطن، أو بقلوب قدّر ختم الله تعالى عليها. كما في: سال به الوادي - إذا هلك - وطارت به العنقاء - إذا طالت غيبته.
ومنها: أن أعراقهم لما رسخت في الكفر، واستحكمت بحيث لم يبق إلى تحصيل إيمانهم طريق سوى الإلجاء والقسر؛ ثم لم يفعل ذلك محافظةً على حكمة التكليف، عبّر عن ذلك بالختم، لأنه سدٌّ لطريق إيمانهم بالكلية. وفيه إشعار بترامي أمرهم في الغيّ والعناد.
ومنها: أن ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولونه، مثل قولهم:**{ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ }** [فصلت: 5]. تهكماً بهم.
ومنها: أن ذلك في الآخرة، وإنما أخبر عنه بالماضي لِتحقُّق وقوعه، ويعضده قوله تعالى:**{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً }** [الإسراء: 97]. انتهى ملخصاً.
فائدة
قال الراغب: المراد بالقلب في كثير من الآيات: العقل والمعرفة.ا.هـ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ | * تفسير كتاب نزهة القلوب/ أبى بكر السجستاني (ت 330هـ) | { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ }: طبع الله على قلوبهم. { غِشَاوَةٌ } أي غطاء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ | * تفسير البرهان في تفسير القرآن/ هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ) | 326/ [1]- ابن بابويه، قال: حدثنا محمد بن أحمد السناني (رضي الله عنه)، قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، عن سهل بن زياد الآدمي، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني (رضي الله عنه)، عن إبراهيم بن أبي محمود، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: سألته عن قول الله عز و جل: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ }.
قال: " الختم: هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم، كما قال الله عز و جل:**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }** [النساء: 155]
327/ [2]- تفسير العسكري (عليه السلام)، قال: **" قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): أيكم وقى بنفسه نفس رجل مؤمن البارحة؟** **فقال علي (عليه السلام): أنا هو- يا رسول الله- وقيت بنفسي نفس ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري.** **فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): " حدث بالقصة إخوانك المؤمنين، و لا تكشف عن اسم المنافقين الكائدين لنا، فقد كفاكم الله شرهم، و أخرهم للتوبة، لعلهم يتذكرون أو يخشون** **". فقال علي (عليه السلام): بينا أنا أسير في بني فلان بظاهر المدينة، و بين يدي- بعيدا مني- ثابت بن قيس، إذ بلغ بئرا عادية عميقة بعيدة القعر، و هناك رجل من المنافقين فدفعه ليرميه في البئر، فتماسك ثابت، ثم عاد فدفعه، و الرجل لا يشعر بي حتى وصلت إليه، و قد اندفع ثابت في البئر، فكرهت أن اشتغل بطلب المنافق خوفا على ثابت، فوقعت في البئر لعلي آخذه، فنظرت فإذا أنا قد سبقته إلى قرار البئر.** **فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): و كيف لا تسبقه و أنت أرزن منه؟! و لو لم يكن من رزانتك إلا ما في جوفك من علم الأولين و الآخرين، أودعه الله رسوله [و أودعك]، لكان من حقك أن تكون أرزن من كل شيء، فكيف كان حالك و حال ثابت؟** **قال: يا رسول الله، صرت إلى البئر، و استقررت قائما، و كان ذلك أسهل علي و أخف على رجلي من خطاي التي كنت أخطوها رويدا رويدا، ثم جاء ثابت، فانحدر فوقع على يدي، و قد بسطتهما إليه، و خشيت أن يضرني سقوطه علي أو يضره، فما كان إلا كطاقة ريحان تناولتها بيدي.** **ثم نظرت، فإذا ذلك المنافق و معه آخران على شفير البئر، و هو يقول لهما: أردنا واحدا فصار اثنين! فجاءوا بصخرة فيها مائة من فأرسلوها [علينا]، فخشيت أن تصيب ثابتا، فاحتضنته و جعلت رأسه إلى صدري، و انحنيت عليه، فوقعت الصخرة على مؤخر رأسي، فما كانت إلا كترويحة بمروحة، تروحت بها في حمارة القيظ، ثم جاءوا بصخرة أخرى، فيها قدر ثلاثمائة من، فأرسلوها علينا، و انحنيت على ثابت، فأصابت مؤخرا رأسي، فكانت كماء صب على رأسي و بدني في يوم شديد الحر، ثم جاءوا بصخرة ثالثة، فيها قدر خمسمائة من، يديرونها على الأرض، لا يمكنهم أن يقلوها، فأرسلوها علينا، فانحنيت على ثابت، فأصابت مؤخر رأسي و ظهري، فكانت كثوب ناعم صببته على بدني و لبسته. فتنعمت به.** **فسمعتهم يقولون: لو أن لابن أبي طالب و ابن قيس مائة ألف روح، ما نجت منها واحدة من بلاء هذه الصخور ثم انصرفوا، فدفع الله عنا شرهم، فأذن الله عز و جل لشفير البئر فانحط، و لقرار البئر فارتفع، فاستوى القرار و الشفير بعد بالأرض، فخطونا و خرجنا.** **فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله) يا أبا الحسن، إن الله عز و جل أوجب لك من الفضائل و الثواب ما لا يعرفه غيره، ينادي مناد يوم القيامة: أين محبو علي بن أبي طالب؟ فيقوم قوم من الصالحين، فيقال لهم: خذوا بأيدي من شئتم من عرصات القيامة، فأدخلوهم الجنة، و أقل رجل منهم ينجو بشفاعته من أهل تلك العرصات ألف ألف رجل.** **ثم ينادي مناد، أين البقية من محبي علي بن أبي طالب؟ فيقوم قوم مقتصدون، فيقال لهم: تمنوا على الله تعالى ما شئتم، فيتمنون، فيفعل لكل واحد منهم ما تمناه، ثم يضعف له مائة ألف ضعف.** **ثم ينادي مناد: أين البقية من محبي علي بن أبي طالب؟ فيقوم قوم ظالمون لأنفسهم، معتدون عليها، و يقال: أين المبغضون لعلي بن أبي طالب؟ فيؤتى بهم جم غفير، و عدد كثير، فيقال: ألا نجعل كل ألف من هؤلاء فداء لواحد من محبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) ليدخلوا الجنة؟ فينجي الله عز و جل محبيك، و يجعل أعداءهم فداءهم.** **ثم قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): هذا الفضل الأكرم، محبه محب الله و محب رسوله، و مبغضه مبغض الله و مبغض رسوله، هم خيار خلق الله من أمة محمد.** **ثم قال رسول الله (صلى الله عليه و آله) لعلي (عليه السلام): انظر فنظر إلى عبد الله بن أبي و إلى سبعة من اليهود، فقال: قد شاهدت، ختم الله على قلوبهم و أسماعهم و أبصارهم.** **فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): أنت- يا علي- أفضل شهداء الله في الأرض بعد محمد رسول الله.** **قال: فذلك قوله: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ } تبصرها الملائكة فيعرفونهم بها، و يبصرها رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و يبصرها خير خلق الله بعده علي بن أبي طالب (عليه السلام).** **ثم قال: { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } في الآخرة بما كان من كفرهم بالله، و كفرهم بمحمد رسول الله (صلى الله عليه و آله) ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) | اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل هذه الآية، فروي عن سلـمان الفـارسي أنه كان يقول: لـم يجيءْ هؤلاء بعد. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام بن علـيّ، قال: حدثنا الأعمش، قال: سمعت الـمنهال بن عمرو يحدّث عن عبـاد بن عبد الله، عن سلـمان، قال: ما جاء هؤلاء بعد، الذين { إذَا قـيـلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ قالُوا إنَّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ }. حدثنـي أحمد بن عثمان بن حكيـم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي الأعمش، عن زيد بن وهب وغيره، عن سلـمان أنه قال فـي هذه الآية: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } قال ما جاء هؤلاء بعد. وقال آخرون بـما: حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } هم الـمنافقون. أما { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } فإن الفساد هو الكفر والعمل بـالـمعصية. وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } يقول: لا تعصوا فـي الأرض. قال: فكان فسادهم علـى أنفسهم ذلك معصية الله جل ثناؤه، لأن من عصى الله فـي الأرض أو أمر بـمعصيته فقد أفسد فـي الأرض، لأن إصلاح الأرض والسماء بـالطاعة. وأولـى التأويـلـين بـالآية تأويـل من قال: إن قول الله تبـارك اسمه: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } نزلت فـي الـمنافقـين الذين كانوا علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان معنـياً بها كل من كان بـمثل صفتهم من الـمنافقـين بعدهم إلـى يوم القـيامة. وقد يحتـمل قول سلـمان عند تلاوة هذه الآية: «ما جاء هؤلاء بعد» أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خبراً منه عمن جاء منهم بعدهم ولـما يجيء بعد، لا أنه عنى أنه لـم يـمض مـمن هذه صفته أحد. وإنـما قلنا أولـى التأويـلـين بـالآية ما ذكرنا، لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى أن ذلك صفة من كان بـين ظهرانـي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الـمنافقـين، وأن هذه الآيات فـيهم نزلت. والتأويـل الـمـجمع علـيه أولـى بتأويـل القرآن من قول لا دلالة علـى صحته من أصل ولا نظير. والإفساد فـي الأرض: العمل فـيها بـما نهى الله جل ثناؤه عنه، وتضيـيع ما أمر الله بحفظه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
فذلك جملة الإفساد، كما قال جل ثناؤه فـي كتابه مخبراً عن قـيـل ملائكته:**{ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاءَ }** [البقرة: 30] يعنون بذلك: أتـجعل فـي الأرض من يعصيك ويخالف أمرك؟ فكذلك صفة أهل النفـاق مفسدون فـي الأرض بـمعصِيتهم فـيها ربهم، وركوبهم فـيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضيـيعهم فرائضه وشكهم فـي دين الله الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا بـالتصديق به والإيقان بحقّـيته، وكذبهم الـمؤمنـين بدعواهم غير ما هم علـيه مقـيـمون من الشك والريب، وبـمظاهرتهم أهل التكذيب بـالله وكتبه ورسله علـى أولـياء الله إذا وجدوا إلـى ذلك سبـيلاً. فذلك إفساد الـمنافقـين فـي أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلـحون فـيها. فلـم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبته، ولا خفف عنهم ألـيـم ما أعدّ من عقابه لأهل معصيته بحسبـانهم أنهم فـيـما أتوا من معاصي الله مصلـحون، بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره والألـيـمَ من عذابه والعارَ العاجل بسبّ الله إياهم وشتـمه لهم، فقال تعالـى:**{ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }** [البقرة: 12] وذلك من حكم الله جل ثناؤه فـيهم أدلّ الدلـيـل علـى تكذيبه تعالـى قول القائلـين: إن عقوبـات الله لا يستـحقها إلا الـمعاند ربه فـيـما لزمه من حقوقه وفروضه بعد علـمه وثبوت الـحجة علـيه بـمعرفته بلزوم ذلك إياه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }. وتأويـل ذلك كالذي قاله ابن عبـاس، الذي: حدثنا به مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي قالوا: إنـما نريد الإصلاح بـين الفريقـين من الـمؤمنـين وأهل الكتاب. وخالفه فـي ذلك غيره. حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } قال: إذا ركبوا معصية الله، فقـيـل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا: إنـما نـحن علـى الهدى مصلـحون. قال أبو جعفر: وأيّ الأمرين كان منهم فـي ذلك أعنـى فـي دعواهم أنهم مصلـحون فهم لا شكّ أنهم كانوا يحسبون أنهم فـيـما أتوا من ذلك مصلـحون. فسواء بـين الـيهود والـمسلـمين كانت دعواهم الإصلاح أو فـي أديانهم، وفـيـما ركبوا من معصية الله، وكذبهم الـمؤمنـين فـيـما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهروا مستبطنون، لأنهم كانوا فـي جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم مـحسنـين، وهم عند الله مسيئون، ولأمر الله مخالفون لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض علـيهم عداوة الـيهود وحربهم مع الـمسلـمين، وألزمهم التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به من عند الله كالذي ألزم من ذلك الـمؤمنـين، فكان لقاؤهم الـيهود علـى وجه الولاية منهم لهم، وشكهم فـي نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفـيـما جاء به أنه من عند الله أعظم الفساد، وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحاً وهدى: فـي أديانهم، أو فـيـما بـين الـمؤمنـين والـيهود، فقال جل ثناؤه فـيهم: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } دون الذين ينهونهم من الـمؤمنـين عن الإفساد فـي الأرض**{ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }** [البقرة: 12]
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ) | «وإذا قيل لهم» معطوف على يكذبون. ويجوز أن يعطف على يقول آمنا لأنك لو قلت ومن الناس من إذا قيل لهم لا تفسدوا، كان صحيحاً، والأوّل أوجه. والفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به، ونقيضه الصلاح، وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن، لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية. قال الله تعالى**{ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ }** البقرة 205**{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء }** البقرة 30. ومنه قيل لحرب كانت بين طيء حرب الفساد. وكان فساد المنافقين في الأرض. أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم، وذلك مما يؤدّي إلى هيج الفتن بينهم، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدياً إلى الفساد قيل لهم { لا تفسدوا } ، كما تقول للرجل لا تقتل نفسك بيدك، ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته. و { إِنَّمَا } لقصر الحكم على شيء، كقولك إنما ينطق زيد، أو لقصر الشيء على حكم كقولك إنما زيد كاتب. ومعنى { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد. و { ألآ } مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي، لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً كقوله**{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ }** القيامة 40؟ ولكونها في هذا المنصب من التحقيق، لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدّرة بنحو ما يتلقى به القسم. وأختها التي هي «أما» من مقدّمات اليمين وطلائعها
| **أَمَا والَّذِي لا يَعْلَمُ الغَيْبَ غيْرُهُ أَمَا والَّذِي أَبْكَى وأَضحَكَ** | | |
| --- | --- | --- |
ردّ الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ ردّ وأدله على سخط عظيم، والمبالغة فيه من جهة الاستئناف وما في كلتا الكلمتين ألا. وإن من التأكيدين وتعريف الخبر وتوسيط الفصل. وقوله { لاَّ يَشْعُرُونَ } أتوهم في النصيحة من وجهين أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده من الصواب وجرّه إلى الفساد والفتنة. والثاني تبصيرهم الطريق الأسد من أتباع ذوي الأحلام، ودخولهم في عدادهم فكان من جوابهم أن سفهوهم لفرط سفههم، وجهلوهم لتمادي جهلهم. وفي ذلك تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة. فإن قلت كيف صح أن يسند «قيل» إلى «لا تفسدوا، وآمنوا» وإسناد الفعل إلى الفعل مما لا يصح؟ قلت الذي لا يصح هو إسناد الفعل إلى معنى الفعل، وهذا إسناد له إلى لفظه، كأنه قيل وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام. فهو نحو قولك «ألف» ضرب من ثلاثة أحرف.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ومنه «زعموا مطية الكذب». و«ما» في «كما» يجوز أن تكون كافة مثلها في ربما، ومصدرية مثلها في**{ بِمَا رَحُبَتْ }** التوبة 25. واللام في «الناس» للعهد، أي كما آمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه. أو هم ناس معهودون كعبد الله بن سلام وأشياعه لأنهم من جلدتهم ومن أبناء جنسهم، أي كما آمن أصحابكم وإخوانكم، أو للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية. أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة، ومن عداهم كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل. والاستفهام في { أَنُؤْمِنُ } في معنى الإنكار. واللام في { ٱلسُّفَهَاء } مشار بها إلى الناس، كما تقول لصاحبك إن زيداً قد سعى بك، فيقول أو قد فعل السفيه. ويجوز أن تكون للجنس، وينطوي تحته الجاري ذكرهم على زعمهم واعتقادهم لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه. فإن قلت لم سفهوهم واستركوا عقولهم، وهم العقلاء المراجيح؟ قلت لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر وإنصاف أنفسهم، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً ولأنهم كانوا في رياسة وسطة في قومهم ويسار، وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال وخباب، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم. أو أرادوا عبد الله بن سلام وأشياعه ومفارقتهم دينهم وما غاظهم من إسلامهم وفت في أعضادهم. قالوا ذلك على سبيل التجلد توقياً من الشماتة بهم مع علمهم أنهم من السفه بمعزل، والسفه سخافة العقل وخفة الحلم. فإن قلت فلم فصلت هذه الآية بــ { لاَّ يَعْلَمُونَ } ، والتي قبلها بـ { لاَّ يَشْعُرُونَ }؟ قلت لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحقّ وهم على الباطل، يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة. وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدّي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دينويّ مبني على العادات، معلوم عند الناس، خصوصاً عند العرب في جاهليتهم وما كان قائماً بينهم من التغاور والتناحر والتحارب والتحازب، فهو كالمحسوس المشاهد ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له. مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أوّل قصة المنافقين فليس بتكرير، لأن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان ما كانوا يعملون عليه مع المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم، فإذا فارقوهم إلى شطار دينهم صدقوهم ما في قلوبهم. وروي 22 أن عبد الله بن أبيّ وأصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد أبي بكر فقال مرحباً بالصدّيق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ثم أخذ بيد عمر فقال مرحباً بسيد بني عديّ الفاروق القويّ في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله. ثم أخذ بيد عليّ فقال مرحباً بابن عم رسول الله وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله. ثم افترقوا فقال لأصحابه كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيراً، فنزلت. ويقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه، وهو جاري ملاقيّ ومراوقي. وقرأ أبو حنيفة وإذا لاقوا. وخلوت بفلان وإليه، إذا انفردت معه. ويجوز أن يكون من «خلا» بمعنى مضى، وخلاك ذمّ أي عداك ومضى عنك. ومنه القرون الخالية، ومن «خلوت به» إذا سخرت منه. وهو من قولك خلا فلان بعرض فلان يعبث به. ومعناه وإذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدّثوهم بها. كما تقول أحمد إليك فلاناً، وأذمّه إليك. وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمرّدهم. وقد جعل سيبويه نون الشيطان في موضع من كتابه أصلية، وفي آخر زائدة. والدليل على أصالتها قولهم تشيطن، واشتقاقه من «شطن» إذا بعد لبعده من الصلاح والخير. ومن «شاط» إذا بطل إذا جعلت نونه زائدة. ومن أسمائه الباطل. { إِنَّا مَعَكُمْ } إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم. فإن قلت لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالإسمية محققة بأن؟ قلت ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين وأوكدهما، لأنهم في ادّعاء حدوث الإيمان منهم ونشئه من قبلهم، لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان غير مشقوق فيه غبارهم، وذلك إما لأنّ أنفسهم لا تساعدهم عليه، إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرّك، وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية وصدق رغبة واعتقاد. وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التوكيد والمبالغة. وكيف يقولونه ويطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار الذين مثلهم في التوراة والإنجيل. ألا ترى إلى حكاية الله قول المؤمنين**{ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا }** آل عمران 16. وأما مخاطبة إخوانهم، فهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية والقرار على اعتقاد الكفر، والبعد من أن يزلوا عنه على صدق رغبة ووفور نشاط وارتياح للتكلم به، وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم، فكان مظنة للتحقيق ومثنة للتوكيد. فإن قلت أنى تعلق قوله { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } بقوله { إِنَّا مَعَكُمْ } قلت هو توكيد له، لأن قوله { إِنَّا مَعَكُمْ } معناه الثبات على اليهودية. وقوله { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } ردّ للإسلام ودفع له منهم، لأن المستهزىء بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتداً به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر. أو استئناف، كأنهم اعترضوا عليهم حين قالوا لهم { إِنَّا مَعَكُمْ } ، فقالوا فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام فقالوا إنما نحن مستهزئون.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والاستهزاء السخرية والاستخفاف، وأصل الباب الخفة ـــ من الهزء وهو القتل السريع ـــ وهزأ يهزأ مات على المكان. عن بعض العرب مشيت فلغبت فظننت لأهزأنّ على مكاني. وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف. فإن قلت لا يجوز الاستهزاء على الله تعالى، لأنه متعال عن القبيح، والسخرية من باب العيب والجهل. ألا ترى إلى قوله**{ قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ }** البقرة 67، فما معنى استهزائه بهم؟ قلت معناه إنزال الهوان والحقارة بهم، لأنّ المستهزىء غرضه الذي يرميه هو طلب الخفة والزراية ممن يهزأ به، وإدخال الهوان والحقارة عليه، والاشتقاق كما ذكرنا شاهد لذلك. وقد كثر التهكم في كلام الله تعالى بالكفرة. والمراد به تحقير شأنهم وازدراء أمرهم، والدلالة على أن مذاهبهم حقيقة بأن يسخر منها الساخرون ويضحك الضاحكون. ويجوز أن يراد به ما مر في { يُخَـٰدِعُونَ } من أنه يجري عليهم أحكام المسلمين في الظاهر، وهو مبطن بادخار ما يراد بهم، وقيل سمي جزاء الاستهزاء باسمه كقوله**{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا }** الشورى 40،**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ }** البقرة 194. فإن قلت كيف ابتدىء قوله { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } ولم يعطف على الكلام قبله. قلت هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة. وفيه أن الله عز وجل هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ، الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء ولا يؤبه له في مقابلته، لما ينزل بهم من النكال ويحل بهم من الهوان والذل. وفيه أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله. فإن قلت فهلا قيل الله مستهزىء بهم ليكون طبقاً لقوله { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } قلت لأن { يَسْتَهْزِىءُ } يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتاً بعد وقت، وهكذا كانت نكايات الله فيهم وبلاياه النازلة بهم**{ أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ }** التوبة 126 وما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار، ونزول في شأنهم واستشعار حذر من أن ينزل فيهم**{ يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ }** التوبة 64. { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } من مدّ الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره. وكذلك مدّ الداوة وأمدها زادها ما يصلحها. ومددت السرج والأرض إذا استصلحتهما بالزيت والسماد. ومده الشيطان في الغي وأمده إذا واصله بالوساوس حتى يتلاحق غيه ويزداد إنهماكاً فيه. فإن قلت لم زعمت أنه من المدد دون المد في العمر والإملاء والإمهال؟ قلت كفاك دليلاً على أنه من المدد دون المد قراءة ابن كثير وابن محيصن «ويمدّهم»، وقراءة نافع**{ وَإِخْوٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ }** الأعراف 202 على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مدّ له مع اللام كأملى له.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فإن قلت فكيف جاز أن يوليهم الله مدداً في الطغيان وهو فعل الشياطين؟ ألا ترى إلى قوله تعالى**{ وَإِخْوٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ }** الأعراف 202 قلت إما أن يحمل على أنهم لما منعهم الله ألطافه التي يمنحها المؤمنين، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه، بقيت قلوبهم بتزايد الرين والظلمة فيها، تزايد الإنشراح والنور في قلوب المؤمنين فسمى ذلك التزايد مدداً. وأسند إلى الله سبحانه لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم. وإما على منع القسر والإلجاء وإما على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده. فإن قلت فما حملهم على تفسير المدّ في الطغيان بالإمهال وموضوع اللغة كما ذكرت لا يطاوع عليه؟ قلت استجرّهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى الله ما أسندوا إلى الشياطين لكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته، وإلا كان منه بمنزلة الأروى من النعام. ومن حق مفسر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز، أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدّي سليماً من القادح، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل. ويعضد ما قلناه قول الحسن في تفسيره في ضلالتهم يتمادون، وأن هؤلاء من أهل الطبع. والطغيان الغلو في الكفر، ومجاوزة الحدّ في العتوّ. وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه { فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } بالكسر وهما لغتان، كلقيان ولقيان، وغنيان وغنيان. فإن قلت أي نكتة في إضافته إليهم؟ قلت فيها أن الطغيان والتمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم واجترحته أيديهم، وأن الله برىء منه ردّاً لاعتقاد الكفرة القائلين لو شاء الله ما أشركنا، ونفياً لو هم من عسى يتوهم عند إسناد المدّ إلى ذاته لو لم يضف الطغيان إليهم ليميط الشبه ويقلعها ويدفع في صدر من يلحد في صفاته. ومصداق ذلك أنه حين أسند المدّ إلى الشياطين، أطلق الغيّ ولم يقيده بالإضافة في قوله**{ وَإِخْوٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ }** الأعراف 202. والعمه مثل العمى، إلا أن العمى عامّ في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة، وهو التحير والتردّد، لا يدري أين يتوجه. ومنه قوله بالجاهلين العمه، أي الذين لا رأي لهم ولا دراية بالطرق. وسلك أرضاً عمهاء لا منار بها. ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى اختيارها عليه واستبدالها به، على سبيل الاستعارة، لأنّ الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر. ومنه
| **أَخَذْتُ بالجُمَّةِ رَأْساً أَزْعَرَا وبالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدَّرْدَرَا وبالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا كما اشْتَرَى المُسْلِمُ إذ تَنَصَّرَا** | | |
| --- | --- | --- |
وعن وهب قال الله عز وجل فيما يعيب به بني إسرائيل «تفقهون لغير الدين، وتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة». فإن قلت كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى؟ قلت جعلوا لتمكنهم منه وإعراضه لهم كأنه في أيديهم، فإذا تركوه إلى الضلالة فقد عطلوه واستبدلوها به، ولأن الدين القيم هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، فكل من ضل فهو مستبدل خلاف الفطرة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء. يقال ضلّ منزله، وضل دريص نفقه فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين. والربح الفضل على رأس المال، ولذلك سمي الشف، من قولك أشف بعض ولده على بعض، إذا فضله. ولهذا على هذا شف. والتجارة صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشتري للربح. وناقة تاجرة كأنها من حسنها وسمنها تبيع نفسها. وقرأ ابن أبي عبلة «تجاراتهم». فإن قلت كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها؟ قلت هو من الإسناد المجازي، وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له، كما تلبست التجارة بالمشترين. فإن قلت هل يصح ربح عبدك وخسرت جاريتك، على الإسناد المجازي؟ قلت نعم إذا دلت الحال. وكذلك الشرط في صحة رأيت أسداً، وأنت تريد المقدام إن لم تقم حال دالة لم يصح. فإن قلت هب أنّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح والتجارة؟ كأن ثمّ مبايعة على الحقيقة. قلت هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات، إذا تلاحقن لم تر كلاماً أحسن منه ديباجة وأكثر ماء ورونقاً، وهو المجاز المرشح. وذلك نحو قول العرب في البليد كأن أذني قلبه خطلاً، وإن جعلوه كالحمار، ثم رشحوا ذلك روما لتحقيق البلادة، فادعوا لقلبه أذنين، وادعوا لهما الخطل، ليمثلوا البلادة تمثيلاً يلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة. ونحوه
| **ولَما رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَأَيَةٍ وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لهُ صَدْرِي** | | |
| --- | --- | --- |
لما شبه الشيب بالنسر، والشعر الفاحم بالغراب، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. ونحوه قول بعض فتاكهم في أمّه
| **فما أُمُّ الرّدين وإنْ أَدَلَّتْ بِعالِمَةٍ بأَخْلاقِ الْكِرَامِ إذَا الشّيْطانُ قَصعَ في قَفَاها تَنفّقْناهُ بالحُبلِ التُّوَامِ** | | |
| --- | --- | --- |
أي إذا دخل الشيطان في قفاها استخرجناه من نافقائه بالحبل المثنى المحكم. يريد إذا حردت وأساءت الخلق اجتهدنا في إزالة غضبها وإماطة ما يسوء من خلقها. استعار التقصيع أوّلاً، ثم ضم إليه التنفق، ثم الحبل التوام. فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه وما يكمل ويتم بانضمامه إليه، تمثيلاً لخسارهم وتصويراً لحقيقته. فإن قلت فما معنى قوله { فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }. قلت معناه أنّ الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان سلامة رأس المال، والربح. وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً، لأن رأس مالهم كان هو الهدى، فلم يبق لهم مع الضلالة. وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة، لم يوصفوا بإصابة الربح. وإن ظفروا بما ظفروا به من الأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر دامر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح، وما كانوا مهتدين لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ) | القراءة: قرأ الكسائي قُيل وغُيض وسُئ وسُيئت وحُيل وسُيق وجُيء بضم أوائل ذلك كله وروي عن يعقوب مثل ذلك ووافقهما نافع في سيء وسيئت وابن عامر فيهما وفي حيل وسيق والباقون يكسون كلها. الحجة: في هذه كلها ثلاث لغات الكسر وإشمام الضم وقول بالواو فأما قيل بالكسر فعلى نقل حركة العين إلى الفاء لأن أصله قول ثم قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار بما قبلها وهو قياس مطرد في كل ما اعتلَّت عينه وأما الإشمام فلأجل الدلالة على الأصل مع التخفيف. اللغة: الإفساد إحداث الفساد وهو كل ما تغير عن استقامة الحال والصلاح نقيض الفساد والأرض مستقر الحيوان ويقال لقوائم الفرس أرض لأنه يستقر عليها قال:
| **إِذَا مَا اسْتَحَمَّتْ أَرْضُهُ مِنْ سَمائِهِ** | | **جَرَى وَهْوَ مَوْدُوعٌ وَوَاعِدُ مُصَدَقِ** |
| --- | --- | --- |
الأعراب: إذا لفظة وضعت للوقت بشرط أن يكون ظرفاً زمانياً وفيها معنى الشرط وإنما يعمل فيها جوابها ففي هذه الآية إذا في محل نصب لأنه ظرف قالوا لأنه الجواب ولا يجوز أن يعمل فيه قيل لهم لأن إذا في التقدير مضاف إلى قيل والمضاف إليه لا يعمل في المضاف وكذلك قولـه:**{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا }** [البقرة: 14] وإذا مبني وإنما بني لتضمّنه معنى في ولزومه إياه وقد يكون إذا ظرفاً مكانياً في نحو قولك خرجت فإذا الناس وقوف أي ففي المكان الناس وقوف ويجوز أن ينصب وقوفاً على الحال لأن ظرف المكان يجوز أن يكون خبراً عن الجثة وقيل مبني على الفتح وكذلك كل فعل ماض فمبني على الفتح ولا حرف نهي وهي تعمل الجزم في الفعل وتُفْسدوا مجزوم بلا وعلامة الجزم فيه سقوط النون والواو ضمير الفاعلين وما في قولـه إنما كافة كفّت إنّ عن العلم فعاد ما بعدها إلى ما كان عليه في الأصل من كونه مبتدأً وخبراً وهو قولـه نحن مصلحون فنحن مبتدأ ومصلحون خبره وموضع الجملة نصب بقالوا كما تقول قلت حقاً أو باطلاً ونحن مَبنّية لمشابهتها للحروف وبنيت على الضم لأنها من ضمائر الرفع والضمة علامة الرفع لأنها ضمير الجمع والضمة بعض الواو علامة الجمع في نحو ضاربون ويضربون وقولـه: { لا تُفسدوا في الأرض } جملة في موضع رفع على تقدير قيل لهم شيء فهي اسم ما لم يسمَّ وقولـه إلا كلمة تنبيه وافتتاح للكلام تدخل على كل كلام مكتف بنفسه نحو قولـه إلا أنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وأصله لا دخل عليه ألف الاستفهام والألف إذا دخل على الجحد أخرجه إلى معنى التقرير والتحقيق كقولـه**{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ }** [القيامة: 40] لأنه لا يجوز للمجيب إلا الإقرار ببلى وهم في إنَّهم في موضع نصب بإنّ وهم الآخر يجوز أن يكون فصلاً على ما فسرناه قبل ويجوز أن يكون مبتدأ والمفسدون خبره والجملة خبر إنّ وضم الميم من هم لالتقاء الساكنين ردّوه إلى الأصل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
النزول: الآية نزلت في المنافقين الذين نزلت فيهم الآيات المتقدمة وروي عن سلمان رضي الله عنه أن أهل هذه الصفة لم يأتوا بعد والأول يقتضيه نظم الكلام ويجوز أن يراد بها من صورتهم صورة هؤلاء فيكون قول سلمان محمولاً على أنه راد بعد انقراض المنافقين الذين تناولتهم الآية. المعنى: المراد وإذا قيل للمنافقين لا تُفسدوا في الأرض بعمل المعاصي وصدّ الناس عن الإيمان على ما روي عن ابن عباس أو بممالأة الكفار فإن فيه توهين الإسلام على ما قاله أبو علي أو بتغيير الملة وتحريف الكتاب على ما قاله الضحاك قالوا إنما نحن مصلحون وهو يحتمل أمرين أحدهما أنّ الذي يسمّونه فساداً هو عندنا صلاح لأنا إنما نفعل ذلك كي نسلم من الفريقين والآخر أنهم جحدوا ذلك وقالوا إنا لا نعمل بالمعاصي ولا نمالئ الكفار ولا نحرف الكتاب وكان ذلك نفاقاً منهم كما قالوا { آمنا بالله } ولم تؤمنوا ثم قال { ألا إنهم } أي اعلموا أن هؤلاء المنافقين الذين يعدّون الفساد صلاحاً { هم المفسدون } وهذا تكذيب من الله تعالى { ولكن لا يشعرون } أي لا يعلمون أن ما يفعلونه فسادٌ وليس بصلاح ولو علموا ذلك لرجي صلاحهم وقيل لا يعلمون ما يستحقونه من العقاب وهذه الآية تدل على بطلان مذهب أصحاب المعارف لقولـه: { لا يعلمون } وإنما جاز تكليفهم وإن لم يشعروا أنهم على ضلال لهم طريقاً إلى العلم بذلك.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) | اعلم أن هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين، والكلام فيه من وجوه: أحدها: أن يقال: من القائل { لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ }؟ وثانيها: ما الفساد في الأرض؟ وثالثها: من القائل: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }؟ ورابعها: ما الصلاح؟. أما المسألة الأولى: فمنهم من قال: ذلك القائل هو الله تعالى، ومنهم من قال: هو الرسول عليه السلام، ومنهم من قال بعض المؤمنين، وكل ذلك محتمل، ولا يجوز أن يكون القائل بذلك من لا يختص بالدين والنصيحة، وإن كان الأقرب هو أن القائل لهم ذلك من شافههم بذلك، فإما أن يكون الرسول عليه السلام بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك فنصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح بمنزلة سائر المؤمنين، وإما أن يقال: إن بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبله منهم وكان ينقلب واعظاً لهم قائلاً لهم: { لاَ تُفْسِدُواْ } فإن قيل: أفما كانوا يخبرون الرسول عليه السلام بذلك؟ قلنا: نعم، إلا أن المنافقين كانوا إذا عوتبوا عادوا إلى إظهار الإسلام والندم وكذبوا الناقلين عنهم وحلفوا بالله عليه كما أخبر تعالى عنهم في قوله:**{ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ }** [التوبة: 74] وقال:**{ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ }** [التوبة: 96]. المسألة الثانية: الفساد خروج الشيء عن كونه منتفعاً به، ونقيضه الصلاح فأما كونه فساداً في الأرض فإنه يفيد أمراً زائداً، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: أن المراد بالفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى، وتقريره ما ذكره القفال رحمه الله وهو أن إظهار معصية الله تعالى إنما كان إفساداً في الأرض، لأن الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه، فحقنت الدماء وسكنت الفتن، وكان فيه صلاح الأرض وصلاح أهلها، أما إذا تركوا التمسك بالشرائع وأقدم كل أحد على ما يهواه لزم الهرج والمرج والاضطراب، ولذلك قال تعالى:**{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ }** [محمد: 22] نبههم على أنهم إذا أعرضوا عن الطاعة لم يحصلوا إلا على الإفساد في الأرض به، وثانيها: أن يقال ذلك الفساد هو مداراة المنافقين للكافرين ومخالطتهم معهم، لأنهم لما مالوا إلى الكفر مع أنهم في الظاهر مؤمنون أوهم ذلك ضعف الرسول صلى الله عليه وسلم وضعف أنصاره، فكان ذلك يجرىء الكفرة على إظهار عداوة الرسول ونصب الحرب له وطمعهم في الغلبة، وفيه فساد عظيم في الأرض. وثالثها: قال الأصم: كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه، وجحد الإسلام، وإلقاء الشبه. المسألة الثالثة: الذين قالوا { إنما نحن مصلحون } هم المنافقون، والأقرب في مرادهم أن يكون نقيضاً لما نهوا عنه، فلما كان الذي نهوا عنه هو الإفساد في الأرض كان قولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } كالمقابل له، وعند ذلك يظهر احتمالان: أحدهما: أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب، وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين، لا جرم قالوا: إنما نحن مصلحون، لأنهم في اعتقادهم ما سعوا إلا لتطهير وجه الأرض عن الفساد.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
وثانيهما: أنا إذا فسرنا { لاَ تُفْسِدُواْ } بمداراة المنافقين للكفار فقولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } يعني به أن هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار، ولذلك حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا:**{ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً }** [النساء: 62] فقولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي نحن نصلح أمور أنفسنا. واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أن من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه، وتجويز خلافه لا يطعن فيه، وتوبة الزنديق مقبولة والله أعلم. وأما قوله: { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } فخارج على وجوه ثلاثة: أحدها: أنهم مفسدون لأن الكفر فساد في الأرض، إذ فيه كفران نعمة الله، وإقدام كل أحد على ما يهواه، لأنه إذا كان لا يعتقد وجود الإله ولا يرجو ثواباً ولا عقاباً تهارج الناس، ومن هذا ثبت أن النفاق فساد ولهذا قال: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ } على ما تقدم تقريره.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) | «إذا» في موضع نصب على الظرف والعامل فيها «قالوا» وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر. قال الجوهري: «إذا» ٱسم يدلّ على زمان مستقبل، ولم تستعمل إلا مضافة إلى جملة تقول: أجيئك إذا احمرّ الْبُسْر، وإذا قدِم فلان. والذي يدل على أنها ٱسم وقوعها موقع قولك: آتيك يوم يقدَم فلان فهي ظرف وفيها معنى المجازاة. وجزاء الشرط ثلاثة: الفعل والفاء وإذا فالفعل قولك: إن تأتني آتك. والفاء: إن تأتني فأنا أحسِن إليك. وإذا كقوله تعالى:**{ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ }** [الروم:36]. ومما جاء من المجازاة بإذا في الشعر قول قيس بن الخَطِيم:
| **إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان وصلُها** | | **خُطانا إلى أعدائنا فنُضارِبِ** |
| --- | --- | --- |
فعطف «فنضارب» بالجزم على «كان» لأنه مجزوم، ولو لم يكن مجزوماً لقال: فنضاربَ بالنصب. وقد تزاد على «إذا» «ما» تأكيداً، فيُجزم بها أيضاً ومنه قول الفَرَزْدَق:
| **فقام أبو لَيْلَى إليه ٱبنُ ظالمٍ** | | **وكان إذا ما يسلُلِ السيفَ يضرِبِ** |
| --- | --- | --- |
قال سيبويه: والجيّد ما قال كعب بن زُهَير:
| **وإذا ما تشاءُ تبعثُ منها** | | **مغربَ الشمسِ ناشِطاً مَذْعُورَا** |
| --- | --- | --- |
يعني أن الجيّد ألا يجزم بإذا كما لم يجزم في هذا البيت. وحكي عن المبرّد أنها في قولك في المفاجأة: خرجت فإذا زيد، ظرف مكان لأنها تضمنت جُثّة. وهذا مردود لأن المعنى خرجت فإذا حضور زيد فإنما تضمّنت المصدر كما يقتضيه سائر ظروف الزمان ومنه قولهم: «اليومَ خَمْرٌ وغداً أمرٌ» فمعناه وجود خمر ووقوع أمر. قوله: { قِيلَ } من القَول وأصله قَوِل نُقِلت كسرة الواو إلى القاف فٱنقلبت الواو ياء. ويجوز: «قيل لهم» بإدغام اللام في اللام. وجاز الجمع بين ساكنين لأن الياء حرف مدّ ولين. قال الأخفش: ويجوز «قُيُل» بضم القاف والياء. وقال الكسائي: ويجوز إشمام القاف الضم ليدل على أنه لما لم يسم فاعله، وهي لغة قيس. وكذلك جِيءَ وغِيضَ وحِيل وسِيق وسِيء وسِيئت. وكذلك روى هشام عن ٱبن عباس، ورُوَيْس عن يعقوب. وأَشَمّ منها نافع سيء وسيئت خاصة. وزاد ٱبن ذَكوان: حِيل وسِيق وكسر الباقون في الجميع. فأما هُذيل وبنو دُبَير من أسد وبني فَقْعَس فيقولون: «قوْل» بواو ساكنة. قوله: { لاَ تُفْسِدُواْ } «لا» نهي. والفساد ضدّ الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدّها. فَسَد الشيء يَفْسِدُ فَساداً وفُسوداً وهو فاسد وفِسيد. والمعنى في الآية: لا تُفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وقيل: كانت الأرض قبل أن يبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها الفساد، ويفعل فيها بالمعاصي فلما بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ٱرتفع الفساد وصلحت الأرض. فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها كما قال في آية أخرى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
**{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا }** [الأعراف:56] قوله: { فِي ٱلأَرْضِ } الأرض مؤنثة، وهي ٱسم جنس، وكان حق الواحدة منها أن يقال أَرْضَةَ، ولكنهم لم يقولوا. والجمع أَرضات لأنهم قد يجمعون المؤنث الذي ليست فيه هاء التأنيث بالتاء كقولهم: عُرُسات. ثم قالوا أَرضون فجمعوا بالواو والنون والمؤنث لا يجمع بالواو والنون إلا أن يكون منقوصاً كُثَبة وظُبَة، ولكنهم جعلوا الواو والنون عوضاً من حذفهم الألف والتاء وتركوا فتحة الراء على حالها، وربما سُكّنت. وقد تجمع على أُرُوض. وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون: أرْض وآراض، كما قالوا: أهل وآهال. والأراضي أيضاً على غير قياس كأنهم جمعوا آرُضًا. وكل ما سفل فهو أرض. وأَرْض أرِيضة أي زكيّة بيّنة الأراضة. وقد أُرِضت بالضم، أي زكت. قال أبو عمرو: نزلنا أرضاً أريضة أي معجبة للعين ويقال: لا أرض لك، كما يقال: لا أمّ لك. والأرض: أسفل قوائم الدابة قال حُمَيد يصف فرساً:
| **ولم يُقَلِّب أرْضَها البَيْطَارُ** | | **ولا لَحْبَلَيْهِ بِها حَبَارُ** |
| --- | --- | --- |
أي أثر. والأرض: النَّفْضَة والرِّعْدة. روى حماد بن سلمة عن قتادة عن عبد اللَّه بن الحارث قال: زُلْزِلَت الأرض بالبصرة فقال ٱبن عباس: والله ما أدريٰ أزُلزلت الأرض أم بي أرْض؟ أي أم بي رِعدة وقال ذو الرُّمّة يصف صائداً:
| **إذا تَوَجّس رِكْزاً من سَنابكها** | | **أو كان صاحبَ أرضٍ أو به الْمُومُ** |
| --- | --- | --- |
والأرض: الزّكام. وقد آرضه الله إيراضاً أي أزكمه فهو مأروض. وفسِيل مستأرِض، ووَدِيّة مستأرِضة بكسر الراء وهو أن يكون له عِرق في الأرض فأما إذا نبت على جذع النخل فهو الراكب. والإراض بالكسر: بساط ضخم من صوف أو وبر. ورجل أريض أي متواضع خليق للخير. قال الأصمعي يقال: هو آرَضُهم أن يفعل ذلك أي أخلقهم. وشيء عرِيض أرِيض إتباع له وبعضهم يفرده ويقول: جَدْيٌ أرِيض أي سمين. قوله: { نَحْنُ } أصل «نحن» نَحُنْ، قُلبت حركة الحاء على النون وأسكنت الحاء قاله هشام بن معاوية النحوي. وقال الزجاج: «نحن» لجماعة، ومن علامة الجماعة الواو، والضمة من جنس الواو فلما ٱضطروا إلى حركة «نحن» لالتقاء الساكنين حركوها بما يكون للجماعة. قال: لهذا ضموا واو الجمع في قوله عز وجل:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ }** [البقرة:16]. وقال محمد بن يزيد: «نحن» مثل قَبْلُ وبعدُ لأنها متعلقة بالإخبار عن ٱثنين وأكثر، فـ «ـأنا» للواحد و «نحن» للتثنية والجمع، وقد يخبر به المتكلم عن نفسه في قوله: نحن قمنا قال الله تعالى:**{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ }** [الزخرف:32]. والمؤنّث في هذا إذا كانت متكلمة بمنزلة المذكر تقول المرأة: قمت وذهبت، وقمنا وذهبنا، وأنا فعلت ذاك، ونحن فعلنا. هذا كلام العرب فٱعلم. قوله تعالى: { مُصْلِحُونَ } ٱسم فاعل من أصلح. والصلاح: ضد الفساد. وصَلُح الشيء بضم اللام وفتحها لغتان قاله ٱبن السِّكِّيت. والصُّلوح بضم الصاد مصدر صَلُح بضم اللام قال الشاعر:
| **فكيف بإطراقي إذا ما شَتَمْتَنِي** | | **وما بعدَ شَتْمِ الوالدين صُلُوحُ** |
| --- | --- | --- |
وصلاح من أسماء مكة. والصِّلْح بكسر الصاد: نهر. وإنما قالوا ذلك على ظنهم لأن إفسادهم عندهم إصلاح أي أن ممالأتنا للكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. قاله ٱبن عباس وغيره.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ } عطف على { يَكْذِبُونَ } أو { يِقُولُ }. وما روي عن سلمان رضي الله عنه أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد فلعله أراد به أن أهلها ليس الذين كانوا فقط، بل وسيكون من بعد من حاله حالهم لأن الآية متصلة بما قبلها بالضمير الذي فيها. والفساد: خروج الشيء عن الاعتدال. والصلاح ضده وكلاهما يعمان كل ضار ونافع.
وكان من فسادهم في الأرض هَيْجُ الحُروب والفتن بمخادعة المسلمين، وممالأة الكفار عليهم بإفشاء الأسرار إليهم، فإن ذلك يؤدي إلى فساد ما في الأرض من الناس والدواب والحرث.
ومنه إظهار المعاصي والإهانة بالدين فإن الإخلال بالشرائع والإعراض عنها مما يوجب الهرج والمرج ويخل بنظام العالم. والقائل هو الله تعالى، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بعض المؤمنين. وقرأ الكسائي وهشام (قُيْل) بإشمام الضم الأول.
{ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } جواب لـ { إِذَا } رد للناصح على سبيل المبالغة، والمعنى أنه لا يصح مخاطبتنا بذلك، فإن شأننا ليس إلا الإصلاح، وإن حالنا متمحضة عن شوائب الفساد، لأن إنما تفيد قصر ما دخلت عليه على ما بعده. مثل: إنما زيد منطلق، وإنما ينطلق زيد، وإنما قالوا ذلك: لأنهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال الله تعالى:**{ أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً }** [فاطر: 8].
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) | قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الطيب الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } قال هم المنافقون. أما لا تفسدوا في الأرض، قال الفساد هو الكفر، والعمل بالمعصية. وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ } قال يعني لا تعصوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية الله لأنه من عصى الله في الأرض، أو أمر بمعصيته، فقد أفسد في الأرض لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة. وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة. وقال ابن جريج عن مجاهد { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ } قال إذا ركبوا معصية الله، فقيل لهم لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا إنما نحن على الهدى مصلحون وقال وكيع وعيسى بن يونس وعثام بن علي عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأَسَدي عن سلمان الفارسي { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } قال سلمان لم يجىء أهل هذه الآية بعد. وقال ابن جرير حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي عن الأعمش عن زيد بن وهب وغيره عن سلمان الفارسي في هذه الآية قال ما جاء هؤلاء. قال ابن جرير يحتمل أن سلمان رضي الله عنه أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد، قال ابن جرير فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. وهذا الذي قاله حسن، فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء كما قال تعالى**{ وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ٱلأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }** الأنفال 73 فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال تعالى**{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً }** النساء 144 ثم قال**{ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
النساء 145 فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل لأنه هو الذي غر المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له، ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنه استمر على حاله الأول، لكان شره أخف، ولو أخلص العمل لله، وتطابق قوله وعمله، لأفلح وأنجح، ولهذا قال تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء. كما قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. يقول الله { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } يقول ألا إن هذا الذي يعتمدونه، ويزعمون أنه إصلاح، هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فساداً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي لهؤلاء { لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ } بالكفر والتعويق عن الإيمان { قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } وليس ما نحن فيه بفساد. قال الله تعالى ردّاً عليهم:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) | { إذا } في موضع نصب على الظرف والعامل فيه { قالوا } المذكور بعده. وفيه معنى الشرط. والفساد ضد الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها. فسد الشيء يفسد فساداً وفسوداً فهو فاسد وفسيد. والمراد في الآية لا تفسدوا في الأرض بالنفاق، وموالاة الكفرة، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، فإنكم إذا فعلتم ذلك فسد ما في الأرض بهلاك الأبدان وخراب الديار وبطلان الزرائع كما هو مشاهد عند ثوران الفتن والتنازع. و { إنما } من أدوات القصر، كما هو مبين في علم المعاني. والصلاح ضد الفساد. لما نهاهم الله عن الفساد الذي هو دأبهم أجابوا بهذه الدعوى العريضة، ونقلوا أنفسهم من الاتصاف بما هي عليه حقيقة وهو الفساد، إلى الاتصاف بما هو ضدّ لذلك وهو الصلاح، ولم يقفوا عند هذا الكذب البحت والزور المحض حتى جعلوا صفة الصلاح مختصة بهم خالصة لهم، فردّ الله عليهم ذلك أبلغ ردّ لما يفيده حرف التنبيه من تحقق ما بعده، ولما في إن من التأكيد، وما في تعريف الخبر مع توسيط ضمير الفصل من الحصر المبالغ فيه بالجمع بين أمرين من الأمور المفيدة له، وردّهم إلى صفة الفساد التي هم متصفون بها في الحقيقة ردّاً مؤكداً مبالغاً فيه بزيادة على ما تضمنته دعواهم الكاذبة من مجرد الحصر المستفاد من { إنما }. وأما نفي الشعور عنهم فيحتمل أنهم لما كانوا يظهرون الصلاح مع علمهم أنهم على الفساد الخالص، ظنوا أن ذلك ينفق على النبي صلى الله عليه وسلم، وينكتم عنه بطلان ما أضمروه، ولم يشعروا بأنه عالم به، وأن الخبر يأتيه بذلك من السماء، فكان نفي الشعور عنهم من هذه الحيثية لا من جهة أنهم لا يشعرون بأنهم على الفساد. ويحتمل أن فسادهم كان عندهم صلاحاً لما استقرّ في عقولهم من محبة الكفر وعداوة الإسلام. وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال الفساد هنا هو الكفر والعمل بالمعصية. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال إذا ركبوا معصية فقيل لهم لا تفعلوا كذا قالوا إنما نحن على الهدى. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمان أنه قرأ هذه الآية فقال لم يجىء أهل هذه الآية بعد. قال ابن جرير يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد انتهى. ويحتمل أن سلمان يرى أن هذه الآية ليست في المنافقين بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف في المسلمين كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ) | قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } قرأ الكسائي برفع القاف وكذلك كل ما ذكر في القرآن مثل قيل، وحيل، وسيق. وقرأ حمزة وعاصم وغيرهما بكسر القاف، وأصله في اللغة قول مع الواو، فحذفت الواو للتخفيف. فجعل الكسائي الرفع مكان الواو وغيره، وقرأ بالكسر للتخفيف. والآية نزلت في شأن المنافقين { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } يعني المنافقين { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أي: لا تعملوا فيها بالمعاصي [وهو الفساد] لأن الأرض كانت قبل أن يبعث النبي - عليه السلام - فيها الفساد، وكان يعمل فيها بالمعاصي فلما بعث الله النبي - عليه السلام - ارتفع الفساد وصلحت الأرض، فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، كما قال في آية أخرى**{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا }** [الأعراف: 85] { قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي نعمل بالطاعة، ولا نعمل بالمعاصي وقد قيل: معنى لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها أي لا تداهنوا بين الناس ولا تعملوا بالمداهنة { قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } يعني لا نعادي الكفار ولا المؤمنين حتى لو كانت الغلبة للمؤمنين أو للكفار، لا يصيبنا من دائرتهم شيء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ) | قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا في الأَرضِ } فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنه الكفر.
والثاني: فعل ما نهى الله عنه، وتضييع ما أمر بحفظه.
والثالث: أنه ممالأة الكفار.
وكل هذه الثلاثة، فساد في الأرض، لأن الفساد العدول عن الاستقامة إلى ضدها.
واختلف فِيمَنْ أُريدَ بهذا القول على وجهين:
أحدهما: أنها نزلت في قوم لهم يكونوا موجودين في ذلك الوقت، وإنما يجيئون بعد، وهو قول سليمان.
والثاني: أنها نزلت في المنافقين، الذين كانوا موجودين، وهو قول ابن عباس ومجاهد.
{ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } فيه أربعة تأويلات:
أحدها: أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحاً لهم، وليس كما ظنوا، لأن الكفار لو يظفرون بهم، لم يبقوا عليهم، فلذلك قال: { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ }.
والثاني: أنهم أنكروا بذلك، أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه من ممالأة الكفار، وقالوا إنما نحن مصلحون في اجتناب ما نهينا عنه.
والثالث: معناه أن ممالأتنا الكفار، إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين، وهذا قول ابن عباس.
والرابع: أنهم أرادوا أن ممالأة الكفار صلاح وهدى، وليست بفساد وهذا قول مجاهد.
فإن قيل: فكيف يصح نفاقهم مع مجاهدتهم بهذا القول؛ ففيه جوابان:
أحدهما: أنهم عرَّضوا بهذا القول، وكَنُّوا عنه من غير تصريح به.
والثاني: أنهم قالوا سراً لمن خلوا بهم من المسلمين، ولم يجهروا به، فبقوا على نفاقهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ } قرأ الكسائي: «قيل» و«غيض» و«جيء» و«حيل» و«سيق» و«سيئت» بروم أوائلهن الضم - ووافق ابن عامر في «سيق» و«حيل» و«سيىء» و«سيئت» - ووافق أهل المدينة في: سيء وسيئت لأن أصلها قول بضم القاف وكسر الواو، مثل قتل وكذل في أخواته، فأشير إلى الضمة لتكون دالة على الواو المنقلبة وقرأ الباقون بكسر أوائلهن، استثقلوا الحركة على الواو فنقلوا كسرتها إلى فاء الفعل وانقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } يعني للمنافقين، وقيل: لليهود أي: قال لهم المؤمنون { لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ } بالكفر وتعويق الناس عن الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وقيل معناه لا تكفروا، والكفر أشد فساداً في الدين { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } يقولون هذا القول كذباً كقولهم آمنا وهم كاذبون { أَلآ } كلمة تنبيه ينبه بها المخاطب { إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } أنفسهم بالكفر والناس بالتعويق عن الإيمان { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } أي: لا يعلمون أنهم مفسدون لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاح. وقيل: لا يعلمون ما أعدّ الله لهم من العذاب. { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي للمنافققين وقيل لليهود { ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ } عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب، وقيل كما آمن المهاجرون والأنصار { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } أي الجهال فإن قيل كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم: أنؤمن كما آمن السفهاء قيل أنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين. فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك فرد اللَّه عليهم فقال: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } أنهم كذلك فالسفيه خفيف العقل رقيق الحلم من قولهم: ثوب سفيه أي رقيق وقيل السفيه الكذاب الذي يتعمد الكذب بخلاف ما يعلم. قرأ أهل الكوفة والشام السفهاء ألا بتحقيق الهمزتين وكذلك كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا والآخرون يحققون الأولى ويلينون الثانية في المختلفتين طلباً للخفة فإن كانتا متفقتين مثل: هؤلاء، وأولياء، وأولئك، وجاء أمر ربك - قرأها أبو عمرو والبزي عن ابن كثير بهمزة واحدة، وقرأ أبو جعفر وورش والقواش ويعقوب بتحقيق الأولىٰ وتليين الثانية، وقرأ قالون بتخفيف الأولى وتحقيق الثانية لأن ما يستأنف أولى بالهمزة مما يسكت عليه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) | المرض عباة مستعارة للفساد الذي في عقائد هؤلاء المنافقين وذلك إما أن يكون شكاً، وإما حجداً بسبب حسدهم مع علمهم بصحة ما يحجدون، وبنحو هذا فسر المتأولون.
وقال قوم: " المرض غمهم بظهور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وقرأ الأصمعي عن أبي عمر: " مرْض " بسكون الراء وهي لغة في المصدر قال أبو الفتح: " وليس بتخفيف ".
واختلف المتأولون في معنى قوله { فزادهم الله مرضاً } فقيل هو دعاء عليهم، وقيل هو خبر أن الله قد فعل بهم ذلك، وهذه الزيادة هي بما ينزل من الوحي ويظهر من البراهين، فهي على هؤلاء المنافقين عمى وكلما كذبوا زاد المرض.
وقرأ حمزة: " فزادهم " بكسر الزاي، وكذلك ابن عامر. وكان نافع يشم الزاي إلى الكسر، وفتح الباقون. و { أليم } معناه مؤلم كما قال الشاعر وهو عمرو بن معدي كرب: [الوافر].
| **أمن ريحانة الداعي السميع** | | |
| --- | --- | --- |
بمعنى: مسمع.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر " يُكذِّبون " بضم الياء وتشديد الذال.
وقرأ الباقون بفتح الياء وتخفيف الذال. فالقراءة بالتثقيل يؤيدها قوله تعالى قبل { وما هم بمؤمنين } فهذا إخبار بأنهم يكذبون. والقراءة بالتخفيف يؤيدها أن سياق الآيات إنما هي إخبار بكذبهم، والتوعد بالعذاب الأليم، متوجه على التكذيب، وعلى الكذب في مثل هذه النازلة، إذ هو منطوٍ على الكفر، وقراءة التثقيل أرجح. و { إذا } ظرف زمان، وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة خرجت فإذا زيد ظرف مكان، لأنها تضمنت جثة، وهذا مردود لأن المعنى " خرجت فإذا حضور زيد " فإنما تضمنت المصدر، كما يقتضيه سائر ظروف الزمان، ومنه قولهم: " اليوم خمر، وغداً أمر " فمعناه وجود خمر ووقوع أمر، والعامل في { إذا } في هذه الآية { قالوا }. وأصل { قيل } قول نقلت حركة الواو إلى القاف فقلبت ياء لانكسار ما قبلها.
وقرأ الكسائي: " قُيل وغُيض وسُيء وسُيئت وحُيل وسُيق وجُيء " بضم أوائل ذلك كله. وروي مثل ذلك عن ابن عامر. وروي أيضاً عنه أنه كسر " غِيض وقِيل وجِيء " ، الغين والقاف والجيم حيث وقع من القرآن وضم نافع من ذلك كله حرفين " سُيء وسُيئت " وكسر ما بقي. وكان ابن كثير وعاصم وأبوعمرو وحمزة يكسرون أوائل هذه الحروف كلها، والضمير في { لهم } هو عائد إلى المنافقين المشار إليهم قبل.
وقال بعض الناس: " الإشارة هنا هي إلى منافقي اليهود ".
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: لم يجىء هؤلاء بعد ومعنى قوله: لم ينقرضوا بل هم يجيئون في كل زمان.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
و { لا تفسدوا في الأرض } معناه بالكفر وموالاة الكفرة، و { نحن } اسم من ضمائر المرفوع مبني على الضم، إذ كان اسماً قوياً يقع للواحد المعظم والاثنين والجماعة، فأعطي أسنى الحركات.
وأيضاً فلما كان في الأغلب ضمير جماعة، وضمير الجماعة في الأسماء الظاهرة الواو أعطي الضمة إذ هي أخت الواو، ولقول المنافقين: { إنما نحن مصلحون } ثلاث تأويلات:
أحدها: جحد أنهم مفسدون وهذا استمرار منهم على النفاق.
والثاني: أن يقروا بموالاة الكفار ويدعون أنها صلاح من حيث هم قرابة توصل.
والثالث: أنهم مصلحون بين الكفار والمؤمنين، فلذلك يداخلون الكفار. و { ألا } استفتاح كلام، و " إن " بكسر الألف استئناف، و { هم } الثاني رفع بالابتداء، و { المفسدون } خبره والجملة خبر " إن " ، ويحتمل أن يكون فصلاً ويسميه الكوفيون: " العماد " ويكون { المفسدون } خبر " إن " فعلى هذا لا موضع لـ { هم } من الإعراب، ويحتمل أن يكون تأكيداً للضمير في أنهم فموضعه نصب، ودخلت الألف واللام في قوله: { المفسدون } لما تقدم ذكر اللفظة في قوله: { لا تفسدوا } فكأنه ضرب من العهد، ولو جاء الخبر عنهم ولم يتقدم من اللفظة ذكر لكان ألا إنهم مفسدون، قاله الجرجاني.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الألف واللام تتضمن المبالغة كما تقول زيد هو الرجل أي حق الرجل، فقد تستغني عن مقدمة تقتضي عهداً، و { لكن } بجملته حرف استدراك، ويحتمل أن يراد هنا لا يشعرون أنهم مفسدون، ويحتمل أن يراد لا يشعرون أن الله يفضحهم، وهذا مع أن يكون قولهم { إنما نحن مصلحون } جحداً محضاً للإفساد. والاحتمال الأول هو بأن يكون قولهم: { إنما نحن مصلحون } اعتقاداً منهم أنه صلاح في صلة القرابة، أو إصلاح بين المؤمنين والكافرين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) | قوله تعالى: { وإِذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } اختلفوا فيمن نزلت على قولين.
أحدهما: أنها نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول الجمهور، منهم ابن عباس، ومجاهد.
والثاني: أن المراد بها قوم لم يكونوا خلقوا حين نزولها، قاله سلمان الفارسي. وكان الكسائي يقرأ بضم القاف من «قيل» والحاء من «حيل» والغين من «غيض»، والجيم من «جيء»، والسين من «سيء» و«سيئت». وكان ابن عامر يضم من ذلك ثلاثة«حيل» و«سبق» و«سيء» و«سئيت». وكان نافع يضم «سيء» و«سيئت»، ويكسر البواقي، والآخرون يكسرون جميع ذلك.
وقال الفراء: أهل الحجاز من قريش ومن جاورهم من بني كنانة يكسرون القاف في «قيل» و«جيء» و«غيض»، وكثير من عقيل ومن جاورهم وعامة أسد، يشمون إلى الضم من «قيل» و«جيء».
وفي المراد بالفساد هاهنا خمسة أقوال.
أحدها: أنه الكفر، قاله ابن عباس.
والثاني: العمل بالمعاصي، قاله أبو العالية، ومقاتل.
والثالث: أنه الكفر والمعاصي، قاله السّدي عن أشياخه.
والرابع: أنه ترك امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، قاله مجاهد.
والخامس: أنه النفاق الذي صادفوا به الكفار، وأطلعوهم على أسرار المؤمنين، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله.
قوله تعالى: { إِنما نحن مصلحون } فيه خمسة أقوال.
أحدها: أن معناه إنكار ماعرفوا به، وتقديره: ما فعلنا شيئاً يوجب الفساد.
والثاني: أن معناه: إنا نقصد الإصلاح بين المسلمين والكافرين، والقولان عن ابن عباس.
والثالث: أنهم أرادوا مصافاة الكفار صلاح، لا فساد، قاله مجاهد، وقتادة.
والرابع: أنهم أرادوا أن فعلنا هذا هو الصلاح، وتصديق محمد هو الفساد، قاله السّدي.
والخامس: أنهم ظنوا أن مصافاة الكفار صلاح في الدنيا لا في الدين، لأنهم اعتقدوا أن الدولة إن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فقد أمنوه بمبايعته وإن كانت للكفار فقد أمنوهم بمصافاتهم، ذكره شيخنا.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ) | { لا تُفْسِدُواْ } بالكفر، أو بفعل ما نهيتم عنه، وتضييع ما أمرتم به، أو بممايلة الكفار. نزلت في المنافقين، أو في قوم لم يكونوا موجودين حنيئذٍ بل جاءوا فيما بعد قاله سلمان: { مُصْلِحُونَ } ظنوا ممايلة الكفار صلاحاً لهم، وليس كذلك، لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم، أو مصلحون في اجتناب ما نهينا عنه إنكاراً لممايلة الكفار، أو نريد بممايلتنا الكفار الإصلاح بينهم وبين المؤمنين، أو إن ممايلة الكفار صلاح وهدى ليست بفساد، عرَّضوا بهذا، أو قالوه لمن خلوا به من المسلمين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل/ النسفي (ت 710 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } معطوف على «يكذبون» ويجوز أن يعطف على «يقول آمنا» لأنك لو قلت ومن الناس من إذا قيل لهم { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } لكان صحيحاً، والفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به، وضده الصلاح وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، وكان فساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم وذلك مما يؤدي إلى هيج الفتن بينهم. { قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } بين المؤمنين والكافرين بالمداراة يعني أن صفة المصلحين خلصت لنا وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد، لأن «إنما» لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك «إنما ينطلق زيد وإنما زيد كاتب» و «ما» كافة لأنها تكفها عن العمل. { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } أنهم مفسدون فحذف المفعول للعمل به. «ألا» مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحققاً كقوله تعالى:**{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ }** [القيامة: 40]، ولكونها في هذا المنصب من التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، وقد رد الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ رد وأدله على سخط عظيم والمبالغة فيه من جهة الاستئناف، وما في «ألا» و «إن» من التأكيد وتعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله «لا يشعرون».
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَا ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء } نصحوهم من وجهين: أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده عن الصواب وجره إلى الفساد، وثانيهما تبصيرهم الطريق الأسَدَََّ من اتباع ذوي الأحلام، فكان من جوابهم أن سفهوهم لتمادي جـهلهم، وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة. وإنما صح إسناد «قيل» إلى «لا تفسدوا» و«آمنوا» مع أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يصح، لأنه إسناد إلى لفظ الفعل والممتنع إسناد الفعل إلى معنى الفعل فكأنه قيل: وإذا قيل لهم هذا القول ومنه زعموا مطية الكذب. و «ما» في كما كافة في «ربما»، أو مصدرية كما في**{ بِمَا رَحُبَتْ }** [التوبة: 25] واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه وهم ناس معهودون، أو عبد الله بن سلام وأشياعه أي كما آمن أصحابكم وإخوانكم، أو للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم، والكاف في «كما» في موضع النصب لأنه صفة مصدر محذوف أي إيماناً مثل إيمان الناس ومثله كما آمن السفهاء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
والاستفهام في «أنؤمن» للإنكار، في «السفهاء» مشار بها إلى الناس، وإنما سفهوهم وهم العقلاء المراجيح لأنهم لجهلهم اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً والسفه سخافة العقل وخفة الحلم. { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَاءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } أنهم هم السفهاء. وإنما ذكر هنا «لا يعلمون» وفيما تقدم «لا يشعرون» لأنه قد ذكر السفه وهوجهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له، ولأن الإيمان يحتاج فيه إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة، أما الفساد في الأرض فأمر مبني على العادات فهو كالمحسوس. والسفهاء خبر «إن» و «هم» فصل أو مبتدأ والسفهاء خبرهم والجملة خبر «إن».
