surah_name
stringclasses
113 values
revelation_type
stringclasses
2 values
ayah
stringlengths
2
1.15k
tafsir_book
stringclasses
84 values
tafsir_content
stringlengths
0
644k
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير تفسير القرآن/ علي بن ابراهيم القمي (ت القرن 4 هـ)
قوله: { ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين } [8] فإنها نزلت في قوم منافقين أظهروا لرسول الله الإسلام وكانوا إذا رأوا الكفار قالوا { إنا معكم } واذا لقوا المؤمنين قالوا نحن مؤمنون وكانوا يقولون للكفار { إنا معكم إنما نحن مستهزؤن } [14] فرد الله عليهم { الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون } [15] والاستهزاء من الله هو العذاب { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } أي يدعهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
التفسير: (من) لفظ يخبر به عن الواحد من العقلاء، واثنين وجماعة فلما قال: { وما هم بمؤمنين } دل على أنه أراد الجمع وانما قال: { يقول } بلفظ الواحد حملا له على اللفظ قال الشاعر: | **نكن مثل مَنْ يا ذئب يصطحبان** | | | | --- | --- | --- | وقيل في معنى الناس وجهان: أحدهما ـ أن يكون جمعاً لا واحد له من لفظه واحدهم إنسان والانثى انسانة والثاني ـ أن أصله: أناس فاسقطت الهمزة منها لكثرة الاستعمال اذا دخلها الألف واللام للتعريف ثم أدغمت لام التعريف في النون كما قيل: { لكنا هو الله } واصله: لكن انا. وقال بعضهم: ان الناس لغة غير اناس، وإلا لقيل في التصغير: انيس رداً إلى اصله. واشتقاقه من النوْس: وهو الحركة ناس ينوس نوساً: اذا تحرك والنوس: تذبذب الشيء في الهواء، ومنه نوس القرط في الاذن لكثرة حركته. ولا خلاف بين المفسرين ان هذه الآية وما بعدها نزلت في قوم من المنافقين من الأوس والخزرج وغيرهم، روي ذلك عن ابن عباس وذكر اسماءهم ولا فائدة في ذكرها. وكذلك ما بعدها إلى قوله: { وما كانوا مهتدين } كلها في صفه هؤلاء المنافقين. والمنافق هو الذي يظهر الاسلام بلسانه وينكره بقلبه. واليوم الآخر هو يوم القيامة وانما سمي يوم القيامة اليوم الآخر لأنه يوم لا يوم بعده سواه. وقيل: لأنه بعد ايام الدنيا واول ايام الآخرة. فان قيل: كيف لا يكون بعده يوم ولا انقطاع للاخرة ولا فناء؟ قيل: اليوم في الآخره سمي يوماً بليلته التي قبله فاذا لم يتقدم النهار ليل لم يسم يوماً فيوم القيامة يوم لا ليل بعده فلذلك سماه اليوم الآخر. وانما قال: { وما هم بمؤمنين } مع قوله: {.. من يقول آمنا بالله } تكذيباً لهم فيما اخبروا عن اعتقادهم من الايمان والاقرار بالبعث والنبوة فبين ان ما قالوه بلسانهم مخالف لما في قلوبهم وذلك يدل على ان الايمان لا يكون مجرد القول على ما قالته الكرامية. { يقول } من القول ومنه: تقوّل اذا تخرص القول واقتال فهو مقيال: اذا أخذ نفعاً إلى نفسه بالقول أو دفع به ضرراً عنها والمَقوَل اللسان يُقَوّله تقويلا اذا طالبه باظهار القول. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
اتّفق المفسرون على أن ذلك وصفُ المنافقين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم. واعلم أنّ الناس بحسب العاقبة، ستّة أصناف، لأنّهم إمّا سُعداءٌ؛ وهم أصحاب اليمين، وإما أشقياء وهم أصحاب الشمال، وإمّا السابقون المقرّبون. قال الله تعالى:**{ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً }** [الواقعة:7]. الآيات. وأصحاب الشمال: إما المطرودون الذين حقّ عليهم القول، وهم أهل الظُّلمة والحجاب الكلّي، المختوم على قلوبهم أزلاً كما قال تعالى:**{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا }** [الأعراف:179]، الآية. وفي الحديث الإلٰهي الربّاني المتّفق عليه نقلاً: **" هؤلاء خلقتهم للنار ولا أبالي ".** وأما المنافقون الذين كانوا مستعدّين بحسب الفطرة، قابلين للنور في الأصل والنشأة، لكن احتجبت قلوبُهم بالرَّيْن المستفاد من اكتساب الرذائل، وارتكاب المعاصي، ومباشرة الأعمال البهيميّة والسَّبُعية، ومزاولة المكائدة الشيطانيّة، حتى رسخت الهيئات الغاسقة والملكات المظلمة في نفوسهم، وارتكمت على أفئدتهم، فبقوا شاكّين حيارىٰ تائهين، قد حبطت أعمالهم، وانتكست رؤوسهم، فهم أشدّ عذاباً وأسوأ حالاً من الفريق الأوّل، لمنافاة مسكة استعدادهم لحالهم، والفريقان هم أهل الدنيا. وأصحاب اليمين، إمّا أهل الفضل والثواب، الذين آمَنوا وعملوا الصالحات للجنّة، راجين لها راضين بها، فوجَدُوا ما عملُوا حَاضِراً على تفاوت درجاتهم ممّا عملوا. ومنهم أهل الرحمة، الباقون على سلامة نفوسهم وصفاء قلوبهم، المتبوّئون درجات الجنّة على حسب استعداداتهم من فضل ربّهم، لا على حسب كمالاتهم من ميراث عملهم. وإما أهل العفو، الذين خلَطُوا عَمَلاً صالحاً وآخرَ سّيئاً، وهما قسمان: المعفوّ عنهم رأساً لقوّة اعتقادهم، وعدم رسوخ سيّئاتهم لقلّة مزوالتهم ايّاها، أو لمكان توبتهم عنها:**{ فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ }** [الفرقان:70]. والمعذَّبون حيناً بحسب ما رسَخ فيهم من المعاصي، حتّى خلَصوا عن درنِ ما كسَبوا فنجَوا، وهم أهل العدل والعقاب، والذين ظلَموا مِنْ هؤلاءِ سَيصُيبُهمْ سيّئات ما كسَبوا، لكن الرحمة تتداركهم وتنالهم بالآخرة. والسابقون وهم العرفاء بالله واليوم الآخر خاصّة امّا محبّون وإمّا محبوبون، فالمحبّون؛ هم الذين جاهَدوا في الله حقّ جهاده، وأنابوا اليه حقّ إنابته، فهداهم سبله. والمحبوبون؛ هم أهل العناية الأزليّة، الذين اجتباهم وهداهم الى صراطٍ مستقيم. والصنفان هما أهل الله ومآلهما واحد، لأنّ أهل المحبّة الخاصّة ينجرّ سلوكهم بالأخرة الى الجذبة، ولهذا جعلناهما في التقسيم قسماً واحداً. اذا علمت هذا، فاعلم أن الله سبحانه لما افتتح بشرح حال الكتاب، وأشار الى أنّه منزَل من عالَم الكرامة والغيب، مشتملٌ على العلوم التي لا تعتريها وصمةُ شكّ وريب، وموجب للهداية لمن وفّق له بالتقوى، وساقَ لبيانه ذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبُهم ألسنتهم، واندرج فيهم الأقسام الخمسة، سوى الفريقين اللذين هما من قسم الأشقياء. فإنّ القرآن ليس هدىً للفريق الأول من الأشقياء، لامتناع قبولهم للهداية، لعدم استعدادهم، ولا للثاني، لزوال استعدادهم، ومسخهم وطمسهم بالكليّة لفساد اعتقادهم، فهما جميعاً أهل الخلود في النار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولفظ " هُدىً لِلْمُتَّقِينَ " ، وإن عمّ الأصناف الخمسة - لأنّ المراد بهم في هذا الموضع هم المستعدّون الذين بقَوا على فطرتهم الأصليّة، واجتنبوا رَيْن الشرك والشكّ لصفاء قلوبهم وبقاء نورهم الفطري فلم ينقضوا عهد الله في الميثاق، فلهم نصيبٌ من القرآن كلٌّ بوجهٍ - إلا أنّه تعالى خصّ بالإشارة صنفين منهم الى أحوالهما، لمزيد منزلتهما وحالهما. أحدهما: أهل الفضل والثواب من أصحاب اليمين المشار إليهم بقوله:**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }** [البقرة:3]. والثاني: السابقون المقرّبون، المشار اليهم بقوله:**{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }** [البقرة:4]، فقد علم من أحوالهم أنّهم من أهل الرسوخ العلمي. ولمّا ذكَر المؤمنين بقسيمه - أي العاملين والعالمين - ثنّاهم بأضدادهم الذين محَضوا الكفر لساناً وضميراً، ظاهراً وباطناً، ولم يلتفتوا لغة الايمان رأساً بقوله:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }** [البقرة:6] -الآيتين. وهم الفريق الأول من الأشقياء، الذين هم أهل القهر الإلٰهي، لا ينجع فيهم الإنذار، ولا ينفع لهم التذكار، ولا خلاص لأحدهم من النار،**{ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُوۤاْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }** [يونس:33].**{ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ }** [غافر:6]. سُدّت عليهم الطُّرق، وأغلقت عليهم الأبواب، إذ القلب هو المشعر الإلهي الذي هو محلٌّ الإلهام، ومنزِلُ الكرامة، فحُجبوا عنه بختمه. والسمع والبصر هما مشعران للإنسان، اللذان هما بابا الفهم والاعتبار، فحُرموا عن جدواهما لامتناع نفوذ المعنى فيهما الى القلب، فلا سبيل لهم في الباطن القلبي الى عالَم العلم الإلٰهي الكشفي، ولا في الظاهر السمعيّ والبصري الى الباطن القلبي والعلم التعليمي الكسبي. فحبسوا في سجون الظلمات، وحبوس التعلّقات، وقيود الجحيم والسلاسل والأغلال، والعذاب المقيم، فما أشدّ عذابهم. ولمّا ذكر تعالى أوصاف القسمين، أعني المؤمنين والكافرين مطلقاً، ثلّث بذكر القِسم الثالث، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبُهم، تكميلاً للتقسيم، وهم أخبثُ قلباً من الكفَرة، وأبغضهم الى الله لأنّهم موّهوا الكفْر بالإيمان، فخلطوا به خداعاً واستهزاءً، ولذلك طوّلَ في بيان خُبثهم وجهلهم واستهزائهم، وتهكَّم بأفعالهم، وسجلَ على عمههم وطغيانِهم، وضرب فيهم الأمثال وأنزل فيهم:**{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ }** [النساء:145] لأنّهم مع ادعائهم للإيمان بقولهم: { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } سلب عنهم الايمان وما هم بمؤمنين. لأنّ حقيقته العلم بحقائق الأمور الإلٰهيّة، ومحلّه هو القلب لا اللسان:**{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }** [الحجرات:14]. ومعنى قولهم: { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } ادعاؤهم لعلمَي التوحيد والمعاد للذين هما أصل الدين وأساسه، أي لسنا من المشركين المحجوبين عن الحقّ، ولا من أهل الكتاب المحجوبين عن الدين والمعاد، لأن اعتقاد أهل الكتاب ليس مطابقاً للحقّ والصواب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واعلم أنّ الكفر هو الاحتجاب كما مرّ، والاجتجاب إمّا عن الحقّ، فهو كما للمشركين، وإمّا عن الدين، كما لأهل الكتاب، والمحجوب عن الحق محجوبٌ عن الدين الذي هو طريق الوصول اليه بالضرورة. وأمّا المحجوب عن الدين، فقد لا يحجب عن الحقّ، فهؤلاء ادّعوا رفع الحجابين، فكذّبوا بسلب الإيمان عن ذواتهم لمخادعتهم لله وأوليائه، ومُماكرتهم وزيادة المرض في قلوبهم مع الهلاك الأخروي، فهؤلاء أسوأ مآلا وأشد نكالاً من عامّة الكافرين. ولهذا فرّق الله بين العذابين بالعِظَم والألم، لأن عذاب المطرودين في الأزل - وإن كان أعظم - لنزولهم في مهوى الحشرات والدوابّ والأنعام، فلا يدركون شدّة عذابهم، ولا يجدون غمّهم وألمهم لعدم صفاء إدراك قلوبهم بواسطة كثافة الحجاب، وغلظة النقاب، كحال العضو الميّت أو المفلوج أو الخدر بالنسبة الى ما يجري عليه من القطع والكَيّ وغير ذلك من الآلام. وأما المنافقون، فلثبوت استعدادهم في الأصل، وبقاء إداركهم، يجدون شدّة الألم، فلا جرم كان عذابهم أليماً مسبَّباً عن المرض العارض المزمِن الذي هو الكذِب والخديعة والحسَد والنفاق، والجهل المشفوع بالإصرار واللداد وغيرها، وإذا نُهوا عن الفساد في الجهة السفلية، أنكروا وبالَغوا في إثبات الصلاح والإصلاح لأنفسهم، كما حكى الله عنهم فيما بعد، إذ يرون الصلاح في تنظيم أسباب المعيشة وتيسير أمور الدنيا لأنفسهم خاصّة، وإن كان مؤدّياً الى خسران العاقبة، لتوغّلهم في محبّة الدنيا وميل الجاه والثروة، وانهماكهم في اللذّات والراحات البدنيّة، واحتجابهم بالمنافع الجزئيّة والملاذّ الحسيّة عن المصالح العامّة واللذّات العقليّة، وهم لا يشعرون بذلك، وإن كان معلوماً بالمشاهدة الحسيّة، لأن محبّة الدنيا سلبت عقولَهم وأعمت قلوبَهم، واصمّت نفوسَهم، ولذا قيل: " حبّكَ للشيء يُعمي ويُصم ". فصل [المنافق والكافر أيهما أسوأ حالا] قد علمت تحقيق الفرق بين المنافق والكافر الأصلي، تصريحاً وتلميحاً في مواضع متعدّدة، لكن القوم اختلفوا في أنّ أيّهما أسوأ فعلاً وأقبحُ حالاً. قال قوم: قبح الكافر الأصلي أقبح، لأنّه جاهلٌ بالقلب، كاذبٌ باللسان، والمنافقُ جاهلٌ بالقلب، صادقٌ باللسان. وقال آخرون، بل المنافق أيضاً كاذب باللسان، فإنّه يُخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع انّه ليس عليه، ولذلك قال تعالى:**{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا }** [الحجرات:14]. وقال:**{ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }** [المنافقون:1]. ثمّ إنّ المنافق اختصّ بمزيد أمور منكَرة: الأول: إنّه قصَد التلبيس، والكافرُ ما قصدَ ذلك. الثاني: إنّ الكافرَ على طبع الرجال، والمنافقُ على طبع الخنوثة. أقول: الكائن على طبع الرجال هم المؤمنون حقّاً، لا الكفّار، فالأَوْلىٰ أن يقال: الكافرُ على طبع الأنوثة والمنافق على طبع الخنوثة. وطبع الخُنوثة أقبح من الأنوثة. وذلك لأنّ الآخرة دار المبادئ الفعّالة، والدنيا موضع القوابل المنفعلة، فموطن المؤمن - أي عالم القدس - موطنُ الرجال، وموطنُ الكافر - أي الدنيا وهي عروسه غدّارة رعناء - موطنُ النسوان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والمنافق ذو الوجهين لا من هذا ولا من ذاك، فعاقبته البوارُ والهلاك، وانقطاع النتيجة والبقاء النوعي العقلي في النشأة الدائمة. الثالث: إنّ الكافر ما رضيَ لنفسه بالكذب بل استنكف منه، ولم يرض إلاّ بالصدق، والمنافق رضيَ بذلك. الرابع: إنّ المنافقَ ضمَّ الى كفره الاستهزاء، بخلاف الكافر. ولأجل غلظ كفره قال:**{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ }** [النساء:145]. الخامس: قال مجاهد: إنّه تعالى ابتدأ بذكر المؤمنين في أربع آيات، ثمّ ثنّى بذكر الكافرين في اثنتين، ثمّ ثلّث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية. وذلك يدلّ على أنّ المنافقين أعظم جُرماً. وهذا بعيدٌ لأنّ كثرة الاقتصاص بخيرهم لا يوجِب كونَ جُرمهم أعظم؛ فإنْ عَظُم فلغير ذلك، وهو ضمّهم الى الكفْر وجوهاً من المعاصي؛ كالمخادعة، والاستهزاء، وطلب الغوائل الى غير ذلك. ويمكن أن يجاب عنه: بأنّ كثرة الاقتصاص بخبرهم يدلّ على أنّ الاهتمام بدفع شرّهم أشدّ من الاهتمام بدفع شرّ الكفّار، وذلك يدلّ على أنَهم أعظم جُرماً من الكُفار. فصل يستفاد من هذه الآية أمران: أحدهما: إنّ من لا يعرف الله لا يكون مؤمناً وإن أقرّ به لساناً، لقوله تعالى: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } خلافاً للكرّامية. والثاني: بطلان قول من زعم من المتكلمين، إنّ جميع المكلفين عارفون بالله، وإنّ من لم يكن عارفاً به لا يكون مكلَّفاً، وذلك لأن غير العارف لو كان معذوراً لما ذمّ الله هؤلاء على عدم العرفان، فبطل قولهم: إنّ من لا يعرف هذه الأمور فهو معذور، وهذا المقام يحتاج الى تحقيق عميق لا يسع هذا الوقت ذكره. فصل اختلفوا في اشتقاق لفظ " الإنسان " الى وجوه: الأول: ما يروى عن ابن عباس: إنّه من النسيان. لأنّه عهد إليه فنسي. قال أبو الفتح البستي: | **نسيتُ وعدَك والنسيانُ مغتفَرٌ** | | **فاغفِر فأول ناسٍ أولُ الناس** | | --- | --- | --- | الثاني: إنّه من الأنس، لاستيناسه بمثله. الثالث: إنّه سمّي إنساناً لظهورهم وأنّهم يؤنسون - أي يبصرون - قال تعالى:**{ آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً }** [القصص:29]. أي: أبصر. كما سُمّي " الجنّ " لاجتنانهم. واعلم أنّه لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقاً من لفظٍ آخر، وإلاّ لتسلسَل الى ما لا نهاية. والناس أصله اناس، بدليل قولهم: إنسانٌ وإنسي وأناسي، فحذفت الهمزة تخفيفاً كما حذف في لوقة لأن أصلها ألوقة. وعوّض عنها حرف التعريف، ولذلك لا يكاد يجمع بينهما إلاّ شذوذاً كقوله: إنّ المنايا تطلعن على الاناس الآمنينا. وناس: اسم جمعٍ على زِنة فِعال. لأن الوزنَ يكون على الأصول، ولذلك تقول في وزن قِهْ افعَلْ وليس معك إلاّ العين وحدَها، وهو من أسماء الجمع كرِجال، وأما نُوَيس، فمن المصغّر الآتي على خلاف مكبّره كانيسيان ورُويجل - كذا في الكشّاف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فصل لام التعريف في " الناس " إمّا للجنس أو للعهد، والمعهود هم الذين كفَروا، المارّ ذكرُهم، و " من " على الأول تكون موصوفة كأنه قيل: ومن الناسِ ناسٌ يقولون آمنّا. كقوله:**{ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ }** [الأحزاب:23]. وعلى الثاني؛ تكون موصولة، كقوله:**{ وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ }** [التوبة:61] أي ومن هؤلاء الذين كفَروا من يقول - وهم عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه ومَن في طبقتهم - فإنّ وقوعَهم لأجل النفاق تحت جنس الكفّار المختومِ على قلوبهم، ودخولَهم في أبواب الكفر، لا ينافي اختصاصهم بزوائدَ زادوها على أصل الكفر؛ من الخديعة والاستهزاء والأمراض القلبيّة وغيرها، ولا يُخرجهم عن حدّه وإن يكونوا بعضاً من جنسه، فإنّ الأنواع إنّما تنوّعت بزوائد على طبيعة الجنس بما هي مجرد طبيعته، أي بالمعنى التي هي مادة، وتلك الزوائد لا تأبى الدخول مع ما يزيد عليه تحت الجنس، وصدقه على المجموع بالاعتبار الذي هو به جنسٌ، وإن لم يصدق بالمعنى الذي هو به مادّة فتفطّن. فصل اعلم أنّ اختصاص (بالله وبِٱليَومِ الآخِر) بالذكر، تخصيص لما هو المقصود الأعظم والكمال الأتمّ, وهو العلم بأحوال المبدأ والعلم بأسرار المعاد، وتسجيلٌ بأنّهم مع خسّتهم ودناءة طبعهم، ادّعوا إثبات أمرٍ شريف عالٍ لأنفسهم. وهو الحيازة للإيمان من جانبيه، والإحاطة بكلا قُطريه. وها هنا دقيقة اخرى؛ وهي الكشف عن إفراطهم في خبث الباطن وفساد الضمير، وتماديهم في قبح الباطن وسوء السريرة، حيث كان قولهم: آمَنّا بالله وَبِٱليَومِ الآخِر، خُبثاً متضاعفاً، وكفراً متراكماً، لأن القوم كانوا يهوداً، وكانوا يعتقدون في الله التشبيهَ واتّخاذَ الولد، وفي اليوم الآخر أن الجنة لا يدخلها إلاّ من كان هوداً أو نصارى، وأن النار لا تمسّهم إلاّ أياماً معدودة - الى غير ذلك - فإيمانهم بالله واليوم الآخر كَلا إيمان، فهم منافقون فيما يظنّون أنّهم مخلصون، فكيف بما يقصدون به النفاق ويرُون المؤمنين أنّهم آمنوا مثلَ إيمانهم، فهم في خُبث الباطن وسوءِ الضمير بحيث لو صدَر منهم هذا القول لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم، لم يكن ايماناً، فلم يكونوا صادقين، كيف وقد صدَر منهم تمويها على المسلمين وتهكّماً بهم. ولفظة " مَن " صالحةٌ للجمع كما للواحد. كقوله تعالى:**{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ }** [يونس:42]، فإنّه موحّد اللفظ مجموع المعنى، والعائدُ إليه يرجع عند التوحيد الى اللفظ وعند الجمع الى المعنى، ففي قوله: مَنْ يَقولُ آمنّا، حصل فيه الأمران. وتكرير الباء يدلّ على أن علم المبدأ وعلم المعاد كلاً منهما علمٌ شريف برأسه، ولا يلزم أن يكون داخلاً في مقول قولهم، وإن كان داخلاً، فالمعنى ادعاؤهم الإيمان بكلّ واحد مفصّلاً على الاستحكام. و " القولُ " مصدرٌ معناه التلفّظ بما يفيد، وقد يطلق على القضيّة الملفوظة، وعلى صورتها الذهنيّة، وعلى الرأي والمذهب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي ايراد { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ، بدل " وما آمنوا " كما يستدعيه المقابلة من التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لا العكس، انكارٌ لما ادّعوه وردع لما انتحلوه بأبلغ وجهٍ وآكده في التكذيب لهم، حيث أخرج ذواتهم من عداد المستعدين لاقتناء أنوار الإيمان واليقين مطلقاً. ولذلك أكّد النفي بالباء، ونحوه قوله تعالى:**{ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ }** [المائدة:37]. وترك تقييد الايمان في الثاني بما قيّد به في الأول، إمّا لأنّه دلّ عليه المذكور أولاً، لأنّ هذا جوابه، وإمّا للإشعار بأنّهم ليسوا من الايمان في شيء أصلاً. تنبيه فيه تذكير [اليوم والليلة] والمراد من اليوم، إمّا الزمان الذي لا حدّ له، وهو الأبد الدائم الذي لا مقطع له، وإما الوقت المحدود من النشور الى أن يدخل أهل الجنّةِ الجنّةَ وأهلُ النارِ النارَ، لأنه آخر الأوقات المحدودة وما بعده فلا حدّ له. وانّما سمّي زمانُ الآخرة يوماً، لظهور شمس الحقيقة حينئذ، وطلوعها من أفق الأكوان ومطالع الحقائق الروحية، كما انّه قد اختفى ما دام الكون الدنيوي في مغارب الصوَر الحسّية، وفي القيامة تصير تلك الصور بعينها مظاهر أنوار الإلٰهية، ومشاهد أسرار الربوبيّة. فكأن مدّة الدنيا ليل نهاره يوم الآخرة، وصباحه عند قيام الساعة، والله أعلم بأسراره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير الصافي في تفسير كلام الله الوافي/ الفيض الكاشاني (ت 1090 هـ)
{ (8) وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ }. أقول كابن أُبيّ وأصحابه وكالأول والثاني واضرابهما من المنافقين الذي زادوا على الكفر الموجب للختم والغشاوة والنفاق ولا سيما عند نصب أمير المؤمنين عليه السلام للخلافة والإمامة. أقول: ويدخل فيه كل من ينافق في الدين إلى يوم القيامة وإن كان دونهم في النفاق كما قال الباقر عليه السلام في حكم بن عتيبة إنه من أهل هذه الآية. وفي تفسير الإمام ما ملخصه أنه لما أمر الصحابة يوم الغدير بمبايعة أمير المؤمنين عليه السلام بإمرة المؤمنين وقام أبو بكر وعمر إلى تسعة من المهاجرين والأنصار فبايعوه بها ووكد عليهم بالعهود والمواثيق واتى عمر بالبخبخة وتفرقوا، تواطأ قوم من متمرديهم وجبابرتهم بينهم لئن كانت بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم كائنة ليدفعن هذا الأمر عن علي عليه السلام ولا يتركونه له وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون: لقد أقمت علينا أحب الخلق إلى الله وإليك وكفيتنا به مؤنة الظلمة لنا والجائرين في سياستنا وعلم الله تعالى من قلوبهم خلاف ذلك وأنهم مقيمون على العداوة ودفع الحق عن مستحقيه فأخبر الله عنهم بهذه الآية. { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ }: بل تواطئوا على إهلاكك واهلاك من أحبك وتحبه إذا قدروا والتمرّد عن أحكام الله خصوصاً خلافة من استخلفه بأمر الله على أُمّتك من بعدك لجحودهم خلافته وإمارته عليهم حَسَداً وعتواً. قيل: أخرج ذواتهم من عداد المؤمنين مبالغة في نفي الايمان عنهم راساً. { (9) يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا }: يخادعون رسول الله بإبدائهم له خلاف ما في جوانحهم. أقول: وإنّما أضاف مخادعة الرسول إلى الله لأن مخادعته ترجع إلى مخادعة الله كما قال الله عز وجل:**{ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ }** [النساء: 80] وقال**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ }** [الفتح: 10] وقال:**{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ }** [الأنفال: 17] ولك أن تقول معناه يعاملون الله معاملة المخادع كما يدل عليه ما رواه العياشي عن الصادق عليه السلام أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم سُئل فيما النّجاة غداً؟ قال: **" إنما النجاة ان لا تخادعوا الله فيخدعكم فان من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الإيمان ونفسه يخدع لو يشعر. قيل له: وكيف يخادع الله؟ قال: يعمل ما أمره عز وجل ثم يريد به غيره فاتّقوا الله والرّياء فانّه شرك بالله ".** { وَمَا يَخْدَعُونَ }: وما يضرّون بتلك الخديعة، وقُرِئ يُخادِعُونَ. { إلاَّ أَنْفُسَهٌمْ }: فإنّ الله غني عنهم وعن نصرتهم ولولا امهاله لهم لما قدروا على شيء من فجورهم وطغيانهم. { وَمَا يَشْعُرُونَ }: أن الأمر كان كذلك وأنّ الله يطلع نبيّه على نفاقهم وكذبهم وكفرهم ويأمره بلعنهم في لعنة الظالمين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ)