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا } وقرأ أبو حنيفة رحمه الله «وإذا لاقوا» يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه. الآية الأولى في بيان مذهب المنافقين والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان ما كانوا يعملون مع المؤمنين من الاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم. { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه، وبإلى أبلغ لأن فيه دلالة الابتداء والانتهاء أي إذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى مضى. وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم اليهود. وعن سيبويه أن نون الشياطين أصلية بدليل قولهم «تشيطن»، وعنه أنها زائدة واشتقاقه من «شطن» إذا بعد لبعده من الصلاح والخير، أو من شاط إذا بطل ومن أسمائه الباطل. { قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ } إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم. وإنما خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالاسمية محققة بـ «إن» لأنهم في خطابهم مع المؤمنين في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التأكيد والمبالغة، وكيف يطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار. وأما خطابهم مع إخوانهم فقد كان عن رغبة وقد كان متقبلاً منهم رائجاً عنهم فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتأكيد. وقوله { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } تأكيد لقوله «إنا معكم» لأن معناه الثبات على اليهودية، وقوله «إنما نحن مستهزئون» رد للإسلام ودفع لهم منهم لأن المستهزىء بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتداً به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو استنئاف كأنهم اعترضوا عليهم بقولهم حين قالوا إنا معكم إن كنتم معنا فلم توافقون المؤمنين فقالوا إنما نحن مستهزئون. والاستهزاء السخرية والاستخفاف وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ مات على المكان.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمُ } أي يجازيهم على استهزائهم فسمى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله تعالى:**{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا }** [الشورى: 40].**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ }** [البقرة: 194] فسمى جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن الجزاء سيئة واعتداء، وهذا لأن الاستهزاء لا يجوز على الله تعالى من حيث الحقيقة لأنه من باب العبث وتعالى عنه. قال الزجاج: هو الوجه المختار. واستئناف قوله تعالى «الله يستهزىء بهم» من غير عطف في غاية الجزالة والفخامة، وفيه أن الله هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء لما ينزل بهم من النكال والذل والهوان. ولما كانت نكايات الله وبلاياه تنزل عليهم ساعة فساعة قيل «الله يستهزىء بهم» ولم يقل الله مستهزىء بهم ليكون طبقاً لقوله «إنما نحن مستهزؤون» { وَيَمُدُّهُمْ } أي يمهلهم عن الزجاج { فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } في غلوهم في كفرهم { يَعْمَهُونَ } حال أي يتحيرون ويترددون وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح. { أُوْلَـٰئِكَ } مبتدأ خبره. { ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } أي استبدلوها به واختاروها عليه. وإنما قال اشتروا الضلالة بالهدى ولم يكونوا على هدى لأنها في قوم آمنوا ثم كفروا، أو في اليهود الذين كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم فلما جاءهم كفروا به، أو جعلوا لتمكنهم منه كأن الهدى قائم فيهم فتركوه بالضلالة، وفيه دليل على جواز البيع تعاطياً لأنهم لم يتلفظوا الشراء ولكن تركوا الهدى بالضلالة عن اختيارهم، وسمي ذلك شراء فصار دليلاً لنا على أن من أخذ شيئاً من غيره ترك عليه عوضه برضاه فقد اشتراه وإن لم يتكلم به. والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء، يقال ضل منزله فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين. { فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ } الربح الفضل على رأس المال، والتجـارة صناعة التاجر وهو الذي يبيع ويشتري للربح، وإسناد الربح إلى التجارة من الإسناد المجـازي، ومعناه فما ربحوا في تجارتهم إذ التجارة لا تربح، ولما وقع شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ذكر الربح والتجـارة ترشيحاً له كقوله:
| **ولما رأيت النسر عز ابن دأية** | | **وعشش في وكريه جاش له صدري** |
| --- | --- | --- |
لما شبه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب أتبعه ذكر التعشيش والوكر. { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر. والمعنى أن مطلوب التجار سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوهما، فرأس مالهم الهدى ولم يبق لهم مع الضلالة، وإذا لم يبق لهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح وإن ظفروا بالأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح. وقيل: «الذين» صفة «أولئك» و«فما ربحت تجارتهم» إلى آخر الآية في محل رفع خبر «أولئك».
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير لباب التأويل في معاني التنزيل/ الخازن (ت 725 هـ) | { في قلوبهم مرض } أي شك ونفاق وأصل المرض الضعف والخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان وسمي الشك في الدين والنفاق مرضاً لأنه يضعف الدين كالمرض يضعف البدن { فزادهم الله مرضاً } يعني أن الآيات كانت تنزل تترى، أي آية بعد آية فلما كفروا بآية ازدادوا بعد ذلك كفراً ونفاقاً { ولهم عذاب أليم } أي مؤلم يخلص وجعه إلى قلوبهم { بما كانوا يكذبون } أي بتكذيبهم الله ورسوله في السر، وقرئ بالتخفيف أي بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين { وإذا قيل لهم } يعني المنافقين وقيل اليهود والمعنى إذا قال لهم المؤمنون { لا تفسدوا في الأرض } أي بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن { قالوا إنما نحن مصلحون } يعني يقولونه كذباً { ألا } كلمة تنبيه ينبه بها المخاطب { إنهم هم المفسدون } يعني في الأرض بالكفر وهو أشد الفساد { ولكن لا يشعرون } وذلك لأنهم يظنون إن ما هم عليه من النفاق وإبطان الكفر صلاح وهو عين الفساد. وقيل لا يشعرون ما أعد الله لهم من العذاب { وإذا قيل لهم } يعني المنافقين وقيل اليهود { آمنوا كما آمن الناس } يعني المهاجرين والأنصار. وقيل عبدالله بن سلام وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب، والمعنى أخلصوا في إيمانكم كما أخلص هؤلاء في إيمانهم لأن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان { قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء } أي الجهال. فإن قلت كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم: أنؤمن كما آمن السفهاء. قلت كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك فرد الله ذلك عليهم بقوله { ألا إنهم هم السفهاء } يعني الجهال. وأصل السفه خفة العقل ورقة العلم وإنما سمى الله المنافقين سفهاء لأنهم كانوا عند أنفسهم عقلاء رؤساء فقلب ذلك عليهم وسماهم سفهاء { ولكن لا يعلمون } يعني أنهم كذلك. قوله تعالى: { وإذا لقوا الذين آمنوا } يعني هؤلاء المنافقين إذا لقوا المهاجرين والأنصار { قالوا آمنا } كإيمانكم { وإذا خلوا } أي رجعوا. وقيل هو من الخلوة { إلى } قيل بمعنى الباء أي بـ { شياطينهم } وقيل بمعنى مع أي مع شياطينهم والمراد بشياطينهم رؤساؤهم وكهنتهم قال ابن عباس وهم خمسة نفر: كعب بن الأشرف من اليهود بالمدينة وأبو بردة من بني أسلم، وعبد الدار في جهينة وعوف بن عامر في بني أسد وعبدالله بن السوداء بالشام، ولا يكون كاهن إلاّ ومعه شيطان تابع لهم، وقيل لهم رؤساؤهم الذين شابهوا الشياطين في تمردهم { قالوا إنا معكم } أي على دينكم { إنما نحن مستهزئون } أي بمحمد وأصحابه بما نظهر لهم من الإسلام لنأمن شرهم ونقف على سرهم ونأخذ من غنائمهم وصدقاتهم. قال ابن عباس نزلت هذه الآية في عبدالله بن أبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبدالله بن أبي لأصحابه انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم؟ فذهب فأخذ بيد أبي بكر الصديق فقال: مرحباً بالصديق سيد بني تميم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحباً بسيد بن عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيد علي فقال: مرحباً يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختمه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
فقال له علي: اتق الله يا عبدالله ولا تنافق فإن المنافقين شر خليقة الله. فقال مهلاً يا أبا الحسن إني لا أقول هذا نفاقاً والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم ثم تفرقوا فقال عبدالله لأصحابه كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيراً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ) | إذا: ظرف زمان، ويغلب كونها شرطاً، وتقع للمفاجأة ظرف زمان وفاقاً للرياشي، والزجاج، لا ظرف مكان خلافاً للمبرد، ولظاهر مذهب سيبويه، ولا حرفاً خلافاً للكوفيين. وإذا كانت حرفاً، فهي لما تيقن أو رجح وجوده، ويجزم بها في الشعر، وأحكامها مستوفاة في علم النحو. الفعل الثلاثي الذي انقلب عين فعله ألفاً في الماضي، إذا بني للمفعول، أخلص كسر أوله وسكنت عينه ياء في لغة قريش ومجاوريهم من بني كنانة، وضم أولها عند كثير من قيس وعقيل ومن جاورهم، وعامة بني أسد. وبهذه اللغة قرأ الكسائي وهشام في: قيل، وغيض، وحيل، وسيـىء، وسيئت، وجيء، وسيق. وافقه نافع وابن ذكوان في: سيـىء، وسيئت. زاد ابن ذكوان: حيل، وساق. وباللغة الأولى قرأ باقي القراءة، وفي ذلك لغة ثالثة، وهي إخلاص ضم فاء الكلمة وسكون عينه واواً، ولم يقرأ بها، وهي لغة لهذيل، وبني دبير. والكلام على توجيه هذه اللغات وتكميل أحكامها مذكور في النحو. الفساد: التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة. قال سهيل في الفصيح: فسد، ونقيضه: الصلاح، وهو اعتدال الحال واستواؤه على الحالة الحسنة.
الأرض: مؤنثة، وتجمع على أرّض وأراض، وبالواو والنون رفعاً وبالياء والنون نصباً وجراً شذوذاً، فتفتح العين، وبالألف والتاء، قالوا: أرضات، والأراضي جمع جمع كأواظب. إنما: ما: صلة لأن وتكفها عن العمل، فإن وليتها جملة فعلية كانت مهيئة، وفي ألفاظ المتأخرين من النحويين وبعض أهل الأصول إنها للحصر، وكونها مركبة من ما النافية، دخل عليها إن التي للإثبات فأفادت الحصر، قول ركيك فاسد صادر عن غير عارف بالنحو، والذي نذهب إليه أنها لا تدل على الحصر بالوضع، كما أن الحصر لا يفهم من أخواتها التي كفت بما، فلا فرق بين: لعل زيداً قائم، ولعل ما زيد قائم، فكذلك: إن زيداً قائم، وإنما زيد قائم، وإذا فهم حصر، فإنما يفهم من سياق الكلام لا أن إنما دلت عليه، وبهذا الذي قررناه يزول الإشكال الذي أوردوه في نحو قوله تعالى:**{ إنما أنت منذر }** [الرعد: 7، النازعات: 45]،**{ قل إنما أنا بشر }** [الكهف: 110]، { إنما أنت منذر من يخشاها }. وأعمال إنما قد زعم بعضهم أنه مسموع من لسان العرب، والذي عليه أصحابنا أنه غير مسموع.
نحن: ضمير رفع منفصل لمتكلم معه غيره أو لمعظم نفسه، وفي اعتلال بنائه على الضم أقوال تذكر في النحو. ألا: حرف تنبيه زعموا أنه مركب من همزة الاستفهام ولا النافية للدلالة على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً، كقوله تعالى:**{ أليس ذلك بقادر }** [القيامة: 40]، ولكونها من المنصب في هذه لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، وقال ذلك الزمخشري.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والذي نختاره أن ألا التنبيهية حرف بسيط، لأن دعوى التركيب على خلاف الأصل، ولأن ما زعموا من أن همزة الاستفهام دخلت على لا النافية دلالة على تحقق ما بعدها، إلى آخره خطاً، لأن مواقع ألا تدلّ على أن لا ليست للنفي، فيتم ما ادعوه، ألا ترى أنك تقول: ألا إن زيداً منطلق، ليس أصله لا أن زيداً منطلق، إذ ليس من تراكيب العرب بخلاف ما نظر به من قوله تعالى:**{ أليس ذلك بقادر }** [القيامة: 40]، لصحة تركيب، ليس زيد بقادر، ولوجودها قبل رب وقبل ليت وقبل النداء وغيرها مما لا يعقل فيه أن لا نافية، فتكون الهمزة للاستفهام دخلت على لا النافية فأفادت التحقيق، قال امرؤ القيس:
| **ألا رب يوم لك منهن صالح** | | **ولا سيما يوم بدارة جلجل** |
| --- | --- | --- |
وقال الآخر:
| **ألا ليت شعري كيف حادث وصلها** | | **وكيف تراعي وصلة المتغيب** |
| --- | --- | --- |
وقال الآخر:
| **ألا يا لقومي للخيال المشوق** | | **وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي** |
| --- | --- | --- |
وقال الآخر:
| **ألا يا قيس والضحاك سيرا** | | **فقد جاوزتما خمر الطريق** |
| --- | --- | --- |
إلى غير هذا مما لا يصلح دخول لا فيه. وأما قوله: لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يلتقي به القسم فغير صحيح، ألا ترى أن الجملة بعدها تستفتح، برب، وبليت، وبفعل الأمر، وبالنداء، وبحبذا، في قوله:
| **ألا حبـذا هنـد وأرض بهـا هنـد** | | |
| --- | --- | --- |
ولا يلتقي بشيء من هذا القسم وعلامة ألا هذه التي هي تنبيه واستفتاح صحة الكلام دونها، وتكون أيضاً حرف عرض فيليها الفعل، وإن وليها الاسم فعلى إضمار الفعل، وحرف جواب بقول القائل: ألم تقم فتقول: ألا بمعنى بلى؟ نقل ذلك صاحب كتاب (وصف المباني في حروف المعاني) قال: وهو قليل شاذ، وأما ألا التي للتمني في قولهم: إلا ماء، فذكرها النحاة في فصل لا الداخل عليها الهمزة. لكن: حرف استدراك، فلا يجوز أن يكون ما قبلها موافقاً لما بعدها، فإن كان نقيضاً أو ضداً جاز، أو خلافاً ففي الجواز خلاف، وفي التصحيح خلاف. وحكى أبو القاسم بن الرمال جواز أعمالها مخففة عن يونس، وحكى ذلك غيره عن الأخفش، وحكى عن يونس أنها ليست من حروف العطف، ولم تقع في القرآن غالباً إلا وواو العطف قبلها، ومما جاءت فيه من غير واو قوله تعالى:**{ لكن الذين اتقوا ربهم }** [آل عمران: 198]**{ لكن الله يشهد }** [النساء: 166] وفي كلام العرب:
| **إن ابن ورقاء لا تخشى غوائله** | | **لكن وقائعه في الحرب تنتظر** |
| --- | --- | --- |
وبقية أحكام لكن مذكورة في النحو. الكاف: حرف تشبيه تعمل الجر وأسميتها مختصة عندنا بالشعر، وتكون زائدة وموافقة لعلى، ومن ذلك قولهم: كخير في جواب من قال كيف أصبحت، ويحدث فيها معنى التعليل، وأحكامها مذكورة في النحو. { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء، الآ إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } ، السفه: الخفة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ومنه قيل للثوب الخفيف النسج سفيه، وفي الناس خفة الحلم، قاله ابن كيسان، أو البهت والكذب والتعمد خلاف ما يعلم، قاله مؤرج، أو الظلم والجهل، قاله قطرب. والسفهاء جمع سفيه، وهو جمع مطرد في فعيل الصحيح الوصف المذكر العاقل الذي بينه وبين مؤنثه التاء، والفعل منه سفه بكسر العين وضمها، وهو القياس لأجل اسم الفاعل. قالوا: ونقيض السفه: الرشد، وقيل: الحكمة، يقال رجل حكيم، وفي ضده سفيه، ونظير السفه النزق والطيش.
{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون } ، اللقاء: استقبال الشخص قريباً منه، والفعل منه لقي يلقى، وقد يقال لاقى، وهو فاعل بمعنى الفعل المجرّد، وسمع للقى أربعة عشر مصدراً، قالوا: لقى، لقيا، ولقية، ولقاة، ولقاء، ولقاء، ولقى، ولقي، ولقياء، ولقياء، ولقيا، ولقيانا، ولقيانة، وتلقاء. الخلو: الانفراد، خلا به أي انفرد، أو المضي،**{ قد خلت من قبلكم سنن }** [آل عمران: 137]. الشيطان، فيعال عند البصريين، فنونه أصلية من شطن، أي بعد، واسم الفاعل شاطن، قال أمية:
| **أيما شاطن عصاه عكاه** | | **ثم يلقى في السجن والأكبال** |
| --- | --- | --- |
وقال رؤبة:
| **وفي أخاديد السياط المتن** | | **شاف لبغي الكلب المشيطن** |
| --- | --- | --- |
ووزنه فعلان عند الكوفيين، ونونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك، قال الشاعر:
| **قد تظفر العير في مكنون قائلة** | | **وقد تشطو على أرماحنا البطل** |
| --- | --- | --- |
والشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب، قاله ابن عباس، وأنثاه شيطانة، قال الشاعر:
| **هي البازل الكوماء لا شيء غيرها** | | **وشيطانة قد جن منها جنونها** |
| --- | --- | --- |
وشياطين: مع شيطان، نحو غراثين في جمع غرثان، وحكاه الفراء، وهذا على تقدير أن نونه زائدة تكون نحو: غرثان، مع اسم معناه الصحبة اللائقة بالمذكور، وتسكينها قبل حركة لغة ربيعة وغنم، قاله الكسائي. وإذا سكنت فالأصح أنها اسم، وإذا ألقيت ألف اللام أو ألف الوصل، فالفتح لغة عامّة العرب، والكسر لغة ربيعة، وتوجيه اللغتين في النحو، ويستعمل ظرف مكان فيقع خبراً عن الجثة والأحداث، وإذا أفرد نوّن مفتوحاً، وهي ثلاثي الأصل من باب المقصور، إذ ذاك لا من باب يد، خلافاً ليونس، وأكثر استعمال معاً حال، نحو: جميعاً، وهي أخص من جميع لأنها تشرك في الزمان نصاً، وجميع تحتمله. وقد سأل أحمد بن يحيـى أحمد بن قادم عن الفرق بين. قام عبد الله وزيد معاً، وقام عبد الله وزيد جميعاً، قال: فلم يزل يركض فيها إلى الليل، وفرق ابن يحيـى: بأن جيمعاً يكون القيام في وقتين وفي وقت واحد، وأما إذا قلت: معاً، فيكون في وقت واحد. الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، وهو استفعل بمعنى الفعل المجرد، وهو فعل، تقول: هزأت به واستهزأت بمعنى واحد، مثل استعجب: بمعنى عجب، وهو أحد المعاني التي جاءت لها استفعل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
{ الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون } المد: التطويل، مدّ الشيء: طوّله وبسطه،**{ ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظلّ }** [الفرقان: 46] وأصل المد: الزيادة، وكل شيء دخل في شيء فكثره فقد مدّه، قاله اللحياني. وأمدّ بمعنى مدّ، مدّ الجيش، وأمدّه: زاده وألحق به ما يقويه من جنسه. وقال بعض أهل العلم: مدّ زاد من الجنس، وأمدّ: زاد من غير الجنس. وقال يونس: مدّ في الخير وأمدّ في الشر. انتهى قوله. ويقال: مدّ النهر وأمدّه نهر آخر، ومادّة الشيء ما يمدّه، الهاء فيه للمبالغة. وقال ابن قتيبة: مددت الدواة وأمددتها بمعنى، ويقال: مددنا القوم: صرنا لهم أنصاراً وأمددناهم بغيرنا. وقال اللحياني: أمد الأمير جنده بالخيل، وفي التنزيل:**{ وأمددناكم بأموال وبنين }** [الإسراء: 6]. الطغيان: مجاوزة المقدار المعلوم، يقال طغى الماء، وطغت النار. العمه: التردد والتحير، وهو شبيه بالعمى، إلا أن العمى توصف به العين التي ذهب نورها، والرأي الذي غاب عنه الصواب. يقال: عمه، يعمه، عمهاً، وعمهاناً فهو: عمه، وعامه. ويقال: برية عمهاء إذا لم يكن بها علم يستدل به. وقال ابن قتيبة: العمه أن يركب رأسه ولا يبصر ما يأتي. وقيل: العمه: العمى عن الرشد.
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } ، الاشتراء والشراء بمعنى: الاستبدال بالشيء والاعتياض منه، إلا أن الاشتراء يستعمل في الابتياع والبيع، وهو مما جاء فيه افتعل بمعنى الفعل المجرد، وهو أحد المعاني التي جاء لها افتعل. الربح: هو ما يحصل من الزيادة على رأس المال. التجارة: هي صناعة التاجر، وهو الذي يتصرف في المال لطلب النموّ والزيادة. المهتدي: اسم فاعل من اهتدى وافتعل فيه للمطاوعة، هديته فاهتدى، نحو: سويته فاستوى، وغممته فاغتم. والمطاوعة أحد المعاني التي جاءت لها افعل، ولا تكون افتعل للمطاوعة مبنية إلا من الفعل المتعَدّي، وقد وهم من زعم أنها تكون من اللازم، وأن ذلك قليل فيها، مستدلاً بقول الشاعر:
| **حتى إذا اشتال سهيل في السحر** | | **كشعلة القابس ترمي بالشرر** |
| --- | --- | --- |
لأن افتعل في البيت بمعنى، فعل. تقول: شال يشول، واشتال يشتال بمعنى واحد، ولا تتعقل المطاوعة، إلا بأن يكون المطاوع متعدياً.
{ وإذا قيل لهم لا تفسدوا } جملة شرطية، ويحتمل أن تكون من باب عطف الجمل استئنافاً ينعي عليهم قبائح أفعالهم وأقوالهم، ويحتمل أن يكون كلاماً، وفي الثاني جزء كلام لأنها من تمام الصلة. وأجاز الزمخشري، وأبو البقاء أن تكون معطوفة على يكذبون، فإذ ذاك يكون لها موضع من الإعراب، وهو النصب، لأنها معطوفة على خبر كان، والمعطوف على الخبر خبر، وهي إذ ذاك جزء من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم. وعلى الاحتمالين الأولين لا تكون جزءاً من الكلام، وهذا الوجه الذي أجازاه على أحد وجهي ما من قوله بما كانوا يكذبون خطأ، وهو أن تكون ما موصولة بمعنى الذي، وذلك أن المعطوف على الخبر خبر، فيكذبون قد حذف منه العائد على ما، وقوله: وإذا قيل لهم إلى آخر الآية لا ضمير فيه يعود على ما، فبطل أن يكون معطوفاً عليه، إذ يصير التقدير: ولهم عذاب أليم بالذي كانوا، { إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } ، وهذا كلام غير منتظم لعدم العائد.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأما وجهها الآخر، وهو أن تكون ما مصدرية، فعلى مذهب الأخفش يكون هذا الإعراب أيضاً خطأ، إذ عنده أن ما المصدرية اسم يعود عليها من صلتها ضمير، والجملة المعطوفة عارية منه. وأما على مذهب الجمهور، فهذا الإعراب شائع، ولم يذكر الزمخشري، وأبو البقاء إعراب هذا سوى أن يكون معطوفاً على يكذبون، أو على يقول، وزعماً أن الأول وجه، وقد ذكرنا ما فيه، والذي نختاره الاحتمال الأول، وهو أن تكون الجملة مستأنفة، كما قررناه، إذ هذه الجملة والجملتان بعدها هي من تفاصيل الكذب ونتائج التكذيب. ألا ترى قولهم: { إنما نحن مصلحون } ، وقولهم: { أنؤمن كما آمن السفهاء } ، وقولهم عند لقاء المؤمنين { آمنا } كذب محض؟ فناسب جعل ذلك جملاً مستقلة ذكرت لإظهار كذبهم ونفاقهم ونسبة السفه للمؤمنين واستهزائهم، فكثر بهذه الجمل واستقلالها ذمهم والرد عليهم، وهذا أولى من جعلها سيقت صلة جزء كلام لأنها إذ ذاك لا تكون مقصودة لذاتها، إنما جيء بها معرفة للموصول إن كان اسماً، ومتممة لمعناه إن كان حرفاً. والجملة بعد إذا في موضع خفض بالإضافة، والعامل فيها عند الجمهور الجواب، فإذا في الآية منصوبة بقوله: { إنما نحن مصلحون }. والذي نختاره أن الجملة بعدها تليها هي الناصبة لإذا لأنها شرطية، وأن ما بعدها ليس في موضع خفض بالإضافة، فحكمها حكم الظروف التي يجازى بها وإن قصرت عن عملها الجزم. على أن من النحويين من أجاز الجزم بها حملاً على متى منصوباً بفعل الشرط، فكذلك إذا منصوبة بفعل الشرط بعدها، والذي يفسد مذهب الجمهور جواز: إذا قمت فعمرو قائم، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، وجواز وقوع إذا الفجائية جواباً لإذا الشرطية، قال تعالى:**{ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم }** [يونس: 21] إذا لهم مكر في آياتنا، وما بعد إذا الفجائية لا يعمل فيما قبلها، وحذف فاعل القول هنا للإبهام، فيحتمل أن يكون الله تعالى، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بعض المؤمنين، وكل من هذا قد قيل، والمفعول الذي لم يسم فاعله، فظاهر الكلام أنها الجملة المصدرة بحرف النهي وهي: { لا تفسدوا في الأرض } ، إلا أن ذلك لا يجوز إلا على مذهب من أجاز وقوع الفاعل جملة، وليس مذهب جمهور البصريين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقد تقدمت المذاهب في ذلك عند الكلام على قوله تعالى: { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } ، والمفعول الذي لم يسم فاعله في ذلك حكمه حكم الفاعل، وتخريجه على مذهب جمهور البصريين أن المفعول الذي لم يسمّ فاعله هو مضمر تقديره هو، يفسره سياق الكلام كما فسر المضمر في قوله تعالى:**{ حتى توارت بالحجاب }** [ص: 32] سياق الكلام والمعنى، وإذا قيل لهم قول شديد فأضمر هذا القول الموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة، فلا موضع لها من الإعراب لأنها مفسرة لذلك المضمر الذي هو القول الشديد، ولا جائز أن يكون لهم في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله لأنه لا ينتظم منه مع ما قبله كلام، لأنه يبقي لا تفسدوا لا ارتباط له، إذ لا يكون معمولاً للقول مفسراً له.
وزعم الزمخشري أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو الجملة التي هي: لا تفسدوا، وجعل ذلك من باب الإسناد اللفظي ونظره بقولك ألف حرف من ثلاثة أحرف، ومنه زعموا مطية الكذب، قال: كأنه قيل، وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام، انتهى. فلم يجعله من باب الإسناد إلى معنى الجملة لأن ذلك لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، فعدل إلى الإسناد اللفظي، وهو الذي لا يختص به الاسم بل يوجد في الإسم والفعل والحرف والجملة، وإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى الإسناد اللفظي، وقد أمكن ذلك بالتخريج الذي ذكرناه. واللام في قوله: لهم، للتبليغ، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها للام عند كلامنا على قوله تعالى: { الحمد لله }. وإفسادهم في الأرض بالكفر، قاله ابن عباس، أو المعاصي، قاله أبو العالية ومقاتل، أو بهما، قاله السدي عن أشياخه؛ أو بترك امتثال الأمر واجتناب النهي، قاله مجاهد؛ أو بالنفاق الذي ضافوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين، ذكره علي بن عبيد الله، أو بإعراضهم عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن؛ أو بقصدهم تغيير الملة، قاله الضحاك، أو باتباعهم هواهم وتركهم الحق مع وضوحه، قاله بعضهم.
وقال الزمخشري: الإفساد في الأرض تهييج الحروب والفتن، قال: لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، قال تعالى:**{ ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل }** [البقرة: 205]،**{ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }** [البقرة: 30]، ومنه قيل لحرب كانت بين طيء: حرب الفساد، انتهى كلامه. ووجه الفساد بهذه الأقوال التي قيلت أنها كلها كبائر عظيمة ومعاص جسيمة، وزادها تغليظاً إصرارهم عليها، والأرض متى كثرت معاصي أهلها وتواترت، قلّت خيراتها ونزعت بركاتها ومنع عنها الغيث الذي هو سبب الحياة، فكان فعلهم الموصوف أقوى الأسباب لفساد الأرض وخرابها. كما أن الطاعة والاستغفار سبب لكثرة الخيرات ونزول البركات ونزول الغيث، ألا ترى قوله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ فقلت استغفروا ربكم }** [نوح: 10]،**{ وأن لو استقاموا على الطريقة }** [الجن: 16]،**{ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا }** [الأعراف: 96]،**{ ولو أنهم أقاموا التوارة والإنجيل }** [المائدة: 66]، الآيات.
وقد قيل في تفسيره ما روي في الحديث من أن الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، وإن معاصيه يمنع الله بها الغيث، فيهلك البلاد والعباد لعدم النبات وانقطاع الأقوات. والنهي عن الإفساد في الأرض من باب النهي عن المسبب، والمراد النهي عن السبب. فمتعلق النهي حقيقة هو مصافاة الكفار وممالأتهم على المؤمنين بإفشاء السر إليهم وتسليطهم عليهم، لإفضاء ذلك إلى هيج الفتن المؤدي إلى الإفساد في الأرض، فجعل ما رتب على المنهي عنه حقيقة منهياً عنه لفظاً. والنهي عن الإفساد في الأرض هنا كالنهي في قوله تعالى:**{ ولا تعثوا في الأرض مفسدين }** [البقرة: 60]. وليس ذكر الأرض لمجرد التوكيد بل في ذلك تنبيه على أن هذا المحل الذي فيه نشأتكم وتصرفكم، ومنه مادة حياتكم، وهو سترة أمواتكم، جدير أن لا يفسد فيه، إذ محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محل الإفساد. ألا ترى إلى قوله تعالى:**{ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها }** [الأعراف: 56] وقال تعالى:**{ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه }** [الملك: 15] وقال تعالى:**{ والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعاً لكم ولأنعامكم }** [النازعات: 30 - 33]، وقوله تعالى:**{ أنا صببنا الماء صباً }** [عيسى: 25] الآية. إلى غير ذلك من الآيات المنبهة على الامتنان علينا بالأرض، وما أودع الله فيها من المنافع التي لا تكاد تحصى.
وقابلوا النهي عن الإفساد بقولهم: { إنا نحن مصلحون } ، فأخرجوا الجواب جملة اسمية لتدل على ثبوت الوصف لهم، وأكدوها بإنما دلالة على قوة اتصافهم بالإصلاح. وفي المعنى الذي اعتقدوا أنهم مصلحون. أقوال: أحدها: قول ابن عباس: إن ممالأتنا الكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. والثاني: قول مجاهد وهو: أن تلك الممالأة هدى وصلاح وليست بفساد. والثالث: أن ممالأه النفس والهوى صلاح وهدى. والرابع: أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحاً لهم، وليس كذلك لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم، ولذلك قال: { ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون }. والخامس: أنهم أنكروا أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه من ممالأة الكفار، وقالوا: { إنما نحن مصلحون } باجتناب ما نهينا عنه.
والذي نختاره أنه لا يتعين شيء من هذه الأقوال، بل يحمل النهي على كل فرد من أنواع الإفساد، وذلك أنهم لما ادعوا الإيمان وأكذبهم الله في ذلك وأعلم بأن إيمانهم مخادعة، كانوا يكونون بين حالين: إحداهما: أن يكونوا مع عدم إيمانهم موادعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، والحالة الأخرى أن يكونوا مع عدم إيمانهم يسعون بالإفساد بالأرض لتفرق كلمة الإسلام وشتات نظام الملة، فنهوا عن ذلك وكأنهم قيل لهم: إن كنتم قد قنع منكم بالإقرار بالإيمان، وإن لم تؤمن قلوبكم فإياكم والإفساد في الأرض، فلم يجيبوا بالامتناع من الإفساد، بل أثبتوا لأنفسهم أنهم مصلحون وأنهم ليسوا محلاً للإفساد، فلا يتوجه النهي عن الإفساد نحوهم لاتصافهم بضده وهو الإصلاح.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
كل ذلك بهت منهم وكذب صرف على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ولما كانوا قد قابلوا النهي عن الإفساد بدعوى الإصلاح الكاذبة أكذبهم الله بقوله: { ألا إنهم هم المفسدون } ، فأثبت لهم ضد ما ادعوه مقابلاً لهم ذلك في جملة اسمية مؤكدة بأنواع من التأكيد منها: التصدير بأن وبالمجيء بهم، وبالمجيء بالألف واللام التي تفيد الحصر عند بعضهم. وقال الجرجاني: دخلت الألف واللام في قوله المفسدون لما تقدم ذكر اللفظة في قوله لا تفسدوا، فكأنه ضرب من العهد، ولو جاء الخبر عنهم ولم يتقدم من اللفظة ذكر، لكان { ألا إنهم هم المفسدون } ، انتهى كلامه، وهو حسن.
واستفتحت الجملة بألا منبهة على ما يجيء بعدها لتكون الأسماع مصغية لهذا الإخبار الذي جاء في حقهم، ويحتمل هم أن يكون تأكيداً للضمير في أنهم وإن كان فصلاً، فعلى هذين الوجهين يكون المفسدون خبراً لأن، وأن يكون مبتدأ ويكون المفسدون خبره. والجملة خبر لأن، وقد تقدم ذكر فائدة الفصل عند الكلام على قوله: { وأولئك هم المفلحون }. وتحقيق الاستدراك هنا في قوله: { ولكن لا يشعرون } ، هو أن الإخبار عنهم أنهم هم المفسدون يتضمن علم الله ذلك، فكان المعنى أن الله قد علم أنهم هم المفسدون، ولكن لا يعلمون ذلك، فوقعت لكن إذ ذاك بين متنافيين، وجهة الاستدراك أنهم لما نهوا عن إيجاد مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك، وأخبر الله عنهم أنهم هم المفسدون، كانوا حقيقين بأن يعلموا أن ذلك كما أخبر الله تعالى، وأنهم لا يدعون أنهم مصلحون، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بذلك. تقول: زيد جاهل ولكن لا يعلم، وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل وصار وصفاً قائماً بزيد، كان ينبغي لزيد أن يكون عالماً بهذا الوصف الذي قام به، إذ الإنسان ينبغي أن يعلم ما اشتمل عليه من الأوصاف، فاستدرك عليه بلكن، لأنه مما كثر في القرآن ويغمض في بعض المواضع إدراكه. قالوا: ومفعول يشعرون محذوف لفهم المعنى تقديره أنهم مفسدون، أو أنهم معذبون، أو أنهم ينزل بهم الموت فتنقطع التوبة، والأولى الأول، ويحتمل أن لا ينوي محذوف فيكون قد نفى عنهم الشعور من غير ذكر متعلقه ولا نية، وهو أبلغ في الذم، جعلوا لدعواهم ما هو إفساد إصلاحاً ممن انتفى عنه الشعور وكأنهم من البهائم، لأن من كان متمكناً من إدراك شيء فأهمل الفكر والنظر حتى صار يحكم على الأشياء الفاسدة بأنها صالحة، فقد انتظم في سلك من لا شعور له ولا إدراك، أو من كابر وعاند فجعل الحق باطلا، فهو كذلك أيضاً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وفي قوله تعالى: { ولكن لا يشعرون } تسلية عن كونهم لا يدركون الحق، إذ من كان من أهل الجهل فينبغي للعالم أن لا يكترث بمخالفته.
والكلام على قوله تعالى: { وإذا قيل لهم آمنوا } كالكلام على قوله تعالى: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا } من حيث عطف هذه الجملة على سبيل الاستئناف، أو عطفها على صلة من قوله: من يقول، أو عطفها على يكذبون، ومن حيث العامل في إذا، ومن حيث حكم الجملة بعد إذا، ومن حيث المفعول الذي لم يسم فاعله. واختلف في القائل لهم آمنوا، فقال ابن عباس: الصحابة، ولم يعين أحداً منهم، وقال مقاتل: قوم مخصوصون منهم وهم: سعد بن معاذ، وأبو لبابة، وأسيد بن الحضير. ولما نهاهم تعالى عن الإفساد أمرهم بالإيمان لأن الكمال يحصل بترك مالا ينبغي وبفعل ما ينبغي، وبدىء بالمنهي عنه لأنه الأهم، ولأن المنهيات عنها هي من باب التروك، والتروك أسهل في الامتثال من امتثال المأمورات بها. والكاف من قوله: { كما آمن الناس } في موضع نصب، وأكثر المعربين يجعلون ذلك نعتاً لمصدر محذوف التقدير عندهم: آمنوا إيماناً كما آمن الناس، وكذلك يقولون: في سير عليه شديد، أو: سرت حثيثاً، إن شديداً وحثيثاً نعت لمصدر محذوف التقدير: سير عليه سيراً شديداً، وسرت سيراً حثيثاً. ومذهب سيبويه، رحمه الله، أن ذلك ليس بنعت لمصدر محذوف، وإنما هو منصوب على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم المحذوف بعد الإضمار على طريق الاتساع، وإنما لم يجز ذلك لأنه يؤدي إلى حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير المواضع التي ذكروها. وتلك المواضع أن تكون الصفة خاصة بجنس الموصوف، نحو: مررت بكاتب ومهندس، أو واقعة خبراً، نحو: زيد قائم، أو حالاً، نحو: مررت بزيد راكباً، أو وصفاً لظرف، نحو: جلست قريباً منك، أو مستعملة استعمال الأسماء، وهذا يحفظ ولا يقاس عليه، نحو: الأبطح والأبرق. وإذا خرجت الصفة عن هذه المواضع لم تكن إلا تابعة للموصوف، ولا يكتفي عن الموصوف، ألا ترى أن سيبويه منع: ألا ماء ولو بارداً وأن تقدم ما يدل على حذف الموصوف وأجاز: ولو بارداً، لأنه حال، وتقرير هذا في كتب النحو. وما، من: كما آمن الناس، مصدرية التقدير كإيمان الناس، فينسبك من ما، والفعل بعدها مصدر مجرور بكاف التشبيه التي هي نعت لمصدر محذوف، أو حال على القولين السابقين، وإذا كانت ما مصدرية فصلتها جملة فعلية مصدرة بماض متصرف أو مضارع، وشذ وصلها بليس في قول الشاعر:
| **بمـا لستمـا أهـل الخيانـة والغـدر** | | |
| --- | --- | --- |
ولا توصل بالجملة الإسمية خلافاً لقوم، منهم: أبو الحجاج الأعلم، مستدلين بقوله:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| **وجدنا الحمر من شر المطايا** | | **كما الحبطات شر بني تميم** |
| --- | --- | --- |
وأجاز الزمخشري، وأبو البقاء في ما من قوله: كما آمن، أن تكون كافة للكاف عن العمل مثلها في: ربما قام زيد، وينبغي أن لا تجعل كافة إلا في المكان الذي لا تتقدر فيه مصدرية، لأن إبقاءها مصدرية مبق للكاف على ما استقر فيها من العمل، وتكون الكاف إذ ذاك مثل حروف الجر الداخلة على ما المصدرية، وقد أمكن ذلك في: كما آمن الناس، فلا ينبغي أن تجعل كافة. والألف واللام في الناس يحتمل أن تكون للجنس، فكأنه قال: الكاملون في الإنسانية، أو عبر بالناس عن المؤمنين لأنهم هم الناس في الحقيقة، ومن عداهم صورته صورة الناس، وليس من الناس لعدم تمييزه، كما قال الشاعر:
| **ليس من الناس ولكنه** | | **يحسبه الناس من الناس** |
| --- | --- | --- |
ويحتمل أن تكون الألف واللام للعهد، ويعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قاله ابن عباس، أو عبد الله بن سلام، ونحوه ممن حسن إسلامه من اليهود، قاله مقاتل، أو معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وجماعة من وجوه الأنصار عدهم الكلبي. والأولى حملها على العهد، وأن يراد به من سبق إيمانه قبل قول ذلك لهم، فيكون حوالة على من سبق إيمانه لأنهم معلومون معهودون عند المخاطبين بالأمر بالإيمان. والتشبيه في: كما { آمن الناس } إشارة إلى الإخلاص، وإلا فهم ناطقون بكلمتي الشهادة غير معتقديها. أنؤمن: معمول لقالوا، وهو استفهام معناه الإنكار أو الاستهزاء. ولما كان المأمور به مشبهاً كان جوابهم مشبهاً في قولهم: { أنؤمن كما آمن السفهاء } ، والقول في الكاف وما في هذا كالقول فيهما في: { كما آمن الناس }. والألف واللام في السفهاء للعهد، فيعني به الصحابة، قاله ابن عباس؛ أو الصبيان والنساء، قاله الحسن، أو عبد الله بن سلام وأصحابه، قاله مقاتل، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج تحته من فسر به الناس من المعهودين، أو الكاملون في السفه، أو لأنهم انحصر السفه فيهم إذ لا سفيه غيرهم. وأبعد من ذهب إلى أن الألف واللام للصفة الغالبة نحو: العيوق والدبران، لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم، فصاروا إذا قيل: السفهاء، فهم منه ناس مخصوصون، كما يفهم من العيوق نجم مخصوص. ويحتمل قولهم: { كما آمن السفهاء } أن يكون ذلك من باب التعنت والتجلد حذراً من الشماتة، وهم عالمون بأنهم ليسوا بسفهاء. ويحتمل أن يكون ذلك من باب الاعتقاد الجزم عندهم، فيكونوا قد نسبوهم للسفه معتقدين أنهم سفهاء، وذلك لما أخلوا به من النظر والفكر الصحيح المؤدّي إلى إدراك الحق، وهم كانوا في رئاسة ويسار، وكان المؤمنون إذ ذاك أكثرهم فقراء وكثير منهم موال، فاعتقدوا أن من كان بهذه المثابة كان من السفهاء لأنهم اشتغلوا ما لا يجدي عندهم وكسلوا عن طلب الرئاسة والغنى وما به السؤدد في الدنيا، وذلك هو غاية السفه عندهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وفي قوله: { كما آمن السفهاء } إثبات منهم في دعواهم بسفه المؤمنين أنهم موصوفون بضد السفه، وهو رزانة الأحلام ورجحان العقول، فرد الله عليهم قولهم وأثبت أنهم هم السفهاء، وصدر الجملة بألا التي للتنبيه لينادي عليهم المخاطبين بأنهم السفهاء، وأكد ذلك بأن وبلفظ هم. وإذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو: { السفهاء ألا } ، ففي ذلك أوجه.
أحدها: تحقيق الهمزتين، وبذلك قرأ الكوفيون، وابن عامر. والثاني: تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واواً كحالها إذا كانت مفتوحة قبلها ضمة في كلمة نحو: أواتي مضارع آتى، فاعل من أتيت، وجؤن تقول: أواتي وجون، وبذلك قرأ الحرميان، وأبو عمرو. والثالث: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو، وتحقيق الثانية. والرابع: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو وإبدال الثانية واواً. وأجاز قوم وجهاً. خامساً: وهو جعل الأولى بين الهمزة والواو، وجعل الثانية بين الهمزة والواو، ومنع بعضهم ذلك لأن جعل الثانية بين الهمزة والواو تقريباً لها من الألف، والألف لا تقع بعد الضمة، والأعاريب الثلاثة التي جازت في: هم، في قوله: { هم المفسدون } ، جائزة في: هم، من قوله: { هم السفهاء }.
والاستدراك الذي دلت عليه لكن في قوله: { ولكن لا يعلمون } ، مثله في قوله تعالى: { ولكن لا يشعرون } ، وإنما قال هناك لا يشعرون وهنا لا يعلمون لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد، وهو مما يدرك بأدنى تأمل، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر، وهي الحواس، مبالغة في تجهيلهم، وهو أن الشعور الذي قد يثبت للبهائم منفي عنهم، والمثبت هنا هو السفه، والمصدر به هو الأمر بالإيمان، وذلك مما يحتاج إلى إمعان فكر واستدلال ونظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق، ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالمأمور، قال السموأل:
| **نخاف أن تسفه أحلامنا** | | **فنجهل الجهل مع الجاهل** |
| --- | --- | --- |
والعلم نقيض الجهل، فقابله بقوله: لا يعلمون، لأن عدم العلم بالشيء جهل به. قرأ ابن السميفع اليماني، وأبو حنيفة: { وإذا لاقوا الذين } ، وهي فاعل بمعنى الفعل المجرد، وهو أحد معاني فاعل الخمسة، والواو المضمومة في هذه القراءة هي واو الضمير تحركت لسكون ما بعدها، ولم تعد لام الكلمة المحذوفة لعروض التحريك في الواو، واللقاء يكون بموعد وبغير موعد، فإذا كان بغير موعد سمي مفاجأة ومصادفة، وقولهم لمن لقوا من المؤمنين: آمنا، بلفظ مطلق الفعل غير مؤكد بشيء تورية منهم وإيهاماً، فيحتمل أن يريدوا به الإيمان بموسى وبما جاء به دون غيره، وذلك من خبثهم وبهتهم، ويحتمل أن يريدوا به الإيمان المقيد في قولهم: { آمنا بالله وباليوم الآخر } ، وليسوا بصادقين في ذلك، ويحتمل أن يريدوا بذلك ما أظهروه بألسنتهم من الإيمان، ومن اعترافهم حين اللقاء، وسموا ذلك إيماناً، وقلوبهم عن ذلك صارفة معرضة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقرأ الجمهور: خلوا إلى بسكون الواو وتحقيق الهمزة، وقرأ ورش: بإلقاء حركة الهمزة على الواو وحذف الهمزة، ويتعدى خلا بالباء وبإلى، والباء أكثر استعمالاً، وعدل إلى إلى لأنها إذا عديت بالباء احتملت معنيين: أحدهما: الانفراد، والثاني: السخرية، إذ يقال في اللغة: خلوت به، أي: سخرت منه، وإلى لا يحتمل إلا معنى واحداً، وإلى هنا على معناها من انتهاء الغاية على معنى تضمين الفعل، أي صرفوا خلاهم إلى شياطينهم، قال الأخفش: خلوت إليه، جعلته غاية حاجتي، وهذا شرح معنى، وزعم قوم، منهم النضر بن شميل: إن إلى هنا بمعنى مع أي: وإذا خلوا مع شياطينهم، كما زعموا ذلك في قوله تعالى:**{ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم }** [النساء: 2]،**{ من أنصاري إلى الله }** [آل عمران: 3] أي مع أموالكم ومع الله، ومنه قول النابغة:
| **فلا تتركني بالوعيد كأنني** | | **إلى الناس مطلي به القار أجرب** |
| --- | --- | --- |
ولا حجة في شيء من ذلك. وقيل: إلى بمعنى الباء، لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، وهذا ضعيف، إذ نيابة الحرف عن الحرف لا يقول بها سيبويه، والخليل، وتقرير هذا في النحو. وشياطينهم: هم اليهود الذين كانوا يأمرونهم بالتكذيب، قاله ابن عباس؛ أو رؤساؤهم في الكفر، قاله ابن مسعود. وروي أيضاً عن ابن عباس: أو شياطين الجن، قاله الكلبي: أو كهنتهم، قاله الضحاك وجماعة. وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكهنة جماعة منهم: كعب بن الأشرف من بني قريظة، وأبو بردة في بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وابن السوداء في الشام، وكانت العرب يعتقدون فيهم الاطلاع على علم الغيب، ويعرفون الأسرار، ويداوون المرضى، وسموا شياطين لتمردهم وعتوّهم، أو باسم قرنائهم من الشياطين، إن فسروا بالكهنة، أو لشبههم بالشياطين في وسوستهم، وغرورهم، وتحسينهم للفواحش، وتقبيحهم للحسن.
والجمهور على تحريك العين من معكم، وقرىء في الشاذ: إنا معكم، وهي لغة غنم وربيعة، وقد اختلف القولان منهم، فقالوا للمؤمنين: آمنا، ولشياطينهم إنا معكم. فانظر إلى تفاوت القولين، فحين لقوا المؤمنين قالوا آمنا، أخبروا بالمطلق، كما تقدم، من غير توكيد، لأن مقصودهم الإخبار بحدوث ذلك ونشئه من قبلهم، لا في ادعاء أنهم أوحديون فيه، أو لأنه لا تطوع بذلك ألسنتهم لأنه لا باعث لهم على الإيمان حقيقة، أو لأنه لو أكدوه ما راج ذلك على المؤمنين فاكتفوا بمطلق الإيمان، وذلك خلاف ما أخبر الله عن المؤمنين بقوله: ربنا إننا آمنا، وحين لقوا شياطينهم، أو خلوا إليهم قالوا: إنا معكم، فأخبروا إنهم موافقوهم، وأخرجوا الأخبار في جملة اسمية مؤكدة بأن ليدلوا بذلك على ثباتهم في دينهم، ثم بينوا أن ما أخبروا به الذين آمنوا إنما كان على سبيل الاستهزاء، فلم يكتفوا بالإخبار بالموافقة، بل بينوا أن سبب مقالتهم للمؤمنين إنما هو الاستهزاء والاستخفاف، لا أن ذلك صادر منهم عن صدق، وجد، وأبرزوا هذا في الإخبار في جملة اسمية مؤكدة بإنما مخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الذي يدل على الثبوت، وأن الاستهزاء وصف ثابت لهم، لا أن ذلك تجدد عندهم، بل ذلك من خلقهم وعادتهم مع المؤمنين، وكأن هذه الجملة وقعت جواباً لمنكر عليهم قولهم: إنا معكم، كأنه قال: كيف تدعون أنكم معنا وأنتم مسالمون للمؤمنين، تصدقونهم، وتكثرون سوادهم، وتستقبلون قبلتهم، وتأكلون ذبائحهم؟ فأجابوهم بقولهم: { إنما نحن مستهزءُون } ، أي مستخفون بهم، نصانع بما نظهر من ذلك عن دمائنا وأموالنا وذرياتنا، فنحن نوافقهم ظاهراً ونوافقكم باطناً، والقائل إنا معكم، أما المنافقون لكبارهم، وأما كل المنافقين للكافرين، وقرىء: مستهزءون، بتحقيق الهمزة، وهو الأصل، وبقلبها ياء مضمومة لانكسار ما قبلها، ومنهم من يحذف الياء تشبيهاً بالياء الأصلية في نحو: يرمون، فيضم الراء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ومذهب سيبويه، رحمه الله، في تحقيقها: أن تجعل بين بين. ومذهب أبي الحسن: أن تقلب ياء قلباً صحيحاً. قال أبو الفتح: حال الياء المضمومة منكر، كحال الهمزة المضمومة. والعرب تعاف ياء مضمومة قبلها كسرة، وأكثر القراء على ما ذهب إليه سيبويه، انتهى.
وهل الاجتماع والمعية في الدين، أو في النصرة والمعونة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو في اتفاقهم مع الكفار على اطلاعهم على أحوال المؤمنين وإعلامهم بما أجمعوا عليه من الأمر وأخفوه من المكايد، أو في اتفاقهم مع الكفار على أذى المسلمين وتربصهم بهم الدوائر وفرحهم بما يسوء المسلمين وحزنهم بما يسرهم وقصدهم إخماد كلمة الله؟ أقوال أربعة، والدواعي إلى الاستهزاء: خوف الأذى، واستجلاب النفع، والهزل، واللعب. والله تعالى منزه عن ذلك، فلا يصح إضافة الاستهزاء الذي هذه دواعيه إلى الله تعالى.
فيحتمل أن يكون الاستهزاء المسند إلى الله تعالى كناية عن مجازاته لهم، وأطلق اسم الاستهزاء على المجازاة ليعلم أن ذلك جزاء الاستهزاء، أو عن معاملته لهم بمثل ما عاملوا به المؤمنين، فأجرى عليهم أحكام المؤمنين من حقن الدم، وصون المال، والإشراك في المغنم، مع علمه بكفرهم. وأطلق على الشيء ما أشبهه صورة لا معنى، أو عن التوطئة والتجهيل، لإقامتهم على كفرهم، وسمى التوطئة لهم استهزاء لأنه لم يعجل لهم العقوبة، بل أملى، وأخرهم إلى الآخرة، أو عن فتح باب الجنة فيسرعون إليه فيغلق، فيضحك منهم المؤمنون، أو عن خمود النار فيمشون فيخسف بهم، أو عن ضرب السور بينهم وبين المؤمنين وهو السور المذكور في الحديد، أو عن قوله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ ذق إنك أنت العزيز الكريم }** [الدخان: 49] أو عن تجديد الله لهم نعمة كلما أحدثوا ذنباً، فيظنون أن ذلك لمحبة الله لهم، أو عن الحيلولة بين المنافقين وبين النور الذي يعطاه المؤمنون، كما ذكروا أنه روي في الحديث، أو عن طردهم عن الجنة، إذا أمر بناس منهم إلى الجنة ودنوا منها ووجدوا ريحها ونظروا إلى ما أعد الله فيها لأهلها، وهو حديث فيه طول، روي عن عدي بن حاتم، ونحا هذا المنحى ابن عباس، والحسن.
وفي مقابلة استهزائهم بالمؤمنين باستهزاء الله بهم ما يدل على عظم شأن المؤمنين وعلو منزلتهم، وليعلم المنافقون أن الله هو الذي يذب عنهم ويحارب من حاربهم. وفي افتتاح الجملة باسم الله التفخيم العظيم، حيث صدرت الجملة به، وجعل الخبر فعلاً مضارعاً يدل عندهم على التجدد والتكرر، فهو أبلغ في النسبة من الاستهزاء المخبر به في قولهم، ثم في ذلك التنصيص على الذين يستهزىء الله بهم، إذ عدى الفعل إليهم فقال: يستهزىء بهم وهم لم ينصوا حين نسبوا الاستهزاء إليهم على من تعلق به الاستهزاء، فلم يقولوا: إنما نحن مستهزءون بهم وذلك لتحرجهم من إبلاغ ذلك للمؤمنين فينقمون ذلك عليهم، فأبقوا اللفظ محتملاً أن لو حوققوا على ذلك لكان لهم مجال في الذب عنهم أنهم لم يستهزءوا بالمؤمنين. ألا ترى إلى مداراتهم عن أنفسهم بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وبقولهم: إذا لقوهم قالوا آمنا فهم، عند لقائهم لا يستطيعون إظهار المداراة، ولا مشاركتهم بما يكرهون، بل يظهرون الطواعية والانقياد.
وقرأ ابن محيصن وشبل: يمدهم وتروى عن ابن كثير: ونسبة المد إلى الله حقيقة، إذ هو موجد الأشياء والمنفرد باختراعها. والمعنى: أن الله تعالى يطول لهم في الطغيان. وقد ذهب الزمخشري إلى تأويل المد المنسوب إلى الله تعالى بأنه منع الألطاف وخذلانهم بسبب كفرهم وإصرارهم، بقيت قلوبهم تتزايد الظلمة فيها تزايد النور في قلوب المؤمنين، فسمى ذلك التزايد مداً وأسند إلى الله لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم، أو بأن المد هو على معنى القسر والالجاء. قال: أو على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عبادة، وإنما ذهب إلى التأويل في المد لأن مد الله لهم في الطغيان قبيح، والله منزه عن فعل القبيح. والتأويل الأول الذي ذكره الزمخشري: قول الكعبي، وأبي مسلم. وقال الجبائي: هو المد في العمر، وعندنا نحن أن الله خالق الخير والشر، وهو الهادي والمضل.
وقد تقدم الكلام في نحو من هذا عند قوله تعالى:**{ ختم الله على قلوبهم }** [البقرة: 7] ومد الله في طغيانهم، التمكين من العصيان، قاله ابن مسعود، أو الإملاء، قاله ابن عباس، أو الزيادة من الطغيان، قاله مجاهد، أو الإمهال، قاله الزجاج وابن كيسان، أو تكثير الأموال، والأولاد، وتطييب الحياة، أو تطويل الأعمار، ومعافاة الأبدان، وصرف الرزايا، وتكثير الأرزاق.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقرأ زيد بن علي: في طغيانهم بكسر الطاء، وهي لغة، يقال: طغيان بالضم والكسر، كما قالوا: القيان، وغينان، بالضم والكسر. وأمال الكسائي في طغيانهم، وأضاف الطغيان إليهم لأنه فعلهم وكسبهم، وكل فعل صدر من العبد صحت إضافته إليه بالمباشرة، وإلى الله بالاختراع. وما فسر به العمه يحتمله قوله تعالى: { يعمهون } ، فيكون المعنى: يترددون ويتحيرون، أو يعمون عن رشدهم، أو يركبون رؤوسهم ولا يبصرون. قال بعض المفسرين: وهذا التفسير الأخير أقرب إلى الصواب لأنهم لم يكونوا مترددين في كفرهم، بل كانوا مصرين عليه، معتقدين أنه الحق، وما سواه الباطل. يعمهون: جملة في موضع الحال، نصب على الحال، إما من الضمير في يمدهم وإما من الضمير في طغيانهم لأنه مصدر مضاف للفاعل، وفي طغيانهم يحتمل أن يكون متعلقاً بيمدهم، ويحتمل أن يكون متعلقاً بيعمهون. ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين من الضمير في يمدهم، قال: لأن العامل لا يعمل في حالين. انتهى كلامه.
وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إلى تقييد، وهو أن تكون الحالان لذي حال واحدة، فإن كانا لذوي حال جاز، نحو: لقيت زيداً مصعداً منحدراً فأما إذا كانا لذي حال واحد، كما ذكرناه، ففي إجازة ذلك خلاف. ذهب قوم إلى أن ذلك لا يجوز كما لم يجز ذلك للعامل أن يقضي مصدرين، ولا ظرفي زمان، ولا ظرفي مكان، فكذلك لا يقضي حالين. وخصص أهل هذا المذهب هذا القول بأن لا يكون الثاني على جهة البدل، أو معطوفاً، فإنه إذا كانا كذلك جازت المسألة. قال: بعضهم: إلا أفعل التفضيل، فإنها تعمل في ظرفي زمان، وظرفي مكان، وحالين لذي حال، فإن ذلك يجوز، وهذا المذهب اختاره أبو الحسن بن عصفور. وذهب قوم إلى أنه يجوز للعامل أن يعمل في حالين لذي حال واحد، وإلى هذا أذهب، لأن الفعل الصادر من فاعل، أو الواقع بمفعول، يستحيل وقوعه في زمانين، وفي مكانين. وأما الحالان فلا يستحيل قيامهما بذي حال واحد، إلا إن كانا ضدين، أو نقيضين. فيجوز أن تقول: جاء زيد ضاحكاً راكباً، لأنه لا يستحيل مجيئه وهو ملتبس بهذين الحالين. فعلى هذا الذي قررناه من الفرق يجوز أن يجيء الحالان لذي حال واحد، والعامل فيهما واحد.
أولئك: اسم أشير به إلى الذين تقدم ذكرهم، الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى الإصلاح، وهم المفسدون، ونسبة السّفه للمؤمنين، وهم السفهاء، والاستخفاف بالمؤمنين بإظهار الموافقة وهم مع الكفار. وقرأ الجمهور: اشتروا الضلالة، بضم الواو. وقرأ أبو السماك قعنب العدوي: اشتروا الضلالة بالفتح. ولاعتلال ضمة الواو وجوه أربعة مذكورة في النحو، ووجه الكسر أنه الأصل في التقاء الساكنين، نحو:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وأن لو استقاموا }** [الجن: 16] ووجه الفتح اتباعها لحركة الفتح قبلها. وأمال حمزة والكسائي الهدي، وهي لغة بني تميم، والباقون بالفتح، وهي لغة قريش. والاشتراء هنا مجاز كنى به عن الاختيار، لأن المشتري للشيء مختار له مؤثر، فكأنه قال: اختاروا الضلالة على الهدى، وجعل تمكنهم من اتباع الهدى كالثمن المبذول في المشتري، وإنما ذهب في الاشتراء إلى المجاز لعدم المعاوضة، إذ هي استبدال شيء في يدك لشيء في يد غيرك، وهذا مفقود هنا.
وقد ذهب قوم إلى أن الاشتراء هنا حقيقة لا مجاز، والمعاوضة متحققة، ثم راموا يقررون ذلك، ولا يمكن أن يتقرر لأنه على كل تقدير يؤول الشراء فيه إلى المجاز، قالوا: إن كان أراد بالآية المنافقين، كما قال مجاهد، فقد كان لهم هدى ظاهر من التلفظ بالشهادة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والغزو، والقتال. فلما لم تصدق بواطنهم ظواهرهم واختاروا الكفر، استبدلوا بالهدى الضلال، فتحققت المعاوضة، وحصل البيع والشراء حقيقة، وكان من بيوع المعاطاة التي لا تفتقر إلى اللفظ، وقالوا: لما ولدوا على الفطرة واستمر لهم حكمها إلى البلوغ وجد التكليف، استبدلوا عنها بالكفر والنفاق فتحققت المعاوضة، وقالوا: لما كانوا ذوي عقول متمكنين من النظر الصحيح المؤدي إلى معرفة الصواب من الخطأ، استبدلوا بهذا الاستعداد النفيس اتباع الهوى والتقليد للآباء، مع قيام الدليل الواضح، فتحققت المعاوضة. قالوا: وإن كان أراد بالآية أهل الكتاب، كما قال قتادة، فقد كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر، ومصدقين ببعث النبي صلى الله عليه وسلم، ومستفتحين به، ويدعون بحرمته، ويهددون الكفار بخروجه، فكانوا مؤمنين حقاً. فلما بعث صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة، خافوا على رئاستهم ومآكلهم وانصراف الاتباع عنهم، فجحدوا نبوته وقالوا: ليس هذا المذكور عندنا، وغيروا صفته، واستبدلوا بذلك الإيمان الكفر الذي حصل لهم، فتحققت المعاوضة. قالوا: وإن كان أراد سائر الكفار، كما قاله ابن مسعود، وابن عباس، فالمعاوضة أيضاً متحققة، إما بالمدة التي كانوا عليها على الفطرة ثم كفروا، أو لأن الكفار كان في محصولهم المدارك الثلاثة: الحسي والنظري والسمعي، وهذه التي تفيد العلم القطعي، فاستبدلوا بها الجري على سنن الآباء في الكفر. وقال ابن كيسان: خلقهم لطاعته، فاستبدلوا عن هذه الخلقة المرضية كفرهم وضعف قوله، لأنه تعالى لو برأهم لطاعته، لما كفر أحد منهم لاستحالة أن يخلق شيئاً لشيء ويتخلف عن ذلك الشيء. وسيأتي الكلام على قوله تعالى:**{ إلا ليعبدون }** [الذاريات: 56] وعلى ولذلك خلقهم إن شاء الله.
قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي: الضلالة: الكفر، والهدى: الإيمان، وقيل الشك واليقين، وقيل الجهل والعلم، وقيل الفرقة والجماعة، وقيل الدنيا والآخرة، وقيل النار والجنة. وعطف: فما ربحت، بالفاء، يدل على تعقب نفي الربح للشراء، وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وزعم بعض الناس أن الفاء في قوله: { فما ربحت تجارتهم } دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء والتقديران اشتروا. والذين إذا كان في صلة فعل، كان في معنى الشرط، ومثله**{ الذين ينفقون أموالهم }** [البقرة: 262]، وقع الجواب بالفاء في قوله:**{ فلهم أجرهم }** [البقرة: 274] وكذلك الذي يدخل الدار فله درهم، انتهى. وهذا خطأ لأن الذين ليس مبتدأ، فيشبه بالشرط الذي يكون مبتدأ، فتدخل الفاء في خبره، كما تدخل في جواب الشرط. وأما الذين خبر عن أولئك، وقوله: فما ربحت ليس بخبر، فتدخله الفاء، وإنما هي جملة فعليه معطوفة على صلة الذين، فهي صلة لأن المعطوف على الصلة صلة، وقوله وقع الجواب بالفاء في قوله: { فلهم أجرهم } خطأ، لأنه ليس بجواب، إنما الجملة خبر المبتدأ الذي هو ينفقون، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين اشتروا مبتدأ، وفما ربحت تجارتهم خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك لعدم الرابط في هذه الجملة الواقعة خبراً لأولئك. ولتحقق مضي الصلة، وإذا كانت الصلة ماضية، معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها المبتدأ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين بدل منه، وفما ربحت خبر لأن الخبر إنما تدخله الفاء لعموم الموصول، ولإبدال الذين من أولئك، صار الذين مخصوصاً لأنه بدل من مخصوص، وخبر المخصوص لا تدخله الفاء، ولأن معنى الآية ليس إلا على كون أولئك مبتدأ والذين خبراً عنه. ونسبة الربح إلى التجارة من باب المجاز لأن الذي يربح أو يخسر إنما هو التاجر لا التجارة، ولما صور الضلالة والهدى مشترى وثمناً، رشح هذا المجاز البديع بقوله تعالى: { فما ربحت تجارتهم } ، وهذا من باب ترشيح المجاز، وهو أن يبرز المجاز في صورة الحقيقة، ثم يحكم عليه ببعض أوصاف الحقيقة، فينضاف مجازاً إلى مجاز، ومن ذلك قول الشاعر:
| **بكى الخز من روح وأنكر جلده** | | **وعجت عجيجاً من جذام المطارف** |
| --- | --- | --- |
أقام الخز مقام شخص حين باشر روحاً بكى من عدم ملامته، ثم رشحه بقوله: وأنكر جلده، ثم زاد في ترشيح المجاز بقوله: وعجب، أي وصاحت مطارف الخز من قبيل روح هذا، وهي: جذام. ومعنى البيت: أن روحاً وقبيلته جذام لا يصلح لهم لباس الخز ومطارفه، لأنهم لا عادة لهم بذلك، فكنى عن التباين بينهما بما كنى فيه في البيت، ومن ذلك قول الشافعي، رضي الله عنه:
| **أيا بومة قد عششت فوق هامتي** | | **على الرغم مني حين طار غرابها** |
| --- | --- | --- |
لما كنى عن الشيب بالبومة فأقبل عليها وناداها، رشح هذا المجاز بقوله: قد عششت، لأن الطائر من أفعاله اتخاذ العشة، وقد أورد الزمخشري في ترشيح المجاز في كشافه مثلاً. وقرأ ابن أبي عبلة: تجاراتهم، على الجمع، ووجهه أن لكل واحد تجارة، ووجه قراءة الجمهور على الأفراد أنه اكتفى به عن الجمع لفهم المعنى، وفي قوله: فما ربحت تجارتهم، إشعار بأن رأس المال لم يذهب بالكلية، لأنه إنما نفى الربح، ونفي الربح لا يدل على انتقاص رأس المال.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأجيب عن هذا بأنه اكتفى بذكر عدم الربح عن ذكر ذهاب المال، لما في الكلام من الدلالة على ذلك، لأن الضلال نقيض الهدى، والنقيضان لا يجتمعان، فاستبدالهم الضلالة بالهدى دل على ذهاب الهدى بالكلية، ويتخرج عندي على أن يكون من باب قوله:
| **علـي لا حب لا يهتـدي بمنـاره** | | |
| --- | --- | --- |
أي لا منار له فيهتدي به، فنفى الهداية، وهو يريد نفي المنار، ويلزم من نفي المنار نفي الهداية به، فكذلك هذه الآية لما ذكر شراء شيء بشيء، توهم أن هذا الذي فعلوه هو من باب التجارة، إذ التجارة ليس نفس الاشتراء فقط، وليس بتاجر، إنما التجارة: التصرف في المال لتحصيل النموّ والزيادة فنفى الربح. والمقصود نفي التجارة أي لا يتوهم أن هذا الشراء الذي وقع هو تجارة فليس بتجارة وإذا لم يكن تجارة انتفى الربح فكأنه قال: فلا تجارة لهم ولا ربح. وقال الزمخشري معناه: إن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان: سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً، لأن رأس المال مالهم كان هو الهدى، فلم يبق لهم مع الضلالة، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح، وإن ظفروا بما ظفروا به من الأعراض الدنيوية، لأن الضلال خاسر دامر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح. انتهى كلامه. ومع ذلك ليس بمخلص في الجواب لأن نفي الربح عن التجارة لا يدل على ذهاب كل المال، ولا على الخسران فيه، لأن الربح هو الفضل على رأس المال، فإذا نفى الفضل لم يدل على ذهاب رأس المال بالكلية، ولا على الانتقاص منه، وهو الخسران. قيل: لما لم يكن قوله تعالى: { فما ربحت تجارتهم } مفيداً لذهاب رؤوس أموالهم، أتبعه بقوله: { وما كانوا مهتدين } ، فكمل المعنى بذلك، وتم به المقصود، وهذا النوع من البيان يقال له: التتميم، ومنه قول امرىء القيس:
| **كأن عيون الوحش حول خبائنا** | | **وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب** |
| --- | --- | --- |
تمم المعنى بقوله: الذي لم يثقب، وكمل الوصف وسمى الله تعالى اعتياضهم الضلالة عن الهدى تجارة، وإن كانت التجارة هي البيع والشراء المتحقق منه الفائدة، أو المترجى ذلك منه. وهذا الاعتياض منفي عنه ذلك، لأن الكفر محبط للأعمال. قال تعالى:**{ وقدمنا إلى ما عملوا }** [الفرقان: 23]. الآية وفي الحديث، **" أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ابن جدعان: وهو ينفعه وصله الرحم وإطعام المساكين؟ فقال: " لا إنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين "**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
لأنهم لم يعتاضوا ذلك إلا لما تحققوا وارتجوا من الفوائد الدنيوية والأخروية. ألا ترى إلى قولهم: { نحن أبناء الله وأحباؤه } ، وقولهم:**{ وما نحن بمعذبين }** [سبأ: 35]. وكانت اليهود تزعم أنهم لا يعذبون إلا أياماً معدودة، وبعضهم يقول يوماً واحداً، وبعضهم عشراً، وكل طائفة من الكفار تزعم أنها على الحق وأن غيرها على الباطل. فلحصول الراحة الدنيوية ورجاء الراحة الأخروية، سمى اشتراءهم الضلالة بالهدى تجارة، ونفى الله تعالى عنهم كونهم مهتدين. وهل المعنى ما كانوا في علم الله مهتدين، أو مهتدين من الضلالة، أو للتجارة الرابحة، أو في اشتراء الضلالة، أو نفي عنهم الهداية والربح، لأن من التجار من لا يربح في تجارته ويكون على هدى، وعلى استقامة، وهؤلاء جمعوا بين نفي الربح والهداية. والذي أختاره أن قوله تعالى: { وما كانوا مهتدين } إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله: بالهدى، أنهم كانوا على هدى فيما مضى، فبين قوله: { وما كانوا مهتدين } مجاز قوله: بالهدى، ودل على أن الذي اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى، فالمثبت في الاعتياض غير المنفى أخيراً، لأن ذاك بالقوة وهذا بالفعل. وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان، فهو منصوب بها وحدها خلافاً لمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معاً، وخلافاً لمن زعم أن أصل انتصابه على الحال، وهو الفراء، قال: لشغل الإسم برفع كان، إلا أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالاً خبراً فأتى معرفة، فقيل: كان أخوك زيداً تغليباً للخبر، لا للحال.
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات أقوالاً: أحدها: أنها نزلت في المنافقين. الثاني: في قوم أعلم الله بوصفهم قبل وجودهم، وفيه إعلام بالمغيبات. الثالث: في عبد الله بن أُبي وأصحابه نزل: { وإذا لقوا الذين آمنوا } والتي قبلها في جميع المنافقين، وذكروا ما معناه: أنه لقي نفراً من المؤمنين، فقال لأصحابه: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فذكر أنه مدح وأثنى على أبي بكر وعمر وعلي، فوبخه علي وقال له: لا تنافق، فقال: ألي تقول هذا، والله إن إيماننا كإيمانكم، ثم افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيراً. وقد تقدمت أقاويل غير هذه الثلاثة في غضون الكلام قبل هذا.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 20 | |
| --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ) | قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ... }
هذا القول واقع (فيما مضى) ودائم في المستقبل، ودوامه محقق ولذلك دخلت عليه إذا لأنه من باب تغيير (المنكر) فهو واجب. وحذف الفاعل قصدا للعموم والشيوع (في القائل) ولأن القائل عظيما أو حقيرا لا يقبلون منه. وفائدة ذكر المجرور وهو في الأرض (التنبيه) على أن إفسادهم عام في الاعتقاد الديني وفي الأمر الدنيوي، والفساد (يعمّ) في جلب المؤلم ودفع (الملائم) شرعا.
قال ابن عطيّة: و " إذا " ظَرف زمان، وحكى المبرد أنها للمفاجأة نحو: خرجت فإذا زيد، ظرف مكان لتضمّنها (الجهة)، وظرف الزمان لا يكون إخبارا عن (الجثة).
قال ابن عرفة: (وتقدم لنا) إبطال كونها ظرف مكان لأنه يلزم عليه مفاجأة من بالمشرق لمن بالمغرب) ولا يلزم ذلك في الزمان.
ابن عطية: وقال سلمان (الفارسي) لم (يجئ) هؤلاء بعد.
ابن عطية: ومعناه لم ينقرضوا بل يجيئون في كل زمان.
قال ابن عرفة: والقول: إما لفظي وهو الأظهر، (وبعيد) أن يكون نفسيا ولا يمتنع لاحتمال (أن يخلق الله جل جلاله) في خواطرهم النهي عن ذلك وعدم امتثال ذلك النهي.
وأورد الزمخشري سؤالا قال: كيف يصح أن يقام مقام الفاعل جملة (الجملة) لا تكون فاعلة؟
وردّه ابن عرفة بأنّهم نَصّوا في باب الحكاية على عمل القول في الجملة المحكية مثل: قال زيد إن عمرا منطلق. واحتجوا بقوله:
| **مَتَى تَقُول القلص الرّواسما** | | **يدنين أمّ قاسم وقاسما** |
| --- | --- | --- |
فإذا صح تعدي (القول إلى) الجملة على المفعولية صح إقامة ذلك المفعول مقام الفاعل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) | " إذا " ظرف زمان مستقبل ويلزمها معنى الشرط غالباً، ولا تكون إلاّ في الأمر المحقق، أو المرجح وقوعه، فلذلك لم تجزم إلا في شِعْرٍ؛ لمخالفتها أدوات الشرط؛ فإنها للأمر المحتمل، فمن الجزم قوله: [البسيط]
| **193- تَرْفَعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يَرْفَعُ لِي** | | **نَاراً إِذَا خَمَدَتْ نِيرَانُهُمْ تَقِدِ** |
| --- | --- | --- |
وقال آخر: [الكامل]
| **194- وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بِالغِنَى** | | **وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ** |
| --- | --- | --- |
وقال الآخر: [الطويل]
| **195- إِذَا قَصُرَتْ أَسْيَافُنَا كَانَ وَصْلُهَا** | | **خُطَانَا إِلَى أَعْدَائِنَا فَنُضَارِبِ** |
| --- | --- | --- |
فقوله: " فَنُضَارب " مجزوم لعطفه على محل قوله " كان وصلها ".
وقال الفرزدق: [الطويل]
| **196- فَقَامَ أَبُو لَيْلَى إِلَيْهِ ابْنُ ظَالِمٍ** | | **وَكَانَ إذَا مَا يَسْلُلِ السَّيْفَ يَضْرِبِ** |
| --- | --- | --- |
وقد تكون للزمن الماضي كـ: " إذ " كما قد تكون " إذ " للمستقبل كـ " إذا ".
فمن مجيء " إذا " ظرفاً لما مَضَى من الزمان واقعةً موقع " إذ " قوله تعالى:**{ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ }** [التوبة: 92]، وقوله:**{ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَٰرَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا }** [الجمعة: 11]، قال به ابن مالك، وبعض النحويين.
ومن مجيء " إذ " ظرفاً لما يستقبل من الزمان قوله تعالى:**{ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ }** [غافر: 70-71].
وتكون للمفاجأة أيضاً، وهل هي حينئذ باقية على زمانيتها، أو صارت ظرف مكان أو حرفاً؟
ثلاثة أقوال: أصحُّها الأول استصحاباً للحال، وهل تتصرف أم لا؟
الظاهر عدم تصرفها، واستدلّ من زعم تصرفها بقوله تعالى في قراءة من قرأ:**{ إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً }** [الواقعة: 1-4] بنصب " خافضة رافعة " ، فجعل " إذا " الأولى مبتدأ، والثانية خبرها.
والتقدير: وَقْتُ وقوع الواقعة رجّ الأرض، وبقوله:**{ حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا }** [الزمر: 71]، و**{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ }** [يونس: 22] فجعل " حتى " حرف جر، و " إذا " مجرورة بها، وسيأتي تحقيق ذلك في مواضعه. ولا تُضَاف إلاَّ الجُمَلِ الفعلية خلافاً للأخفش.
وقوله: " قيل " فعل ماضٍ مبني للمفعول، وأصله: " قَوَلَ " كـ: " ضرب " ، فاستثقلت الكسرة على " الواو " ، فنقلت إلى " القاف " بعد سَلْبِ حركتها، فسكنت " الواو " بعد كسرة، فقلبت " ياء " ، وهذه أفصح اللغات، وفيه لغة ثانية، وهي الإشمام، والإشمام عبارة عن جعل الضّمة بين الضم والكَسْرِ.
ولغة ثالثة وهي: إخلاص الضم، نحو: " قُولَ وبُوعَ " ، قال الشاعر: [الرجز]
| **197- لَيْتَ وَهَلْ يَنْفَعُ شَيْئاً لَيْتُ** | | **لَيْتَ شَبَاباً بُوعَ فَاشْتَرَيْتُ** |
| --- | --- | --- |
وقال الآخر: [الرجز]
| **198- حُوكَتْ عَلَى نَولَيْنِ إذْ تُحَاكُ** | | **تَخْتَبِطُ الشَّوْكَ وَلاَ تُشَاكُ** |
| --- | --- | --- |
وقال الأخفش: " ويجوز " قُيُل " بضم القاء والياء " ، يعني مع الياء؛ لأن الياء تضم أيضاً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وتجيء هذه اللغات الثلاث في " اختار " و " انقاد " ، و " ردّ " و " حَبّ " ونحوها، فتقول: " اختير " بالكسر، والإِشْمَام، و " اختور " ، وكذلك: " انقيد " ، و " انقود " ، و " رَدَّ " ، و " رِدَّ " ، وأنشدوا: [الطويل]
| **199- وَمَا حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبَا حُلَمَائِنَا** | | **وَلاَ قَائِلُ المَعْرُوفِ فِينَا يُعَنَّفُ** |
| --- | --- | --- |
بكسر حاء " حل ".
وقرىء: " وَلَوْ رِدُّوا " [الأنعام: 28] بكسر الراء.
والقاعدة فيما لم يسم فاعله أن يُضَمّ أول الفعل مطلقاً؛ فإن كان ماضياً كسر ما قبل آخره لفظاً نحو: " ضرب " ، أو تقديراً نحو: " قيل " ، و " اختير ".
وقد يضم ثاني الماضي أيضاً إذا افتتح بتاء مُطَاوعة نحو: " تُدُحْرج الحجر " ، وثالثه إن افتتح بهمزة وصل نحو: " انْطُلِقَ بزيد " واعلم أن شرط جواز اللغات الثلاث في " قيل " ، و " غيض " ، ونحوهما ألا يلتبس، فإن التبس عمل بمقتضى عدم اللَّبْس، هكذا قال بعضهم، وإن كان سيبويه قد أطلق جواز ذلك، وأشَمّ الكسائي:**{ قِيلَ }** [البقرة: 11]،**{ وَغِيضَ }** [هود: 44]،**{ وَجِاْىۤءَ }** [الزمر: 69]،**{ وَحِيلَ }** [سبأ:54]**{ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ }** [الزمر: 71] و**{ سِيۤءَ بِهِمْ }** [هود: 77]، و**{ سِيئَتْ وُجُوهُ }** [الملك: 27]، وافقه هشام في الجميع، وابن ذكوان في " حِيْل " وما بعدها، ونافع في " سيء " و " سيئت " ، والباقون بإخلاص الكسر في الجميع.
والإشْمَام له معان أربعة في اصطلاح القراء سيأتي ذلك في قوله:**{ لاَ تَأْمَنَّا }** [يوسف: 11] إن شاء الله تعالى.
و " لهم " جار ومجرور متعلّق بـ " قيل " ، و " اللاَّم " للتبليغ، و " لا " حرف نهي يجزم فعلاً واحداً، و " تفسدوا " مجزوم بها، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأمثلة الخمسة.
و " في الأرض " متعلّق به، والقائم مقام الفاعل هو الجُمْلَةُ من قوله: " لا تفسدوا " لأنه هو القول في المعنى، واختاره الزمخشري.
والتقدير: وإذا قيل لهم هذا الكلام، أو هذا اللّفظ، فهو من باب الإسناد اللَّفْظي.
وقيل: القائم مقام الفاعل مضمر، تقديره: وإذا قيل لهم هو، ويفسّر هذا المضمر سياق الكلام كما فسّره في قوله:**{ حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ }** [ص: 32].
والمعنى: " وإذا قيل لهم قول سديد " فأضمر هذا القول الموصوف، وجاءت الجملة بعده مفسّرة، فلا موضع لها من الإعراب، فإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى اللَّفْظِيّ، وقد أمكن ذلك بما تقدّم. وهذا القول سبقه إليه أبو البَقَاءِ، فإنه قال: " والمفعول القائم مَقَام الفاعِلِ مصدر، وهو القول، وأضمر لأن الجملة بعد تفسّره، ولا يجزز أن يكون " لا تفسدوا " قائماً مقام الفاعل؛ لأن الجملة لا تكون فاعلاً، فلا تقوم مقام الفاعل ".
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقد تقدم جواب ذلك من أن المعنى: وإذا قيل لهم هذا اللفظ، ولا يجوز أن يكون " لهم " قائم مقام الفاعل إلاَّ في رأي الكوفيين والأخفش، إذ يجوز عندهم إقامة غير المفعول به مع وجوده.
وتلخصّ من هذا:
أنَّ جملة قوله: " لا تفسدوا " في مَحَلّ رفع على قول الزَّمخشري، ولا محلّ لها على قول أبي البَقَاءِ ومن تبعه، والجملة من قوله: " قيل " وما في حَيّزه في محل خفضٍ بإضافة الظرف إليه.
والعامل في " إذا " جوابها، وهو " قالوا " ، والتقدير: قالوا: إنما نحن مصلحون، وقت قول القائم لهم: لا تفسدوا.
وقال بعضهم: الذي نختاره أن الجُمْلَةَ الَّتي بعدها وتليها ناصبة لها، وأنَّ ما بعده ليس في مَحَلّ خَفْضٍ بالإضافة؛ لأنها أداة شرط، فحكمها حكم الظروف التي يُجَازى بها، فكما أنك إذا قلت: " متى تَقُمْ أَقُمْ " كان " متى " منصوباً بفعل الشرط، فكذلك إذا قال هذا القائل.
والذي يفسد مذهب الجمهور جواز قولك: " إذا قمت فعمرو قائم " ووقوع " إذا " الفُجَائية جواباً لها، وما بعد " الفاء ".
و " إذا " الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وهو اعتراض ظاهر.
وقوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } " إنَّ " حرف مكفوف بـ " ما " الزائدة عن العمل، ولذلك تليها الجملة مطلقاً، وهي تفيد الحَصْرَ عند بعضهم.
وأبعد من زعم أنّ " إنما " مركبة من " إنَّ " التي للإثبات، و " ما " التي للنفي، وأنّ بالتركيب حدث معنى يفيد الحَصْرَ.
واعلم أن " إن " وأخواتها إذا وَلِيَتْهَا " ما " الزائدة بطل عملها، وذهب اختصاصها بالأسماء كما مَرَّ، إلا " لَيْتَ " فإنه يجوز فيها الوجهان سماعاً، وأنشدوا قول النابعة: [البسيط]
| **200- قَالَتْ: أَلاَ لَيْتَمَا هَذَا الحَمَامُ لَنَا** | | **إِلَى حَمَامَتِنَا وَنِصْفُهُ، فَقَدِ** |
| --- | --- | --- |
برفع " الحَمَام " ونصبه، فأما إعمالها فلبقاء اختصاصها، وأمّا إهمالها فلحملها على أَخَوَاتِهَا، على أنه قد روي عن سيبويه في البيت أنها معملة على رواية الرفع أيضاً، بأن تجعل " ما " موصولة بمعنى " الذي " ، كالتي في قوله تعالى:**{ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ }** [طه: 69] و " هذا " خبر مبتدأ محذوف هو العائد، و " الحَمَام " نعت لهذا، و " لنا " خبر لـ " ليت " ، وحُذِفَ العائد وإن لم تَطُل الصلة.
والتقدير: ألا ليت الذي هو [هذا] الحمام كَائِنٌ لنا، وهذا أولى من أن يدعي إهمالها، لأن المقتضى للإعمال - وهو الاختصاص - باقٍ.
وزعم بعضهم أنّ " ما " الزائدة إذا اتَّصلت بـ " إنَّ " وأخواتها جاز الإعمال في الجميع.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
و " نحن " مبتدأ، وهو ضمير مرفوع منفصل للمتكلم، ومن معه أو المعظّم نفسه، و " مصلحون " خبره، والجملة في محل نَصْبٍ، لأنها محكية بـ " قالوا ".
والجملة الشرطية وهي قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } عطف على صلة " من " ، وهي " يقول " ، أي: ومن النَّاس من يقول، ومن النَّاس من إذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض قالوا: وقيل: يجوز أن تكون مستأنفةً، وعلى هذين القولين، فلا مَحَلّ لها من الإعراب لما تقدم، ولكنها جزء كلام على القول الأول، وكلام مستقل على القول الثاني، وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفةً على " يكذبون " الواقع خبراً لـ " كانوا " ، فيكون محلّها النصب.
وردّ بعضهم عليهما بأن هذا الذي أجازاه على أَحَدِ وجهي " ما " من قوله:**{ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }** [البقرة: 10] خطأ، وهو: أن تكون موصولةً بمعنى " الذي " ، إذْ لا عائد فيها يعود على " ما " المَوْصُولة، وكذلك إذا جعلت مصدريةً، فإنها تفتقر إلى العائد عند الأَخْفَشِ، وابن السراج. والجواب عن هذا أنهما لا يُجِيْزَانِ ذلك ألا وهما يعتقدان " ما " موصولة حرفية.
وأما مذهب الأخفش وابن السراج فلا يلزمهما القول به، ولكنه يُشْكِلُ على أبي البَقَاءِ وحده، فإنه يستضعف كون " ما " مصدرية كما تقدم.
فصل في أوجه ورود لفظ الفساد
ورد لفظ " الفساد " على ثلاثة أوجه:
الأول: بمعنى العِصْيَان كهذه الآية.
الثاني: بمعنى الهَلاَكِ قال تعالى:**{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا }** [الأنبياء: 22] أي: أهلكتا.
الثالث: بمعنى السحر قال تعالى:**{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ }** [يونس: 81].
فصل في بيان من القائل
منهم من قال: إن ذلك القائل هو الله تعالى، ومنهم من قال: هو الرسول، ومنهم من قال: بعض المؤمنين، وكل ذلك محتمل.
والأقرب أن ذلك القائل كان مشافهاً لهم بذلك الكلام، فإما أن يكون الرسول - عليه الصلاة والسلام - بلغه عنهم النفاق، ولم يقطع بذلك، فنصحهم فأجابوا بما يحقّ إيمانهم، وأنهم في الصَّلاح بمنزلة سَائِرِ المؤمنين، وإما أنْ يكون بعض من يلقون إليه الفَسَاد كان لا يقبله منهم، وكان ينقلب واعظاً لهم قائلاً لهم:**{ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ }** [البقرة: 11] فإن قيل: إنما كانوا يخبرون الرَّسول بذلك؟
قلنا: نعم، كانوا إذا عوقبوا عادوا إلى إظهار الإسلام، وكذبوا النَّاقلين عنهم، وحلفوا بالله عليه كما قال - تعالى - عنهم:**{ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ }** [التوبة: 74]. وقيل هذا الكلام لليهود.
و " الفساد " خروج الشيء عن كونه منتفعاً به، ونقيضه الصلاح.
واختلفوا في ذلك الفساد فقال ابن عباس والحَسَن وقَتَادَة والسّدي: الفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
قال القَفّال - رحمه الله -: وتقريره أن الشرائع سُنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسكوا بها زَالَ العدوان، ولزم كل أحد شأنه، وحقنت الدّماء، وسكنت الفتن، فكان فيه صلاح الأرض، وصلاح أهلها، وإذا تركوا التمسُّك بالشرائع، وأقدم كلّ واحد على ما يَهْوَاه، وقع الهَرَجُ والمَرَجُ والاضطراب، ووقع الفساد في الأرض.
وقيل: الفساد هو مُدْارَاةُ المنافقين للكافرين، ومخالطتهم معهم؛ لأنهم إذا مالوا إلى الكُفْرِ مع أنهم في الظاهر مؤمنون أَوْهَمَ ذلك ضعف الرسول وضعف أنصاره، فكان ذلك يجري للكفار على إظهار عداوة الرسول، ونَصْبِ الحروب له.
وقال الأصَمّ: كانوا يدعون في السّر إلى تكذيبه، وجَحْد الإسلام، وإلقاء الشُّبهات، وتفريق بين النَّاس عن الإيمان.
فصل في مراد المنافقين بالإصلاح
قوله: { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } هم المُنَافقون، لأن مرادهم بهذا الكلام نقيض ما نهوا عنه، وهو الإفساد في الأرض؛ فقولهم: إنما نحن مُصْلحون كالمُقَابِل له، وفي هذا احتمالان.
أحدهما: أنهم اعتقدوا أن دينهم صواب، فكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدّين، لا جرم قالوا: إنما نحن مصلحون، يعني: أن هذه المُدَاراة سَعْيٌ في الإصلاح بين المسلمين والكفار، كما حكى الله - تعالى - عنهم قولهم:**{ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً }** [النساء:62] فقولهم: { إنما نحن مصلحون } أي: نحن نصلح أمر الفساد.
وقال ابن الخطيب: العلماء استدلّوا بهذه الآية على أنَّ من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه، وتجويز خلافه لا يطعن فيه، وتوبة الزِّنْدِيق مقبولةٌ، والله أعلم.
وقوله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } " ألا " حرف تنبيه، واستفتاح، وليست مركّبة من همزة الاستفهام و " لا " النافية، بل هي بَسيطَةٌ، ولكنها لفظ مشترك بين التَّنبيه والاستفتاح، فتدخل على الجُمْلَة اسميةً كانت أو فعليةً، وبين العرض والتخصيص، فتختصّ بالأفعال لفظاً أو تقديراً، وتكون النافية للجنس دخلت عليها همزة الاستفهام، ولها أحكام تقدّم بعضها عند قوله تعالى:**{ لاَ رَيْبَ فِيهِ }** [البقرة: 2]، وتكون للتَّمَنِّي، فتجري مجرى " ليت " في بعض أحكامها.
وأجاز بعضهم أن تكون جواباً بمعنى " بَلَى " يقول القائل: ألم يقم زيد؟ فتقول: " ألا " بمعنى: " بلى قد قام " وهو غريب.
و " إنّهم " إنّ واسمها، و " هم " تحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أنْ تكون تأكيداً لاسم " إنَّ "؛ لأن الضَّمير المنفصل المرفوع يجوز أن يؤكد به جميع ضروب الضَّمير المتصل.
وأن تكون فصلاً، وأن تكون مبتدأ.
و " المفسدون " خبره، والجملة خبر بـ " إن ".
وعلى القولين الأوّلين يكون " المفسدون " وحده خبراً لـ " إن " ، وجيء في هذه الجملة بضروب من التأكيد منها: الاستفتاح والتنبيه، والتَّأكيد بـ " إن " ، والإتيان بالتأكيد، والفَصْل بالضَّمير، وبالتعريف في الخبر مبالغةً في الرد عليهم فيما ادّعوه من قولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }؛ لأنهم أخرجوا الجواب جملةً اسمية مؤكدةً بـ " إنما " ليدلّوا بذلك على ثُبُوت الوَصْفِ لهم، فرد الله عليهم بأبلغ وآكد مما ادعوه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقوله: { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } الواو عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها.
و " لكن " معناها الاستدراك، وهو معنى لا يُفَارقها، وتكون عاطفةً في المفردات، ولا تكون إلاّ بين ضدّين، أو نقيضين، وفي الخلافين خلاف، نحو: " ما قام زيد لكن خرج بكر " ، واستدلّ بعضهم على ذلك بقوله طَرَفَةَ: [الطويل]
| **201- وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ لِبَيْتِهِ** | | **وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أرْفِدِ** |
| --- | --- | --- |
فقوله: " متى يسترفد القوم أرفد " ليس ضدًّا ولا نقيضاً لما قبله، ولكنه خلافه.
قال بعضهم: وهذا لا دليل فيه على المدّعى، لأن قوله: " لستُ بحلاّل التِّلاَع لبيته " كنايةٌ عن نفي البُخْلِ أي: لا أحلّ التِّلاَع لأجل البُخْل.
وقوله: " متى يسترفد القوم أرفد " كناية عن الكَرَمِ، فكأنه قال: لست بخيلاً ولكن كريماً، فهي - ها هنا - واقعةٌ بين ضدّين.
ولا تعمل مخففة خلافاً لـ " يونس " ، ولها أحكام كثيرة.
ومعنى الاسْتِدْرَاك في هذه الآية يحتاج إلى تأمل ونظر، وذلك أنهم لما نهوا عن اتخاذ مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد، فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك، وأخبر - تعالى - بأنهم هم المفسدون كانوا حقيقين بأن يعلموا أن ذلك كما أخبر - تعالى - وأنهم لا يدعون بأنهم مصلحون، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فَاتَهُمْ من عدم الشعور بذلك.
ومثله قولك: " زيد جاهل، ولكن لا يعلم " ، وذلك لأنه من حيث اتّصف بالجهل، وصار الجهل وصفاً قائماً به كان ينبغي أن يعلم بهذا الوَصْف من نفسه؛ لأن الإنسان له أن يعلم ما اشتملت عليه نفسه من الصفات، فاستدركت عليه أنَّ هذا الوصف القائم له به لا يعلمه مُبَالغة في جهله.
ومفعول " يشعرون " محذوف: إمّا حذف اختصار، أي: لا يشعرون بأنهم مفسدون، وإما حذف اقتصار، وهو الأحسن، أي: ليس لهم شعور ألبتة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ) | أخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } قال: الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } قال: إذا ركبوا معصية فقيل لهم لا تفعلوا كذا، قالوا إنما نحن على الهدى.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { إنما نحن مصلحون } أي إنما نريد الإِصلاح بين الفريقين من المؤمنين، وأهل الكتاب.
وأخرج وكيع وابن جرير وابن أبي حاتم عن عباد بن عبدالله الأسدي قال: قرأ سلمان هذه الآية { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } قال: لم يجىء أهل هذه الآية بعد.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ } شروع في تعديد بعضٍ من قبائحهم المتفرعةِ على ما حُكي عنهم من الكفر والنفاق، وإذا ظرفُ زمنٍ مستقبلٍ، ويلزمها معنى الشرط غالباً، ولا تدخل إلا في الأمر المحقق أو المرجح وقوعُه، واللامُ متعلّقة بقيل ومعناها الإنهاءُ والتبليغ، والقائمُ مقامَ فاعلِه جملة (لا تفسدوا) على أن المراد بها اللفظ، وقيل هو مُضمرٌ يفسِّرُه المذكورُ، والفسادُ خروجُ الشيء عن الحالة اللائقة به والصلاحُ مقابلُه، والفساد في الأرض هَيْجُ الحروب والفتنِ المستتبعة لزوال الاستقامة عن أحوال العباد واختلالِ أمر المعاش والمعاد، والمراد بما نهُوا عنه ما يؤدي إلى ذلك من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار، وإغرائِهم عليهم، وغيرِ ذلك من فنون الشرور، كما يقال للرجل لا تقتُلْ نفسَك بـيدك، ولا تلقِ نفسك في النار إذا أقدم على ما تلك عاقبته وهو إما معطوف على (يقول)، فإن جُعلت كلمة (مَنْ) موصولةً فلا محل له من الإعراب، ولا بأس بتخلل البـيان أو الاستئنافِ وما يتعلق بهما بـين أجزاء الصلةِ فإن ذلك ليس توسيطاً بالأجنبـيّ، وإن جُعلت موصوفةً فمحلُه الرفع، والمعنى ومن الناس من إذا نهوا من جهة المؤمنين عما هم عليه من الإفساد في الأرض { قَالُواْ } إرادةٌ للناهين أن ذلك غيرُ صادر عنهم مع أن مقصودهم الأصليَّ إنكارُ كونِ ذلك إفساداً وادعاءُ كونِه إصلاحاً محضاً كما سيأتي توضيحه: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي مقصورون على الإصلاح المحض، بحيث لا يتعلق به شائبةُ الإفساد والفساد، مشيرين بكلمة (إنما) إلى أن ذلك من الوضوح بحيث لا ينبغي أن يُرتاب فيه.
وإما كلامٌ مستأنَفٌ سيق لتعديد شنائعِهم. وأما عطفهُ على يكذبون بمعنى ولهم عذاب أليم بكذبهم وبقولهم حين نهوا عن الإفساد إنما نحن مصلحون كما قيل، فيأباه أن هذا النحْوَ من التعليل حقُه أن يكون بأوصافٍ ظاهرةِ العِلّية مُسلَّمةِ الثبوت للموصوف غنيةٍ عن البـيان لشهرة الاتصافِ بها عند السامع أو لسبق ذكرِه صريحاً كما في قوله تعالى: { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } [البقرة، الآية 10] فإن مضمونه عبارةٌ عما حُكي عنهم من قولهم:**{ آمنا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ }** [البقرة، الآية 8] أو لذكر ما يستلزمه استلزاماً ظاهراً كما في قوله عز وجل:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ }** [ص، الآية 26] فإن ما ذكر من الضلال عن سبـيل الله مما يوجب حتماً نسيان جانب الآخرة التي من جملتها يوم الحساب وما لم يكن كذلك فحقه أن يخبر بعليته قصداً كما في قوله تعالى:**{ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ }** [آل عمران، الآية 24] الآية، وقوله:**{ ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ }** [البقرة، الآية 176] الآية، إلى غير ذلك، ولا ريب في أن هذه الشرطيةَ وما بعدها من الشرطيتين المعطوفتين عليها ليس مضمونُ شيء منها معلومَ الانتساب إليهم عند السامعين بوجه من الوجوه المذكورة، حتى تستحقَ الانتظامَ في سلك التعليل المذكور، فإذن حقُها أن تكونَ مَسوقةً على سنن تعديدِ قبائحِهم على أحد الوجهين، مفيدةً لاتصافهم بكل واحد من تلك الأوصاف قصداً واستقلالاً كيف لا وقوله عز وجل: { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } ينادي بذلك نداءً جلياً، فإنه ردٌ من جهته تعالى لدعواهم المحكية أبلغَ رد، وأدلَّه على سَخَط عظيم حيث سُلك فيه مسلك الاستئنافِ المؤدي إلى زيادة تمكّنِ الحكم في ذهن السامع، وصدرت الجملة بحرفي التأكيد (ألا) المنبّهة على تحقق ما بعدها، فإن الهمزة الإنكارية الداخلةَ على النفي تفيد تحقيق الإثبات قطعاً كما في قوله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
**{ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ }** [الزمر، الآية 36] ولذلك لا يكاد يقع ما بعدها من الجملة إلا مصدرةً بما يُتلقىٰ به القسمُ، وأختها التي هي (أمَا) من طلائع القسم.
وقيل: هما حرفان بسيطان موضوعان للتنبـيه والاستفتاح و(إن) المقرِّرة للنسبة، وعُرفُ الخبر ووسَطُ ضمير الفصل لردِّ ما في قصر أنفسهم على الإصلاح من التعريض بالمؤمنين. ثم استُدرك بقوله تعالى: { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } للإيذان بأن كونهم مفسدين من الأمور المحسوسة، لكن لا حسَّ لهم حتى يُدركوه، وهكذا الكلامُ في الشرطيتين الآتيتين وما بعدهما من ردِّ مضمونهما، ولولا أن المراد تفصيلُ جناياتهم وتعديدُ خبائثهم وهَناتِهم ثم إظهارُ فسادِها وإبانة بُطلانها لما فُتح هذا البابُ والله أعلم بالصواب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ) | قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ... } الآية.
باتباع الهوى مصلحون زين لهم سوء أعمالهم فرأوها حسنًا، ألا إنهم هم المفسدون بعصيان الناصحين لهم، ولكن لا يشعرون لأنهم محجوبون عن طرق الإنابة والهداية.
قوله تعالى { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } قيل من أظهر الدعوى كذب، ألا ترى الله يقول: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } [الآية: 12].
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) | الإشارة منها: أنه إذا دعاهم واعظ في قلوبهم من خفي خواطرهم إلى ما فيه رشدهم تتبعوا رخص التأويل، ولبَّسوا على أنفسهم ما يشهد بقساوة قلوبهم، وحين جحدوا برهان الحق من خواطر قلوبهم نزع الله البركة من أحوالهم، وأبدلهم تصامُماً عن الحق، وابتلاهم بالاعتراض على الطريقة وسلبهم الإِيمان بها.
وكما أن المرتد أشد على المسلمين عداوة كذلك من رجع عن الإرادة إلى الدنيا والعادة فهو أشد الناس إنكاراً لهذه الطريقة، وأبعد من أهلها، وفي المَثَل: من اخترق كُدسه تمنى أن يقع بجميع الناس ما أصابه.
وإرفاق المرتدين عن طريق الإرادة - عند الصادقين منهم - غير مقبول كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل زكاة ثعلبة.
ويقال كفى لصاحب الكذب فضيحة بأن يقال له في وجهه كذبتَ، فهم لمَّا قالوا إنما نحن مصلحون، أكذبهم الحق سبحانه فقال: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }: إنَّا نَعْلَمُهم فَنَفْضَحُهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ) | { في قلوبِهِم مرضٌ } أي شك ونفاق تنكير المرض. وإيراد الجملة الظرفية إشارة إلى عروض المرض واستقراره ورسوخه فيها كما أشرنا إليه في التقسيم، وإلا لقال قلوبهم مرضى أو موتى. { فزادهم الله مرضاً } أي: آخر حقداً وحسداً وغلاً بإعلاء كلمة الدين، ونصرة الرسول والمؤمنين، والرذائل كلها أمراض القلوب لأنها أسباب ضعفها وآفتها في أفعالها الخاصة، وهلاكها في العاقبة. وفرق بين العذابين بالألم للمنافقين، والعظم للكافرين، لأن عذاب المطرودين في الأزل أعظم فلا يجدون شدّة ألمه لعدم صفاء إدراك قلوبهم، كحال العضو الميت، أو المفلوج والخدل بالنسبة إلى ما يجري عليه من القطع والكيّ وغير ذلك من الآلام. وأما المنافقون فلثبوت استعدادهم في الأصل وبقاء إدراكهم يجدون شدّة الألم فلا جرم كان عذابهم مؤلماً مسبباً عن المرض العارض المزمن الذي هو الكذب ولواحقه. وإذا نهوا عن الإفساد في الأرض، أي في الجهة السفلية التي هي النفوس وما يتعلق بها من المصالح بتكدير النفوس، وتهييج الفتن والحروب، والعداوة والبغضاء بين الناس، أنكروا وبالغوا في إثبات الإصلاح لأنفسهم، إذ يرون الصلاح في تحصيل المعاش وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا لأنفسهم خاصة، لتوغلهم في محبة الدنيا وانهماكهم في اللذات البدنية، واحتجابهم بالمنافع الجزئية، والملاذ الحسيّة عن المصالح العامة الكليّة، واللذات العقلية، وبذلك يتيسر مرادهم، ويتسهل مطلوبهم وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحس. وإذا دعوا إلى الإيمان الحقيقي، كإيمان فقراء المسلمين والصعاليك المجرّدين، سفهوهم لمكان تركهم لحطام الدنيا وإعراضهم عن متاعها ولذاتها وطيباتها، لزهدهم الحقيقي. إذ قصارى همومهم، وقصوى مقاصد عقولهم الأسيرة في قيد الهوى المشوبة بالوهم، المؤدّية لهم إلى الردى هي تلك اللذات يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ولا يعلمون أن غاية السفه هو اختيار الفاني الأخس على الباقي الأشرف. وفرق بين الفاصلتين بالشعور والعلم، لأنّ تأثير خداعهم في أنفسهم وإفسادهم في الأرض أمر بيِّن كالمحسوس. وأما ترجيح نعيم الآخرة على نعيم الدنيا المستلزم للفرق بين السفه والحكمة فأمر استدلالي عقليّ صرف.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ) | { واذا قيل لهم } اى قال المسلمون لهؤلاء المنافقين { لا تفسدوا فى الارض } اسناد قيل الى لا تفسدوا اسناد له الى لفظه كانه قيل واذا قيل لهم هذا القول كقولك الف ضرب من ثلاثة احرف. والفساد خروج الشئ عن الاعتدال والصلاح ضده وكلاهما يعمان كل ضار ونافع والفساد فى الارض تهيج الحروب والفتن المستتبعة لزوال الاستقامة عن احوال العباد واختلال امر المعاش والمعاد والمراد بما نهوا عنه ما يؤدى الى ذلك من افشاء اسرار المؤمنين الى الكفار واغرائهم عليه وغير ذلك من فنون الشرور فلما كان ذلك من صنيعهم مؤديا إلى الفساد قيل لا تفسدوا كما يقول الرجل لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك فى النار اذا اقدم على ما هذه عاقبته وكانت الارض قبل البعثة يعلن فيها بالمعاصى فلما بعث الله النبى صلى الله عليه وسلم ارتفع الفساد وصلحت الارض فاذا اعلنوا بالمعاصى فقد افسدوا فى الارض بعد اصلاحها كما فى تفسير ابى الليث { قالوا انما نحن مصلحون } جواب لاذا ورد للناصح على سبيل المبالغة والمعنى انه لا يصلح مخاطبتنا بذلك فان شاننا ليس الا الاصلاح وان حالنا متمحضة عن شوائب الفساد وانما قالوا ذلك الفهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما فى قلوبهم من المرض كما قال الله تعالى**{ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا }** فاطر 8. فانكروا كون ذلك فسادا وادعوا كونه اصلاحا محضا وهو من قصر الموصوف على الصفة مثل انما زيد منطلق. قال ابن التمجيد ان المسلمين لما قالوا لهم لا تفسدوا توهموا ان المسلمين ارادوا بذلك انهم يخلطون الافساد بالاصلاح فاجابوا بانهم مقصورون على الاصلاح لا يتجاوزون منه الى صفة الافساد فيلزم منه عدم الخلط فهو من باب قصر الافراد حيث توهموا ان المؤمنين اعتقدوا الشركة فاجابهم الله تعالى بعد ذلك بما يدل على القصر القلبى وهو قوله تعالى. { ألا } ايها المؤمنون اعلموا { انهم هم المفسدون } فانهم لما اثبتوا لانفسهم احدى الصفتين ونفوا الاخرى واعتقدوا ذلك قلب الله اعتقادهم هذا بان اثبت لهم ما نفوه ونفى عنهم ما اثبتوا والمعنى هم مقصورون على افساد انفسهم بالكفر والناس بالتعويق عن الايمان لا يتخطون منه الى صفة الاصلاح من باب قصر الشئ على الحكم فهم لا يعدون صفة الفساد والافساد ولا يلزم منه ان لا يكون غيرهم مفسدين ثم استدرك بقوله تعالى { ولكن لا يشعرون } انهم مفسدون للايذان بان كونهم مفسدين من الامور المحسوسة لكن لا حس لهم حتى يدركوه. قال الشيخ فى تفسيره ذكر الشعور بازاء الفساد اوفق لانه كالمحسوس عادة ثم فيه بيان شرف المؤمنين حيث تولى الله جواب المنافقين عما قالوه للمؤمنين كما كان فى حق المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم فان الوليد بن المغيرة قال له انه مجنون فنفاه الله عنه بقوله
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
**{ ما أنت بنعمة ربك بمجنون }** القلم 2. ثم قال فى ذم ذلك اللعين**{ ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير متعد أثيم عتل بعد ذلك زنيم }** القلم 10-13. اى حلاف حقير عياب يمشى بين الناس بالنميمة بخيل للمال ظالم فاجر غليظ القلب جاف ومع ذلك الوصف المذكور هو ولد الزنى وذلك لانه صلى الله عليه وسلم اتخذ ربه وكيلا على اموره بمقتضى قوله**{ فاتخذه وكيلا }** المزمل 9. فهو تعالى يكفى مؤونته كما قال اهل الحقائق ان خوارق العادات قلما تصدر من الاقطاب والخلفاء بل من وزرائهم وخلفائهم لقيامهم بالعبودية التامة واتصافهم بالفقر الكلى فلا يتصرفون لانفسهم فى شئ ومن جملة كمالات الاقطاب ومنن الله عليهم ان لا يبتليهم بصحبة الجهلاء بل يرزقهم صحبة العلماء الادباء الامناء يحملون عنهم اثقالهم وينفذون احكامهم واقوالهم وذلك كما كان الكامل آصف بن برخيا وزير سليمان عليه الصلاة والسلام الذى كان قطب وقته ومتصرفا وخليفة على العالم فظهر منه ما ظهر من اتيان عرش بلقيس كما حكاه الله تعالى فى القرآن. وفى التأويلات النجمية. { واذا قيل لهم لا تفسدوا فى الارض } الاشارة فى تحقيق الآيتين ان الانسان وان خلق متسعدا لخلافة الارض ولكنه فى بداية الخلقة مغلوب الهوى والصفات النفسانية فيكون مائلا الى الفساد كما اخبرت عنه الملائكة وقالوا**{ أتجعل فيها من يفسد فيها }** البقرة 30 الآية. فبأوامر الشريعة ونواهيها يتخلص جوهر الخلافة عن معدن نفس الانسان فاهل السعادة وهم المؤمنون ينقادون للداعى الى الحق ويقبلون الاوامر والنواهى واهل الشقاوة وهم الكافرون والمنافقون يمرقون من الدين ويتبعون الهوى واذا قيل لهم لا تفسدوا فى الارض اى لاتسعوا فى افساد حسن استعدادكم وصلاحيتكم للخلافة فى الارض باتباعكم الهوى وحرصكم على الدنيا { قالوا إنما نحن مصلحون } البقرة 11. لا يقبلون النصيحة غافلين عن حقيقتها كما قال السعدى
| **كسى را كه بند ار در سربود مندار هركزكه حق بشنود زعلمش ملال آيد ازوعظ ننك شقايق بباران نرويد زسنك** | | |
| --- | --- | --- |
فكذبهم الله تعالى تعالى بقوله { ألا انهم هم المفسدون } يفسدون صلاح آخرتهم باصلاح دنياهم { ولكن لا يشعرون } اى لا شعور لهم بافساد حالهم وسوء اعمالهم وعظم وبالهم من خسار حسن صنيعهم وادعائهم بالصلاح على انفسهم كما قال الله تعالى**{ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا }** الكهف 103 الآية قال المولى جلا الدين قدس سره
| **اى كه خودرا شر يزدان خواندهء سالها شد باسكى درماندهء جون كند آن سك براى توشكار جون شكار سك شدستى آشكار** | | |
| --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) | قلت: { إذا } ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه، أي: قالوا نحن مصلحون، وقت قول القائل لهم: لا تفسدوا، والجملة بيان وتقرير لخداعهم، أو معطوفة على**{ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا }** [البقرة: 8]، أي: ومن الناس فرقة إذا قيل لهم: لا تفسدوا، قالوا: إنما نحن مصلحون. يقول الحقّ جلّ جلاله: { وَإذَا قيل } لهؤلاء المنافقين: { لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ } بالمعاصي والتعويق عن الإيمان، وإغراء أهل الكفر والطغيان على أهل الإسلام والإيمان، وتهييج الحروب والفتن، وإظهار الهرج والمرج والمحن، وإفشاء أسرار المسلمين إلى أعدائهم الكافرين، فإن ذلك يؤدي إلى فساد النظام، وقطع مواد الإنعام، { قَالُوا } في جوابهم الفاسد: { إنما نحن مصلحون } في ذلك، فلا تصح مخاطبتنا بذلك، فإن من شأننا الإصلاح والإرشاد، وحالنا خالص من شوائب الفساد، قال تعالى: { ألا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ } هنالك، ولكن لا شعور لهم بذلك. قلت: فردّ الله ما ادعوه من الانتظام في سلك المصلحين بأقبح رد وأبلغه، من وجوه الاستئناف الذي في الجملة، والاستفتاح بالتنبيه، والتأكيد بإن وضمير الفعل، وتعريف الخبر، والتعبير بنفي الشعور، إذ لو شعروا أدنى شعور لتحققوا أنهم مفسدون. وهذه الآية عامة لكل مَن اشتغل بما لا يعنيه، وعوق عن طريق الخصوص، ففيه شعبة من النفاق، وفي صحيح البخاري: **" ثَلاثٌ من كُنَّ فِيهِ كان مُنَافِقاً خالِصاً: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا أوْتُمِنَ خانَ ".** الإشارة: وإذ قيل لمن يشتغل بالتعويق عن طريق الله والإنكار على أولياء الله: أقصر من هذا الإفساد، وارجع عن هذا الغي والعناد، فقد ظهرت معالم الإرشاد لأهل المحبة والوداد. قال: إنما أنا مصلح ناصح، وفي أحوالي كلها صالح، يقول له الحق جلّ جلاله: بل أفسدت قلوب عبادي، ورددتهم عن طريق محبتي وودادي، وعوقتهم عن دخول حضرتي، وحرمتهم شهود ذاتي وصفاتي، سددت بابي في وجه أحبابي، آيستهم من وجود التربية، وتحكمت على القدرة الأزلية، ولكنك لا تشعر بما أنت فيه من البلية. ولقد صدق من سبقت له العناية، وأُتحف بالرعاية والهداية، حيث يقول:
| **فَهَذِهِ طريقَةُ الإشْرَاقِ كَانَتْ وتَبْقَى ما الوُجُودُ بَاقِ** | | |
| --- | --- | --- |
وقال أيضاً:
| **وأَنْكَرُوهُ مَلاٌ عَوَامٌ لَمْ يَفْهَمُوا مَقْصُودَهُ فَهَامُوا** | | |
| --- | --- | --- |
فَتُبْ أيها المذكر قبل الفوات، واطلب من يأخذ بيدك قبل الممات، لئلا تلقى الله بقلب سقيم، فتكون في الحضيض الأسفل من عذابه الأليم، فسبب العذاب وجود الحجاب، وإتمام النعيم النظر لوجهه الكريم، منحنا الله منه الحظ الأوفى في الدنيا والآخرة. آمين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) | القراءة:
رام ضم القاف فيها وفي أخواتها الكسائي وهشام ورويش ووافقهم ابن ذكوان في السين والحاء، مثل: حيل وسيق، وسيئت، ووافقهم اهل المدينة في سيق وسيئت فمن ضم ذهب إلى ما حكي عن بعض العرب: قد قول، وقد بوع المتاع، بدل قيل وبيع، ومن كسرها قال: لأن ياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم، ومن اشم قال: اصله قول، فاستثقلت الضمة، فقلبت كسرة، واشمت ليعلم ان الأصل كانت ضمة.
المعنى:
وروي عن سلمان ـ رحمه الله ـ أنه قال: لم يجىء هؤلاء. وقال أكثر المفسرين: إنها نزلت في المنافقين الذين فيهم الآيات المتقدمة، وهو الأقوى ويجوز أن يراد بها من صورتهم صورتهم، فيحمل قول سلمان ـ رحمه الله ـ على أنه أراد بعد انقراض المنافقين الذين تناولتهم الآية.
ومعنى قولهم له: { إنما نحن مصلحون } يحتمل امرين:
احدهما ـ ان يقول: إن هذا الذي عندكم فساد، هو صلاح عندنا، لأنا إذا قابلناهم استدعيناهم إلى الحق في الدين.
والثاني ـ أن يجحدوا ذلك البلاغ.
والافساد مأخوذ من الفساد: وهو كلما يغير عن استقامة الحال. تقول: فسد يفسد فسادا. والافساد: إحداث الفساد والمفاسدة: المعاملة بالفساد. والتفاسد: تعاطي الفساد بين اثنين. والاستفساد. المطاوعة على الفساد. لا تفسدوا في الأرض فيقولون انما نحن مصلحون، ويقال لهم: آمنوا كما آمن الناس فيقولون أنؤمن كما آمن السفهاء؟ فليس هؤلاء منافقين، بل مظهرون لكفرهم. والآية في المنافقين قيل: المنافقون وإن كانوا يظهرون الايمان للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فانهم كانوا لايألون المسلمين خبالا، وكانوا يثبطون عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ويدعون إلى ترك نصرته من يثقون باستماعهم منهم، ومن يظنون ذلك به، فربما صادفوا من المؤمنين التقي فيجيبهم بما ذكر الله، فاذا أخبر أولئك النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ثم ذكروا له ما قالوا وعاتبهم النبي (صلى الله عليه وسلم) عادوا إلى إظهار الايمان والندم عليه، أو كذبوا قائله والحاكي عنهم، وكان لا يجوز في الدين إلا قبول ذلك منهم بما يظهرون، وخاصة في صدر الاسلام، والحاجة إلى تألف قلوبهم ماسة. ومن قرأ الاخبار تبين صحة ما قلناه.
والافساد في الارض: العمل فيها بما نهى الله عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه كما قال تعالى حاكياً عن الملائكة:**{ أتجعل فيها من يفسد فيها }** يعنون من يعصيك، ويخالف امرك، وهذه صفة المنافقين.
والأرض: هي المستقر للحيوان، ويقال لقوائم البعير: أرض، وكذلك الفرس ان قوي والارض: الرّعدة، وقال ابن عباس: ما أدري إذاً زلزلت الأرض لم بي أرض؟ أي رعدة والأرضة: دويبة تأكل الخشب.
والصلاح: استقامة الحال، فالاصلاح: جعل الحال على الاستقامة. والاصطلاح الاجتماع. والتصالح: التمالي على الصلاح، ومنه المصالحة، والاستصلاح، والصالح: والمستقيم الحال، والمصلح: المقوم للشيء على الاستقامة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) | الجملة معطوفة إمّا على: " يَكذبون " ، وإمّا على: " يَقُولُ آمنّا " ، فيكون التقدير: ومن الناس من إذا قيل لهم، والأول أَوْلىٰ، والقائل هو الله تعالى، أو الرسول (صلّى الله عليه وآله)، أو بعض المؤمنين، ولكل قائل، والكلّ محتملٌ.
والأقرب أنّ القائل لهم من شافَههم ممّن يختصّ بالدين والنصيحة، وكثيراً ما كان المنافقون إذا عوتبوا عادوا الى إظهار الإسلام والندم، وكذّبوا الناقلين عنهم، وحلفوا بالله عليه، كما أخبر تعالى عنهم في قوله:**{ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ }** [التوبة:74] وقال:**{ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ }** [التوبة:96].
وما وري عن سلمان " إنّ أهل هذه الآية لم يأتوا بعدُ " ، فلعلّه أراد به أنّ أهلها ليس مقصوراً على الذين كانوا فقط، بل وسيكون من بعد من كان حالهم هذا الحال، لأن الآية متّصلة بما قبلها بالضمير الذي فيها.
والفَساد: عبارةٌ عن خروج الشي عن كونه منتفعاً به، ونقيضه: الصلاح، وقد يطلق على زوال الصورة، ونقيضه: الكون، وأما كون الفَساد فساداً في الأرض، فيستدعي أمراً زائداً وفيه أقوال:
أحدها: قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: إنّ المراد به إظهار معصية الله. وتقريره ما ذكره القفّال، وهو أنّ إظهار معصية الله إنّما كان فساداً في الأرض، لأن الشرائع الإلٰهية سُنَن وطُرق موضوعة بين العباد، فإذا تمسّكوا بها زال العدوان، ولزم كلّ أحد شأنه، فحقنت الدماء وسكنت الفتن، فكان فيه صلاح الأرض، وأما إذا تركوا التمسّك بالشرائع، وأقدم كلّ أحد على ما يهواه بطبعه، لزم الهرَج والمرَج والاضطراب، ويهيّج الحروبَ والفتنَ والفساد في الزروع والمواشي، وانتفاء المنافع، الدينيّة والدنيويّة، ولذلك قال الله تعالى:**{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ }** [محمد:22] وقال:**{ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ }** [البقرة:205]. نبّأهم الله تعالى على أنهم إذا أعرضوا عن الطاعة، لم يحصلوا إلاّ على الإفساد في الأرض به.
الثاني: أن يقال: ذلك الفساد، هو مداراة المنافقين للكافرين ومخالطتهم معهم، لأنّهم لمّا مالوا الى الكفّار مع أنّهم في الظاهر مؤمنون، أوهَمَ ذلك ضعفَ الرسول (صلّى الله عليه وآله) وضعف أنصاره، وكان ذلك يُجرئ الكفارَ على عداوة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ونصْب الحربِ لهم وطمعهم في الغلبة، فلمّا كان صنيعهم ذلك مؤدّياً الى الفساد، قيل لهم: لا تفسدوا، كما تقول للرجل: لا تقتُل نفسَك، ولا تُلقِ نفسَك في النار، إذا أقدم الى أمرٍ هذه عاقبته.
الثالث: إنّ المنافقين كانوا يُمَايلون الكفّار ويمالئونهم على المسلمين، بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم، وذلك مما يؤدّي الى هيج الفتن بينهم، وفيه فساد عظيمٌ في الأرض.
الرابع: قال الأصمّ: كانوا يدعون في السر الى تكذيبه، وجحْد الإسلام، وايقاع الشبه في قلوب الناس من ضُعفاء العقول والإيمان، فيرتدّون على أعقابهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
فصل
وقوله: { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } ، كالمقابل لما ذكر، وهو جواب لـ " إذا " ، وردّ للقائل الناصح على سبيل المبالغة، لأن " إنّما " لقصر الحكم على شيء كقولك: إنّما يكتب زيد، ولقصر الشيء على حكم كقولك: إنّما زيد كاتب، فالمعنى أنّ صفة الإصلاح مقصورة عليهم متمحّضة لهم، وعند ذلك يحتمل وجهان:
أحدهما: إنّهم اعتقدوا في دينهم أنّه هو الصواب وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين، لا جَرَم قالوا: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }.
وثانيهما: إنّ مداراتنا مع الكفار سعيٌ في الإصلاح بينهم وبين المسلمين، وذلك كما حكى الله عنهم أنّهم قالوا:**{ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً }** [النساء:62].
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير الصافي في تفسير كلام الله الوافي/ الفيض الكاشاني (ت 1090 هـ) | { (10) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ }: قيل نفاق وشكّ وذلك لأنَّ قلوبهم تغلي على النبيّ والوصيّ والمؤمنين حقداً وحَسَداً وغَيظاً وحنقاً وفي تنكير المرض وإيراد الجملة ظرفية إشارة إلى اٍستقراره ورسوخه وإلاّ لقال قلوبهم مرضى.
{ فَزَادهُمُ اللهُ مَرَضا }: بحيث تاهت له قلوبهم.
{ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }.
أقول: أي عذاب مؤلم يبلغ إيجاعه غاية البلوغ بسبب كذبهم أو تكذيبهم على اختلاف القراءة فانّ وصف العذاب بالأليم إنّما يكون للمبالغة وهو العذاب المعدّ للمنافقين وهو أشد من عذاب الكافرين لأنّ المنافقين في الدّرك الأسفل من النار.
{ (11) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ }: باظهار النّفاق لعباد الله المستضعفين فتشوّشوا عليهم دينهم وتحيّروهُم في مذاهبهم.
{ قَالُوا إِنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }: لأنّا لا نعتقد ديناً فنرضى محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلم في الظاهر ونعتق أنفسنا من رقّه في الباطن وفي هذا صلاح حالنا.
{ (12) أَلاَ إنّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ }: بما يفعلون في أمور أنفسهم لأن الله يعرف نبيّه نفاقهم فهو يلعنهم ويأمر المسلمين بلعنهم ولا يثق بهم أيضاً أعداء المؤمنين لأنهم يظنّون أنّهم ينافقونهم أيضاً كما ينافقون المؤمنين فلا يرتفع لهم عندهم منزلة ولهذا رد عليهم أبلغ ردّ.
{ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ }.
{ (13) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ }: قال لهم خيار المؤمنين:
{ آمِنُوا }: قيل هو من تمام النّصح والإِرشاد فان كمال الإيمان إنّما هو بالإِعراض عمّا لا ينبغي المقصود من قوله: لا تفسدوا والاتيان بما ينبغي المطلوب بقوله آمِنُوا { كَمَا آمَنَ النّاسُ }: المؤمنون كسلمان والمقداد وأبي ذرّ وعمّار، وقيل أي الكاملون في الإنسانية العاملون بمقتضى العقل أي آمنوا إيماناً مقروناً بالإِخلاص مبرّءاً عن شوائب النّفاق، { قالوا }: في الجواب لمن يفيضون إليه لا لهؤلاء المؤمنين فانّهم لا يجسرون على مكاشفتهم بهذا الجواب، { أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ } المذلّون أنفسهم لمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلم حتى إذا اضمحل أمره أهلكهم أعداؤه.
{ أَلآ إنّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ } الأخفّاء العقول والآراء الذين لم ينظروا حقّ النّظر فيعرفوا نبوّته وثبات أمره وصحّة ما ناطه بوصيّة من أمر الدين والدنيا فبقوا خائفين من محمد صلّى الله عليه وآله وأصحابه ومن مخالفيهم ولا يأمنون أيّهم يغلب فيهلكون معه فان كلاً من الفريقين يقدّر ان نفاقهم معه كنفاقهم مع الآخر وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ ان الأمر كذلك وأنّ الله يطلع نبيّه على أسرارهم فيخسئهم ويسقطهم.
{ (14) وَإِذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا }: بيان لمعاملتهم مع المؤمنين والكفّار بعد بيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فانّهم كانوا يظهرون الإيمان لسلمان وابي ذرّ ومقداد وعمّار { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِيْنِهِمْ } أخدانهم من المنافقين المشاركين لهم في تكذيب الرسول { قَالُوا إنّا مَعَكُمْ } أي في الدين والاعتقاد كما كنّا { إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ } بالمؤمنين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
{ (15) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } يجازيهم جزاء من يستهزئ به امّا في الدنيا فباجراء أحكام المسلمين عليهم وامره الرسول بالتعريض لهم حتى لا يخفى من المراد بذلك التعريض وامّا في الآخرة فبما روي أنّه يفتح لهم وهُم في النار باباً إلى الجنّة فيسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سدّ عليهم الباب وذلك قوله تعالى: فاليومَ الّذينَ آمَنُوا مِنَ الكفّار يضحكون، رواه العامة.
وفي تفسير الامام عليه السلام ما يقرب من معناه في حديث طويل، { وَيَمُدُّهُمْ } يمهلهم ويتأتّى بهم برفقه ويدعوهم إلى التوبة ويعدهم إذا أنابُوا المغفرة في { طُغْيانِهِمْ } قيل في التعدِّي عن حدّهم الذي كان ينبغي أن يكونوا عليه { يَعْمَهُونَ } لا يرعوون عن قبيح ولا يتركون أذى محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، قيل يعمي قلوبهم والعمه عمى القلب وهو التحيّر في الأمر.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } عطف على " يكذبون " او على " فى قلوبهم مرض " او على " يخادعون الله " او " يقول آمنّا بالله " والافساد تغيير الشّيئ عمّا هو عليه او منعه عن كمال يقتضيه والمراد بالارض اعمّ من ارض العالم الكبير او الصّغير والخروج عن طاعة العقل والامام افساد فى العالم الصغير ويؤدّى الى الافساد فى الكبير والى الافساد الكبير الّذى هو الاستهزاء بالامام وقتله، وما نسب الى سلمان رضى الله عنه: انّ اهل هذه الآية لم يأتوا بعد؛ يدلّ على انّ الآية نزلت فى منافقى الامّة بعد النّبىّ (ص).
{ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } فانّ منكرى التّوحيد او الرّسالة او الولاية يظنّون الخير والصّلاح فى فعلهم لا الشّرّ والفساد فانّ كلّ ذى شعورٍ يقصد بفعله خيره وصلاحه كما نسب الى بعض الصّحابة انّه علّل منع خلافة علىّ (ع) بأنّه قليل السّنّ كثير المزاح.
ولمّا زعموا انّهم مصلحون فى فعلهم وسمعوا نسبة الافساد اليهم نسبوا الاصلاحِ الى انفسهم بطريق قصر شؤنهم عليه مؤكّداً باسميّة الجملة وانّ وافادة الحصر.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير تفسير كتاب الله العزيز/ الهواري (ت القرن 3 هـ) | قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ } بالعمل بالمعصية { قَالُوآ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } يزعمون أنهم بمعصية الله والفساد في الأرض مصلحون. قال الله تعالى: { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } أي: لا يشعرون أن الله يعذبهم في الآخرة ولا [ينفعهم] إقرارهم وتوحيدهم. وهذا يدل على أن المنافقين ليسوا بمشركين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ } أى قال المؤمنون أو الله والنبى والمؤمنون، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختار الفخر التخريج على أحدهما أو الله عز وجل، أو النبى والمؤمنون، أو الله والنبى والمؤمنون، بإخلاص كسرة القاف من قبل، وكذا حيث وقع وكذا غيض وجىء، وقال الكسائى وهشام ذلك كله بإشمام الضم لأوله. { لَهُمْ } أى المنافقين المذكورين وقد علمت أن بعضاً يقول أن الكلام على اليهود. { لاَ تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ } لا تفعلوا ما يؤدى إلى الفساد، فذلك تعبير بالنهى عن المسبب، بدلا للتعبير بالنهى عن السبب، أو تعبير بالنهى عن المسبب بدل التعبير بالنهى عن السبب، أو تعبير بالنهى عن اللازم بدل التعبير بالنهى عن اللزوم، فذلك مجاز مرسل تبعى، فالفساد مسبب ولازم، وفعل ما يؤدى إليه وما سبب ولزوم وهكذا يظهر لى معنى الآية، وإن شئت فقل سمى فعل ما يؤدى غلى الفساد فساداً من باب تسمية الشىء باسم ما يؤول إليه، واشتق منه تفسد بمعنى تفعل ما يؤدى إلى الفساد، وهو مجاز مرسل تبعى ونهى عنه، والداعى إلى هذه الأنواع المجازية أن الإفساد فى اللازم هو قتل الأنفس والإضرار بها، وقتل الدواب والإضرار بها، وقتل الشجر والنخل والزرع والإضرار بها، وغصب الأموال وليسوا يفعلون ذلك حال النهى، بل يفعلون ما يترتب عليه ذلك من تهيج الحرب والفتنة بالكذب والنميمة، وإفشاء السر وغير ذلك مما يقع منهم إلى الكفار فى شأن المؤمنين، وترجيح الكفار، ومساعدتهم على المؤمنين، وإظهار المعاصى والإهانة بالدين المؤفقين فى فساد الخلق، فإن الإخلال بالشريعة يؤدى إلى التعدى إلى حق الغير، ثم ظهر فى فكرى وجه آخر، وهو أن يكون مقولا تفسدوا فى الأرض لا تخالفوا الشريعة فيها، على أن يكون مخالفة الشريعة هو نفس الإفساد فى عرض الشرع، ولو مع قطع النظر عما يؤدى إليه من الفساد المذكور فتكون الآية حقيقة عرفية خاصة مجازاً فى أصل اللغة، والفساد خروج الشىء عن الاعتدال والانتفاع به، فالإفساد إخراجه عن الاعتدال والانتفاع به. { قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } رد على من نسب إليهم الإفساد، ونهاهم بأن أنكروا أن يكونوا مفسدين، وأثبتوا الإصلاح لأنفسهم بوجه بليغ، إذا عبروا بإنما المفيدة للحصر، وهو هنا حصر أنفسهم على الإصلاح وبنوا الكلام على نحن، فكانت الجملة اسمية، ولم يقولون إنما نصلح إصلاحاً بإسقاط نحن، وتكلموا بالاستئناف لا بالعطف، والاستئناف يفيد التأكيد لكونه جواب سؤال، وطلب تحقيقاً أو تقديراً، والمعنى لا يصح نهياً عن الإفساد لأنه ينهى عنه من هو مفسد، ونحن لسنا بمفسدين، ما حالنا إلا إصلاح لا يخالطه شىء من إفساد وذلك أنه زين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسناً فليسو بمقلعين عنه، والصلاح كون الشىء معتدلا منتفعاً به، والإصلاح تكوينه كذلك بعد أن لم يكن كذلك أو بعد أن كان فاسداً ضاراً، والإصلاح يعم كل نافع، والإفساد يعم كل ضار، وقالوا جواب إذ لا محل له لأنه جواب شرط غير جازم، وجملة الشرط والجزاء، وأداة الشرط معطوفة على يكذبون، فهى فى محل نصب لعطفها على خبر كان، كأنه قيل بكونهم يكذبون، وكونهم إذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض، قالوا إنما نحن مصلحون أو معطوفة على يقول، سواء، فلا محل لها لأنها معطوفة على الصلة، كأنه قيل ومن الناس من إذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
إلخ، ومن قال الظروف وسائر الفضلات زوائد عن الجملة لا بعضها قال مرعاة المحل وعدمه إنما هو لمتعلقها، وهو هنا جواب إذا، وكذا العطف وسائر الأحكام، وما اشتهر من أن جواب الشرط غير الجازم لا محل له على الإطلاق، بناء على أن الظرف وسائر الفضلات أبعاض الجملة لا زوائد عنها، ووجه العطف على يقول أن يكون على طريق تعديد قبائحهم، ويفيد اتصافهم بما ذكر قصدوا استقلالا ويدل على أن العذاب لاحق بهم من أجل كذبهم الذى هو أدنى حالهم فى الكفر والنفاق، فكيف بسائر الأحوال، ووجه العطف على يكذبون أنه أقرب، وأنه يفيد سببيته قولهم إنما نحن مصلحون للعذاب، ويفيد أن ما يوجب الفساد يجب الاحتراز عنه لقبحه، كما يجب الاحتراز عن الكذب وفى العطف على يكذبون السلامة من الفصل من الموصول، والصلة بالبيان أو بالاستئناف، فإنك إذا عطفت { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِى الإرْضِ قَالُوا... إلخ } أو { قَالُوا... الخ } على صلة من كان صلة لها أيضاً بواسطة العطف، فيؤخذ الفصل بين الموصول وما هو صلة له، وإن قلت أين الرابط بين المعطوف على خبر كان وبين اسمها إذا عطفنا على خبرها، وبين الصلة والموصول إذا عطفنا على الصلة؟ قلت هو فى قولهم وفى قالوا متعدد، فإن الآية متصلة بما قبلها ومرجع ضمائرها وضمائر ما قبلها واحد، وأما ما روى عن سلمان الفارسى أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد، فلعل المراد أن أهلها لم يأتوا كلهم، بل أتى بعضهم فقط، ويأتى الباقى ممن صفته صفة هؤلاء مشركاً كان أو موحداً، فاسقاً وكم فاسق موحد تنهاه عن اعتقاد أو عمل فاسد، فيقول إنه صلاح وإنى مصلح، ويجوز بأن يراد بالإفساد الذى نهوا عنه فى الآية موالاة الكفار خصوصاً فيريدوا بقولهم إنما نحن مصلحون أن نواصلهم، لأنهم قرابة وأنا نصلح بينهم وبين المؤمنين، وما تقدم أولى من التعميم وأولى فى تفسير الآية فيشتمل منع الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن وغير ذلك.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } المعنى، من الناس من يقول، آمنا بالله وباليوم الآخر وهو كاذب، ويقول، إنما نحن مصلحون إذا قيل لهم لا تفسدوا، ويقول، أنؤمن كما آمن السفهاء إذا قيل لهم آمنوا، ويقول للمؤمنين آمنا، ويقول لأصحابه، إنا كافرون { لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ } بالكفر وأعماله وأعماله والمعاصى، ويمنع الناس من التوحيد وأعماله، فإن الإسلام صلاح الأرض، والكفر فساد وليس من صفات الله ولا من أفعاله، فإذا أزال الله الثمار أو نور البصر أو نحو ذلك، فلا تقل أفسدها، والأرض أرض المدينة، أو جنس الأرض، وليست للاستغراق { قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } للأرض من مكارم الأخلاق كالصدقة وقِرى الضيف، وهذا جواب بالإعراض عما نهوا عنه من الكفر والمعاصى، والأولى أن يكون الجواب له، فيكون المعنى مصلحون الأرض بما نفعل من الكفر وأعماله، والمنع الجواب له: فيكون المعنى مصلحون الأرض بما نفعل من الكفر وأعماله، والمنع من التوحيد والإفساد هو ما عليه المؤمنون من التوحيد والدعاء إليه، والعمل بمقتضاه، وعطف الجملة على قلوبهم مرض، أو على كانوا يكذبون فينسحب عليها معنى الباء، والأصل فى التعليل أو السبية، فى غير مقام مجرد الإخبار، أن يكون بوصف معلوم عند المخاطب ولو بالالتزام، وهذه الشرطية غير معلومة الانتساب لكن لا مانع من التعليل أو التسبب بما ليس عنده إخبار بالواقع، وأنه أحق، ولو لم يعرف، وأنه كيف لا يعرف.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) | هذا هو ديدن المنافقين، ومسلك المفسدين، فإن الغرور يتغلغل في نفوسهم فيعميها عن الحق، ويبعدها عن الحقيقة، فإذا طولبوا بالصلاح، والكف عن الفساد، استخفوا بهذه المطالبة ونظروا إلى صاحبها شزرا، وأعاروه أذنا صماء زاعمين أن ما هم فيه وعليه هو عين الصلاح، وروح الإِصلاح، فكيف يطالبون بالكف عنه والتحول إلى نقيضه، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على ما وصلت إليه قلوبهم من المرض، وانتهت إليه أفكارهم من الانحراف، وبلغت إليه فطرهم من التعفن، وهو الذي أدى إلى انقلاب موازين الأمور عندهم، وانعكاس مقاييسها، فهم يرون الباطل حقا، والحق باطلا، والصلاح فسادا، والفساد صلاحا، وهكذا.