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ } لمّا انساق ذكر الكتاب الّذى هو اصل كلّ الخيرات وعنوان كلّ غائب وغائب كلّ عنوان ومصدر الكلّ وكلّ المصادر والصّوادر اعنى كتاب علىّ (ع) الى ذكر المؤمنين وذكر قسيمهم اعنى المسجّل عليهم بالكفر اراد ان يذكر المذبذب بينهما أعنى المنافق المظهر للايمان باللّسان المضمر للكفر فى القلب تتميماً للقسمة وتنبيهاً للامّة على حال هذه الفرقة تحذيراً لهم عن مثل أحوالهم بل نقول كان المقصود من سوق تبجيل الكتاب الى ذكر المؤمنين واستطرادهم بالكافرين ذكر هؤلاء المنافقين الّذين نافقوا بولاية علىّ (ع) خصوصاً على ما هو المقصود الاتمّ من الكتاب والايمان والكفر والنّفاق اعنى كتاب الولاية والايمان والكفر والنّفاق به فانّه اقبح اقسام الكفر فى نفسه واضرّها على المؤمنين واشدّها منعاً للطّالبين ولذا بسط فى ذمّهم وبالغ فى ذكر قبائحهم وذكر مثل حالهم فى آخر ذمّهم قرينة دالّة على انّ المراد المنافقون بالولاية لانّ المنافقين بالرّسالة ليست حالهم شبيهة بحال المستوقد المضيئ فانّ المنافق بالرّسالة لا يستضيئ بشيئ من الاعمال لعدم اعتقاده بالرّسالة وعدم القبول من الرّسول بخلاف المنافق بالولاية فانّه بقبوله للرسالة يستضيئ بنور الرّسالة والاعمال المأخوذة من الرّسول (ص) لكن لمّا لم يكن اعماله المأخوذة وقبوله الرّسالة متّصلة بنور الولاية كان نوره منقطعاً، وما يستفاد من تفسير الامام انّ الآية كانت اشارة الى ما سيقع من النّفاق بعلىّ (ع) يوم الغدير ومبايعة الامّة والمنافقين معه وتواطؤهم على خلافه بعد البيعة وبعد التّأكيد بالعهود والمواثيق عليهم يدلّ على انّ المراد النّفاق بالولاية. والنّاس اسم جمع من النّسيان مقلوب العين لاماً، او محذوف الّلام لغلبة النسيان عليه حيث لم يتذكّر ما الفه فى العوالم السّابقة، او من النسيئ بمعنى التّأخير مقلوباً؛ او محذوف الّلام، او من الانس بمعنى الالفة ضدّ التّوحّش محذوف الفاء او مقلوبه، او هو مأخوذ من الايناس بمعنى الابصار مع الاطمئنان بالمبصر كما قال:**{ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً }** [طه: 10] اى رأيت ناراً واطمأننت بها؛ والاظهر أنّ النّاس مأخوذ من النّسيان او النسيئ لاستعماله فى الاغلب فى مقام مناسب لهما وانّ الانسان من الانس لذلك، وقيل انّ الّلام فى النّاس عوض عن المحذوف وهو بعيد والجارّ والمجرور مبتدأ امّا لقيامه مقام الموصوف المحذوف المقدّر او لنيابته عنه لقوّة معنى البعضيّة فيه حتّى قيل: انّه بنفسه مبتدأ من دون قيامٍ مقام الغير وتقديرٍ ونيابةٍ والمعنى بعض النّاس. او خبر مقدّم، { مَن يَقُولُ } بألسنتهم من دون موافقة قلوبهم { آمَنَّا بِٱللَّهِ } او بعلىّ (ع) الّذى هو مظهر الآلهة على ما ورد من التّفسير بالايمان بالولاية { وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } يعنى بالمبدء والمعاد كأنّهم اشاروا بتكرار الجارّ الى انّ ايمانهم بكلٍّ مأخوذ عن برهانٍ لا انّ الايمان باليوم الآخر مأخوذ من الايمان بالله من دون تحقيق وبرهانٍ عليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | واعلم انّ العوالم باعتبار كلّيّاتها سبعة ومراتب كلّ عالمٍ عشرة ودرجات كلّ مرتبةٍ عشرة الى مئة الى ما شاء الله وبسبب هذه الاعتبارات اختلف الاخبار فى تحديد العوالم وبطون الآيات بالسّبعة والسّبعين والسّبعمائة الى سبعين الفاً الى ما شاء الله، واذا لوحظ المراتب من البدء الاوّل الى آخر العوالم كان كلّ مرتبة بالنّسبة الى سابقتها ليلة لقوّة الظّلمة الحاصلة من تنزّلات الوجود وكثرة التّعيّتات، واذا لوحظت من المنتهى الى المبدء كان كلّ مرتبة بالنّسبة الى سابقتها يوماً لقوّة النّور وضعف الظّلمة بالنّسبة الى سابقتها، ولهذا ذكر اليوم فى الآيات والاخبار عند ذكر العروج والصّعود والانتهاء والخروج، وذكر اللّيلة عند ذكر النّزول، والمراد باليوم الآخر امّا يوم حشر الخلائق للحساب، او يوم قيام كلّ صنفٍ فى مقامهم الّذى لا خروج لهم عنه. { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } كان المناسب لردّ قولهم: { آمنّا بالله واليوم الآخر } ان يقول تعالى شأنه: لم يؤمنوا بالله واليوم الآخر نفياً لما ادّعوه من حصول الايمان فى الزّمن الماضى لكنّه عدل الى الاسميّة مطلقةً عن التّقيّد بالزّمان والمتعلّق اشعاراً بنفى الايمان عنهم فطرةً وتكليفاً ماضياً ومستقبلاً متعلّقاً بشيئ من الاشياء فانّه كما انّ اسميّة الجملة تكون لتأكيد الايجاب تكون لتأكيد النّفى، ونفى المطلق يكون لاطلاق النّفى الاّ ان يقيّد المطلق بالاطلاق فانّ النّفى الوارد عليه حينئذٍ قد يكون لنفى الاطلاق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير تفسير كتاب الله العزيز/ الهواري (ت القرن 3 هـ)
ثم ذكر الله صنفاً آخر من الناس، يعني المنافقين فقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } يقول: أقروا لله بألسنتهم وخالفت أعمالهم. وما هم بمؤمنين، أي: حتى يستكملوا دين الله ويوفوا بفرائضه كَـ**{ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى }** [سورة النجم:37] أي الذي أكمل الإِيمان وأكمل الفرائض. قوله: { يُخَادِعُونَ اللهَ وَالذِينَ ءَامَنُوا } أي بما أعطوهم من الإِقرار والتصديق، وأعطوا الحقوق من الزكاة، يخادعون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ فجعل الله مخادعتهم رسولَه والمؤمنين كمخادعة منهم لله. وهو كقوله:**{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ }** [الفتح:10]. والإِيمان بالنبي عليه السلام إيمان بالله، والكفر به هو كفر بالله، وكذلك مخادعة الله. قال: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ } أي: إن ذلك يرجع عليهم عذابه وثواب كفره. وتفسير خدعة الله إياهم في سورة الحديد { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي أن ذلك يصير عليهم. ثم قال: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } يعني بذلك النفاق. يقول: في قلوبهم نفاق، فنسب النفاق إلى القلب كما نسب الإِثم إليه، كقوله في الشهادة:**{ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ }** [سورة البقرة:283] قال: { فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً } أي الطبع على قلوبهم بكفرهم. { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني عذاباً موجعاً { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } مخفّفة؛ أي: بقولهم: إنا مؤمنون وليسوا بمؤمنين إذ لم يستكملوا فرائض الله ولم يوفوا بها. فهذا تفسير من قرأها بالتخفيف. ومن قرأها بالتثقيل: { بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ } فهو يريد: بعض العمل أيضاً تكذيب؛ يقول: إن التكذيب تكذيبان: تكذيب بالقول وتكذيب بالعمل. ومثله في اللغة أن يقول القائل للرجل إذا حمل على صاحبه فلم يحقق في حملته: كَذَب الحملةَ، وإذا حقّق قالوا: صدق الحملة. فمن قرأها بالتخفيف فهو يريد الكذب على معنى ما فسّرناه أولاً. وأخت هذه الآية ونظيرتها التي في براءة:**{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }** [سورة التوبة:77]. يقول: أعقبهم، بالخلف والكذب الذي كان منهم، نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه. ومن قرأها بالتثقيل فهو بالمعنى الآخر الذي وصفناه آخراً، ولا يعني به جحداً ولا إنكاراً، لأن مرض النفاق غير مرض الشرك، وكذلك كفر النفاق غير كفر الشرك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ)
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمْنَا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر } ذكر الله سبحانه وتعالى أولا من آمن بظاهره وباطنه، وذكر ثانياً من كفر بظاهره وباطنه، وذكر ثالثاً فى هذه الآية من آمن بظاهره وكفر بباطنه، وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله تعالى، لأنهم كفروا بما كفر به من كفر بظاهره وباطنه من إنكار القرآن والرسالة، وإثبات الشريك والصاحبة والولد، وزادوا بسيمة الكذب والاستهزاء والخداع، وإفشاء سر المؤمنين، وعظم ضررهم فى الدين، لأنهم عدو مخالط متلبس بالصديق لا متميز معروف يحذر منه، ولذلك أطال وصفهم وذمهم، وضرب لهم الأمثال، وقال**{ إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار }** ذكروا أن الحجاج الظالم قال لجابر بن زيد رحمه الله يا أبا الشعثاء أخبرنى فيمن نزلت الآية الأولى من البقرة؟ قال فى المؤمنين. قال والثانية قال فى المشركين. قال والثالثة؟ قال فيك وفى أصحابك، يعنى المنافقين، وأشار رحمه الله إلى أن فساق الموحدين يسمون منافقين كما يسمى هؤلاء المشركون الذين آمنوا بألسنتهم فقط منافقين، وأنهم مثلهم فى المعنى ودخول النار. ومن للتبعيض، وأل فى الناس للعهد الذكرى، وهم الذين كفروا المذكورون فى قوله عز وجل**{ إن الذين كفروا }** أى ومن الذين كفروا من لا يكفر إلا بباطنه، وأما لسانه فيقول به آمنا بالله واليوم الآخر، ويجوز أن تكون أل للحقيقة، وأصل ناس أناس، حذفت الهمزة وهى فاء الكلمة، فوزن ناس عال، ووزن أناس فعال بضم أوله، ولما حذفت عوض عنها أل ولا مانع من كونها للتعويض والتعريف جميعاً، وقد تحذف أل بعد ما عوضت عن الهمزة، أو يقال تعويضها غالب لا لازم، ويدل على تعويضها أنه لا يقال الإناس بالجمع بين أل والهمزة إلا شاذ كقوله | **إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا فتذرهم شتى وقد كانوا جميعاً وافرينا** | | | | --- | --- | --- | وهما بيتان من مجزوء الوافر، وأناس اسم جمع كرخال بضم الراء وكسرها والواحد إنسان وإنسانة، والرخيل الأنثى من ولد الضأن، وقيل هو جمع إنسان أو إنسانة، وكل ذلك من الأنس ضد الوحشة، لأن الناس يأنسون ويؤنسون، أو من أنس بمعنى ظهر، لأن الناس ظاهرون مبصرون، كما سموا بشراً لظهروهم ضد تسمية الجن جناً لاجتنانهم، أى استتارهم أو سموا بشراً لظهور بشرتهم، أى جلدتهم، بخلاف سائر الحيوان فإن جلدتها مغطاة بصوف أو شعر أو وبر أو ريش، وقيل الناس بوزن فلع بفتح الفاء واللام وتأخير العين مأخوذ من النسيان، لأنهم عهد إليهم فنسوا ولأنهم خلقوا على أن ينسوا، وعلى هذا فلا حذف، وأصله نسى بفتح النون والسين المنونة كفتى قدمت الألف على السين، وأصل تلك الألف ياء متحركة فى الأصل، وبعد التقديم قلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولكن حركتها فى الأصل بحسب الإعراب، وبعد التقديم فتحه، وقيل الناس بوزن فعل بفتح الفاء والعين وتأخير اللام، وأصله نوس بفتح النون والواو، وتحركت الواو وانتفح ما قبلها فقلبت ألفاً وهو من ناس ينوس إذا تحرك، ومن نكرة موصوفة إذ لا عهد تكون به اسماً موصولا كأنه قيل، ومن الناس ناس قائلون آمنا بالله وباليوم الآخر، لأنا لو جعلنا أل فى الناس للعهد فى قوله عز وجل | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إن الذين كفروا }** ولكن القائلون المذكورون لم يتميزوا فيهم بتعيين ولا بصفة من الصفات تميزهم عن سائر من كفر، هذا ما قلته، وقال القاضى إنه إذا قلنا أل فى الناس للعهد كانت موصولة أريد بها ابن أبى وأصحابه ونظراؤه، وأنهم من حيث صمموا على النفاق دخلوا فى عداد الكفار المختوم على قلوبهم، وأن اختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس، فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادة تخلتف فيها أبعاضها، وعلى هذا الوجه تكون الآية تقسيما لقوله**{ إن الذين كفروا }** وعلى الوجه الأول وهو جعل أل فى الناس للحقيقة لا يكون تقسيما، لكن الأقسام على كل حال ثلاثة مؤمن خالص، وكافر خالص، ومنافق مؤمن بلسانه فقط آمنا بالله واليوم الآخر والرسول والقرآن والملائكة وغير ذلك، وإنما خص الإيمان بالله واليوم الآخر لذكر تخصيصاً لما هو المقصود الأعظم من الإيمان، وإظهاراً لما ادعوه من أنهم اشتملوا على الإيمان من جانبيه، وحازوه كله وإعلاماً بأنهم منافقون فيما ظنوا أنهم فيه مخلصون، فكيف فيما قصدوا فيه النفاق، لأن المراد بقوله**{ من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر }** قوم من اليهود، كابن أبى وأصحابه ومن شايعهم من غير اليهود، وهم يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيماناً خالصاً فى زعمهم، لكنه فى الحقيقة منتف، لأن الإيمان بشىء على غير صفته ليس إيماناً على الحقيقة، فإنهم آمنوا بالله وشبهوه بخلقه فى العباء والحلول، واتخاذ الصاحبة سبحانه عن ذلك وعن كل نقص، فكأنهم لم يؤمنوا به، بل بغيره، فإن من اتصف بذلك لا يكون إلهاً، وآمنوا باليوم الآخر، ولكنهم قالوا إن الجنة لا يدخلها غيرهم، وإن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة ويظنون أن إيمان المؤمنين مثل إيمانهم، وأيضاً خص الإيمان بالله واليوم الآخر بالذكر بياناً لتضاعف خبثهم وإفراطهم فى الكفر، لأن ما قررنا عنهم فى زيغ إيمانهم بالله واليوم الآخر لا يكون إيماناً ولو صدر عنهم على نيتهم المذكورة الزائغة فقط، فكيف يكون إيماناً وقد قالوا تمويهاً على المسلمين، وتهكماً بهم، وإنما أعاد الباء فى قوله وباليوم الآخر إعلاماً بأنهم ادعوا الإيمان بالله على الأصالة والاستحكام، وباليوم الآخر على الأصالة والاستحكام كذلك، والقول اللفظ المفيد، ويطلق على التلفظ بكل ما وضع وضعاً بلغة عربية ولو غير مفيد، أو غير مركب أو بلغة غير عربية، أو بلفظ مهمل، هذا فى اللغة، لأنه حكاية لما نطق به اللسان كائناً ما كان، وأما تخصيصه لغير المهمل فإنما هو عندى فى اصطلاح النحويين، ويطلق على الكلام النفسى وعلى الرأى مجازا، واختيار بعض المنطقتين أنه حقيقة، ويطلق القول بمعنى المقول أيضاً على المعانى المذكورة كلها إطلاقاً للمصدر، على معنى اسم مفعول، واليوم الآخر وقت البعث إلى ما لا نهاية له، وقيل إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، لأنه آخر الأوقات المحدودة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } الضمير عائد إلى من باعتبار معناه، لأنه واقع على جماعة فأتى به ضمير جماعة، واعتبر لفظه فى يقول فكان فاعل يقول ضمير المفرد وهو مستتر، والمعنى إن ما ادعوه من الإيمان غير ثابت، لأن الإيمان بالشىء على غير إيمان به، وأصل الكلام أن يقال وما آمنوا، ليطابق قولهم آمنا فى التعريض للتصريح بشأن الفعل الذى هو الإيمان، وشأنه فى قوله { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمْنَا } إثباته فى قولك وما آمنوا، نفيه دون التعريض للتصريح بشأن الفاعل، ولو صرح به لقيد، ومن الناس من يقول إنا من أهل الإيمان بالله وباليوم الآخر، أو إنا مؤمنون بالله وباليوم الآخر، أو نحن من أهل الإيمن بالله وباليوم الآخر، أو نحن مؤمنون بالله واليوم الآخر، ونحو ذلك كما صرح بشأن الفاعل فى قوله { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنينَ } ، وإنما لم يأت بالمطابقة المذكورة، بل صرح بشأن الفاعل فى قوله { وَمَا هُمْ بمُؤْمنِينَ } دون قوله { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ }... إلخ تأكيداً ومبالغة فى التكذيب، لأن إخراج ذواتهم من جملة المؤمنين، إذ قال { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنينَ } أبلغ من نفى الإيمان عنهم فى صورة ماضى الزمان بقولك وما آمنوا فلقصد التأكيد والمبالغة أكد النفى بالباء إيضاح المبالغة، والتأكيد فى تكذيبهم فى ادعاء الإيمان أنه لو قيل وما آمنوا لكان نفياً للملزوم ابتداء، ولما قال { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنينَ } كان نفياً للملزوم، وبانتفاء لازمه لا ابتداء وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء ملزومه، فكونهم مؤمنين لازم، وكونهم آمنوا إيماناً صادقاً ملزوم، وقد نفى اللازم، فانتفى الملزوم، وإن قلت قولك هم مؤمنون جملة إسمية، والجملة الاسمية تدل على الثبات، فاذا أدخلت النفى عليها كان نفياً لمدلولها الذى هو الثبات للنفى، وتأكيده قلت إنما يكون نفياً لمدلولها الذى هو الثبات، إذا اعتبر الثبات بطريق التأكيد والدوام ونحوهما، ثم نفى، والآية ليست كذلك، بل اعتبر النفى فيها أولاً ثم أكد بالباء وجعل بحيث يفيد إثبات الدوام كما أن قولك ما أنا سعيت فى حاجتك لاختصاص النفى، كأنك قلت ما سعيت فيها، بلى سعى فيها غيرى، لا نفى الاختصاص، إذ لم ترد ما سعيت فيها وحدى، بل مع غيرى، فالآية من تقييد النفى لا من نفى التقييد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإن قلت فهل المراد بقوله تعالى { وَمَا هُمْ بِمؤْمِنينَ } نفى ما أثبتوه من الإيمان بالله وباليوم الآخر، أو نفى الإيمان مطلقاً؟ قلت أيحتمل أن يكون المراد نفى الإيمان عنهم مطلقاً، أشاروا إلى ثبوت الإيمان لهم كله بإثباتهم إياه لأنفسهم بقطريه اللذين هما الإيمان بالله واليوم الآخر، فنفاه الله عز وجل عنهم كله. ويحتمل أن يكون المراد الاقتصاد فى الظاهر على نفى ما أثبتوه فى الظاهر وحده، فكأنه قيل وما هم بمؤمنين بالله ولا باليوم الآخر، فحذف لكونه يعلم من كون الكلام رداً لقولهم آمنا بالله وباليوم الآخر، ومن نطق بالشهادتين وفرغ قلبه عما يوافقهما وعما ينافيهما، أو فرغ عما يوافقهما فقط لم يكن مؤمناً بذلك النطق خلافاً للكرامية. والآية تدل على أن من ادعى الإيمان، وخالف قلبه ادعاءه لم يكن مؤمناً وتقدم الرد على الكرامية، ولا تكون الآية نصاً فى الرد عليهم، لأنها فى الادعاء، وخلافهم فى النطق بالشهادتين دون موافقة القلب، وظاهر الشيخ هود رحمه الله إن إيمان هؤلاء كان من قلوبهم، وإنما نفى الله عنهم الإيمان لعدم وفائهم بالأعمال، إذا قال أقروا الله بألسنتهم وخالفت أعمالهم وما هم بمؤمنين حتى يستكملوا دين الله، ويوفوا بفرائضه كإبراهيم الذى وفى، يعنى أكمل الإيمان وأتم الفرائض... انتهى. وسياق الآية يدل على كفرهم بقلوبهم، إذ وصفهم الله بالتكذيب، فتقول مراده رحمه الله أنهم أقروا لله بألسنتهم فقط دون قلوبهم، فاحترز عن ثبوت الإيمان فى قلوبهم، بقوله بألسنتهم، وصرح بنفى الأعمال بقوله وخالفت أعمالهم، أو أراد بقوله خالفت أعمالهم أنه خالفت أعمال قلوبهم، وأعمال جوارحهم إذ لم يعتقدوا فى قلوبهم ما فى ألسنتهم والعمل الصالح فى القلب اعتقاده الحق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
{ وَمِنَ النَّاسِ } أصله النوس بفتح الواو، وقلبت ألفا لتحركها بعد فتح، من ناس ينوس، بمعنى تحرّك، ولا يخلو بنو آدم من تحرك، ووجه التسميه لا يوجبها، فلا يلزم أن يسمى ناسا كل ما يتحرك، أو أصله أناس حذفت الهمزة، وعوضت أل، وهو من الأنس ضد الوحشية، فالألف زائدة، والناس يستأنس بهم، قال بعض: | **وَمَا سُمِّىَ الإِنْسَانُ إِلاَّ لأُنْسِهِ** | | **وَلاَ القَلْبُ إِلاَّ أَنَّهُ يَتقلَّبُ** | | --- | --- | --- | والأصل نيس بكسر الياء، قلبت ألفا لتحركها بعد فتح، ووزنه على هذا فلع من النسيان، إذ لا يخلو من نسيان، قال الله تعالى فى آدم:**{ فنسي ولم نجد له عزما }** [طه: 115] ويطلق على الجن مجازا، وقيل حقيقة: { مَن يَقُولُ ءَامَنَّا } فى قلوبنا وألسنتنا إيمانا مستمدا { باللَّهِ } وجودا وألوهة، ومخالفة لصفات الخلق { وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ } الوقت الآخر، وهو وقت البعث إلى مالا نهاية له، والوقت الأول وقت الدنيا، ولا يقال اليوم الآخر وقت دخول الجنة والنار، وقبله وقت وهو البعث وما بعده إلى الدخول، لأن الإيمان بالبعث والموقف والحساب أيضاً واجب { وَمَا هُمْ بِمُؤمِنِينَ } ذلك الإيمان الذى ادعوه، بل الإيمان فى ألسنتهم والكفر فى قلوبهم، والخروج عن مقتضاه فى جوارحهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- )
ذكر صفات المنافقين: بعدما ذكر الله تعالى فريق الكفار المصارحين بما تنطوي عليه نفوسهم من الضلال وما تغلي به صدورهم من عداوة الحق وأهله، عطف على قصتهم قصة فريق آخر، لا يقل عن ذلك الفريق خطورة على الاسلام وأهله، بل هو أشد منه خطرا، وأبلغ منه ضررا - كما سيأتي بيانه - وهو فريق يرتدي أردية الاسلام ليغطي بها خفايا الكفر وبواطن الضلال، وهذه الصفة سميت في العرف الشرعي بالنفاق. وقصة المنافقين هنا جاءت في جمل متتابعة منتظمة في سلك من الآي، معطوفة على ما سبق وقد كان هذا العطف مثار اهتمام الباحثين من المفسرين وغيرهم، وقد ظل أكثرهم يتخبط في قيود الاشكال حتى جاء من أزاح الستار عن وجهه وكشف ما خفي من حقيقته، وهو العلامة جار الله الزمخشري، في تفسيره المشهور " الكشاف " فقد بين فيه أنه عطف قصة على قصة أخرى وكل واحدة من القصتين تحتوي على مجموعة من الجمل، وبهذا تندفع الحاجة إلى مناسبة للعطف كالتي تكون بين الجملتين إن عطفت إحداهما على الأخرى، وإنما يكفي في مثل هذا الموضع التناسب بين الغرضين من القصتين دون احاد الجمل الواقعة فيهما. ولم تفصل هذه القصة عما قبلها كما في قوله تعالى: { إنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ.. } (الآية)، لأن الفصل هناك لأجل تطلع السامعين بعد ذكر فريق المؤمنين إلى خبر ذلك الفريق الآخر الذي ظاهر قوله عقيدته الضالة الفاسدة، فكان السامع كالسائل عنه، فجاء الفصل لاستئناف بيانه. أما هذا الفريق فلالتوائه في معاملته وستره قبائح طواياه بمحاسن ظاهره، كان أغمض حالا وأندر وصفا، وأغرب تصورا، بحيث لا يخطر بالبال وجود مثله، فلم يكن داع إلى استئناف بيانه لأن السامعين - لفراغ بالهم منه - لم يكونوا يتطلعون إلى خبره، ومن ثم كان هذا العطف. وقبل الكلام عن تفاصيل ما تحتويه الآية الكريمة جملة وإفرادا أرى من المناسب أن أذكر النفاق ومدلوله اللغوي والعرفي. مدلول النفاق ومعناه: أما لغة: فهو من نَفَّق اليربوع تنفيقا، ونافق نفاقا إذا دخل في نافقائه، وذلك أن لبيت اليربوع بابين؛ ظاهرا وخفيا، فإذا أراد أحد اصطياده وترصد له في بابه الظاهر، خرج من بابه الخفي، وفات المصطاد. ويسمى الظاهر قاصعاء، والخفي نافقاء. ويقال إذا خرج من النافقاء نَفِقَ - بكسر الفاء وفتحها - وانتَفَقَ ونَفَّق. وأما اصطلاحا فهو الدخول في الاسلام من وجه والخروج عنه من وجه آخر، وهو بهذا المعنى اسم جديد جاء به القرآن ولم تكن العرب تعرفه في جاهليتها، وهو مأخوذ من المعنى اللغوي المتقدم. فإن المنافق بصنيعه هذا يشبه اليربوع في مخادعته لمن يحاول اصطياده بدخوله من باب ظاهر وخروجه من باب خفي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكما يطلق النفاق شرعا على مخالفة العقيدة للقول، يطلق كذلك على عدم التزام واجبات الاسلام العملية، والتلبس بالأعمال والأخلاق المنافية لصفاء الدين وطهارته، والدلائل على ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال صحابته - رضي الله عنهم - كثيرة يشد بعضها بعضا، منها ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا أئتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر "** ، وفي رواية للنسائي: **" إذا وعد أخلف "** بدلا من " إذا ائتمن خان " وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر "** وفي رواية مسلم: **" وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم "** بعد قوله " آية المنافق ثلاث ". وفي رواية لهما وللترمذي والنسائي مثل ما تقدم ولكن بإبدال **" إذا ائتمن خان "** من قوله " إذا عاهد غدر ". وأخرج النسائي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: **" ثلاث من كن فيه فهو منافق؛ إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا وعد أخلف فمن كانت فيه واحدة منهن لم تزل فيه خصلة من النفاق حتى يتركها ".