وليس ذلك مقصورا على ذلك الجيل من المنافقين الذين عاصروا نزول الوحي وشاهدوا بزوغ شمس الاسلام، فشرقوا لانتشار ضيائها، وجزعوا من عموم هداها، بل هذه هي سمة أهل النفاق، وطريقة أهل الفساد في كل عصر خصوصا عندما يستشري داؤهما في مجتمع أو شعب أو أمة، فلا تستغرب إن وصفوا المعروف بصفة المنكر أو ألبسوا المنكر حُلة المعروف، كما أشار إلى ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر لا يحتاج إلى أن يقام عليه برهان لوضوحه في مختلف العصور لا سيما هذا العصر الذي فتك فيه بالانسانية عامة، وبهذه الأمة خاصة داء الجاهلية العضال، تلك الجاهلية التي جُليت للناس في ثوب مهلهل برّاق محبوك بخيوط من الزور ومصبوغ بألوان من الخداع، فغرقت في ظلمات الجهل والأوهام حتى لم تعد تبصر الحقيقة أو تفرق بين الحق والباطل، فكم من مأساة ارتكبت في هذا العصر باسم العلم أو التقدم أو الحرية، وكم تهمة وُجِّهت فيه إلى الدين وأهله، وإذا خوطب أحد من هؤلاء المتشبثين بغروره، الغارقين في ضلاله، بآيات الله البينات ولّى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا.
ومن أمثلة ذلك ما كان من أحد الطواغيت - الذين طواهم الزمن - عندما طولب بتطبيق شرع الله، فأجاب ساخرا من هذه المطالبة وممن صدرت منه: " إن زماننا هذا أوسع من أن تتسع له شريعة الله " كأنما شرع الله الذي وسع السماوات والأرض، والذي قام على موازينه الوجود، أضيق مجالا وأقل عطاء في نظره من تلك الأوهام الضالة التي أُخرجت للناس في صورة قوانين لتبث في الأرض الفساد وتشيع الظلم بين الناس.
ومما شاع في أوساط كثير من أولئك الذين أصيبوا بهذا الداء الجاهلي الدفين، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخُّل غاشم في شئون الناس الخاصة، ومصادرة لحرياتهم الشخصية ضاربين عرض الحائط بقوله عز وجل:**{ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[آل عمران: 104]، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اعتبروا المحافظة على الدين من العيوب التي يستحيي منها الفرد الكيّس، ويترفع عنها المجتمع الواعي، فلم يتورعوا أن يصفوا التمسك بالمبادئ الحقة تارة بالجمود، وتارة بالتحجر، ومرة بالرجعية، وأخرى بالتطرف، ولا أزال أذكر جواب أحد المغرورين عندما وجّه إليه أحد دعاة الخير نصيحة بالكف عن مفسدة فقال له ساخرا منه ومن نصيحته: (ما أغلى نصحك وأحلى كلامك غير أنهما لم يأتيا في زمنهما المناسب، فقد تأخرا عن وقتهما قرنا من الزمن، وعجلة الأيام لا تعود إلى الخلف)، وهو كلام يدل على أن صاحبه يعتقد بأن الدين طواه الزمن وأبلاه الدهر، فلا يصلح اليوم لما كان يصلح له بالأمس، ولكن - بحمد الله - أصيب الذين يسودهم هذا التفكير بخيبة أمل عندما أثبتت الأيام أن الدين وحده هو القوة الغيبية التي تتلاشى بين يديها جميع القوى، وأنه - رغم محاربته والتآمر عليه بشتى المكائد - لا يزال في إقبال ونمو كما شرع أول مرة، فهذه الصحوة الإِسلامية - والحمد لله - أخذت تقض على الجاهلية الحديثة مضجعها، وتثير في أعماق نفسها الخوف والرعب، وسوف يأتي اليوم الذي يسود فيه هذا الدين إن شاء الله، ويهد أركان هذه الجاهلية، ويجتث بنيانها كما فعل بسالفتها الجاهلية القديمة؛ عندما طوى ظلامها بإشراق نوره وسطوع هداه.
وكثيرا ما يتردد على ألسنة منافقي العصر الحديثِ التشدق بالاسلام، ودعوى الانتماء إليه، والاعتزاز به، ليواروا بذلك ما ينطوون عليه من الكفر والشر والفساد، غير أن طبيعتهم المنحرفة تجعلهم أحيانا تفيض ألسنتهم بما تطفح به صدورهم من الحقد الدفين والكراهية المتأصلة للاسلام والمسلمين.
وقوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ.. } " الآية " ، وارد مورد تعداد مساوئ المنافقين، وهتك أستارهم والنعي عليهم، فلذلك لا أجد داعيا إلى السؤال هل هو معطوف على جملة " يكذبون " من الآية السابقة كما رجحه الزمخشري، أو معطوف على { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } كما اختاره الألوسي، أو معطوف على { يقول آمنا } كما حكاه الزمخشري، أو على { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } كما استظهره ابن عاشور؟ فإنه مع جواز عطف القصة على القصة - كما تقدم - لا يمنع أن تساق أحوال طائفة مخصوصة في نسق يتبع بعضها بعضا سواء كان الحديث عن بعضها في جملة أو أكثر، إذ المراد تجلية هذه الأحوال للسامعين ليكونوا منها على بصيرة ومن أصحابها على حذر.
ويرى بعض أهل التفسير أن إذا هنا عارية عن معنى الشرط، وإنما هي للظرفية وحدها، ويترتب على ذلك كونها للمضي وليست للاستقبال كما إذا كانت شرطية، وهو واضح لأن ذلك ديدنهم قبل الاخبار عنهم، ونحوها قوله تعالى:**{ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[آل عمران: 152]، فإن دلالتها على المضي فيه واضحة.
وتقديم الظرف على { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } هو - كما يقول ابن عاشور - لايقاظ الأفكار وتنبيه العقول على ما وصلوا إليه من الفساد، وانتهوا إليه من الضلال، وفي ذلك تعجيب من حالهم، فإنه من شأن الفساد أن يكون باديا للأنظار السليمة ومتشخصا للأفكار المستقيمة، ولا تكون المكابرة بإنكاره ودعوى أنه عين الصلاح وروحه إلا ممن بلغ الفساد فيه غايته، خصوصا عندما يكون مثل هذا الجواب موجها إلى الناصح الأمين في مقام التوعية والتنبيه.
واختُلف في قائلي { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } هل هو الله أو رسوله أو المؤمنون؟ ولا فارق بين أن يكون قائل ذلك هو الله أو الرسول، نظرا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله، أما القول الثالث - وهو أن قائله المؤمنون - فهو محمول على أن طائفة من المؤمنين كانت تكتشف خبايا المنافقين بما يكون بينهم من الاتصال بسبب قرابة أو صحبة، ولا يألون جهدا - عندما يكتشفون نفاقهم - أن يوجهوا إليهم النصح، ويحاولوا تخليصهم مما هم فيه من الضلال راجين أن تجدي فيهم الموعظة ويؤثر فيهم التذكير، وهذا القول مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وروي مثله عن مقاتل، واعتمده العلامة ابن عاشور نظرا إلى أنه لو كان قائل ذلك هو الله أو رسوله لانكشف أمرهم وانهتك سرهم ولم يعودوا في طوايا الخفاء، ولو كان هذا الخطاب موجها إليهم إجمالا كما تتنزل مواعظ القرآن، لم يستقم جوابهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } لأن مثل هذا الجواب المقرون بالتأكيد لا يصدر إلا ممن خُص بالخطاب.
واستشكل كون طائفة من المؤمنين عرفت أشخاص المنافقين أو بعضهم، واكتشفت خبايا نفاقهم، ولا تكشف مع ذلك أمرهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولسائر المؤمنين.
وأجيب عنه بجوابين:
أولهما: أن المكتشفين كانت بينهم وبين من اكتشفوهم صلة قربى تجعلهم يطمعون أن تجدي فيهم موعظتهم، ويؤثر فيهم تذكيرهم، فلذلك كانوا يؤثرون سترهم رجاء أن يتحولوا في يوم من الأيام عما هم فيه من الضلال، وإن كانوا أحيانا يشارفون اليأس من صلاحهم عندما يقرعونهم بمثل هذا الجواب الذي يستأصل كل طمع في ارعوائهم.
ثانيهما: أنه لا يبعد أن يكونوا قد كشفوا أمرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن المنافقين كانوا من الحذر على أنفسهم بحيث لا ينكشف أمرهم إلا مع الوحدان دون الجماعات، فلم تكن الحجة تقوم بهم عليهم، وهذا الجواب هو الذي يجب الاعتماد عليه - فيما أرى - لثلاثة أوجه:
أولها: أن المؤمنين لم يكونوا يرعون في جنب الحق قرابة قريب ولا صلة واصل، وما كانوا تأخذهم في الله لومة لائم، بل كانوا يؤثرون الحق على آبائهم وأبنائهم، وأحب الأحباب إليهم، كما يدل على ذلك موقف ابن رأس النفاق عبدالله بن أبيّ من أبيه حال رجوع المسلمين من غزوة بني المصطلق، فقد اعترض دخوله المدينة إلا بعد إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورماه بألذع الكلمات انتصارا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقف أمره عند هذا الحد، بل استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ثانيها: أنه سبق ذكر بعض من شهد على أهل النفاق من قرابتهم كربيب الجلاس الذي شهد عليه.
ثالثها: أن في القرآن الكريم تصريحا بأن المنافقين كانوا يتوقَّون بالأيمان، فقد قال تعالى عنهم:**{ ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً }** [المجادلة: 16]، وقال:**{ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ }** [التوبة: 74]، وكفى بذلك شاهدا على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أخلصوا لله إيمانهم ومحضوه ولاءهم كانوا يفضحون كل من بدرت منه بادرة سوء من المنافقين أمام النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وذلك الذي يلجئ المنافقين إلى تكرار الأيمان اتقاء لما عسى أن يترتب على ما نسب إليهم من الأحكام.
واستظهر بعض المفسرين أن قائل { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } هو من نفس المنافقين، إذ لا يبعد أن يلمع لبعضهم بريق من الفطرة فيدرك أن المغبة السيئة لما هم فيه لن تعود إلا عليهم، وأن إغراق رؤسائهم في النفاق، ومحاربة الاسلام وأتباعه، وتأليب المشركين على المسلمين من خلف الأستار فتنة عمياء قد يكونون هم الذين يصطلون نارها، فلعل المشركين إن تمكنوا من المسلمين ينقلبون عليهم ويتخلصون منهم كما تخلصوا من المسلمين، غير أن رؤساءهم يرون أن خطتهم هي عين الصواب، فقد سبق للمشركين أن جاوروهم زمنا طويلا فلم ينتزعوا منهم سلطانهم الروحي ولم يهددوهم في مصالحهم المادية، بل كانوا ينظرون إليهم نظر إعظام وإكبار لتميزهم عليهم بما عندهم من علم الكتاب، وانفرادهم بينهم بمعارف النبوات حتى أنهم كانوا يدفعون إليهم أفلاذ أكبادهم لينشأوا على دينهم ويتغذوا بمعارفهم، فرعبهم إنما هو من المسلمين دون غيرهم، وهذا مبني على أن المنافقين كانوا من اليهود كما تقدم.
والفساد خروج الشيء عن الاعتدال اللائق به الذي تتوقف عليه منفعته، وإفساده إخراجه عن ذلك، وقسم بعضهم الفساد إلى قسمين، فساد طارئ وفساد أصيل، فالفساد الطارئ تحول الشيء من المنفعة إلى المضرة، والفساد الأصيل وجوده ضارا من أول الأمر، وعليه فالافساد يكون إما باستخدام ما ينفع فيما يضر، وإما إيجاد ما يكون منه ضرر من غير منفعة، واستظهر ابن عاشور أن الفساد موضوع للقدر المشترك من هذين المعنيين، فيتناولهما مع إطلاقه، وليس من الوضع المشترك بحيث يستقل كل واحد من المعنيين بدلالة اللفظ عليه فيكون إطلاقه عليهما من باب إطلاق المشترك على معنييه.
والإِفساد في الأرض يكون بتحويل المنافع إلى مضار كالغش في البضائع، وبالقضاء على منافعها، كالاحراق، وقتل من لا يستحق، وبإثارة الفتن بين أهلها لما يترتب عليها من الأحقاد التي تقطع العلاقات وتحل الوشائج، والحروب التي تهلك الحرث والنسل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ومن أنواع الإِفساد، تحسين المنكرات، وتزيين الباطل، والتنفير عن الحق، وتقبيحه بدعايات الزور، والمنافقون قد أخذوا بحظ وافر من أنواع الفساد جميعها، ولا يبعد أن يكون حذف معمول تفسدوا لأجل تأكيد العموم المستفاد من وقوع الفعل في حيز النفي كما نبه عليه المحقق ابن عاشور، على أن ذكر مكان الافساد وهو الأرض من أدلة قصد العموم، فكأن كل جزء منها مصاب بأثر إفسادهم، وهذا لأن ما يقع في أي رقعة من هذه الأرض من المنكرات ينعكس أثره على جميعها.
واختلف أهل التفسير في المراد بالافساد هنا، قيل إنه الكفر، رواه ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وآخرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل هو المعصية، رواه ابن جرير عن الربيع بن أنس، ونسبه الفخر الرازي إلى ابن عباس والحسن وقتادة والسُّدي، وحكى تقريره عن القفال بأن معصية الله في الأرض إنما كانت فسادا، لأن الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان، ولزم كل أحد شأنه، وحقنت الدماء، وسكنت الفتن، وكان فيه صلاح الأرض وصلاح أهلها، أما إذا تركوا التمسك بالشرائع وأقدم كل أحد على ما يهواه، لزم الهرج والمرج والاضطراب، ولذلك قال تعالى:**{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ }** [القتال: 22]، نبههم على أنهم إن أعرضوا عن الطاعة لم يحصلوا إلا على الافساد في الأرض، وقيل هو ما يكون من المنافقين من مداراة للكفرة والاختلاط بهم، لما في ميلولتهم إلى الكفر مع تظاهرهم بالايمان من إيهام بضعف النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وما يترتب عليه من تجرؤ الكفرة على إظهار عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإيقاد نار الحرب له وطمعهم في الانتصار عليه، وقيل إنهم كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه صلى الله عليه وسلم وجحد الاسلام، وإثارة الشبه حوله.
وذكر المحقق ابن عاشور أن إيقاعهم الفساد ينقسم إلى مراتب:
أولها: إفسادهم أنفسهم بإصرارهم على تلك الأمراض النفسية الناشئة عن النفاق التي سلف ذكرها، وما يتولد منها من مفاسد، ويترتب عليها من مذام.
ثانيها: إفسادهم أولادهم وحواشيهم، لأنهم يقتدون بهم في مساوئهم، وإفسادهم الناس ببث تلك الصفات الذميمة بينهم ودعوتهم إليها، وهذا ما حكى الله عن نوح - عليه السلام - أنه قال:**{ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً }** [نوح: 27].
ثالثها: إفسادهم مجتمعهم بأفعالهم التي يستشري داؤها في أوساط الناس، كإلقاء النميمة، وإثارة العداوة، وتسعير الفتن، وتأليب الأحزاب على المسلمين، وإحداث العقبات في طريق المصلحين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والافساد يعم ذلك كله، كما يعم كل ما ينشأ عنه من مضرة في الدين أو الدنيا، كانتشار الجهل، وحصول الانحراف الفكري أو السلوكي، وقتل الأنفس، وغصب الأموال وإتلافها، وانتهاك الأعراض، وهو مما يترتب على أعمال المنافقين من إثارة الأحقاد، وتأليب الأحزاب، وإلقاء الشبه، وإغراء العداوات والبغضاء بين الناس.
واختُلف في المراد بالأرض هنا، فقيل أرض المدينة، وعليه فـ (أل) للعهد الذهني، للعلم بأن القرآن كان يتحدث عن المنافقين الموجودين في عصر النبوة، وكانوا منبثين في أنحاء المدينة المنورة وما حولها، وقيل بل المراد بالأرض الكرة الأرضية وما فيها من الناس والحيوانات والنبات والجماد والنواميس والأنظمة، لانعكاس أثر الفساد على ذلك كله، فإن الأرض جزء من مملكة الله الواسعة تربطها بسائر الأجزاء نواميس وأنظمة، وسنن وطبائع، وفي خروج الانسان عن منهج الله إخلال بهذه الرابطة، ونقض لعرى هذه الوحدة.
وأنت إذا تدبرت ما أسلفناه من أن الحديث عن المنافقين في القرآن لا ينحصر في تلك الطائفة التي كانت في عهد النبوة، وأنه يتجه إلى كل من شاكلهم في أي عصر، أدركت رجحان الرأي الأخير، على أنه مما ينبغي ألا يُغفل عنه أن في ذكر الأرض تنبيها لأولئك المفسدين المخاطبين بأن عاقبة فسادهم تنقلب عليهم بالمضرة، وتعود عليهم بالخسران، فالأرض مهادهم في حياتهم، عليها يستقرون، ومثواهم بعد مماتهم إليها يرجعون، ومصدر كثير من نعم الله عليهم، وقد أُعدت بما جهزت به من مختلف الطبائع لأن تكون صالحة للاستقرار، ومتلائمة مع سنن الكون ونواميس الوجود، ففساد المفسدين فيها ينعكس أثره السلبي عليها، ولذلك تكرر تحذير الانسان من الافساد في الأرض، وتوبيخ المفسدين فيها في آي القرآن، نحو قوله عز وجل:**{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا }** [الأعراف: 56]، وجاء في القرآن ما يدل على أن الاستقامة على منهج الله من أسباب استمرار الخير، وحصول المنافع، وتتابع النعمة، فالله تعالى يقول:**{ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً }** [الجن: 16]، ويحكي عن نوح - عليه السلام - قوله لقومه:**{ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً }** [نوح: 10 - 12]، وكثيرا ما تكرر في القرآن تذكير الانسان بنعمة الله عليه بخلق الأرض وما فيها لأجله، وبتهيئة أسباب عيشه وراحته فيها، ومنه قوله تعالى:**{ وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ }** [النازعات: 30 - 33]، وقوله:**{ فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ }** [عبس: 24 - 32]، وفي طي هذا التذكير تحذير من كفران هذه النعم واستخدامها في غير ما خُلقت لأجله.
وقولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } رد على نسبة الافساد إليهم، بما يفيد أنهم أبعد ما يكونون عن الحوْم حول الفساد أو الإِفساد، حيث نسبوا في هذا الرد إلى أنفسهم الإِصلاح الذي هو نقيض الإِفساد، وأتوا بالجملة الاسمية في مقابل الفعلية التي خوطبوا بها، لتأكيد استمرارهم على منهج الإِصلاح، وهذا لأن شأن الجملة الاسمية إفادة الثبوت والدوام، وأكدوا مرادهم بإنما المفيدة للقصر، كل ذلك لدرء ما وُجّه إليهم من تهمة الإِفساد، والتنصل مما رُموا به بسبب ما ينكشف منهم من بوادر السوء، ويفيض على ألسنتهم أحيانا من عبارات تكنّ الحقد والكراهية، وهو معنى ما رواه ابن جرير في تفسير الآية عن مجاهد أن مرادهم بهذه الإِجابة أنهم على الهدى مصلحون، وثم أقوال أخرى للمفسرين:
منها ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن مرادهم بهذا القول إنما نريد الإِصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب، ومعنى ذلك أنهم يريدون إرضاء الطائفتين، والتقريب بين معتقداتهما، وقيل إن الجواب يتضمن الاعتراض بما اتُّهموا به من موالاة الكفار وممالأتهم، ولكنهم نفوا عن ذلك صفة الفساد زاعمين أنهم بما يأتون مصلحون، لأنهم يرعون به قرابة ذوي القربى من الكفار المعاندين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ويتبادر أن أصحاب هذا القول والذي قبله يستندون فيهما إلى ما يوحي به قوله عز وجل:**{ فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً }** [النساء: 62]، ولعل أكثر المفسرين أميل إلى القول الأول، ويعتضد رأيهم بقوله سبحانه:**{ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ }** [فاطر: 8]، وقوله:**{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }** [الكهف: 103 - 104].
وفي تصدير جوابهم بأداة القصر تأكيد لما يزعمونه من الإِصلاح، فإنهم أرادوا معاكسة متهميهم بالإِفساد بهذا القصر القلبي، بحيث يوهمونهم أن الإِصلاح متمحض فيهم، وأن شائبة من الإِفساد لم تحم حولهم، فإن الذين اتهموهم إما أن يريدوا بقولهم لهم { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } لا يكن عملهم إفسادا من غير إصلاح، وإما أن يريدوا به لا تخلطوا بين الصالح والفاسد من الأعمال، فإن الفاسد يؤثر على الصالح فيفقده منفعته، فكان جوابهم يفيد أن أعمالهم كلها مقصورة على الاصلاح، وهو ناتج عن ضلال فكرهم، وفساد فطرهم، وقد رد الله عليهم بقوله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } لاستئصال ما تشبثوا به من دعوى فارغة بأنهم لم يتعدوا حدود الاصلاح.
وقد صُدر هذا الرد بأداة الاستفتاح المفيدة للتأكيد، ووليت ذلك " إن " المختصة به، وجيء بالمسند معرفا لإِفادة قصره على المسند إليه، ووُسط بينهما ضمير الفصل المؤكد لهذه الإِفادة، ليكون ذلك أبلغ في نقض دعواهم وكبح غرورهم وفضح سرائرهم، فظاهر الرد يقضي أن الافساد منحصر فيهم، وأنه صفتهم الوحيدة التي يتميزون بها، وذلك لا ينافي أن يكون في الأرض من لا يحصى عددا من المفسدين غيرهم، كالمشركين المجاهرين بشركهم، لأن القصر في الرد هو قصر قلب كما سبق بيانه في تفسير جوابهم، وهو من ضروب تأكيد الكلام.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وحصر الافساد في هؤلاء لأنهم بمسلكهم الملتوي وسلوكهم المتلون أخطر ما يكونون بين الناس، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأن تتفشى العداوة بين الناس، وأن تتقطع الصلات بين الأقربين، وأن تتحول أسباب الخير، والرحمة، والمودة، إلى أضدادها، وإنما يحول بينهم وبين إدراك خطأ ما هم فيه وضرر ما هم عليه؛ تبلد أذهانهم وانطماس بصائرهم حتى صاروا لا يشعرون فظنوا الشر خيرا، وسموا الإِفساد إصلاحا.
ونفي الشعور عنهم يعم نفي شعورهم بسوء حالهم في الدنيا، وشر مآلهم في الآخرة، فإنهم لو رُزقوا شيئا من نور العقل لأدركوا أن ما يزعمونه إصلاحا ويعتقدونه صلاحا، هو مفتاح كل شر على أنفسهم، ولأدركوا أن عاقبة مكرهم ستحيق بهم { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } ، ولو فكروا قليلا فيما بعد هذه الحياة لبادروا إلى الإِقلاع عن حالتهم والرجوع عن غيهم.
والظاهر أن الشعور المنفي هنا هو شعور مقيد، وهو إدراك خطأ ما يأتونه من الأعمال التي يعاكسون بها دعوة المصلحين، أو إدراكهم شر ما ينتظرهم من العذاب في الآخرة ومن المهانة في الدنيا كما أشرنا إليه من قبل، وقيل هو مطلق الشعور؛ للإِيغال في ذمهم والمبالغة في تسفيههم، فقد أُنزلوا منزلة البهائم العجماء التي لا تميز بين الخير والشر، ولا تفرق بين النافع والضار، وعليه ففي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين حتى لا يبالوا بما يلقونه من عنت هؤلاء المنافقين، ومن نظرائهم في كل عصر، وذلك أن مسلك أهل النفاق لا يكاد يختلف بين زمان وآخر، وما يلقاه منهم المؤمنون الصالحون صورة متكررة مما صدر من أسلافهم الذين كانوا مصدر عنت وبلاء في عهد النبوة، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علو منزلته ورفعة قدره ع ند الله قد لاقى الذي لاقاه منهم، فلا عجب إن لقي أتباعه صلى الله عليه وسلم في العصور المتتابعة من سفه الضالين وعنت المنافقين ما يكاد يزهق النفوس ويطير العقول؛ لولا صلتها بالله وثقتها بوعده.
وروى ابن جرير عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أن المذكورين في الآية لم يأتوا بعد، وحمله ابن جرير على أن أكثر المتصفين بهذه الصفات إنما يأتون بعد عهد النبوة، ما عدا طائفة منهم كانت في عهده صلى الله عليه وسلم، وهي قليلة إذا ما قيست بمن يأتي من بعدها ممن هو على شاكلتها، وفي هذا ما يؤيد ما ذكرته من قبل من تكرر صورة النفاق والمنافقين في كل عصر، خصوصا عندما يشعرون بدنو قوة الاسلام ويتوجسون خيفة من سلطانه، فإنهم لا مفر لهم في هذه الحالة من أن يلبسوا لبوسه، ويمشوا في ركاب أهله، وليس مرادهم من ذلك إلا انتهاز الفرصة المواتية ليطعنوه من الخلف، مع ما ينالونه بهذا المسلك من أغراض دنيوية ومنافع عاجلة
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ }** [التوبة: 32 - 33].
هذا ويرى بعض المفسرين عدم اشتراط وقوع ما ذُكر من القول والجواب في الآية، فقد جوّز أن يكون من باب التصوير لحالهم، فكان شأنهم شأن من إذا طولب بالكف عن الفساد ونُصح بلزوم مسلك الصلاح ازدرى بناصحه، وزعم أن ما يأتيه هو عين الصلاح، وهذا كما لو أردت أن تكشف سجية أحد فقلت لمن تحدثه عنه إن قلت له كذا أجابك بكذا، ويبعد هذا القول مكان " إذا " المفيدة لتحقق الوقوع.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | |
| --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) | اختلف في هذه الجملة فقيل معطوفة على**{ يَكْذِبُونَ }** [البقرة: 10] لأنه أقرب وليفيد تسببه للعذاب أيضاً وليؤذن أن صفة الفساد يحترز منها كما يحترز عن الكذب. ووجه إفادته لتسبب الفساد للعذاب أنه داخل في حيز صلة الموصول الواقع سبباً إذ المعنى في قولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } إنكار لادعائهم أن ما نسب لهم منه صلاح وهو عناد وإصرار على الفساد والإصرار على ذلك فساد وإثم، وهذا الذي مال إليه الزمخشري ـ وهو مبني على عدم الاحتياج إلى ضمير في الجملة ـ يعود إلى (ما) فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإلا يكون التقدير ولهم عذاب أليم بالذي كانوا إذا قيل لهم الخ وهو غير منتظم وكأن من يجعل (ما) مصدرية يجعل الوصل بـ (كان) حيث لم يعهد وصلها بالجملة الشرطية نعم يرد أن قوله تعالى: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } كذب فيؤول المعنى إلى استحقاق العذاب بالكذب وعطف التفسير مما يأباه الذوق والاستعمال ومن هنا قيل: بأن هذا العطف وجيه على قراءة**{ يَكْذِبُونَ }** [البقرة: 10] بالتشديد على أحد احتمالاته ليكون سبباً للجمع بين ذمهم بالكذب والتكذيب. وقول مولانا مفتي الديار الرومية في الاعتراض: إن هذا النحو من التعليل حقه أن يكون بأوصاف ظاهرة العلية مسلمة الثبوت للموصوف غنية عن البيان لشهرة الاتصاف بها عند السامع أو لسبق الذكر صريحاً أو استلزاماً، ولا ريب في أن هذه الشرطية غير معلومة الانتساب بوجه حتى تستحق الانتظام في سلك التعليل لا يخفى ما فيه على من أمعن النظر، وقيل: معطوفة على**{ يَقُولُ }** [البقرة: 8] لسلامته مما في ذلك العطف من الدغدغة ولتكون الآيات حينئذٍ على نمط تعديد قبائحهم وإفادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالاً وقصداً ودلالتها على لحوق العذاب بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم فما ظنك بسائرها؟ ولكون هذا الماضي لمكان إذاً مستقبلاً حسن العطف، وفيه أن مآل هذه الجملة الكذب كما أشير إليه فلا تغاير سابقها ولو سلم التغاير بالاعتبار وضم القيود فهي جزء الصلة أو الصفة وكلاهما يقتضي عدم الاستقلال، وأيضاً كون ذلك الكذب أدنى أحوالهم لا يقبل عند من له أدنى عقل على أن تخلل البيان والاستئناف وإن لم يكن أجنبياً بين أجزاء الصلة أو الصفة لا يخلو عن استهجان فالذي أميل إليه وأعول دون هذين الأمرين عليه ما اختاره المدقق في «الكشف»، وقريب منه كلام أبـي حيان في «البحر» أنها معطوفة على قوله:**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ }** [البقرة: 8] لبيان حالهم في ادعاء الإيمان وكذبهم فيه أولاً ثم بيان حالهم في انهماكهم في باطلهم ورؤية القبيح حسناً والفساد صلاحاً ثانياً، ويجعل المعتمد بالعطف مجموع الأحوال وإن لزم فيه عطف الفعلية على الاسمية فهو أرجح بحسب السياق ونمط تعديد القبائح، وما قيل عليه إنه ليس مما يعتد به وإن توهم كونه أوفى بتأدية هذه المعاني وذلك لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم إذ لا يحسن حينئذٍ عود الضمائر/ التي فيها إليهم ـ كما يشهد به سلامة الفطرة لمن له أدنى دربة بأساليب الكلام ـ كلام خارج عن دائرة الإنصاف كما يشهد به سلامة الفطرة من داء التعصب والاعتساف فإن عود الضمائر رابط للصفات بهم وسوق الكلام مناد عليه، وقد يأتي في القصة الواحدة جملة مستأنفة بغير عطف فإذا لم ينافه الاستئناف رأساً كيف ينافيه العطف على أوله المستأنف، والعطف إنما يقتضي مغايرة الأحوال لا مغايرة القصص وأصحابها.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
وما أخرجه ابن جرير عن سلمان رضي الله تعالى عنه من أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد ـ ليس المراد به أنها مخصوصة بقوم آخرين كما يشعر به الظاهر بل إنها لا تختص بمن كان من المنافقين وإن نزلت فيهم إذ خصوص السبب لا ينافي عموم النظم، ثم القائل للمنافقين في عصر النزول هذا القول إما النبـي صلى الله عليه وسلم تبليغاً عن الله سبحانه المخبر له بنفاقهم أو أنه عليه الصلاة والسلام بلغه عنهم ذلك ولم يقطع به فنصحهم فأجابوه بما أجابوه أو بعض المؤمنين الظانين بهم المتفرسين بنور الإيمان فيهم أو بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله منهم لأمر ما فينقلب واعظاً لهم قائلاً: لا تفسدوا.
والفساد التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة ونقيضه الصلاح، والمعنى لا تفعلوا ما يؤدي إلى الفساد وهو هنا الكفر كما قاله ابن عباس أو المعاصي كما قاله أبو العالية أو النفاق الذي صافوا به الكفار فأطلعوهم على أسرار المؤمنين فإن كل ذلك يؤدي ولو بالوسائط إلى خراب الأرض وقلة الخير ونزع البركة وتعطل المنافع، وإذا كان القائل بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله ممن شاركهم في الكفر يحمل الفساد على هيج الحروب والفتن الموجب لانتفاء الاستقامة ومشغولية الناس بعضهم ببعض فيهلك الحرث والنسل. ولعل النهي عن ذلك لخور أو تأمل في العاقبة وإراحة النفس عما ضرره أكبر من نفعه مما تميل إليه الحذاق. على أن في أذهان كثير من الكفار إذا ذاك توقع ما يغني عن القتال من وقوع مكروه بالمؤمنين**{ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ }** [التوبة: 32]، ولا يخفى ما في هذا الوجه من التكلف، والمراد من الأرض جنسها أو المدينة المنورة، والحمل على جميع الأرض ليس بشيء إذ تعريف المفرد يفيد استيعاب الأفراد لا الأجزاء، اللهم إلا أن يعتبر كل بقعة أرضاً، لكن يبقى أنه لا معنى للحمل على الاستغراق باعتبار تحقق الحكم في فرد واحد وليس ذكر الأرض لمجرد التأكيد بل في ذلك تنبيه على أن الفساد واقع في دار مملوكة لمنعم أسكنكم بها وخولكم بنعمها:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| **وأقبح خلق الله من بات عاصيا** | | **لمن بات في نعمائه يتقلب** |
| --- | --- | --- |
و { إِنَّمَا } للحصر كما جرى عليه بعض النحويين وأهل الأصول، واختار في «البحر» أن الحصر يفهم من السياق ولم تدل عليه وضعاً، وجعل القول بكونها مركبة من (ما) النافية دخل عليها (إن) التي للإثبات فأفادت الحصر قولاً ركيكاً صادر عن غير عارف بالنحو. ومعنى { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } مقصورون على الإصلاح المحض الذي لم يَشُبْهُ شيء من وجوه الفساد وقد بلغ في الوضوح بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه، والقصر إما قصر إفراد أو قلب وهذا إما ناشىء عن جهل مركب فاعتقدوا الفساد صلاحاً فأصروا واستكبروا استكباراً:
| **يقضي على المرء في أيام محنته** | | **حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن** |
| --- | --- | --- |
وإما جار على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وقرأ هشام والكسائي { قِيلَ } بإشمام الضم ليكون دالاً على الواو المنقلبة، وقول: بإخلاص الضم وسكون الواو لغة لهذيل ولم يقرأ بها.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) | يظهر لي أن جملة { وإذا قيل لهم } عطف على جملة**{ في قلوبهم مرض }** البقرة 10 لأن قوله { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } إخبار عن بعض عجيب أحوالهم، ومن تلك الأحوال أنهم قالوا { إنما نحن مصلحون } في حين أنهم مفسدون فيكون معطوفاً على أقرب الجمل الملظة لأحوالهم وإن كان ذلك آيلاً في المعنى إلى كونه معطوفاً على الصلة في قوله**{ من يقول آمنا بالله }** البقرة 8. وإذا هنا لمجرد الظرفية وليست متضمنة معنى الشرط كما أنها هنا للماضي وليست للمستقبل وذلك كثير فيها كقوله تعالى**{ حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر }** آل عمران 152 الآية. ومن نكت القرآن المغفول عنها تقييد هذا الفعل بالظرف فإن الذي يتبادر إلى الذهن أن محل المذمة هو أنهم يقولون { إنما نحن مصلحون } مع كونهم مفسدين، ولكن عند التأمل يظهر أن هذا القول يكون قائلوه أجدر بالمذمة حين يقولونه في جواب من يقول لهم { لا تفسدوا في الأرض } فإن هذا الجواب الصادر من المفسدين لا ينشأ إلا عن مرض القلب وأفن الرأي، لأن شأن الفساد أن لا يخفى ولئن خفي فالتصميم عليه واعتقاد أنه صلاح بعد الإيقاظ إليه والموعظة إفراط في الغباوة أو المكابرة وجهل فوق جهل. وعندي أن هذا هو المقتضى لتقديم الظرف على جملة { قالوا... } ، لأنه أهم إذ هو محل التعجيب من حالهم، ونكت الإعجاز لا تتناهى. والقائل لهم { لا تفسدوا في الأرض } بعض من وقف على حالهم من المؤمنين الذين لهم اطلاع على شؤونهم لقرابة أو صحبة، فيخلصون لهم النصيحة والموعظة رجاء إيمانهم ويسترون عليهم خشية عليهم من العقوبة وعلماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم يغضي عن زلاتهم كما أشار إليه ابن عطية. وفي جوابهم بقولهم { إنما نحن مصلحون } ما يفيد أن الذين قالوا لهم { لا تفسدوا في الأرض } كانوا جازمين بأنهم مفسدون لأن ذلك مقتضى حرف إنما كما سيأتي ويدل لذلك عندي بناء فعل قيل للمجهول بحسب ما يأتي في قوله تعالى**{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا }** البقرة 8 ولا يصح أن يكون القائل لهم الله - والرسول - إذ لو نزل الوحي وبلغ إلى معينين منهم لعلم كفرهم ولو نزل مجملاً كما تنزل مواعظ القرآن لم يستقم جوابهم بقولهم { إنما نحن مصلحون }. وقد عَنَّ لي في بيان إيقاعهم الفساد أنه مراتب أولها إفسادهم أنفسهم بالإصرار على تلك الأدواء القلبية التي أشرنا إليها فيما مضى وما يترتب عليها من المذام ويتولد من المفاسد. الثانية إفسادهم الناس ببث تلك الصفات والدعوة إليها، وإفسادُهم أبناءهم وعيالهم في اقتدائهم بهم في مساويهم كما قال نوح عليه السلام
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
**{ إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا }** نوح 27. الثالثة إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع، كإلقاء النميمة والعداوة وتسعير الفِتَن وتأليب الأحزاب على المسلمين وإحداث العقبات في طريق المصلحين. والإفساد فعل ما به الفساد، والهمزة فيه للجَعْل أي جعل الأشياء فاسدة في الأرض. والفساد أصله استحالة منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره، وقد يطلق على وجود الشيء مشتملاً على مضرة، وإن لم يكن فيه نفع من قبل يقال فسد الشيء بعدَ أن كان صالحاً ويقال فَاسِد إذا وُجد فاسداً من أول وَهلة، وكذلك يقال أفسد إذا عمَد إلى شيء صالح فأزالَ صلاحه، ويقال أفسَد إذا أَوْجد فساداً من أول الأمر. والأظهر أن الفساد موضوع للقدر المشترك من المعنيين وليس من الوضع المشترك، فليس إطلاقه عليهما كما هنا من قبيل استعمال المشترك في معنييه. فالإفساد في الأرض منه تصيير الأشياء الصالحة مضرة كالغش في الأطعمة، ومنه إزالة الأشياء النافعة كالحَرق والقتل للبرآء، ومنه إفساد الأنظمة كالفِتن والجور، ومنه إفساد المساعي كتكثير الجهل وتعليم الدعارة وتحسين الكفر ومناوأة الصالحين المصلحين، ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع، فلذلك حُذف متعلق { تفسدوا } تأكيداً للعموم المستفاد من وقوع الفعل في حَيز النفي. وذُكِر المحل الذي أفسدوا ما يَحْتوي عليه ـــ وهو الأرضُ ـــ لتفظيع فسادهم بأنه مبثوث في هذه الأرض لأن وقوعه في رقعة منها تشويه لمجموعها. والمراد بالأرض هذه الكرة الأرضية بما تحتوي عليه من الأشياء القابلة للإفساد من الناس والحيوان والنبات وسائر الأنظمة والنواميس التي وضعها الله تعالى لها، ونظيره قوله تعالى**{ وإذا تولى سعي في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد }** البقرة 200. وقوله تعالى { قالوا إنما نحن مصلحون } جواب بالنقض فإن الإصلاح ضد الإفساد، أي جعل الشيء صالحاً، والصلاح ضد الفساد يقال صلح بعد أن كان فاسداً ويقال صلح بمعنى وجد من أول وهلة صالحاً فهو موضوع للقدر المشترك كما قلنا. وجاءوا بإنما المفيدة للقصر باتفاق أئمة العربية والتفسير ولا اعتداد بمخالفه شذوذاً في ذلك. وأفاد { إنما } هنا قصر الموصوف على الصفة رداً على قول من قال لهم { لا تفسدوا } ، لأن القائل أثبت لهم وصف الفساد إما باعتقاد أنهم ليسوا من الصلاح في شيء أو باعتقاد أنهم قد خلطوا عملاً صالحاً وفاسداً، فردوا عليهم بقصر القلب، وليس هو قصراً حقيقياً لأن قصر الموصوف على الصفة لا يكون حقيقياً ولأن حرف إنما يختص بقصر القلب كما في «دلائل الإعجاز»، واختير في كلامهم حرف إنما لأنه يخاطب به مخاطب مُصِر على الخطأ كما في «دلائل الإعجاز» وجعلت جملة القصر اسمية لتفيد أنهم جعلوا اتصافهم بالإصلاح أمراً ثابتاً دائماً، إذ من خصوصيات الجملة الاسمية إفادة الدَّوام.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) | الفساد خروج الشىء عن حالة الاعتدال والاستقامة، وعن كونه منتفعاً به، وضده الصلاح، يقال فسد الشىء فساداً، وأفسده إفساداً. والمراد به هنا كفرهم، ومعاصيهم، ومن كفر بالله وانتهك محارمه فقد أفسد فى الأرض، لأن الأرض لا تصلح إلا بالتوحيد والطاعة. ومن أبرز معاصى هؤلاء المنافقين، ما كانوا يدعون إليه فى السر من تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشبه فى طريق دعوته، والتحالف مع المشركين ضد المسلمين كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا. وسلك القرآن هذا الأسلوب فقال { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } بالبناء للمفعول دون أن يسند الفعل إلى فاعله، لأن مصدر القول المعبر عن النهى عن الإِفساد ليس مصدراً واحداً، فقد يصل آذانهم هذا النهى مرة من صريح القول. وأخرى مما كانوا يقابلون به من ناحية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من تجهم وإعراض. وعلق بالفعل الذى هو الإِفساد قوله { فِي ٱلأَرْضِ } إيذاناً بأن الإِفساد مهما ضاقت حدوده، فإنه لابد يوماً أن يتعدى الحدود إلى ما وراء ذلك فقد يعم ويشمل إذا لم يشتد فى الاحتياط له، لذلك جعل ظرف إفسادهم الأرض كلها مع أنهم موجودون فى بقعة محصورة هى المدينة المنورة. ولقد حكى القرآن جوابهم على نصيحة الناصحين وما فيه من تبجح وادعاء فقال { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }. فقد بالغوا فى الرد فحصروا أنفسهم أولاً فى الإِصلاح مبالغة المفجوع الذى أذهلته المفاجأة بكشف أستار حقيقته، فتراهم لم يقتصروا على أن يقولوا { إِنّا مُصْلِحُونَ } بل قالوا " إنما " ثم أكدوا الجملة بكونها اسمية ليدلوا بذلك على أن شأنهم فى الإِصلاح ثابت لازم. قال الراغب صوروا إفسادهم بصورة الإِصلاح لما فى قلوبهم من المرض، كما فى قوله - تعالى -**{ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً }** وقوله**{ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ }** وقوله**{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }** ولقد كذبهم الله - تعالى - تكذيباً مؤكداً فى دعواهم أنهم مصلحون فقال { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }. فأنت ترى أن القرآن الكريم قد وضع فى الرد عليهم جملة صدرها بأداة الاستفتاح إيذاناً بأن ما قالوه يجب أن يهمل إهمالاً، بل يجب أن يكون وصفهم بالإِفساد قضية مبتدأة مقررة حتى يتلقاها السامع وهو منتبه النفس، حاصر الذهن. ثم أكد الجملة بعدة تأكيدات منها وصل " ألا " " بإن " الدالة على تأكيد الخبر وتحقيقه، ومنها تأكيد الضمير بضمير منفصل حتى يتم التصاق الخبر بالمبتدأ، ومنها اسمية الجملة، ومنها إفادة قصرهم على الإِفساد فى مقابل تأكيدهم أنهم هم المصلحون.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
ولما كان هذا الرد المؤكد عليهم يستدعى عجباً، لأنهم زعموا أنهم لا حال لهم إلا الاصلاح، مع أنهم فى الحقيقة لا حال لهم إلا الإفساد، لما كان الأمر كذلك، فقد أزال القرآن هذا العجب بقوله { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }. أى أنهم ما قالوه إلا عن غباء استولى على إحساسهم، ونفى عنهم الشعور بما يصدر عنهم من الفساد، فأمسوا لا يدركون من شأن أنفسهم شيئاً، ومن أسوأ ألوان الجهل أن يكون الإِنسان مفسداً ولا يشعر بذلك، مع أن أثر فساده ظاهر فى العيان، مرئى لكل ذى حس. فعدم شعورهم بالفساد الواقع منهم منبئ باختلاف آلات إدراكهم، حتى صاروا يحسبون الفساد صلاحا، والشر خيراً. وليس عدم شعورهم رافعاً العقاب عنهم، لأن الجاهل لا يعذر بجهله خصوصاً إذا كان جهله يزول بأدنى تأمل لوضوح الأدلة، وسطوع البراهين. ثم بين القرآن أن الناصحين قد أمروهم بالمعروف بعد أن نهوهم عن المنكر فقال { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ }. المراد من الناس المؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم الصادقون فى إيمانهم. السفهاء جمع سفيه، وأصل السفه الخفة والرقة والتحرك والاضطراب يقال ثوب سفيه، إذا كان ردىء النسج خفيفه، أو كان باليا رقيقاً. وتسفهت الريح الشجر. أى مالت به. وزمام سفيه كثير الاضطراب، لمنازعة الناقة إياه، وشاع فى خفة العقل وضعف الرأى. وهو المعنى المقصود بالسفهاء فى الآية. فقد كان المنافقون يصفون المسلمين بذلك فيما بينهم. وروى أنهم كانوا يقولون أنؤمن كما آمن سفيه بنى فلان، وسفيه بنى فلان؟! فأوحى الله للنبى صلى الله عليه وسلم بهذا الذى كانوا يقولونه. قال صاحب الكشاف فإن قلت لم وصفوهم بالسفه وهم العقلاء المراجيح؟ قلت لأن المنافقين لجهلهم وإخلالهم بالنظر، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق، وأن ما عداه باطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً، ولأنهم كانوا فى رياسة من قومهم ويسار، وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال وخباب، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم اهـ ملخصا. وقد رد الله عليهم بما يكبتهم ويفضحهم فقال { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } لأنهم أعرضوا عن النظر فى الدليل وباعوا آخرتهم بدنياهم، وهذا أقصى ما يبلغه الإِنسان من سفه العقل. وقد تضمن هذا الرد تسفيههم وتكذيبهم فى دعوى سفه الصادقين فى إيمانهم، فإن قوله - تعالى - { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } يفيد أن السفه مقصور عليهم فلا يتجاوزهم إلى المؤمنين، وقد تضمنت هذه الجملة من المؤكدات ما تضمنته الجملة السابقة فى قوله تعالى - { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ }. وإنما قال فى الآية السابقة " ولكن لا يشعرون " وقال فى هذه الآية { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } لأن الآية السابقة وصفتهم بالإِفساد، وهو من المحسوسات التى تدرك بأدنى نظر فيناسبه نفى الشعور الذى هو الإِدراك بالمشاعر الحواس، أما هذه الآية فقد وصفتهم بالسفه، وهو ضعف الرأى والجهل بالأمور، وهذا لا يدركه الشخص فى نفسه إلا يعد نظر وإمعان فكر. فيناسبه نفى العلم. ثم بين القرآن ماهم عليه من سلوك ذميم، وأنهم يقابلون الناس بوجوه مختلفة فقال { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ...فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير المنتخب في تفسير القرآن الكريم / لجنة القرآن و السنة | 11- وإذا قال أحد من المهتدين لهؤلاء المنافقين: لا تفسدوا فى الأرض بالصدِّ عن سبيل الله، ونشر الفتنة وإيقاد نار الحرب برَّأوا أنفسهم من الفساد، وقالوا: ما نحن إلا مصلحون. وذلك لفرط غرورهم، وهذا شأن كل مفسد خبيث مغرور يزعم فساده إصلاحاً.
12- ألا فتنبهوا أيها المؤمنون إلى أنهم هم أهل الفساد حقاً، ولكنهم لا يشعرون بفسادهم لغرورهم، ولا بسوء العاقبة التى ستصيبهم بسبب هذا النفاق.
13- وإذا قال قائل لهم ينصحهم ويرشدهم: أقبلوا على ما يجب، وهو أن تؤمنوا إيماناً مخلصاً مثل إيمان الناس الكاملين المستجيبين لصوت العقل؛ سخروا وتهكَّموا وقالوا: لا يليق بنا أن نتبع هؤلاء الجهلاء ضعاف العقول. فرد الله عليهم تطاولهم وحكم عليهم بأنهم - وحدهم - الجهلاء الحمقى. ولكنهم لا يعلمون علماً يقيناً أن الجهل ونقص الإدراك محصور فيهم مقصور عليهم.
14- وإذا لقى هؤلاء المنافقون المؤمنين المخلصين قالوا: آمنّا بما أنتم به مؤمنون من صدق الرسول ودعوته، ونحن معكم فى الاعتقاد، وإذا انصرفوا عنهم واجتمعوا بأصحابهم الذين يشبهون الشياطين فى الفتنة والفساد قالوا لهم: إنا معكم على طريقتكم وعملكم، وإنما كان قولنا للمؤمنين ما قلنا: استخفافاً بهم واستهزاء.
15- والله سبحانه يجازيهم على استهزائهم، ويكتب عليهم الهوان الموجب للسخرية والاحتقار، فيعاملهم بذلك معاملة المستهزئ، ويمهلهم فى ظلمهم الفاحش الذى يجعلهم فى عمى عن الحق، ثم يأخذهم بعذابه.
16- وهؤلاء إذ اختاروا الضلالة بدل الهداية كانوا كالتاجر الذى يختار لتجارته البضاعة الفاسدة الكاسدة فلا يربح فى تجارته، ويضيع رأس ماله، وهم فى عملهم غير مهتدين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير/ أبو بكر الجزائري (مـ 1921م) | شرح الكلمات:
الفساد في الأرض: الكفر وإرتكاب المعاصي فيها.
الإِصلاح في الأرض: يكون بالإِيمان الصحيح والعمل الصالح، وترك الشرك والمعاصي.
لا يشعرون: لا يدرون ولا يعلمون.
السفهاء: جمع سفيه: خفيف العقل لا يحسن التصرف والتدبير.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين لا تفسدوا في الأرض بالنفاق وموالاة اليهود والكافرين ردوا عليه قائلين: إنما نحن مصلحون في زعمهم فأبطل الله تعالى هذا الزعم وقرر أنهم هم وحدهم المفسدون لا من عرضوا بهم من المؤمنين، إلا أنهم لا يعلمون ذلك لاستيلاء الكفر على قلوبهم. كما أخبر تعالى عنهم بأنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين أصدقوا في إيمانكم وآمنوا إيمان فلان وفلان مثل عبد الله بن سلام ردوا قائلين: أنؤمن إيمان السفهاء الذين لا رشد لهم ولا بصيرة فرد الله تعالى عليهم دعواهم وأثبت السفه لهم ونفاه عن المؤمنين الصادقين ووصفهم بالجهل وعدم العلم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ذم الإدعاء الكاذب وهو لا يكون غالباً إلا من صفات المنافقين.
2- الإِصلاح في الأرض يكون بالعمل بطاعة الله ورسوله، والإفساد فيها يكون بمعصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
3- العاملون بالفساد في الأرض يبررون دائما إفسادهم بأنه إصلاح وليس بإفساد.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير مقاتل بن سليمان/ مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) | { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } ، يعنى الشك بالله وبمحمد، نظيرها فى سورة محمد:**{ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ }** [محمد: 29] يعنى الشك. { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } ، يعنى شكاً فى قلوبهم، { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، يعنى وجيع فى الآخرة، { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [آية: 10] لقولهم: { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } ، وذلك أن عبدالله بن أبى المنافق قال لأصحابه: انظروا إلىَّ وإلى ما أصنع، فتعلموا منى وانظروا دفعى فى هؤلاء القوم كيف أدفعهم عن نفسى وعنكم، فقال أصحابه: أنت سيدنا ومعلمنا، ولولا أنت لم نستطع أن نجتمع مع هؤلاء، فقال عبدالله بن أبىِّ لأبى بكر الصديق وأخذ بيده: مرحباً بسيد بنى تميم بن مرة، ثانى اثنين، وصاحبه فى الغار، وصفيه من أمته، الباذل نفسه وماله.
ثم أخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال: مرحباً بسيد بنى عدي بن كعب، القوى فى أمر الله، الباذل نفسه وماله، ثم أخذ بيد على بن أبى طالب، فقال: مرحباً بسيد بنى هاشم، غير رجل واحد اختصه الله بالنبوة لما علم من صدق نيته ويقينه، فقال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه: ويحك يا ابن أبى، اتق الله ولا تنافق، وأصلح ولا تفسد، فإن المنافق شر خليقة الله، وأخبثهم خبثاً، وأكثرهم غشاً، فقال عبدالله بن أبى بن سلول: يا عمر مهلاً، فوالله لقد آمنت كإيمانكم، وشهدت كشهادتكم، فافترقوا على ذلك.
فانطلق أبو بكر وعمر وعلى، رحمة الله عليهم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بالذى قاله عبدالله، فأنزل الله عز وجل على نبيه: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ، { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } ، يعنى لا تعملوا فى الأرض بالمعاصى، { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [آية: 11]، يعنى مطيعين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير تيسير التفسير/ القطان (ت 1404 هـ) | المفردات:
الفساد: خروج الشيء عن حد الاعتدال. والصلاح ضده. والسفه: خفة في العقل وفساد في الرأي.
واذا قيل لهؤلاء المنافقين لا تفسدوا في الارض بالصدّ عن سبيل الله، ونشر الفتن برّأوا أنفسهم من الفساد، وقالوا انما نحن مصلحون. وما ذلك الا لفرط غرورهم، الذي أعماهم عن حقيقة كونهم جراثيم الفساد، وأسباب الفتن والبلاء.
واذا قيل لهم: ادخلوا في الإيمان بهذا الدين العظيم الذي دخل فيه الناس، قالوا ساخرين: أتريدون منا ان نكون مثل هؤلاء الضعفاء السفهاء، نصدّق الأوهام وننقاد للأضاليل! وذلك لأن كثيراً من المسلمين كانوا من الفقراء والموالي والعبيد مثل بلال وصهيب وسلمان الفارسي. وقد رد الله عليهم قولهم وتطاولهم وحكَم عليهم بأنهم هم السفهاء، لكنهم لا يعلمون حقاً ان النقص والسفه محصور فيهم.
واذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين، قالوا: آمنا بما آمنتم به وصدّقنا الرسول وقبلنا دعوته، نحن معكم. واذا اجتمعوا بشياطين الكفر من اخوانهم الضالين، قالوا لهم: نحن معكم، انما قلنا للمؤمنين ما علمتم استخفافاً بهم واستهزاء بعقولهم.
ولقد روي ان عبدالله بن أبيّ بن سلول، رأسَ المنافقين، كان مع اصحابه فقدِم عليهم جماعة من الصحابة. فقال عبدالله لقومه: انظروا كيف أردُّ هؤلاء السفهاء عنكم. فأخذ بيد أبي بكر وقال: مرحبا بالصدّيق، سيد بني تيم، وشيخ الاسلام، والثاني رسول الله في الغار. ثم أخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: مرحباً بسيد بني عديّ، والفاروق، والقوي في دينه، الباذل نفسه وماله لرسول الله. ثم أخذ بيد عليّ رضي الله عنهم فقال: مرحبا بابن عم رسول الله، وختَنِه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله.
فنزلت هذه الآية.
هذا هو عبدالله بن أُبيّ الذي كان الأوسُ والخزرجُ في يثرب يريدون ان يتوّجوه ملكاً عليهم قبل هجرة الرسول. فلما تمت الهجرة وأسلم معظم الخزرج وجميع الأوس، أُلغيت فكرة ملكيته، فحقد عبدالله على الاسلام وحسد النبي على فضله، لكنه عجز عن اظهار حنقه فنافق، وأصبح يكيد للمسلمين سراً وإن جاهر بالاسلام زوراً.
ورد الله عليهم بقوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } أي يجازيهم على استهزائهم ويكتب عليهم الهوان، ويمهلهم في عماهم عن الحق، ثم يأخذهم بعذابه.
ان مثَل المنافقين مثل الذين باعوا الهدى، واشتروا به الضلالة. فكانوا كالتاجر الذي يختار لتجارته البضاعة الفاسدة فتكسد وتبور. بذلك لا يربح في تجارته، ويخسر ماله. والضلال والضلالة والضلّ ضد الهدى.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م) | (11) - فَإِذَا قِيلَ لِهؤلاءِ المُنَافِقِينَ: لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ، وَلاَ تُثِيرُوا فِيها الفِتَنَ وَالحُرُوبَ، وَلاَ تُحَرِّضُوا الأَعدَاءَ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَلاَ تُفْشُوا أَسْرارَ المُؤْمِنينَ لأَعْدَائِهِمْ، وَلاَ تَرتَكِبُوا المَعَاصِيَ وَغَيْرَ ذلِكَ مِنْ فُنُونِ الشَّرِّ... قَالُوا: إِنَّنا نُرِيدُ الإِصْلاَحَ، فَنَحْنُ بَعِيدُونَ عَنِ الإِفْسَادِ وَشَوَائِبِهِ. والمُفْسِدُونَ يَدَّعُونَ دَائماً أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الإِصْلاَحَ.
الفَسَادُ - هُوَ خُروجُ الَّشيءِ عَنْ حَدِّ الاعتِدالِ.
وَالفَسَادُ في الأَرْضِ - هُوَ إِثَارَةُ الاضْطِرَابَاتِ وَالفِتَنِ فِيهَا.
الصَّلاحُ - هُوَ عَكْسُ الفَسَادِ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) | الفساد في الأرض هو أن تعمد إلى الصالح فتفسده، وأقل ما يطلب منك في الدنيا، أن تدع الصالح لصلاحه، ولا تتدخل فيه لتفسده، فإن شئت أن ترتقي إيمانياً، تأتي للصالح، وتُرِيد من صلاحه، فإن جئت للصالح وأفسدته فقد أفسدت فسادين، لأن الله سبحانه وتعالى أصلح لك مقومات حياتك في الكون، فلم تتركها على الصلاح الذي خُلقت به، وكان تركها في حد ذاته بعداً عن الفساد، بل جئت إليها، وهي صالحة بخلق الله لها فأفسدتها، فأنت لم تستقبل النعمة الممنوحة لك من الله، بأن تتركها تؤدي مهمتها في الحياة، ولم تزد في مهمتها صلاحاً، ولكنك جئت إلى هذه المهمة فأفسدتها.. فلو أن هناك بئراً يشرب منها الناس، فهذه نعمة لضرورة حياتهم، تستطيع أنت بأسباب الله في كون الله أن تأتي وتصلحها، بأن تبطن جدرانها بالحجارة، حتى تمنع انهيار الرمال داخلها، أو أن تأتي بحبل وإناء حتى تعين الناس على الوصول إلى مياهها، ولكنك إذا جئت وردمتها تكون قد أفسدت الصالح في الحياة. وهكذا المنافقون.. أنزل الله تعالى منهجاً للحياة الطيبة للإنسان على الأرض، وهؤلاء المنافقون بذلوا كل ما في جهدهم لإفساد هذا المنهج، بأن تآمروا ضده وادعوا أنهم مؤمنون به ليطعنوا الإسلام في داخله. ولقد تنبه أعداء الإسلام، إلى أن هذا الدين القوي الحق، لا يمكن أن يتأثر بطعنات الكفر، بل يواجهها ويتغلب عليها. فما قامت معركة بين حق وباطل إلا انتصر الحق، ولقد حاول أعداء الإسلام أن يواجهوه سنوات طويلة، ولكنهم عجزوا، ثم تنبهوا إلى أن هذا الدين لا يمكن أن يُهزَم إلا من داخله، وأنّ استخدام المنافقين في الإفساد، هو الطريقة الحقيقية لتفريق المسلمين، فانطلقوا إلى المسلمين - اسماً - ليتخذوا منهم الحربة التي يوجهونها ضد الإسلام، وظهرت مذاهب واختلافات، وما أسموه العلمانية واليسارية وغير ذلك، كل هذا قام به المنافقون في الإسلام وغلفوه بغلاف إسلامي، ليفسدوا في الأرض ويحاربوا منهج الله. وإذا لفت المؤمنون نظرهم إلى أنهم يفسدون في الأرض، وطلبوا منهم أن يمتنعوا عن الإفساد، ادعوا أنهم لا يفسدون ولكنهم يصلحون، وأي صلاح في عدم اتباع منهج الله والخروج عليه بأي حجة من الحجج؟
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) | قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ }: الآية. " إذا " ظرفُ زمنٍ مستقبل ويلزمُها معنى الشرطِ غالباً، ولا تكونُ إلا في الأمرِ المحقق أو المرجَّحِ وقوعُه فلذلك لم تَجْزم إلا في شعر لمخالفتِها أدواتِ الشَرط، فإنها للأمر المحتمل، ومن الجزم قولُه:
| **182ـ تَرفعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يَرْفَعُ لي** | | **ناراً إذا خَمَدَتْ نيرانُهم تَقِدِ** |
| --- | --- | --- |
وقال آخر:
| **183ـ واستَغْنِ ما أغناك ربُّك بالغِنى** | | **تُصِبْكَ خَصَاصةٌ فَتَجَمَّلِ** |
| --- | --- | --- |
وقول الآخر:
| **184ـ إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان وصلُها** | | **خُطانا إلى أعدائِنا فَنُضَارِبِ** |
| --- | --- | --- |
فقوله: " فَنُضَارِبِ " مجزومٌ لعطفِه على محلِّ قولِه " كان وصلُها ". وقال الفرزدق:
| **185ـ فقام أبو ليلى إليه ابنُ ظَالمٍ** | | **وكان إذا ما يَسْلُلِ السيفَ يَضْرِبِ** |
| --- | --- | --- |
وقد تكونُ للزمنِ الماضي كـ " إذ " ، كما قد تكون إذْ للمستقبل كـ " إذا " ، وتكون للمفاجأة أيضاً، وهل هي حينئذٍ باقيةٌ على زمانيتها أو صارَتْ/ ظرفَ مكانٍ أو حرفاً؟ ثلاثةُ أقوال، أصحُّها الأولُ استصحاباً للحالِ، وهل تتصرَّف أم لا؟ الظاهرُ عدمُ تَصَرُّفِها، واستدلَّ مَنْ زعم تصرُّفها بقولِه تعالى في قراءة مَنْ قرأ:**{ إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةً رَّافِعَةً إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً }** [الواقعة: 1-4] بنصب { خَافِضَةً رَّافِعَةً } ، فَجَعَلَ " إذا " الأولى مبتدأ والثانيةَ خبرَها، التقديرُ: وَقْتُ وقوعِ الواقعة وقتُ رَجِّ الأرض، وبقوله:**{ حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا }** [الزمر: 71]**{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ }** [يونس: 22]، فجعلَ " حتى " حرفَ جر و " إذا " مجرورةً بها، وسيأتي تحقيقُ ذلك في مواضِعِه. ولا تُضافُ إلا إلى الجملِ الفعليةِ خلافاً للأخفش.
وقولُه تعالى: " قيل " فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعولِ، وأصلُه: قُولَ كضُرِبَ فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو، فَنُقِلَت إلى القافِ بعد سَلْبِ حركتِها، فَسَكَنَتَ الواوُ بعد كسرةٍ فقُلِبت ياءً، وهذه أفصحُ اللغاتِ، وفيه لغةٌ ثانية وهي الإِشمامُ، والإِشمامُ عبارةٌ عن جَعْلِ الضمةِ بين الضمِ والكسرِ، ولغةٌ ثالثةٌ وهي إخلاصُ الضم، نحو: قُوْلَ وبُوعَ، قال الشاعر:
| **186ـ ليت وهل يَنْفَع شيئاً ليتُ** | | **ليت شباباً بُوْعَ فاشتريْتُ** |
| --- | --- | --- |
وقال آخر:
| **187ـ حُوكَتْ على نِيْرَيْنِ إذ تُحاكُ** | | **تَخْتَبِطَ الشَّوْكَ ولا تُشَاكُ** |
| --- | --- | --- |
وقال الأخفش: " ويجوزُ " قُيْل " بضم القافِ والياءُ " يعني مع الياء لا أنَّ الياءَ تضمُّ أيضاً. وتجيءُ هذه اللغاتُ الثلاثُ في اختار وانقاد ورَدَّ وحَبَّ ونحوها، فتقول: اختير بالكسرِ والإِشمامِ واختُور، وكذلك انقيد وانقُود ورُدَّ ورِدَّ، وأنشدوا:
| **188ـ وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا** | | **ولا قائِلُ المعروفِ فينا يُعنَّفُ** |
| --- | --- | --- |
بكسر حاء " حِلَّ " وقرئ: " ولو رِدُّوا " بكسر الراء، والقاعدةُ فيما لم يُسَمَّ فاعلُه أن يُضَمَّ أولُ الفعلِ مطلقاً، فإن كان ماضياً كُسِر ما قبلَ آخرهِ لفظاً نحو: ضُرِب أو تقديراً نحو: قِيلَ واخْتِير، وإن كان مضارعاً فُتح لفظاً نحو يُضْرَبُ أو تقديراً نحو: يُقال ويُختار، وقد يُضَمُّ ثاني الماضي أيضاً إذا افتُتح بتاءِ مطاوعةٍ نحو تُدُحْرج الحجرُ، وثالثهُ إن افتُتح بهمزةِ وصل نحو: انطُلِق بزيدٍ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
واعلم أن شرطَ جوازِ اللغاتِ الثلاث في قيل وغيض ونحوِهما أَلاَّ يُلْبِسَ، فإن أَلْبس عُمِل بمقتضى عَدمِ اللَّبْس، هكذا قال بعضُهم، وإن كان سيبويه قد أطلقَ جوازَ ذلك، وأشمَّ الكسائي: { قيل } [البقرة: 11]، { وغيض } [هود: 44] { وجيء } [الزمر: 69]، { وحيل بينهم } [سبأ: 54]، { وسيق الذين } [الزمر: 71]، { وسيىء بهم } [هود: 77]، { وسيئت وجوهُ } [الملك: 27]، وافقه هشام في الجميع، وابنُ ذكوان في " حيل " وما بعدها، ونافع في " سيئ " و " سيئَتْ " والباقون بإخلاصِ الكسرِ في الجميع. والإِشمامُ له معانٍ أربعةٌ في اصطلاح القرَّاء سيأتي ذلكَ في " يوسف " إن شاء الله تعالى عند**{ مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا }** [يوسف: 11] فإنه أليقُ به.
و " لهم " جارٌّ ومجرور متعلِّق بقيل، واللامُ للتبليغ، و " لا " حرفُ نهي تَجْزِمُ فعلاً واحداً، " تُفْسِدوا " مجزومٌ بها، علامةُ جَزْمِه حذفُ النون لأنه من الأمثلةِ الخمسةِ، و " في الأرضِ " متعلّقٌ به، والقائمُ مقامَ الفاعل هو الجملةُ من قوله " لا تُفْسِدوا " لأنه هو المقولُ في المعنى، واختاره أبو القاسم الزمخشري، والتقديرُ: وإذا قيل لهم هذا الكلامُ أو هذا اللفظُ، فهو من باب الإِسنادِ اللفظي. وقيل: القائمُ مقام الفاعلِ مضمرٌ تقديرُه: وإذا قيل لهم [قولٌ] هو، ويُفَسِّر هذا المضمَر سياقُ الكلامِ كما فسَّره في قولِه:**{ حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ }** [ص: 32] والمعنى: " وإذا قيل لهم قولٌ سَديدٌ " فَأُضْمِر هذا القولُ الموصوفُ، وجاءَتِ الجملةُ بعده مفسرةً فلا موضعَ لها من الإِعراب، قال: " فإذا أَمْكَنَ الإِسنادُ المعنويُّ لم يُعْدَل إلى اللفظي، وقد أمكن ذلك بما تقدَّم " وهذا القولُ سبقه إليه أبو البقاء فإنه قال: " والمفعولُ القائمُ مقامَ الفاعل مصدرٌ وهو القولُ وأُضْمر لأنَّ الجملة بعد تفسِّره، ولا يجوزُ أن يكونَ " لا تُفْسِدوا " قائماً مقامَ الفاعلِ لأنَّ الجملة لا تكون فاعلةً فلا تقومُ مقامَ الفاعل ". انتهى. وقد تقدَّم جوابُ ذلك مِنْ أنَّ المعنى: وإذا قيل لهم هذا اللفظُ، ولا يجوزُ أن يكونَ " لهم " قائماً مقامَ الفاعلِ إلا في رأي الكوفيين والأخفشِ، إذ يجوزُ عندهم إقامةُ غيرِ المفعولِ به مع وجودِه. وتلخَّص مِنْ هذا أنَّ جملةَ قولِه: " لا تُفْسدوا " في محلِّ رفعٍ على قولِ الزمخشري، ولا محلَّ لها على قول أبي البقاء ومَنْ تبعه. والجملةُ من قوله: " قيل " وما في حيِّزِه في محلِّ خَفْض بإضافةِ الظرفِ إليه. والعاملُ في " إذا " جوابُها عند الجمهور وهو " قالوا " ، والتقدير: قالوا إنما نحن مصلحون وقتَ القائل لهم لا تُفْسدوا، وقال بعضهم: " والذي نختاره أنَّ الجملةَ/ التي بعدَها وتليها ناصبةٌ لها، وأنَّ ما بعدها ليس في محلِّ خفض بالإِضافةِ لأنها أداةُ شرط، فحكمُها حكمُ الظروفِ التي يُجازى بها، فكما أنك إذا قلتَ: " متى تقمْ أقمْ " كان " متى " منصوباً بفعلِ الشرط فكذلك " إذا ".
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
قال هذا القائل: " والذي يُفْسد مذهبَ الجمهور جوازُ قولِك: " إذا قمت فعمورٌ قائمٌ " ، ووقوعُ " إذا " الفجائية جواباً لها، وما بعد الفاء وإذا الفجائية لا يَعْمل ما بعدهما فيما قبلهما. وهو اعتراضٌ ظاهر.
وقوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } " إنَّ " حرفٌ مكفوفٌ بـ " ما " الزائدة عن العمل، ولذلك تليها الجملةُ مطلقاً، وهي تفيدُ الحصرَ عند بعضِهم. وأَبْعَدَ مَنْ زعم أن " إنما " مركبة من " إنَّ " التي للإِثبات و " ما " التي للنفي، وأنَّ بالتركيب حدث معنىً يفيد الحصرَ. واعلم أنَّ " إنَّ " وأخواتِها إذا ولِيَتْها " ما " الزائدةُ بَطَلَ عملُها وذهب اختصاصُها بالأسماء كما مرَّ، إلا " ليت " فإنه يجُوز فيها الوجهان سماعاً، وأنشدوا قولَ النابغة:
| **189ـ قالتْ ألا ليتما هذا الحمامَُ لنا** | | **إلى حمامتِنا ونصفَُهُ فَقَدِ** |
| --- | --- | --- |
برفع " الحمام " ونصبه، فأمَّا إعمالُها فلبقاءِ اختصاصِها، وأمَّا إهمالُها فلحَمْلِها على أخواتها، على أنه قد رُوي عن سيبويه في البيت أنها معملةٌ على رواية الرفع أيضاً بأن تَجْعل " ما " موصولةً بمعنى الذي، كالتي في قوله تعالى:**{ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ }** [طه: 69] و " هذا " خبرُ مبتدأ محذوف هو العائدُ، و " الحَمام " نعتٌ لـ " هذا " و " لنا " خبر لليت، وحُذِف العائدُ وإنْ لم تَطُلْ الصلةُ، والتقدير: ألا ليت الذي هو هذا الحمامُ كائنٌ لنا، وهذا أَوْلى من أن يُدَّعَى إهمالُها، لأن المقتضَى للإِعمال -وهو الاختصاصُ- باقٍ. وزعم بعضُهم أن " ما " الزائدةَ إذا اتصلت بإنَّ وأخواتِها جاز الإِعمالُ في الجميع.
و " نحن " مبتدأ، وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للمتكلم، ومن معه، أو المعظِّمِ نفسه، و " مصلحون " خبرُه، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنها محكيةٌ بقالوا. والجملة الشرطيةُ وهي قولُه: " وإذا قيلَ لهم " عطفٌ على صلة مَنْ، وهي " يقولُ " ، أي: ومن الناس مَنْ يقول، ومن الناس مَنْ إذا قيل لهم لا تُفْسِدوا في الأرض قالوا:. وقيل: يجوز أَنْ تكونَ مستأْنفةً، وعلى هذين القولين فلا محلَّ لها من الإِعراب لما تقدم، ولكنها جزءُ كلامٍ على القولِ الأول وكلامٌ مستقل على القول الثاني، وأجازَ الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفةً على " يَكْذِبُون " الواقع خبراً لـ " كانوا " ، فيكونَ محلُّها النصبَ. وردَّ بعضُهم عليهما بأنَّ هذا الذي أجازاه على أحدِ وَجْهَي " ما " مِنْ قوله { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } خطأٌ، وهو أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي، إذ لا عائدَ فيها يعود على " ما " الموصولةِ، وكذلك إذا جُعِلت مصدريةً فإنها تفتقرُ إلى العائد عند الأخفش وابن السراج. والجوابُ عن هذا أنهما لا يُجيزان ذلك إلا وهما يعتقدان أن " ما " موصولةٌ حرفيةٌ، وأمّا مذهبُ الأخفش وابن السراجِ فلا يلزمهما القولُ به، ولكنه يُشْكِل على أبي البقاء وحدَه فإنه يستضعف كونَ " ما " مصدريةً كما تقدم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) | قال السُّدي عن ابن مسعود وعن أُناسٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هم المنافقون، والفساد في الأرض هو الكفر والعمل بالمعصية، وقال أبو العالية: { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } يعني لا تعصوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية الله، لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة، وقال مجاهد: إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا قالوا: إنما نحن على الهدى مصلحون.
قال ابن جرير: فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم ربهم، وركوبهم ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم مقيمون عليه من الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، وغرَّهم بقوله الذي لا حقيقة له، ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف، ولهذا قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء، قال ابن عباس { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. يقول الله تعالى: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } يقول: ألا إن هذا الذي يزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فساداً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ) | { لاَ تُفْسِدُواْ } أي بالكفر والنميمة وإيقاع الشر وغير ذلك { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } يحتمل أن يكون جحود الكفر لقولهم آمنا، أو اعتقاد أمنهم على إصلاح.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير النهر الماد / الأندلسي (ت 754 هـ) | قرىء مرض بسكون الراء وهي لغة كالحلب والحلب وكينونة المرض في قلوبهم مجاز عن ما حل فيها من الشك والحسد والغل. وقيل: حقيقة وهو الفساد والظلمة التي حدثت فيها بظهور الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته.
{ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }. هذا خبر وإسناد الزيادة إلى الله تعالى حقيقة. وقيل: دعاء حقيقة بوقوع زيادة المرض وقيل مجاز فلا تقصد به الإِجابة لكون المدعو به واقعاً بل المراد به السب واللعن والتنقص نحو: قاتلهم الله.
ومرض نكرة تعم على طريق البدل وتعداد المحال يدل على تعداد الحال فاكتفى بالمفرد عن الجمع.
و " فزادهم ": أي قلوبهم أو ذواتهم، لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد اليم اما للمبالغة ووصف العذاب به مجاز وهو من مجاز التركيب أو معناه مؤلم جآء فعيل من أفعل وهو من مجاز الأفراد وجمع وصف العذاب بالعظم والألم للمنافقين إذ هم أشد عذاباً من غيرهم من الكفار وما في بما كانوا مصدرية.
وقال أبو البقاء: الا ظهر أن تكون موصولة. وقرىء: يكذبون مخففاً ومشدداً مضارع كذب وكذب.
" وإذا قيل ": لغة أهل الحجاز إخلاص الكسر في نحو قيل: وبيع والاشمام لغة كثير من قيس وبني أسد وعقيل وقرىء بهما. والفساد التغير عن حالة الاعتدال والصلاح نقيضه وهذه الجملة الشرطية هي من باب عطف الجمل استئنافاً ينعى عليهم قبائح أفعالهم وأقوالهم. قيل: وتحتمل أن تكون معطوفة على يقول صلة من فلا موضع لها من الإِعراب وهي جزء كلام لأنها من تمام الصلة (وأجاز الزمخشري وأبو البقاء) أن تكون معطوفة على يكذبون فلها موضع من الإِعراب وهو النصب ويكون جزأً من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم وهذا الاعراب خطأ على جعل ما في بما موصولة وقراءة التشديد لغة وجملة الشرط من ضمير يعود على ما والجملة بعد إذ هذه في موضع خفض على مذهب الجمهور والعامل في إذا الجواب، والذي نختاره انها لا موضع لها من الإِعراب والفعل الذي يلي إذاً هو العامل فيها كسائر حروف الشرط وحذف فاعل القول للعلم به إذ هو الله تعالى ويظهر أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو الجملة من قوله: لا تفسدوا في الأرض ولا يجوز ذلك عند جمهور البصريين ويجوز عند الكوفيين فتخريجه على مذهب جمهور البصريين أن يكون في قيل مضمر، أي وإذا قيل هو أي قول سديد فأضمر هذا القول الموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة فلا موضع لها من الإِعراب وزعم الزمخشري أن الجملة هي المفعول الذي لم يسم فاعله وجعله من باب الاسناد اللفظي ونظره بقوله: الّف حرف من ثلاثة أحرف، وإذا أمكن أن يكون إسناداً معنوياً لم يعدل إلى الاسناد اللفظي.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
" ولا تفسدوا " نهي عن إيقاع الفساد بأي طريق كان من كفر أو غيره من جهات الفساد وهو من باب النهي عن المسبب، والمراد النهي عن السبب فمتعلق النهي حقيقة هو إيطان الكفر وممالاة الكفار وإفشاء سر المؤمنين وذلك هو المفضي إلى الهيج للفتن المؤدية الى الإِفساد وذكر محل الإِفساد وهي الأرض التي نشأتم فيها وانتفعتم بها أحياءً وأمواتاً فما كان محل إصلاحكم لا يناسب أن يجعل محل إفساد ومعمول جواب الشرط أبرزوه جملة إسمية ليدل على ثبوت الوصف لهم وأكدوها بانما دلالة على قوة اتصافهم بقوة الاصلاح كل ذلك بهت وكذب على عاداتهم في الكذب فأكذبهم الله فقال؛
{ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } فأتى بألا الدالة على التنبيه على كذبهم وبأن المقتضية التأكيد في قولهم: وبهم وبال واستفتحت بألا لتكون الاسماع مصغية لما جاء في حقهم وهم تأكيد للضمير أو فصل أو مبتدأ وتختار في ألا التي للتنبيه انها حرف بسيط، وزعموا انها مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية للدلالة على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً كقوله:**{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ }** [القيامة: 40] ولكونها من المنصب في هذا ألا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرية بنحو ما يتلقى به القسم، وقاله الزمخشري. ودعوى التركيب على خلاف الأصل ولأن ما زعموا خطأ لأن مواقع ألا تدل على أن لا ليست للنفي فيتم ما ادعوه ألا ترى انك تقول إلا أن زيداً منطلق ليس أصله لا أن زيداً منطلق إذ ليس من تراكيب العرب بخلاف ما نظر به من قوله تعالى:**{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ }** [القيامة: 40]، لصحة تركيب ليس زيد بقادر ولوجودها قبل رب وليت وحرف النداء وغيرها مما لا يتعقل فيه أنّ لا نافية فتكون الهمزة للاستفهام دخلت على لا النافية فأفادت التحقيق. وقوله: لا تكاد تقع إلى آخره غير صحيح ألا ترى أن الجملة بعدها تستفتح برب وبليت وبفعل الأمر وبالنداء وبحبّذا ولا يتلقى بشيء من هذا القسم وعلامة الا هذه التي هي حرف تنبيه واستفتاح صحة الكلام دونها، وكون انما مركبة من ما النافية دخل عليها أنّ التي للإِثبات فأفادت الحصر قول ركيك فاسد صادر عن غير عارف بالنحو، والذي نذهب إليه انها لا تدل على الحصر بالوضع، كما أن الحصر لا يفهم من اخواتها التي كفت بما، فلا فرق بين: لعل زيداً قائم، ولعلما زيد قائم. فكذلك: ان زيداً قائم، وإنما زيد قائم. وإذا فهم الحصر فإنما يفهم من سياق الكلام لا ان إنما دلت عليه وبهذا الذي قررناه يزول الاشكال الذي أوردوه في نحو قوله تعالى:**{ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ }** [الرعد: 7]**{ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ }** [الكهف: 110]**{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ }** [يس: 11]**{ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا }** [النازعات: 45]. انتهى.
" ولكن لا يشعرون " لكن تقع بين متنافيين وظهوره ذلك هنا أنه تعالى أخبر أنهم هم المفسدون وقد علم ذلك منهم ولكن هم لا يعملون ذلك فاستدرك هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بأنهم هم المفسدون ومفعول يشعرون محذوف تقديره ولكن لا يشعرون بإِفسادهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) | قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ }؛ قرأ الكسائيُّ؛ ويعقوبُ؛ وهشام: { قِيلَ } وَ { حِيلَ } [سبأ: 54]، وَ { سِيقَ } [الزمر: 71]، و { جِيْئَ } ، وَ { سِيۤءَ } [هود: 77] بإشْمام الضمَّة. ومعنى الآيةِ: وإذا قِيْلَ للمنافقين وقيلَ لليهود؛ أي إذا قال لَهمُ المؤمنونَ: لا تُفسِدُوا في الأرضِ بالكُفْرِ والمعصيةِ والمداهنةِ وتعويقِ النَّاسِ عن الإيْمان بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقُرْآنِ، { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }؛ أي عامِلُون بالطَّاعةِ ومُصلِحُونَ بالمداهنةِ؛ لأنَّهم كانوا يقولون: لا نُعادي المؤمنينَ ولا الكفارَ؛ نُداري هؤلاءِ وهؤلاء؛ حتى إذا غلبَ أحدُ الفريقين لا يأتينا من دائرتِهم شيءٌ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ) | قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ }.
كل النحويين على أن " إذا " ظرف زمان مستقبل.
وقال المبرد: " هي في المفاجأة ظرف مكان إذا قلت: " خرجت فإذا زيد ". واستدل على ذلك بأنها قد تضمنت الجثة، وظروف الزمان لا تتضمن الجثة، لو قلت " اليوم زيد " لم يجز إلا على حذف مضاف تقديره /: اليوم حدوث زيد.
وقال أكثر النحويين: " إذا ": في المفاجأة ظرف زمان على أصلها والتقدير: " خرجت فإذا حدوث زيد وظروف الزمان تتضمن المصادر كظروف المكان.
وأصل " قيل ": " قول " فألقيت حركة الواو على القاف وانقلبت الواو ياء لسكونها / وانكسار ما قبلها. وكذلك " بِيعْ " أصله " بِيِعَ " ، فألقيت حركة الياء على الباء، فصارت ذوات / الواو والياء بلفظ واحد، وهي اللغة المشهورة المستعملة. ولك أن تشم القاف والياء بالضم الذي هو أصلها، وقد قرئ به.
ولك في غير القرآن أن تقول: " قُوْل ": فتسكن الواو استثقالاً للكسر عليها، وتترك القاف على ضمتها، وكذلك يجوز لك فيما كان عينه ياء، نحو: " بُوع المتاع " ، فيصير ذوات الواو والباء بلفظ واحد، كما صار في اللغة الأولى المستعملة بالياء فيهما.
قوله: { لاَ تُفْسِدُواْ }.
أي: لا تعبدوا إلا الله، وعبادة غير الله من أعظم الفساد.
وحكى الكسائي " اللَّرض " بتشديد اللام وعوض من الهمزة لاماً، وإدغامها في لام التعريف. وقال الفراء في هذه اللغة: " إن لام التعريف لما ألقي عليها حركة الهمزة استكره ذلك فيها إذ أصلها السكون، فزيد بعدها لام أخرى وأسكن الأولى فردها إلى أصلها وأدغمها في اللام المزيدة، فرجعت لام التعريف إلى أصلها وهو السكون ".
قوله: { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }.
هذا قولهم على دعواهم وليسوا كذلك، لأن من أبطن الكفر وأظهر الإيمان فهو من أعظم المفسدين. وهذا كله خبر عن المنافقين.
قال مجاهد وغيره: " أربع آيات من أول سورة البقرة / نزلت في نعت المؤمنين وآيتان بعد ذلك في نعت الكافرين، [وثلاث عشرة] آية بعد ذلك في نعت المنافقين.
وقال مقاتل بن سليمان: " الآيتان الأوليان من سورة البقرة اللتان آخرهما { يُنْفِقُونَ } نزلتا في المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين. والآيتان اللتان آخرهما { ٱلْمُفْلِحُونَ } نزلتا في المؤمنين من أهل التوراة، والآيتان اللتان بعدهما، اللتان آخرهما { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } نزلتا في الكفار. [وثلاث عشرة] آية بعدهما نزلن في المنافقين من أهل الكتاب ".
قوله: { نَحْنُ }.
هو اسم مضمر يقع للواحد الجليل القدر، وللاثنين وللجماعة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
وحقه البناء على السكون لأنه مضمر، والمضمرات كلها مبنية؛ وإنما بنيت لأنها مشابهة للحروف، إذ لا تخص شيئاً بعينه، ولأنها تكون على حرف واحد، وحرف واحد لا يعرب. وإنما حرك " نحن " وحقه السكون لأن قبل آخره ساكن يحرك الآخر لالتقاء الساكنين. واختير لها الضم في قول المبرد لأنها مشبهة بِـ " قَبْلُ " و " بَعْدُ " ، وذلك لأنها تتعلق بالإخبار عن اثنين فأكثر.
وقال هشام الكوفي: " أصل " نَحْنُ ": نَحُن، فردت حركة الحاء على النون بعدها ".
وقال أحمد بن يحيى: " ضمت " نحن " لقوتها لأنها تضمنت التثنية [والجمع]، وقد تكون للواحد فأعطيت أقوى الحركات وهي الضم ".
وقيل: إنما ضمت لتضمنها تثنية وجمعاً، فصارت مشبهة بـ " حيث " لانها تضمنت مكائن.
وقال الزجاج: " لما كانت الواو من علامات الجماعة واحتيج إلى حركة النون من " نحن " لسكونها وسكون ما قبلها، حركت بما يشبه الواو وما هو منها، وهي الضمة. ولهذا ضموا واو الجمع إذا احتاجوا إلى حركتها في نحو قوله:**{ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ }** [البقرة: 16].
وقال علي بن سليمان: " نحن " من علامات المضمر المرفوع فلما احتيج إلى حركته حركوه بأخت الرفع وهو الضم ".
ومعنى قولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي هذا الذي تسمونه / فساداً هو صلاح عندنا.
وقيل: إن معناه: [أنهم قالوا]: نريد الإصلاح بين المؤمنين وأهل الكتاب.
وعن سلمان الفارسي أنه قال: " لم يجىء هؤلاء بعد ".
وأكثر المفسرين على أن هذا نزل في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: معنى قول سلمان: " لم يجئ هؤلاء بعد " أي لا يأتون لأنهم قد انقرضوا.
فإن قيل: ما على من لم يعلم أنه مفسد من الذم، فقد أخبر الله عنهم أنهم لا يعلمون أنهم مفسدون / فالجواب أن القوم كانوا يبطنون الفساد وهم يعلمون به، ويظهرون / الصلاح الذي ادعوا، وهم لا يشعرون أن الله يظهر ما يبطنون، فإنما معنى { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }: أي لا يعلمون أن الله يظهر ما يبطنون من النفاق والكفر.
والهاءات من: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } إلى { يَشْعُرُونَ } يعدن على " من " في قوله: { مَن يَقُولُ آمَنَّا } وهم المنافقون. وعلى هذا أكثر الناس.
ودخلت الألف واللام في (المُفْسِدينَ)، لأنه جواب كلام سبق منهم إذ قالوا: محمد وأصحابه مفسدون في الأرض.
فأخبر الله أنهم هم المفسدون، ولو كان على غير جواب لم يدخله الألف واللام. ألا ترى لو أنك قال لك قائل: " أنت ظالم " ، فأردت أن ترميه بغير الظلم لقلت: " أنت كاذب أنت فاسق " ، ولا تقوله بالألف واللام، لأنه غير جواب قوله.
فإن أردت أن ترميه بمثل ما رماك به، قلت له: " أنت الظالم " ، ولو أضمرت / لقلت: " أنت هو ". ولو رميته بمثل ما رماك به لم يجز الإضمار في جوابك، إنما تضمر إذا رميته بمثل ما رماك به، لأنه معرفة، فالجواب معرف أبداً إذا كان رد اللفظ / الأول.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) | وقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ }.
بالمخادعة للمؤمنين، وإظهار الموافقة لهم بالقول، وإضمار الخلاف لهم بالقلب، والاستهزاء بهم عند الخلوة، والقول فيهم بما لا يليق بهم، وعبادة غير الله. وأَيُّ فساد أَكبر من هذا؟!.
وقوله: { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }.
بإظهار الموافقة بالقول.
وقوله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ }.
أخبر تعالى أنهم هم المفسدون؛ لما أَضمروا من الخلاف لهم، والمخادعة، والاستهزاءِ بهم.
وقوله: { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }.
الأول: أَي: لا يشعرون أَن حاصل ذلك لا يرجع إليهم.
والثاني: لا يشعرون أن ما كانوا يفعلون الفسادُ.
فإن كان هذا فهو ينقض قول من يقول: بأَن الحجة لا تلزم إلا بالمعرفة، وهو قول الناس؛ لأَنه عز وجل أَخبر بفساد صنيعهم، وإن لم يشعروا به.
وهو كقوله أَيضاً:**{ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ }** [الحجرات: 2]: أَخبر بحبط الأَعمال وإن كانوا لا يعلمون.
وقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ }.
تحتمل الآية: أَن تكون في المنافقين، وتحتمل: في أَهل الكتاب.
فإن كانت في المنافقين فكأَن قوله: آمنوا يا أَهل النفاق في السر والعلانية، كما آمن أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في السر والعلانية جميعاً، وهو كقوله:**{ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ }** [البقرة: 137].
وإن كان في أَهل الكتاب ففيه الأَمر بالإيمان الذي هو إيمان، وهو التصديق. والإيمان عندنا هو التصديق بالقلب؛ دليله قول جميع أَهل التأْويل والأَدب أَنهم فسروا { آمَنُواْ }: صدقوا في جميع القرآن.
وقوله: { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } الآية.
السفه: هو ضد الحكمة، وهو العمل بالجهل على العلم أَنه يبطل، والجهلُ هو ضد العلم. والسفهُ هو الشتم؛ يقول الرجل لآخر: يا سفيه.
وقوله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ }.
يقول بعض المتكلمين: إن هذا شتم من الله لهم، جواباً على المؤمنين، ويستجيزون ذلك على الجواب، وإن لم يجز على الابتداءِ، كالمكر، والكيد، والاستهزاءِ، والخداع ونحوه، فعلى ذلك هذا.
وأما عندنا فهو غير جائِز؛ لأَن من يشتم آخر يذم عليه، وهو عمل السفهاء، فأَخبر عز وجل: أَنهم هم الذين يعملون بالجهل على علمهم أَن دينهم الذي يدينون به باطل، وأَن الدين الذى يدين به المؤمنون حق.
وقوله: { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }.
قيل فيه بوجهين:
أحدهما: لا يعلمون أنهم هم السفهاء.
والثاني: لا يعلمون ما يحل بهم من العذاب لذلك، والله أعلم.
وقوله: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }.
يعني: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { قَالُوۤا آمَنَّا }.
أظهروا لهم الموافقة في العلانية، ويضمرون لهم الخلاف في السر.
وقوله: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ }.
قيل فيه بأَوجه:
قيل: إن شياطينهم؛ يعني الكهنة؛ سموا بذلك لبعدهم عن الحق.
يقال: شَطَن، أَي: بَعُدَ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
وقيل: إن كلَّ عاتٍ ومتمرد يسمى شيطاناً لعتوه وتمرده؛ كقوله:**{ شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ }** [الأنعام: 112] سموا بذلك لعتوهم وتمردهم؛ إذ من قولهم: إن الشياطين أَصْلهم من الجن.
وقيل: سموا شياطين؛ لأَنه كان مع كل كاهن شيطان يعمل بأَمره، فسموا بأَسمائِهم؛ وذلك جائِز في اللغة جارٍ، والله أَعلم.
وقوله: { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ }.
قيل: فيه وجهان:
الأَول: أَي: معكم في القصد والمعونة.
والثاني: إنا معكم، أي: على دينكم لا على دين أولئك، والله أَعلم.
قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }.
بإظهار الموافقة لهم في العلانية، وإظهار الخلاف لهم في السر.
وقوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ }.
قيل فيه بوجوه:
قيل: يجزيهم جزاء الاستهزاءِ.
وكذلك قوله:**{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142] أَي: يجزيهم جزاء المخادعة، وكذلك قوله:**{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ }** [آل عمران: 54] أي: يجزيهم جزاء المكر، يحمل على الجزاء؛ لما لا يجوز إضافة المكر والخداع والاستهزاءِ مبتدأ إلى الله؛ لأَنه مذموم من الخلق إلا على المجازاة، فكيف من الله عز وجل؟!
وقال بعضهم: يجوز إضافة الاستهزاء إلى الله، وإن كان لا يجوز من الخلق أَن يستهزئ بعضهم من بعض، كالتكبر، يجوز لله ولا يجوز للخلق؛ لأَن الخلق أَشكال بعضهم لبعض وأَمثال، والله - عز وجل - لا شكل له ولا مثل.
وكذلك الاستهزاء يجوز له، ولا يجوز لغيره؛ لأَن الاستهزاء هو الاستحفاف، فلا يجوز أَن يستخف ممن هو مثله في الخلقة، وما خلق له من الأَحداث والغِيَر، والله تعالى يتعالى عن ذلك. والأَول أَقرب، والله أعلم.
أَو أَضاف استهزاء المؤمنين بهم إلى نفسه كما ذكرنا في المخادعة.
ثم اختلف في كيفية الاستهزاءِ:
فقال الكلبي: هو أن يُفتح لهم باب من الجنة فيدنون منه، ثم يغلق دونهم. فإن ثبت ذا فهو كما قال.
وقيل: إنه يرفع لأَهل الجنة نور يمضون به، فيقصد أولئك المضي معهم بذلك النور، ثم يطفأ ذلك النور؛ فيتحيرون وهو قولهم:**{ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً }** [الحديد: 13].
وقيل: أن يعطي لهم في الدنيا ما ينتفعون به من أنواع النعم ظاهراً على ما أَظهروا لهم الموافقة في العلانية، ويحرم لهم ذلك في الآخرة بإضمارهم الخلاف لهم في السر.
وقوله: { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }.
الآية في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون؛ كقوله:**{ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }** [البقرة: 6] غير أن هذه في المنافقين و الأُولى في الكفرة.
وهي تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأَنهم يقولون: إن الله لا يقدر أَن يستنقذهم في حال الاختيار، وإنما يقدر الاستنقاذ منهم في حال الاضطرار، فأَخبر عز وجل: أَنه يستنقذهم على فعل الطغيان.
وقوله: { وَيَمُدُّهُمْ } أي: يخلق فعل الطغيان فيهم.
ويحتمل: أن يخذلهم ويتركهم لما اختاروا من الطغيان إلى آخر عمرهم.
ويحتمل: أنه لم يهدهم ولم يوفقهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
وفي هذا إضافة المد إلى الله. وإضافة المد على الطغيان لا يضاف إليه إلا المدح، والمدح يكون بالأَوجه الثلاثة التي بينا، وفي هذا أَنه إذا كان هو الذي يُمدهم في الطغيان قدر على ضده من فعل الإيمان؛ فدل أَن الله خالق فعل العباد؛ إذ من قولهم: إن القدرة التامة هي التي إذا قدر على شيء قدر على ضده.
والعَمَهُ: الحيرة في اللغة.
قوله: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }.
أي: اختاروا الضلالة على المدعو إليه - وهو الهدى - من غير أَن كان عندهم الهدى، فتركوه بالضلالة.
وهو كقوله:**{ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ }** [البقرة: 257] من غير أن كانوا فيه، فكذلك الأَوَل، تركوا الهدى بالضلالة ابتداء.
وقيل: الضلالة: الهلاك؛ أي: اختاروا ما به يهلكون على ما به نجاتهم، وإن كانوا لا يقصدون شراء الهلاك بما به النجاة؛ كقولهم:**{ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ }** [البقرة: 175] لا يقدر أحد أن يصبر على النار، ولكن فما أصبرهم على عمل يستوجبون به النار.
وكذلك قوله:**{ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ }** [البقرة: 90] أي: بئسما اختاروا ما به هلاك أَنفسهم على ما به نجاتهم.
وفي هذه الآية دلالة جواز البيع بغير لفظة البيع؛ لأَنهم ما كانوا يتلفظون باسم البيع، ولكن كانوا يتركون الهدى بالضلالة.
وكل من ترك الآخر شيئاً له ببذل يأخذه منه فهو بيع وإن لم يتكلموا بكلام البيع.
وكذلك قوله:**{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ... }** الآية [التوبة: 111]. وهو على بذل الأَموال والأَنفس له بالموعود الذي وعد لهم، وهو الجنة.
وقوله: { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }.
أي: ما ربحوا في تجارتهم؛ لأَن التجارة لا تربح ولكن بالتجارة يربح، وقد يسمى الشيء باسم سببه.
وهو كقوله:**{ جَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً }** [النمل: 86]، والنهار لا يبصر، ولكن بالنهار يبصر.
وذلك سائغ في اللغة، جائز تسمية الشيء باسم سببه.
ثم في قوله: { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } نفي الربح دون نفي الأَصل في الظاهر، غير أَن النفي على وجهين:
نفي شيء يوجب إثبات ضده، وهو نفي الصفة؛ كقولك: فلان عالم: نفيت الجهل عنه، وفلان جاهل: نفيت العلم عنه.
ونفي شيء لا يوجب إثبات ضده، وهو نفي الأَعراض؛ لأَنك إذا نفيت لوناً لم يوجب ضد ذلك اللون.
وقوله: { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } نفي الأَصل؛ كأَنه قال: بل خسرت تجارتهم، أَوجبت إثبات ضده.
دليله قوله:**{ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ }** [البقرة: 90]، و**{ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }** [المائدة: 62].
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير تفسير الجيلاني/ الجيلاني (ت713هـ) | { وَ } مع ظهور حالهم وخداعهم عند الله وعند المؤمنين { إِذَا قِيلَ لَهُمْ } إمحاضاً للنصح: { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } بتكذيب كتاب الله ورسوله المنزل عليه حتى لا يخرجوا من مرتبة الخلافة؛ لأن خلافة البشر إنما هي بالتوحيد وإسقاط الإضافات، والتوحيد إنما يحصل بالله وبكتابه ورسوله { قَالُوۤاْ } في الجواب على سبيل الحصر: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [البقرة: 11] لا نتجاوز من الصلاح أصلاً تتميماً لخداعهم الفاسد، وترويجاً له على المؤمنين وتلبيساً.
{ أَلاۤ } أيها المؤمنون الموقنون بكتاب الله المصدقون لرسوله { إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } المقصرون على الفساد، لا يرجى صلاحهم أصلاً؛ لكونهم مجبولين على الفساد { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } [البقرة: 12] بمشاعرهم لغشاوة قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم.
{ وَ } إذا لطف معهم ونصح كما هو دأب الأنبياء والمرسلين و { إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ } بالله وبكتابه ورسوله { كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } الذين نسوا مزخرفات آبائهم بالإيمان بالله وبكتابه ورسوله، وفازوا في الدارين فوزاً عظيماً بسبب الإيمان { قَالُوۤاْ } في الجواب توبيخاً وتقريعاً: { أَنُؤْمِنُ } بهذا الرجل الحقير الساقط، وبهذه الأساطير الكاذبة ونترك دين آبائنا { كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } التاركون دين آبائهم لغرور هذا المدعي المفتري؟ { أَلاۤ } أيها المبعوث لإهداء المضلين المجبولين على الهداية في أصل فطرتهم { إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } المجبولون على الغوية في بدء الفطرة لا يمكنك هدايتهم أصلاً؛ لعدم قابليتهم واستعدادهم للإيمان { وَ } إن ظنوا في زعمهم من العقلاء { لَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 13] أصلاً لتركب جهلهم المركوز في جبلتهم، فيسلب قابليتهم للإيمان.
{ وَ } علامة نفاق هؤلاء المضلين وخداعهم أنهم { إِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالله وكتابه ورسوله { قَالُوۤا } على طريق الإخبار عن الأمور المحققة تروجياً وتغريراً على المؤمنين { آمَنَّا } بالجملة الفعلية الماضية بلا مبالغة وتأكيد لحكمهم سفاهة المؤمنين، بأن السفيه يقبل الأخبار بلا تأكيد؛ لعدم تفطنه على إنكار المتكلم، فنزلوهم - وإن كان من حقهم الإنكار حقيقة - منزلة خالي الذهن؛ لسفاهتهم { وَإِذَا خَلَوْاْ } نفوا خالين { إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } أي: مع أصحابهم المستمرين على الكفر، الظاهرين بالمخالفة بلا خداع ولا نفاق كالشيطان المصر على الضلال المستمر على الإضلال { قَالُوۤاْ } على طريق المبالغة والتأكيد قلعاً لما اعتقدوا من ظاهر حالهم ومقالهم وموافقتهم مع المؤمنين سراً وجهراً، وتحقيقاً لمؤاخذتهم معهم { إِنَّا } وإن كنا في الظاهر مداهنين معهم لمصلحة دنيوية، متفقون { مَعَكُمْ } لفائدة دينية، أتوا بالجملة الاسمية المصدرة بأن؛ تحقيقاً واهتماماً، وقولنا: آمنا، استهزاء منا إياهم لا تصديق لمدعاهم، وبالجملة ما نحن مؤمنون بمجرد هذا القول بل { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [البقرة: 14] مستخفون تجهيلاً وتسفيهاً واعتذاراً على مجرد القول الكاذب الغير المطابق للاعتقاد والواقع. وهم في غاية انهماكهم في الغي والضلال، وهم مقرون جازمون بأنهم يستهزئون، بل هم في الحقيقة مستهزئون إذ: { ٱللَّهُ } المحيط بجميع مخايلهم الباطلة وأفكارهم الفاسدة { يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } في كل لحظة وطرفة آناً فآناً { وَ } لم يشعرهم باستهزائه بل { يَمُدُّهُمْ } يمهلهم ويسوفهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } المتجاوز عن الحد في الضلالة بتلبيس الأمر على الله وعلى المؤمنين { يَعْمَهُونَ } [البقرة: 15] يترددون إقداماً وإحجاماً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
{ أُوْلَـٰئِكَ } البعداء عن طريق الهداية هم { ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ } استبدلوا واختاروا { ٱلضَّلَـٰلَةَ } المعززة في نفوسهم بتقليد آبائهم { بِٱلْهُدَىٰ } المتفرعة على الإيمان بالله وبرسوله { فَمَا رَبِحَتْ } بهذا الاستبدال والاختيار { تِّجَارَتُهُمْ } أي: ما يتجرون به { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [البقرة: 16] رابحين بسبب الاستبدال، وخاسرين ضالين به. أو يقال: فما يتم الربح { تِّجَارَتُهُمْ } اتجارهم { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } بسبب هذا الاتجار.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير حاشية الصاوي / تفسير الجلالين (ت1241هـ) | قوله: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } يطلق على الحسي وهو الحرقة، وعلى المعنوي وهو الشك والنفاق، ولا شك أن في قلوبهم المرضين والمعنوي سبب في الحسي، فقوله (شك ونفاق) إشارة للمرض المعنوي، وقوله (فهو يمرض قلوبهم) بيان لما يتسبب عنه، وهو إشارة الحسي، وهي في محل التعليل لما قبلها قوله: (بما أنزله من القرآن) أشار بذلك إلى أن نزول القرآن يزيد الكافر والمنافق مرضاً بمعنى كفراً وشكاً فينشأ عنه المرض الحسي، كما يزيد المؤمن إيماناً فينشأ عنه البهجة والسرور، قال تعالى**{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً }** [التوبة: 124] الآيات. ويحتمل أن المراد بما أنزله أي في حقهم من فضيحتهم خصوصاً بسورة التوبة فإنها تسمى الفاضحة. قوله: (مؤلم) يقرأ اسم مفعول أي العذاب يتألم من شدته فكأنه لشدته كأن الألم قائم به وهو أبلغ، ويصح قراءته اسم فاعل ولا بلاغة فيه. قوله: (أي نبي الله) إشارة إلى المفعول، وقوله (أي في قولهم) إشارة إلى المتعلق على القراءة والثانية.
قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } شروع في ذكر قبائحهم وأحوالهم الشنيعة، وفي الحقيقة هو تفصيل المخادعة الحاصلة منهم، وهذه الجملة يحتمل أنها استئنافية، ويحتمل أنها معطوفة على يكذبون أو على صلة من وهي يقول التقدير من صفاتهم أنهم يقولون آمناً الخ، ومن صفاتهم أنهم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } الخ، وأصل قيل قول استثقلت الكسرة على الواو فنقلت إلى ما قبلها بعد سلب حركتها ثم وقعت الواو ساكنة بعد كسرة قلبت ياء، وفاعل القول قيل الله سبحانه وتعالى وقيل النبي والصحابة ومقول القول جملة { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } في محل نصب وهي نائب الفاعل باعتبار لفظها. قوله: (بالكفر) الباء سببية بيان لسبب الإفساد، وقوله: (والتعويق عن الإيمان) معطوف عليه أي تعويق الغير عن الإيمان وصدهم عنه. قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي ليس شأننا الإفساد أبداً، بل نحن محصورون للإصلاح ولا نخرج عنه إلى غيره فهو في حصر المبتدأ في الخبر، وأكدوا ذلك بإنما المفيدة الحصر، وبالجملة الإسمية المفيدة الدوام والإستمرار، فرد عليهم سبحانه وتعالى بجملة مؤكدة بأربع تأكيدات إلا التي للتنبيه وإن ضمير الفصل وتعريف الخبر. قوله: (للتنبيه) وتأتي أيضاً للإستفتاح وللعرض والتحضيض، وفي الحقيقة الإستفتاح والتنبيه شيء واحد، وتدخل إذا كانت لهما على الجملة الإسمية والفعلية، وأما إذا كانت للعرض والتحضيض، فإنها تختص بالأفعال وهي بسيطة على التحقيق لا مركبة من همزة الإستفهام ولا النافية.قوله: { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } (بذلك) أي ليس عندهم شعور بالإفساد لطمس بصيرتهم، وعبر بالشعور دون العلم، إشارة إلى أنهم لم يصلوا إلى رتبة البهائم تمتنع من المضار فلا تقربها لشعورها بخلاف هؤلاء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) | ثم ذكر من خصال هؤلاء الممكورين ما يدل على أنهم من المغرورين بقول تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [البقرة: 11]، إلى { لاَّ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 13] والإشارة في تحقيق الآيتين أن الإنسان - وإن خلق مستعداً لخلافة الأرض -، ولكنه في بداية الخلقة معلول الهوى والصفات النفسانية فيكون مائلاً إلى الفساد.
كما أخبرت عنه الملائكة:**{ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ }** [البقرة: 30]، فبأوامر الشريعة ونواهيها تخلص جوهر الخلافة عن معدن نفس الإنسان، فأهل السعادة وهم المؤمنون ينقادون للداعي إلى الحق، ويقبلون الأوامر والنواهي، وأهل الشقاوة وهم الكافرون والمنافقون يمرقون من الدين ويتبعون الهوى، { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أي: لا تسعوا في إفساد حسن استعدادكم وصلاحيتكم للخلافة في الأرض باتباعكم الهوى وحرصكم على الدنيا { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [البقرة: 11]، لا يقبلون النصيحة ويدعون الصلاحية غافلين عن حقيقتها، فكذبهم الله تعالى بقوله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } [البقرة: 12]، يفسدون صلاح آخرتهم بإصلاح دنياهم { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } [البقرة: 12]، لهم بإفساد حالهم وسوء أعمالهم وعظم وبالهم من خسارة حسن صنيعهم وادعائهم الصلاح على أنفسهم، كما قال تعالى:**{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً }** [الكهف: 103].
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ } [البقرة: 13] أي: أهل الغفلة والنسيان { كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } [البقرة: 13] أي: بعض الناسين منكم الذين تفكروا في آلاء الله وتدبروا بعد عهد:**{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ }** [الأعراف: 172]، ومعاهده على التوحيد والعبودية، فتذكروا تلك العهود والمواثيق، فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به { قَالُوۤاْ } [البقرة: 13]، أهل الشقاوة منهم { أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } [البقرة: 13]، فكذلك أحوال أصحاب الغفلات تدعي الإسلام إذا دعوا من الإيمان التقليدي الذي وجدوه بالميراث إلى الإيمان الحقيقي بصدق الطلب، وترك محبة الدنيا واتباع الهوى والرجوع عن الخلق والتمادي في الباطل، ينسبون أرباب العلويات وأصحاب المقامات العالية إلى السفه والجنون، وينظرون إليهم بنظر العجز والذلة والمسكنة، ويقولون نترك الدنيا كما تركوه هؤلاء السفهاء من الفقراء لنكون محتاجين إلى الخلق كما هم محتاجون، ولا يعلمون أنهم هم السفهاء؛ لقوله تعالى: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 13]، فهم السفهاء لمعنيين أحدهما: أنهم يبيعون الدين بالدنيا والباقي بالفاني لسفههم وعدم رشدهم.
والثاني: أنهم سفهوا أنفسهم ولم يعرفوا حسن استعدادهم للدرجات العلى والقربة والزلفى، فرضوا بالحياة الدنيا ورغبوا عن مراتب أهل الفناء ومشارب أولي النهى، كما قال تعالى:**{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ }** [البقرة: 130]، فإن " من عرف نفسه فقد عرف ربه " ومن عرف ربه ترك غيره وعرف أهل الله وخاصته فلا يرغب عنهم، ولا يسبهم إلى السفه وينظر إليهم بالعزة، فإن الفقراء الكبراء هم الملوك تحت الأطمار، ووجوههم المسفرة عند الله كالشموس والأقمار، ولكن تحت قباب الغيرة مستورون، عن نظر الأغيار محجوبون.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
وذكر المنافقون وأهل الغفلة بخصال أردأ من الأولى بقوله: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا } [البقرة: 14]، إلى { يَعْمَهُونَ } [البقرة: 15] والإشارة في تحقيق الآيتين أن المنافقين لما أرادوا أن يجمعوا بين غيرة الكفار وصحبة المسلمين، وأن يجمعوا بين مفاسد الكفر ومصالح الإيمان، وكان الجمع بين الضدين غير جائز، فبقوا بين الباب والدار**{ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ }** [النساء: 143]، وكذلك حال المتمنين الذين يدعون الإرادة ولا يخرجون عن العادة، ويريدون الجمع بين مقاصد الدارين ويتمنون أعلى مراتب الدين، ويرتعون في أسفل مراتب الدنيا، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وإذا أقبل الليل من حيث أدبر النهار من هنا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: **" ليس الدين بالتمني "** وقال: **" بعثت لرفع العادات ودفع الشهوات ".** وقد قيل: الدنيا والآخرة امرأتان ضرتان، فمن يطلب الجمع بينهما فممكور، ومن يدعي الجمع بينهما فمغرور، ومن كان له في كل ناحية خليط ومن كل زاوية من قلمه ربيط كان نهباً لأطوار يتقاوم قوم وينزل في قلبه كل فقه فقلبه أبداً خراب لا يهنأ له عيش دلالة في التحقيق. وليس من رام مع متابعة الهوى البلوغ إلى الدرجات العلى فهو كالمستهزئ بطريق هذا الفريق، وكم في هذا البحر من أمثاله غريق، فظاهر الأمر يقتضي أنهم { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [البقرة: 14]، ولكن حقيقة الأمر تدل على أن: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [البقرة: 15]، لأن دواعي استهزائهم بأهل الدين وازدرائهم بأرباب اليقين من نتائج الخذلان، فإن الله يكلهم إلى أنفسهم فتأمرهم النفس الأمارة للاستهزاء وتحملهم على الازدراء فلو لم نجد لهم الحق وأدركتهم الرحمة لما أمرتهم بسوء الاستهزاء والازدراء، كما قال:**{ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ }** [يوسف: 53] ومن الخذلان { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [البقرة: 15]، أي يمهلهم في طغيان النفس بالحرص على الدنيا حتى يتجاوزوا في طلبها حد الاحتياج إليها ويفتح أبواب المقاصد الدنيوية عليهم يستغنوا بها وبقدر الاستغناء يزيد طغيانهم.
كما قال تعالى:**{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ \* أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ }** [العلق: 6-7]، فكانت جزاء سيئة ترددهم في الدين وثوابهم في طلب الاستهزاء وجزاء سيئة الاستهزاء الخذلان والإمهال إلى أن طغوا وجزاء سيئة الطغيان العمى، فيترددون في الضلالة متحيرين لا سبيل لهم إلى الخروج إلى الحق وجزاء سيئة العمى قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة: 16].
والإشارة في تحقيق الآية أن من نتيجة طغيانهم وعمههم أن رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وأِشربوا في قلوبهم الضلالة واستودعت عن حسن استعدادهم الفطري القابل للضلالة والهداية حتى يطلب قابليته الهداية وبدلت بالضلالة، ولما كان لهم هذا الحال من نتيجة معاملتهم أضاف الفعل إليهم وقال: { وْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة: 16].
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
وإنما قال بلفظ الاشتراء لأنهم خربوا استعداد قبول الهداية عن قدرتهم وتصرفهم فلا يملكون الرجوع إليه، وتمسكوا بالضلال تمسك الملاك فلا يمكنهم الرجوع إلى الهدى ولا يكون لهم دواء غير الرجوع؛ إذ هم اختاروا الضلالة على الهدى { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } [البقرة: 16]، لأن خسران من رضي بالدنيا ظاهر، ومن آثر الدنيا والعقبى على الله المولى فهو أشد خسراناً وأعظم حرماناً، فإذا كان المصاب بفوات النعيم ممتحناً بنار الجحيم والعذاب الأليم فما نملك بالمصاب بفقد المطلوب وبعد المحبوب ضاعت عنه الأوقات وبقي في أسر الشهوات، لا إلى قلبه رسول ولا لروحه وصول لا من الحبيب إليه وقود ولا لسره معه شهود، فهذا هو المصاب الحقيقي إذا فاته مولاه الذي فاته بفواته سواه فإن لكل شيء بدل والله لا بدل له قال بعضهم: كنت السواد لناظري فبكى عليك الناظر من شاء بعدك فليمت فعليك كنت أحاذر فجزاء اشترائهم الضلالة بالهدى إعواز ربح السعادة والفوز بالنعيم المقيم، وخسران بيع الهدى بوجدان العذاب الأليم؛ بل لفقدان الاهتداء على الصراط المستقيم إلى الله العلي العظيم الكريم الرحيم.
كما قال: { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [البقرة: 16]، لإبطالهم حسن استعداد قبول الهداية فالمثل كما قال تعالى: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } [البقرة: 17]، والإشارة في تحقيق الآية أنه مثل المريد الذي له بداية جميلة ليسلك طريق الإرادة مدة وتبعني بمقاساة شدائد الصحبة برهة حتى تنور بنور الهداية فاستوقد نار الطلب، { أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ } [البقرة: 17]، فرأى أسباب السعادة والشقاوة فتمسك بحبل الصحبة فلازم الخدمة والخلوة، وعزفت نفسه عن الدنيا وأقبل على قمع الهوى، فشرقت له من صفاء القلب شوارق الشوق، وبرقت له من أنوار الروح بوارق الذوق، فأمن مكر الله وانخدع بخداع النفس فطرقته الهواجس وأزعجته الوساوس، ثم رجع القهقرى إلى ما كان من حضيض الدنيا، فغابت شمسه وأظلمت نفسه، وانقطع حبل وصاله قبل وصوله وأخرج من جنة نواله بعد دخوله فبقدمي سأمه وملاله عاد إلى أسوأ حاله.
كما قال تعالى:**{ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ }** [الزمر: 47] وكما قيل:
| **حين قرّ الهوى وقلنا سُرِرْنا** | | **وَحِسْبنا من الفراق أمِنَّا** |
| --- | --- | --- |
| **بعث البَيْن رُسْل في خفاءٍ** | | **فأبادوا من شملنا ما جمعنا** |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) | أي: إذا نُهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض، وهو العمل بالكفر والمعاصي، ومنه إظهارُ سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين { لأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض، وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح، قلباً للحقائق وجمعاً بين فعل الباطل واعتقاده حقاً، وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية، مع اعتقاد أنها معصية، فهذا أقرب للسلامة، وأرجى لرجوعه. ولما كان في قولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } حصرٌ للإصلاح في جانبهم - وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح - قلبَ الله عليهم دعواهم بقوله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } فإنه لا أعظم فساداً ممن كفر بآيات الله، وصدَّ عن سبيل الله، وخادع الله وأولياءه، ووالى المحاربين لله ورسوله، وزعم مع ذلك أن هذا إصلاح، فهل بعد هذا الفساد فساد؟!! ولكن لا يعلمون علماً ينفعهم، وإن كانوا قد علموا بذلك علماً تقوم به عليهم حجة الله، وإنما كان العمل بالمعاصي في الأرض إفساداً، لأنه يتضمن فساد ما على وجه الأرض من الحبوب والثمار والأشجار والنبات، بما يحصل فيها من الآفات بسبب المعاصي، ولأن الإصلاح في الأرض أن تعمرَ بطاعة الله والإيمان به، لهذا خلق الله الخلق، وأسكنهم في الأرض، وأدرَّ لهم الأرزاق، ليستعينوا بها على طاعته [وعبادته]، فإذا عمل فيها بضده، كان سعياً بالفساد فيها، وإخراباً لها عما خلقت له.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) | شروع في تعديد بعضٍ من مساوئهم المتقدمة - على ما حكى عنهم من الكفر والنفاق - والفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به. ونقيضه الصلاح وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض: تهييج الحروب والفتن، لأن في ذلك فسادَ ما في الأرض، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس، والزروع، والمنافع الدينية والدنيوية. قال الله تعالى:**{ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ }** [البقرة: 205].**{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ }** [البقرة: 30]. - ومنه قيل كانت لحرب بين طيئ: حرب الفساد.
وكان إفساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يُمالِئُون الكفار على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم، وإغرائهم عليهم، واتخاذهم أولياء، مع ما يَدْعون في السر إلى: تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، وجحد الإسلام، وإلقاء الشبه، وذلك مما يجرئ الكفرة على إظهار عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، ونصب الحرب له، وطمعهم في الغلبة. فلما كان ذلك من صنيعهم مؤَدِّيا إلى الفساد - بتهييج الفتن بينهم - قيل لهم: لا تفسدوا - كما تقول للرجل: لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك في النار؛ إذا أقدم على ما هذه عاقبته - وقد قال تعالى:**{ وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي ٱلأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }** [الأنفال: 73]. فأخبر أن موالاة الكافرين تؤدّي إلى الفتنة والفساد، لِما تقدّم.
وقولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي: بين المؤمنين وأهل الكتاب. نُداري الفريقين ونريد الإصلاح بينهما كما حكى الله عنهم أنهم قالوا:**{ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَٰناً وَتَوْفِيقاً }** [النساء: 62] أو معناه: إنما نحن مصلحون في الأرض بالطاعة والانقياد.
قال الراغب: تصوروا إفسادهم بصورة الإصلاح - لما في قلوبهم من المرض - كما قال:**{ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً }** [فاطر: 8] وقوله:**{ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ }** [الأنعام: 43 ] وقوله:**{ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }** [الكهف: 104].
وقال القاشاني: كانوا يَروْنَ الصلاح في تحصيل المعاش، وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا - لأنفسهم خاصة - لتوغلهم في محبة الدنيا، و انهماكهم في اللذات البدنية، واحتجابهم - بالمنافع الجزئية - والملاذ الحسية - عن المصالح العامة الكلية، واللذات العقلية، وبذلك يتيسر مرادهم، ويتسهل مطلوبهم، وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحس.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) | تنطق هذه الآيات بأنّ ما عليه هذا الصنف من الغرور بما عنده من التقاليد، قد سوّل له الباطل وزيّن له سوء عمله فرآه حسناً، وشوّه في نظره كلّ حقٍّ لم يأتِهِ على لسان رؤسائه ومقلَّديه بنصِّه التفصيليّ، فهو يراه قبيحاً، وقد صوّرت الآيات هذا الغرور بما حكته عن بعض أفراده وهو: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } بما تصدّون عن سبيل الله مَنْ آمن وتبغونها عوجاء، وتنفّرون الناس عن اتّباع محمّد صلى الله عليه وسلم والأخذ بما جاء به من الإصلاح، الذي يجتثّ أصول الفساد، ويصطلم جراثيم الأداد، ويُحيي ما أماتته البدع من إرشاد الدين، ويقيم ما قوّضته التقاليد من سنن المرسلين { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } بالتمسّك بما استنبطه الرؤساء، وما كان عليه الأحبار والعرفاء، من تعاليم الأنبياء، فإنّهم أعرف بسنّتهم، وأدرى بطريقتهم، فكيف ندع ما تلقّيناه منهم، ونذر ما يؤثره آباؤنا وشيوخنا عنهم، ونأخذ بشيء جديد، وطارف ليس له تليد؟.
هكذا شأن كلّ مفسد: يدّعي أنّه مصلحٌ في نفس إفساده، فإنْ كان على بيّنة من إفساده عارفاً أنّه مضلٌّ - وإنّما يكون كذلك إذا كان إفساده لغيره لعداوة منه له - فإنّما يدّعي ذلك لتبرئة نفسه من وصمة الإفساد بالتمويه والمواربة، وإن كان مسوقاً إلى الإفساد بسوء التقليد الأعمى الذي لا ميزان فيه لمعرفة الإصلاح من الإفساد إلاّ الثقة بالرؤساء المقلَّدين، فهو يدّعيه عن إعتقاد ولا يريد أن يفهم غير ما تلقّاه عنهم، وإن كان أثر تقليدهم، والسير على طريقتهم مفسداً للأمّة في الواقع ونفس الأمر؛ لأنّ الوجود والحقيقة الواقعة لا قيمة لهما ولا اعتبار في نظر المقلّدين، بل هم لا يعرفون مناشيء الفساد ومصادر الخلل، ولا مزالق الزلل؛ لأنّهم عطّلوا نظرهم الذي يميّز ذلك، وأرادوا أن يوقعوا غيرهم بهذه المهالك، بصدّهم عن سبيل الإسلام، الداعي إلى الوحدة والالتئام، فكان ذلك منهم دعاءً إلى الفرقة والانفصام، والثبات على عبادة الملائكة أو البشر أو الأصنام. وأيّ إفساد في الأرض أعظم من التنفير عن اتّباع الحقّ، وعن الإعتصام بدين فيه سعادة الدارين، والأرضُ إنّما تفسد وتصلح بأهلها؟ ولذلك قال تعالى: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } فابتدأ الكلام المؤكّد لإثبات إفسادهم بكلمة " ألا " التي يراد بها التنبيه والإيقاظ وتوجيه النظر، وتدلّ على اهتمام المتكلّم بما يحكيه بعدها { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } بأنّ هذا إفساد غُرِز في طبائعهم، بما تمكّن فيها من الشبهة بتقليد رؤسائهم الذين أُشربوا عظمتهم. وهذا دليل على أنّهم لم يكونوا معاندين ولا مرائين، وأنّهم على اعتقاد ضعيف لا يشهد له العمل كما تقدّم في تفسير آية**{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ }** [البقرة: 9].
وإذا كانت الآيات في وصف طائفة من الناس توجد في كل أمّة - كما قدّمنا - فليحاسب بها نفسه كلّ مسلم يعتقد أنّ القرآن إمامه، وأنّ فيه هدىً له، فإنّها حجّة على كثير ممّن يدّعون الإسلام بالقول ويعملون بخلاف ما جاء به، ويتّبعون غير سبيله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأقول الآن: هذه جملة ما قرّره شيخنا في الدرس، واضعاً نصب عينيه منافقي اليهود، ولا سيّما فقهاءهم الذين كانوا مجاورين للنبيّ صلى الله عليه وسلم في المدينة، وشدّة الشبه بينهم وبين فقهاء السوء ولا سيّما فقهاء عصرنا هذا؛ ولذلك نبّه لعموم الآيات وشمولها لهم لها عوداً على بدء، وإنّما مراده بنفي الرياء عنهم أنّهم يعتقدون ما قالوا هنا، وهو لا ينفي رياءهم في غيره من أقوالهم وأفعالهم. وقد كان لأولئك الأحبار والرؤساء من الإفساد غير ما ذكر، ومنه إغراء المشركين بقتال النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ووعدهم بمساعدتهم عليه، وهذا إفساد كبير في الأرض، وكانوا يستبيحونه بأنّه توسّل إلى حفظ سلطتهم ورئاستهم المهدّدة باتّباع محمّد صلى الله عليه وسلم.
ولم يذكر، فيما كتبت عنه، رأيه فيمن سألهم وقال لهم ما ذكر، وأجابوه بهذا الجواب، هل هو الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو المؤمنون؟ وهي الاحتمالات التي ذكرها المفسّرون. وزاد بعضهم رابعاً وهو أن يكون بعضهم سأل بعضاً، لما كانوا عليه من اختلاف الحال وتباين الآراء، كما قال تعالى فيهم:**{ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ }** [الحشر: 14] فأيّ مانع لنهي بعضهم لبعض عن نكث ما عاهدهم عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، من إقرارهم على دينهم وحفظ أموالهم وأنفسهم؛ بأن لا يؤلّبوا عليه المشركين ولا يساعدوهم عليه، وأن يقولوا للناكثين المفسدين: إنّ الحرب فسادٌ عظيم لا يؤمن أن يتعدّى إلينا شرّها فيطير من شررها ما نحترق به، فدعوا تأليب قوم محمّد عليه؟ ثمّ أيّ مانع يمنع أن يجيبهم أولئك المفسدون ككعب بن الأشرف: إنّما نحن مصلحون بمساعدة قومه عليه، لأنّنا نخشى منه ما لا نخشى منهم، فقد عشنا معهم أجيالاً لم ينازعنا منهم أحد في صحّة ديننا؛ لأنّهم لا يدعون إلى شركهم، ولا يحتقرون ما نحن عليه من الدين، بل يروننا فوقهم في العلم، ومنهم من يعطينا أولاده لنربّيهم ولا يكرهون أن نلقِّنهم ديننا، وأمّا محمّد فيقول إنّنا ضللنا عن ديننا نفسه ويعيبنا بتحريف سلفنا وخلفنا لكتابنا، وبما كان من مخازي تاريخنا، كقتل الأنبياء، ونكث العهود، وأكل السحت. فإذا كان له الغلب على مشركي قومه، لا نأمن أن يبقى لنا ديننا ومكانتنا السامية في بلاد العرب - وإن هو حفظ عهده لنا، ولم يغدر فيقاتلنا، فكيف إذا هو غدر بنا وقاتلنا بعد الفراغ من قومه؟
هذا أقرب إلى المعقول ممّا قاله المفسّرون في السؤال والسائل، وفيه وجه آخر لعلّه أقوى، وهو أنّ السؤال والجواب مفروضان فرضاً، والمراد بيان حالهم في هذا الأمر وما تنطوي عليه جوانحهم، بصيغة السؤال والجواب التي هي أقوى أساليب الكلام تنبيهاً للأذهان، وتوجيهاً لها إلى الإحاطة بمعاني الكلام، ولذلك يستعملها العلماء في بيان مهمّات المسائل وحلّ عويص المشاكل، يقولون: إذا قيل كذا قلنا كذا، وإن سئلنا عن هذا أجبنا بكذا.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأمّا الفرق بين الشرطين في مثل هذا الأسلوب فالبلاغة تقتضي أن يكون السؤال بإذا عمّا كان سببه قويّاً من شأنه ألاّ يسكت عنه، ويصدّر بإن إذا كان سببه ضعيفاً ولكنّه محتمل، فيجاب عنه احتياطاً.
ثمّ أقول: إنّ ما تقدّم مبنيّ على أنّ السؤال والجواب في بيان حال منافقي اليهود - وهو المختار عند شيخنا. وقد ورد في التفسير المأثور جعله في بيان حال منافقي المدينة من العرب، كعبد الله بن أُبيّ ابن سلول وحزبه، فإنّهم كانوا يُفسدون في الأرض بالتشكيك في الدين، وبتفريق كلمة المؤمنين، كما فعلوا في غزوة أُحُد ثمّ في غزوة تبوك، فكان هذا شأنهم - وإن كانت الغزوتان بعد نزول هذه السورة. وروي تفسير إفسادهم بالكفر والمعاصي، وما قلناه منه، ولكنّه أخصّ وهو المتبادر. ودعواهم أنّ هذا إصلاح كدعواهم الإيمان، وكلّ مفسدّ وضالّ يسمى إفساده وضلاله بأسماء حسنة، كما يسمّون الشرك بالله في زمننا بدعاء غيره: توسّلا.. وعن ابن عباس أنّهم كانوا يقولون: إنّما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
ثمّ صوّرت الآيات ذلك الجهل والغرور في الفريقين بصورة أُخرى أشدّ تشويهاً ممّا قبلها؛ لأنّ تلك صورتهم في عملهم، وهذه صورتهم في جوهر إيمانهم، وهي: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } الذين تعتقدون كمالهم وترون تعظيمهم وإجلالهم، كإبراهيم وموسى وعيسى وأتباعهم، الذين كان الإيمان راسخاً في جنانهم، ومؤثّراً في وجدانهم، ومصرِّفاً لأبدانهم، أو كعبد الله بن سلام وأمثاله من علمائكم، { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } أقول: المراد بالسفه: الطيش وخفّة العقل وضعف الرأي. ومن لوازمه سوء التصرّف. ومنه قيل: زمام سفيه: كثير الاضطراب لمرح الناقة ومنازعتها إيّاه، وثوب سفيه: رديء النسج. واستعمل في خفّة النفس لنقصان العقل، وفي الأمور الدنيويّة والأخرويّة. فقيل سفه نفسه، ويعنون بالسفهاء أتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم الواقفين عندما كان عليه، المعرضين عن غير ما أنزل إليه؛ لما تضمّنه الأمر من الشهادة لهم بأنّهم في إيمانهم كأتباع أولئك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم سلف اليهود الذين كان الكلام معهم، وكانوا يفتخرون بما يتناقلونه من سيرتهم. فردّ الله تعالى عليهم بقوله:
{ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } أي وحدهم دون مَنْ عرَّضوا بهم؛ لأنّ لهم سلفاً صالحاً تركوا الاقتداء بهم، زعماً أنّ المتأخر لا يمكن أن يكون على هدى المتقدّم؛ لأنّه يصعب أو يتعذّر عليه اللحاق به، واحتذاء عمله؛ لعلوّه في الدرجة، وبعده في المنزلة، وأنّ حظَّهم من سلفهم انتظار شفاعتهم - وإن لم يسيروا على سنتهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فأي الفريقين أجدر بلقب السفيه، أهمّ أولئك اليهود الذين لهم أسوة صالحة ولكنّهم لا يهتدون بها وهذه حالهم من سوء العقيدة وقبح العمل، أم مَنْ لا سلف له إلاّ عبدة الأوثان، وقلبه مع ذلك مطمئنّ بالإيمان، وأعماله تشهد له بالإحسان، كالصحابة الذين هداهم الله بنور الإسلام، فكانوا كأتباع أولئك الأنبياء الكرام، بل ربّما سبقوهم بالفضائل، وزادوا عليهم في الفواضل؟ لا شكّ أنّ أولئك المفسدين بعدما تقدّم لهم من سلف صالح، ودين قيّم، هم السفهاء، دون هؤلاء العقلاء.
{ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } أنّ السفه محصور فيهم، ومقصور عليهم، وإنّما عندهم شعور ما بأنّهم ركبوا هواهم، ولم يتّبعوا هدى سلفهم ولا هداهم، ينتحلون له العلل الضعيفة، ويتمحّلون له الأعذار السخيفة، فهو لم يصل إلى حدّ العلم الذي تتكيّف به النفس. ويكفي في إثبات سفههم أنّهم يعرفون حسن حال سلفهم، ويعترفون به، ولكن لا يقتدون بهم، ولا يقتفون أثرهم، وإنّما يعتمدون في نجاتهم وسعادتهم على تلك الأماني والتعلات، كقولهم:**{ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ }** [آل عمران: 24] وقولهم:**{ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ }** [المائدة: 18] وشعبه وأصفياؤه؛ ولا يصحّ نفي الشعور عنهم في هذا المقام مع ذلك الاعتراف، وإنّما هو نفي العلم الكامل الذي يزيل الشبه ويُذهب بالعلل، ويبعث على الاقتداء بالعمل.