** وأخرج البخاري عن زيد بن عبدالله بن عمر قال: قال ناس لابن عمر: إنا لندخل إلى سلطاننا وأمرائنا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، فقال: كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نص في أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يَعُدّون مخالفة الحق في العمل من النفاق، وهذا هو قول أصحابنا - رحمهم الله - وهو الذي اعتمده الحافظ بن حجر في شرحه لأحاديث النفاق من صحيح البخاري، وعزاه كل من ابن حجر والعيني في شرحيهما على البخاري إلى القرطبي، وعزاه العيني إلى الخطابي ونسبه الترمذي في جامعه إلى أهل العلم. قسما النفاق: وبهذا يتبين لك أن النفاق ينقسم إلى: نفاق عقيدة، ونفاق عمل. وبما أن كثيرا من علماء المذاهب ينكرون نفاق العمل ولا يرون النفاق إلا في إبطان خلاف الظاهر من الاعتقاد، أشكلت عليهم هذه الأحاديث، وجرهم ذلك إلى تأويلها بما يتفق مع رأيهم، وإن خالف ظاهر مدلولها. والحق أن الكتاب والسنة فوق الآراء والمذاهب، فيجب أن تخضع لهما الآراء دون العكس، وليس في نسبة ثلاث خصال أو أربع إلى النفاق ما يمنع من كون النفاق العملي ينسحب حكمه على كل ما خالف الدين من الأعمال، فإن ذكر هذه الخصال لا يقتضي الحصر، وإنما هو من باب التمثيل والتقريب للأذهان، ومما هو ظاهر بداهة أن التمثيل بها دال على خطورتها، ومقتض للتحذير منها والعدد هنا ليس له مفهوم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والنوع الأول من النفاق هو الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر إلى المدينة، ولم يكن في عهد الدعوة المكي وجود للمنافقين، إذ لم يكن ثم مناخ ملائم لِنَبْتِ النفاق، فقد كان السلطان بأيدي المشركين وكان المسلمون معرضين للأذى من قِبَلهم، فلم يكن داع لأن يتملق أحد إلى المسلمين بإعلان الاسلام مع استسرار ضده كما ألمحت إلى ذلك في مقدمة تفسير هذه السورة. وعندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تتلبس دار الهجرة بادىء الأمر بالنفاق، إذ كان الناس فيها بين مؤمن صادق الايمان، وكافر يجاهر بكفره، سواء كان يهوديا أو وثنيا، حتى تحقق للاسلام النصر المؤزر في غزوة بدر الكبرى التي كانت إيذانا بظهور الحق واكتساحه الباطل، فرجفت القلوب المريضة ممن تخلف عن ركب الايمان من الأوس والخزرج وأحلافهم من اليهود، وكان بنو قينقاع أحلاف الخزرج، وبنو قريظة والنضير أحلاف الأوس. واليهود من طبعهم الحقد الأسود، والكراهة المتأصلة للحق والعداء المستحكم لأهله، وقد شعروا أن دعوة الحق التي اتخذت من المدينة مركزا لها سوف تبتز منهم سلطانهم الروحي وسوف تكشف ما كانوا يطوونه عن الناس من قبائح صنعهم عبر تاريخهم الطويل، كقتلهم الأنبياء بغير حق وافترائهم على الله بتحريف ما أنزل، فكان ذلك الشعور نارا حامية تتأجج بين جوانحهم فتلهب صدورهم بإوار الحسد للدعوة ورجالها. ومن بين أفراد الأوس والخزرج من كان لم تُرق له هذه الدعوة، كعبد الله بن أُبَيّ ابن سلول، الذي فكر أن الايمان والهجرة قد اختطفا من يديه أعز ما كان يطمح إليه؛ وهو تتويجه ملكا على يثرب بعد التناحر الطويل بين قبيلتيها، وكان ذلك على وشك أن يتم لولا إكرام الله المدينة ومن فيها بإبدالهم ما فيه عز الدنيا وسعادة الآخرة، وهو إشراق أنوار النبوة في ربوعها، وتحول أهلها من الضلالة إلى الهدى، ومن التشتت إلى الوئام، فلا عجب إذا وقف عبدالله بن أبيّ موقف الخصم اللدود من هذه الدعوة لهذا السبب، مع ما كان متلبسا به من خبث الطوية وانحراف الطبع وفساد الفطرة، وعندما هزت أصداء الانتصار الحاسم الذي أحرزه الاسلام في غزوة بدر أركان المشركين والمفسدين، أخذ يحسب يهود المدينة والذين بقوا على الكفر من الأوس والخزرج ألف حساب لمستقبل هذا الدين، فدلتهم خسة طباعهم على إظهار - هذه المجموعة المتخلفة عن الايمان من الأوس والخزرج مع ثلة من اليهود - الاسلام بألسنتهم مع بقائهم على عقيدة الكفر وشرور الأعمال وخبث النوايا، وكانوا يهدفون من ذلك إلى أمرين: أولهما: الأمن على أنفسهم وأموالهم من سطوة الاسلام مع ما في ذلك من مشاركة المسلمين في منافع الحياة الدنيا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثانيهما: انتهاز الفرص المواتية لطعن الاسلام من الخلف وإثارة الاضطراب بين المسلمين من الداخل. فتم بهذا ميلاد عهد المواجهة بين الاسلام وعدو ماكر خبيث يرتدي ملابس الأصدقاء، ذلكم العدو هو النفاق الذي كان يعد أخطر من الكفر الصريح، غير أن الوحي كان واقفا لهؤلاء المنافقين بالمرصاد، فكان ينزل بين حين وآخر ببيانه البليغ ليفضح طواياهم، ويعرّي دخائلهم، ويكشف مؤامراتهم. وبما أن هذه الطائفة جمعت بين الكفر بالله الذي أخلدت إليه في سريرتها وبين الهزء بالمؤمنين، ومعاملتهم بالكذب والخداع كانت بحق أشد وأنكى وأدهى وأمر من الطائفة السالفة الذكر وهي طائفة الكفار، ولذلك خصت تلك بآيتين فقط، بينما تتابعت في هذه إحدى عشرة آية تصمهم بقوارع إنكارها، وتمطرهم بصيب وعيدها. ومما يجب أن لا يعزب عن فهم اللبيب أن هذه الطائفة لم تنته بانتهاء عهد النبوة، ولم تنعدم بانعدام أولئك الأفراد، فما أكثر المنافقين في عصور ما بعد النبوة الذين يتمسحون بالدين لقصد نقض عراه، ودك قواعده، ومن بين هؤلاء من يخدع الناس بمظهر عنايته بالدين. فيجب على المسلمين أن يكونوا من أمثالهم على بصيرة، وكفى بالقرآن كاشفا عن سماتهم التي يتميزون بها وأحوالهم التي يختصون بها دون غيرهم. ولعمري ليست هذه العناية البالغة بهتك أستار المنافقين وإعلان أسرارهم على الملأ لأجل حفنة منهم كانت تندس بين صفوف الاسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هي لأجل تنبيه الأمة بمخاطر أعقابهم الذين لا يخلو منهم عصر ولا يسلم منهم جيل. وأكثر المنافقين في عهده صلى الله عليه وسلم لم يكونوا معروفين بأعيانهم، وإنما يهتدى إليهم بهذه السمات الخاصة بهم، خلافا لمن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحيط بجميعهم علما، فإننا إذا تصفحنا آيات القرآن وجدنا ما يدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى:**{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ }** [التوبة: 101]. وقوله:**{ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً }** [الأحزاب: 60]، وقوله:**{ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ }** [القتال: 30]. وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستدل عليهم بفلتات ألسنتهم وسائر بوادرهم، كما يستدل عليهم بما يبدو على قسمات وجوههم من شارات المكر وإشارات الزور، ولا يمنع ذلك أن تكون منهم جماعة مكشوفة بأعيانها كما يدل على ذلك حديث حذيفة - رضي الله عنه - ومن هؤلاء الذين تآمروا على النبي صلى الله عليه وسلم على رأس العقبة عند عودته من تبوك بمحاولة إثارة دابته حتى يسقط عنها، وقد أخبر الله نبيه بشأنهم وكانوا أربعة عشر كما جاء به حديث حذيفة عند مسلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقوله تعالى: { ومن الناس } شروع في الاخبار عن هذه الطائفة المتلوية والكشف عن صفاتها، وهو خبر مقدم على المبتدأ، وهو مَنْ، سواء قلنا إنها موصولة أو موصوفة، وقد استشكل اعتبار من الناس خبرا لأن الخبر ما تحصل به الفائدة، وكون هؤلاء من الناس ليس أمرا عازبا عن الأفهام حتى يحتاج إلى البيان، والكل يعرف أنهم ليسوا من الملائكة ولا الجن ولا البهائم، والنظر إلى ما بعد المبتدأ يقضي على هذا الاشكال، إذ ليس القصد الاخبار عن إنسانيتهم وإنما الاخبار عن وجود طائفة من الناس تتلون في حالاتها وتتلوى في معاملاتها تدعي الايمان بألسنتها وتهدم ما تدعيه بأفعالها لأن أفئدتها فارغة من جوهر الايمان، ويغنيكم هذا النظر عن كثير من التأويلات التي لجأ إليها المفسرون، كقول السيد الجرجاني بأن مضمون الجار والمجرور هنا مبتدأ على معنى وبعض الناس وخبره مَنْ موصولة كانت أو موصوفة، وقول بعضهم بأن صفات هؤلاء لما كانت تنافي الانسانية كانت حالهم جديرة بالاستغراب، وحسن أن يخبر عنهم بأنهم من الناس، ويرده وقوع مثل هذا التركيب حيث لا يتأتى مثل هذا الاعتبار كقوله تعالى:**{ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ }** [الأحزاب: 23]، وكقول بعض المفسرين بأن هؤلاء لسوء حالهم وفساد أخلاقهم حقيقون بأن يستحيى من ذكر أشخاصهم، فلذلك اكتفى سبحانه في الاخبار عنهم بقوله { ومن الناس } ، ونحو ذلك ما جاء في الأخبار **" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد التعريض ببعض الناس قال: " ما بال رجال يفعلون كذا.. " "** والناس جمع إنسي - بكسر الهمزة وياء النسب - عوضا عن أناسي، وهو الجمع القياسي له، ولا يبعد أن يكون اسم جمع وليس بجمع لخروجه عن أقيسة الجموع المطردة. ويرى بعض أئمة العربية أن (أل) فيه عوض عن همزة أناس، ويرد ذلك قول عبيد بن الأبرص: | **إن المنايا يَطلِعْنَ على الأناس الامنينا** | | | | --- | --- | --- | حيث جمع بينهما مع عدم اجتماع العوض والمعوض عنه. و(أل) فيه للجنس لأنه المتبادر عند الاطلاق، وجوّز بعضهم أن تكون للعهد والمعهود هم الناس المومى إليهم بقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أو الناس المعهودون عند النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنهم متصفون بهذا الشأن، والعهد ذكري على الأول. ذهني على الثاني، والراجح كونها للجنس؛ لأن اعتبارها للعهد والمعهود الذين كفروا ينافي ما تقدم ذكره؛ من أن هؤلاء قسم برأسه لاختلافهم عن الكفار في غموض حالهم والتواء مسلكهم. أما اعتبار المعهودين قوما يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بهذا الشأن، فهو ينافي أن هذه الآيات هي التي جاءت لتعريف أحوالهم وتعرية صفاتهم وكشف بواطنهم، كما ينافي ما رجحناه من قبل واستدللنا له من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحيط بأعيانهم علما فما بالكم بالمؤمنين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقولهم: آمنا بالله واليوم الآخر إيهام للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنهم أمسكوا من الايمان بطرفيه وأحاطوا من اليقين بقطريه، ذلك لأن الايمان بالله يعني الايمان بصفاته وأفعاله؛ بما في ذلك بعث الرسل وإنزال الكتب، فيدخل فيه ضمنا الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، والايمان باليوم الآخر يستلزم العمل الصالح الذي هو عدة المؤمنين وزادهم لذلك اليوم، فهم بقولهم هذا يوهمون المؤمنين بأنهم جمعوا بين رسوخ العقيدة وصلاح العمل، ومما يتبادر أيضا أن الايمان بالله المعبود يقتضي الوفاء بحق عبادته على أنه في الحقيقة مبدأ للاعتقادات الحقة جميعها، لأن من لم يؤمن بإله واحد لا يصل إلى الايمان بالرسول ولا غيره من سائر أركان الايمان، كما أن الايمان باليوم الآخر هو الباعث على صالح الأعمال، والوازع عن سيئها. وجوّز بعض أئمة التفسير أن يكون اقتصارهم على ذكر هذين الركنين من أركان الايمان لأمر في نفوسهم، وهو أنهم يأنفون من ذكر الايمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه ما وجدوا إلى ترك ذكرهما سبيلا، ويوهمون من يسمعهم من المؤمنين بقولهم هذا أنهم أرادوا به الاكتفاء وليس الأمر كذلك. ومن حيث أن جلهم أو جل قادتهم من اليهود وهم عندهم بقية من التصديق باليوم الآخر كما يصدقون بوجود الله لم يجدوا في ذكر هذين الركنين ما يخل بما استقروا عليه من الاعتقاد. وما جوّزه مدفوع بما في صدر سورة المنافقين وهو قوله تعالى:**{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }** [المنافقون: 1]، فإنه نص على أنهم كانوا يؤكدون له صلى الله عليه وسلم تصديقهم برسالته بأوضح بيان، ولا أدل على ذلك من تصدير كلامهم المحكي بالشهادة التي هي - في حقيقتها - اعتراف باللسان بما اطمأن إليه القلب وصدق به العقل، مع تأكيد ذلك باللام المقوية لما في إن من التوكيد، وذلك يدل على أنهم كانوا يجهدون في إيهام النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنهم مصدقون برسالته عليه أفضل الصلاة والسلام، ومنخرطون في سلك الذين أخلصوا الايمان بها، وحرضوا على الوفاء بحقها، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى في نفس سورة المنافقون { ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً }. وبهذا تدركون أن الوجه في الاقتصار على ذكر الايمان بالله واليوم الآخر هو ما أسلفناه من قبل. واليوم الآخر بدايته قيام الساعة، ونهايته استقرار السعداء في الجنة، والأشقياء في النار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والايمان به يشمل الايمان بالبعث والحساب، والثواب والعقاب، وقيل بدايته قيام الساعة وليست له نهاية، فإن اليوم المحدد هو ما اكتنفه الليل في أوله وآخره، واليوم الآخر لا ليل بعده ولذلك كان آخرا. ومهما يكن المراد به فإنه لا بد في تحقق الايمان به من الايمان بما أسلفناه. وهؤلاء المنافقون ليسوا من الايمان في شيء وإنما تستروا بظواهر الايمان حفاظا على سلامة حياتهم، وحرصا على تأمين مصالحهم الدنيوية، فلذلك كشف الله ما ستروا، وأبطل ما ادعوه بقوله { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ، وجاء نفي الايمان عنهم بصيغة تختلف عن صيغة ادعائهم له، فهم ادعوه بقولهم { آمنا } وهو جملة فعلية تنبىء عن حدوث الايمان، ورد عليهم بقوله { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } وهو جملة إسمية دالة على الاستمرار والدوام، وهي أبلغ في الدلالة على نفي ما ادعوه، لأن انتظامهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الايمان الحقيقي لهم، وانتفاء اللازم أقوى دليل على انتفاء الملزوم، واستمرار النفي أدل على انتفاء حدوث الواقع المزعوم مطلقا، ويتأكد ذلك النفي بدخول الباء وهذا هو سبب العدول في الرد عما يطابق قولهم، نحو { وما آمنوا } وفي هذا الرد ما يدل على بطلان قول من زعم من المرجئة أن الايمان هو مجرد القول، ولو لم يقترن به اعتقاد فإن المنافقين كانوا يزعمون بملء أفواههم أنهم آمنوا وينطقون بالشهادتين أمام جماهير المؤمنين، ولم يغنهم ذلك شيئا عند الله لخلو بواطنهم من أصل الايمان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ)
هذه الآية وما بعدها إلى آخر القصة معطوفة على قصة**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }** [البقرة: 6] وكل من المتعاطفين مسوق لغرض إلا أن فيهما من النعي على أهل الضلال ما لا يخفى وقد سيقت هذه الآية إلى ثلاث عشر آية لنعي المنافقين الذين ستروا الكفر وأظهروا الإسلام فهم بحسب الظاهر أعظم جرماً من سائر الكفار كما يشير إليه قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ }** [النساء: 145] والناس ـ أصله عند سيبويه والجمهور ـ أناس وهو جمع أو اسم جمع لإنسان، وقد حذفت فاؤه تخفيفاً فوزنه فعال، ويشهد لأصله إنسان وإنس وأناسي ونقصه وإتمامه جائزان إذا نكر فإذا عرف بأل فالأكثر نقصه ومن عرف خص بالبلاء ويجوز إتمامه على قلة كما في قوله: | **إن المنايا يطلعـ** | | **ـن على الإناس الآمنينا** | | --- | --- | --- | وهو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة لأنسه بجنسه لأنه مدني بالطبع ومن هنا قيل: | **وما سمي الإنسان إلا لأنسه** | | **ولا القلب إلا أنه يتقلب** | | --- | --- | --- | أو من آنس أي أبصر قال تعالى:**{ آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً }** [القصص: 29] وجاء بمعنى سمع وعلم، وسمي به لأنه ظاهر محسوس، وذهب السكاكي إلى أنه اسم تام وعينه واو من نوس إذا تحرك بدليل تصغيره على نويس فوزنه فعل. وفي «الكشاف» أنه من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل، وقيل: من نسي بالقلب لقوله تعالى في آدم عليه السلام:**{ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }** [طه: 115] وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فوزنه حينئذ (فلع) ولا يستعمل في الغالب إلا في بني آدم، وحكى ابن خالويه عن ناس من العرب: أناس من الجن، قال أبو حيان: وهو مجاز وإذا أخذ من نوس يكون صدق المفهوم على الجن ظاهراً لا سيما إذا قلنا إن النوس تذبذب الشيء في الهواء، وعن سلمة بن عاصم أنه جزم بأن كلا من ناس وأناس مادة مستقلة. واللام فيه إما للجنس أو للعهد الخارجي فإن كان الأول فمن نكرة موصوفة وإن كان الثاني فهي موصولة مراداً بها عبد الله بن أبـيّ وأشياعه، وجوز ابن هشام وجماعة أن تكون موصولة على تقدير الجنس وموصوفة على تقدير العهد لأن بعض الجنس قد يتعين بوجه ما وبعض المعينين قد يجهل باعتبار حال من أحواله كأهل محلة محصورين فيهم قاتل لم يعرف بعينه كونه قاتلاً وإن عرف شخصه فلا وجه للتخصيص عند هؤلاء، وقيل إن التخصيص هو الأنسب لأن المعرف بلام الجنس لعدم التوقيت فيه قريب من النكرة وبعض النكرة نكرة فناسب من الموصوفة للطباق والأمر بخلافه في العهد، وعلى هذا الأسلوب/ ورد قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ }** [الأحزاب: 23]**{ وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِىَّ }** [التوبة: 61] لأنه أريد في الأول الجنس، وفي مرجع الضمير في الثاني طائفة معينة من المنافقين، ولما كان في الآية تفصيل معنوي لأنه سبحانه ذكر المؤمنين ثم الكافرين ثم عقب بالمنافقين فصار نظيراً للتفصيل اللفظي، وفي قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق ـ تضمن الإخبار عمن يقول بأنه من الناس ـ فائدة، ولك أن تحمله على معنى من يختفي من المنافقين معلوم لنا ولولا أن الستر من الكرم فضحته فيكون مفيداً أيضاً وملوحاً إلى تهديد ما، وقيل: المراد بكونهم من الناس أنهم لا صفة لهم تميزهم سوى الصورة الإنسانية، أو المراد التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية فيتعجب منها أو مناط الفائدة الوجود أي إنهم موجودون فيما بينهم أو إنهم من الناس لا من الجن إذ لا نفاق فيهم، أو المراد بالناس المسلمون والمعنى أنهم يعدون مسلمين أو يعاملون معاملتهم فيما لهم وعليهم، ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الكلف والتكلف ولكل ساقطة لاقطة، واختار أبو حيان هنا أن تكون { مِنْ } موصلة مدعياً أنها إنما تكون موصوفة إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في الأكثر، وفي غير ذلك قليل حتى أن السكاكي على علو كعبه أنكره ولا يخفى ما فيه، ولا يرد على إرادة العهد أنه كيف يدخل المنافقون مطلقاً في الكفرة المصرين المحكوم عليهم بالختم وإن { وَمِنَ ٱلنَّاسِ } الآية وقع عديلاً لأن الذين كفروا بياناً للقسم الثالث المذبذب فلا يدخل فيه لأن المراد بالمنافقين المصممون منهم المختوم عليهم بالكفر كما يدل عليه**{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }** [البقرة: 18] لا مطلق المنافقين ولأن اختصاصهم بخلط الخداع والاستهزاء مع الكفر لا ينافي دخولهم تحت الكفرة المصرين؛ وبهذا الاعتبار صاروا قسماً ثالثاً فالقسمة ثنائية بحسب الحقيقة ثلاثية بالاعتبار، وفي قوله تعالى: { يِقُولُ ءامَنَّا } مراعاة للفظ (من) ومعناها ولو راعى الأول فقط لقال آمنت أو الثاني فقط لقال يقولون ولما روعيا جميعاً حسن مراعاة اللفظ أولاً إذ هو في الخارج قبل المعنى والواحد قبل الجمع ولو عكس جاز، وزعم ابن عطية أنه لا يجوز الرجوع من جمع إلى توحيد ويرده قول الشاعر: | **لست ممن يكع أو يستكينو** | | **ن إذا كافحته خيل الأعادي** | | --- | --- | --- | واقتصر من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر مع أنهم كانوا يؤمنون بأفواههم بجميع ما جاء به النبـي صلى الله عليه وسلم لأنهما المقصود الأعظم من الإيمان إذ من آمن بالله تعالى على ما يليق بجلال ذاته آمن بكتبه ورسله وشرائعه، ومن علم أنه إليه المصير استعد لذلك بالأعمال الصالحة، وفي ذلك إشعار بدعوى حيازة الإيمان بطرفيه المبدأ والمعاد وما طريقه العقل والسمع ويتضمن ذلك الإيمان بالنبوة أو أن تخصيص ذلك بالذكر للإيذان بأنهم يبطنون الكفر فيما ليسوا فيه منافقين في الجملة لأن القوم في المشهور كانوا يهوداً وهم مخلصون في أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ظنهم، ومع ذلك كانوا ينافقون في كيفية الإيمان بهما ويرون المؤمنين أن إيمانهم بهما مثل إيمانهم فكيف فيما يقصدون به النفاق المحض وليسوا مؤمنين به أصلاً كنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم والقرآن أو أنهم قصدوا بتخصيص الإيمان بهما التعرض بعدم الإيمان بخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وما بلغه ففي ذلك بيان لمزيد خبثهم، وهذا لو قصد حقيقته حينئذ لم يكن إيماناً لأنه لا بد من الإقرار بما جاء به صلى الله عليه وسلم فكيف وهو مخادعة وتلبيس؟! وقيل: إنه لما كان غرضهم المبالغة في خلوص إسلامهم بأنهم تركوا عقائدهم التي كانوا عليها في المبدأ والمعاد واعترفوا أنهم كانوا في ضلال خصوا إيمانهم بذلك لأنهم كانوا قائلين بسائر الأصول، وأما النبوة فليس في الإيمان بها اعتراف بذلك، وأيضاً ترك/ الراسخ في القلب مما عليه الإباء بترك الإيمان به صلى الله عليه وسلم من المسلمات فكأنهم لم يتعرضوا له للإشارة إلى أنه مما لا شبهة في أنهم معتقدون له بعد اعتقادهم ما هو أشد منه عليهم ـ وحمل { بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ } على القسم منهم على الإيمان ـ سمج بالله، وأسمج منه بمراتب حمله على القسم منه تعالى على عدم إيمانهم بتقدير ما آمنوا { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } فيجب أن يكون الباء صلة الإيمان وكررت مبالغة في الخديعة والتلبيس بإظهار أن إيمانهم تفصيلي مؤكد قوي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واليوم الآخر يحتمل أن يراد به الوقت الدائم من الحشر بحيث لا يتناهى أو ما عينه الله تعالى منه إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعد له، وسمي آخراً لأنه آخر الأوقات المحدودة والأشبه هو الأول لأن إطلاق اليوم شائع عليه في القرآن سواء كان حقيقة أو مجازاً ولأن الإيمان به يتضمن الإيمان بالثاني لدخوله فيه من غير عكس، نعم المناسب للفظ اليوم لغة هو الثاني لمحدوديته وهو على كل تقدير مغاير لما عند الناس لأن اليوم عرفاً من طلوع الشمس إلى غروبها وشرعاً على الصحيح من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب، واصطلاحاً من نصف النهار إلى نصف النهار والأمر وراء ذلك، وسيأتي لذلك تتمة. وفي قوله سبحانه: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } حيث قدم الفاعل وأولى حرف النفي رد لدعوى أولئك المنافقين على أبلغ وجه لأن انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء الملزوم، وقد بولغ في نفي اللازم بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقاً، وأكد ذلك النفي بالباء أيضاً وهذا سبب العدول عن الرد بما آمنوا المطابق لصدر الكلام، وبعضهم يجري الكلام على التخصيص وأن الكفار لما رأوا أنفسهم أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وادعوا موافقتهم قيل في جوابهم: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } على قصر الإفراد والذوق يبعده، وإطلاق الوصف للإشارة إلى العموم وأنهم ليسوا من الإيمان في شيء، وقد يقيد بما قيد به سابقه لأنه واقع في جوابه إلا أن نفي المطلق يستلزم نفي المقيد فهو أبلغ وأوكد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي هذه الآية دلالة على أن من لم يصدق بقلبه لا يكون مؤمناً، وأما على أن من أقر بلسانه وليس في قلبه ما يوافقه أو ينافيه ليس بمؤمن فلا لوجود المنافي في المنافق هنا لأنه من المختوم على قلبه أو لأن الله تعالى كذبه وليس إلا لعدم مطابقة التصديق القلبـي للساني كذا قيل، ودقق بعضهم مدعياً أن من يجعل الإيمان الإقرار اللساني سواء يشترط الخلو عن الانكار والتكذيب أم لا يشترط أن يكون الإقرار بالشهادتين ولا يكفي عنده نحو آمنت بالله وباليوم الآخر لأن المدار على النطق بهما كما ورد في " الصحيح " حتى اشترط بعضهم لفظ اشهد، والاسم الخاص به تعالى واسم محمد صلى الله عليه وسلم فليس في الآية حينئذ دليل على إبطال مذهب الكرامية بوجه فليتدبر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