وهذا أيضاً حجّة على كثير من اللابسين لباس الإسلام، وهم من هذا الصنف. يعتقدون كمال سلفهم، ولا يقتدون بهم، وإنّما يطمعون في سعادة الدنيا والآخرة بإنتسابهم إلى أولئك السلف العظام، ولكونهم من أمّة النبيّ عليه الصلاة والسلام وهي خير الأمم بشهادة الله في القدم، ولكنّهم لا يعلمون أنّها فضلت سواها بكونها أمّة وسطا تقوم على جادّة الإعتدال، في العقائد والأخلاق والأعمال، وتسعى في إصلاح البشر، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما سيأتي في تفسير**{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً }** [البقرة: 143] وتفسير**{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }** [آل عمران: 110] وليس عند هؤلاء السفهاء شيءٌ من هذه الصفات، إلاّ الأماني والتعلات.
وأزيد في هذا السياق الذي شرحت به قول شيخنا في الدرس: تذكير هؤلاء المرضى القلوب من المسلمين، الذين اتّبعوا سنن من قبلهم في هذا، كما اتّبعوهم في غيره " شبرا بشبر وذراعاً بذراع " كما ورد في حديث الصحيحين. أزيد فيه تذكيرهم بقوله تعالى - في أهل الكتاب - الآتي في هذه السورة -**{ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }** [البقرة: 78] وقوله فيهم وفي أفضل سلف هذه الأمّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم:**{ لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
[النساء: 123] الآيات.
ثمّ أقول: إنّ جريان هذا السؤال والجواب في منافقي العرب أظهر ممّا قبله؛ فعبد الله بن أُبيّ ابن سلول وأصحابه من منافقي المدينة كانوا أبعد عن الإيمان وأدنى إلى مخادعة الله ورسوله والمؤمنين من منافقي اليهود في أنفسهم وقومهم ومع المؤمنين. ولا شكّ أنّهم كانوا يعدّون المؤمنين الصادقين سفهاء الأحلام في اتّباعهم للرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، أمّا المهاجرون منهم فلأنّهم عادَوا قومهم وأقاربهم وهجروا وطنهم وتركوا ديارهم ليكونوا تابعين له. وأمّا الأنصار فلأنّهم شاركوا المهاجرين في ديارهم وأموالهم. وكون هذا من السفه عند غير المؤمن بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به ظاهر جليّ، ولذلك نفى عنهم الشعور بأنّهم هم السفهاء دون المؤمنين، ويؤيّد ما قلته ما حكاه الله تعالى عنهم في سورتهم بقوله:**{ هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ }** [المنافقون: 7].
هذا - وإنّنا أشرنا إلى نكتة اختلاف التعبير في نفي الشعور عن المنافقين في موضعين، ونفي العلم في موضع واحد من هذه الآيات. وأزيد عليه في نكتة نفي العلم الآن ما ينبّه الأذهان، إلى دقّة التعبير في القرآن. وهو أنّ أمر الإيمان لا يتحقّق إلاّ بالعلم اليقينيّ، فموضوعه علميّ، ثمّ إنّ ثمرته السعادة في الدنيا والآخرة، ولا يدرك ذلك إلاّ من علم حقيقته؛ فنفى عنهم العلم بأنّهم هم السفهاء فيما رموا به المؤمنين بالسفاه، بشبهة أنّهم أخطاؤا مصلحتهم ومصلحة قومهم الأنصار ومصلحة أمتهم العربية في اتّباع النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ عدم العلم بذلك سببه عدم العلم بكنه الإيمان وعاقبته. ومن جهل الملزوم كان بلوازمه أجهل، فكأنّه قال: ولكن لا يعلمون ما الإيمان، حتّى يعلموا أنّ المؤمنين سفهاء غاوون، أو عقلاء راشدون؛ لأنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوّره، وهم جاهلون به ويجهلون أنّهم جاهلون.
ومن مباحث الأداء في الآيات: ما في اجتماع الهمزتين من آخر السفهاء وأوّل " ألا " من قراءة تحقيقهما بالنطق بهما معاً، وقراءتي تحقيق الأولى وتليين الثانية وعكسه، وقراءة بعضهم بهمزة واحدة، وكذلك أمثالها من كلّ همزتين في كلمتين.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير تفسير القرآن العزيز/ ابن أبي زمنين (ت 399هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } يعني لا تشركوا { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي أظهروا الإيمان { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } أن الله يعذبهم في الآخرة { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } إذا قال لهم النبي والمؤمنون آمنوا كما آمن المؤمنون قال بعضهم لبعض { أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } يعنون من آمن ولم يعلنوا قولهم هذا { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } أنهم سفهاء في تفسير الحسن.
قال محمد أصل السفه خفة الحلم ومنه يقال ثوب سفيه إذا كان خفيفا وقيل أصل السفه الجهل.
{ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } قال قتادة يعني رؤساءهم في الشرك { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَْ } بمحمد وأصحابه { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْْ } قال محمد يعني يجازيهم جزاء الاستهزاء.
يحيى عن المبارك بن فضالة عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" يجاء بالمستهزئين يوم القيامة يفتح لهم باب من أبواب الجنة فيدعون ليدخلوا فيجيئون فإذا بلغوا الباب أغلق فيرجعون ثم يدعون ليدخلوا فيجيئون فإذا بلغوا الباب أغلق فيرجعون ثم يدعون ليدخلوا فيجيئون فإذا ل بلغوا الباب أغلق فيرجعون ثم يدعون حتى إنهم يدعون فلا يجيئون من اليأس ".** { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال السدي يعني يترددون قال محمد معنى يمدهم يطيل لهم تقول مددت فلانا في غيه ومددت له فإذا كان في الشر قلت مددته وإذا كان في الخير قلت أمددته والطغيان العتو والتكبر والعمه في كلام العرب الحيرة والضلال يقال عمه الرجل في الأمر يعمه عموها إذا تاه فيه وتحير فهو عمه وعامه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير كتاب نزهة القلوب/ أبى بكر السجستاني (ت 330هـ) | (إذا) وقت مستقبل. { يَشْعُرُونَ } يفطنون. { مُسْتَهْزِءُونَ } أي ساخرون. وقوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } أي يجازيهم جزاء استهزائهم { طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } يقول: في غيهم وكفرهم يحارون ويترددون. ويعمهون في اللغة: يركبون رءوسهم متحيرين حائرين عن الطريق؛ يقال: رجل عمه وعامه: أي متحير وحائر عن الطريق.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير البرهان في تفسير القرآن/ هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ) | 334/ [1]- قال الإمام العسكري (عليه السلام): " قال العالم موسى بن جعفر (عليه السلام): إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بإظهار نكث البيعة لعباد الله المستضعفين فتشوشون عليهم دينهم، و تحيرونهم في دينهم و مذاهبهم قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ لأنا لا نعتقد دين محمد، و لا غير دين محمد، و نحن في الدين متحيرون، فنحن نرضى في الظاهر محمدا بإظهار قبول دينه و شريعته، و نقضي في الباطن إلى شهواتنا، فنتمتع و نترفه و نعتق أنفسنا من دين محمد، و نكفها من طاعة ابن عمه علي، لكي إن أديل في الدنيا كنا قد توجهنا عنده، و إن اضمحل أمره كنا قد سلمنا من سبي أعدائه.
قال الله عز و جل: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } بما يفعلون من أمور أنفسهم، لأن الله تعالى يعرف نبيه (صلى الله عليه و آله) نفاقهم، فهو يلعنهم و يأمر المسلمين بلعنهم، و لا يثق بهم أيضا أعداء المؤمنين، لأنهم يظنون أنهم ينافقونهم أيضا كما ينافقون أصحاب محمد، فلا يرفع لهم عندهم منزلة، و لا يحلون عندهم بمحل أهل الثقة ".
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ | * تفسير الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم / تفسير الكازروني (ت 923هـ) | { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } بنحو الكفر وافشاء سر المسلمين في الكفار { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } نداري المؤمنين والكفار اصلاحاٍ بينهما، والفساد: الخروج عن الإعتدال، والصلاح ضده، ويعمان كُلَّ ضُرٍّ وَنَفْع { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ \* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } الصَّحَابةُ، دَلَّ على قيول توبة الزنديق، وَهُوَ مُظْهِرُ الإسْلاَم مبطن الكفر { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } أي: الناس، والسَّفَهُ: خِفِّةُ الرَّأْي، ويقابله الحلم { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } خَصَّهُ بالعلم لاحتياج الفرق بين الحق والباطل إلى مزيد نظر بخلاف قيح النفاق فإنه يُعْرَفُ بأدنى شعور { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ } انفردوا { إِلَىٰ } مَعَ { شَيَاطِينِهِمْ }. من أصحابهم { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } في الدين { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } لاعبون بالمؤمنين، والجملتان قصة واحدة لبيان نفاقهم فلا تكرار { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } أراد غايته كَمَا مَرَّ أو جَزَاءَهُ، و أشار بالمضارع إلى تجدده، ومنه:**{ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ }** [التوبة: 126] { وَيَمُدُّهُمْ } يزيدهم ويقويهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } غلوهم في الكفر { يَعْمَهُونَ } يتحيرون، العمهُ: عدم الدراية بسلوك الطريق والمعتزلة [يمنعهم إسناد القبيح إليه -تعالى-] يؤلون الآية [ ونظائرها بمَجَازاتً بعيدةً، جاهلين بأن لا قبيح بالنسبة إليه -تعالى- فلا يتصور في افعاله ظلم إذ له التصرف في ملكه كيف يشاء وإنما يوصف به وبأمثاله أفعالنا باعتبار كسبنا وقيامها بنا فقط -كما سيأتي- ولا يجوز صرف الكلام عن ظاهره إلَّا ببُرْهانٍ يمنعه كَمَا بُيِّن في موضعه -والله أعلم].
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) | وأصل الـمرض: السقم، ثم يقال ذلك فـي الأجساد والأديان فأخبر الله جل ثناؤه أن فـي قلوب الـمنافقـين مرضاً. وإنـما عنى تبـارك وتعالـى بخبره عن مرض قلوبهم الـخبر عن مرض ما فـي قلوبهم من الاعتقاد ولكن لـما كان معلوماً بـالـخبر عن مرض القلب أنه معنىّ به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد استغنى بـالـخبر عن القلب بذلك والكناية عن تصريح الـخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عمر بن لـجأ:
| **وَسَبَّحَتِ الـمَدِينَةُ لا تَلُـمْها** | | **رأتْ قَمَراً بِسُوقِهِمُ نَهارا** |
| --- | --- | --- |
يريد وسبح أهل الـمدينة. فـاستغنى بـمعرفة السامعين خبره بـالـخبر عن الـمدينة عن الـخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسيّ:
| **هَلاَّ سألْتِ الـخَيْـلَ يا ابنْةَ مالِ** | | **كِإنْ كُنْتِ جاهِلَةً بِـمَا لَـمْ تَعْلَـمِي** |
| --- | --- | --- |
يريد: هلا سألت أصحاب الـخيـل؟ ومنه قولهم: يا خيـل الله اركبـي، يراد: يا أصحاب خيـل الله اركبوا. والشواهد علـى ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب، وفـيـما ذكرنا كفـاية لـمن وفق لفهمه. فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } إنـما يعنـي فـي اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه فـي الدين والتصديق بـمـحمد صلى الله عليه وسلم، وبـما جاء به من عند الله مرض وسقم. فـاجتزأ بدلالة الـخبر عن قلوبهم علـى معناه عن تصريح الـخبر عن اعتقادهم. والـمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه فـي اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه هو شكهم فـي أمر مـحمد، وما جاء به من عند الله وتـحيرهم فـيه، فلا هم به موقنون إيقان إيـمان، ولا هم له منكرون إنكار إشراك ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل**{ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ }** [النساء: 143] كما يقال: فلان يـمرض فـي هذا الأمر، أي يضعف العزم ولا يصحح الروية فـيه. وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل ذلك تظاهر القول فـي تفسيره من الـمفسرين ذكر من قال ذلك: حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي شكّ. وحدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق عن الضحاك، عن ابن عبـاس، قال: الـمرض: النفـاق. حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } يقول: فـي قلوبهم شك. حدثنـي يونس بن عبد الأعلَـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد فـي قوله: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } قال: هذا مرض فـي الدين ولـيس مرضاً فـي الأجساد.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
قال: هم الـمنافقون. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك قراءة عن سعيد عن قتادة فـي قوله: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } قال: فـي قلوبهم ريبة وشك فـي أمر الله جل ثناؤه. وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } قال: هؤلاء أهل النفـاق، والـمرض الذي فـي قلوبهم الشكّ فـي أمر الله تعالـى ذكره. حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } حتـى بلغ: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } قال الـمرض: الشك الذي دخـلهم فـي الإسلام. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }. قد دللنا آنفـاً علـى أن تأويـل الـمرض الذي وصف الله جل ثناؤه أنه فـي قلوب الـمنافقـين: هو الشكّ فـي اعتقادات قلوبهم وأديانهم وما هم علـيه فـي أمر مـحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر نبوّته وما جاء به مقـيـمون. فـالـمرض الذي أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنه زادهم علـى مرضهم هو نظير ما كان فـي قلوبهم من الشك والـحيرة قبل الزيادة، فزادهم الله بـما أحدث من حدوده وفرائضه التـي لـم يكن فرضها قبل الزيادة التـي زادها الـمنافقـين من الشك والـحيرة إذْ شكوا وارتابوا فـي الذي أحدث لهم من ذلك إلـى الـمرض والشك الذي كان فـي قلوبهم فـي السالف من حدوده وفرائضه التـي كان فرضها قبل ذلك، كما زاد الـمؤمنـين به إلـى إيـمانهم الذي كانوا علـيه قبل ذلك بـالذي أحدث لهم من الفرائض والـحدود إذ آمنوا به، إلـى إيـمانهم بـالسالف من حدوده وفرائضه إيـماناً. كالذي قال جل ثناؤه فـي تنزيـله:**{ وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَـٰناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَـٰفِرُونَ }** [التوبة: 124-125] فـالزيادة التـي زيدها الـمنافقون من الرجاسة إلـى رجاستهم هو ما وصفنا، والزيادة التـي زيدها الـمؤمنون إلـى إيـمانهم هو ما بـينا، وذلك هو التأويـل الـمـجمع علـيه. ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويـل: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت. عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } قال: شكّاً. حدثنـي موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرّة الهمدانـي عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } يقول: فزادهم الله ريبة وشكاً. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك قراءة عن سعيد عن قتادة: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } يقول: فزادهم الله ريبة وشكاً فـي أمر الله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قول الله: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } قال: زادهم رجساً. وقرأ قول الله عزّ وجلّ:**{ فأمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** [التوبة: 124-125] قال: شرّاً إلـى شرّهم، وضلالة إلـى ضلالتهم. وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } قال زادهم الله شكاً. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ }. قال أبو جعفر: والألـيـم: هو الـموجع، ومعناه: ولهم عذاب مؤلـم، فصرف «مؤلـم» إلـى «ألـيـم»، كما يقال: ضرب وجيع بـمعنى موجع، والله بديع السموات والأرض بـمعنى مبدع. ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبـيدي:
| **أمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ** | | **يُؤَرّقُنِـي وأصْحابـي هُجُوعُ** |
| --- | --- | --- |
بـمعنى الـمُسْمِع. ومنه قول ذي الرمة:
| **وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُور شَمَرْدلاتٍ** | | **يَصُدُّ وُجُوهَها وَهَجٌ ألِـيـمُ** |
| --- | --- | --- |
ويروى «يصك»، وإنـما الألـيـم صفة للعذاب، كأنه قال: ولهم عذاب مؤلـم. وهو مأخوذ من الألـم، والألـم: الوجع. كما: حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر عن أبـيه عن الربـيع، قال: الألـيـم: الـموجع. حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: الألـيـم، الـموجع. وحدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك فـي قوله { أَلِيمٌ } قال: هو العذاب الـموجع، وكل شيء فـي القرآن من الألـيـم فهو الـموجع. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }. اختلفت القراءة فـي قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } مخففة الذال مفتوحة الـياء، وهي قراءة معظم أهل الكوفة. وقرأه آخرون: { يُكَذِّبُونَ } بضم الـياء وتشديد الذال، وهي قراءة معظم أهل الـمدينة والـحجاز والبصرة. وكأن الذين قرءوا ذلك بتشديد الذال وضم الـياء رأوا أن الله جل ثناؤه إنـما أوجب للـمنافقـين العذاب الألـيـم بتكذيبهم نبـيهم مـحمداً صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به، وأن الكذب لولا التكذيب لا يوجب لأحد الـيسير من العذاب، فكيف بـالألـيـم منه؟ ولـيس الأمر فـي ذلك عندي كالذي قالوا وذلك أن الله عزّ وجلّ أنبأ عن الـمنافقـين فـي أول النبأ عنهم فـي هذه السورة بأنهم يكذبون بدعواهم الإيـمان وإظهارهم ذلك بألسنتهم خداعاً لله عزّ وجلّ ولرسوله وللـمؤمنـين، فقال:**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا }** [البقرة: 8-9] بذلك من قـيـلهم مع استسرارهم الشك، { وَمَا يَخْدَعُونَ } بصنـيعهم ذلك { إِلاَّ أَنْفُسَهُم } دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمؤمنـين، { وَمَا يَشْعُرُونَ } بـموضع خديعتهم أنفسهم واستدراج الله عزّ وجل إياهم بإملائه لهم فـي قلوبهم شك أي نفـاق وريبة، والله زائدهم شكّاً وريبة بـما كانوا يكذبون الله ورسوله والـمؤمنـين بقولهم بألسنتهم:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ }** [البقرة: 8] وهم فـي قـيـلهم ذلك كَذَبة لاستسرارهم الشك والـمرض فـي اعتقادات قلوبهم. فـي أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فأولـى فـي حكمة الله جل جلاله أن يكون الوعيد منه لهم علـى ما افتتـح به الـخبر عنهم من قبـيح أفعالهم وذميـم أخلاقهم، دون ما لـم يجز له ذكر من أفعالهم إذ كان سائر آيات تنزيـله بذلك نزل. وهو أن يفتتـح ذكر مـحاسن أفعال قوم ثم يختـم ذلك بـالوعيد علـى ما افتتـح به ذكره من أفعالهم، ويفتتـح ذكر مساوىء أفعال آخرين ثم يختـم ذلك بـالوعيد علـى ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم. فكذلك الصحيح من القول فـي الآيات التـي افتتـح فـيها ذكر بعض مساوىء أفعال الـمنافقـين أن يختـم ذلك بـالوعيد علـى ما افتتـح به ذكره من قبـائح أفعالهم، فهذا مع دلالة الآية الأخرى علـى صحة ما قلنا وشهادتها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا، وأن الصواب من التأويـل ما تأوّلنا من أن وعيد الله الـمنافقـين فـي هذه الآية العذاب الألـيـم علـى الكذب الـجامع معنى الشك والتكذيب، وذلك قول الله تبـارك وتعالـى:**{ إِذَا جَاءكَ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ ٱتَّخَذُواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }** [المنافقون: 1-2] والآية الأخرى فـي الـمـجادلة:**{ ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ }** [المجادلة: 16] فأخبر جلّ ثناؤه أن الـمنافقـين بقـيـلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مع اعتقادهم فـيه ما هم معتقدون، كاذبون. ثم أخبر تعالـى ذكره أن العذاب الـمهين لهم علـى ذلك من كذبهم. ولو كان الصحيح من القراءة علـى ما قرأه القارئون فـي سورة البقرة: { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } لكانت القراءة فـي السورة الأخرى:**{ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ }** [المنافقون: 1] لـيكون الوعيد لهم الذي هو عقـيب ذلك وعيداً علـى التكذيب، لا علـى الكذب. وفـي إجماع الـمسلـمين علـى أن الصواب من القراءة فـي قوله:**{ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ }** [المنافقون: 1] بـمعنى الكذب، وأن إيعاد الله تبـارك وتعالـى فـيه الـمنافقـين العذاب الألـيـم علـى ذلك من كذبهم، أوضح الدلالة علـى أن الصحيح من القراءة فـي سورة البقرة: { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } بـمعنى الكذب، وأن الوعيد من الله تعالـى ذكره للـمنافقـين فـيها علـى الكذب حق، لا علـى التكذيب الذي لـم يجز له ذكر نظير الذي فـي سورة الـمنافقـين سواء. وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن «ما» من قول الله تبـارك اسمه: { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } اسم للـمصدر، كما أن أن والفعل اسمان للـمصدر فـي قولك: أحبّ أن تأتـينـي، وأن الـمعنى إنـما هو بكذبهم وتكذيبهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
قال: وأدخـل «كان» لـيخبر أنه كان فـيـما مضى، كما يقال: ما أحسن ما كان عبد الله. فأنت تعجب من عبد الله لا من كونه، وإنـما وقع التعجب فـي اللفظ علـى كونه. وكان بعض نـحويـي الكوفة ينكر ذلك من قوله ويستـخطئه ويقول: إنـما ألغيت «كان» فـي التعجب لأن الفعل قد تقدمها، فكأنه قال: «حسنا كان زيد»، «وحسن كان زيد» يبطل «كان»، ويعمل مع الأسماء والصفـات التـي بألفـاظ الأسماء إذا جاءت قبل «كان» ووقعت «كان» بـينها وبـين الأسماء. وأما العلة فـي إبطالها إذا أبطلت فـي هذه الـحال فشبه الصفـات والأسماء بفعل ويفعل اللتـين لا يظهر عمل كان فـيهما، ألا ترى أنك تقول: «يقوم كان زيد»، ولا يظهر عمل «كان» فـي «يقوم»، وكذلك «قام كان زيد». فلذلك أبطل عملها مع فـاعل تـمثـيلاً بفعل ويفعل، وأعملت مع فـاعل أحياناً لأنه اسم كما تعمل فـي الأسماء. فأما إذا تقدمت «كان» الأسماء والأفعال وكان الاسم والفعل بعدها، فخطأ عنده أن تكون «كان» مبطلة فلذلك أحال قول البصري الذي حكيناه، وتأوّل قوله الله عزّ وجل: { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } أنه بـمعنى: الذي يكذبونه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ) | القراءة: قرأ ابن عامر وحمزة فزادهم الله بإمالة الزاي وكذلك شاء وجاء وقرأ أهل الكوفة يكذبون بفتح الياء مخففاً والباقون يُكذّبون. الحجة: حجة من أمال الألف في زاد أنه يريد أن يدل بالإمالة على أن العين ياء كما أبدلوا من الضمة كسرة في عين وبيض جمع أعين وأبيض لتصح الياء ولا تقلب إلى الواو. وحجة من قرأ يكذبون أن يقول إن ذلك أشبه بما قبل الكلمة وما بعدها لأن قولـهم آمنا بالله كذب منهم فلهم عذاب أليم بكذبهم وما وصلته بمعنى المصدر وفي قولـهم فيما بعد إذا خلوا إلى شياطينهم إنا معكم دلالة أيضاً على كذبهم فيما ادّعوه من إيمانهم وإذا كان أشبه بما قبله وما بعده كان أولى وحجة من قرأ يُكذّبون بالتشديد قولـه:**{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ }** [الأنعام: 34] وقولـه وإن كذّبوك فقل لي عملي وقولـه**{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ }** [يونس: 39] و**{ إِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ }** [فاطر: 4] ونحو ذلك والتكذيب أكثر من الكذب لأن كل من كَذّب صادقاً فقد كذب وليس كل من كذب مُكذّباً فكأنه قال ولهم عذاب أليم بتكذيبهم وأدخل كان ليدل على أن ذلك كان فيما مضى. اللغة: المرض العلة في البدن ونقيضه الصحة قال سيبويه أمرضته جعلته مريضاً ومَرَّضته قمت عليه ووليته وزاد فعل يتعدى إلى مفعولين قال الله تعالى:**{ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }** [الكهف: 13]**{ وَزَادَهُ بَسْطَةً }** [البقرة: 247] ومصدره الزيادة والزيد قال:
| **كذلك زيد المرء بعد انتقاصه** | | |
| --- | --- | --- |
والأليم الموجع فعيل بمعنى مُفعل كالسميع بمعنى المُسمع والنذير بمعنى المُنذر والبديع بمعنى المبدع قال ذو الرّمة:
| **يصكّ وجوهَها وَهَجٌ أليمُ** | | |
| --- | --- | --- |
والكذب ضد الصدق وهو الإخبار عن الشيء لا على ما هو به والكذب ضرب من القول وهو نطق فإذا جاز في القول أن يتسع فيه فيجعل غير نطق في نحو قولـه:
| **قد قالتِ الأنساعُ للبطن الحقي** | | |
| --- | --- | --- |
جاز أيضاً في الكذب أن يُجعل غير نطق في نحو قولـه:
| **وذِبْيَانِيَّةٍ وَصَّتْ بَنِيْها** | | **بِأنْ كَذِبَ القَرَاطِفُ والقُرُوفُ** |
| --- | --- | --- |
فيكون في ذلك انتفاء لها كما أنه إذا أخبر عن الشيء بخلاف ما هو به كان فيه انتفاء للصدق أي كذب القراطف فأوجدوها بالغارة. المعنى: في قلوبهم مرض المراد بالمرض في الآية الشك والنفاق بلا خلاف وإنما سمي الشك في الدين مرضاً لأن المرض هو الخروج عن حد الاعتدال فالبدن ما لم تصبه آفة يكون صحيحاً سوياً وكذلك القلب ما لم تصبه آفة من الشك يكون صحيحاً وقل أصل المرض الفتور فهو في القلب فتوره عن الحق كما أنّه في البدن فتور الأعضاء. وتقدير الآية في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الله ورسولهِ مرض أي شك حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقولـه فزادهم الله مرضاً قيل فيه وجوه: أحدها: أن معناه ازدادوا شكاً عندما زاد الله من البيان بالآيات والحجج إلا أنه لما حصل ذلك عند فعله نسب إليه كقولـه تعالى في قصة نوح ع
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
**{ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً }** [نوح: 6] لما ازدادوا فراراً عند دعاء نوح ع نسب إليه وكذلك قولـه**{ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** [التوبة: 125] الآيات لم تزدهم رجساً وإنما ازدادوا رجساً عندها وثانيها: ما قاله أبو علي الجبائي إنه أراد في قلوبهم غم بنزول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وبتمكنه فيها وظهور المسلمين وقوّتهم فزادهم الله غماً بما زاده من التمكين والقوة وأمدّه به من التأييد والنصرة وثالثها: ما قاله السُدّي إن معناه زادتهم عداوة الله مرضاً وهذا في حذف المضاف مثل قولـه تعالى**{ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ }** [الزمر: 22] أي من ترك ذكر الله ورابعها: أن المراد في قلوبهم حزن بنزول القرآن بفضائحهم ومخازيهم فزادهم الله مرضاً بأن زاد في إظهار مقابحهم ومساويهم والإخبار عن خبث سرائرهم وسوء ضمائرهم وسُمّيَ الغم مرضاً لأنه يُضيّق الصدر كما يُضيّقه المرض وخامسها: ما قاله أبو مسلم الأصفهاني إن ذلك على سبيل الدعاء عليهم كقولـه تعالى**{ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم }** [التوبة: 127] فكأنه دعاءٌ عليهم بأن يُخلّيَهم الله وما اختاروه ولا يعطيهم من زيادة التوفيق والإلطاف ما يعطي المؤمنين فيكون خذلاناً لهم وهو في الحقيقة إخبار عن خذلان الله إياهم وإن خرج في اللفظ مخرجَ الدعاء عليهم ثم قال ولهم عذاب أليم وهو عذاب الناس بما كانوا يكذبون أي بتكذيبهم الله ورسوله فيما جاء به من الدين أو بكذبهم في قولـهم**{ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }** [البقرة: 8].
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) | { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } ابتداء وخبر. والمرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائدهم. وذلك إما أن يكون شكاً ونفاقاً، وإما جَحْداً وتكذيباً. والمعنى: قلوبهم مرضى لخلوّها عن العصمة والتوفيق والرعاية والتأييد. قال ٱبن فارس اللغوي: المرض كل ما خرج به الإنسان عن حدّ الصحة من علّة أو نفاق أو تقصير في أمر. والقراء مجمعون على فتح الراء من «مَرَض» إلا ما روى الأصمعي عن أبي عمرو أنه سكّن الراء. قوله تعالى: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } قيل: هو دعاء عليهم. ويكون معنى الكلام: زادهم الله شكًّا ونفاقاً جزاء على كفرهم وضعفاً عن الانتصار وعجزاً عن القدرة كما قال الشاعر:
| **يا مُرْسِلَ الرِّيح جَنوباً وصَبَا** | | **إذْ غَضِبَتْ زيدٌ فزِدْها غضباً** |
| --- | --- | --- |
أي لا تهدها على الانتصار فيما غضبت منه. وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز الدعاء على المنافقين والطرد لهم لأنهم شَرّ خلق الله. وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم أي فزادهم الله مرضاً إلى مرضهم كما قال في آية أخرى:**{ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** [التوبة:125]. وقال أرباب المعاني: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي بسكونهم إلى الدنيا وحبّهم لها وغفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عنها. وقوله: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } أي وكَلَهم إلى أنفسهم، وجمع عليهم هموم الدنيا فلم يتفرّغوا من ذلك إلى ٱهتمامٍ بالدين. { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } بما يفنى عما يبقى. وقال الجُنَيْد: عِللُ القلوب من ٱتباع الهوى، كما أن علل الجوارح من مرض البدن. قوله تعالى: { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } «أليم» في كلام العرب معناه مؤلم أي موجِع، مثل السميع بمعنى المُسْمِع قال ذو الرُّمّة يصف إبلاً:
| **ونرفعُ من صُدورِ شَمَرْدَلاتٍ** | | **يَصُكّ وجوهَها وَهَجٌ ألِيمُ** |
| --- | --- | --- |
وآلم إذا أوْجع. والإيلام: الإيجاع. والألم: الوجع، وقد ألِم يألَم ألَماً. والتألُّم: التوجّع. ويجمع أليم على أُلَمَاء مثل كَريم وكُرَماء، وآلام مثل أشراف. قوله تعالى: { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } ما مصدرية أي بتكذيبهم الرسل وردّهم على الله جل وعز وتكذيبهم بآياته قاله أبو حاتم. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف ومعناه بكَذبِهم وقولهم آمنا وليسوا بمؤمنين. مسألة: وٱختلف العلماء في إمساك النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع علمه بنفاقهم على أربعة أقوال: القول الأوّل: قال بعض العلماء: إنما لم يقتلهم لأنه لا يعلم حالهم أحد سواه. وقد ٱتفق العلماء على بَكْرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإنما ٱختلفوا في سائر الأحكام. قال ٱبن العربي: وهذا منتقض، فقد قُتِل بالمُجَذَّر بن زياد الحارثُ بن سُوَيد بن الصّامت لأن المُجَذَّر قتل أباه سُويداً يوم بُعاث فأسلم الحارث وأغفله يوم أُحد فقتله فأخبر به جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقتله به لأن قتله كان غِيلة، وقَتْل الغِيلة حَدٌّ من حدود الله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
قلت: وهذه غفلة من هذا الإمام لأنه إن ثبت الإجماع المذكور فليس بمنتقض بما ذكر لأن الإجماع لا ينعقد ولا يثبت إلا بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم وٱنقطاع الوحي وعلى هذا فتكون تلك قضِيّةٌ في عَيْنٍ بوَحْيٍ، فلا يحتج بها أو منسوخة بالإجماع. والله أعلم. القول الثاني: قال أصحاب الشافعي: إنما لم يقتلهم لأن الزنديق وهو الذي يُسِرّ الكفر ويظهر الإيمان يُستتاب ولا يُقتل. قال ٱبن العربي: وهذا وَهَمٌ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستتبهم ولا نَقل ذلك أحد، ولا يقول أحد إن ٱستتابة الزنديق واجبة وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم معرضاً عنهم مع علمه بهم. فهذا المتأخر من أصحاب الشافعي الذي قال: إن ٱستتابة الزنديق جائزة قال قولاً لم يصح لأحد. القول الثالث: إنما لم يقتلهم مصلحةً لتأليف القلوب عليه لئلا تنفر عنه وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله لعمر: **" معاذ الله أن يتحدّث الناس أني أقتل أصحابي "** أخرجه البخاري ومسلم. وقد كان يُعطي للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء ٱعتقادهم تألُّفاً وهذا هو قول علمائنا وغيرهم. قال ٱبن عطية: وهي طريقة أصحاب مالك رحمه الله في كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين نصّ على هذا محمد بن الجَهْم والقاضي إسماعيل والأبهري وٱبن الماجشون، وٱحتج بقوله تعالى:**{ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ }** [الأحزاب:60] إلى قوله:**{ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً }** [الأحزاب: 61]. قال قتادة: معناه إذا هم أعلنوا النفاق. قال مالك رحمه الله: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزّندقة فينا اليوم فيُقتل الزنديق إذا شُهِد عليه بها دون ٱستتابة وهو أحد قولي الشافعي. قال مالك: وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبيّن لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه إذ لم يُشْهَد على المنافقين. قال القاضي إسماعيل: لم يشهد على عبد اللَّه ابن أُبَيٍّ إلا زيد بن أَرْقَم وحده، ولا على الجُلاَس بن سويد إلا عُمَير بن سعد ربِيبه ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل. وقال الشافعيّ رحمه الله محتجًّا للقول الآخر: السُّنة فيمن شُهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه. وبه قال أصحاب الرأي وأحمد والطبري وغيرهم. قال الشافعي وأصحابه: وإنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يَجُبُّ ما قبله. وقال الطبري: جعل الله تعالى الأحكام بين عباده على الظاهر، وتولّى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه، فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر لأنه حكم بالظنون، ولو كان ذلك لأحدٍ كان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا، ووَكَل سرائرهم إلى الله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
وقد كذب الله ظاهرهم في قوله:**{ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }** [المنافقون: 1]. قال ٱبن عطية: ينفصل المالكيون عما لزموه من هذه الآية بأنها لم تُعَيّن أشخاصهم فيها وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموص عليه بالنفاق وبقي لكل واحد منهم أن يقول: لم أُرَد بها وما أنا إلا مؤمن، ولو عُيّن أحد لما جَبّ كذبه شيئاً. قلت: هذا الانفصال فيه نظر، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَعْلَمهم أو كثيراً منهم بأسمائهم وأعيانهم بإعلام الله تعالى إياه وكان حذيفة يعلم ذلك بإخبار النبيّ عليه السلام إياه حتى كان عمر رضي الله عنه يقول له: يا حذيفة هل أنا منهم؟ فيقول له: لا. القول الرابع: وهو أن الله تعالى كان قد حفظ أصحاب نبيّه عليه السلام بكونه ثبتهم أن يفسِدهم المنافقون أو يفسدوا دينهم فلم يكن في تَبْقيَتهم ضرر، وليس كذلك اليوم لأنّا لا نأمن من الزنادقة أن يفسدوا عامتنا وجهالنا.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) | { فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } المرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به ويوجب الخلل في أفعاله. ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والضغينة وحب المعاصي، لأنها مانعة من نيل الفضائل، أو مؤدية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية. والآية الكريمة تحتلهما فإن قلوبهم كانت متألمة تحرقاً على ما فات عنهم من الرياسة، وحسداً على ما يرون من ثبات أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واستعلاء شأنه يوماً فيوماً، وزاد الله غمهم بما زاد في إعلاء أمره وإشادة ذكره، ونفوسهم كانت موصوفة بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم ونحوها، فزاد الله سبحانه وتعالى ذلك بالطبع. أو بازدياد التكاليف وتكرير الوحي وتضاعف النصر، وكان إسناد الزيادة إلى الله تعالى من حيث إنه مسبب من فعله وإسنادها إلى السورة في قوله تعالى**{ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا }** [التوبة: 125] لكونها سبباً.
ويحتمل أن يراد بالمرض ما تداخل قلوبهم من الجبن والخور حين شاهدوا شوكة المسلمين وإمداد الله تعالى لهم بالملائكة، وقذف الرعب في قلوبهم وبزيادته تضعيفه بما زاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصرة على الأعداء وتبسطاً في البلاد.
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: مؤلم يقال: ألم فهو أليم كوجع فهو وجيع، وصف به العذاب للمبالغة كقوله:
| **تحيةُ بينِهمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ** | | |
| --- | --- | --- |
على طريقة قولهم: جد جده.
{ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } قرأها عاصم وحمزة والكسائي، والمعنى بسبب كذبهم، أو ببدله جزاء لهم وهو قولهم آمنا. وقرأ الباقون { يُكَذِّبُونَ } ، من كذبه لأنهم كانوا يكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام بقلوبهم، وإذا خلوا إلى شياطينهم. أو من كذَّب الذي هو للمبالغة أو للتكثير مثل بين الشيء وموتت البهائم. أو من كذب الوحشي إذا جرى شوطاً وقف لينظر ما وراءه فإن المنافق متحير متردد. والكذب: هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به. وهو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب حيث رتب عليه. وما روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض. ولكن لما شابه الكذب في صورته سمي به.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) | قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية { فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } قال شك، فزادهم الله مرضاً، قال شكاً. وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قلوبهم مرض، قال شك. وكذلك قال مجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة. وعن عكرمة وطاوس في قلوبهم مرض، يعني الرياء. وقال الضحاك عن ابن عباس في قلوبهم مرض، قال نفاق، فزادهم الله مرضاً، قال نفاقاً وهذا كالأول. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قلوبهم مرض، قال هذا مرض في الدين، وليس مرضاً في الأجساد، وهم المنافقون، والمرض الشك الذي دخلهم في الإسلام، فزادهم الله مرضاً، قال زادهم رجساً، وقرأ**{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** التوبة 124 - 125. قال شراً إلى شرهم، وضلالة إلى ضلالتهم، وهذا الذي قاله عبد الرحمن رحمه الله حسن، وهو الجزاء من جنس العمل، وكذلك قاله الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضاً**{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَـٰهُمْ تَقُوَاهُمْ }** محمد 17 وقوله { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } وقرىء يكذّبون، وقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة، ويكذبون بالغيب، يجمعون بين هذا وهذا، وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين، مع علمه بأعيان بعضهم، وذكروا أجوبة عن ذلك، منها ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه **" أكره أن يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه "** ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام، ولا يعلمون حكمة قتله لهم، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم، فيقولون إن محمداً يقتل أصحابه، قال القرطبي وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة مع علمه بسوء اعتقادهم، قال ابن عطية وهي طريقة أصحاب مالك، نص عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وعن ابن الماجشون. ومنها ما قال مالك إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه. قال القرطبي وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام، قال ومنها ما قال الشافعي إنما مَنعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يجب ما قبله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما **" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل "** ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهراً، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا، وكونه كان خليط أهل الإيمان**{ يُنَـٰدُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِىُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ }** الحديد 14 الآية، فهم يخالطونهم في بعض المحشر، فإذا حقت المحقوقية، تميزوا منهم، وتخلفوا بعدهم**{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ }** سبأ 54 ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث، ومنها ما قاله بعضهم أنه إنما لم يقتلهم لأنه لا يخاف من شرهم مع وجوده صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يتلو عليهم آيات مبينات، فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون، قال مالك المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم قلت وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا، أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا، أو يتكرر منه ارتداده أم لا، أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه؟ على أقوال متعددة، موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام. تنبيه قول من قال كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين، إنما مستنده حديث حذيفة ابن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقاً في غزوة تبوك، الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك، عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها، فأوحى الله إليه أمرهم، فأطلع على ذلك حذيفة، ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك، أو لغيرها، والله أعلم. فأما غير هؤلاء، فقد قال الله تعالى**{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَـٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنَّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ }** التوبة 101 الآية، وقال تعالى**{ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِى ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً }** الأحزاب 60 -61 ففيها دليل على أنه لم يغر بهم، ولم يدرك على أعيانهم، وإنما كان تذكر له صفاتهم، فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى**{ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَـٰكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـٰهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ٱلْقَوْلِ }** محمد 30 وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول، وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين، ومع هذا لما مات صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين، وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه، فقال **" إني أكره أن تتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه "** وفي رواية في الصحيح **" إني خيرت فاخترت "** وفي رواية **" لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت ".**
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ) | { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } شك ونفاق فهو يُمْرِضُ قلوبهم أي يضعفها { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } بما أنزله من القرآن لكفرهم به { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم { بِمَا كَانُواْ يَكْذِّبُونَ } بالتشديد أي نبي الله وبالتخفيف أي في قولهم آمنا.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) | المرض كل ما يخرج به الإنسان عن حدّ الصحة، من علة أو نفاق أو تقصير في أمر، قاله ابن فارس. وقيل هو الألم، فيكون على هذا مستعاراً للفساد الذي في عقائدهم إما شكاً ونفاقاً، أو جحداً وتكذيباً، وتقديم الخبر للإشعار بأن المرض مختص بها، مبالغة في تعلق هذا الداء بتلك القلوب، لما كانوا عليه من شدّة الحسد، وفرط العداوة. والمراد بقوله { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } الإخبار بأنهم كذلك بما يتجدد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من النعم، ويتكرّر له من منن الله الدنيوية والدينية. ويحتمل أن يكون دعاء عليهم بزيادة الشك وترادف الحسرة وفرط النفاق. والأليم المؤلم أي الموجع، و«ما» في قوله { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } مصدرية أي بتكذيبهم وهو قولهم**{ آمنا بالله وباليوم الآخر }** البقرة 8 والقراء مجمعون على فتح الراء من قوله { مرض } ، إلا ما رواه الأصمعيّ عن أبي عمرو أنه قرأ بإسكان الراء، وقرأ حمزة وعاصم، والكسائي { يَكْذِبُونَ } بالتخفيف، والباقون بالتشديد. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } قال شكّ { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } قال شكاً. وأخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } قال النفاق { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قال نكال موجع { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } قال يبدّلون ويحرفون. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثل ما قاله ابن عباس أوّلاً. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال كل شيء في القرآن أليم، فهو الموجع. وأخرج أيضاً عن أبي العالية مثله. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله أيضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } أي ريبة وشكّ في أمر الله { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } ريبة وشكاً { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } قال إياكم والكذب فإنه باب النفاق. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال هذا مرض في الدين، وليس مرضاً في الأجساد وهم المنافقون. والمرض الشك الذي دخل في الإسلام. وروي عن عكرمة وطاوس أن المرض الرياء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ) | قوله تعالى: { فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } يعني شكاً ونفاقاً وظلمة وضعفاً، لأن المريض فيه فترة ووهن، والشاك أيضاً في أمره فترة وضعف. فعبر بالمرض عن الشك لأن المنافقين فيهم ضعف ووهن، ألا ترى إلى قوله تعالى**{ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ ٱلْعَدُوُّ }** [المنافقون: 4] ويقال: إن المريض تعرض للهلاك، فسمي النفاق مرضاً، لأن النفاق قد يهلك صاحبه [لأن الخلق على مراتب ثلاث، ميت في الأحوال كلها كالكافر وحي في الأحوال كلها كالمؤمن لقوله تعالى**{ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ }** [الأنعام: 122]، ومريض كالمنافق] ثم قال تعالى { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } وهذا اللفظ يحتمل معنيين: يحتمل الخبر عن الماضي، ويحتمل الدعاء، فإن كان المراد به الخبر فمعناه: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً إلى مرضهم كما قال في آية أخرى**{ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** [التوبة: 125] لأن كل سورة نزلت يشكون فيها، فكان ذلك المرض [لهم]، وللمؤمنين زيادة اليقين. وإن كان المراد به الدعاء، فمعناه: فزادهم الله مرضاً على مرضهم، على وجه الذم والطرد لهم كما قال في آية أخرى**{ قَـٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ }** [التوبة: 30] أو لعنهم الله فإن قيل: كيف يجوز أن يحمل على وجه الدعاء، وإنما يحتاج إلى الدعاء عند العجز قيل له: هذا تعليم من الله تعالى أنه يجوز الدعاء على المنافقين والطرد لهم لأنهم شر خلق الله تعالى، لأنه وعد لهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار. ثم قال { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني مؤلم، أي عذاب وجيع الذي يخلص وجعه إلى قلوبهم. قوله { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } أي مجازاة لهم بتكذيبهم. قرأ حمزة وابن عامر { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ } بكسر الزاي، وهي لغة بعض العرب، [وقرأ عاصم وأبو عمرو] (بالفتح) وهي اللغة الظاهرة، وقرأ أهل الكوفة، عاصم وحمزة والكسائي (يكذبون) بتخفيف الذال، وقرأ الباقون بالتشديد. فمن قرأ بالتخفيف فمعناه: بما كانوا يكذبون بقولهم أنهم مؤمنون، وجحدوا في السر لأنهم كفروا بالله، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - في السر. ومن قرأ بالتشديد فمعناه بما كانوا يكذبون، يعني ينسبون محمداً إلى الكذب، ويجحدون نبوته.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ) | قوله تعالى: { في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: شك، وبه قال ابن عباس.
والثاني: نفاق، وهو قول مقاتل، ومنه قول الشاعر:
| **أُجَامِلُ أَقْوَاماً حَيَاءً وَقَدْ أَرَى** | | **صُدُورَهُمُ تَغْلِي عَلَيَّ مِراضُها** |
| --- | --- | --- |
والثالث: أن المرض الغمُّ بظهور أمر النبي صلى الله عليه وسلم على أعدائه، وأصل المرض الضعف، يقال: مرَّض في القول إذا ضعَّفه.
{ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً } فيه تأويلان:
أحدهما: أنه دعاء عليهم بذلك.
والثاني: أنه إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم عند نزول الفرائض، والحدود. { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني مؤلم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) | قوله تعالى: { في قلوبهم مرضٌ } المرض هاهنا: الشك، قاله عكرمة، وقتادة. { فزادهم الله مرضاً } هذا الإخبار من الله تعالى أنه فعل بهم ذلك، و «الأليم» بمعنى المؤلم، والجمهور يقرؤون { يكذبون } بالتشديد، وقرأ الكوفيون سوى أبان، عن عاصم بالتخفيف مع فتح الياء.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ) | { مَّرَضٌ } أصله الضعف أي شك، أو نفاق، أو غم بظهور النبي صلى الله عليه وسلم على أعدائه. { فَزَادَهُمُ } دعاء، أو إخبار عن الزيادة عند نزول الفرائض والحدود { أَلِيمُ } مؤلم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ) | قوله تعالى: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ... }
قال ابن عرفة: هذا احتراز لأنه لما أخبر (عنهم) أنهم يخادعون الله، والمخادع على نوعين فالغالب عليه أن يكون صاحب فكر ونظر ودهاء يدبر الأمور التي يخدع بها عدوه، ومنهم من يخادع على غير أصل وذلك موجب (الاستهزاء) به وعلامة على سخافة عقله فأخبر الله تعالى أن المنافقين من القسم الثاني.
وقال الطبري: إن في اعتقاد قلوبهم مرضا.
قال ابن عرفة: بل المرض في القلوب أنفسها كما قلناه.
قوله تعالى: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً... }
الفاء للسبب (وفيه) العقوبة على الذنب بذنب أشدّ منه. فإن قلت: هذا مرض واحد والزّيادة عليه إن كانت مثله لزم اجتماع المثلين في المحلّ الواحد وهو باطل كما يمتنع اجتماع الضدّين والنَّقيضين: فأجيب بوجوه:
الأول: قال ابن عرفة: إنّما يمتنع ذلك في الواحد بالشّخص وهذا واحد بالنّوع أو بالجنس، فاشتركا في جنس المرض و (تغايرا) في الفصل (واجتماع الغيرين جائز).
الثاني: قال ابن عرفة أيضا: الضّمير في زادهم عائد على ذواتهم لا على قلوبهم، إذ لو كان عائدا على القلوب لقال (فزادها) الله مرضا. وهو أولى. فإن نزل المرض بجميع ذواتهم فمحلّ الثاني (أوسع) من محلّ المثل الأوّل فصحّت الزّيادة، ولا يلزم منه اجتماع المثلين إلاّ أن يقال: إنّه على حذف مضاف تقديره فزاد الله قلوبهم (مرضا).
الثالث: قال بعض الطّلبة: ذكر الإسفراييني وغيره في صحّة اجتماع المثلين (أنه) يخلق جوهرا آخر يكون فيه المثل الآخر زيادة في نعيم المنعّم وعذاب المعذّب.
قال ابن عرفة: إنّما ذلك في المثلين حقيقة، وهذان مختلفان في الفصل بينهم غير أنّ كما تقدم (لا مثلان).
قوله تعالى: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
إما بمعنى مؤلم كقولك " تحية بينهم ضرب وجيع " ، أو بمعنى مؤلَّم، فيكون الألم حالا (بالعذاب) مجازا أو تنبيها على شدّته " مثل. جَدّ جِدّه " - " وشِعْر شَاعر ".
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ) | أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { مرض } قال: شك { فزادهم الله مرضاً } أي قال: شكاً.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثله.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { في قلوبهم مرض } قال: النفاق { ولهم عذاب أليم } قال: نكال موجع { بما كانوا يكذبون } قال: يبدلون ويحرّفون.
وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له أخبرني عن قوله تعالى { في قلوبهم مرض } قال: النفاق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت قول الشاعر:
| **أجامل أقواماً حياء وقد أرى** | | **صدورهم تغلي عليّ مراضها** |
| --- | --- | --- |
قال: فأخبرني عن قوله { ولهم عذاب أليم } قال { الأليم } الموجع قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت قول الشاعر:
| **نام من كان خلياً من ألم** | | **وبقيت الليل طولاً لم أنم** |
| --- | --- | --- |
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن { أليم } فهو الموجع.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال { الأليم } الموجع في القرآن كله.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله { مرض } قال: ريبة وشك في أمر الله { فزادهم الله مرضاً } قال: ريبة وشكاً { ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } قال: إياكم والكذب فإنه من باب النفاق، وإنا والله ما رأينا عملاً قط أسرع في فساد قلب عبد من كبر أو كذب.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله { في قلوبهم مرض } قال: هذا مرض في الدين، وليس مرضاً في الأجساد. وهم المنافقون و { المرض } الشك الذي دخل في الإِسلام.
وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله { في قلوبهم مرض } قال: هؤلاء أهل النفاق. والمرض الذي في قلوبهم الشك في أمر الله عز وجل { فزادهم الله مرضاً } قال: شكاً.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: العذاب الأليم. هو الموجع وكل شيء في القرآن من { الأليم } فهو الموجع.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) | { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } المرض عبارة عما يعرِضُ للبدن فيُخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخللَ في أفاعيله، ويؤدّي إلى الموت، استُعير ههنا لما في قلوبهم من الجهل وسوءِ العقيدة، وعداوةِ النبـي صلى الله عليه وسلم وغيرِ ذلك من فنون الكفر المؤدي إلى الهلاك الروحاني، والتنكيرُ للدلالة على كونه نوعاً مُبهماً غيرَ ما يتعارفه الناس من الأمراض، والجملةُ مقرِّرة لما يفيده قوله تعالى:**{ مَّـا هُم بِمُؤْمِنِينَ }** [البقرة، الآية: 8] من استمرار عدمِ إيمانهم، أو تعليلٌ له كأنه قيل: ما لهم لا يؤمنون فقيل: في قلوبهم مرضٌ يمنعهم { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } بأن طُبع على قلوبهم، لعلمه تعالى بأنه لا يؤثر فيها التذكيرُ والإنذار، والجملةُ معطوفة على ما قبلها، والفاءُ للدلالة على ترتّب مضمونِها عليه، وبه اتضح كونُهم من الكفرة المختومِ على قلوبهم مع زيادة بـيانِ السبب، وقيل: زادهم كفراً بزيادة التكاليف الشرعية، لأنهم كانوا كلما ازداد التكاليفُ بنزول الوحي يزدادون كفراً، ويجوز أن يكون المرض مستعاراً لما تداخلَ قلوبَهم من الضعف والجُبن والخَوَر عند مشاهدتهم لعزة المسلمين، فزيادتُه تعالى إياهم مرضاً ما فعل بهم من إلقاء الرَّوْع وقذف الرعب في قلوبهم عند إعزازِ الدين بإمداد النبـي صلى الله عليه وسلم بإنزال الملائكة، وتأيـيدِه بفنون النصر والتمكين، فقوله تعالى: { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } الخ حينئذ استئنافٌ تعليلي لقوله تعالى: { يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ } الخ، كأنه قيل: ما لهم يخادعون ويداهنون ولم لا يجاهرون بما في قلوبهم من الكفر؟ فقيل: في قلوبهم ضَعفٌ مضاعَف، هذه حالُهم في الدنيا، { وَلَهُمْ } في الآخرة { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي مؤلم يقال: ألمٌ وهو أليم، كوجعٍ وهو وجيع وُصف به العذابُ للمبالغة كما في قوله: [الوافر]
| **[وخيلٌ قد دَلَفْتُ لها بخيْلٍ]** | | **تحيةُ بـينهم ضَرْبٌ وجيعُ** |
| --- | --- | --- |
على طريقة جَدَّ جِدُّه فإن الألم والوجعَ حقيقةٌ للمؤلم والمضروب، كما أن الجِدّ للجادّ، وقيل: هو بمعنى المؤلم كالسميع بمعنى المُسمع وليس ذلك بثبْتٍ كما سيجيء في قوله تعالى:**{ بَدِيعُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ }** [البقرة، الآية 117] { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } الباء للسببـية أو ما مصدرية داخلة في الحقيقة على يكذبون، وكلمة كانوا مُقحَمةٌ للمقابلة لإفادة دوامِ كذِبهم وتجدُّدِه أي بسبب كذبهم، أو بمقابلة كذبهم المتجددِ المستمرِّ الذي هو قولهم:**{ آمنا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ }** [البقرة، الآية 8] وهم غير مؤمنين، فإنه إخبارٌ بإحداثهم الإيمانَ فيما مضىٰ لا إنشاءٌ للإيمان. ولو سلم فهو متضمن للإخبار بصدوره عنهم وليس كذلك لعدم التصديق القلبـي بمعنى الإذعان والقبولِ قطعاً، ويجوز أن يكون محمولاً على الظاهر بناءً على رأي من يجوِّز أن يكون لكان الناقصةِ مصدر، كما صُرِّح به في قول الشاعر: [الطويل]
| **ببذلٍ وحِلْمٍ ساد في قومه الفتى** | | **وكونُك إياه عليك يسيرُ** |
| --- | --- | --- |
أي لهم عذاب أليم بسبب كونهم يكذِبون على الاستمرار، وترتيبُ العذاب عليه من بـين سائر موجباته القويةِ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
إما لأن المرادَ بـيانُ العذاب الخاصّ بالمنافقين بناءً على ظهور شِركتِهم للمجاهرين فيما ذكر من العذاب العظيم حسبَ اشتراكهم فيما يوجبه من الإصرار على الكفر كما ينبىء عنه قوله تعالى:**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ }** [البقرة، الآية 8] الخ.
وإما للإيذان بأن لهم بمقابلة سائرِ جناياتِهم العظيمةِ من العذاب ما لا يوصف.
وإما للرمز إلى كمال سماجةِ الكذب نظراً إلى ظاهر العبارةِ المخيّلةِ لانفراده بالسببـية، مع إحاطة علمِ السامعِ بأن لحوقَ العذاب بهم من جهات شتى، وأن الاقتصارَ عليه للإشعار بنهاية قُبحه والتنفير عنه.
عن الصديق رضي الله عنه ويروى مرفوعاً أيضاً إلى النبـي صلى الله عليه وسلم: **" إياكم والكذبَ فإنه مجانبٌ للإيمان "** وما روي أن إبراهيمَ عليه السلام كذَبَ ثلاثَ كَذَباتٍ فالمرادُ به التعريضُ، وإنما سمِّي به لشَبَهه به صورةً، وقيل: (ما) موصولة والعائدُ محذوف أي بالذي يكذبون والمفعول محذوف، وهو إما النبـي صلى الله عليه وسلم، أو القرآنِ و(ما) مصدرية، أي بسبب تكذيبهم إياه عليه السلام، أو القرآن أو موصولة أي بالذي يكذبونه على أن العائد محذوف، ويجوز أن يكون صيغةُ التفعيل للمبالغة كما في بـيَّن في بان وقلَّص في قلَص، أو للتكثير كما في موَّتت البهائمُ وبرَّكت الإبل، وأن يكون من قولهم: كذب الوحش إذا جرى شوطاً ثم وقف لينظرَ ما وراءه فإن المنافق متوقِّفٌ في أمره متردِّد في رأيه ولذلك قيل له: مُذَبْذب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ) | قوله تعالى: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }.
لخلوها من العصمة والتوفيق والرعاية.
قال أبو عثمان: فى قلوبهم مرض لسكونهم إلى الدنيا وحبهم لها وغفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عنها، فزادهم الله مرضاً بأنه وكَلَهُمْ إلى أنفسهم وجمع عليهم هموم الدنيا، فلم يتفرغوا من ذلك إلى اهتمام الدين، ولهم عذاب أليم باشتغالهم بما يغنى عما يبقى.
وقال الجنيد رحمه الله: علل القلب من اتباع الهوى، كما أن علة الجوارح من مرض البدن.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) | في قلوب المنافقين مرض الشك، ويزيدهم الله مرضاً بتوهمهم أنهم نجوا بما لبَّسوا على المسلمين، ثم لهم عذاب أليم مؤلم، يَخْلُص وجعه إليهم في المآل. (وفي) الإشارة يحصل لمن خلط قصده بحظِّه، وشاب إرادته بهواه (أن) يتقدم في الإرادة بِقَدَمٍ، ويتأخر بالحظوظ ومتابعة النَفْس بأخرى، فهو لا مريدٌ صادقٌ ولا عاقلٌ متثبت. ولو أن المنافقين أخلصوا في عقائدهم لأَمِنوا في الآخرة من العقوبة كما أَمِنوا في الدنيا من نحو بذل الجزية وغير ذلك مما هو صفة أهل الشرك والذمة، كذلك لو صدق المريد في إرادته لوصل بقلبه إلى حقائق الوصلة، ولأدركته بركات الصدق فيما رامه من الظفر بالبُغية، ولكن حاله كما قيل:
| **فما ثبتنا فيثبت لنا عدل بلا حنف** | | **ولو خلصنا تخلصنا من المحن** |
| --- | --- | --- |
وإن من سقمت عبادته حيل بينه وبين درجات الجنات، ومن سقمت إرادته حيل بينه وبين مواصلات القُرْبِ والمناجاة. وأمَّا من ركن إلى الدنيا واتَّبع الهوى فسكونُهم إلى دار الغرور سقم لقلوبهم، والزيادة في علتهم تكون بزيادة حرصهم؛ كلما وجدوا منها شيئاً - عَجَّلَ لهم العقوبة عليه - يتضاعف حرصهم على ما لم يجدوه.
ثم من العقوبات العاجلة لهم تشتتُ همومهم ثم تَبَغض عيشهم فيبغون بها عن مولاهم، ولم يكن لهم استمتاع ولا راحة فيما آثروه من متابعة هواهم، وهذا جزاء من أعرض عن صحبة مولاه، وفي معناه قيل:
| **تبدلت فتبدلنا واحسرتا** | | **لمن ابتغى عوضاً ليسلو فلم يجد** |
| --- | --- | --- |
والإشارة في العذاب الأليم بما كانوا يكذبون إنما هي الحسرة يوم الكشف إذا رأوا أشكالهم الذين صدقوا كيف وصلوا، ورأَوْا أنفسهم كيف خسروا.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ) | { فى قلوبهم مرض فزادهم الله } زاد يجيئ متعدي كما فى هذه الآية ولازما كما فى قوله تعالى**{ فأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون }** الصافات 147. والمرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال اللائق به ويوجب الخلل فى افاعليه ويؤدىالى الموت ومجاز فى الاعراض النفسانية التى تخل بكمالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والضغينة وحب المعاصى وغير ذلك من فنون الكفر المؤدى الى الهلاك الروحانى لانها مانعة عن نيل الفضائل او مؤدية الى زوال الحياة الحقيقة الابدية والآية الكريمة تحتملها فان قلوبهم كانت متألمة تحرفا على مافات عنهم من الرياسة وحسدا على ما يرون من ثبات أمد الرسول عليه السلام واستعلاء شأنه يوما فيوما فزاد الله غمهم بما زاد فى اعلاء امره ورفع قدره وان نفوسهم كانت مؤوفة بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبى عليه السلام ونحوها فزاد الله ذلك بان طبع على قلوبهم لعلمه تعالى بانه لا يؤثر فيها التذكير والانذار وبازدياد التكاليف الشرعية وتكرير الوحى وتضاعف النصر لانهم كلما ازداد التكاليف بنزول الوحى يزدادون كفرا وقد كان يشق عليهم التكلم بالشهادة فكيف وقد لحقتهم الزيادات وهى وظائف الطاعات ثم العقوبة على الجنايات فازدادوا بذلك اضطرابا على اضطراب وارتيابا على ارتياب ويزدادون بذلك فى الآخرة عذابا على عذاب قال تعالى**{ زدناهم عذابا فوق العذاب }** النحل 88. والمؤمنون لهم فى الدنيا ما قال { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } وفى العقبى ما قال { ويزيدهم من فضله }. قال القطب العلامة امراض القلب اما متعلقة بالدين وهو سوء الاعتقاد والكفر او بالاخلاق وهى اما رذائل فعلية كالغل والحسد واما رذائل انفعالية كالضعف والجبن فحمل المرض اولا على الكفر ثم على الهيآت الفعلية ثم على الهيآت الانفعالية ويحتمل ان يكون قوله تعالى { فزادهم الله } دعاء عليهم \* فان قلت فكيف يحمل على الدعاء والدعاء للعاجز عرفا والله تعالى منزه عن العجز قلت هذا تعليم من الله عباده انه يجوز الدعاء على المنافقين والطرد لهم لانهم شر خلق الله لانه اعد لهم يوم القيامة الدرك الاسفل من النار وهذا كقوله تعالى**{ قاتلهم الله }** التوبة 30**{ ولعنهم الله }** التوبة 68 { ولهم } فى الآخرة { عذاب اليم } يصل المه الى القلوب وهو بمعنى المؤلم بفتح اللام على انه اسم مفعول من الايلام وصف به العذاب للمبالغة وهو فى الحقيقة صفة المعذب بفتح الذال المعجمة كما ان الجد للجاد فى قولهم جدجده وجه المبالغة افادة ان الالم بلغ الغاية حتى سرى المعذب الى العذاب المتعلق به { بما كانوا يكذبون } الباء للسببية او للمقابلة وما مصدرية داخلة فى الحقيقة على يكذبون وكلمة كانوا مقحمة لافادة دوام كذبهم وتجدده اى بسب بكذبهم المتجدد المستمر الذى هو قولهم آمنا الخ وفيه رمز الى قبح الكذب وسماجته وتخييل ان العذاب الاليم لاحق بهم من اجل كذبهم نظرا الى ظاهر العبارة المتخيلة لانفراده بالسببية مع احاطة علم السامع بان لحوق العذاب بهم من جهات شتى وان الاقتصار عليه للاشعار بنهاية قبحه والتنفير عنه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
والكذب الاخبار بالشئ على خلاف ما هو به وهو قبيح كله. واما ما روى ان ابراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات فالمراد به التعريض لكن لما شابه الكذب فى صورته سمى به واحدى الكذبات. قوله**{ فقال إنى سقيم }** الصافات 89 اى ذاهب الى السقم او الى الموت او سيسقم لما يجد من الغيظ فى اتخاذهم النجوم آلهة قاله ليتركوه منالذهاب معهم الى عيد لهم حتى يخلوا سبيله فيكسر اصنامهم. والثانية قوله**{ بل فعله كبيرهم }** الأنبياء 63. هذا على الفرض والتقدير على سبيل الالزام كانه قال لوكان الها معبودا وجب ان يكون قادرا على ان يفعله فاذا لم يكن قادرا عليه يكون عاجزا والعاجز بمعزل عن الالوهية واستحقاق العبادة فكيف حالكم فى العكوف عليه فهذا القول تهكم بعقولهم. وثالثها قوله فى حق زوجته سارة رضى الله عنها هذه اختى والمراد منه الاخوة فى الدين وغرضه منه تخليصها من يد الظالم لان من دين ذلك الملك الذى يتدين به فى الاحكام المتعلقة بالسياسة لا يتعرض الا لذوات الازواج لان من دينه ان المرأة اذا اختارت الزوج فالسلطان احق بها من زوجها واما اللاتى لا ازواج لهن فلا سبيل عليهن الا اذا ارضين. واما قوله**{ هذا ربى }** الأَنعام 76 فهو من باب الاستدراج وهو ارخاء العنان مع الخصم وهو نوع من التعريض لان الغرض منه حكاية قولهم كذا فى حواشى ابن تمجيد. واعلم ان الكذب من قبايح الذنوب وفواحش العيوب ورأس كل معصية بها يتكدر القلوب وابغض الاخلاق انه مجانب للايمان يعنى الايمان فى جانب والكذب فى جانب آخر مقابل له وهذا كناية عن كمال البعد بينهما وفى الحديث **" مالى اراكم تتهافتون فى الكذب تهافت الفراش فى النار كل الكذب مكتوب كذبا لا محالة الا ان يكذب الرجل فى الحرب فان الحرب خدعة او يكون بين رجلين شحناء فيصلح بينهما او يحدث امرأته ليرضيها "** مثل ان يقول لا احد احب الى منك وكذا من جانب المرأة فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء وفى معناها ما أداها اذا ارتبط بمقصود صحيح له او لغيره كما قيل بالفارسية
| **دروغ مصلحت آميز به ازراست فتنه انكيز** | | |
| --- | --- | --- |
لكن هذا فى حق الغير واما فى حق نفسه فالصدق اولى وان لزم الضرر كما قال السعدى
| **تانيك ندانى كه سخن عين صوابست ايد بكفتن دهن ازهم نكشايى كرراست سخن كويى ودربندبمانى به زانكه دروغت دهد ازبند رهايى** | | |
| --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
وأعلم أن المراد بالكذب فى الحقيقة الكذب فى العبودية والقيام بحقوق الربوبية كما للمنافقين ومن يحذو حذوهم ولا يصح الاقتداء بارباب الكذب مطلقا ولا يعتمد عليهم فانهم يجرون الى الهلاك والفراق عن مالك الاملاك قال فى المثنوى
| **صبح كاذب كاروا انهارا زدهاست كه ببوى روز بيروى آمده است صبح كاذب خلق را رهبر مباد كو دهد بس كاروانها را بباد** | | |
| --- | --- | --- |
قا القاشانى فى تأويل الآية فى قلوبهم حجاب من حجب الرذائل النفسانية الشيطانية والصفات البشرية عن تجليات الصفات الحقانية وفى التأويلات النجمية { فى قلوبهم مرض } وهو التفات الى غير الله { فزادهم الله مرضا } اى زاد مرض الالتفات على مرض خداعهم فحرموا من الوصول والوصال { ولهم عذاب اليم } من حرمان الوصول الى الله تعالى { بما كانوا يكذبون } بقولهم انا آمنا بالله فانهم ليسوا بمؤمنين حقيقة والايمان الحقيقى نور اذا دخل القلب يظهر على المؤمن حقيقته كما كان لجارثة لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم **" كيف اصبحت يا حارثة " قال اصبحت مؤمنا حقا قال " يا حارثة ان لكل حق حقيقة فما حقيقة ايمانك " قال اعرضت نفسى عن الدنيا اى زهدت وانصرفت فاظمأ نهارها واسهر ليلها واستوى عندى حجرها وذهبها وكأنى انظر الى اهل الجنة يتزاورون والى اهل النار ينصاعون وكأنى انظر الى عرش ربى بارزا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اصبت فالزم "** قال فى المثنوى
| **اهل صيقل رسته اند ازبوورنك هر دمى بينند خوبى بى درنك نقش وقشر علم را بكذا شتند رايت عين اليقين افرا شتند بر ترنداز عرش وكرسى وخلا ساكنان مقعد صدق خدا علم كان نبود زهو بى واسطه آن نبايد همجورنك ما شطه** | | |
| --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) | القراءة:
امال الزاي ابن عامر والحلواني وحمزة، وقرأ اهل الكوفة بفتح الياء يكذبون مخففاً.
اللغة والتفسير:
يقال زاد يزيد زيادة وقال الشاعر
| **كذلك زيد المرء بعد انتقاصه** | | |
| --- | --- | --- |
و (زدت) فعل يتعدى إلى مفعولين، قال تعالى { وزدناهم هدى وزدناهم عذاباً فوق العذاب } وزاده بسطة في العلم والجسم وقوله { فزادهم إيمانا } والمعنى: زادهم فوق الناس لهم ايماناً اضمر المصدر في الفعل واسند الفعل اليه، كما قال**{ ما زادهم إلا نفورا }** أي ما زادهم مجيء النذير، والمعنى ازدادوا عنده وقال ابو عبيدة المرض الشك والنفاق، وقيل في قوله { فيطمع الذي في قلبه مرض } أي فجور، وقال سيبويه: مرضته قمت عليه، ووليته، وامرضته: جعلته مريضاً.
وقيل إن المرض الغم والوجع من الحسد والعداوة لكم { فزادهم الله مرضاً } دعاء عليهم، كما قال تعالى:**{ ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم }** واصل المرض: السقم في البدن فشبه ما في قلوبهم من النفاق والشك بمرض الاجساد.
والأليم بمعنى المؤلم الموجع: فعيل بمعنى مفعل: مثل بديع بمعنى مبدع، ومكان حريز بمعنى محرز. قال ذو الرمة:
| **يصك وجوهها وهج اليم** | | |
| --- | --- | --- |
فان قيل اذا كان معنى قوله: { في قلوبهم مرض } أي شك ونفاق، ثم قال: { فزادهم الله مرضاً } ثبت ان الله يفعل الكفر بخلاف ما تذهبون اليه. قيل: ليس الأمر على ما ذكرتم، بل معناه: إن المنافقين كانوا كلما أنزل الله آية أو سورة كفروا بها، فازدادوا بذلك كفراً إلى كفرهم، وشكاً إلى شكهم، فجاز لذلك أن يقال: فزادهم الله مرضاً لما ازدادوا هم مرضاً عند نزول الآيات: ومثل ذلك قوله حكاية عن نوح:**{ رب إني دعوت قومي ليلا ونهاراً، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً }** وهم الذين ازدادوا فراراً عند دعائه: ومثل قوله:**{ فزادهم رجساً إلى رجسهم }** وانما اراد انهم ازدادوا عند نزول الآية وكقوله:**{ فاتخذتموهم سخريّا حتى انسوكم ذكري }** والمؤمنون ما أنسوهم ذكر الله بل كانوا يدعونهم اليه تعالى، لكن لما نسوا ذكر الله عند ضحكهم من المؤمنين اتخاذهم إياهم سخرياً. جاز أن يقال: إن المؤمنين انسوهم. ويقول القائل لغيره اذا وعظه فلم يقبل نصيحته: قد كنت شريراً فزادتك نصيحتي شرا. وانما يريد أنه ازداد عنده. فلما كان المنافقون فقد مرضت قلوبهم بما فيها من الشك، ثم ازدادوا شكا وكفرا عند ما كان تجدد من امر الله ونهيه، وما ينزل من آياته جاز أن يقال: { فزادهم الله مرضاً } فان قيل: فعلى هذا ينبغي أن يكون انزال الآيات مفسدة، لانهم يزدادون عند ذلك الكفر. قلنا: ليس حد المفسدة ما وقع عنده الفساد، وانما المفسدة ما وقع عندها الفساد، ولولاها لم يقع، ولم يكن تمكيناً، وهذا تمكين لهم من النظر في معجزاته ودلائله، فلم يكن استفساداً ولو كان الأمر على ما قالته المجبّرة: إن الله يخلق فيهم الكفر لقالت الكفار ما ذنبنا، والله تعالى يخلق فينا الكفر، ويمنعنا من الايمان.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
فلم تلوموننا على ما فعله الله؟ فتكون الحجة لهم لا عليهم. وذلك باطل، والتقدير في الآية في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين والتصديق بنبيه مرض، وحذف المضاف واقام المضاف اليه مقامه. قال الشاعر:
| **هلا سألت الخيل يا ابنة مالك** | | **ان كنت جاهلة بما لم تعلمي** |
| --- | --- | --- |
يعني اصحاب الخيل كما قال: [يا خيل الله اركبي] يعني يا اصحاب خيل الله، وكما قال تعالى:**{ واسأل القرية }** وانما اراد اهلها وروي عن ابن عباس أن المرض المراد به الشك والنفاق، وبه قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد
والكذب ضد الصدق، وهو الاخبار عن الشيء لا على هو به، يقال كذب يكذب كذبا وكذابا ـ خفيف وثقيل ـ مصدران. والكذب كالضحك والكذاب كالكتاب والاكذاب: جعل الفاعل على صفة الكذب. والتكذب: التحلي بالكذب وجهة من ضم الياء وشدد الذال أنه ذهب إلى أنهم استحقوا العذاب بتكذيبهم النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وبما جاء به. ومن فتح الياء وخفف الذال قدر المضاف، كأنه قال: بكذبهم، وهو اشبه بما تقدم، وهو قولهم:**{ آمنا بالله وباليوم الآخر }** فاخبر الله عنهم فقال: { وما هم بمؤمنين } ولذلك يحمد تكذيبهم. وادخل كان ليعلم ان ذلك كان فيما مضى، كقول القائل: ما احسن ما كان زيداً. وقال بعض الكوفيين: لا يجوز ذلك، لأن حذف كان، انما أجازوه في التعجب. لأن الفعل قد تقدمها فكأنه قال حسناً كان زيد. ولا يجوز ذلك ها هنا لأن كان تقدمت الفعل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) | إعلم أنّه كما انّ للأبدان صحّة ومرضاً ودواءً وغذاءً، فكذلك للقلوب صحّة ومرض ودواء وغذاء. وذلك لأنّ الصحّة عبارةٌ عن صفةٍ توجِب صدورَ الأفعال عن موضوعها مستقيمة سليمة، والمرض له صفةٌ توجِب وقوعَ الأفعال عنه مختلّة؛ ولما كنت حياة القلب إنّما هي بنور الإيمان بالله واليوم الآخر، كما انّ حياة البدن بقوّة الحسِّ والحركة، وكان الفعل الخاص به: إنما هو ذكر الله وطاعته وعبوديّته، كما إن الفعل الخاصّ بالبدن: الحسّ والحركة - كالأكل والشرب والجُماع والمشي وغيرها - فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعاً له من هذه الآثار، كانت تلك الصفات أمراضاً، وتلك الصفات بعضها سموم قتّالة: كالجهل المركّب، والنفاق، والجحود، والشكّ، والعناد، والحسد، واللداد وغير ذلك من الصفات المهلكات، فإنّها اذا استحكمت ورسخت في القلب، فهي غير قابلة للعلاج.
وبعضها ليست كذلك، كالصغائر من السيّئات، والتفاريق من الخطئيات.
واعلم أنّ الدنيا دار المرض، وليس على ظَهْر الأرض إلا المرضىٰ، كما ليس في بطنها إلاّ الأموات، وإنّما توجد الصحّة والسلامة المطلقة في العالَم الأعلى من طبقات الجنان، قال تعالى:**{ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }** [الشعراء:89].
ومرضى القلوب ها هنا أكثر من مرضى الأبدان، والعلماء أطبّاء القلوب، وحكّام الشريعة قوّام دار المرضىٰ. وكل مريضٍ لم يقبل العلاج بمداواة العالِم، سُلّم الى الحاكم ليكفّ شرّه عن باقي الناس، كما يسلّم الطبيبُ المريضَ الذي لا يحتمي، أو الذي غلب علي الجنون الى القيّم ليقيّده بالسلاسل والأغلال، ويكفّ شره عن سائر الناس.
وإنّما صار مرض القلوب أكثر من مرض الأبدان لثلاث علل:
أحدها: أنّ صاحب القلب المريض لا يدري أنّه مريضٌ.
وثانيها: أن عاقبتَه غيرُ مشاهَدةٍ في هذا العالَم، بخلاف مرض البدن فإنّ عاقبتَه - وهي موت البدن -، مشاهدة تنفر الطباع منه، وما بعد الموت غير مشاهَد لقلّة النفرة عن موت القلب الذي هو عاقبة مرضه، وإن علمها مرتكبُ الأمراض القلبيّة والكبائر الموبقة، فلذلك نراه يتّكل على فضل الله، ويجتهد في علاج البدَن.
وثالثها: وهو الداء العضال، وهو إمّا فقْد العلماء الذين هم الأطبّاء، كما في هذه الأعصار، أو فقد الإيمان بما يقول الطبيبُ، كما في عصر النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وأعصار ورثته (عليهم السلام).
فنقول: يحتاج المريض الى التصديق بأمور:
الأول: أنّ للمرض والصحّة أسباباً يتوصّل اليها بالاختيار على ما رتّبه مسبّب الأسباب. وهذا هو الايمان بأصل الطبّ، فإنّ من لا يؤمن به لا يشتغل بالعلاج، فيزداد مرضُه الى أن يلحق به الهلاك، وهذا وِزانه في مرض القلوب هو الإيمان بأصل الشريعة، وهو أن للحياة الأخرويّة والسعادة الدائمة سبَباً هو الطاعة، وللموت الأخروي والشقاوة الأبديّة سبباً هو المعصية، وهذا - وهو الإيمان بأصل الشرايع - لا بدّ من حصوله إمّا عن تحقيق أو تقليد، وكلاهما من جملة الإيمان.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الثاني: أنّه لا بدّ أن يعتقد المريض في طبيب معيّن أنّه عالِمٌ بالطبّ، حاذقٌ فيه، صادقٌ فيما يخبر به ويعبِّر عنه، لا يلبَس ولا يكذب. فإنّ ايمانَه بأصل الطبّ لا ينفعه بمجرده دون هذا الإيمان. ووزانه فيما نحن فيه: العلمُ بصدق الرسول (صلّى الله عليه وآله)، والإيمان بأنّ كل ما يقوله حقٌّ وصدقٌ، ولا كذبَ فيه ولا خُلف.
الثالث: أنّه لا بدّ أن يُصغي الى الطبيب فيما يحذّره من تناول الفواكه والأشياء المضرّة على أكله، حتى يغلب عليه الخوف في ترك الاحتماء، فتكون شدّة الخوف باعثاً له على الاحتماء، ووِزانُه من الدين: الإصغاء الى الآيات والأخبار المشتملة على الترغيب في التقوى، والترهيب من ارتكاب الذنوب واتّباع الهوى، والتصديق بما يلقى الى سمعه من ذلك من غير شكّ وريبة، حتّى ينبعث به الخوف المقوي على الصبر، الذي هو الركن في العلاج.
والركن الآخر: هو العلْم بما ذكره الطبيب، فإنّ الشفاءَ لا يحصل إلاّ بالدواء، ولا يقف على الدواء من لا يقف على الداء، إذ لا معنى للدواء إلاّ مناقضة أسباب الداء، فكلّ داء حصل من سبب، فدواؤه رَفْعُ ذلك السبب وحلّه وإبطاله، ولا يبطل الشيء إلاّ بضدّه، والضدّان متساويان في المعرفة والجهالة، فلا سبب للإصرار بالمعاصي إلا الجهل والغفلة، والشهوة والهوى، ولا يضادّ الغفلة إلاّ العلم، ولا يضادّ الهوى إلاّ الصبر على قطع الأسباب المحرّكة للهوى، والغفلة رأس الخطايا، قال الله تعالى:**{ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ }** [النحل:108 - 109].
فلا دواء إذن لأمراض القلوب إلا معجون يعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر، كما يجمع في السكنجبين بين حلاوة السكّر وحُموضة الخلّ، ويُقصد بكلّ واحد منهما غرض آخر في العلاج، بمجموعهما تنقمع الأسباب المهيّجة للصفراء، فهكذا ينبغي أن يفهم علاج القلب عن مرضه، فإنّه لا بدّ فيه أصلان: العلم والتقوى، والقرآن كلّه في بيانهما كما لا يخفى على أهل البصيرة.
وقد مرّ أنّ فائدة الأعمال الشرعيّة كلّها - وجوديّة كانت أو عدميّة - تصفية القلب عمّا يكدّره ويمرضه ويحجبه عن مطالعة الحقّ والعلم بالله وصفاته وأفعاله، هي الغاية القصوى لوجود الانسان وسائر الأكوان.
فصل
[مبدأ الخير والشر]
لما كانت الزيادة من جنس المزيد عليه، وقد علمت أنّ مرض القلب هو الصفات المضادّة لأفعاله وآثاره الخاصّة، التي أصلها الإيمان بالله، والمعرفة بآياته وكتبه وملائكته ورسله واليوم الآخر، فرئيس الأمراض القلبيّة هو الكفر بالله، والجهل بهذه الأمور، فقوله: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } محمولٌ على الكفر والجهل؛ فيلزم أن يكون الله فاعلاً للكفر والجهل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وهذا ممّا استشكله جماعة كالثنويّة والمجوس، الذين جعلوا فاعلَ الشرور مبدعاً آخر غير فاعل الخيرات، وقالوا بأصلين قديمين، هما عندهم: النور والظلمة، أو يزدان وأَهْرِمَن. لأنّ هذا الإشكال بعينه هي الشبهة المشهورة، وهي: أن في العالَم خيراتٍ وشروراً، والموجود الممكنيّ لا بدّ فيه من مؤثّر، وينتهي الى مؤثّر قديم دفعاً للدور والتسلسل؛ والمؤثّر في الخيرات والشرور لا يمكن أن يكون مبدأ واحداً، وإلاّ لكان أمر واحد خيِّراً وشرّيراً معاً.
فخالِق الأنوار والخيرات هو القديم المسمّى بالنور عندهم، أو يزدان، وخالق الظلمات والشرور، هو القديم المسمّى بالظلمة عندهم، أو أهر من وقال تعالى دفعاً لهذا الاعتقاد:**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ }** [الأنعام:1]. وهكذا قالت القدرية الذين هم مجوسُ هذه الأمّة أنّ في هذا العالَم يوجد الكفر والمعاصي كما يوجد الإيمان والطاعات، والله تعالى منزّه أن يكون خالِق الكفر والمعصية، فكلّ معصيةٍ وكفرٍ فمنشأ صدروها وفاعلها وخالِقها هو الشيطانُ أو العبدُ، وإنّ الله تعالى هو فاعلُ الإيمان والطاعات، وقال تعالى رداً عليهم:**{ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }** [الصافات:96]. وقوله:**{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }** [الشمس:7 - 8].
وأمّا حلّ الشبهة فهو أنّ الفائضَ من الباري جلّ اسمه ليس إلاّ نور الوجود والرحمة، وهذا النور ينقلب ظلمة من جهة خصوصيّة بعض القوابل المظلمة بواسطة هيئات ردية غاسقة، كالشمس التي شأنها الإضاءة والتنوير للأشياء المحاذية لها، وإفادة الحياة وإنعاش الحرارة الغريزيّة للمركّبات، لكنها قد توجب اسوداد بعض الأجسام، وتعفين بعض الموادّ الفاسدة، لخصوصيّة عروض الهيئات المفسدة العائقة لها عن قبول الصلاح والاعتدال، والحكماء ذكَروا في رفع شهبة الثَنَويّة انّ الأشياء على خمسة احتملات.
أحدها: الخير الذي لا شرّ فيه أصلاً.
والثاني: الشرّ الذي لا خير فيه أصلاً.
والثالث: ما تكون خيريّته غالبةً على الشريّة (فيه).
والرابع: عكس ذلك.
والخامس: ما يتساوى فيه الأمران. وذات الواجب الخيّر، لمّا لم يجز أن يصير مبدءاً للشرور، وجَب أن لا يصدر عنه من هذه الأقسام إلاّ قسمان، أي الأول الذي لا شريّة فيه، والقسم الثالث الذي خيريّته غالبة على شريّته، لأنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرٌّ كثير.
فنقول: الثنويّة القائلة بأن الله لا يصير مبدءاً لما فيه شرٌّ، أمكن إلزامهم، وقد تفاخَر أرسطو وزير إسكندر الرومي الملقّب عندهم بالمعلّم الأول بذلك الكلام.
فإن قال قائلٌ: انّه فقد جاز أن يصدر عن الأول تعالى خير محض مبرأ عن الشر؟
فيقال: إنّ هذا لم يكن جائزاً في مثل هذا القسم من القسمين المذكورين، وإن كان جائزاً في الوجود المطلق، على أنه ضربٌ منه غير هذا الضرب، وذلك ممّا قد فاض عنه تعالى: كالموجودات العلويّة، والملائكة السماويّة، والنفوس الشريفة، والعقول القادسة، وبقي هذا النمط في الإمكان، ولم يمكن ترك ايجاده لأجل ما يخالطه من الشرّ، لما علمت من أنّ تركَه شرّ الشرّين، فكونه خير الشرّين فالكلّ من عند الله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وقد مرّ في المفاتيح انّه من الواجب في الحكمة أن يكون في العالَم مظاهر جميع الصفات الإلٰهيّة، فلا بدّ لكل من الوصفين المتقابلين من مظهرٍ، فالكفر ونتائجه ومباديه: كالشياطين ومن ضاهاهم من الأشرار، مظاهر القهر والغضب، والإيمان ونتائجه ومباديه: كالملائكة ومن والاهم من الأخيار، ومظاهر اللطف والمحبّة. ثمّ لا اعتراض في تخصيص كلّ بما يخصّه، لأن هذا الترتيب من لوازم الوجود والإيجاد.
فإن قلت: ما ذكرتَه من التوحيد في الأفعال متحقّق ظاهر مهما ثبت انّ الوسائط والأسباب مسخّرات، وكلّ ذلك ظهر إلاّ في أفاعيل الإنسان وحركاته، فإنّه يتحرك إنْ شاء، ويسكن إن شاء، فكيف يكون مسخّراً في فعله؟
فنقول: اعلم أنّه لو كان الإنسان مع هذا بحيث يشاء إن شاء، ولا يشاء إن لم يشأ، لكان هذا مزلّة القدم وموضع الغلَط، ولكن علمته أنّه يفعل إذا شاءَ، وما يشاء يشاءُ، شاء أم لم يشأ فليست المشيّة إليه إذ لو كانت إليه لافتقرتْ الى مشيئة أخرى وتسلسل الأمر الى غير النهاية، وإذا لم تكن المشية اليه، بل مهما وُجدت المشيّة التي شأنها تصريف القدرة الى مقدورِها، انصرفت القدرة لا محالة؛ ولم يكن لها سبيلٌ الى المخالفة، فالحركة لازمة ضرورةً بالقدرة، والقدرة محرّكة ضرورة عند انجزام المشيّة، والمشيّة تحدث ضرورةً في القلب، فهذه ضروريات مترتّبة بعضها على بعض، وليس للعبد أن يدفع وجودَ المشيّة، ولا انصراف القدرة وانبعاثها الى المقدور بعدها، ولا وجود بعث المشيّة للقدرة، فهو مضطرٌّ في الجميع.
فإن قلت: فهذا جبرٌ محضٌ، والجبر يناقض الاختيار، وأنت لا تنكر الاختيار وكونه سبباً للفعل، لا كما زعمته الأشاعرة القائلين بوجود الاختيار من غير أن يكون سببيّة، وهو المسمّى عندهم بالكسب.
قلت: لو انكشف لك الغطاء، لعرفتَ أنّ الإنسان في عين الاختيار مجبورٌ، فهو إذن مجبورٌ على الاختيار، وأنّه مضطر في صورة مختار. وهذا كما ورَد في الحديث الذي مرَ ذكره عن الصادق (عليه السلام): " لا جبرَ ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين " وهذا معنى ما قيل: الوجوبُ بالاختيار لا ينافي الاختيار، بل يؤكّده، يعني: أنّ الاضطرار في الاختيار يؤكّد وجودَ الاختيار؛ لأن الشيء ما لم يجب وجودُه لا يوجَد، فالاختيار أيضاً من جملة الأشياء الممكنة التي في وجودها أن تصير أولاً واجباً حتّى تتحقّق، وإذا وجَب الاختيار حتّى يوجَد، فقد سبقَه الاضطرار المؤكِّد لوجوده.
وإن أردتَ أن تفهم معنى الاختيار؛ - فإنّ أكثر الناس جاهلون بمعناه - فلنشرح إيّاه شرحاً وجيزاً فنقول: لفظ الفعل يطلق في الإنسان على ثلاثة أوجه، إذ يقال: الإنسان يكتب بالإصبَع، ويتنفّس بالرئة والحنجرة، ويخرق الماء إذا وقف عليه بجسمه، فهذه أنحاء من أفاعيله في هذا العالَم - عالم الشهادة - وله ضروب أُخرى من الفعل في عالَم الغيب، ليس هذا المقام موضعُ بيانه، فإذن يُنسب اليه ها هنا الخرْقُ في الماء، والتنفّس والكتابة، وهذه الثلاثة في حقيقة الاضطرار والجبر واحدٌ، ولكنّها تختلف وراء ذلك في أمور أخرىٰ، فأُعرب لذلك عنها بعباراتٍ ثلاث: فسمّي خرقه للماء - عند وقوعه على وجهه - فعلاً طبيعياً، وسمّي تنفّسه فعلاً إراديّاً، وسمّيت كتابته فِعلاً اختيارياً، والجبر ظاهرٌ في الفعْل الطبيعي، لأنه مهما وقف على وجه الماء انخرق لا محالة، فيكون الخرق بعد التخطّي من سطع الماء الى الماء ضرورياً، والتنفّس في معناه، فإن نسبة حركة الحنجرة الى ارادة التنفّس كنسبة خرق الماء الى ثقل البدن، فمهما كان الثقل موجوداً وجد الانخراق بعده، وليس الثقل اليه، فكذلك ليست الإرادة، ولذلك إذا قصد عين الإنسان بابرة طبق الأجفان بالاضطرار، ولو أراد أن يتركها مفتوحة لا يقدر، مع انّ تغميض الأجفان فعلٌ إرادي، لأنه مسبوق بشعور وإرادة، ولكنّه إذا تمثّل صورة الإبرة في مشاهدته بالإدراك، حديث الإرادة للتغميض ضرورة، وحدثت الحركة بها، ولو أراد أن يترك، لم يقدر عليه مع انّه فعل بالقدرة والإرادة، فقد التحق هذا بالفعل الطبيعي في كونه ضرورياً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وأما الثالث: وهو المسمّى بالاختياريّ - ويقال له القصد - فهو مظنّة الالتباس كالكتابة والمشي. وهو الذي يقال فيه: إن شاء فعلَ وإن لم يشأ لم يفعلْ، وتارةً يشاء وتارةً لا يشاء.
فيظنّ من هذا أنّ الأمر إليه، ومبناه الجهل بمعنى الاختيار، فليكشف عنه، وبيانه أنّ الإرداة مع العلم الذي يحكم بأنّ الشيء موافقٌ لك، فإنّ الأشياء تنقسم الى ما تحكم مشاهدتك الظاهرة أو الباطنة بأنّه يوافقك من غير تردّد وتحيّر، والى ما يتردّد العقل فيه، فالذي يقطع به من غير تردّد - كما يقصد عينك بابرة أو بدنك بسيف - فلا يكون في علمك تردّد في أنّ دفع ذلك خيرٌ وموافقٌ لك، فلا جَرَمَ تنبعث الإرادة بالعلم، والقدرة بالإرادة، وتحصل حركة الأجفان بالدفع، وحركة اليد بدفع السيف، وذلك من غير رويّةٍ وفكرٍ.
ومن الأشياء ما يتوقّف التمييز والعقل فيه، فلا يدري أنّه موافق أم لا، فيحتاج الى رويّة وفكر حتّى يتبيّن أنّ الخير في الفعل أو الترك، فإذا حصل بالفكر انّ أحدهما خير، التحق ذلك بالذي يقطع به انّه خيرٌ من غير رويّة وفكر، وانبعثت الإرادة ها هنا كما تنبعث لدفع حوالة السيف والسنان من غير رويّة وفكر.
فإذا انبعثت الإرادة للفعل الذي ظهر للعقل انّه خيرٌ، سمّيت هذه الإرادة اختياراً، مشتقّاً من الخير، أي هو انبعاث الى ما ظهرَ للعقل انّه خير، وهو عين تلك الإرادة ولم ينتظر في انبعاثها إلاّ الى ما انتظرت تلك الإرادة، وهو ظهور خيريّة الفعل في حقه، إلا أنّ الخيريّة في دفع السيف، ظهرت من غير رويّة بل على البديهة، وهذا افتقر الى الرويّة.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فالاختيار عبارةٌ عن إرادة خاصّة، هي التي انبعثت بإشارة العقل فيما له في إداركه توقّف، ولا يمكن أن تنبعث الإرادة إلاّ بحكم الحسّ والتخيّل، كما في القسم الأول منها، أو بحكم جزم من العقل كما في الثاني، فداعِية الإرادة - وهي كون الفعل موافقاً - مسخّرة لحكم العقل أو الحسّ، والقدرة مسخّرة للداعية، والحركة مسخّرة للقدرة، والكلّ يصدر بالضرورة فيه من حيث لا يدري، فإنما هو محلٌّ ومَجرى لهذه الأمور، فأما أن يكون فاعلاً فكلاّ.
فإذاً معنى كون الإنسان مجبوراً؛ أنّ جميع ذلك واردٌ عليه حاصل فيه من غيره لا منه، ومعنى كونه مختاراً؛ أنّه محلّ الإرادة لا غير، فاذاً هو مجبور على الاختيار. ففعل النار جبر محض، وفعل الله اختيار محض، لأنّ الاختيار والداعي فيه عين ذاته، وفعل الإنسان منزلة بين المنزلتين فإنه جبر على الاختيار.
[التوحيد الافعالي]
فإن قلت: فهل تقول: إنّ العلمَ ولّد الإرادةَ، والإرادة ولّدت القدرة، والقدرة ولّدت الحركة، وإنّ كلَ متأخّرٍ حدث من المقدّم؟
فإن قلت ذك، فقد حكمتَ بحدوث شيء لا من قدرة الله، وإن أبيت ذلك، فما معنى ترتّب البعض من هذا على البعض.
فاعلم أنّ الفرق حاصل بين ما منه الشيء وما به الشيء، فإنّ أجزاء الحركة والزمان حصَل بعضُها من بعض، ولم يحصل بعضها بسبب بعض، وكذلك المركّب - كالمعجون - حاصلٌ من أجزائه، وليس بحاصل بسبب أجزائه.
فالقول بأنّ بعض تلك الأمور حصل بسبب بعض آخر منها، جهلٌ محض، سواء عبّر عنه بالتولّد أو بغيره، بل حوالة جميعها على المعنى الذي يعبّر عنه بالقدرة الأزليّة، وهو الأصل الذي لم يقف كافّة الخلق على كُنه معناه إلاّ الراسخون، وليس عند غيرهم منه إلاّ مجرد لفظه، مع نوع تشبيه له بقدرتنا، وهو بعيدٌ عن الحقّ، وبيان ذلك يطول ولكن لا يتقدّم متقدّمٌ ولا يتأخّر متأخرٌ إلاّ بالحقّ واللزوم فكذلك جميع أفعال الله المترتّبة، فإنّ لها ضرباً آخر من التقدّم لبعضها على بعضٍ، غير التقدّم المسمّى عند الفلاسفة بالتقدّم بالطبع، وغير الذي سمّوه التقدّم بالعلّية، فإنّهما متّحققان بين المهيّات بعضها مع بعض بواسطة، وهذا الذي كلامنا فيه، تقدّم وتأخّر بين الموجودات التي هي أنوارٌ مترتّبة في الإفاضة عن الحقّ، أو بين مراتب تنزّلات الحقّ الأول، وقد سمّيناهما التقدّم والتأخّر بالحقيقة بالاعتبار الأول، والتقدّم والتأخّر بالحقّ بالاعتبار الثاني، وهذا ممّا لا يظهر إلاّ للخواصّ المكاشفين بنور الحقّ، ولا ينفع ذكره للحمقىٰ الجاهلين المجانين، إلاّ فتنة وتحريكاً لسلسلة جنونهم، وحلاّ لعقائد ظواهر الشريعة عن ألسِنتهم وأيديهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وبالجملة، فلولا الترتيب بين الموجودات، لبطل النظامُ، ولم تكن الغايات مترتّبة على الأشياء، ولكان فعلُ الله على ذلك التقدير الذي توهّمه جماعةٌ من الناس - كأصحاب أبي الحسن الأشعري وغيرهم - عبثاً وتهذاراً وهباءً ولعباً، قال تعالى:**{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ \* مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ }** [الدخان:38 - 39].
فكلّ ما بين السماء والأرض على ترتيب واجب وحقٍ لازم، لا يتصور أن يكون إلاّ كما حدَث، وعلى الترتيب الذي حدث، فما تأخَّر متأخّر إلاّ لانتظار ما يتوقّف عليه ويشترط به، والموقوف بعد الموقوف عليه، والشرط قبل المشروط.
وعكس هذا الترتيب وخلافُه محالان، والمحالُ لا يوصف بكونه مقدوراً، فلا يتأخّر العلم عن النظر إلا لفقد شرط الحياة، ولا تتأخّر عنها الارادة بعد العلم إلاّ لفقد شرط العلم، وكل ذلك على منهاج الواجب وترتيب الحقّ، ليس في شيء من ذلك لعبٌ واتّفاقٌ، بل كل ذلك بحكمة وتدبير.
وتفهيم ذلك عسيرٌ، على الأفهام غير يسير، وللفرق بين سبب به وسبب منه، وإطلاق الفاعل على كلّ من هذين المعنيين، نسب الله الأفعال في القرآن مرّة الى الملائكة، ومرّة الى العباد، ونسبَها مرّة الى نفسه، فقال في الموت:**{ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ }** [السجدة:11] ثمّ قال:**{ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا }** [الزمر:42]. وقال:**{ فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً }** [مريم:17]. ثم قال:**{ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا }** [الأنبياء:91]. والنافخ جبرائيل. وقال:**{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي }** [الحجر:29]. وقال:**{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ }** [التوبة:14]. والتعذيب هو عين القتل، بل صرّح وقال:**{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ }** [الأنفال:17]. ثم قال:**{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ }** [الأنفال:17]. وهو جمع بين النفي والإثبات ظاهراً، لكن معناه: رميتَ بالمعنى الذي يكونُ العبدُ رامياً، وما رميتَ بالمعنى الذي يكون الحقُّ رامياً، إذ هما معنيان مختلفان. وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في وصف مَلَك الأرحام أنّه يدخل الرحم فيأخذ النطفة بيده: ثمّ يصوّرها جسداً، فيقول: يا ربّ أذكَر أم أنثى أسويّ أم معوّج؟ فيقول الله ما شاء، ويخلق المَلَك.
وفي لفظ آخر: ويصوّر الملك فيها الروحَ بالسعادة والشقاوة.
وقال بعض السلف: إن المَلَك الذي يقال له الروح، هو الذي يولجُ الأرواح في الأجسام، وإنّه يتنفس بوضعه، فيكون كل نفَس من أنفاسه روحاً تلج في جسم.
وقال بعض العرفاء: ما ذكَره من مثل هذا المَلَك صفته، فهو حقّ بمشاهدة أرباب القلوب ببصائرهم، وأما كون الروح عبارة عنه، فلا يمكن أن يعمل إلاّ بالنقل. والحكم به تخمين مجرّد.
وكذلك ذكر الله في القرآن الأدلة والآيات في الأرض والسمٰوات وقال:**{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ }** [فصلت:53].
ثم قال:**{ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }** [فصلت:53].
وقال:**{ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }** [آل عمران:18].
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فبيّن أنّه الدليل على نفسه.
وليس ذلك بمتناقض، بل طرق الاستدلال، فكم من طالب عرف الحق بالنظر الى الموجودات، وكم من طالب عرف الحق بالنظر إليه، وبه كلّ الموجودات. كما قال بعضهم: عرفتُ ربّي بربّي، ولولا ربّي لما عرفتُ ربّي.
وقد وصف الله نفسَه بأنه المحيي والمميت، ثمّ فوّض الموتَ والحياة الى ملَكين، ففي الخبر: إن ملَكَ الموتِ وملكَ الحياة تناظرا، فقال ملك الموت: أنا أُميتُ، وقال ملك الحياة: أنا أُحيي الأمواتِ. فأوحى الله إليهما: كونا على عملكما وما سُخِّرتما له من الصُّنع. فإنّي أنا المميتُ وأنا المحيي. لا مميتَ ولا محيي سواي.
فالمحقّق أضافَ الكلّ الى الله، لأنه عرف الحقّ والحقيقة.
ولمّا جرى بيتُ لَبيد على لسان بعض الأعراب، قصداً أو اتّفاقاً، صدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) فقال: أصدق بيتٍ قاله شاعر، قول لبيد:
| **ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلُ** | | |
| --- | --- | --- |
أيّ كلّ ما لاَ قِوامَ له بنفسه، وإنّما قِوامه بغيره، فو باعتبار نفسه باطلٌ، وإنّما حقيّته وحقيقته بغيره لا بنفسه، فإذاً لا حقّ بالحقيقة إلا القيّوم الحقّ الذي ليس كمثله شيء، فإنّه قائم بذاته، وكل ما سواه قائمٌ بقدرته، فهو الحقّ وما سواه باطلٌ، ولنرجع الى ما كنّا بصدده.
فصل
[رد احتجاجات المعتزلة]
إعلم أنّ المعتزلة لما كان أصل اعتقادهم أنّ فاعلَ الكفر والجهل والظُّلمة وسائر الشرور الواقعة في هذا العالَم هو غير الله؛ أشكلَ عليهم قوله: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } ، قالوا: لا يجوز أن يكون مراد الله منه الكفرَ والجهلَ لوجوه مذكورة في التفسير الكبير من غير جواب، ونحن نذكرها ونجيب عنها:
الأول: أنّ الكفار كانوا في غاية الحرص على الطعن في القرآن، فلو كان المعنى ذلك، لقالوا للنبي (صلّى الله عليه وآله): إذا فَعل الله الكفُر فينا، فكيف يأمرنا بالإيمان؟
والجواب: أولاً: بالنقض، لأنّ ما ذكروه جارٍ بعينه في مثل قوله:**{ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ }** [الجاثية:23]. وقوله:**{ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ }** [فاطر:8] وقوله:**{ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً }** [الكهف:57]. إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنه تعالى أبعدَ الكفار والمنافقين عن دار كرامته، وصدّهم عن سبيله، وجنَّبهم عن الجنّة.
وثانياً: إن المنافقين إذا قالوا ذلك، فللبني (صلّى الله عليه وآله) أن يقول: إنّما طرأَ عليكم من الله الظُّلمة والحجاب، لشؤم ما فعلتم أولاً من الانكار والجحود والتمادي على الجهْل والكفر، كما قال تعالى:**{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً }** [البقرة:74]. وقوله:**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }** [النساء:155]. وقوله:**{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً }** [المائدة:13].
الثاني: إنه تعالى لو كان فاعلاً للكفر، لجاز منه إظهار المعجزة على يد الكاذب، فكان لا يبقى كون القرآن حجّة.
والجواب: منع هذه الملازمة. وأي علاقة لزوميّة بين ايجاد الكفر في النفوس المظلمة الجاحدة لآيات الله، وبين اظهار المعجزة على يد الكاذب؟
الثالث: إنّه تعالى ذكَر هذه الآيات في معرض الذمّ لهم على كفرهم، فكيف يذمّهم على شيء خلقَه فيهم؟
والجواب: إنّ هذا بعينه مصادرةٌ على المطلوب الأول، فإنّ أصل الكلام في أنّ الله فاعل الكلّ أم لا.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
الرابع: قوله تعالى: { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، فإن كان تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم، فأيّ ذنب لهم حتّى يعذبهم؟
والجواب: بما مر سابقاً، أن العقوبات للجرائم، من باب التوابع والثمرات لبذور المعاصي والسيّئات، والله منزّه عن الانفعال والتغيّر في الصفات، كالغضب ونحوه، فكان حاصل الجواب عن قول من قال " إذا كان الكلّ به ومنه وإليه، فكيف غضب على نفسه وذمّ فعله "؟ ما قد ذكر سابقاً من تقسيمه عباده وبحسب المشية الى ما سبق لغاية الحكمة، والى من استوقف دونها، فاستعير للنسبة الأولى اسم الرضاء، وللثانية عبارة الغضَب، وأُردف الأول بخلعه الثناء زيادةً في القبول والرضاء. وأُردف الثاني بنقمة اللعن والذمّ زيادةً في النكال، فهو المعطي للجمال والمثني، وهو المعطي للنكال والمردي، فيكون بالحقيقة هو المجمل والمثني والمثنىٰ عليه في جميع الأحوال، والحمد لله على كلّ حال.
الخامس: إنّه تعالى أضافه اليهم بقوله: { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } ، وعلى هذا وصَفهم تعالى بانّهم مُفسِدون في الأرض، وأنّهم هم السفهاء، إذا خلَوا الى شياطينهم قالوا انّا معكم، فدلّ على أنّ المراد منه شيءٌ آخر.
والجواب: بمثل ما مرّ، وهو أنّ إظلام قلوبهم وتسويدها بالكفر، مسبَّب عن كذبهم وتكذيبهم للرسول (صلّى الله عليه وآله)، وإفسادهم في الأرض، واستهزائهم بالمؤمنين، وهذه أيضاً أسباب لاشتداد مرضهم وازدياد كفرهم.
فصل
[تأويلات المعتزلة]
ثمّ قالت المعتزلة: إذا ثبت أنّ المراد ليس ما هو الظاهر من قوله تعالى: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } ، فلا بدّ من التأويل فيه، وهو من وجوه:
الأول: بحمل المرض على الغمّ لأنه يقال: مرض قلبي من أمر كذا، والمعنى: أنّ المنافقين لمّا رأوا ثبات أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) واستعلاء شأنه يوماً فيوماً وذلك كان يؤثّر في زوال رياساتهم، فهؤلاء لما اشتدّ عليهم الغمّ وصف الله تعالى ذلك، أي زادهم غمّاً على غمّهم بما يزيد في أمر الرسول وتعظيم شأنه.
الثاني: إنّ مرضَهم وكفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكاليف، وتكرير الوحي، وتضاعف النصر، فهو كقوله تعالى في سورة التوبة:**{ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** [التوبة:125]. والسورةُ لم تفعل ذلك، ولكنهم ازدادوا رِجساً عند نزولها لمّا كفروا بها قبل ذلك. وكقوله:**{ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً }** [المائدة:64]. وقوله:**{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً }** [فاطر:42]. وكقولك لمن نصحتَه فلم يقبل وتمادى في فساده: ما زادتك نصيحتي الاّ شراً وفساداً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فكذا هؤلاء المنافقين، لمّا كفروا وازداد كفرهم عند التكليف والدعوة من الله الى شرائع دينه، اضيفت زيادة كفرهم إليه تعالى.
الثالث: أن يراد ما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخوف لأنّ قلوبَهم كانت قويّة، إمّا لقوّة طمعهم فيما كانوا يتحدّثون به انّ ريح الإسلام تهبّّ حيناً ثم تسكن، ولواءَه يخفق أياماً ثم يقرّ، فضعفت حين ملكها اليأس عند إنزال الله على رسوله النصر، وإظهار دينه الحقّ على الدين كله. وإمّا لجرأتهم وجسارتهم في الحرب فضعفت جبناً، حين قذف في قلوبهم الرُّعب، وشاهَدوا شوكة المسلمين وامد الله لهم بالملائكة.
ومعنى الزيادة: أنّه كلّما زاد الله رسولَه نصرةً وتبسّطاً في البلاد، ازدادوا حسداً وبُغضاً، وازدادت قلوبهم ضعفاً ويأساً عمّا طمعوا فيه، وجبنا وخوراً، وأن يحمل المرض على تغيّر مزاج القلب وتألّمه، وذلك لأنّ الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه، فإذا دام به ذلك؛ فربما صار ذلك سبباً لتغيّر مزاج قلبه ومرضه، قالوا: وحملُ اللفظ على هذا الوجه حملٌ له على حقيقته، فكان أَوْلىٰ من سائر الوجوه.
فصل فيه حكمة عرشية
[اللذة والألم]
قوله: { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، قال صاحب الكشّاف: يقال: ألم فهو اليم، كوجع فهو وجيعٌ، وهذا على طريقة قولهم، جَدّ جدُّه، والألم في الحقيقة للمؤلم، كما أنّ الجدّ للجادّ.
أقول: إنّ المؤلم بالحقيقة، هو الألم الحاصل في القلب دون السبب الخارجي، كما انّ صورة اللذّة الحاصلة في النفس عند إدراك الملائم النفسي أو البدني، هي الملذّة بالحقيقة، لا ما خرج عن التصوّر، وليس الملذّ والمؤذي بالحقيقة إلاّ المرتسم في القلب، - أعني النفس - لا الموجود في الخارج، وكلّما ارتسمت في النفس صورة العذاب أو مقابلها يفعل فعلها وإن لم يكن سبب من خارج، فإنّ السبب الذاتي هو هذا المرتسم، والخارج سببٌ بالعرض، أو سبب السبب، فالأوّل: كما في اليقظة، فإن الصور الملذّة أو المؤذية المرتسمة في النفس تبتدئ من الصور الماديّة الخارجيّة، وقد ثبت في العلوم الحقيقيّة، أنّ تأثيرها على سبيل الاتّفاق والإعداد، وانها أسباب بالعرَض، والثاني: كما في النوم، فإنّ الصور الملذّة أو المكرهة قد تبتدئ من داخل باطن النفس إليها حتّى تنتهي الى مشهد الحسّ المشترك، فتدركها النفس، وقد لا تكون كذلك، بل تنتقل صور مخزونات النفس بعضها الى بعض، فإذا ابتدأت من داخل النفس، فيكون سبب ارتسامها من عالَم الغيب، والأسباب الموجودة في عالَم الغيب سببيّتها تكون ذاتية، فيكون الملذّ والمؤذي في النوم أو ما يجري مجراه كالموت والبرزخ، هي الصورة المرتسمة في النفس، وسبب ارتسامها ملذّ ومؤلم بالواسطة.
فصل
[في قوله تعالى: بما كانوا يكذبون]
قوله: { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } ، صريحٌ في أنّ عذابهم الأليم معلّل بكذبهم، على قراءة عاصم وحمزة والكسائي، وذلك يقتضي أن يكون كلّ كذب قبيحاً حراماً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وفيه رمز آخر الى قبحه، حيث علّل به استحقاق العذاب، وترتّب عليه دون الكفر مع وجوده، ونحوه قوله تعالى:**{ مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ }** [نوح:25]. وانّهم كانوا كفرَة إلا انّه خصّت الخطيئات بالسببيّة، استعظاماً لها، وتنفيراً عن ارتكابها.
والكذب: هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، وهو حرامٌ كلّه، أمّا ما يروى عن إبراهيم (عليه السلام) أنّه كذِب ثلاثة كذبات، فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمّي به.
والمراد بكذبهم قولهم:**{ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }** [البقرة:8]، والجاحظ لا يسمّيه كذباً إلاّ إذا علم كون المخبَرِ عنه على خلافه، وهذه الآية حجّة عليه.
وقرأ الباقون: يُكذّبون، من كذّبه، نقيض صدّقه، لأنهم كانوا يكذّبون الرسول (صلّى الله عليه وآله) بقلوبهم، وإذا خلوا الى شياطينهم.
أو من كذب الذي هو مبالغة كذب، كما بولغ في صدق فقيل صدّق مشدّداً، ونظيرهما: بان الشيءُ وبيّن. وقلص وقلّص، أو بمعنى الكثرة كقولهم: موّتت البهائم وبرّكت الإبل.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | |
| --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | |
| --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) | { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } مستأنفة جواباً عمّا ينبغى ان يسأل عنه من حالهم او من علّة مخادعة الله او علّة عدم الشّعور او مستأنفة للدّعاء عليهم او حال من فاعل الفعل الاّول او الثّانى او الثّالث، والمرض علّة فى الحيوان لا تلائم مزاجه الطّبيعىّ واهل الحسّ خصّصوه بما فى بدن الحيوان ولا اختصاص له به بل يعمّه وما فى نفسه من الاعراض الغير الملائمة لمزاجها الالهىّ لانّ كلّ ما يخرج نفس الانسان عمّا هى عليه بحسب التّكوين والتّكليف فهو مرضها وقد مضى انّ للقلب اطلاقاتٍ عديدة والمراد بالقلوب هنا امّا القلوب الصّنوبريّة الجسمانيّة فانّها لشدّة غيظهم وحقنهم دمائها فى شدّة الغليان او من شدّة خوفهم دمائها فى عدم الغليان وكلاهما غير ملائم لمزاجها او القلوب المعنويّة وامراضها بجملة الرّذائل الشّيطانيّة.
{ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } دعاءٌ او اخبارٌ، وازدياد مرضها بازدياد بعدها عن الخصائل وتمكّنها فى الرّذائل { وَلَهُم عَذَابٌ } دعاء او اخبارٌ { أَلِيمٌ } صيغة مبالغة من الم اذا وجع، وتوصيف العذاب بالاليم مجازاً للمبالغة فى شدّته كأنّ العذاب من شدّته متعذّب بنفسه، ويجوز ان يراد معنى المولم مثل ارادة المطهّر من الطّهور لانّ المبالغة فى مثله تقتضى التّعدّى الى الغير وهذا أبلغ من الاوّل لانّه يفيد تألّم العذاب بحيث يقتضى تألّمه الم الغير بتألّمه { بِمَا كَانُوا } بكونهم او بشيئ او بالّذى كانوا { يَكْذِبُونَ } قرئ بالتّخفيف وبالتّشديد من كذّبه اذا نسبه الى الكذب او من كذّب اللازم للمبالغة او التّكثير والكذب كالصّدق يستعمل كثيراً فى الاقوال لكن لا اختصاص له بها بل كلّ فعل او حال او خلق او شأن يصدر من الانسان يكون مطابقاً لما يقتضيه حقيقة الانسانيّة فهو صدق، وكلّما لم يكن كذلك فهو كذب.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ) | { فِى قُلُوبِهِمْ مَرضْ } أى شرك، وفى لسانهم صحة أعنى إسلاماً، وذلك فى مبدأ سماعهم بالوحى وغلبة الإسلام، ثم لما قوى الإسلام وأهله، وتضافر الوحى اشتد الشرك فى قلوبهم وكثر، لأنه كلما سمعوا أمارة قوة الإسلام وأهله، أو رأوها، أو أنزلت آية، أو وقعت معجزة، أنكروا ذلك، فكثر إنكارهم، وكل إنكار من ذلك شرك، فكثر شركهم المعبر عنه بالمرض كما أخبر الله عنه بالزيادة فى قوله { فَزَادَهُمْ اللَّهُ مرضاً } أى خذلهم فازدادوا شركاً مترتباً ومسبباً عن الشرك السابق لهم، بزيادة نزول الآيات وأمر الإسلام، وسمى شركهم مرضاً لأنه خفى فى قلوبهم، كما أن المرض يتألم به القلب، وقد لا يظهر أثره على الجسد، وقد يظهر أثره عليه ولا يتعين، فقد ترى أصفر رقيقاً فيحتمل عندك أن ذلك من خلقته، وقد يتعين. وعلى كل حال فأصل المرض خفى، والذى يظهر إنما هو أثره. أو سمى شركهم مرضاً لأنه يضعف دين الإسلام، كالمرض يضعف البدن، وذلك فى الجملة، لا خصوص دين الإسلام بقيد كونه فيهم، فإنه لا دين إسلام فيهم، لأنهم مشركون باطناً مسلمون ظاهراً، ومرادى بإضعافه فى الجملة أن كثرة الشرك تضعف أهل الإسلام، ودين الإسلام، وأن كل شرك قدح فى الإسلام وأبطأ له ولو قل، وإن فرضنا أن فى قلوبهم إسلاماً ضعيفاً، كرجل أضعفه الشك الذى يطرأ عليه، ويتردد عليه مرة بعد مرة، كان شكهم شركاً يضعف ذلك الإسلام الذى فيهم، كما أن المرض المجامع للصحة فى البدن الواحد يضعفها، أو سمى الشرك مطلقاً مرضاً لأنه مانع من المنافع المترتبة على الإسلام فى الدنيا والآخرة، كما أن المرض مانع لذة المطعم والمشرب والمنام، بل الإسلام نفسه أمر حسن لذيذ يمنعه الشرك والشك، أو لأنه مؤد إلى تنغيص الحياة بتوقع السلب والمغنم والسبى والقتل، أو الذل والجزية فى الجملة، وإلى حياة عذاب فى الآخرة، كما أن المرض ينغص الحياة. ويحتمل أن يراد بالمرض حقيقة المرض، فإن قلوبهم تتألم بذكر الإسلام وأمره وقوة أهله، وزوال الأمر من أيديهم من الرياسة وغيرها حسداً منهم، فإن الحسود يعذب نفسه لحسده، وكلما ازداد ذلك ازدادوا تألماً وحسداً، وكلما ازدادت التكاليف ازدادوا ذلك إذا رأوا المؤمنين متشبثين بالتكليف بها لا يضعفون عنها، وأيضاً قلوبهم قد تلأمت بالخوف والضعف والذل حين ولو أمر المسلمين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى ازدياد وتضاعف نصر على الأعداء، وتبسطاً فى البلاد، فذلك مرض حقيقى ويحتمل أن يراد الوجهان معاً فى الآية، لأن المرض فيهما حقيقى، وإما أن يرادا معاً أو أحدهما مع ما مر أولا، من تخريج المرض على المجاز، فلأنه جمع بين الحقيقة والمجاز، ولو أجازه بعض، وضابط ذلك ان المرض حقيقة فيما يخرج به البدن عن الاعتدال الخاص، ويوجب الخلل فى أفعال البدن أو فى خروج البدن عن ذلك، ومجاز فى المعاصى النفسانية كالجهل والشرك والحسد، وحمل الآية على المجاز أولى لأنه أبلغ من الحقيقة، وإنما أسند الله سبحانه وتعالى الزيادة إلى نفسه لأنها بمعنى خذلان خلقه الله لهم.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فاجتازوه ولا جبر هناك. وقال فى الكشاف أسند الزيادة إلى نفسه لأنه سبب فى الوحى إذ أنزله، فكان مرضهم بإنزاله، وكذا فى سائر ما فعله مما يغنمون به، كنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة إلى ذلك مع إمكان تفسير الزيادة بالخذلان، المتسبب عنه المرض، أو بخلق المرض وهو الحق، وقرأ أبو عمرو فى رواية الأصمعى فى قوله { فِى قُلُوبِهِم مَرْضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرْضاً } بإسكان الراء فى مرض الأول والثانى، وقيل فى قوله { فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً } أنه دعاء عليهم على عادة الناس فى الكلام، وليس على الحقيقة. وقال بعضهم كلما كان بلفظ دعاء من الله - عز وجل - فإنما هو بمعنى إيجاب الشىء، لأن الله تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهى فى قبضته. { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أى مؤلم، بفتح اللام، أسند الألم إلى العذاب بطريق البناء للمفعول مبالغة، فذلك من النسبة الإيقاعية، كأنه قيل ولم عذاب أوجعه الله، ويجوز أن يكون بمعنى متألماً، بكسر اللام، بإسناد الألم إلى العذاب بطريق البناء للفاعل مبالغة، فذلك من النسبة الوقوعية، كأنه قيل عذاب متوجع، فهو فعيل بمعنى مفعول، أو بمعنى فاعل، ومما يحتمل الوجهين قول عمر ابن معد يكرب الزبيدى
| **وخيل قد ألفت لهم بخيل تحية بينهم ضرب وجيع** | | |
| --- | --- | --- |
أى رب خيل قد تقدمت إليهم بها تحييهم الضرب بالسيوف لا الكلام باللسان، فالمراد بالخيل الفرسان للمجاورة وللحلول فوقها، أو بتقدير مضاف أى أصحاب خيل أو راكب خيل، وخيل الثانى من وضع الظاهر موضع الضم، ومن الثانى جد جده إذا بالغ فى الاجتهاد حتى نسب الاجتهاد إلى اجتهاده، ويجوز أن يكون أليم فعيل للنسب كأنه قيل عذاب ألمى أو من ألم المتعدى كألم، فهو بمعنى فاعل متعد، كأنه قيل عذاب مؤلم إياهم، بكسر اللام، والوجهان الأولان مجاز، والآخران حقيقة. واعلم أن المتألم هو القلب لا الحسد، ولذا تعذب الكفار فى النار وهم بأجسامهم التى أقرت بالله وصدقته، ولو أنكرت قلوبهم، ويدل لذلك أن السكران والنائم لا يتألمان بما يفعل فيهما، ما دام النوم والسكر، ويتألم النائم فى نومه بما يراه من حلم شىء. والله أعلم. { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون } بسبب كونهم يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما مصدرية والباء سببية، ومفعلو يكذب محذوف، ويجوز كون ما بمعنى الكون اسماً موصولا، عائدها مفعول مطلق ضمير محذوف، أى بالكون الذى كانوه يكذبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتشديد على الوجهين للتعدية، ولك أن تقول التشديد للمبالغة، فلا يقدر مفعول، فالتكذيب بمعنى المبالغة فى الكذب، ويدل له قراءة عصام وحمزة والكسائى يكذبون بفتح الياء وإسكان الكاف وتخفيف الذال، أى بسبب كونهم كاذبين، ويجوز أن يكون التكذيب للتكثير، وتدل له هذه القراءة أيضاً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ووجه الدلالة فيها عليهما أنها لا قبل تقدير المفعول به، لأن الكذب فى مثل هذا المقام لازم، والمبالغة تكوين الفعل عظيما، أو التكثير إيقاع أفعال كثيرة، ولو أوقعها واحد يقال بين الشىء، أى أظهر ظهوراً عظيما، وموتت البهائم أى كثر موتها، ويجوز كون التشديد من كذب الوحشى، بتشديد الذال، واللزوم بمعنى جرى شوطاً ووقف لينظر ما وراءه فإن المنافق متردد، والمشرك أيضاً قد يكون كذلك، وهو مأخوذ من كذب بالتشديد والتعدى، كان ذلك الوحشى والمنافق والمشرك يكذبون رأيهم وظنهم، ويقال للمتردد، مذبذب.. قال صلى الله عليه وسلم **" مثل المنافق كمثل الشاة العابرة بين الغنمين تغير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة "** ، ويجوز كون الباء للبدلية، أى لهم عذاب أليم جزاء كونهم يكذبون وعوضاً له، ومعناها على الوجه الآخر أنه جزاء ترددهم إذ لم يجزموا، وكان الواجب الجزم بالحق، وفى الآية تحريم الكذب والتكذيب، وتقبيحهما إذا وعد عليهما العذاب الأليم، واختلفوا فى الصور التى قيل بجواز الكذب فيها، فقيل لا يجوز تعمده فيها ولا إرساله بعقله، بل يجوز فيها بقصد المعرضة وهو ما حصلته من كلام الكشاف وأنوار التنزيل، وعليه فتحمل الآثار التى وردت بلفظ جواز الكذب على صورة الكذب لا على حقيقته، لقرينة أن فى المعارض لمندوحة عن الكذب، وقيل يجوز تعمد الكذب فيها بلا تأويل بتعريض، ومن تلك الآثار قوله صلى الله عليه وسلم **" كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاثاً الرجل يكذب فى الحرب فإن الحرب خدعة، والرجل يكذب على المرأة فيرضيها، والرجل يكذب بين الرجلين فيصلح بينهما "** رواه الطبرانى فى الكبير، وقوله صلى الله عليه وسلم **" الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلم أو دفع به عن دين "** رواه الطبرانى فى الأوسط، وبعض قصر ذلك وما أشبهه من الآثار على ظاهرها فقط، وبعض توسع فأجاز كلها فى معنى ذلك، وجعل الحديثين ونحوهما تمثيلا لا حصراً فأجاز الكذب للإنسان يرضى به والده أو والدته ونحوها، وصاحبه ورحمه وجاره، وحيث خاف على دمه أو ماله أو بدنه أو خاف ذلك على غيره، وقيل لا يجوز فى غير ما ورد إلا بمعرضة. وقال فى فتح الجليل الكلام وسيلة إلى المقصود، فكل مقصود محمود إذا أمكن التوصل إليه بالصدق، فالكذب فيه حرام، وإن لم يمكن إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحاً، وواجب إن كان واجباً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
انتهى. والحق أنه لا يجوز فى المباح الذى لم يضطر إليه إلا بتعريض، وهو اللفظ المشار به إلى جانب والغرض جانب آخر، وقيل تضمين الكلام دلالة ليس لها ذكر وهو خلاف التصريح، وسمى تعريضاً لأن فيه إشارة إلى عرض أى جانب أو تعرضاً للمطلوب فى الحقيقة أو إعراضاً عنه بحسب ظاهر اللفظ، وفى حديث الشفاعة لأهل الموقف من رواية البخارى ومسلم **" يقول إبراهيم إنى كذبت ثلاث كذبات "** وذكر قوله فى الكذب**{ هذا ربى }** وقوله**{ بل فعله كبيرهم هذا }** وقوله**{ إنى سقيم }** وفى رواية إثبات قوله لامرأته " قولى للملك إنك أختى " وإسقاط قوله**{ هذا ربى }** وفى رواية كذلك أنه قال للملك " إنها أختى " قال صلى الله عليه وسلم **" ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله "** أى حاول بها عن دين الله، فقال القاضى الحق أن الكلمات الثلاث إنما كانت من معارضة الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استصغاراً لنفسه عن الشفاعة مع وقوعها، لأن من كان أعرف بالله أقرب إليه منزلة كان أعظم خوفاً، والكذب الإخبار عن الشىء بخلاف ما هو به عمداً.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ) | { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضُ } كفر بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم، وعداوته وعداوة المؤمنين، وسره الاعتقاد والجهل، وذلك شبيه بمرض الجسم فى الإيصال إلى مطلق الضر، فإن المضر موجع وقاتل ومانع من التصرف فى المصالح، وما فى قلوبهم مؤد إلى النار مانع من التصرف بأعمال الإسلام، أو يشبه تألم قلوبهم بقوة الإسلام وانتظام أمره بتألمهم بمرض البدن، فسمى التألم مرضاً، وحقيقة المرض حالة خارجة من الطبع ضارة بالفعل لا بالقوة خاصة، والقرينة المشروطة فى المجاز تمنع الحقيقة، ولا يلزم أن تمنع احتمال مجاز آخر. فلك حمل الآية علىهذا التألم، وعلى ما ذكرت قبل { فَزَادَهُمُ } بسبب ذلك المرض { اللهُ مَرَضاً } بما أنزل من القرآن بعد ما كفروا بما أنزل منه قبل، والله يجازى المذنب بالإيقاع فى ذنب آخر، كما يجازى المطبع بالتوفيق إلى طاعة أخرى، وكلما نزلت آية أو وحى كفروا به، لأنه طبع على قلوبهم، وذلك زيادة مرض { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } موجع بفتح الجيم والموجع بفتحها حقيقة هم لا العذاب، لكن أكد شدة العذاب حتى كأنه معذب بفتح الذال، وهذا بليغ، ولا بلاغة فى قولك عذاب موجع، بكسر الجيم، فأليم فعميل بمعنى مفعل بضم الميم وفتح العين، ولك إبقاؤه على ظاهره، أى متوجع بكسر الجيم، ففيه البلاغة { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } أى بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وما مصدرية، وجرت عادتهم بالاكتفاء بالمصدر من خبر كان الذى بعدها، والأصل أن يقال بكونهم يكذبون، ولا حاجة إلى قولك بالتكذيب الذى كانوا يكذبونه النبي صلى الله عليه وسلم، أو يتكذيب يكذبونه صلى الله عليه وسلم على أن ما اسم موصول، أو نكرة موصوفة، والهاء مفعول مطلق.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) | ذكر العلامة ابن عاشور في تفسيره أن الآية استئناف محض لعدّ مساوئ المنافقين، وأجاز أن تكون استئنافا بيانيا لجواب سؤال متعجب مما سمع عن الأحوال التي وصفوا بها من قبل في قوله تعالى { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } ، فإن من يسمع أن طائفة تخادع الله وتخادع المؤمنين - وهم قوم عديدون - وتطمع أن خداعها يبلغها فيهم ما تريد، ولا تشعر بأن ضرر الخداع لاحق بها، يشعر بالعجب ويمتلئ بالاستغراب من شأن هذه الطائفة، وينشأ عن ذلك تساؤل منه كيف خطر ذلك بخواطرها؟ فجاء قوله في قلوبهم مرض بيانا منطويا على جواب هذا التساؤل، وهو أن قلوبهم انحرفت عن وضعها الطبيعي حتى بلغت إلى حد الأفن، ولهذا قدم الظرف وهو في قلوبهم، فإن في التقديم إيماء إلى الاهتمام وهي جديرة به، فإنها منشأ فكرة الخداع، ومن حيث أن المسؤول عنه ما نشأ عنها، كان انطواء الجواب على وصف حالها هو الأليق في مقام الخطاب.
والتعبير بالقلوب عن العقول معهود عند العرب كما تقدم، وتنكير مرض للدلالة على التعظيم.
والمرض: حالة تلم بالبدن فتخرجه عن اعتدال المزاج وصحة الأعضاء، وتؤدي بها إلى اختلال بعض وظائفها وأعمالها، وتعرض الألم لها، ويطلق على نفس الألم الذي هو أظهر آثاره، ويطلق على ما يلم بالنفس فيخل بكمالها ويخرج بها عن اعتدالها من الطبائع المذمومة والأخلاق الفاسدة، وهذا الاطلاق الأخير داخل في ضمن الاستعمال المجازي لهذا اللفظ بجامع أنه في استعماليه مؤد إلى الهلاك.
فالأمراض الجسمية مؤدية إلى هلاك الجسد وفوات المنفعة العاجلة، وهذا المرض النفسي مؤد إلى هلاك الروح وفوات المنفعة الآجلة، والبون بينهما كالبون بين قيمة الجسد والروح، وقدر الحياتين العاجلة والآجلة.
وفسر المرض هنا بالنفاق ابن عباس - رضي الله عنهما - كما رواه ابن جرير عنه. وأخرج عنه وعن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم فسروه بالشك، وروى مثله عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد، وفي رواية عن عبدالرحمن قال هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد.
وهذه الأقوال وإن اختلفت ألفاظها فهي متحدة المعاني، فإن شأن المنافق أن يكون أسير شكه متخبطا في أوهامه، ولا ريب أن الشك ظلمة تخيم على العقل فتحيط به من جوانبه فلا ينفذ له نور إلى ما وراء المشاهدات المحسوسة، ولا يمتد له شعاع إلى ما خلف التكاليف من أسرار وحكم.
وإذا كانت العرب تطلق اسم المرض على الظلمة الحسية كما في قول الشاعر:
| **في ليلة مرضت من كل ناحية** | | **فما يحس بها نجم ولا قمر** |
| --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فإن هذه الظلمة المعنوية التي تتراكم على العقل أجدر بهذا الاطلاق.
وإذا كانت للجسم وظائف لا يتوقف عنها إلا بإلمام المرض الجسدي به؛ فإن توقف العقل عن وظيفته التي هي اكتناه الحقائق، واكتشاف الأسرار من وراء المشاهدات لا ينتج إلا عن إلمام مرض خطير به، وهذا النوع من المرض لا يفقد العقل وظيفته فحسب، بل يجعل وظائف الحواس في حكم المعدوم أيضا لعدم الانتفاع بها، ولذلك يقول الله تعالى في المصابين بهذه الأمراض**{ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ }** [الأعراف: 179].
ويرى الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده أن هذا النوع من المرض واقع فيه جميع أولئك الذين لا يتلقون العقيدة عن نظر وبصيرة، ولكن عن وراثة وتقليد، فإن إيمانهم لا يعدو أن يكون شكليا يجتثه أدنى ما يهب من العواصف، ويزلزله أقل ما يقع من الحركات، لأنه لم يطرق قلوبهم بقوة البرهان ولم يحل مذاقه منهم في الوجدان، فلا تصدر عنه تصرفاتهم في الأعمال لفقده قوة التأثير في نفوسهم.
وذكر أن علاج أمراض هؤلاء هو التمرن على الأعمال الصالحة عن فهم وإخلاص، حتى يحدث لقلوبهم الوجدان الصالح، وهذا لأن أهل اليقين يبعثهم يقينهم على العمل الصالح، وأهل التقليد يُلحقهم دؤوبُهم على صالحات الأعمال بأرباب اليقين في الانتفاع بإيمانهم، والفريق المعني بهذه الآيات، الموصوف بالكذب والخداع، قد فقد الأمرين معا، ولا صحة للقلوب إلا بهما، فمن فقدهما مرض، ولا يلبث مرضه أن يقتله.
ثم ذكر منشأ هذه العلة فقال: ولضعف العقل أسباب: منها ما هو فطري كما هو حال أهل البَلَه والعَتَه، وهو الذي لا يُكلَّف صاحبه ولا يلام.
ومنها ما يكون من فساد التربية العقلية كما هو حال المقلدين الذين لا يستعملون عقولهم، وإنما يكتفون بما عليه قومهم من التقاليد والعادات ولا يعتنون بما أمر الله به من تمزيق هذه الحجب، وإزالة هذه السحب للوقوف على ما وراءها من مخدرات العرفان، ونجوم الفرقان، وشموس الايمان، بل يكتفون بما حكى الله عنهم في قوله:**{ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ }** [الزخرف: 23]، حتى يجيء اليوم الذي يقولون فيه:**{ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ }** [الأحزاب: 67].
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالة ظاهرة وتنبيه بيّن على خطورة هذا الصنف من المرض، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: **" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "** ، فإن جميع منافع الجسد متوقفة على سلامة القلب من الأمراض، فإذا غشيته هذه الأدواء لم تلبث منافع البدن أن تتحول إلى مضار قاتلة، لأن الانحراف النفسي يأتي عليه فيحوله عن طبعه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
هذا وإذا كان جل المفسرين - من السلف والخلف - يرون أن هذا المرض معنوي، فإن طائفة خالفتهم في رأيهم هذا، حيث قالت: إنه كان مريضا حقيقيا ألّم بقلوب أولئك المنافقين مما يشاهدونه من انتشار الاسلام وسرعة أثره في النفوس، واكتساح تياره جميع العقائد الزائغة، والمبادىء الجاهلية الفاسدة، فكانت هذه المشاهدات تعتصر قلوبهم، وتضاعف همومهم، والحسد من شأنه أن يجر الأمراض إلى قلب صاحبه؛ لأن الحسود لا يقر له قرار، وقد كانوا يظنون بالاسلام أنه طفرة سوف تهدأ، وأن تياره عاصفة سوف تتوقف، وأن سوقه مهددة بالكساد، غير أن هذا الظن قد خاب عندما شاهدوه يحرز الانتصارات المتتابعة، ويلحق بأعدائه الهزائم المتلاحقة، ويغرز أعلام النصر في كل مكان، فكان ذلك منشأ ما ألّم بقلوبهم من الآلام.