هذا فريق آخر وهو فريق له ظاهر الإيمان وباطنه الكفر وهو لا يعدُو أن يكون مبطناً الشرك أو مبطناً التمسك باليهودية ويجمعه كله إظهار الإيمان كذباً، فالواو لِعطف طائفة من الجمل على طائفة مسوقٍ كل منهما لغرض جمعتهما في الذكر المناسبة بين الغرضين فلا يتطلب في مثله إلا المناسبة بين الغرضين لا المناسبةُ بين كل جملة وأخرى من كلا الغرضين على ما حققه التفتزاني في شرح الكشاف، وقال السيد إنه أصل عظيم في باب العطف لم ينتبه له كثيرون فأشكل عليهم الأمر في مواضع شتى وأصله مأخوذ من قول «الكشاف» «وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة**{ الذين كفروا }** البقرة 6 كما تُعطف الجملة على الجملة» فأفاد بالتشبيه أن ذلك ليس من عطف الجملة على الجملة. قال المحقق عبد الحكيم وهذا ما أهمله السكاكي أي في أحوال الفصل والوصل وتفرد به صاحب «الكشاف». واعلم أن الآيات السابقة لما انتقل فيها من الثناء على القرآن بذكر المهتدين به بنوعيْهم الذين يؤمنون بالغيب والذين يؤمنون بما أنزل إليك إلى آخر ما تقدم، وانتقل من الثناء عليهم إلى ذكر أضدادهم وهم الكافرون الذين أريد بهم الكافرون صراحةً وهم المشركون، كان السامع قد ظن أن الذين أظهروا الإيمان داخلون في قوله**{ الذين يؤمنون بالغيب }** البقرة 3 فلم يكن السامع سائلاً عن قسم آخر وهم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الشرك أو غيرَه وهم المنافقون الذين هم المراد هنا بدليل قوله**{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا }** البقرة 14 الخ، لأنه لغرابته وندرة وصفه بحيث لا يخطر بالبال وجوده ناسب أن يذكر أمره للسامعين، ولذلك جاء بهذه الجملة معطوفة بالواو إذ ليست الجملة المتقدمة مقتضية لها ولا مثيرة لمدلولها في نفوس السامعين، بخلاف جملة**{ إن الذين كفروا سواء عليهم }** البقرة 6 تُرك عطفها على التي قبلها لأن ذكر مضمونها بعد المؤمنين كان مترقباً للسامع، فكان السامع كالسائل عنه فجاء الفصل للاستئناف البياني. وقوله { ومن الناس } خبر مقدم لا محالة وقد يتراءى أن الإخبار بمثله قليل الجدوى لأنه إذا كان المبتدأ دالاً على ذات مثله، أو معنى لا يكون إلا في الناس كانَ الإخبار عن المبتدأ بأنه من الناس أو في الناس غير مجد بخلاف قولك الخَضِر من الناس، أي لا من الملائكة فإن الفائدة ظاهرة، فوجه الإخبار بقولهم من الناس في نحو الآية ونحو قول بعض أعزة الأصحاب في تهنئة لي بخطة القضاء | **في الناس من ألقَى قِلادتها إلى خَلفٍ فحرَّم ما ابْتَغَى وأباحا** | | | | --- | --- | --- | إن القصد إخفاء مدلول الخبر عنه كما تقول قال هذا إنسانٌ وذلك عندما يكون الحديث يكسب ذماً أو نقصاناً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله "** وقد كثر تقديم الخبر في مثل هذا التركيب لأن في تقديمه تنبيهاً للسامع على عجيب ما سيذكر، وتشويقاً لمعرفة ما يتم به الإخبار ولو أُخر لكان موقعه زائداً لحصول العلم بأن ما ذكره المتكلم لا يقع إلا من إنسان كقول موسى بنِ جابر الحنفي | **ومن الرجال أسنَّة مذروبة ومزنَّدون وشاهد كالغائب** | | | | --- | --- | --- | وقد قيل إن موقع { من الناس } مؤذن بالتعجب وإن أصل الخبر إفادة أن فاعل هذا الفعل من الناس لئلا يظنه المخاطَب من غير الناس لشناعة الفعل، وهذا بعيد عن القصد لأنه لو كان كما قال لم يكن للتقديم فائدة بل كان تأخيره أولى حتى يتقرر الأمر الذي يوهم أن المبتدأ ليس { من الناس } ، هذا توجيه هذا الاستعمال وذلك حيث لا يكون لظاهر الإخبار بكون المتحدث عنه من أفراد الناس كبير فائدة فإن كان القصد إفادة ذلك حيث يجهله المخاطب كقولك من الرجال من يَلْبَس برقعاً تريد الإخبار عن القوم المُدْعَوْن بالمُلَثَّمِين من لَمْتُونة، أو حيث ينزَّل المخاطَب منزلة الجاهل كقول عبد الله بن الزَّبِير بفتح الزاي وكسر الباء | **وفي الناس إنْ رثَّت حبالُك وَاصل وفي الأَرض عن دار القِلَى مُتَحَوَّل** | | | | --- | --- | --- | إذا كان حال المخاطبين حالَ من يظن أن المتكلم لا يجد من يصله إن قطعه هو، فذِكر { من الناس } ونحوه في مثل هذا وارد على أصل الإخبار، وتقديم الخبر هنا للتشويق إلى استعلام المبتدأ وليس فيه إفادة تخصيص. وإذا علمت أن قوله { من الناس } مؤذن بأن المتحدث عنهم ستساق في شأنهم قصة مذمومة وحالة شنيعة إذ لا يُستر ذكرهم إلا لأن حالهم من الشناعة بحيث يستحي المتكلم أن يصرح بموصوفها وفي ذلك من تحقير شأن النفاق ومذمته أمر كبير، فوردت في شأنهم ثلاثَ عشرة آيةً نُعِيَ عليهم فيها خُبثهم ومكرهم، وسوء عواقبهم، وسفه أحلامهم، وجهالتهم، وأردف ذلك كله بشتم واستهزاء وتمثيل حالهم في أشنع الصور وهم أحرياء بذلك فإن الخطة التي تدربوا فيها تجمع مذام كثيرة إذِ النفاق يجمع الكذب، والجبن، والمكيدة، وأفنَ الرأي، والبلَه، وسوءَ السلوك، والطمَع، وإضاعَة العمر، وزوالَ الثقة، وعداوةَ الأصحاب، واضمحلالَ الفضيلة. أما الكذب فظاهر، وأما الجبن فلأنه لولاه لما دعاه داع إلى مخالفة ما يبطن، وأما المكيدة فإنه يحمل على اتقاء الاطلاع عليه بكل ما يمكن، وأما أَفَن الرأي فلأن ذلك دليل على ضعف في العقل إذ لا داعي إلى ذلك، وأما البلَه فللجهل بأن ذلك لا يطول الاغترار به، وأما سوء السلوك فلأنَّ طَبْع النفاق إخفاء الصفات المذمومة، والصفات المذمومة، إذا لم تظهر لا يمكن للمربي ولا للصديق ولا لعموم الناس تغييرها على صاحبها فتبقى كما هي وتزيد تمكناً بطول الزمان حتى تصير ملكة يتعذر زوالها، وأما الطمع فلأن غالب أحوال النفاق يكون للرغبة في حصول النفع، وأما إضاعة العمر فلأن العقل ينصرف إلى ترويج أحوال النفاق وما يلزم إجراؤه مع الناس ونصْبِ الحيل لإخفاء ذلك وفي ذلك ما يصرف الذهن عن الشغل بما يجدي، وأما زوال الثقة فلأن الناس إن اطلعوا عليه ساء ظنهم فلا يثقون بشيء يقع منه ولو حَقاً، وأما عداوة الأصحاب فكذلك لأنه إذا عَلِم أن ذلك خلُق لصاحبه خَشِيَ غدره فحذره فأدى ذلك إلى عداوته، وأما اضمحلال الفضيلة فنتيجة ذلك كله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد أشار قوله تعالى { وما هم بمؤمنين } إلى الكذب، وقولُه**{ يخادعون }** البقرة 9 إلى المكيدة والجبن، وقوله**{ وما يخدعون إلا أنفسهم }** البقرة 9 إلى أفن الرأي، وقوله**{ وما يشعرون }** البقرة 9 إلى البلَه، وقوله**{ في قلوبهم مرض }** البقرة 10 إلى سوء السلوك، وقوله**{ فزادهم الله مرضاً }** البقرة 10 إلى دوام ذلك وتزايدِه مع الزمان، وقولُه**{ قالوا إنما نحن مصلحون }** البقرة 11 إلى إضاعة العمر في غير المقصود، وقولُه**{ قالوا إنا معكم }** البقرة 14 مؤكَّداً بإنَّ إلى قلة ثقة أصحابهم فيهم، وقولُه**{ فما ربحت تجارتهم }** البقرة 16 إلى أن أمرهم لم يحظ بالقبول عند أصحابهم، وقوله**{ صم بكم عمي فهم لا يعقلون }** البقرة 18 إلى اضمحلال الفضيلة منهم وسيجيء تفصيل لهذا، وجمع عند قوله تعالى { في قلوبهم مرض }. والناس اسم جمع إنْسِيّ بكسر الهمزة وياء النسب فهو عوض عن أَنَاسِيَ الذي هو الجمع القياسي لإنْس وقد عوضوا عن أناسي أُناس بضم الهمزة وطرح ياء النسب، دَلّ على هذا التعويض ظهور ذلك في قول عَبيد بن الأبرص الأسدي يخاطب امرأ القيس | **إنَّ المنايا يطَّلِعْـ ـنَ على الأُناس الآمِنِينا** | | | | --- | --- | --- | ثم حذفوا همزته تخفيفاً، وحذفُ الهمزة للتخفيف شائع كما قالوا لُوقَة في أَلُوقَة وهي الزُّبدة، وقد التزم حذف همزة أناس عند دخول أل عليه غالباً بخلاف المجرد من أل فذكر الهمزة وحذفُها شائع فيه وقد قيل إن نَاس جمع وإنه من جموع جاءت على وزن فُعال بضم الفاء مثل ظُؤار جمع ظِئْر، ورُخال جمع رَخِل وهي الأنثى الصغيرة من الضأن ووزن فُعال قليل في الجموع في كلام العرب وقد اهتم أئمة اللغة بجمع ما ورد منه فذكرها ابن خالويه في «كتاب لَيْس» وابنُ السكيت وابن بري. وقد عد المتقدمون منها ثمانية جُمعت في ثلاثة أبيات تُنسب للزمخشري والصحيح أنها لصدر الأفاضل تلميذه ثم ألْحَقَ كثير من اللغويين بتلك الثمانِ كلماتٍ أخر حتى أُنِهيتَ إلى أربع وعشرين جمعاً ذكرها الشهاب الخفاجي في «شرح درة الغواص» وذكر معظَمَها في «حاشيته على تفسير البيضاوي» وهي فائدة من علم اللغة فارجعوا إليها إن شئتم. وقيل إن ما جاء بهذا الوزن أسماء جموع، وكلام «الكشاف» يؤذن به ومفرد هذا الجمع إنسي أو إنس أو إنسان وكله مشتق من أَنِسَ ضد توحش لأن الإنسان يألف ويأْنَس. والتعريف في الناس للجنس لأن ما علمت من استعماله في كلامهم يؤيد إرادة الجنس ويجوز أن يكون التعريف للعهد والمعهود هم الناس المتقدم ذكرهم في قوله | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إن الذين كفروا }** البقرة 6 أو الناس الذين يعهدهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في هذا الشأن، ومَنْ موصولة والمراد بها فريق وجماعة بقرينة قوله { وما هم بمؤمنين } وما بعده من صيغ الجمع. والمذكور بقوله { ومن الناس من يقول } الخ قسم ثالث مقابل للقسمين المتقدمين للتمايز بين الجميع بأَشْهر الصفات وإن كان بين البعض أو الجميع صفات متفقة في الجملة فلا يشتبه وجه جعل المنافقين قسيماً للكافرين مع أنهم منهم لأن المراد بالتقسيم الصفات المخصصة. وإنما اقتصر القرآن من أقوالهم على قولهم { آمنا بالله وباليوم الآخر } مع أنهم أظهروا الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم إيجازاً لأن الأول هو مبدأ الاعتقادات كلها لأن من لم يؤمن برب واحد لا يصل إلى الإيمان بالرسول إذ الإيمان بالله هو الأصل وبه يصلح الاعتقاد وهو أصل العمل، والثاني هو الوازع والباعث في الأعمال كلها وفيه صلاح الحال العملي أوهم الذين اقتصروا في قولهم على هذا القول لأنهم لغلوهم في الكفر لا يستطيعون أن يذكروا الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم استثقالاً لهذا الاعتراف فيقتصرون على ذكر الله واليوم الآخر إيهاماً للاكتفاء ظاهراً ومحافظة على كفرهم باطناً لأن أكثرهم وقادتهم من اليهود. وفي التعبير بيقول في مثل هذا المقام إيماء إلى أن ذلك قول غير مطابق للواقع لأن الخبر المحكي عن الغير إذا لم يتعلق الغرض بذكر نصه وحكى بلفظ يقول أوْمأ ذلك إلى أنه غير مطابق لاعتقاده أو أن المتكلم يكذبه في ذلك، ففيه تمهيد لقوله { وما هم بمؤمنين } وجملة وما هم بمؤمنين في موضع الحال من ضمير { يقول } أي يقول هذا القول في حال أنهم غير مؤمنين. والآية أشارت إلى طائفة من الكفار وهم المنافقون الذين كان بعضهم من أهل يثرب وبعضهم من اليهود الذين أظهروا الإسلام وبقيتهم من الأعراب المجاورين لهم، ورد في حديث كعب بن مالك أن المنافقين الذين تخلفوا في غزوة تبوك بضعة وثمانون، وقد عرف من أسمائهم عبد الله بن أبي بن سلول وهو رأس المنافقين، والجد بن قيس، ومعتب بن قشير، والجلاس بن سويد الذي نزل فيه**{ يحلفون بالله ما قالوا }** التوبة 74، وعبد الله بن سبأ اليهودي ولَبيد بن الأَعْصَم من بني زُريق حليف اليهود كما في باب السحر من كتاب الطب من «صحيح البخاري»، والأخْنَس أُبَىُّ بنُ شَرِيق الثقفي كان يظهر الود والإيمان وسيأتي عند قوله تعالى**{ ومن الناس من يعجبك }** البقرة 204، وزَيد بن اللُّصَيْت القَيْنُقَاعي ووديعة بن ثابت من بني عَمرو بن عَوف، ومُخَشِّن بن حُمَيِّر الأشجعي اللذين كانا يثبطان المسلمين من غزوة تبوك، وقد قيل إن زيد بن اللُّصَيْت تابَ وحسن حاله، وقيل لا، وأما مُخَشِّن فتاب وعفا الله عنه وقُتل شهيداً يوم اليمامة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي كتاب «المرتبة الرابَعة» لابن حزم قد ذكر قوم مُعتِّب بن قشير الأوسي من بني عَمرو بن عوف في المنافقين وهذا باطل لأن حضوره بدراً يبطل هذا الظن بلا شك ولكنه ظهر منه يوم أحد ما يدل على ضعف إيمانه فلَمزوه بالنفاق فإنه القائل يوم أُحد**{ لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا هٰهنا }** آل عمران 154، رواه عنه الزبير بن العوام قال ابن عطية كان مغموصاً بالنفاق. ومن المنافقين أبو عَفَك أحدُ بني عَمرو بن عوف ظهر نفاقه حين قَتَل رسولُ الله الحارثَ بن سويد بن صامت وقال شعراً يعرض بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر رسول الله بقتل أبي عَفَك فقتَله سالم بن عُمير، ومن المنافقات عَصماء بنت مروان من بني أمية بنِ زيد نافقت لما قتل أبو عَفَك وقالت شعراً تعرض بالنبي قتلها عمير بن عدي الخطمي وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ينتطح فيها عَنْزَانِ»، ومن المنافقين بشير بنُ أُبيرق كان منافقاً يهجو أصحاب رسول الله وشهد أحداً ومنهم ثعلبة بن حاطب وهو قد أسلم وعد من أهل بدر، ومنهم بشر المنافق كان من الأنصار وهو الذي خاصم يهودياً فدعا اليهوديُّ بشراً إلى حكم النبي فامتنع بِشر وطلب المحاكمة إلى كعب بن الأشرف وهذا هو الذي قتله عُمر وقصته في قوله تعالى**{ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك }** في سورة النساء 60. وعن ابن عباس أن المنافقين على عهد رسول الله كانوا ثلاثمائة من الرجال ومائة وسبعين من النساء، فأما المنافقون من الأوس والخزرج فالذي سن لهم النفاق وجمعهم عليه هو عبد الله بن أُبى حسَداً وحنَقاً على الإسلام لأنه قد كان أهل يثرب بعد أن انقضت حروب بُعاث بينهم وهلك جل ساداتهم فيها قد اصطلحوا على أن يجعلوه ملكاً عليهم ويعصبوه بالعصابة. قال سعد بن عبادة للنبي في حديث البخاري " اعف عنه يا رسول الله واصفح فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شَرِق بذلك " ا ه. وأما اليهود فلأنهم أهل مكر بكل دين يظهر ولأنهم خافوا زوال شوكتهم الحالية من جهات الحجاز، وأما الأعراب فهم تبع لهؤلاء ولذلك جاء**{ الأعرابُ أشد كفراً ونفاقاً }** الأعراف 97 الآية، لأنهم يقلدون عن غير بصيرة وكل من جاء بعدهم على مثل صفاتهم فهو لاحق بهم فيما نعى الله عليهم وهذا معنى قول سلمان الفارسي في تفسير هذه الآية «لم يجيء هؤلاء بعد» قال ابن عطية معنى قوله أنهم لم ينقرضوا بل يجيئون من كل زمان ا هـ، يعني أن سلمان لا ينكر ثبوت هذا الوصف لطائفة في زمن النبوة ولكن لا يرى المقصد من الآية حصر المذمة فيهم بل وفي الذين يجيئون من بعدهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقوله { وما هم بمؤمنين } جيء في نفي قولهم بالجُملة الاسمية ولم يجيء على وزان قولهم { آمَنَّا } بأن يقال وما آمنوا لأنهم لما أثبتوا الإيمان لأنفسهم كان الإتيان بالماضي أشمل حالاً لاقتضائه تحقق الإيمان فيما مضى بالصراحة ودوامَه بالالتزام لأن الأصل ألا يتغير الاعتقاد بلا موجب كيف والدين هو هو، ولما أريد نفي الإيمان عنهم كان نفيه في الماضي لا يسلتزم عدم تحققه في الحال بلهَ الاستقبال فكان قوله { وما هم بمؤمنين } دالاً على انتفائه عنهم في الحال، لأن اسم الفاعل حقيقة في زمن الحال وذلك النفي يستلزم انتفاءه في الماضي بالأُوْلى، ولأن الجملة الفعلية تدل على الاهتمام بشأن الفعل دون الفاعل فلذلك حكى بها كلامهم لأنهم لما رأوا المسلمين يتطلبون معرفة حصول إيمانهم قالوا { آمنَّا } ، والجملةُ الاسمية تدل على الاهتمام بشأن الفاعل أي أن القائلين { آمنا } لم يقع منهم إيمان فالاهتمام بهم في الفعل المنفي تسجيل لكذبهم وهذا من مواطن الفروق بين الجملتين الفعلية والاسمية وهو مُصَدَّق بقاعدة إفادة التقديم الاهتمام مطلقاً وإن أهملوا التنبيه على جريان تلك القاعدة عندما ذكروا الفروق بين الجملة الفعلية والاسمية في كتب المعاني وأشار إليه صاحب «الكشاف» هنا بكلام دقيق الدلالة. فإن قلت كان عبد الله بن سَعْد بن أبي سرح أسلم ثم ارتد وزعم بعد ردته أنه كان يكتب القرآن وأنه كان يُملي عليه النبي صلى الله عليه وسلم " عزيز حكيم " مثلاً فيكتبها غفور رحيم مَثَلاً والعكسُ وهذا من عدم الإيمان فيكون حينئذٍ من المنافقين الذين آمنوا بعد، فالجواب أن هذا من نقل المؤرخين وهم لا يعتد بكلامهم في مثل هذا الشأن لا سيما وولاية عبد الله ابن أبي سرح الإمارة من جملة ما نقمه الثوار على عثمان وتحامُل المؤرخين فيها معلوم لأنهم تلقوها من الناقمين وأشياعهم، والأدلة الشرعية تنفي هذا لأنه لو صح للزم عليه دخول الشك في الدين ولو حاول عبد الله هذا لأَعلم الله تعالى به رسولَه لأنه لا يجوز على الرسول السهو والغفلة فيما يرجع إلى التبليغ على أنه مزيف من حيث العقل إذ لو أراد أن يكيد للدين لكان الأجدر به تحريف غير ذلك، على أن هذا كلام قاله في وقت ارتداده وقوله حينئذٍ في الدين غير مصدَّق لأنه متهم بقصد ترويج ردته عند المشركين بمكة وقد علمت من المقدمة الثامنة من هذا التفسير أن العمدة في آيات القرآن على حفظ حُفَّاظه وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان يأمر بكتابته لقصد المراجعة للمسلمين إذا احتاجوا إليه، ولم يَرْوِ أَحَدٌ أنه وقع الاحتياج إلى مراجعة ما كُتب من القرآن إلا في زمن أبي بكر، ولم ينقل أن حفاظ القرآن وجدوا خلافاً بين محفوظهم وبين الأصول المكتوبة، على أن عبد الله بن أبي سرح لم يكن منفرداً بكتابة الوحي فقد كان يكتب معه آخرون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ونفي الإيمان عنهم مع قولهم { آمنا } دليل صريح على أن مسمى الإيمان التصديق وأن النطق بما يدل على الإيمان قد يكون كاذباً فلا يكون ذلك النطق إيماناً، والإيمان في الشرع هو الاعتقاد الجازم بثبوت ما يعلم أنه من الدين علماً ضرورياً بحيث يكون ثابتاً بدليل قطعي عند جميع أئمة الدين ويشتهر كونه من مقومات الاعتقاد الإسلامي اللازم لكل مسلم اشتهاراً بين الخاصة من علماء الدين والعامة من المسلمين بحيث لا نزاع فيه فقد نقل الإيمان في الشرع إلى تصديق خاص وقد أفصح عنه الحديث الصحيح عن عُمر أن جبريل جاء فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال **" الإيمانُ أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليومِ الآخر وتؤمنَ بالقدَر خيره وشره "** وقد اختلفت علماء الأمة في ماهية الإيمان ما هو وتطرقوا أيضاً إلى حقيقة الإسلام ونحن نجمع متناثر المنقول منهم مع ما للمحققين من تحقيق مذاهبهم في جملة مختصرة. وقد أرجعنا متفرق أقوالهم في ذلك إلى خمسة أقوال القول الأول قول جمهور المحققين من علماء الأمة قالوا إن الإيمان هو التصديق لا مسمى له غيرُ ذلك وهو مسماه اللغوي فينبغي ألا ينقل من معناه لأن الأصل عدم النقل إلا أنه أطلق على تصديق خاص بأشياء بيّنها الدين وليس استعمال اللفظ العام في بعض أفراده بنقله له عن معناه اللغوي وغلب في لسان الشرعيين على ذلك التصديق واحتجوا بعدة أدلة هي من أخبار الآحاد ولكنها كثيرة كثرةً تلحقها بالمستفيض. من ذلك حديث جبريل المتقدم وحديث سعد أنه قال «يا رسول الله مالك عن فلان فإني لأراه مؤمناً فقال أوْ مسلماً»، قالوا وأما النطق والأعمال فهي من الإسلام لا من مفهوم الإيمان لأن الإسلام الاستسلام والانقياد بالجسد دون القلب ودليل التفرقة بينهما اللغة وحديث جبريل، وقوله تعالى**{ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا }** الحجرات 14 ولما رواه مسلم عن طلحة بن عبيد الله أنه جاء رجل من نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، فإذا هو يسأل عن الإسلام فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، ونسب هذا القول إلى مالك بن أنس أخذاً من قوله في «المدونة» «من اغتسل وقد أجمع على الإسلام بقلبه أجزأَه» قال ابن رشد لأن إسلامه بقلبه فلو مات مات مؤمناً، وهو مأخذ بعيد وستعلم أن قول مالك بخلافه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ونسب هذا أيضاً إلى الأشعري قال إمام الحرمين في «الإرشاد» وهو المرضي عندنا، وبه قال الزهري من التابعين. القول الثاني إن الإيمان هو الاعتقاد بالقلب والنطق باللسان بالشهادتين للإقرار بذلك الاعتقاد فيكون الإيمان منقولاً شرعاً لهذا المعنى فلا يعتد بالاعتقاد شرعاً إلا إذا انضم إليه النطق ونقل هذا عن أبي حنيفة ونسبه النووي إلى جمهور الفقهاء والمحدِّثين والمتكلمين ونسبه الفخر إلى الأشعري وبشر المريسي، ونسبه الخفاجي إلى محققي الأشاعرة واختاره ابن العربي، قال النووي وبذلك يكون الإنسان من أهل القبلة. قلت ولا أحسب أن بين هذا والقول الأول فرقاً وإنما نظر كل قيل إلى جانب، فالأول نظر إلى جانب المفهوم والثاني نظر إلى الاعتداد ولم يعتنوا بضبط عباراتهم حتى يرتفع الخلاف بينهم وإن كان قد وقع الخلاف بينهم في أن الاقتصار على الاعتقاد هل هو منج فيما بين المرء وبين ربه أو لا بد من الإقرار؟ حكاه البيضاوي في «التفسير» ومال إلى الثاني ويؤخذ من كلامهم أنه لو ترك الإقرار لا عن مكابرة كان ناجياً مثل الأخرس والمغفل والمشتغل شغلاً اتصل بموته. واحتجوا بإطلاق الإيمان على الإسلام والعكس في مواضع من الكتاب والسنة، قال تعالى**{ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين }** الذاريات 35، 36 وفي حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم **" آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع الإيمان بالله أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إلٰه إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة "** الخ وهذه أخبار آحاد فالاستدلال بها في أصل من الدين إنما هو مجرد تقريب على أن معظمها لا يدل على إطلاق الإيمان على حالة ليس معها حالة إسلام. القول الثالث قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل ذلك أنهم لكمال حالهم ومجيئهم في فاتحة انبثاق أنوار الدين لم يكونوا يفرضون في الإيمان أحوالاً تقصر في الامتثال، ونسب ذلك إلى مالك وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي وابن جريج والنخعي والحسن وعطاء وطاووس ومجاهد وابن المبارك والبخاري ونسب لابن مسعود وحذيفة وبه قال ابن حزم من الظاهرية وتمسك به أهل الحديث لأخذهم بظاهر ألفاظ الأحاديث، وبذلك أثبتوا الزيادة والنقص في الإيمان بزيادة الأعمال ونقصها لقوله تعالى**{ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم }** الفتح 4 الخ. وجاء في الحديث **" الإيمان بضع وسبعون شعبة "** فدل ذلك على قبوله للتفاضل. وعلى ذلك حمل قوله صلى الله عليه وسلم **" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أي ليس متصفاً حينئذٍ بكمال الإيمان. ونقل عن مالك أنه يزيد ولا ينقص فقيل إنما أمسك مالك عن القول بنقصانه خشية أن يظن به موافقة الخوارج الذين يكفرون بالذنوب. قال ابن بطال وهذا لا يخالف قول مالك بأن الإيمان هو التصديق وهو لا يزيد ولا ينقص لأن التصديق أول منازل الإيمان ويوجب للمصدق الدخول فيه ولا يوجب له استكمال منازله وإنما أراد هؤلاء الأئمة الرد على المرجئة في قولهم إن الإيمان قول بلا عمل ا هـ. ولم يتابعهم عليه المتأخرون لأنهم رأوه شرحاً للإيمان الكامل وليس فيه النزاع إنما النزاع في أصل مسمى الإيمان وأول درجات النجاة من الخلود ولذلك أنكر أكثر المتكلمين أن يقال الإيمان يزيد وينقص وتأولوا نحو قوله تعالى**{ ليزدادوا إيماناً }** الفتح 4 بأن المراد تعدد الأدلة حتى يدوموا على الإيمان وهو التحقيق. القول الرابع قول الخوارج والمعتزلة إن الإيمان اعتقاد ونطق وعمل كما جاء في القول الثالث إلا أنهم أرادوا من قولهم حقيقة ظاهره من تركب الإيمان من مجموع الثلاثة بحيث إذا اختل واحد منها بطل الإيمان، ولهم في تقرير بطلانه بنقص الأعمال الواجبة مذاهب غير منتظمة ولا معضودة بأدلة سوى التعلق بظواهر بعض الآثار مع الإهمال لما يعارضها من مثلها. فأما الخوارج فقالوا إن تارك شيء من الأعمال كافر غير مؤمن وهو خالد في النار فالأعمال جزء من الإيمان وأرادوا من الأعمال فعل الواجبات وترك المحرمات ولو صغائر، إذ جميع الذنوب عندهم كبائر، وأما غير ذلك من الأعمال كالمندوبات والمستحبات فلا يوجب تركها خلوداً، إذ لا يقول مسلم إن ترك السنن والمندوبات يوجب الكفر والخلود في النار، وكذلك فعل المكروهات. وقالت الإباضية من الخوارج إن تارك بعض الواجبات كافر لكن كفره كفر نعمة لا شرك، نقله إمام الحرمين عنهم وهو الذي سمعناه من طلبتهم. وأما المعتزلة فقد وافقوا الخوارج في أن للأعمال حظاً من الإيمان إلا أنهم خالفوهم في مقاديرها ومذاهب المعتزلة في هذا الموضع غير منضبطة، فقال قدماؤهم وهو المشهور عنهم إن العاصي مخلد في النار لكنه لا يوصف بالكفر ولا بالإيمان ووصفوه بالفسق وجعلوا استحقاق الخلود لارتكاب الكبيرة خاصة، وكذلك نسب إليهم ابن حزم في كتاب «الفصل»، وقال واصل بن عطاء الغزّال إن مرتكب الكبيرة منزلة بين المنزلتين أي لا يوصف بإيمان ولا كفر فيفارق بذلك قول الخوارج وقول المرجئة ووافقه عمرو بن عبيد على ذلك. وهذه هي المسألة التي بسببها قال الحسن البصري لواصل وعمرو بن عبيد اعتزل مجلسنا. ودرج على هذا جميعهم، لكنهم اضطربوا أو اضطرب النقل عنهم في مسمى المنزلة بين المنزلتين، فقال إمام الحرمين في «الإرشاد» إن جمهورهم قالوا إن الكبيرة تحبط ثواب الطاعات وإن كثرت، ومعناه لا محالة أنها توجب الخلود في النار وبذلك جزم التفتزاني في «شرح الكشاف» وفي «المقاصد»، وقال إن المنزلة بين المنزلتين هي موجبة للخلود وإنما أثبتوا المنزلة لعدم إطلاق اسم الكفر ولإجراء أحكام المؤمنين على صاحبها في ظاهر الحال في الدنيا بحيث لا يعتبر مرتكب المعصية كالمرتد فيقتل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال في «المقاصد» ومثله في «الإرشاد» المختار عندهم خلاف المشتهر فإن أبا علي وابنه وكثيراً من محققيهم ومتأخريهم قالوا إن الكبائر إنما توجب دخول النار إذا زاد عقابها على ثواب الطاعات فإن أرْبت الطاعات على السيئات درأت السيئات، وليس النظر إلى أعداد الطاعات ولا الزلات، وإنما النظر إلى مقدار الأجور والأوزار فرب كبيرة واحدة يغلب وزرها طاعات كثيرة العدد، ولا سبيل إلى ضبط هذه المقادير بل أمرها موكول إلى علم الله تعالى، فإن استوت الحسنات والسيئات فقد اضطربوا في ذلك فهذا محل المنزلة بين المنزلتين. ونقل ابن حزم في «الفِصَل» عن جماعة منهم، فيهم بشر المريسي والأصَم من استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف ولهم وقفة لا يدخلون النار مدة ثم يدخلون الجنة ومن رجحت سيئاته فهو مجازى بقدْر ما رجح له من الذنوب فمِن لفحة واحدة إلى بقاء خمسين ألف سنة في النار ثم يخرجون منها بالشفاعة. وهذا يقتضي أن هؤلاء لا يرون الخلود. وقد نقل البعض عن المعتزلة أن المنزلة بين المنزلتين لا جنة ولا نار إلا أن التفتزاني في «المقاصد» غلَّط هذا البعض وكذلك قال في «شرح الكشاف». وقد قرر صاحب «الكشاف» حقيقة المنزلة بين المنزلتين بكلام مجمل فقال في تفسير قوله تعالى**{ وما يضل به إلا الفاسقين }** من سورة البقرة 26 والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة وهو النازل بين المنزلتين أي بين منزلتي المؤمن والكافر. وقالوا إن أول من حد له هذا الحد أبو حذيفة واصل بن عطاء وكونه بين أن حكمه حكم المؤمن في أنه يناكَح ويوارَث ويغسَّل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين وهو كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وأن لا تقبل له شهادة ا ه، فتراه مع إيضاحه لم يذكر فيه أنه خالد في النار وصرح في قوله تعالى**{ ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها }** في سورة النساء 93 بما يعمم خلود أهل الكبائر دون توبة في النار. قلت وكان الشأن أن إجراء الأحكام الإسلامية عليه في الدنيا يقتضي أنه غير خالد إذ لا يعقل أن تجري عليه أحكام المسلمين وتنتفي عنه الثمرة التي لأجلها فارق الكفر إذ المسلم إنما أسلم فراراً من الخلود في النار فكيف يكون ارتكاب بعض المعاصي موجباً لانتقاض فائدة الإسلام، وإذا كان أحد لا يَسْلم من أن يقارف معصية وكانت التوبة الصادقة قد تتأخر وقد لا تحصل فيلزمهم ويلزم الخوارج أن يعُدوا جمهور المسلمين كفاراً وبئس مُنكراً من القول. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | على أن هذا مما يجرّيء العصاة على نقض عرى الدين إذ ينسَلُّ عنه المسلمون لانعدام الفائدة التي أسلموا لأجلها بحكم " أنا الغريق فما خوفي من البلل " ، ومن العجيب أن يَصدر هذا القول من عاقل فضلاً عن عالم، ثم الأعجب منه عكوف أتباعهم عليه تَلُوكه ألسنتهم ولا تفقهه أفئدتهم وكيف لم يقيض فيهم عالم منصف ينبري لهاته الترهات فيهذبها أو يؤولها كما أراد جمهور علماء السنة من صدر الأمة فَمن يليهم. القول الخامس قالت الكرامية الإيمان هو الإقرار باللسان إذا لم يخالف الاعتقادُ القولَ فلا يشترط في مسمى الإيمان شيء من المعرفة والتصديق، فأما إذا كان يعتقد خلاف مقاله بطل إيمانه وهذا يرجع إلى الاعتداد بإيمان من نطق بالشهادتين وإن لم يَشغل عقله باعتقاد مدلولهما بل يكتفَى منه بأنه لا يضمر خلاف مدلولهما وهذه أحوال نادرة لا ينبغي الخوض فيها. أو أرادوا أنه تجري عليه في الظاهر أحكام المؤمنين مع أن الكرامية لا ينكرون أن من يعتقد خلاف ما نطق به من الشهادتين أنه خالد في النار يوم القيامة، وفي «تفسير الفخر» أن غَيلان الدمشقي وافق الكرامية. هذه جوامع أقوال الفرق الإسلامية في مسمى الإيمان. وأنا أقول كلمة أربأُ بها عن الانحيَاز إلى نصرة وهي أن اختلاف المسلمين في أول خطوات مسيرهم وأول موقف من مواقف أنظارهم وقد مضت عليه الأيام بعد الأيام وتعاقبت الأقوام بعد الأقوام يعد نقصاً علمياً لا ينبغي البقاء عليه، ولا أَعْرِفَنِّي بعد هذا اليوم ملتفتاً إليه. لا جرم أن الشريعة أول ما طلبت من الناس الإيمان والإسلام ليخرجوا بذلك من عقائد الشرك ومناوأة هذا الدين فإذا حصل ذلك تهيأت النفوس لقبول الخيرات وأفاضت الشريعة عليها من تلك النيرات فكانت في تلقي ذلك على حسب استعدادها زينة لمعاشها في هذا العالم ومعادها، فالإيمان والإسلام هما الأصلان اللذان تنبعث عنهما الخيرات، وهما الحد الفاصل بين أهل الشقاء وأهل الخير حداً لا يقبل تفاوتاً ولا تشككاً، لأن شأن الحدود أن لا تكون متفاوتة كما قال الله تعالى**{ فماذا بعد الحق إلا الضلال }** يونس 32، ولا يدعي أحد أن مفهوم الإيمان هو مفهوم الإسلام، فيكابرَ لغة تتلَى عليه، كيف وقد فسره الرسول لذلك الجالس عند ركبتيه. فما الذين ادعَوْه إلا قوم قد ضاقت عليهم العبارة فأرادوا أن الاعتداد في هذا الذي لا يكون إلا بالأمرين وبذلك يتضح وجه الاكتفاء في كثير من مواد الكتاب والسنة بأحد اللفظين، في مقام خطاب الذين تحلوا بكلتا الخصلتين، فانتظم القولان الأول والثاني. إن موجب اضطراب الأقوال في التمييز بين حقيقة الإيمان وحقيقة الإسلام أمران أحدهما أن الرسالة المحمدية دعت إلى الاعتقاد بوجود الله ووحدانيته وبصدق محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بالغيب ودعت إلى النطق بما يدل على حصول هذا الاعتقاد في نفس المؤمن لأن الاعتقاد لا يعرف إلا بواسطة النطق ولم يقتنع الرسول من أحد بما يُحصِّل الظن بأنه حصَل له هذا الاعتقاد إلا بأن يعترف بذلك بنطقه إذا كان قادراً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثاني أن المؤمنين الذين استجابوا دعوة الرسول لم تكن ظواهرهم مخالفة لعقائدهم إذ لم يكن منهم مسلم يبطن الكفر فكان حصول معنى الإيمان لهم مقارناً لحصول معنى الإسلام وصدَق عليهم أنهم مؤمنون ومسلمون، ثم لما نبع النفاق بعد الهجرة طرأ الاحتياج إلى التفرقة بين حال الذين اتصفوا بالإيمان والإسلام وبين حال الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر تفرقة بالتحذير والتنبيه لا بالتعيين وتمييز الموصوف، لذا كانت ألفاظ القرآن وكلام النبي تجري في الغالب على مراعاة غالب أحوال المسلمين الجامعين بين المعنيين وربما جرت على مراعاة الأحوال النادرة عند الحاجة إلى التنبيه عليها كما في قوله تعالى**{ قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمانُ في قلوبكم }** الحجرات 14 وكما في قول النبي لمن قال له مَالَكَ عن فلان فوالله إني لأراه مُؤْمناً قال «أوْ مسلما». فحاصل معنى الإيمان حصول الاعتقاد بما يجب اعتقاده، وحاصل معنى الإسلام إظهار المرء أنه أسلم نفسه لاتَّباع الدين ودعوة الرسول، قال تعالى**{ إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات }** الأحزاب 35 الآية. وهل يخامركم شك في أن الشريعة ما طلبت من الناس الإيمان والإسلام لمجرد تعمير العالم الأخروي من جنة ونار لأن الله تعالى قادر على أن يخلق لهذين الموضعين خلْقاً يعمرونهما إن شاء خَلْقَهما، ولكن الله أراد تعمير العالَمين الدنيوي والأخروي، وجعل الدنيا مِصْقَلَة النفوس البشرية تهيئها للتأهل إلى تعمير العالم الأخروي لتلتحق بالملائكة، فجعل الله الشرائع لكف الناس عن سيء الأفعال التي تصدر عنهم بدواعي شهواتهم المفسدة لفطرتهم، وأراد الله حفظ نظام هذا العالم أيضاً ليبقى صالحاً للوفاء بمراد الله إلى أمدٍ أرادَه، فشرع للناس شرْعاً ودعا الناس إلى اتباعه والدخول إلى حظيرته ذلك الدخول المسمى بالإيمان وبالإسلام لاشتراط حصولهما في قِوام حقيقة الانضواء تحت هذا الشرع، ثم يستتبع ذلك إظهارَ تمكين أنفسهم من قبول ما يُرسم لهم من السلوك عن طيب نفس، وثقةٍ بمآلي نزاهة أو رجس. وذلك هو الأعمال ائتماراً وانتهاءً وفعلاً وانكفافاً. وهذه الغاية هي التي تتفاوت فيها المراتب إلاَّ أن تفاوت أهلها فيها لا ينقص الأصل الذي به دخلوا فإن الآتي بالبعض من الخير قد أتى بما كان أحسنَ من حاله قبل الإيمان، والآتي بمعظم الخير قد فاق الذي دونَه، والآتي بالجميع بقدر الطاقة هو الفائز، بحيث إن الشريعة لا تَعدِم منفعة تحصل من أفراد هؤلاء الذين تسموا بالمؤمنين والمسلمين ومن تلك المراتب حماية الحوزة والدفاع عن البيضة، فهل يشك أحد في أن عَمرو بن معديكرب أيامَ كان لا يرى الانتهاء عن شرب الخمر ويقول إن الله تعالى قال | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فهل أنتم منتهون }** المائدة 91 فقلنا لا أنه قد دَلَّ جهادُه يوم القادِسية على إيمانه وعلى تحقيق شيء كثير من أجزاء إسلامه فهل يُعد سواءً والكافرين في كونه يخلد في النار؟ فالأعمال إذن لها المرتبة الثانية بعد الإيمان والإسلام لأنها مكملة المقصد لا ينازع في هذين - أعني كونَها في الدرجة الثانية وكونَها مقصودة - إلا مكابر. ومما يؤيد هذا أكمل تأييد ما ورد في «الصحاح» في حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعثه إلى اليمن فقال له **" إنَّك ستأتي قوماً من أهل الكتاب فإذا جئتهم فادْعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إلٰه إلا الله وأن محمداً رسول الله أي ينطقوا بذلك نطقاً مطابقاً لاعتقادهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة "** الخ فلولا أن للإيمان وللإسلام الحظ الأول لما قدمه، ولولا أن الأعمال لا دخل لها في مسمى الإسلام لما فرَّق بينهما، لأن الدعوة للحق يجب أن تكون دفعة وإلا لكان الرضا ببقائه على جزء من الكفر ولو لحظة مع توقع إجابته للدين رضىً بالكفر وهو من الكفر فكيف يأمر بسلوكه المَعصوم عن أن يُقِرّ أحداً على باطل، فانتظم القول الثالث للقولين. ومما لا شبهة فيه أن استحقاق الثواب والعقاب على قدر الأعمال القلبية والجوارحية فالأمر الذي لا يحصُل شيءٌ من المطلوب دونَه لا يُنجي من العذاب إلا جميعُه فوجب أن يكون من لم يؤمن ولم يسلم مخلَّداً في النار لأنه لا يحصل منه شيء من المقصود بدون الإيمان والإسلام، وأما الأمور التي يقرُب فاعلها من الغاية بمقدار ما يخطُو في طرقها فثوابها على قدر ارتكابها والعقوبة على قدر تركها، ولا ينبغي أن ينازِع في هذا غيرُ مكابر، إذ كيف يستوي عندالله العليمِ الحكيم رجلان أحدهما لم يؤمن ولم يسلم والآخر آمن وأسلَم وامتثل وانتهى، إلا أنه اتبع الأمَّارة بالسوء في خصلة أو زلة فيحكم بأن كلا الرجلين في عذاب وخلود؟ وهل تبقى فائدة لكل مرتكب معصية في البقاء على الإسلام إذا كان الذي فر من أجله للإسلام حاصلاً على كل تقدير وهو الخلود في النار حتى إذا أراد أن يتوب آمَن يومئذٍ؟ وهل ينكر أحد أن جل الأمة لا يخلون من التلبس بالمعصية والمعصيتين إذ العصمة مفقودة فإذا كان ذلك قبل التوبة كفراً فهل يقول هذا العاقل إن الأمة في تلك الحالة متصفة بالكفر ولا إخال عاقلاً يلتزمها بعد أن يسمعها، أفهل يموه أحد بعد هذا أن يأخذ من نحو قوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وما كان الله ليضيع إيمانكم }** البقرة 143 يعني الصلاة، إن الله سمَّي الصلاة إيماناً ولولا أن العمل من الإيمان لما سميت كذلك بعد أن بينَّا أن الأعمال هي الغاية من الإيمان والإسلام فانتظم القول الرابع والخامس لثلاثة الأقوال لمن اقتدى في الإنصاف بأهل الكمال. ثم على العالم المتشبع بالاطلاع على مقاصد الشريعة وتصاريفها أن يفرق بين مقامات خطابها فإن منها مقام موعظة وترغيب وترهيب وتبشير وتحذير، ومنها مقام تعليم وتحقيق فيرد كل وارد من نصوص الشريعة إلى مورده اللائق ولا تتجاذبه المتعارضات مجاذبة المماذق فلا يحتج أحد بما ورد في أثبت أوصاف الموصوف، وأثبت أحد تلك الأوصاف تارة في سياق الثناء عليه إذ هو متصف بها جميعاً، فإذا وصف تارة بجميعها لم يكن وصفه تارة أخرى بواحد منها دالاً على مساواة ذلك الواحد لبقيتها، فإذا عرضت لنا أخبار شرعية جمعت بين الإيمان والأعمال في سياق التحذير أو التحريض لم تكن دليلاً على كون حقيقة أحدهما مركبة ومقومة من مجموعهما فإنما يحتج محتج بسياق التفرقة والنفي أو بسياق التعليم والتبيين فلا ينبغي لمنتسب أن يجازف بقولة سخيفة ناشئة عن قلة تأمل وإحاطة بموارد الشريعة وإغضاء عن غرضها ويؤول إلى تكفير جمهور المسلمين وانتقاض الجامعة الإسلامية بل إنما ينظر إلى موارد الشريعة نظرة محيطة حتى لا يكون ممن غابت عنه أشياء وحضره شيء، بل يكون حكمه في المسألة كحكم فتاة الحي. أما مسألة العفو عن العصاة فهي مسألة تتعلق بغرضنا وليست منه، والأشاعرة قد توسعوا فيها وغيرهم ضيقها وأمرها موكول إلى علم الله إلا أن الذي بلغنا من الشرع هو اعتبار الوعد والوعيد وإلا لكان الزواجر كضرب في بارد الحديد وإذا علمتم أن منشأ الخلاف فيها هو النظر لدليل الوجوب أو الجواز علمتم خروج الخلاف فيها من الحقيقة إلى المجاز ولا عجب أعجب من مرور الأزمان على مثل قولة الخوارج والإباضية والمعتزلة ولا ينبري من حذاق علمائهم من يهذب المراد أو يؤول قول قدمائه ذلك التأويل المعتاد، وكأني بوميض فطنة نبهائهم أخذ يلوح من خِلل الرماد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ)
لم يذكر هنا بياناً عن هؤلاء المنافقين، وصرح بذكر بعضهم بقوله**{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ }** التوبة 101. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ)
بيان قوله تعالى { ومن الناس من يقول } ، إلى آخر الآيات، الخدعة نوع من المكر، والشيطان هو الشرير ولذلك سمي إبليس شيطاناً. وفي الآيات بيان حال المنافقين، وسيجيء إن شاء الله تفصيل القول فيهم في سورة المنافقين وغيرها. وقوله تعالى { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } " الخ " مثل يمثل به حالهم، انهم كالذي وقع في ظلمة عمياء لا يتميز فيها خير من شر ولا نافع من ضار فتسبب لرفعها بسبب من أسباب الاستضاءة كنار يوقدها فيبصر بها ما حولها، فلما توقدت وأضاءت ما حولها أخمدها الله بسبب من الأسباب كريح أو مطر أو نحوهما فبقي فيما كان عليه من الظلمة وتورط بين ظلمتين ظلمة كان فيها، وظلمة الحيرة وبطلان السبب. وهذه حال المنافق، يظهر الإِيمان فيستفيد بعض فوائد الدين باشتراكه مع المؤمنين في مواريثهم ومناكحهم وغيرهما حتى إذا حان حين الموت وهو الحين الذي فيه تمام الاستفادة من الإِيمان ذهب الله بنوره وأبطل ما عمله وتركه في ظلمة لا يدرك فيها شيئاً ويقع بين الظلمة الأصلية وما أوجده من الظلمة بفعاله. وقوله تعالى { أو كصيب من السماء } الخ، الصيب هو المطر الغزير، والبرق معروف، والرعد هو الصوت الحادث من السحاب عند الابراق، والصاعقة هي النازلة من البروق. وهذا مثل ثان يمثل به حال المنافقين في إظهارهم الإِيمان، أنهم كالذي أخذه صيب السماء ومعه ظلمة تسلب عنه الإِبصار والتمييز، فالصيب يضطره إلى الفرار والتخلص، والظلمة تمنعه ذلك، والمهولات من الرعد والصاعقة محيطة به فلا يجد مناصاً من أن يستفيد بالبرق وضوئه وهو غير دائم ولا باق متصل كلما أضاء له مشى وإذا أظلم عليه قام. وهذه حال المنافق فهو لا يحب الإِيمان ولا يجد بداً من إظهاره، ولعدم المواطأة بين قلبه ولسانه لا يستضيء له طريقه تمام الاستضاءة، فلا يزال يخبط خبطاً بعد خبط ويعثر عثرة بعد عثرة فيمشي قليلاً ويقف قليلاً ويفضحه الله بذلك ولو شاء الله لذهب بسمعه وبصره فيفتضح من أول يوم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ)
قال صاحب الكشاف " افتتح - سبحانه - كتابه بذكر الذين أخلصوا دينهم لله، وواطأت قلوبهم ألسنتهم، ووافق سرهم علنهم، وفعلهم قولهم، ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً، قلوباً وألسنة، ثم ثلث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا. وهم الذين قال فيهم**{ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ }** وسماهم المنافقين وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إليه وأمقتهم عنده، لأنهم خلطوا بالكفر تمويهاً وتدليساً، وبالشرك استهزاء وخداعاً، ولذلك أنزل فيهم**{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ في ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ }** ووصف حال الذين كفروا فى آيتين ووصف حال الذين نافقوا فى ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم، ومكرهم، وفضحهم، وسفههم. واستجهلهم، واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، وسجل طغيانهم، ودعاهم صما بكما عميا، وضرب لهم الأمثال الشنيعة. وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا، كما تعطف الجملة على الجملة ". والناس اسم لجماعة الإِنس. قال القرطبى " واختلف النحاة فى لفظ الناس فقيل هو من أسماء الجموع، جمع إنسان وإنسانة على غير اللفظ، وتصغيره نويس، فالناس من النوس وهو الحركة، يقال ناس، ينوس أى تحرك. وقيل أصله نسى، فأصل ناس نسى، قلب فصار نيس، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً، ثم دخلت الألف واللام فقيل الناس، قال ابن عباس نسى آدم عهد الله فسمى إنساناً. وقيل سمى إنساناً لأنسه بربه، قال الشاعر | **وما سمى الإِنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب** | | | | --- | --- | --- | واليوم الآخر هو اليوم الذى يبتدئ بالبعث ولا ينقطع أبداً، وقد يراد منه اليوم الذى يبتدئ بالبعث وينتهى باستقرار أهل الجنة فى الجنة. وأهل النار فى النار. وقال القرآن فى شأن المنافقين { وَمِنَ ٱلنَّاسِ } مجرداً إياهم من الوصفين السابقين، وصف الإِيمان ووصف الكفر، لأنهم لم يكونوا بحسب ظاهر الأمر مع الكافرين، ولا بحسب باطنه مع المؤمنين، لذا عبر عنهم بالناس لينطبق التعبير على ما حاولوه لأنفسهم من أتهم لا هم مؤمنون ولا هم كافرون وفى ذلك مبالغة فى الحط من شأنهم. فهم لم يخرجوا عن كونهم ناساً فقط، دون أن يصلوا بأوصافهم إلى أهل اليمين أو إلى أهل الشمال الصرحاء فى كفرهم، بل بقوا فى منحدر من الأرض، لا يمر بهم سالك الطريق المستقيم ولا سالك المعوج من الطرق. وعبر القرآن بلفظ { يَقُولُ آمَنَّا } ليفيد أنه مجرد قول باللسان، لا أثر له فى القلوب، وإنما هم يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم. وحكى القرآن عن هؤلاء المنافقين أنهم اقتصروا فى إظهار الإِيمان على ذكر الإِيمان بالله واليوم الآخر، ليزيدوا فى التمويه على المؤمنين بإدعاء أنهم أحاطوا بالإِيمان من طرفيه، لأن من يؤمن بالله واليوم الآخر، استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن من شأنه أن يكون - أيضا - مؤمناً برسل الله وملائكته وكتبه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وقد كذبهم الله - تعالى - فى دعواهم الإِيمان، فقال { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }. فهذه الجملة الكريمة رد لما ادعوه من الإِيمان، ونفى له على أبلغ وجه، إذ جاء النفى مؤكداً بالباء فى قوله { بِمُؤْمِنِينَ }. ثم إن الجملة نفت عنهم الإِيمان على سبيل الإِطلاق، فهم ليسوا بمؤمنين لا بالله ولا باليوم الآخر، ولا بكتب الله ولا برسله ولا بملائكته. ثم بين - سبحانه - الدوافع التى دفعتهم إلى أن يقولوا { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } فقال { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا }. والخدع فى أصل اللغة الإِخفاء والإِبهام، يقال خدعه - كمنعه - خدعا، ختله وأراد به مكروها من حيث لا يعلم وأصله من خدع الضب حارسه إذ أظهر الإِقبال عليه ثم خرج من باب آخر. وخداعهم لله - تعالى - معناه إظهارهم الإِيمان وإبطانهم الكفر ليحقنوا دماءهم وأموالهم، ويفوزوا بسهم من الغنائم، وسمى فعلهم هذا خداعاً لله - تعالى - لأن صورته صورة الخداع، فالجملة الكريمة مسوقة على أسلوب المشاكلة، ولا يجوز حملها على الحقيقة، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه صنع المنافقين بل لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء. قال - تعالى - { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }. أما خداعهم للمؤمنين فمن مظاهره إظهارهم لهم أنهم إخوانهم فى العقيدة وأنهم لا يريدون لهم إلا الخير. بينما هم فى الحقيقة يضمرون لهم العداوة ويتربصون بهم الدوائر. وجاءت الآية الكريمة هكذا بدون عطف، لأنها جواب سؤال نشأ من الآية السابقة، إذ أن قول المنافقين " آمنا " وما هم بمؤمنين، يثير فى نفس السامعين استفهاما عما يدعو هؤلاء لمثل تلك الحال المضطربة والحياة القلقة المقامة على الكذب، فكان الجواب إنهم يفعلون ذلك محاولين مخادعة المؤمنين، جهلا منهم بصفات خالقهم. وقال القرآن { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا }. ولم يذكر مخادعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، ولعل الحكمة فى ذلك أن القرآن يعتبر مخادعة لرسوله، لأنه هو الذى بعثه إليهم، وهو المبلغ عن