وبعض المفسرين يرى أن جعل قلوبهم محل المرض من باب التعبير باسم المحل عن الحال، كما قال تعالى { واسأل القرية } ، إذ المرض هو في معتقداتهم التي لابست عقولهم، ومازجت قلوبهم، فإنهم كانوا ينطوون على الشرك وإن أبدوا خلافه.
وذكر الامام ابن عاشور في تفسيره أن النفاق منشأ لثلاثة أنواع من أصول الأمراض النفسانية، وكل أصل منها تنشأ عنه مجموعة من الأمراض الفرعية.
أولها: الكذب القولي، والشاهد عليه من القرآن قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ، وقوله: { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } ، وينشأ عنه الجهل، وإليه الاشارة بقوله تعالى: { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } ، والغباوة، وإليه الاشارة بقوله { وما يشعرون } ، ومن لازم هاتين العلتين قلة الذكاء، لأن الذكي يدرك أنه لو كذب على الناس فإن عقولهم لا تستسيغ كذبه، كما يعلم أن في الناس من هو مثله أو خير منه.
والكذب يعود فكر صاحبه الحقائق المحرفة، وإذا طال استرساله في ذلك اشتبهت عليه ولربما اعتقد ما اختلقه واقعا.
وينشأ كذلك عن هذين الداءين داء آخر وهو السَفَه، وهو خلل في الرأي وأفن في العقل، وإليه الاشارة بقوله تعالى { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ }.
كما يشير قوله سبحانه { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } إلى فساد الرأي الناتج عن السفه.
والجهل من نتائجه الكفر، وإليه الاشارة بقوله تعالى: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }.
والغباوة ينشأ عنها العجب والغرور ويشير إلى الأول قوله تعالى: { أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } ، وإلى الثاني قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }.
ثانيها: الكذب الفعلي؛ وهو الخداع، والشاهد عليه قوله سبحانه: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } ، ويجر إلى أشياء، منها الفساد، وإليه الاشارة بقوله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } ، وعداوة الناس، لأنهم عندما يشعرون بخداعه تتنكر له قلوبهم، وتستوحش منه نفوسهم، ومهما أظهر لهم من دلائل الاخلاص فإنهم لا ينفكون يتوجسون منه خيفة، وإلى ذلك يشير قوله تعالى حاكيا عنهم ما يلقون به شياطينهم: { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } ، وقوله في وصفهم: { لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } ، ومنها نكاية الناس به، لأن الفريقين يتفقان على التوقي منه والنكاية به، وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } ، وعاقبة ذلك كله أمران:
أحدهما: في الدنيا، وهو صيرورته هزأة للناس.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
ثانيهما: في الآخرة، وهو العقاب، وإلى الأول الاشارة بقوله سبحانه: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }؛ أي يجعلهم موضع الهزء، وإلى الثاني الاشارة بقوله: { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
ثالثها: الخوف؛ لأن الكذب والخداع إنما يصدران ممن يتوقى إظهار حقيقة أمره، وذلك لا يكون إلا لخوف ضر أو لخوف إخفاق سعي، وكلاهما مؤذن بقلة الشجاعة والثبات، والثقة بالنفس وبحسن السلوك، ويشير إلى هذه الخصلة قوله سبحانه فيهم:**{ لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ }** [الحشر: 13].
وتتفرع عن الخوف أخلاق متنوعة منها اللؤم، ويشير إليه قوله تعالى: { ويقبضون أيديهم } ، والعزلة عن الناس، وإليها الاشارة بخطابه تعالى لهم: { آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } ، والجبن؛ ويدل عليه قوله سبحانه فيهم: { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } ، وقوله: { لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } ، والتستر، وإليه الاشارة بقوله عز وجل: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ.. } (الآية).
ويتفرع عن اللؤم خون الأمانة والشاهد عليه قوله تعالى فيهم: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } ، ويتفرع عن العزلة جفاء الطبع، ويدل عليه قوله: { أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ }.
وتتفرع عن الجبن المذلة، وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى: { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }.
وينشأ عن التستر دوام الضلال وازدياد النقائص، ويشير الى الأول قوله تعالى: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ، وإلى الثاني قوله: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }.
هذه أمراض النفاق التي استظهرها ابن عاشور ممن نزل في المنافقين من الآيات، وما اعتيد تلبسهم به من الصفات، وقد رتبها في جدول حسب ترتب نشوئها في رأيه - تقريبا لفهم المطالع وتيسيرا لاحاطة القارئ - مع ما قرنه بها من الآيات المومئة إليها، ولست أرتاب - كما لا يرتاب أحد - أن النفاق منطوٍ على هذه الأمراض كلها، بل وعلى أكثر منها، فهو مجمع كل رذيلة، ومنشأ كل فساد، وإنما أرى أن ابن عاشور تكلف في ترتيب نشوئها، فلو سردها سردا لكان أبعد عن التكلف.
كما أنني أرى أنه تجوز في حمل بعض الآيات على الاشارة إلى ما ذكره من هذه الأمراض، بل بعضها أقرب دلالة إلى ما لم يذكره من الصفات، فقوله تعالى - مثلا -: { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } أدل على البخل منه على اللؤم، وإنما دلالته على اللؤم من حيث أنه الأصل للبخل، إذ البخل لا ينشأ إلا عن لؤم الطبع وفساد الفطرة.
ومهما يكن فإن هذا الاستخراج مهم ومفيد في مجموعه، وبما أن النفاق يستر مساوئ صاحبه ويضفي عليها ثوبا مهلهلا من محاسن الأعمال والأقوال الظاهرة، كان مدعاة لنمو الرذائل وزيادة النقائص، لأنها تترعرع بعيدة عن أنظار المربين المصلحين، وتستمر في توالدها حتى تكون كل رذيلة منشأ لرذائل، وكل نقيصة محضنا لنقائص، فلذلك قال الله سبحانه: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
النفاق سبب لزيادة المرض:
إن هذه الزيادة إنما هي نتيجة ما تلبسوا به من قبل، والشاهد عليه العطف بالفاء الموحية بالسببية، وإنما أسندت هذه الزيادة إلى الله لأنه خالق كل شيء، فالتوالد وأسبابه من مخلوقاته، وفي هذا الاسناد ما لا يخفى من التنبيه على خطورة الاسترسال في أعمال النفاق، والانطواء على أدواته الدفينة، فإن من شأن ذلك أن تزداد هذه الأمراض تمكنا في نفس المنافق حتى تستولي عليها وتكون كالشيء الجِبِلِّيِّ فيها، فلا يمكنه الفكاك عنها والتخلص منها.
ومن ناحية أخرى فإن أعمال المنافق داعية لغضب الله عليه وحرمانه من التوفيق ورميه بسهم الخذلان، فيظل بذلك منهمكا في غيّه، سادرا في غفلته، فيتعمق ضلاله ويستفحل داؤه، وفي ضمن هذا التنبيه على خطورة أدواء النفاق تحذير للمؤمنين من ملابسة المنافقين، ولعل في تنكير مرض في الموضعين ما يوحي بما تقدم، إذ ليس ببعيد أن يكون التنوين في الأول للاشعار بالتنويع والتكثير، وفي الثاني للاشعار باختلاف المرض المزيد على المزيد عليه.
وجملة { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } خبرية على الصحيح، معطوفة على قوله { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } حالّة محل الاستئناف للبيان، فلربما كان الحديث عنهم مدعاة للتساؤل عن سبب انهماكهم في الغي واسترسالهم في الفساد، وعدم إجداء الزواجر والنذر فيهم، فكان في هذه الجملة وفيما قبلها جواب عن ذلك يفيد أن حالتهم ناتجة عن مرض في قلوبهم يتضاعف بمرور الأيام تضاعفا مقدرا من الله فلا طمع في تخلصهم منه، وقيل هي جملة إنشائية أريد بها الدعاء عليهم نحو قول الشاعر:
| **تباعد عني فِطحَلٌ إذ دعوته** | | **أمين فزاد الله ما بيننا بعدا** |
| --- | --- | --- |
والمراد بالدعاء هنا الايجاب، لأن الله القادر على كل شيء، المصرف لكل أمر يوجب ولا يدعو.
واعترض ذلك ابن عاشور بأنه خلاف الأصل في العطف بالفاء - يعني عطف الجملة الاعتراضية - وبأن تصدي القرآن لشتمهم ليس من دأبه، وبأن الدعاء عليهم بزيادة الغي ينافي ما عهد من الدعاء للضالّين بالهداية في نحو " اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون ".
وللقائلين بأنها دعائية أن يدفعوا الاعتراض الأول بأن تصدير الجملة الاعتراضية بالفاء معهود عند العرب كما نص عليه صاحب التلويح، ومن شواهده قول الشاعر:
| **واعلم - فعلم المرءِ ينفعه -** | | **أن سوف يأتي كل ما قُدِّرَا** |
| --- | --- | --- |
كما أن لهم أن يدفعوا الاعتراضين الأخيرين بقوله تعالى:**{ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم }** [التوبة: 127]، وقد علمتَ أن الدعاء في كلام الله محمول على الايجاب فلا إشكال.
وفسر ابن مسعود وابن عباس وآخرون من الصحابة - رضوان الله عليهم - المرض الثاني بما فسروا به المرض الأول وهو الشك، وروي نحو ذلك عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة، وفسره عبدالرحمن بن زيد بن أسلم بالرجس، واستدل بقوله تعالى:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** [التوبة: 125]، وفسر الرجس بالشر والضلالة، واستحسن تفسيره ابن كثير وعدّه من باب (الجزاء من جنس العمل)، ونظّره بقوله تعالى:**{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }** [القتال: 17].
وهذا كله لا ينافي ما سبق تفصيله من الأمراض الخلقية الناشئة عن النفاق، فإنها جميعا من جنس الشر والضلالة ولا تتولد إلا في نفس خيّمت عليها ظلمات الشك، وقد ح مل ابن جرير تفسير السلف بزيادة الشك على ما يستجد من شكوكهم كلما نزلت آية، واستشهد له بقوله تعالى: { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }.
وأما على اعتبار المرض حقيقيا، فإن المراد بزيادته تضاعف همومهم، واكتظاظ صدورهم بالحسد الناشئ عن ظهور المؤمنين وارتفاع أعلام الدين وإقبال الناس عليه، وعلى هذا القول فإن إسناد الزيادة إلى الله حقيقي، لأنه هو الذي هيأ أسباب ظهور المؤمنين، ورفع مكانتهم بين العالمين، وأظهر دينهم على كل دين، فأمرض بذلك قلوب أعدائهم المنافقين.
وإنما قال سبحانه: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } ولم يقل " فزاد قلوبهم مرضا " مع قوله من قبل { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } الدال على أن القلوب هي وعاء هذا المرض، لأن مرض القلب مرض سائر الجسد كما يدل عليه حديث **" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله "** ، أو لأن القلب من حيث إنه مصدر العواطف ومنبع الوجدان ومرتبط بالجنان كانت إنسانية الانسان لا تتحقق إلا به، فلذلك أعيد الضمير إليهم بدلا من إعادته إلى قلوبهم.
وبعد أن أخبر سبحانه بسوء حالهم في الدنيا بيّن شر مآلهم في الآخرة بقوله: { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } ، وهو معطوف على قوله { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } ، وبهذا العطف تكمل فائدة البيان عنهم بما فيه من الاخبار عما ينتظرهم في الدار الآخرة نتيجة ما قدموه في الدنيا، وهل يحصد الانسان إلا ما زرع؟
وقد تقدم معنى العذاب، ووصفه هنا بأنه أليم لأجل تأكيد مدلوله، فإن العذاب لا يكون إلا أليما، ولكن يتفاوت ألمه بتفاوت قدره، والأليم بمعنى المؤلم كالبصير بمعنى المبصر، وزنة فعلهما جميعا أفعل، وذهب الزمخشري إلى أن { أليما } مأخوذ من أَلِمَ اللازم لا من آلم المتعدي، فهو فعيل بمعنى فاعل، وحمل وصف العذاب به على نحو تحية بينهم ضرب وجيع، وهذا على طريقة قولهم جدّ جِدّه، حيث أسند فيه الفعل إلى الجد - وهو مصدر - وحقيقته للجاد فإسناد الألم إلى العذاب وهو للمعذَّب، وإسناد الوجع إلى الضرب وهو للمضروب، كلاهما من هذا الباب، وتابع الزمخشري على رأيه هذا جماعة من المفسرين كالسيد الجرجاني وأبي السعود والقطب في الهيميان والتيسير.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والرأي الأول أبعد عن تكلف التأويل، على أنه حمل بعضهم (وجيع) في البيت على حقيقته وجعله بمعنى موجع على البناء للفاعل، ومجيء فعيل بمعنى مُفْعِل مشهور في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:
| **أمن ريحانة الداعي السميع** | | **يؤرقني وأصحابي هجوع** |
| --- | --- | --- |
وجاء في شعر ذي الرمة أليم بمعنى مؤلم في قوله:
| **ونرفع من صدور شمردلات** | | **يصك وجوهها وهج أليم** |
| --- | --- | --- |
فإن كون الوهج أليما بمعنى مؤلم فيه مما لا يحتاج إلى بيان، وكذلك السميع بمعنى مُسمِع في البيت الذي قبله، إذ الداعي يوصف بأنه مُسمِع - على زنة اسم الفاعل - لا مُسمَع - على زنة اسم المفعول -، وبهذا يتضح لك أن إنكار الزمخشري في تفسير قوله تعالى { بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } ، مجيء فعيل بمعنى مُفْعِل - على وزن اسم الفاعل - ليس بشيء، وقد تكلف تأويل بديع السماوات بمعنى مُبدَعة سماواته، وتابعه السيد وأبو السعود، إذ أحالا ما هنا على ما جاء في تفسير { بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ }.
وأنت تدري أنه إذا جاز - ولو على بعد - حمل { بديع السماوات } على معنى مُبدَعة سماواته، فإن حمل حكيم على غير معنى مُحْكِم يكاد يكون متعذرا، وفي هذا ما يكفي دحضا لمقالة الزمخشري ومن تابعه بأن فعيلا لا يكون بمعنى مفعل بالكسر، وليت شعري ماذا عساهم يقولون في اتصاف الله بأنه بصير؟
ويؤيد الرأي الذي اخترته أنه قال به مفسرو السلف كالضحاك والربيع بن أنس، وعليه عول ابن جرير والقرطبي، وذكر ابن عاشور في تفسيره أن مجيء فعيل بمعنى مفعِل كثير في الكلام البليغ، وإنما اختلف في جواز القياس عليه، واختار أن منع القياس عليه للمولَّدين لم يُقصد منه إلا التباعد عن مخالفة القياس بدون داع لئلا يلتبس حال الجاهل بحال البليغ، وأنه لا مانع من تخريج الكلام الفصيح عليه.
وإذا كان هذا الوعيد هنا منصبا على المنافقين بسبب نفاقهم، فلا مانع أن يكونوا داخلين أيضا في عموم وعيد الكفار بقوله تعالى { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } ، فإن المنافقين جمعوا بين الكبيرتين، الكفر وخداع المؤمنين، فكانوا أحرياء بالوعيدين، فلهم عذاب عظيم على كفرهم، ولهم عذاب أليم على خداعهم.
صحة قراءتي " يُكَذِّبون ":
واختلف في قراءة " يكذبون " فحمزة والكسائي وعاصم قرأوها بالتخفيف من الكَذِبْ، ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر قرأوها بالتثقيل من التَّكذيب، وما أجدر المنافقين بوعيد الكاذبين والمكذبين لجمعهم بين صفتيهم واتصافهم بمساوئهم غير أن ابن جرير - كعادته في انتقاد ما لا يعجبه من القراءات - خطّأ قراءة التثقيل ظانّا أن الذين قرأوا بها لا يرون الكذب من غير تكذيب يوجب شيئا من العذاب فضلا عن كونه أليما، وأطال في الرد عليهم، واستدل لتصحيح قراءة التخفيف بأنها تتفق مع السياق، فإن قصة المنافقين صُدِّرت بقول الله عز وجل { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ، وهو دال على كذبهم، فالوعيد على ما سبق ذكره من الكذب أولى من أن يكون على التكذيب الذي لم يذكر، كما استدل لذلك بما وُصف به المنافقون من الكذب في غير هذه الآيات، كقوله سبحانه في سورتهم:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }** [المنافقون: 1 - 2]، وقوله في سورة المجادلة:**{ ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ }** [المجادلة: 16]، فإن ذلك كله يفيد اتصافهم بالكذب ووعيدهم عليه دون التكذيب.
ولا زلت أستغرب من جرأة ابن جرير على انتقاد ما تواتر من القراءات كأنها مجرد آراء لأصحابها، وليست روايات متواترة النقل عن المعصوم، على أن ابن جرير من أولي الخبرة في الروايات وما يتصل بها، فكيف سمحت له نفسه أن يخطّىء قراءة ثبت نقلها بالتواتر عن إمام الهداة وأفصح العرب وأعلم الخلق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس ما احتج به صالحا للاستناد عليه؟!
أما ما قاله من أن قراءة التثقيل لا تقتضي الوعيد إلا على التكذيب دون الكذب، فما هو إلا وهم اصطبغ به ذهنه فحال بينه وبين درك المراد، فإن الوعيد على الشيء لا يعني عدم الوعيد على غيره، والمنافقون متلبسون بالكذب والتكذيب، فلا غرو إذا تُوُعِدوا على الكذب تارة، وعلى التكذيب أخرى، وليس في وعيدهم على أحد الأمرين ما ينافي الوعيد على الآخر، وأنت إذا تدبرت لم تجد فارقا معنويا بين كذبهم وتكذيبهم، فإن دعواهم الايمان بألسنتهم محض كذب وخلو قلوبهم منه هو عين التكذيب بما يجب الايمان به.
وأما ما ذكره من اقتضاء السياق وعيدهم على الكذب الذي سبق ذكره لا على التكذيب الذي لم يكن له ذكر، وتعزيز ذلك بأن المنافقين وُصفوا بالكذب وتوعدوا عليه في سائر السور، فهو مدفوع بما علمت من أن كذبهم ينطوي على التكذيب، كيف والايمان نفسه أهم عناصر التصديق، بل هو حقيقته اللغوية؟ فقوله سبحانه { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ، يفيد أنهم من المكذبين، وكذلك رده عليهم في سورة المنافقون ما حكاه عنهم من قولهم { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } ، بقوله: { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } ، يفيد أنهم مكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه، فأي غرابة مع ذلك إذا توعدوا على التكذيب.
وجوّز الزمخشري أن يكون المشدد دالا على ما يدل عليه المخفف مع المبالغة، كما يقال بيّن الشيء بمعنى بان، وصدّق بمعنى صدق، وموتت الإِبل بمعنى ماتت، كما جوّز أن يكون من كذّب الوحش إذا جرى ووقف لينظر ما وراءه، وتلك حالة المتحير كما هو شأن المنافق الذي دل عليه حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عند مسلم والنسائي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة "** ، وزاد النسائي **" لا تدري أيهما تتبع "** ، ووافق الزمخشري على هذين التأويلين لقراءة التشديد السيد الجرجاني وأبو السعود والألوسي، ولست أرى ما يدعو إلى هذه التأويلات القاصية عن الأفهام مع وجود ما يغني عنها من المعنى القريب الذي يمكن أن تحمل عليه القراءة بدون تكلف.
عواقب الكذب وخيمة وهو مشتمل على الكفر:
ولعل تساؤلا يخطر لبعض الناس عن سبب توعدهم على الكذب دون الكفر مع أن الكفر بالله ورسله أكبر الكبائر، وأترك الإِجابة عنه لفيلسوف الإِسلام الإِمام محمد عبده حيث قال: " إن الكفر داخل في هذا الكذب، وإنما اختير لفظ الكذب في التعبير للتحذير عنه وبيان فظاعته وعظم جرمه، ولبيان أن الكفر من مشتملاته وينتهي إليه في غاياته، ولذلك حذر القرآن منه أشد التحذير، وتوعد عليه أسوأ الوعيد، وما فشا الكذب في قوم إلا فشت فيهم كل جريمة وكبيرة، لأنه ينشأ من دناءة النفس وضعف الحياء والمروءة، ومن كان كذلك لا يترك قبيحا إلا بالعجز عنه، نعوذ بالله تعالى من عمله ومنه ".
وما أحرى الكذب بالوعيد، وما أجدره بالتحذير منه، فإنه عش الرذيلة، وسم الفضيلة، وديدن الأنذال، وشعار الفجار، ولذلك تجد التحذير منه والتنفير عنه في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم شديدا بالغا، من ذلك ما أخرجه الترمذي عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" إذا كذب العبد تباعد عنه الملك ميلا من نتن ما جاء به "** ، وأخرج أبو داود عن سفيان بن أسيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت له به كاذب "** ، وأخرج مسلم وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع "** ، وفي هذا ما لا يخفى على ذي بال من وجوب الحيطة في الحديث وعدم التسرع في نقل ما يسمع من الكلام؛ خشية الوقوف في الإِفك والإِسهام في نشره.
وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم مما يدور في مجالس التسلية عند عوام الناس من أحاديث لا أصل لها، لقصد الإِبداع في النكتة وإثارة استغراب السامعين وحملهم على الضحك، فقد أخرج أبو داود والترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" ويل للذي يحدّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له "** ، ونفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المؤمن صفة الكذب، فقد أخرج مالك في الموطأ عن صفوان بن سليم - رضي الله عنه -، قال: **" " قلنا يا رسول الله؛ أيكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم، قيل له: أيكون بخيلا؟ قال: نعم. قيل: أيكون كذابا؟ قال: لا " "** ، ذلك لأن الجبن خلقة جبلية في الجبان، فلذلك لم يناف الايمان، وحب المال أمر مركوز في نفس البخيل غير أن الإِيمان يُغَلِّبه على هذا الطبع، فلا يحول بينه وبين إيتاء الزكاة، وأداء سائر الواجبات المالية، أما الكذب فإنه ينشأ عن اختيار صاحبه، وتعويد لسانه عليه، فلذلك لم يكن يجامع الايمان، وجاء في حديث مرفوع عند أحمد وغيره **" يُطبع المؤمن على جميع الخلال ليس الخيانة والكذب "** ، وقد تقدم ما يدل على أن الكذب من خصال النفاق وصفات المنافق في الأحاديث التي أوردناها عن ابن مسعود وأبي هريرة وعبدالله بن عمرو بن العاص في علامة المنافق وخصال النفاق.
والكذب إذا اعتاده الانسان لم يلبث أن يتحول إلى سجية لا ينفك عنها، كما هو شأن الكذابين الذين خبرناهم وعرفنا عنهم الكثير من مساوئ الأعمال وقبائح الخصال، وهو الذي يعنيه حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - الذي رواه الشيخان من طريقه مرفوعا: **" إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صدّيقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ".** وقد جاء وعيد الكذابين في أحاديث متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حديث رؤيا منامه صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان الكذب لا ينشأ إلا عن فساد الفطرة، فإنه لا يجد له مناخا إلا في البيئة التي تسودها الرذيلة وتتقلص منها الفضيلة، وفي مثلها لا يكاد الانسان يثق بمحدث ولا يطمئن إلى حديث، بخلاف بيئة المؤمنين الصالحين، ففيها يطمئن الانسان إلى الحديث ويرتاح إليه، ويثق بمحدثه ويعول عليه.
تعريف الكذب:
وقبل أن أغادر هذا الموضوع أرى من الملائم أن أكمل الفائدة بذكر بعض ما قيل في تعريف الكذب:
فهو عند الجمهور الإِخبار عن الشيء بخلاف الواقع، وبناء على هذا الرأي فإن الكذب الملوم عليه هو ما صدر عن قصد ويمكن الخطأ فيه، وهو عند النظام الإِخبار عن الشيء بخلاف معتقد القائل فيه، وعند الجاحظ ما خالف الواقع والاعتقاد.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سبب إمهال الرسول صلى الله عليه وسلم المنافقين:
هذا وقد يتساءل من يسمع قصة المنافقين ومعاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم عن السبب في إمهالهم وترك قتلهم مع ظهور أمرهم وانكشاف سرهم بشواهد حالهم، وما كان ينزل فيهم من آيات القرآن شارحا لأحوالهم ومشيرا إلى ما يشخصهم من الصفات؟ وقد أجيب عن هذا التساؤل بأربعة أجوبة:
أولها: أن حالهم لم يكن مكشوفا لعامة الناس، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده يعرف حقيقة أمرهم، وليس للحاكم أن يقتل بعلمه باتفاق، وإن أجاز له بعض العلماء الحكم بعلمه فيما دون القتل، واعترض هذا الجواب ابن العربي في أحكام القرآن بأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل الحارث بن سويد بن الصامت لقتله المجذر بن زياد غيلة يوم أحد لأن المجذر قتل أباه سويدا يوم بعاث، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بأمره فقتله به، ورد القرطبي هذا الاعتراض بأن الإِجماع إن ثبت لا يَنْقُضُهُ ما ذكر فإن انعقاد الإِجماع لا يكون إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، ولا يبعد أن تكون هذه القضية واقعة حال أو منسوخة بالإِجماع.
ثانيها: أن ترك قتلهم لأن الزنديق - وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإِيمان - يستتاب ولا يقتل، أجاب به بعض أصحاب الشافعي، ووهّنه ابن العربي بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتبهم إذ لم يرو ذلك أحد عنه، وكان يعرض عنهم ولا يتعرض لهم مع علمه بهم.
ثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم كف عنهم رعاية لمصلحة الأمة والدين، فقد كان يخشى لو تعرض لهم أن ينفر عنه قلوبا هو أحوج إلى تأليفها، وإلى ذلك يشير جوابه صلى الله عليه وسلم لعمر - رضي الله عنه - حيث قال له: **" معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي "** رواه الشيخان. ومثل ذلك إعطاؤه صلى الله عليه وسلم للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم، ونسب هذه الاجابة القرطبي إلى علماء المالكية، وبمثله يوحي كلام ابن عطية، وذكر أنه ممن نص على ذلك من أصحاب مالك محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون، واستُدِلّ لذلك بقوله تعالى:**{ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً }** [الأحزاب: 60 - 61]، فإن ذلك منوط بإعلانهم النفاق كما قال قتادة.
وهذا ينافي ما روي عن مالك وبعض المالكية أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه، إذ لم يُشهد على المنافقين، وهذا يتفق مع الجواب الأول.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | |
| --- | --- | --- | --- |
وذكر القاضي إسماعيل أن عبدالله بن أبيّ لم يشهد عليه إلا زيد بن أرقم، وكذلك لم يشهد على الجُلاس بن سويد إلا ربيبه عمير بن سعد، ولو شهد على أحدهما رجلان بكفره ونفاقه لقتل، وروي عن مالك: " النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، فيُقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة " وهو أحد قولي الشافعي.
واحتج الشافعي للقول الآخر بأن السنة فيمن شُهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن الايمان وتبرأ من كل دين سوى الاسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه، فإن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين لما كانوا يظهرونه من الاسلام مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يَجُبُّ ما قبله، وبهذا القول قال أصحاب الرأي وأحمد والطبري وآخرون.
ولا يُسلم للشافعي أن السنة فيمن شهد عليه بالنفاق فتبرأ مما نُسب إليه أن يمسك عن قتله لأن المنافقين في عهده صلى الله عليه وسلم كانوا محتاطين لأنفسهم فلا يبوحون بما يقطع بكفرهم عند من تقوم عليهم بهم الحجة من المؤمنين، وإن استُدل على طواياهم بفلتات ألسنتهم وقرائن أحوالهم، فليس في ذلك ما يعد بينة يصح بها القتل.
واستدل الطبري لما ذهبوا إليه بتكذيب الله تعالى ظواهر المنافقين في قوله: { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } ، وتعقبه ابن عطيه بأن للمالكية أن ينفصلوا عما ألزموا بهذه الآية بأنها لم تعين أشخاصهم، وإنما توبيخها يشمل كل مغموص عليه بالنفاق، وبقي لكل واحد منهم أن يتخلص بدعوى أنه لم يُرَد بها وأنه مؤمن، ولو عُيِّن أحد لما جبّ كذبه شيئا، وتعقب القرطبي هذا التعقب بأن هذا الانفصال فيه نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أو يعلم كثيرا منهم بأسمائهم وأعيانهم بإعلام الله تعالى إياه، وكان حذيفة - رضي الله عنه - يعلم ذلك بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم له، حتى أن عمر - رضي الله تعالى عنه - كان يشفق أن يكون منهم، فيقول له: يا حذيفة؛ هل أنا منهم؟ فيقول له: لا.
هذا وقد سبق ما يدلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحيط علما بجميع المنافقين، وإنما يعرف بعضهم بإخبار الله عنهم أو بتشخيص الوحي لأحوالهم.
رابعها: أن ترك قتلهم للأمن من شرهم، فإن الله قد حفظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من إفساد المنافقين دينهم، بخلاف الأجيال التي جاءت من بعدهم فلا يؤمن عليها من شر أهل النفاق ومكائدهم.
وفي هذا الجواب نظر لا يخفى على من أمعن في آي القرآن، ودرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكم حاول المنافقون أن يثبطوا المؤمنين عن الجهاد، ويشيعوا فيهم روح الهزيمة، كما هو واضح فيما نزل في غزوة أحد من سورة آل عمران، وما نزل في غزوة تبوك من سورة التوبة، وبهذا يتضح أن أولى الأجوبة بالصواب هو الجواب الأول، ولا يمنع ذلك أن تضم إليه حكمة مراعاة المصلحة بتأليف القلوب، وتجنب ما ينفرها كما ذكر في الجواب الثالث.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| 10 | 11 | 12 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) | المرض بفتح الراء كما قرأ الجمهور، وبسكونها كما قرأ الأصمعي عن أبـي عمر وعلى ما ذهب إليه أهل اللغة حالة خارجة عن الطبع ضارة بالفعل، وعند الأطباء ما يقابل الصحة وهي الحالة التي تصدر عنها الأفعال سليمة، والمراد من الأفعال ما هو متعارف وهي إما طبيعية كالنمو أو حيوانية كالنفس أو نفسانية كجودة الفكر، فالحول والحدب مثلاً مرض عندهم دون أهل اللغة وقد يطلق المرض لغة على أثره وهو الألم كما قاله جمع ممن يوثق بهم، وعلى الظلمة كما في قوله:
| **في ليلة مرضت من كل ناحية** | | **فما يحس بها نجم ولا قمر** |
| --- | --- | --- |
وعلى ضعف القلب وفتوره كما قاله غير واحد ويطلق مجازاً على ما يعرض المرء مما يخل بكمال نفسه كالبغضاء والغفلة وسوء العقيدة والحسد وغير ذلك من موانع الكمالات المشابهة لاختلال البدن المانع عن الملاذ والمؤدية إلى الهلاك الروحاني الذي هو أعظم من الهلاك الجسماني، والمنقول عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وسائر السلف الصالح حمل المرض في الآية على المعنى المجازي. ولا شك أن قلوب المنافقين كانت ملأى من تلك الخبائث التي منعتهم مما منعتهم وأوصلتهم إلى الدرك الأسفل من النار. ولا مانع عند بعضهم أن يحمل المرض أيضاً على حقيقته الذي هو الظلمة**{ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }** [النور: 40]**{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِ }** [البقرة: 257] وكذا على الألم فإن في قلوب أولئك ألماً عظيماً بواسطة شوكة الإسلام وانتظام أمورهم غاية الانتظام، فالآية على هذا محتملة للمعنيين ونصب القرينة المانعة في المجاز إنما يشترط في تعيينه دون احتماله فإذا تضمن نكتة ساوى الحقيقة فيمكن الحمل عليهما نظراً إلى الأصالة والنكتة إلا أنه يرد هنا أن الألم مطلقاً ليس حقيقة المرض بل حقيقته الألم لسوء المزاج وهو مفقود في المنافقين والقول بأن حالهم التي هم عليها تفضي إليه في غاية الركاكة على أن قلوب أولئك لو كانت مريضة لكانت أجسامهم كذلك أو لكان الحِمام عاجلهم ويشهد لذلك الحديث النبوي والقانون الطبـي، أما الأول: فلقوله صلى الله عليه وسلم: **" إن في الجسد مضغة "** الحديث، وأما الثاني: فلأن الحكماء بعد أن بينوا تشريح القلب قالوا إذا حصلت فيه مادة غليظة فإن تمكنت منه ومن غلافه أو من أحدهما عاجلت المنية صاحبه وإن لم تتمكن تأخرت الحياة مدة يسيرة ولا سبيل إلى بقائها مع مرض القلب، فالأولى دراية ورواية حمله على المعنى المجازي ـ ومنه الجبن والخور ـ وقد داخل ذلك قلوب المنافقين حين شاهدوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ما شاهدوا.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
والتنوين للدلالة على أنه نوع غير ما يتعارفه الناس من الأمراض، ولم يجمع كما جمع القلوب لأن تعداد المحال يدل على تعداد الحال عقلاً فاكتفى بجمعها عن جمعه.
والجملة الأولى إما مستأنفة لبيان الموجب لخداعهم وما هم فيه من النفاق أو مقررة لما يفيده**{ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }** [البقرة: 8] من استمرار عدم إيمانهم أو تعليل له كأنه قيل: ما بالهم لا يؤمنون؟ فقال: في قلوبهم مرض يمنعه أو مقررة لعدم الشعور وإن كان سبيل قوله:**{ وَمَا يَشْعُرُونَ }** [البقرة: 9] سبيل الاعتراض على ما قيل وجملة { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } إما دعائية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه والمعترضة قد تقترن بالفاء كما في قوله:
| **واعلم فعلم المرء ينفعه** | | **أن سوف يأتي كلما قدرا** |
| --- | --- | --- |
كما صرح به في «التلويح» وغيره نقلاً عن النحاة أو إخبارية معطوفة على الأولى وعطف الماضي على الإسمية لنكتة إن أريد في الأولى أن ذلك لم يزل غضاً طرياً إلى زمن الإخبار، وفي الثانية أن ذلك سبب لازدياد مرضهم المحقق إذ لولا تدنس فطرتهم لازدادوا بما منّ الله تعالى به على المؤمنين شفاء ولا يتكرر هذا مع قوله تعالى:**{ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ }** [البقرة: 15] للفرق بين زيادة المرض وزيادة الطغيان على أنه لا مانع من زيادة التوكيد مع بعد المسافة، وأيضاً الدعاء إن لم يكن جارياً على لسان العبد أو مراداً به مجرد السب والتنقيص يكون إيجاباً منه سبحانه فيؤول إلى ما آل إليه الإخبار وزيادة الله تعالى مرضهم إما بتضعيف حسدهم بزيادة نعم الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أو ظلمة قلوبهم بتجدد كفرهم بما ينزله سبحانه شيئاً فشيئاً من الآيات والذكر الحكيم فهم في ظلمات بعضها فوق بعض أو بتكثير خوفهم ورعبهم المترتب عليه ترك مجاهرتهم بالكفر بسبب/ إمداد الله تعالى الإسلام ورفع أعلامه على أعلام الإعزاز والاحترام، أو بإعظام الألم بزيادة الغموم وإيقاد نيران الهموم:
| **والغم يخترم النفوس نحافة** | | **ويشيب ناصية الصبـي ويهرم** |
| --- | --- | --- |
ويكون ذلك بتكاليف الله تعالى لهم المتجددة وفعلهم لها مع كفرهم بها وبتكليف النبـي صلى الله عليه وسلم لهم ببعض الأمور وتخلفهم عنه الجالب لما يكرهونه من لومهم وسوء الظن بهم فيغتمون إن فعلوا وإن تركوا ونسبة الزيادة إلى الله تعالى حقيقة ولو فسرت بالطبع فإنه سبحانه الفاعل الحقيقي بالأسباب وبغيرها ولا يقبح منه شيء، وبعضهم جعل الإسناد مجازاً في بعض الوجوه ولعله نزغة اعتزالية، وأغرب بعضهم فقال: الإسناد مجازي كيفما كان المرض، وحمل على أن المراد أنه ليس هنا من يزيدهم مرضاً حقيقة على رأي الشيخ عبد القاهر في أنه لا يلزم في الإسناد المجازي أن يكون للفعل فاعل يكون الإسناد إليه حقيقة مثل:
| **يزيدك وجهه حسنا** | | **إذا ما زدته نظراً** |
| --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
فتدبر، وإنما عدى سبحانه الزيادة إليهم لا إلى القلوب فلم يقل فزادها إما ارتكاباً لحذف المضاف ـ أي فزاد الله قلوبهم مرضاً ـ أو إشارة إلى أن مرض القلب مرض لسائر الجسد أو رمزاً إلى أن القلب هو النفس الناطقة ولولاها ما كان الإنسان إنساناً وإعادة مرض منكراً لكونه مغايراً للأول ضرورة أن المزيد يغاير المزيد عليه، وتوهم من زعم أنه من وضع المظهر موضع المضمر، والتنكير للتفخيم، والأليم فعيل من الألم بمعنى مفعل كالسميع بمعنى مسمع، وعلى ما ذهب إليه الزمخشري من ألم الثلاثي كوجيع من وجع، وإسناده إلى العذاب مجاز على حد جد جده، ولم يثبت عنده فعيل بمعنى مفعل وجعل**{ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَاتِ }** [البقرة: 117] من باب الصفة المشبهة أي بديعة سمٰواته، وسميع في قوله:
| **أمن ريحانة الداعي السميع** | | **يؤرقني وأصحابـي هجوع** |
| --- | --- | --- |
بمعنى سامع ـ أي أمن ريحانة داع من قلبـي سامع لدعاء داعيها ـ بدليل ما بعده فإن أكثر القلق والأرق إنما يكون من دواعي النفس وأفكارها فعلى هذا يكون تفسيره بمؤلم اسم فاعل بيان لحاصل المعنى، وقد أخرج ابن أبـي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل شيء في القرآن أليم فهو موجع، وقد جمع للمنافقين نوعان من العذاب، عظيم وأليم، وذلك للتخصيص بالذكر هنا والاندراج مع الكفار هناك؛ قيل: وهذه الجملة معترضة لبيان وعيد النفاق والخداع.
والباء إما للسببية أو للبدلية و(ما) إما مصدرية مؤولة بمصدر كان إن كان أو بمصدر متصيد من الخبر كالكذب وإما موصولة، واستظهره أبو البقاء بأن الضمير المقدر عائد على ما أورده في «البحر» بأنه لا يلزم أن يكون ثم مقدر بل من قرأ (يكذبون) بالتخفيف وهم الكوفيون فالفعل غير متعد ومن قرأ بالتشديد كنافع وابن كثير وأبـي عمر فالمفعول محذوف لفهم المعنى والتقدير بكونهم يكذبون النبـي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف للمبالغة في الكيف كما قالوا في بان الشيء وبين، وصدق وصدق وقد يكون التضعيف للزيادة في الكم كموتت الإبل ويحتمل أن يكون من كذب الوحش إذا جرى ووقف لينظر ما وراءه، وتلك حال المتحير وهي حال المنافق ففي الكلام حينئذٍ استعارة تبعية تمثيلية أو تبعية أو تمثيلية ويشهد لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: **" مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة "** والجار والمجرور صفة لعذاب لا لأليم كما قاله أبو البقاء لأن الأصل في الصفة أن لا توصف.
والكذب هو الإخبار عن الشيء النسبة أو الموضوع على خلاف/ ما هو عليه في نفس الأمر عندنا، وفي الاعتقاد عند النظام، وفيهما عند الجاحظ، وكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه فإن لم يمكن إلا بالكذب فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً وواجب إن كان واجباً، وصرح في الحديث بجوازه في ثلاث مواطن، في الحرب، وإصلاح ذات البين، وكذب الرجل لامرأته ليرضيها ولا حصر ولهذا جاز تلقين الذين أقروا بالحدود الرجوع عن الإقرار فينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب والمفسدة المترتبة على الصدق فإن كانت المفسدة في الصدق أشد ضرراً فله الكذب وإن كان عكسه أو شك حرم عليه، فما قاله الإمام البيضاوي عفا الله تعالى عنه من أن الكذب حرام كله يوشك أن يكون مما سها فيه.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
وفي الآية تحريض للمؤمنين على ما هم عليه من الصدق والتصديق فإن المؤمن إذا سمع ترتب العذاب على الكذب دون النفاق الذي هو هو تخيل في نفسه تغليظ اسم الكذب وتصور سماجته فانزجر عنه أعظم انزجار، وهذا ظاهر على قراءة التخفيف ويمكن في غيرها أيضاً لأن نسبة الصادق إلى الكذب كذب، وكذا كثرته وإن تكلف في المعنى الأخير، وقيل: إنه مأخوذ من كذب المتعدي كأنه يكذب رأيه فيقف لينظر لكن لما كثر استعماله في هذا المعنى وكانت حالة المنافق شبيهة بهذا جاز أن يستعار منه لها أمكن على بعد بعيد ذلك التحريض، ولا يرد على تحريم الكذب في بعض وجوهه ما روي في حديث الشفاعة عن إبراهيم عليه السلام أنه يقول: «لست لها إني كذبت ثلاث كذبات» وعنى كما في رواية أحمد**{ إِنّى سَقِيمٌ }** [الصافات: 98] و**{ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ }** [الأنبياء: 63]. وقوله للملك في جواب سؤاله عن امرأته سارة: هي أختي حين أراد غصبها، وكان من طريق السياسة التعرض لذات الأزواج دون غيرهن بدون رضاهن فإنها إن كانت من الكذب المحرم فأين العصمة وهو أبو الأنبياء؟! وإن لم تكن كذلك فقد أخبر يوم القيامة بخلاف الواقع وحاشاه حيث إن المفهوم من ذلك الكلام أني أذنبت فأستحي أن أشفع، وهي يستحي مما لا إثم فيه ولقوة هذه الشبهة قطع الرازي بكذب الرواية صيانة لساحة إبراهيم عليه السلام لأنا نقول إن ذلك من المعاريض، وفيها مندوحة عن الكذب، وقد صدرت من سيد أولي العصمة صلى الله عليه وسلم كقوله مما في حديث الهجرة، وتسميته كذباً على سبيل الاستعارة للاشتراك في الصورة فهي من المعاريض الصادقة كما ستراه بأحسن وجه إن شاء الله تعالى في موضعه لكنها لما كانت مبنية على لين العريكة مع الأعداء، ومثله ممن تكفل الله تعالى بحمايته يناسبه المبارزة ـ فلعدوله عن الأولى بمقامه ـ عد ذلك في ذلك المقام ذنباً وسماه كذباً لكونه على صورته، وما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام من ذلك لم يقع في مثل هذا المقام حتى يستحيى منه فلكل مقام مقال، على أنا نقول إنها لو كانت كذباً حقيقة لا ضرر فيها ولا استحياء منها، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم:
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
**" ما منها كذبة إلا جادل بها عن دين الله تعالى فهي من الكذب المباح "** لكن لما كان مقام الشفاعة هو المقام المحمود المخبوء للحبيب لا الخليل أظهر الاستحياء للدفع عنه بما يظن أنه مما يوجب ذلك وهو لا يوجبه. وفي ذلك من التواضع وإظهار العجز والدفع بالتي هي أحسن مما لا يخفى فكأنه قال: أنا لا آمن من العتاب على كذب مباح فكيف لي بالشفاعة لكم في هذا المقام فليحفظ.
ثم إن الإتيان بالأفعال المضارعة في أخبار الأفعال الماضية الناقصة أمر مستفيض ـ كأصبح يقول كذا، وكادت تزيغ قلوب فريق منهم ـ ومعناه أنه في الماضي كان مستمراً متجدداً بتعاقب الأمثال والمضي والاستقبال بالنسبة لزمان الحكم، وقد عد الاستمرار من معاني (كان) فلا إشكال في { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } حيث دلت (كان) على انتساب الكذب إليهم في الماضي ويكذبون على انتسابه في الحال والاستقبال/ والزمان فيهما مختلف ودفعه بأن (كان) دالة على الاستمرار في جميع الأزمنة ويكذبون دل على الاستمرار التجددي الداخل في جميع الأزمنة على علاته يغني الله تعالى عنه. وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ووافقه ابن ذكوان في إمالة جاء وشاء وزاد هذه، وعنه خلاف في زاد غيرها، والإمالة لتميم والتفخيم للحجاز. وقد نظم أبو حيان تلك العشرة فقال:
| **وعشرة أفعال تمال لحمزة** | | **فجاء وشاء ضاق ران وكملا** |
| --- | --- | --- |
| **بزاد وخاب طاب خاف معاً وحا** | | **ق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا** |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
| --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) | استئناف محض لعَدِّ مساويهم ويجوز أن يكون بيانياً لجواب سؤال متعجب ناشىء عن سماع الأحوال التي وصفوا بها قبل في قوله تعالى**{ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون }** البقرة 9 فإن من يسمع أن طائفة تخادع الله تعالى وتخادع قوماً عديدين وتطمع أن خداعها يتمشى عليهم ثم لا تشعر بأن ضرر الخداع لاحق بها لطائفة جديرة بأن يتعجب من أمرها المتعجب ويتساءل كيف خطر هذا بخواطرها فكان قوله { في قلوبهم مرض } بياناً وهو أن في قلوبهم خللاً تزايد إلى أن بلغ حد الأفن. ولهذا قدم الظرف وهو { في قلوبهم } للاهتمام لأن القلوب هي محل الفكرة في الخداع فلما كان المسؤول عنه هو متعلقها وأثرها كان هو المهتم به في الجواب. وتنوين { مرض } للتعظيم. وأطلق القلوب هنا على محل التفكير كما تقدم عند قوله تعالى**{ ختم الله على قلوبهم }** البقرة 7. والمرض حقيقة في عارض للمزاج يخرجه عن الاعتدال الخاص بنوع ذلك الجسم خروجاً غير تام وبمقدار الخروج يشتد الألم فإن تم الخروج فهو الموت، وهو مجاز في الأعراض النفسانية العارضة للأخلاق البشرية عروضاً يخرجها عن كمالها، وإطلاق المرض على هذا شائع مشهور في كلام العرب، وتدبير المزاج لإزالة هذا العارض والرجوع به إلى اعتداله هو الطب الحقيقي ومجازي كذلك قال علقمة بن عبدة الملقب بالفحل
| **فإن تسألوني بالنساءِ فإنني خبير بأدواء النساء طَبيب** | | |
| --- | --- | --- |
فذكر الأدواء والطب لفساد الأخلاق وإصلاحها. والمراد بالمرض في هاته الآية هو معناه المجازي لا محالة لأنه هو الذي اتصف به المنافقون وهو المقصود من مذمتهم وبيان منشأ مساوي أعمالهم. ومعنى { فزادهم الله مرضاً } أن تلك الأخلاق الذميمة الناشئة عن النفاق والملازمة له كانت تتزايد فيهم بتزايد الأيام لأن من شأن الأخلاق إذا تمكنت أن تتزايد بتزايد الأيام حتى تصير ملكات كما قال المعلوط القُرَيْعي
| **ورَجِّ الفتى للخير ما إنْ رأيتَه على السِّنِّ خيراً لا يزال يزيد** | | |
| --- | --- | --- |
وكذلك القول في الشر ولذلك قيل من لم يتحلم في الصغر لا يتحلم في الكبر، وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل
| **فإنك سوف تحلم أو تَنَاهَى إذا ماشِبْتَ أو شاب الغراب** | | |
| --- | --- | --- |
وإنما كان النفاق موجباً لازدياد ما يقارنه من سيء الأخلاق لأن النفاق يستر الأخلاق الذميمة فتكون محجوبة عن الناصحين والمربين والمرشدين وبذلك تتأصل وتتوالد إلى غير حد فالنفاق في كتمه مساوىء الأخلاق بمنزلة كتم المريض داءه عن الطبيب، وإليك بيان ما ينشأ عن النفاق من الأمراض الأخلاقية في الجدول المذكور هنا وأشرنا إلى ما يشير إلى كل خلق منها في الآيات الواردة هنا أو في آيات أخرى في هذا الجدولصفحة مستقلة للرسم ص 280 الأصل. اعلم أن هذه طباع تنشأ عن النفاق أو تقارنه من حيث هو ولا سيما النفاق في الدين فقد نبهنا الله تعالى لمذام ذلك تعليماً وتربية فإن النفاق يعتمد على ثلاث خصال وهي الكذب القولي، والكذب الفعلي وهو الخداع، ويقارن ذلك الخوف لأن الكذب والخداع إنما يصدران ممن يتوقى إظهار حقيقة أمره وذلك لا يكون إلا لخوف ضر أو لخوف إخفاق سعي وكلاهما مؤذن بقلة الشجاعة والثبات والثقةِ بالنفس وبحسن السلوك، ثم إن كل خصلة من هاته الخصال الثلاث الذميمة توكّد هنَوات أخرى، فالكذب ينشأ عن شيء من البله لأن الكاذب يعتقد أن كذبه يتمشى عند الناس وهذا من قلة الذكاء لأن النبيه يعلم أن في الناس مثله وخيراً منه، ثم البله يؤدي إلى الجهل بالحقائق وبمراتب العقول، ولأن الكذب يعود فِكر صاحبه بالحقائق المحرَّفة وتشتبه عليه مع طول الاسترسال في ذلك حتى إنه ربما اعتقد ما اختلقه واقعاً، وينشأ عن الأمرين السفه وهو خلل في الرأي وأَفَن في العقل، وقد أصبح علماء الأخلاق والطب يعدون الكذب من أمراض الدماغ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
وأما نشأةُ العجب والغرور والكفر وفساد الرأي عن الغباوة والجهل والسفهِ فظاهرة، وكذلك نشأة العزلة والجبن والتستر عن الخوف، وأما نشأة عداوة الناس عن الخداع فلأن عداوة الأضداد تبدأُ من شعورهم بخداعه، وتعقبها عداوة الأصحاب لأنهم إذا رأوا تفنن ذلك الصاحب في النفاق والخداع داخلهم الشك أن يكون إخلاصه الذي يظهره لهم هو من المخادعة فإذا حصلت عداوة الفريقين تصدى الناس كلهم للتوقي منه والنكاية به، وتصدى هو للمكر بهم والفساد ليصل إلى مرامه، فرمته الناس عن قَوس واحدة واجتنى من ذلك أن يصير هُزأة للناس أجمعين. وقد رأيتم أن الناشىء عن مرض النفاق والزائد فيه هو زيادة ذلك الناشىء أي تأصله وتمكنه وتولد مذمات أخرى عنه، ولعل تنكير مرض في الموضعين أشعر بهذا فإن تنكير الأول للإشارة إلى تنويعٍ أو تكثيرٍ، وتنكيرَ الثاني ليشير إلى أن المزيد مرض آخر على قاعدة إعادةِ النكرةِ نكرةً. وإنما أسندت زيادة مرض قلوبهم إلى الله تعالى مع أن زيادة هاته الأمراض القلبية من ذاتها لأن الله تعالى لما خلَق هذا التولُّد وأسبابه وكان أمراً خفياً نبه الناس على خطر الاسترسال في النوايا الخبيثة والأعمال المنكرة، وأنه من شأنه أن يزيد تلك النوايا تمكناً من القلب فيعسر أو يتعذر الإقلاع عنها بعد تمكنها، وأسندت تلك الزيادة إلى اسمه تعالى لأن الله تعالى غضب عليهم فأهملهم وشأنهم ولم يتداركهم بلطفه الذي يوقظهم من غفلاتهم لينبه المسلمين إلى خطر أمرها وأنها مما يعسر إقلاع أصحابها عنها ليكون حذرهم من معاملتهم أشد ما يمكن. فجملة { فزادهم الله مرضاً } خبرية معطوفة على قوله { في قلوبهم مرض } واقعة موقع الاستئناف للبيان، داخلةٌ في دفع التعجب، أي إن سبب توغلهم في الفساد ومحاولتهم ما لا يُنال لأن في قلوبهم مرضاً ولأنه مرض يتزايد مع الأيام تزايداً مجعولاً من الله فلا طمع في زواله.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
وقال بعض المفسرين هي دعاءٌ عليهم كقول جبير بن الأضبط
| **تَبَاعَد عني فَطْحَل إذْ دَعوتُه أَمِينَ فزادَ الله مَا بينَنا بُعدا** | | |
| --- | --- | --- |
وهو تفسير غير حسن لأنه خلاف الأصل في العطف بالفاء ولأن تصدي القرآن لشتمهم بذلك ليس من دأبه، ولأن الدعاء عليهم بالزيادة تنافي ما عهد من الدعاء للضالين بالهداية في نحو «اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون». وقوله { ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } معطوف على قوله { فزادهم الله مرضاً } إكمالاً للفائدة فكمل بهذا العطف بيانُ ما جره النفاق إليهم من فساد الحال في الدنيا والعذاب في الآخرة. وتقديم الجار والمجرور وهو { لهم } للتنبيه على أنه خبر لانعت حتى يستقر بمجرد سماع المبتدأ العلم بأن ذلك من صفاتهم فلا تلهو النفس عن تلقيه. والأليم فَعيل بمعنى مفعول لأن الأكثر في هذه الصيغة أن الرباعي بمعنى مُفعَل وأصله عذاب مؤلَم بصيغة اسم المفعول أي مؤلَمٌ من يعذَّب به على طريقة المجاز العقلي لأن المؤلَم هو المعذب دون العذاب كما قالوا جَدّ جِدّه، أو هو فعيل بمعنى فاعل من أَلِمَ بمعنى صار ذا ألَم، وإما أن يكون فعيل بمعنى مفعِل أي مؤلِمْ بكسر اللام، فقيل لم يثبت عن العرب في هذه المادة وثبت في نظيرها نحو الحَكيم والسميع بمعنى المسمِع كقول عمرو بن معديكرب
| **وخيلٍ قد دَلَفْتُ لها بخيل تحيةُ بينهم ضرب وَجِيع** | | |
| --- | --- | --- |
أي موجع، واختلف في جواز القياس عليه والحق أنه كثير في الكلام البليغ وأن منع القياس عليه للمولدين قصد منه التباعد عن مخالفة القياس بدون داع لئلا يلتبس حال الجاهل بحال البليغ فلا مانع من تخريج الكلام الفصيح عليه. وقوله { بما كانوا يكذبون } الباء للسببية. وقرأ الجمهور يُكذِّبون بضم أوله وتشديد الذال. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح أوله وتخفيف الذال أي بسبب تكذيبهم الرسول وإخبارَه بأنه مرسل من الله وأن القرآن وحي الله إلى الرسول، فمادة التفعيل للنسبة إلى الكذب مثل التعديل والتجريح، وأما قراءة التخفيف فعلى كذبهم الخاص في قولهم**{ آمنا بالله }** البقرة 8 وعلى كذبهم العام في قولهم**{ إنما نحن مصلحون }** البقرة 11 فالمقصود كذبهم في إظهار الإيمان وفي جعل أنفسهم المصلحين دون المؤمنين. والكذب ضد الصدق، وسيأتي عند قوله تعالى**{ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب }** في سورة المائدة 103. وما المجرورة بالباء مصدرية، والمصدر هو المنسبك من كان أي الكون.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | 3 | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م) | (10) - فِي قُلوبِ هؤلاءِ المُنَافِقِينَ شَكٌّ وَنِفَاقٌ (مَرَضٌ) فَزَادَهُمُ اللهُ شَكّاً وَنِفَاقاً وَرِجْساً (مَرَضاً)، وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَاباً أليماً فِي الآخِرَةِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كَذِبِهِمْ عَلَى اللهِ وَعَلَى النَّاسِ.
مَرَضٌ - شَكٌّ وَنِفَاقٌ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) | فالله سبحانه وتعالى، شبه ما في قلوب المنافقين بأنه مرض، والمرض أولاً يُورِثُ السقم، فكأن قلوبهم لا تملك الصحة الإيمانية التي تحيي القلب فتجعله قوياً شاباً، ولكنها قلوب مريضة، لماذا كانت مريضة؟ لقد أتعبها النفاق وأتعبها التنافر مع كل ما حولها، وأحست بأنها تعيش حياة ملؤها الكذب، فاضطراب القلب جعله مريضاً، ولا يمكن أن يُشْفَى إلا بإذن الله، وعلاجه هو الإيمان الحقيقي الصادق، ذلك الذي يعطيه الشفاء، والله سبحانه وتعالى يقول:**{ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }** [الإسراء: 82]. إذن فالإيمان والقرآن هما شفاء القلوب، كلاهما بعيد عن قلوب هؤلاء المنافقين، فكأن المرض يزداد في قلوبهم مع الزمن، والله سبحانه وتعالى - بنفاقهم وكفرهم - يزيدهم مرضاً. وهذه هي الصفة الثالثة للمنافقين.. إنهم أصحاب قلوب مريضة سقيمة، لا يدخلها نور الإيمان، ولذلك فهي قلوب ضعيفة، ليس فيها القوة اللازمة لمعرفة الحق. وهي قلوب خائفة من كل ما حولها، مرتعبة في كل خطواتها، مضطربة بين ما في القلب وما على اللسان، والمريض لا يقوى على شيء، وكذلك هذه القلوب لا تقوى على قول الحق، ولا تقوى على الصدق، ولا ترى ما حولها، تلك الرؤية التي تتناسب وتتفق مع فطرة الإيمان، التي وضعها الله تعالى في القلوب، ولذلك إذا دخل المنافقون في معركة في صفوف جيش المسلمين.. فأول ما يبحثون عنه هو الهروب من المعركة، يبحثون عن مخبأ يختفون فيه، أو مكان لا يراهم فيه أحد، والله سبحانه وتعالى يصفهم بقوله:**{ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }** [التوبة: 57]. لماذا؟ لأنهم أصحاب قلوب مريضة، لا تقوى على شيء، ومرضها يجعلها تهرب من كل شيء، وتختفي. وليت الأمر يقتصر عند هذا الحد، ولكن ينتظرهم في الآخرة عذاب أليم، غير العذاب الذي عانوه من قلوبهم المريضة في الدنيا، فبما كانوا يكذبون على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ينتظرهم في الآخرة عذاب أليم أشد من عذاب الكافرين، والله سبحانه وتعالى يقول:**{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ.. }** [النساء: 145].
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) | قولُه تعالى: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }: الآية. الجارُّ والمجرورُ خبرٌ مقدمٌ واجبُ التقديمِ لِما تَقَدَّم ذِكْرُه في قوله:**{ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }** [البقرة: 7]. والمشهورُ تحريك الراءِ مِنْ " مَرَض " ، ورَوى الأصمعي عن أبي عمرو سكونَها، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَض. والمرضُ: الفتورُ، وقيل: الفساد، ويُطلق على الظلمة، وانشدوا:
| **178ـ في ليلةٍ مَرِضَتْ من كلِّ ناحيةٍ** | | **فما يُحَسُّ بها نَجمٌ ولا قَمَرُ** |
| --- | --- | --- |
أي لظلمتها، ويجوزُ أن يكونَ أراد بمَرِضَتْ فَسَدت، ثم بيَّن جهةَ الفسادِ بالظلمةِ.
وقوله: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }: هذه جملةٌ فعليةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الاسميةِ قبلها، مُتَسَبِّبَةٌ عنها، بمعنى أنَّ سبب الزيادة حصولُ المرضِ في قلوبهم، إذ المرادُ بالمرض هنا الغِلُّ والحَسَد/ لظهور دين الله تعالى. و " زاد " يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غيرُ الأول كأعطى وكسا، فيجوز حذفُ معمولَيْه وأحدِهما اختصاراً واقتصاراً، تقول: زاد المال، فهذا لازمٌ، وزِدْتُ زيداً خيراً، ومنه**{ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }** [الكهف: 13]، { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } " وزدتُ زيداً " ولا تذكر ما زِدْتَه، وزدْتُ مالاً، ولا تذكر مَنْ زِدْتَه وألفُ " زاد " منقلبةٌ عن ياء لقولهم: يزيدُ.
{ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } نظير قوله تعالى:**{ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }** [البقرة: 7] وقد تقدَّم. وأليم هنا بمعنى مُؤْلِم، كقوله:
| **179ـ ونَرْفَعُ مِنْ صدورِ شَمَرْدَلاتٍ** | | **يَصُكُّ وجوهَها وَهَجٌ أليمُ** |
| --- | --- | --- |
ويُجمع على فُعَلاء كشريف وشُرَفَاء، وأَفْعال مثل: شريف وأَشْراف، ويجوزُ أن يكونَ فعيل هنا للمبالغة مُحَوَّلاً من فَعِلَ بكسرِ العين، وعلى هذا يكون نسبةُ الألم إلى العذاب مجازاً، لأن الألم حَلَّ بمَنْ وَقَعَ به العذابُ لا بالعذاب، فهو نظيرُ قولهم: شِعْرٌ شاعِرٌ.
و { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } متعلِّقٌ بالاستقرارِ المقدَّرِ في " لهم " أي: استقر لهم عذابٌ أليم بسبب تكذيبهم. و " ما " يجوزُ أَنْ تَكونَ مصدريةً أي بكونِهم يكذبون وهذا على القول بأنَّ لـ " كان " مصدراً، وهو الصحيحُ عند بعضهم للتصريحِ به في قول الشاعر:
| **180ـ بِبَذْلٍ وحِلْمٍ ساد في قومه الفتى** | | **وكونُك إياه عليكَ يَسيرُ** |
| --- | --- | --- |
فقد صرَّح بالكون. ولا جائزٌ أن يكونَ مصدَر كان التامةِ لنصبِه [الخبر] بعدها، وهو: " إياه " ، على أن للنظر في هذا البيتِ مجالاً ليسَ هذا موضعَه. وعلى القول بأن لها مصدراً لا يجوز التصريحُ به معها، لا تقول: " كان زيد قائماً كوناً " ، قالوا: لأن الخبرَ كالعوضِ من المصدر، ولا يُجْمع بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه، وحينئذٍ فلا حاجةَ إلى ضميرٍ عائدٍ على " ما " لأنها حرفٌ مصدريٌّ على الصحيح خلافاً للأخفش وابنِ السراجِ في جَعْلِ المصدريَّة اسماً. ويجوز أن تكونَ " ما " بمعنى الذي، وحينئذ فلا بدَّ من تقديرِ عائدٍ أي: بالذي كانوا يكذِّبونه، وجاز حَذْفُ العائدِ لاستكمالِ الشروط، وهو كونُه منصوباً متصلاً بفعل، وليس ثَمَّ عائدٌ آخرُ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
وزعم أبو البقاء أنَّ كونَ ما موصولةً اسمية هو الأظهرُ، قال: " لأن الهاء المقدرةَ عائدةٌ على " الذي " لا على المصدرِ " وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ، إذ لقائلٍ أن يقولَ: لا نُسَلِّم أنه لا بدَّ من هاءٍ مقدرة، حتى يلزمَ جَعْلُ " ما " اسميةً، بل مَنْ قرأ " يَكْذِبون " مخففاً فهو عنده غيرُ متعَدٍّ لمفعولٍ، ومَنْ قرأه مشدَّداً فالمفعولُ محذوفٌ لِفَهْم المعنى أي: بما كانُوا يُكَذِّبون الرسولَ والقرآنَ، أو يكون المشددُ بمعنى المخَفَّف. وقرأ الكوفيون: " يَكْذِبون " بالفتح والتخفيفِ، والباقون بالضمِّ والتشديدِ.
ويُكَذِّبون مضارع كَذَّب بالتشديد، وله معانٍ كثيرة: الرَّمْيُ بكذا، ومنه الآيةُ الكريمةُ، والتعديةُ نحو: فَرَّحْتُ زيداً، والتكثير نحو: قَطَّعْتُ الأثواب، والجَعْلُ على صفة نحو: قطَّرْتُه أي: جعلته مُقَطَّرا، ومنه:
| **181ـ قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها** | | **مَا قَطَّر الفارسَ إلا أنا** |
| --- | --- | --- |
والتسميةُ نحو: فَسَّقْتُه أي سَمَّيْتُه فاسقاً، والدعاءُ له نحو: سَقَّيْتُه أي: قلت له: سَقاك الله، أو الدعاءُ عليه نحو: عَقَّرْته، أي: قلت له: عَقْراً لك، والإِقامة على شيء نحو: مَرَّضْتُه، والإِزالة نحو: قَذَّيْتُ عينَه أي أزلْتُ قَذاها، والتوجُّه نحو: شَرَّق وغَرَّب، أي: تَوَجَّه نحو الشرق والغرب، واختصارُ الحكاية نحو: أَمَّن قال: آمين، وموافقة تَفَعَّل وفَعَل مخففَّاً نحو: ولَّى بمعنى تَوَلَّى، وقَدَّر بمعنى قَدَر، والإِغناء عن تَفَعَّل وفَعَل مخففاً نحو: حَمَّر أي تكلَّم بلغة حميرٍ، قالوا: " مَنْ دَخَلَ ظَفارِ حَمَّر " وعَرَّد في القتال هو بمعنى عَرِد مخففاً، وإن لم يُلْفَظْ به.
و " الكذب " اختلف الناسُ فيه، فقائلٌ: هو الإِخبار عن الشيء بغيرِ ما هو عليه ذهناً وخارجاً، وقيل: بغير ما هو عليهِ في الخارجِ سواءً وافق اعتقادَ المتكلم أم لا. وقيل: الإِخبارُ عنه بغيرِ اعتقادِ المتكلِّم سَواءً وافق ما في الخارج أم لا، والصدقُ نقيضُه، وليس هذا موضعَ ترجيحٍ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
| | 1 | 2 | |
| --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) | { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي شكٌّ { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } شكاً، وعن ابن عباس { مرضٌ } نفاقٌ { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } نفاقاً، وهذا كالأول. وقال عبد الرحمٰن بن أسلم: هذا مرضٌ في الدين وليس مرضاً في الأجساد، والمرض الشك الذي دخلهم في الإسلام { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } أي زادهم رجساً. وقرأ:**{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ \* وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** [التوبة: 124-125] يعني شراً إلى شرهم، وضلالة إلى ضلالتهم وهذا الذي قاله هو الجزاء من جنس العمل. { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وقرئ { يَكْذبون } و { يُكَذّبون } وقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة ويكذبون بالغيب، يجمعون بين هذا وهذا، وحكمة كفّه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين، مع علمه بأعيان بعضهم ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: **" أكره أن يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه "** ، ومعنى هذا خشيته عليه السلام أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام، ولا يعلمون حكمة قتله لهم، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون: إن محمداً يقتل أصحابه. وقال الشافعي: إنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم، لأن ما يظهرونه يجبُّ ما قبله، وفي الحديث المجمع على صحته: **" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزّ وجل "** ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهراً، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا:**{ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ }** [الحديد: 14] الآية فهم يخالطونهم في المحشر فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم**{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ }** [سبأ: 54].
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ) | { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } يحتمل أن يكون حقيقة، وهو الألم الذي يجدونه من الخوف وغيره، وأن يكون مجازاً بمعنى الشك أو الحسد { فَزَادَهُمُ } يحتمل الدعاء والخبر { يُكَذِّبُونَ } بالتشديد أي يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم وقرئ: بالتخفيف أي يكذبون في قولهم { آمنا }.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|
سُورَةُ البَقَرَةِ | Medinan | فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ | * تفسير غريب القرآن / زيد بن علي (ت 120 هـ) | وقولهُ تعالى: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي شَكٌّ ونِفاقٌ.
وقولهُ تعالى: { عَذَابٌ أَلِيمٌ } [أي] مُوجِعٌ.
| | | | | |
| --- | --- | --- | --- | --- |
|