الله أحكامه وشرائعه. قال - تعالى -**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }** وقال - تعالى -**{ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ }** ثم بين - سبحانه - غفلتهم وغباءهم فقال { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ }. الأنفس جمع نفس بمعنى ذات الشىء وحقيقته. وتطلق على الجوهر اللطيف الذى يكون به الحس والحركة والإدراك. ويشعرون مضارع شعر بالشىء - كنصر وكرم - يقال شعر بالشىء أى فطن له، ومنه الشاعر لفطنته، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعانى ودقائقها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | والشعور العلم الحاصل بالحواس، ومنه مشاعر الإِنسان أى حواسه. والمعنى أن هؤلاء المنافقين لم يخادعوا الله لعلمه بما يسرون، ولم يخادعوا المؤمنين لأن الله يدفع عنهم ضرر خداع المنافقين، وإنما يخدعون أنفسهم لأن ضرر المخادعة عائد عليهم، ولكنهم لا يشعرون بذلك. لأن ظلام الغى خالط قلوبهم، فجعلهم عديمى الشعور، فاقدى الحس. وأتى بجملة { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } ، بأسلوب القصر مع أن خداعهم للمؤمنين قد ينالهم بسببه ضرر، لأن أولئك المنافقين سيصيبهم عذاب شديد بسبب ذلك، أما المؤمنون فحتى لو نالهم ضرر فلهم عند الله ثوابه. ونفى عنهم الشعور مع سلامة مشاعرهم، لأنهم لم ينتفعوا من نعمتها، ولم يستعملوها فيما خلقت له، فكانوا كالفاقدين لها. ثم بين - سبحانه - العلة فى خداعهم لله وللمؤمنين فقال { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }. والمرض العلة فى البدن ونقيضه الصحة، وقد يستعمل على وجه الاستعارة فيما يعرض للمرء فيخل بكمال نفسه، كسوء العقيدة والحسد، والبغضاء والنفاق، وهو المراد هنا. وسمى ما هم فيه من نفاق وكفر مرضا، لكونه مانعا لهم من إدراك الفضائل. كما أن مرض الأبدان يمنعها من التصرف الكامل. وجعل القرآن قلوبهم ظرفا للمرض، للإٍشعار بأنه تمكن منها تمكناً شديدا كما يتمكن الظرف من المظروف فيه. ثم أخبر - سبحانه - بأنهم بسبب سوء أعمالهم قد زادهم الله ضلالا وخسراً فقال { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }. لأنهم استمروا فى نفاقهم وشكهم، ومن سنة الله أن المريض إذا لم يعالج مرضه زاد لا محالة مرضه، إذ المرض ينشئ المرض، والانحراف يبدأ يسيراً ثم تنفرج الزاوية فى كل خطوة وتزداد. والمعنى أن هؤلاء المنافقين قد زادهم رجساً على رجسهم، ومرضا على مرضهم، وحسدا على حسدهم، لأنهم عموا وصموا عن الحق، ولأنهم كانوا يحزنون لأى نعمة تنزل بالمؤمنين. كما قال - تعالى**{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا }** ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }. { أَلِيمٌ } أى مؤلم وموجع وجعاً شديداً. من ألم - كفرح - فهو ألم، وآلمه يؤلمه إيلاما، أى أوجعه إيجاعاً شديدا. والكذب الإِخبار عن الشىء بخلاف الواقع. ولقد كان المنافقون كاذبين فى قولهم { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } وهم غير مؤمنين. وجعلت الآية الكريمة العذاب الأليم مرتبا على كذبهم مع أنهم كفرة، والكفر أكبر معصية من الكذب، للإِشعار بقبح الكذب، وللتنفير منه بأبلغ وجه، فهؤلاء المنافقون قد جمعوا الخستين، الكفر الذى توعد الله مرتكبه بالعذاب العظيم، والكذب الذى توعد الله مقترفه بالعقاب الأليم. وعبر بقوله { كَانُوا يَكْذِبُون } لإِفادة تجدد الكذب وحدوثه منهم حيناً بعد حين، وأن هذه الصفة هى أخص صفاتهم، وأبرز جرائمهم. ثم وصفهم الله - تعالى - بعد ذلك بجملة من الرذائل والقبائح مضافة إلى قبائحهم السابقة فقال { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فى ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ...وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير الوجيز/ الواحدي (ت 468 هـ)
{ ومنْ الناسِ مَن يقولُ آمنا بالله وباليوم الآخر.... } الآية، نزلت في المنافقين حين أظهروا كلمة الإيمان، وأسرُّوا الكفر، فنفى الله سبحانه عنهم الإِيمان بقوله: { وما هم بمؤمنين } فدلَّ أنَّ حقيقة الإيمان ليس الإِقرار فقط. { يخادعون الله والذين آمنوا } أَيْ: يعملون عمل المخادع بإظهار غير ما هم عليه؛ ليدفعوا عنهم أحكام الكفر، { وما يخدعون إلاَّ أنفسهم } لأنَّ وبال خداعهم عاد عليهم بإطلاع الله تعالى نبيَّه [عليه السَّلام والمؤمنين] على أسرارهم وافتضاحهم، { وما يشعرون }: وما يعلمون ذلك. { في قلوبهم مرضٌ } شكٌ ونفاقٌ، { فزادهم الله مرضاً } أَيْ: بما أنزل من القرآن فشكُّوا فيه كما شكُّوا في الذي قبله، { ولهم عذابٌ أليم }: مؤلمٌ { بما كانوا يكذبون } بتكذيبهم آيات الله عزَّ وجلَّ ونبيَّه صلى الله عليه وسلم.[ومَنْ قرأ: " يُكذِّبون " فمعناه: يكذبهم في ادّعائهم الإيمان]. { وإذا قيل لهم } [لهؤلاء] المنافقين: { لا تفسدوا في الأرض } بالكفر وتعويق النَّاس عن الإيمان { قالوا إنما نحن مصلحون } أَي: الذين نحن عليه هو صلاحٌ عند أنفسنا، فردَّ الله تعالى عليهم ذلك، فقال: { ألا إنَّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون }: لا يعلمون أنَّهم مُفسدون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير/ أبو بكر الجزائري (مـ 1921م)
شرح الكلمات: ومن الناس: من بعض الناس. من يقول آمنا بالله: صدقنا بالله وإلهاً لا إله غيره ولا رب سواه. وباليوم الآخر: صدقنا بالبعث والجزاء يوم القيامة. يخادعون الله: بإظهارهم الإيمان وإخفائهم الكفر. وما يخدعون الا أنفسهم: إذ عاقبة خداعهم تعود عليهم لا على الله ولا على رسوله ولا على المؤمنين. وما يشعرون: لا يعلمون أن عاقبة خداعهم عائدة عليهم. في قلوبهم مرض: في قلوبهم شك ونفاق وألم الخوف من افتضاح أمرهم والضرب على أيديهم. فزادهم الله مرضا: شكاً ونفاقاً وألماً وخوفاً حسب سنة الله في أن السيئة لا تعقب إلاّ سيئة. عذاب أليم: موجع شديد الوقع على النفس. مناسبة الآية لما قبلها وبيان معناها: لما ذكر تعالى المؤمنين الكاملين في إيمانهم وذكر مقابلهم وهم الكافرون البالغون في الكفر منتهاه ذكر المنافقين وهم المؤمنون في الظاهر الكافرون في الباطن. وهم شر من الكافرين البالغين في الكفر أشده. أخبر تعالى أن فريقاً من الناس وهم المنافقون يدعون الإيمان بألسنتهم ويضمرون الكفر في قلوبهم. يخادعون الله والمؤمنين بهذا النفاق. ولما كانت عاقبة خداعهم عائدة عليهم. كانوا بذلك خادعين أنفسهم لا غيرهم ولكنهم لا يعلمون ذلك ولا يدرون به. كما أخبر تعالى أن في قلوبهم مرضا وهو الشك والنفاق والخوف، وأنه زادهم مرضا عقوبة لهم في الدنيا وتوعدهم بالعذاب الأليم في الآخرة بسبب كذبهم وكفرهم. هداية الآيات: من هداية الآيات: التحذير من الكذب والنفاق والخداع، وأن عاقبة الخداع تعود على صاحبها كما أن السيئة لا يتولد عنها إلا سيئة مثلها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير مقاتل بن سليمان/ مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ)
ثم رجع إلى المنافقين، فقال عز وجل: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِر } ، يعنى صدقنا بالله بأنه واحد لا شريك له، وصدقنا بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال بأنه كائن، فكذبهم الله عز وجل، فقال: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [آية: 8]، يعنى بمصدقين بالتوحيد ولا بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال. { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } حين أظهروا الإيمان بمحمد، وأسروا التكذيب، { وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } [آية: 9]، نزلت فى منافقي أهل الكتاب اليهود، منهم: عبدالله بن أبى بن سلول، وجد بن قيس، والحارث بن عمرو، ومغيث بن قشير، وعمرو بن زيد، فخدهم الله فى الآخرة حين يقول فى سورة الحديث:**{ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً }** [الحديد: 13]، فقال لهم استهزاء بهم كما استهزؤوا فى الدنيا بالمؤمنين حين قالوا: آمنا وليسوا بمؤمنين، وذلك قوله عز وجل:**{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142]، أيضاً على الصراط حين يقال لهم: { ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير تيسير التفسير/ القطان (ت 1404 هـ)
أما هنا فقد جاء فيهم ثلاثة عشرة آية تبيّنت فيها صفاتهم وحقيقتهم وخطتهم في الضلالة. هذا شرح وتفصيل لأحوال المنافقين وخداعهم، وهم أخبث الناس، لأنهم ضموا على الكفر الاستهزاءَ والخداع والتمويه، فنعى الله عليهم مكرهم وخداعهم بقوله ما معناه: ان بعض الناس قوم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، وهم كاذبون. انما يقولون ذلك نفاقاً وخوفا من المؤمنين. وهم بعملهم هذا يظنون أنهم يخادعون الله، ظناً منهم انه غير مطلع على خفاياهم. لكنهم في الواقع انما يخدعون أنفسهم، لأن ضرر عملهم لاحقٌ بهم. والله يعلم دخائل أنفسهم. ان هؤلاء القوم في قلوبهم مرض الشك والعناد والحسد، فزادهم الله مرضاً على مرضهم، بنصره للحق، ولهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة جزاء ريائهم. القراءات: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " يخادعون اللهَ والّذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفُسَهم؟ " وقرأ الباقون " وما يخدعنون إلا أنفُسَهم ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
{ آمَنَّا } { ٱلآخِرِ } (8) - يَفْضَحُ اللهُ تَعَالَى المُنَافِقِينَ، وَيَكْشِفُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُمْ وَخَفَايَا نُفُوسِهِمْ. وَالمُنَافِقُونَ هُمُ الذِينَ آمَنُوا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، وَيَتَظَاهَرُونَ بِالإِسْلاَمِ، وَهُمْ كُفَّارٌ، فَهَؤُلاءِ المُنَافِقُونَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللهِ وَبِاليَومِ الآخِرِ، وَلكِنَّهُمْ فِي الحَقِيقَةِ غَيْرُ مُؤْمِنينَ، وَلاَ مُخْلِصِين فِي إِيمَانِهِمْ. (وَيَنْطَبِقُ لَفْظُ المُنَافِقِ عَلَى كُلِّ مَنْ يُظْهِرُ الخَيْرَ وَيُبطِنُ الشَّرَّ). النَّاسِ - هُمْ بَنُو البَشَرِ، وَسُمِّيَ النَّاسُ أُناساً لظُهُورِهِمْ وَتَعَلُّقِ الإِينَاسِ بِهِمْ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ)
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا }: صدّقنا بالله { وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }: أي يوم القيامة. قال الله تعالى: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } والناس: هم جماعة من الحيوان المتميّز بالصورة الإنسانية، وهو جمع إنسان، وإنسان في الأصل إنسيان بالياء، فأسقطوا الياء منه ونقلوا حركته إلى السين فصار إنساناً؛ الا ترى إنّك إذا صغرته رددت الياء إليه فقلت: أنيسيان، واختلف العلماء في تسميته بهذا الاسم: فقال ابن عباس: سمي إنساناً لأنه عُهِدَ إليه فنسي. قال الله تعالى**{ وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ }** [طه: 115]، وقال الشاعر: | **وسُمّيتَ إنساناً لأنك ناسي** | | | | --- | --- | --- | وقال بعض أهل المعاني: سُمّي إنساناً لظهوره وقدس البصير أياه من قولك: آنست كذا: أي أبصرت. فقال الله تعالى**{ آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً }** [القصص: 29] وقيل: لأنه استانس به، وقيل: لما خلق الله آدم آنسه بزوجته فسمّي إنساناً. { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ }: أي يخالفون الله ويُكذّبونه، وأصل الخدع في اللغة: الإخفاء، ومنه قيل [للبيت الذي يُحيا فيه المتاع] مُخدع، والمخادع يظهر خلاف ما يُضمر، وقال بعضهم: أصل الخداع في لغة: الفساد، قال الشاعر: | **أبيض اللون لذيذٌ طعمه** | | **طيّب الرّيق إذا الريق خدع** | | --- | --- | --- | أي فسد. فيكون معناه: ليفسدون بما أضمروا بأنفسهم وبما أضمروا في قلوبهم، وقيل معناه: يخادعون الله بزعمهم وفي ظنّهم، يعني إنهم اجترؤوا على الله حتى أنهم ظنّوا أنهم يخادعون، وهذا كقوله تعالى:**{ وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً }** [طه: 97] يعني بظنّك وعلى زعمك. وقيل: معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع فيما بينهم. وقيل: معناه يخادعون رسوله، كقوله:**{ فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ }** [الزخرف: 55] أي أسخطونا، وقوله:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ }** [الأحزاب: 57] أي أولياء الله؛ لأن الله سبحانه لا يؤذي ولا يخادع، فبيّن الله تعالى أنّ من آذى نبياً من أنبيائه وولياً من أوليائه استحق العقوبة كما لو آذى رسوله وخادعه. يدل عليه الخبر المروي: إن الله تعالى يقول: من آذى ولياً من أوليائي فقد بارزني بالمحاربة. وقيل: إنّ ذكر الله سبحانه في قوله: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } تحسين وتزيين لسامع الكلام، والمقصد بالمخادعة للذين آمنوا كقوله تعالى:**{ وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ }** [الأنفال: 41]. ثم المخادعة على قدر المعاجلة وأكثر المفاضلة إنّما تجيء في الفعل المشترك بين اثنين، كالمقاتلة والمضاربة والمشاتمة، وقد يكون أيضاً من واحد كقولك: طارقت النعل، وعاقبت اللصّ، وعافاك الله، قال الله عزّ وجلّ:**{ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ }** [الأعراف: 21] وقال:**{ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ }** [التوبة: 30] والمخادعة هاهنا عبارة عن الفعل الذي يختص بالواحد في حين الله تعالى لا يكون منه الخداع. { وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } أي ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم: آمنا، وهم غير مؤمنين، وقال بعضهم: من خداعهم المؤمنين: هو أنّهم كانوا يجالسون المؤمنين ويخالطونهم حتى يأنس بهم المؤمنون ويعدّونهم من أنفسهم فيبثون إليهم أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال الله تعالى: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } لأن وبال خداعهم راجع إليهم كأنهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم؛ وذلك أنّ الله تعالى لمطلع نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم على أسرارهم ونفاقهم، فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب الشديد في العقبى. قال أهل الإشارة: إنما يخادع من لا يعرف البواطن، فأما من عرف البواطن فإنّ مَنْ خادعه فإنما يخدع نفسه. واختلف القرّاء في قوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ } فقرأ شيبة ونافع وابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمرو بن العلاء: { يخادعون } بالألف جعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد، وقد ذكرنا خبره وتصديقها الحرف الأول، وقوله: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } لم يختلفوا فيه إلاّ ما روي عن أبي حمزة الشامي إنه قرأ: (يخدعون الله) وقرأ الباقون { وما يخدعون } على أشهر اللغتين وأضبطهما واختاره أبو عبيد. { وَمَا يَشْعُرُونَ } وما يعلمون إنها كذلك. { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شكّ ونفاق، ومنه يُقال: فلان يمرض في الوعد إذا لم يُصححّه، وأصل المرض: الضّعف والفتور. فسمّي الشك في الدّين والنفاق [مرض به] يضعف البدن وينقص قواه؛ ولأنه يؤدي إلى الهلاك بالعذاب، كما أن المرض في البدن يؤدي إلى الهلاك والموت. { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } شكّاً ونفاقاً وهلاكاً. { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم، وهو بمعنى مؤلم كقول عمرو بن معدي كرب: | **أمن ريحانة الداعي السميع** | | **يؤرّقني وأصحابي هجوع** | | --- | --- | --- | أي المسمع: يعني خيالها. { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }: (ما) مصدرية، أي بتكذيبهم على الله ورسوله في السرّ. وقرأ أهل الكوفة: بفتح الياء وتخفيف الذال، أي بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين. { وَإِذَا }: حرف توقيت بمعنى حينئذ، وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر وفيها معنى الجزاء، { قِيلَ }: فعل ماض مجهول، وكان في الأصل قول مثل قيل، فآستثقلت الكسرة على الواو فنقلت كسرتها إلى فاء الفعل فانقلبت الواو ياءاً لكسرة ما قبلها، هذه اللغة العالية وعليها العامة وهي اختيار أبي عبيد. وقرأ الكسائي ويعقوب: قُيل، وغُيض، وحُيل، وسُيق، وجُيء، وشُيء وشُيت بإشمام الضمّة فيها لتكون دالة على الواو المنقلبة، وفاصلة بين الصّدر والمصدر. { لَهُمْ }: يعني المنافقين، وقيل: اليهود. قال لهم المؤمنون: { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } بالكفر والمعصية وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد والقرآن، وقال الضحّاك: تبديل الملّة وتغيير السّنة وتحريف كتاب الله. { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } { أَلاۤ }: كلمة تنبيه { إِنَّهُمْ }: هم عماد وتأكيد { ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }: ما أُعدّ لهم من العذاب. { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } يعني: [قال] المؤمنون لليهود: { آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } وهم عبد الله ابن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب. { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } الجهّال. قال الله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } بأنهم كذلك، وقيل: لا يؤدون العلم حقّه، وقال المؤرّخ: السفيه: البهّات الكذّاب المتعمّد لخلاف ما يعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قُطْرُب: السفيه: العجول الظلوم يعمل خلاف الحق. واختلف القرّاء في قوله: { ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ } فحقّق بعضهم الهمزتين، وهو مذهب أهل الكوفة ولغة تميم. وأما أبو عمرو وأهل الحجاز فإنّهم همزوا الأولى وليّنوا الثانية؛ طلباً للخفّة، واختار الفرّاء حذف الأولى وهمز الثانية، واحتج بأن ما يستأنف ـ أي بالهمزة ـ مما يسكت عليه. { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }. قال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن أُبيّ بن سلول الخزرجي عظيم المنافقين من رهط سعد بن عبادة، وكان إذا لقى سعداً قال: نعم الدينُ دين محمد، وكان إذا رجع إلى رؤساء قومه. قالوا: هل نكفر؟ قال: سدّوا أيديكم بدين آبائكم. فأنزل الله هذه الآية. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبيّ محتجاً به، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عبد الله بن أُبيّ لأصحابه: أنظروا كيف أدرأ هؤلاء السُّفهاء عنكم. فذهب وأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحباً بالصّدّيق سيّد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، والباذل نفسه وماله له. ثمَّ أخذ بيد عمر فقال: مرحباً بسيّد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثمَّ أخذ بيد علي فقال: مرحباً بابن عم رسول الله وختنه سيّد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: كف لله واتق الله ولا تنافق، فإنّ المنافقين شر خليقة الله، فقال له عبد الله: مهلا أبا الحسن إليّ تقول هذا، والله إنّ إيماننا كإيمانكم وتصدّيقنا كتصديقكم ثمَّ افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلتُ، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت. فأثنوا عليه خيراً، وقالوا: لانزال معك ما عشت، فرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك، فأنزل الله { وَإِذَا لَقُواْ } أي رأوا، يعني المنافقين عبد الله بن أُبي وأصحابه، كان (لَقوا) في الأصل (لُقيوا) فإستثقلت الضمة على الياء فبسطت على القاف وسكنت الواو والياء ساكنة فحذفت لإجتماعهما. وقرأ محمد بن السميقع: وإذا لاقوا وهما بمعنى واحد. { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }: يعني أبا بكر وأصحابه { قَالُوۤا آمَنَّا } كأيمانكم. { وَإِذَا خَلَوْا } رجعوا، ويجوز أن تكون من الخلوة، تقول: خلوتُ به وخلوتُ إليه، وخلوتُ معهُ، كلها بمعنى واحد. وقال النضر بن شميل: { إِلَىٰ } ها هنا بمعنى (مع) كقوله تعالى:**{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ }** [البقرة: 187]: أي مع نسائكم، وقوله:**{ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ }** [النساء: 2] وقوله:**{ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ }** [آل عمران: 52] النابغة: | **ولا تتركنّي بالوعيد كأنني** | | **إلى الناس مِطليٌّ به القار أجربُ** | | --- | --- | --- | أي مع الناس. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال آخر: | **ولوح ذراعين في بركة** | | **إلى جؤجؤرهل المنكب** | | --- | --- | --- | أي مع جؤجؤ. { إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ }: أي رؤسائهم وكبرائهم وقادتهم وكهنتهم. قال ابن عباس: هم خمسة نفر من اليهود، ولا يكون كاهن إلاّ ومعه شيطان تابع له: كعب ابن الأشرف بالمدينة، وأبو بردة في بني أسلم، وعبد الله في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن السَّوداء بالشام. والشيطان: المتمرد العاصي من الجن والإنس، ومن كل شيء، ومنه قيل: للحيّة النضناض: الشيطان، قال الله تعالى:**{ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ }** [الصافات: 65] أي الحيات، وتقول العرب: إتّق تلك الدابة فإنّها شيطان. وفي الحديث: **" إذا مرَّ الرجل بين يدي أحدكم وهو يمتطي فليمنعه فإن أبى فليقاتله فإنّه شيطان ".** وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: **" إنّه نظر الى رجل يتبع حماماً طائراً فقال: " شيطان يتبع شيطاناً ".** أراد الراعي الخبيث الداعي. ويُحكى عن بعضهم إنه قال في تضاعيف كلامه: وكل ذلك حين ركبني شيطان قيل له: وأي الشياطين ركبك؟ قال: الغضب. وقال أبو النجم: | **إنّي وكل شاعر من البشر** | | **شيطانه أنثى وشيطاني ذكر** | | --- | --- | --- | { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } أي على دينكم وأنصاركم. { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } بمحمد وأصحابه. { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } أي يجازيهم جزاء استهزائهم، فسُمّي الجزاء باسم الابتداء إذ كان مثلهُ في الصورة كقوله**{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }** [الشورى: 40] فسُمّي جزاء السيئة سيئة. وقال عمرو بن كلثوم: | **ألا لا يجهلنّ أحد علينا** | | **فنجهل فوق جهل الجاهلينا** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **نجازيهمُ كيل الصواع بما أتوا** | | **ومن يركب ابن العمّ بالظلم يُظلم** | | --- | --- | --- | فسمّى الجزاء ظلماً. وقيل: معناه: الله يوبّخهم ويعرضهم ويُخطّيء فعلهم؛ لأنّ الاستهزاء والسخرية عند العرب العيب والتجهيل، كما يُقال: إنّ فلاناً يُستهزأ به منذ اليوم، أي يُعاب. قال الله**{ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا }** [النساء: 140] أي تُعاب، وقال أخباراً عن نوح عليه السلام:**{ وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ }** [هود: 38]. وقال الحسن: معناه: الله يُظهر المؤمنين على نفاقهم. وقال ابن عباس: هو أن الله يُطلع المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنة على المنافقين وهم في النار، فيقولون لهم: أتحبّون أن تدخلوا الجنة، فيقولون: نعم؛ فيفتح لهم باب من الجنة، ويُقال لهم: ادخلوا فيسبحون ويتقلبون في النار، فإذا انتهوا إلى الباب سُدّ عليهم، وردّوا إلى النار ويضحك المؤمنون منهم، فذلك قوله:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ }** [المطففين: 29] إلى قوله:**{ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }** [المطففين: 34]. الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" يؤمر بناس من الناس إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى ما أعدَّ الله فيها لأهلها من الكرامة، نودوا: أن اصرفوهم عنها. قال: ويرجعون بحسرة وندامة لم يرجع الخلائق بمثلها. فيقولون: يا ربّنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا. فيقول الله جل جلاله: هذه الذي أردت بكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلّوني وكنتم تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما كنتم ترونني من قلوبكم. فاليوم أُذيقكم من عذابي مع ما حرمتكم من ثوابي ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: هو خذلانه إياهم وحرمانهم التوفيق والهداية. وهو قوله فيما بعد: { وَيَمُدُّهُمْ } يتركهم، ويمهلهم ويُطيل لهم، وأصله: الزيادة، ويُقال: مدّ النهر، ومدّة: زمن آخر. وقرأ ابن محيصن وشبل: { وَيُمِدُّهُمْ } بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان بمعنى واحد؛ لأنّ المد أكثر ما يأتي في الشر والإمداد في الخير. قال الله عزّ وجلّ في المد:**{ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً }** [مريم: 79]، وقال في الإمداد:**{ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ }** [الإسراء: 6] وقال:**{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ }** [المؤمنون: 55]، وقال:**{ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ }** [نوح: 12]. { فِي طُغْيَانِهِمْ } كفرهم وضلالتهم وجهالتهم، وأصل الطغيان: مجاوزة القدر، يُقال: ميزان فيه طغيان، أي مجاوزة للقدر في الإستواء. قال الله تعالى:**{ إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ }** [الحاقة: 11] أي جاوز حدّه الذي قدّر له، وقال لفرعون:**{ إِنَّهُ طَغَىٰ }** [طه: 24] أي أسرف في الدعوى حينما قال:**{ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ }** [النازعات: 24]. { يَعْمَهُونَ } يمضون، يترددون في الضلالة متحيرين. يُقال: عمه يعمه عمهاً وعموهاً، وعمها فهو عمه، وعامه: إذا كان جائراً عن الحق. قال رؤبة: | **ومَهْمَه أَطْرَافُهُ في مَهْمَه** | | **أعمى الهُدى بالجاهلين العُمَّه** | | --- | --- | --- | { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }: قال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهُدى، ومعناه: إنهم استبدلوا الكفر على الإيمان، وإنّما أخرجه بلفظ الشّرى والتجارة توسّعاً؛ لأن الشرى والتجارة راجعان إلى الإستبدال والإختيار؛ وذلك أنّ كل واحد من البيعين يختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه، وقال الشاعر: | **أخذتُ بالجُمَّة رأساً إزْعَرَا** | | **وبالثنايا الواضِحات الدُّرْدُرَا** | | --- | --- | --- | | **وبالطويل العُمْر عمراً جَيدَرا** | | **كما اشترى المسلم إذ تنصّرا** | أي اختار النصرانية على الإسلام. وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق: { ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ } بكسر الواو؛ لأنّ الجزم يُحرّك الى الكسرة العدوى بفتحها حركة إلى أخف الحركات. { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ }: أي فما ربحوا في تجارتهم. تقول العرب: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، ونام ليلك. أي ربحت وخسرت في بيعك، ونمت في ليلك. قال الله عزّ وجلّ:**{ فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ }** [محمد: 21]، وقال:**{ بَلْ مَكْرُ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ }** [سبأ: 33]. قال الشاعر: | **وأعور من نيهان أمّا نهاره** | | **فأعمى وأمّا ليله فبصير** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **حارثُ قد فرّجت عنّي همّي** | | **فنام ليلي وتجلّى غمّي** | | --- | --- | --- | وقرأ إبراهيم ابن أبي عبلة: (فما ربحت تجاراتهم) بالجمع. { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }: من الضلالة، وقال: مصيبين في تجاراتهم. قال سفيان الثوري: كلكم تاجر فلينظر امرؤ ما تجارته؟ قال الله { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } وقال:**{ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }** [الصف: 10]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ)
الناس في الحياة الدنيا على ثلاثة أحوال: إما مؤمن، وإما كافر، وإما منافق. والله سبحانه وتعالى في بداية القرآن الكريم في سورة البقرة.. أراد أن يعطينا وصف البشر جميعاً بالنسبة للمنهج وأنهم ثلاث فئات: الفئة الأولى هم المؤمنون، عَرَّفنا الله سبحانه وتعالى صفاتهم في ثلاث آيات، في قوله تعالى:**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ \* وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ \* أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }** [البقرة: 3-5]. والفئة الثانية هم الكفار، وعَرَّفنا الله سبحانه وتعالى صفاتهم في آيتين في قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ \* خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }** [البقرة: 6-7]. وجاء للمنافقين فعرَّف صفاتهم في ثلاث عشرة آية متتابعة، لماذا..؟ لخطورتهم على الدين، فالذي يهدم الدين هو المنافق، أما الكافر فنحن نتقيه ونحذره، لأنه يعلن كفره. إن المنافق يتظاهر أمامك بالإيمان، ولكنه يُبطن الشر والكفر، وقد تحسبه مؤمناً، فتطلعه على أسرارك، فيتخذها سلاحاً لطعن الدين.. وقد خلق الله في الإنسان ملكات متعددة، ولكن يعيش الإنسان في سلام مع نفسه، لابد أن تكون ملكاته منسجمة وغير متناقضة. فالمؤمن ملكاته منسجمة، لأنه اعتقد بقلبه في الإيمان ونطق لسانه بما يعتقد، فلا تناقض بين ملكاته أبداً. والكافر قد يقال إنه يعيش في سلام مع نفسه، فقد رفض الإيمان وأنكره بقلبه ولسانه وينطق بذلك، ولكن الذي فقد السلام مع ملكاته هو المنافق، أنه فقد السلام مع مجتمعه وفقد السلام مع نفسه، فهو يقول بلسانه، ما لا يعتقد قلبه، يُظهر غير ما يُبطن، ويقول غير ما يعتقد، ويخشى أن يكشفه الناس، فيعيش في خوف عميق، وهو يعتقد أن ذلك شيء مؤقت سينتهي. ولكن هذا التناقض يبقى معه إلى آخر يوم له في الدنيا، ثم ينتقل معه إلى الآخرة، فينقض عليه، ليقوده إلى النار، واقرأ قوله تبارك وتعالى:**{ حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ \* وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }** [فصلت: 20-21]. إذن كل ملكاتهم انقضت عليهم في الآخرة، فالسلام الذي كانوا يتمنونه لم يحققوه لا في حياتهم ولا في آخرتهم، فلسان المنافق يشهد عليه، ويداه تشهدان عليه، ورِجْلاه تشهدان عليه، والجلود تشهد عليه، فماذا بقي له؟ بينه وبين ربه تناقض، وبينه وبين نفسه تناقض، وبينه وبين مجتمعه تناقض، وبينه وبين آخرته تناقض. وبينه وبين الكافرين تناقض. يقول لسانه ما ليس في قلبه، بماذا وصف الحق سبحانه وتعالى المنافقين؟ قال تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 8]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | هذه أول صفات المنافقين في القرآن الكريم، يعلنون الإيمان وفي قلوبهم الكفر، ولذلك فإن إيمانهم كله تظاهر، إذا ذهبوا للصلاة لا تكتب لهم، لأنهم يتظاهرون بها، ولا يؤدونها عن إيمان، وإذا أدوا الزكاة، فإنها تكون عليهم حسرة، لأنهم ينفقونها وهم لها كارهون، لأنها في زعمهم نقص من مالهم. لا يأخذون عليها ثواباً في الآخرة، وإذا قتل واحد منهم في غزوة، انتابهم الحزن، والأسى، لأنهم أهدروا حياتهم ولم يقدموها في سبيل الله. وهكذا يكون كل ما يفعلونه شقاء بالنسبة لهم. أما المؤمن فحين يصلي أو يؤدي الزكاة أو يستشهد في سبيل الله فهو يرجو الجنة، وأما المنافقون فإنهم يفعلون كل هذا، وهم لا يرجون شيئاً.. فكأنهم بنفاقهم قد حكم عليهم الله سبحانه وتعالى بالشقاء في الدنيا والآخرة، فلا هم في الدنيا لهم متعة المؤمن فيما يفعل في سبيل الله، ولا هم في الآخرة لهم ثواب المؤمن فيما يرجو من الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ)
قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ }.. الآية { مِنَ ٱلنَّاسِ } خبر مقدم و " من يقول " مبتدأ مؤخر، و " مَنْ " تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً أي: الذي يقول أو فريقٌ يقول: فالجملةُ على الأول لا محلَّ لها لكونِها صلةً، وعلى الثاني محلُّها الرفعُ لكونها صفةً للمبتدأ. واستضعف أبو البقاء أن تكونَ موصولةً، قال: لأن " الذي " يتناول قوماً بأعيانهم، والمعنى هنا على الإِبهام " انتهى. وهذا منه غيرُ مُسَلَّم لأن المنقولَ أن الآية نَزَلَت في قوم بأعيانهم كعبد الله بن أُبَيّ ورهطِه. وقال الأستاذ الزمخشري: " إن كانَتْ أل للجنس كانت " مَنْ " نكرةً موصوفة كقوله:**{ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ }** [الأحزاب: 23]، وإن كانَتْ للعهد كانت موصولةً " ، وكأنه قَصَد مناسبةَ الجنسِ للجنسِ والعهدِ للعهد، إلاَّ أن هذا الذي قاله غيرُ لازم، بل يجوز أن تكونَ أل للجنسِ وتكونَ " مَنْ " موصولةً، وللعهدِ ومَنْ نكرةً موصوفةً/. وزعم الكسائي أنها لا تكون إلا في موضعٍ تختص به النكرةُ، كقوله: | **158ـ رُبَّ مَنْ أنْضَجْتُ غيظاً قلبَه** | | **قد تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطَعْ** | | --- | --- | --- | وهذا الذي قاله هو الأكثر: إلا أنها قد جاءت في موضعٍ لا تختصُّ به النكرة، قال: | **159ـ فكفى بنا فضلاً على مَنْ غيرُنا** | | **............................** | | --- | --- | --- | و " مَنْ " تكون موصولةً ونكرةً موصوفةً كما تقدَّم وشرطيةً واستفهاميةً، وهل تقع نكرةً غيرَ موصوفةٍ أو زائدةً؟ خلافٌ، واستدلَّ الكسائي على زيادتها بقولِ عنترة: | **160ـ يا شاةَ مَنْ قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ له** | | **حَرُمَتْ عليَّ ولَيْتَها لم تَحْرُمِ** | | --- | --- | --- | ولا دليلَ فيه لجوازِ أن تكونَ موصوفةً بقَنَص: إمَّا على المبالغة أو على حذف مضاف. و " مِنْ " في " مِنَ الناس " للتبعيض، وقد زعم قومٌ أنها للبيان وهو غَلَطٌ لعدم تقدُّم ما يتبيَّن بها. و " الناس " اسمُ جمع لا واحدَ له مِنْ لفظه، ويرادفُهُ " أناسِيٌّ " جمع إنسان أو إِنْسِيّ، وهو حقيقةٌ في الآدميين، ويُطْلق على الجن مجازاً. واختلف النحويون في اشتقاقه: فمذهبُ سيبويه والفراء أنَّ أصلَه همزةٌ ونون وسين والأصل: أناس اشتقاقاً من الأنس، قال: | **161ـ وما سُمِّي الإِنسانُ إلا لأُِنْسِه** | | **ولا القلبُ إلا أنه يَتَقَلَّبُ** | | --- | --- | --- | لأنه أَنِس بحواء، وقيل: بل أَنس بربه، ثم حُذفت الهمزة تخفيفاً، يدلُّ على ذلك قوله: | **162ـ إنَّ المَنايا يَطَّلِعْـ** | | **ـنَ على الأُناس الآمنينا** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **163ـ وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ** | | **ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فهو سارِبُ** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **164ـ وكلُّ أُناسٍ سوف تَدْخُل بينهم** | | **دُوَيْهِيَّةٌ تَصْفَرُّ منها الأنامِلُ** | | --- | --- | --- | وذهب الكسائي إلى أنه من نون وواو وسين، والأصلُ: نَوَسَ، فَقُلبت الواوُ ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، والنَّوْس والحركةُ. وذهب بعضُهم إلى أنه من نون وسين وياء، والأصل: نَسِي، ثم قُلِبَتْ اللامُ إلى موضع العين فصار نَيَساً، ثم قُلبت الياء ألفاً لما تقدم في نوس، قال: سُمُّوا بذلك لنِسْيانهم ومنه الإِنسان لنسيانه، قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | **165ـ فإنْ نَسِيْتَ عُهوداً منك سالفةً** | | **فاغفرٍ فأولُ ناسٍ أولُ الناس** | | --- | --- | --- | ومثله: | **166ـ لا تَنْسَيَنْ تلك العهودَ فإنما** | | **سُمِّيتَ إنساناً لأنك ناسِي** | | --- | --- | --- | فوزنُه على القول الأول: عال، وعلى الثاني، فَعَل، وعلى الثالث: فَلَع بالقلب. و " يقول ": فعل مضارع وفاعله ضميرٌ عائد على " مَنْ " ، والقولُ حقيقةً: اللفظُ الموضوعُ لمعنىً، ويُطْلَقُ على اللفظِ الدالِّ على النسبةِ الإِسناديةِ وعلى الكلام النفساني أيضاً، قال تعالى:**{ وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ }** [المجادلة: 8]، وتراكيبه الستة وهي: القول واللوق والوقل والقلو واللقو والولق تَدُلُّ على الخفَّةِ والسرعةِ، وإنْ اختصَّتْ بعضُ هذه الموادِّ بمعانٍ أُخَرَ. والقولُ أصلُ تعديتِه لواحدٍ نحو: " قُلْتُ خطبةً " ، وتُحْكىٰ بعده الجملُ، وتكون في حلِّ نصب مفعولاً بها إلا أَنْ يُضَمَّنَ معنى الظن فيعملَ عَمَلَه بشروطٍ عند غير بني سُلَيْم مذكورةٍ في كتب النحو، كقوله: | **167ـ متى تقولُ القُلُصَ الرواسِما** | | **يُدْنِيْنَ أمَّ قاسمٍ وقاسما** | | --- | --- | --- | وبغير شرط عندهم كقوله: | **168ـ قالتْ وكنتُ رجلاً فطيناً** | | **هذا لَعَمْرُ اللهِ إسرائينا** | | --- | --- | --- | و " آمَنَّا ": فعلٌ وفاعلٌ، و " بالله " متعلقٌ به، والجملةُ في محلِّ نصب بالقول، وكُرِّرَت الباءُ في قوله " وباليومِ " للمعنى المتقدِّم في قوله:**{ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ }** [البقرة: 7]، وقد سأل سائل فقال: الخبرُ لا بد وأن يفيدَ غيرَ ما أفاده المبتدأ، ومعلومٌ أن الذي يقولَ كذا هو من الناس لا من غيرهم. واُجيب عن ذلك: بأن هذا تفصيلٌ معنويٌّ لأنه تقدَّم ذِكْرُ المؤمنين، ثم ذِكْرُ الكافرين، ثم عَقَّبَ بذِكْر المنافقين، فصار نَظيرَ التفصيلِ اللفظي، نحو قوله:**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ }** [البقرة: 204]**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي }** [لقمان: 6] فهو في قوةِ تفصيلِ الناسِ إلى مؤمنٍ وكافرٍ ومنافقٍ، وأحسنُ مِنْ هذا أن يُقالَ: إن الخبرَ أفادَ التبعيضَ المقصودَ لأن الناس كلهم لم يقولوا ذلك. وهم غيرُ مؤمنين فصارَ التقديرُ: وبعضُ الناسِ كَيْتَ وكَيْتَ. واعلم أن " مَنْ " وأخواتها لها لفظٌ ومعنىً، فلفظُها مفردٌ مذكَّرٌ، فإن أريد بها غيرُ ذلك فلك أن تراعيَ لفظها مرةً ومعناها أخرى، فتقول: " جاء مَنْ قام وقعدوا " والآيةُ الكريمة كذلك، روعي اللفظُ أولاً فقيل: " مَنْ يقول " ، والمعنى ثانياً في " آمَنَّا " ، وقال ابن عطية: " حَسُن ذلك لأنَّ الواحدَ قبلَ الجمعِ في الرتبة، ولا يجوزُ أن يرجِعَ متكلمٌ من لفظِ جَمْعٍ إلى توحيدٍ، لو قلت: ومن الناس مَنْ يقومون ويتكلم لم يَجُز ". وفي عبارة القاضي ابن عطية نظرٌ، وذلك لأنه منع من مراعاة [اللفظ بعد مراعاة] المعنى، وذلك جائزٌ، إلا أنَّ مراعاةَ اللفظ أولاً أَوْلى، ومِمَّا يَرُدُّ عليه قولُ الشاعر: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | **169ـ لستُ مِمَّنْ يَكُعُّ أو يَسْتَكينو** | | **ن إذا كافَحَتْهُ خيلُ الأعادي** | | --- | --- | --- | وقال تعالى:**{ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ }** [التغابن: 9] إلى أن قال: " خالدين " فراعى المعنى، ثم قال: { قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً } فراعى اللفظَ بعد مراعاةِ المعنى وكذا راعى المعنى في قوله: " أو يَستكينون " ثم راعى اللفظَ في " إذا كافحته ". وهذا الحملُ جارٍ فيها في جميع أحوالها، أعني مِنْ كونِها موصولةً وشرطيةً واستفهامية/ أمَّا إذا كانَتْ موصوفةً فقال الشيخ: " ليس في مَحْفوظي من كلام العرب مراعاةُ المعنى " يعني تقول: مررت بمَنْ محسنون لك. و " الآخِر " صفةٌ لليوم، وهو مقابِلُ الأولِ، ومعنى اليومِ الآخر أي عن الأوقات المحدودة. و { مَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ما نافية، ويحتمل أن تكونَ هي الحجازيةَ فترفعَ الاسمَ وتنصبَ الخبرَ فيكونُ " هم " اسمَها، وبمؤمنين خبرَها، والباء زائدةٌ تأكيداً وأن تكونَ التميميةَ، فلا تعملَ شيئاً، فيكونُ " هم " مبتدأ و " بمؤمنين " الخبرَ والباءُ زائدةٌ أيضاً، وزعم أبو علي الفارسي وتبعه الزمخشري أن الباءَ لا تُزاد في خبر " ما " إلا إذا كانَتْ عاملةَ، وهذا مردودٌ بقول الفرزدق، وهو تميمي: | **170ـ لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتاركِ حَقِّه** | | **ولا مُنْسِئٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ** | | --- | --- | --- | إلا أنَّ المختارَ في " ما " أن تكونَ حجازِيةً، لأنه لمَّا سقطت الباءُ صَرَّح بالنصب قال الله تعالى:**{ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ }** [المجادلة: 2]**{ مَا هَـٰذَا بَشَراً }** [يوسف: 31] وأكثرُ لغةِ الحجاز زيادةُ الباء في خبرها، حتى زعم بعضُهم أنه لم يَحْفَظِ النصبَ في غير القرآن إلا في قول الشاعر: | **171ـ وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ** | | **تَصِل الجيوشُ إليكمُ أَقْوادَها** | | --- | --- | --- | | **أبناؤُها متكنِّفَون أباهُمُ** | | **حَنِقُو الصدورِ وما هُمُ أولادَها** | | --- | --- | --- | وأتى بالضمير في قوله: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } جمعاً اعتباراً بمعنى " مَنْ " كما تقدم في قولِه " آمنَّا ". فإنْ قيل: لِمَ أتى بخبر " ما " اسمَ فاعل غيرَ مقيَّدٍ بزمان ولم يُؤْتَ بعدها بجملةٍ فعلية حتى يطابقَ قولَهم " آمنَّا " فيقال: وما آمنوا؟ فالجوابُ: أنه عَدَلَ عن ذلك ليفيدَ أنَّ الإِيمانَ منتفٍ عنهم في جميعِ الأوقات فلو أُتِيَ به مطابقاً لقولهم " آمنَّا " فقال: وما آمنوا لكان يكونُ نفياً للإِيمان في الزمن الماضي فقط، والمرادُ النفيُ مطلقاً، أي: إنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإِيمان في وقتٍ من الأوقات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى في أول السورة صفات المؤمنين، وأعقبها بذكر صفات الكافرين، ذكر هنا " المنافقين " وهم الصنف الثالث، الذين يُظهرون الإِيمان ويُبطنون الكفر، وأطنب بذكرهم في ثلاث عشرة آية لينبه إِلى عظيم خطرهم، وكبير ضررهم، ثم عقَّب ذلك بضرب مثلين زيادة في الكشف والبيان، وتوضيحاً لما تنطوي عليه نفوسهم من ظلمة الضلال والنفاق، وما يئول إِليه حالهم من الهلاك والدمار. اللغَة: { يُخَادِعُونَ } الخِداع: المكر والاحتيال وإِظهار خلاف الباطن، وأصله الإِخفاء ومنه سُمي الدهرُ خادعاً لما يخفي من غوائله، وسُمي المِخْدع مِخْدعاً لتستر أصحاب المنزل فيه { مَّرَضٌ } المرض: السُّقْم وهو ضد الصحة وقد يكون حسياً كمرض الجسم، أو معنوياً كمرض النفاق ومرض الحسد والرياء، قال ابن فارس: المرضُ كلُّ ما خرج به الإِنسان عن حد الصحة من علةٍ، أو نفاق، أو تقصير في أمر { تُفْسِدُواْ } الفساد: العدول عن الاستقامة وهو ضد الصلاح { ٱلسُّفَهَآءُ } جمع سفيه وهو الجاهل، الضعيف الرأي، القليل المعرفة، بمواضع المنافع والمضار، وأصل السَّفه، الخِفَّة، والسفيه: الخفيف العقل قال علماء اللغة: السَّفه خفةٌ وسخافة رأي يقتضيان نقصان العقل، والحِلْمُ يقابله { طُغْيَانِهِمْ } الطغيان: مجاوزة الحد في كل شيء ومنه**{ إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ }** [الحاقة: 11] أي ارتفع وعلا وجاوز حده، والطاغية: الجبار العنيد { يَعْمَهُونَ } العَمَه: التحير والتردُّد في الشيء يقال: عَمِهَ يَعْمه فهو عَمِه قال رؤبة: " أعمى الهدى بالحائرين العُمَّه " قال الفخر الرازي: العَمَهُ مثل العمى، إِلا أَن العَمَى عام في البصر والرأي، والعَمَه في الرأي خاصة، وهو التردد والتحير لا يدري أين يتوجه { ٱشْتَرَوُاْ } حقيقة الاشتراء: الاستبدال، وأصله بذل الثمن لتحصيل الشيء المطلوب، والعرب تقول لمن استبدل شيئاً بشيء اشتراه قال الشاعر: | **فإِن تزعميني كنتُ أجهلُ فيكم** | | **فإِني اشتريتُ الحلمَ بعدِك بالجهل** | | --- | --- | --- | { صُمٌّ } جمع أصم وهو الذي لا يسمع { بُكْمٌ } جمع أبكم وهو الأخرس الذي لا ينطق { عُمْيٌ } جمع أعمى وهو الذي فقد بصره { صَيِّبٍ } الصَيّبُ: المطر الغزير مأخوذ من الصَّوْب وهو النزول بشدة قال الشاعر " سقتكِ روايا المُزْن حيثُ تصوب " { ٱلصَّوَاعِقِ } جمع صاعقة وهي نارٌ محرقة لا تمر بشيء إِلا أتت عليه، مشتقة من الصَّعْق وهو شدة الصوت { ٱلسَّمَآءِ } السماء في اللغة: كلُّ ما علاكَ فأظلَّك، ومنه قيل لسقف البيت سماء، ويسمى المطر سماءً لنزوله من السماء قال الشاعر: | **إِذا سقط السماء بأرضِ قومٍ** | | **رعيناه وإِن كانوا غِضابا** | | --- | --- | --- | { يَخْطَفُ } الخَطْفُ: الأخذ بسرعة ومنه**{ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ }** [الصافات: 10] وسُمِي الطير خُطّافاً لسرعته، والخاطف الذي يأخذ الشيء بسرعة شديدة. سَبَبُ النّزول: قال ابن عباس: نزلت هذه الآيات في منافقي أهل الكتاب منهم " عبد الله بن أُبي ابن سلول، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس " كانوا إِذا لقوا المؤمنين يظهرون الإِيمان والتصديق ويقولون: إِنّا لنجد في كتابنا نعته وصفته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | التفسِير: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ } أي ومن الناس فريق يقولون بألسنتهم صدَّقنا بالله وبما أنزل على رسوله من الآيات البينات { وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي وصدَّقنا بالبعث والنشور { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } أي وما هم على الحقيقة بمصدقين ولا مؤمنين، لأنهم يقولون ذلك قولاً دون اعتقاد، وكلاماً دون تصديق قال البيضاوي: هذا هو القسم الثالث المذبذب بين القسمين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إِلى الله، لأنّهم موَّهوا الكفر وخلطوا به خداعاً واستهزاءً، ولذلك أطال في بيان خبثهم وجهلهم، واستهزأ بهم وتهكَّم بأفعالهم، وسجَّل عليهم الضلال والطغيان، وضرب لهم الأمثال { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } أي يعملون عمل المخادِع بإِظهار ما أظهروه من الإِيمان مع إِصرارهم على الكفر، يعتقدون - بجهلهم - أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، وما علموا أن الله لا يُخدع لأنه لا تخفى عليه خافية قال ابن كثير: النفاق هو إِظهار الخير، وإِسرارُ الشر وهو أنواع: اعتقادي وهو الذي يخلّد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب والأوزار، لأن المنافق يخالف قولُه فعلَه، وسرُّه علانيته، وإِنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن بها نفاق بل كان خلافه { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } أي وما يخدعون في الحقيقة إِلا أَنفسَهم لأن وبال فعلهم راجع عليهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي ولا يُحسّون بذلك ولا يفطنون إِليه، لتمادي غفلتهم، وتكامل حماقتهم { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } أي في قلوبهم شك ونفاق فزادهم الله رجساً فوق رجسهم، وضلالاً فوق ضلالهم، والجملةُ دعائية قال ابن أَسلم: هذا مرضٌ في الدين، وليس مرضاً في الجسد، وهو الشك الذي دخلهم في الإِسلام فزادهم الله رجساً وشكاً { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } أي ولهم عذابٌ مؤلمٌ بسبب كذبهم في دعوى الإِيمان، واستهزائهم بآيات الرحمن.. ثم شرع تعالى في بيان قبائحهم، وأحوالهم الشنيعة فقال { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أي وإِذا قال لهم بعض المؤمنين: لا تسعوا في الأرض بالإِفساد بإِثارة الفتن، والكفر والصَدِّ عن سبيل الله قال ابن مسعود: الفسادُ في الأرض هو الكفرُ، والعملُ بالمعصية، فمن عصى الله فقد أفسد في الأرض { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي ليس شأننا الإِفسادُ أبداً، وإِنما نحن أناسٌ مصلحون، نسعى للخير والصلاح فلا يصح مخاطبتنا بذلك قال البيضاوي: تصوُّروا الفساد بصورة الصلاح، لما في قلوبهم من المرض فكانوا كمن قال الله فيهم**{ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً }** [فاطر: 8] ولذلك ردَّ الله عليهم أبلغ ردٍّ بتصدير الجملة بحرفيْ التأكيد { أَلا } المنبهة و { إِنَّ } المقررة، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل، والاستدراك بعدم الشعور فقال { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } أي أَلاَ فانتبهوا أيها الناس، إِنهم هم المفسدون حقاً لا غيرهم، ولكنْ لا يفطنون ولا يُحسون، لانطماسِ نور الإِيمان في قلوبهم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } أي وإِذا قيل للمنافقين: آمنوا إِيماناً صادقاً لا يشوبه نفاقٌ ولا رياء، كما آمن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأخلصوا في إِيمانكم وطاعتكم لله { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } الهمزة للإِنكار مع السخرية والاستهزاء أي قالوا أنؤمن كإِيمان هؤلاء الجهلة أمثال " صهيب، وعمار، وبلال " ناقصى العقل والتفكير؟! قال البيضاوي: وإِنما سفَّهوهم لاعتقادهم فسادَ رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإِن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب وبلال { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } أي أَلا إِنهم هم السفهاء حقاً، لأن من ركب متن الباطل كان سفيهاً بلا امتراء، ولكن لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أبلغ في العمى، والبعد عن الهدى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أكَّد وَنبَّه وحصر السفاهة فيهم، ثم قال تعالى منبهاً إِلى مصانعتهم ونفاقهم { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } أي وإِذا رأوا المؤمنين وصادفوهم أظهروا لهم الإِيمان والموالاة نفاقاً ومصانعة { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } أي وإِذا انفردوا ورجعوا إِلى رؤسائهم وكبرائهم، أهلِ الضلالِ والنفاق { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أي قالوا لهم نحن على دينكم وعلى مثل ما أنتم عليه من الاعتقاد، وإِنما نستهزئ بالقوم ونسخر منهم بإِظهار الإِيمان، قال تعالى رداً عليهم { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } أي الله يجازيهم على استهزائهم بالإِمهال ثم بالنكال قال ابن عباس: يسخر بهم للنقمة منهم ويُملي لهم كقوله**{ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }** [الأعراف: 183] قال ابن كثير: هذا إِخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر عن الجزاء مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف، وإِليه وجهوا كل ما في القرآن من نظائر مثل**{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }** [الشورى: 40] ومثل**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ }** [البقرة: 194] فالأول ظلم والثاني عدل { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي ويزيدهم - بطريق الإِمهال والترك - في ضلالهم وكفرهم يتخبطون ويتردّدون حيارى، لا يجدون إِلى المخرج منه سبيلاً لأن الله طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } أي استبدلوا الكفر بالإِيمان، وأخذوا الضلالة ودفعوا ثمنها الهُدى { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } أي ما ربحت صفقتُهم في هذه المعارضةِ والبيع { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أي وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك، لأنهم خسروا سعادة الدارين، ثم ضرب تعالى مثلين وضَّح فيهما خسارتهم الفادحة فقال { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } أي مثالهم في نفاقهم وحالهم العجيبة فيه كحال شخص أوقد ناراً ليستدفئ بها ويستضيء، فما اتقدت حتى انطفأت، وتركته في ظلام دامس وخوفٍ شديد { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } أي فلما أنارتْ المكان الذي حوله فأبصر وأمِن، واستأنس بتلك النار المشعة المضيئة ذهب الله بنورهم أي أطفأها الله بالكلية، فتلاشت النار وعُدم النور { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } أي وأبقاهم في ظلماتٍ كثيفة وخوف شديد، يتخبطون فلا يهتدون قال ابن كثير: ضرب الله للمنافقين هذا المثل، فشبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إِلى العمى، بمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها، وتأنس بها وأبصر ما عن يمينه وشماله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . فبينا هو كذلك إِذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغيَّ على الرشد، وفي هذا المثل دلالةٌ على أنهم آمنوا ثم كفروا، ولذلك ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات الشك والكفر والنفاق لا يهتدون إِلى سبيل خير، ولا يعرفون طريق النجاة { صُمٌّ } أي هم كالصُمِّ لا يسمعون خيراً { بُكْمٌ } أي كالخرس لا يتكلمون بما ينفعهم { عُمْيٌ } أي كالعمي لا يبصرون الهدى ولا يتبعون سبيله { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي لا يرجعون عمَّا هم فيه من الغي والضلال، ثم ثنَّى تعالى بتمثيل آخر لهم زيادةً في الكشف والإِيضاح فقال { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } أي أو مثلهم في حيرتهم وترددهم كمثل قومٍ أصابهم مطر شديد، أظلمت له الأرض، وأرعدت له السماء، مصحوبٍ بالبرق والرعد والصواعق { فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } أي في ذلك السحاب ظلماتٌ داجية، ورعدٌ قاصف، وبرقٌ خاطف { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ } أي يضعون رءوس أصابعهم في آذانهم لدفع خطر الصواعق، وذلك من فرط الدهشة والفزع كأنهم يظنون أن ذلك ينجيهم { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } أي خشية الموت من تلك الصواعق المدمرة { وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَافِرِينَ } جملة اعتراضية أي والله تعالى محيط بهم بقدرته، وهم تحت إِرادته ومشيئته لا يفوتونه، كما لا يفوتُ من أحاط به الأعداء من كل جانب { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } أي يقارب البرقُ لشدته وقوته وكثرة لمعانه أن يذهب بأبصارهم فيأخذها بسرعة { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ } أي كلما أنار لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } أي وإِذا اختفى البرق وفتر لمعانه وقفوا عن السير وثبتوا في مكانهم.. وفي هذا تصويرٌ لما هم فيه من غاية التحير والجهل، فإِذا صادفوا من البرق لمعة - مع خوفهم أن يخطف أبصارهم - انتهزوها فرصة فَخَطَوْا خطواتٍ يسيرة، وإِذا خفي وفتر لمعانه وقفوا عن السير، وثبتوا في أماكنهم خشية التردي في حفرة { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } أي لو أراد الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم وذهب بأسماعهم، وفي ضوء البرق فأعماهم وذهب بأبصارهم { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي إِنه تعالى قادر على كل شيء، لا يعجزه أحدٌ في الأرض ولا في السماء، قال ابن جرير: إِنما وصف تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع، لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إِذهاب أسماعهم وأبصارهم قادر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي: أولاً: المبالغة في التكذيب لهم { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } كان الأصل أن يقول: " وما آمنو " ليطابق قوله " من يقول آمنا " ولكنه عدل عن الفعل إلى الاسم لإِخراج ذواتهم من عداد المؤمنين وأكده بالباء للمبالغة في نفي الإِيمان عنهم. ثانياً: الاستعارة التمثيلية { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } شبَّه حالهم مع ربهم في إِظهار الإِيمان وإِخفاء الكفر بحال رعيةٍ تخادع سلطانها واستعير اسم المشبَّه به للمشبه بطريق الاستعارة. ثالثاً: صيغة القصر { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } وهذا من نوع " قصر الموصوف على الصفة " أي نحن مصلحون ليس إِلاَّ. رابعاً: الكناية اللطيفة { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } المرضُ في الأجسام حقيقة وقد كنى به عن النفاق لأن المرض فسادٌ للبدن، والنفاق فساد للقلب. خامساً: تنويع التأكيد { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } جاءت الجملة مؤكدة بأربع تأكيدات { أَلاۤ } التي تفيد التنبيه، و { إِنَّ } التي هي للتأكيد، وضمير الفصل { هُمُ } ثم تعريف الخبر { ٱلْمُفْسِدُونَ } ومثلها في التأكيد { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } وهذا ردٌّ من الله تعالى عليهم بأبلغ ردٍّ وأحكمه. سادساً: المشاكلة { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } سمَّى الجزاء على الاستهزاء استهزاءً بطريق المشاكلة وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى. سابعاً: الاستعارة التصريحية { ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } المراد استبدلوا الغيَّ بالرشاد، والكفر بالإِيمان فخسرت صفقتهم ولم تربح تجارتهم فاستعار لفظ الشراء للاستبدال ثم زاده توضيحاً بقوله { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } وهذا هو الترشيح الذي يبلغ بالاستعارة الذروة العليا. ثامناً: التشبيه التمثيلي { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } وكذلك في { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ } شبه في المثال الأول المنافق بالمستوقد للنار، وإِظهاره الإِيمان بالإِضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، وفي المثال الثاني شبَّه الإِسلام بالمطر لأن القلوب تحيا به كحياة الأرض بالماء، وشبَّه شبهات الكفار بالظلمات، وما في القرآن من الوعد والوعيد بالرعد والبرق.. الخ. تاسعاً: التشبيه البليغ { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } أي هم كالصم البكم العمي في عدم الاستفادة من هذه الحواس حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً. عاشراً: المجاز المرسل { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم } وهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء أي رؤوس أصابعهم لأن دخول الأصبع كلها في الأذن لا يمكن. الحادي عشر: توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات، وهذا له وقع في الأذن حسن، وأثر في النفس رائع مثل { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } الخ وهو من المحسنات البديعية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الفوَائِد: الأولى: الغاية من ضرب المثل: تقريب البعيد، وتوضيح الغامض حتى يصبح كالأمر المشاهد المحسوس، وللأمثال تأثير عجيب في النفس**{ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ }** [العنكبوت: 43]. الثانية: وصف تعالى المنافقين في هذه الآيات بعشرة أوصاف كلها شنيعة وقبيحة تدل على رسوخهم في الضلال وهي (الكذب، الخداع، المكر، السَّفه، الاستهزاء، الإِفساد في الأرض، الجهل، الضلال، التذبذب، السخرية بالمؤمنين) أعاذنا الله من صفات المنافقين. الثالثة: حكمة كفه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين مع أنهم كفار وعلمه صلى الله عليه وسلم بأعيان بعضهم ما أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: **" أكره أن يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه ".** لطيفَة: قال العلامة ابن القيم: تأمل قوله تعالى { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } ولم يقل: " ذهب الله بنارهم " مع أنه مقتضى السياق ليطابق أول الآية { ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } فإِِن النار فيها إِشراقٌ وإِحراق، فذهب الله بما فيها من الإِشراق وهو " النور " وأبقى ما فيها من الإِحراق وهو " النارية "!! وتأمل كيف قال { بِنُورِهِمْ } ولم يقل بضوئهم، لأن الضوء زيادةٌ في النور، فلو قيل: ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل!! وتأمل كيف قال { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } فوحَّد النور ثم قال { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } فجمعها، فإِن الحقَّ واحد هو صراط الله المستقيم، الذي لا صراط يوصل سواه، بخلاف طُرُق الباطل فإِنها متعددة ومتشعبة، ولهذا أفرد سبحانه " الحقَّ " وجمع " الباطل " في آيات عديدة مثل قوله تعالى**{ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ }** [المائدة: 16] وقوله**{ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ }** [الأنعام: 1] وقوله**{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }** [الأنعام: 153] فجمع سبل الباطل ووحَّد سبيل الحق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -)
لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات، ثمّ عرف حال الكافرين بآيتين، شرع تعالى في بيان حال المنافقين، الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولمّا كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس، أطنب في ذكرهم بصفات متعددة، كلٌ منها نفاق، كما أنزل سورة " براءة " وسورة " المنافقين " فيهم، وذكرهم في سورة " النور " وغيرها من السور، تعريفاً لأحوالهم لتجتنب ويُجتنب من تلبّس بها أيضاً، فقال تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ.. } الآيات. والنفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي: وهو من أكبر الذنوب، لأن المنافق يخالف قولُه فعله، وسرُّه علانيَتَه، وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية، لأن مكّة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه، ولهذا نبّه الله سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع لذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفّار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار أن يظنَّ بأهل الفجور خيراً، فقال تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي يقولون ذلك قولاً كما قال تعالى:**{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ }** [المنافقون: 1]، أي إنما يقولون ذلك إذا جاءوك فقط لا في نفس الأمر، وليس الأمر كذلك، كما كذبهم الله في شهادتهم بقوله:**{ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }** [المنافقون: 1] وفي اعتقادهم بقوله: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }. وقوله تعالى: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } أي بإظهار ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون - بجهلهم - أنهم يخدعون الله بذلك وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } أي ما يغرّون بصنيعهم هذا إلاّ أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى:**{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142]، ومن القراء من قرأ: { وما يخادعون } وكلا القراءتين يرجع إلى معنى واحد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ)
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ } أصل الناس أناس لأنه مشتق من الإنس وهو اسم جمع وحذفت الهمزة مع لام التعريف تخفيفاً { مَن يَقُولُ } إن كان اللام في الناس للجنس فمن موصوفة وإن جعلتها للعهد فمن موصولة، وأفرد الضمير في يقول رعياً للفظ: ومن { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } هم المنافقون، وكانوا جماعة من الأوس والخزرج، رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، يظهرون الإسلام ويسرّون الكفر، ويسمى الآن من كان كذلك: زنديقاً، وهم في الآخرة مخلدون في النار، وأما في الدنيا؛ إن لم تقم عليهم بينة فحكمهم كالمسلمين في دمائهم وأموالهم، وإن شهد على معتقدهم شاهدان عدلان، فمذهب مالك: القتل، دون الاستتابة، ومذهب الشافعي الاستتابة وترك القتل، فإن قيل كيف جاء قولهم { آمَنَّا } جملة فعلية { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } جملة اسمية فهلا طابقتها؟ فالجواب: أن قولهم: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } أبلغ وآكد في الإيمان عنهم من لو قال: ما آمنوا، فإن قيل: لم جاء قولهم: آمنا مقيداً بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين مطلقاً؟ فالجواب أنه يحتمل وجهين: التقييد؛ فتركه لدلالة الأول عليه، والإطلاق، وهو أعم في سلبهم من الإيمان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير النهر الماد / الأندلسي (ت 754 هـ)
و " الناس " اسم جمع لبني آدم. وقالوا: ناس من الجن. وهو مجاز وأصله عند سيبويه والفراء أناس حذفت همزته فوزنه عال. وعند الكسائي نوس من ناس تحرك. وعند غيرهما نَسَيْ من النسيان قلب، ويدل عليه قولهم في تصغير إنسان أنيسان. ومن هنا موصولة وجوزوا أن تكون موصوفة وهي مبتدأ والخبر في الجار والمجرور قبلها ولا بد من قيد في الناس وإلا كان أخباراً لا تستقل به فائدة. فالتقدير ومن الناس السابق ذكرهم الذين اندرجوا في قولهم: إن الذين كفروا فليس هؤلاء إلا بعضاً من أولئك شاركوهم في جميع ما أخبر به عن أولئك وزادوا أنهم ادعوا الإِيمان واكذبهم الله تعالى وليسوا غير مختوم على قلوبهم كما زعم الزمخشري. وجعل من موصولة أكثر في لسان العرب من كونها موصوفة ويدل على أنها موصولة انها نزلت في ناس بأعيانهم معروفين. بما صدر منهم من أقوالهم وأفعالهم كعبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه ومن وافقه من غير أصحابه ممن أظهر الاسلام مقالا وأبطن الكفر اعتقاداً واقتصروا على قولهم. { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } منهم أن يعترفوا بالايمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه وايهاما انهم من طائفة المؤمنين وحمل في قوله يقول على لفظ من وفى. { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } على المعنى. وقول ابن عطية: إنه لا يجوز أن يرجع من لفظ الجمع إلى لفظ الواحد مخالفة لقول النحويين من أنه يجوز أن يبدأ بالحمل على المعنى ثم على اللفظ وإن كان الحمل أولاً على اللفظ ثم على المعنى أولى. وقد ثبت ما أنكره في كتاب الله تعالى وفي لسان العرب وبمؤمنين في موضع نصب. وأكثر لغة الحجاز جر الخبر بالباء وعليه أكثر ما جاء في القرآن. وزيدت الباء في الخبر للتأكيد ولأجل التوكيد بولغ في نفي إيمانهم بأن جاءت الجملة إسمية، وسلط النفي على اسم الفاعل الذي ليس مقيداً بزمان ليشمل جميع الأزمان ولم يجيىء التركيب مبنياً على قولهم فيكون وما آمنوا. والخداع، قيل: إظهار غير ما في النفس. وقرىء: يخدعون الله مضارع خدع. وجاز في يخادعون أن يكون مستأنفاً، كان قائلاً يقول: لم يتظاهرون بالإِيمان وليسو بمؤمنين؟ فقيل: يخادعون. قيل: وأن يكون بدلاً من يقول أو حالاً من ضمير، يقول ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في بمؤمنين، والعامل فيها اسم الفاعل كما ذهب إليه أبو البقاء وهذا إعراب خطأ وذلك ان ما دخلت على الجملة فنفت نسبة الإِيمان إليهم، فإِذا قيدت تلك النسبة بحال تسلط النفي على تلك الحال وهو القيد فنفته. ولذلك طريقان في لسان العرب أحدهما، وهو الأكثر: أن ينتفي ذلك القيد فقط، ويكون إذ ذاك قد ثبت العامل في ذلك القيد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | فإذا قلت: ما زيد أقبل ضاحكاً فمفهومه نفي الضحك. ويكون قد أقبل غير ضاحك وليس معنى الآية على هذا إذ لا ينفى عنهم الخداع فقط فيثبت لهم الإِيمان بغير خداع بل المعنى نفي الإِيمان عنهم مطلقاً والطريق الثاني وهو الأقل هو أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه، فكأنه قال في المثال السابق: لم يقبل زيد ولم يضحك، أي لم يكن منه إقبال ولا ضحك. وليس معنى الآية على هذا إذ ليس المراد نفي الإِيمان عنهم ونفي الخداع والعجب من أبي البقاء كيف تنبّه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين لأن ذلك يوجب نفي خداعهم والمعنى على إثبات الخداع إنتهى كلامه فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة وهما سواء، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك بل كل منهما قد يتسلط النفي عليه ومخادعة المنافقين الله هو من حيث الصورة لا من حيث المعنى من حيث تظاهروا بالإِيمان وأبطنوا الكفر ومن حيث عدم عرفانهم بالله ولِصفاته أو يكون ذلك على حذف مضاف أي يخادعون رسول الله وليس اسم الجلالة مقحماً كما ذهب إليه الزمخشري وذكر مثلاً نازعناه في الاستدلال بها ومخادعتهم المؤمنين كونهم امتثلوا إجراء أحكام المسلمين عليهم مع مخالفتهم لهم في الإِعتقاد. وقرىء: وما يخادعون مضارع خدع بفتح الياء وضمها مبني للمفعول. ويخدعون بفتح الخاء وتشديد الدال المكسورة من خدع مشدداً وبفتح الياء والخاء وكسر الدال مشددة ويخادعون بكسر الدال وفتحها مبنياً للمفعول فمن بناه للمفعول نصب. " أنفسهم " تمييزاً على مذهب الكوفيين في غبن زيد رأيه، واما على التشبيه بالمفعول به، واما على إسقاط حرف الجر أي في أنفسهم، ويختدعون مضارع اختدع بمعنى خدع كاقتدر وقدر والمعنى ان وبال ذلك ليس راجعاً للمخدوع بل للخادع فكأنه ما كاد إلا نفسه بإِيرادها موارد الهلكة وهو لا يشعر بذلك جهلاً بقبيح أفعاله. " وما يشعرون " معطوف على يخادعون الله، أي وما يشعرون إطلاع الله نبيّه على خداعهم، أو وما يشعرون إيقاع أنفسهم في الشقاء بكفرهم ونفاقهم. أو جملة حالية، أي وما يخادعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك إذ لو شعروا بذلك ما خادعوا الله والمؤمنين وجاء يخادعون بصيغة المضارع اشعاراً بالديمومة إذ هو في معرض الذم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ)
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ، نزلَتْ هذه الآيةُ في المنافِقِين: عبدِاللهِ بنِ أُبَي بنِ أبي سَلُولٍ؛ ومُعَتِّب بْنِ قُشَيْرٍ؛ وَجِدِّ بْنِ قَيْسٍ ومَن تابَعَهم، كانوا يقولون للصَّحابة: آمَنَّا بالذي آمَنْتُمْ به ونشهَدُ أنَّ صاحبَكم صادقٌ؛ وليس هم كذلكَ في الباطنِ إذا خَلَوا، وكانوا يقولونَ فيما بينَهم: هذه خِلَّةٌ نَسْلَمُ بها عن مُحَمَّدٍ وأصحابهِ ونكونُ مع ذلكَ متمسِّكين بدِيننا؛ فقالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } وإنَّما وحَّدَ في أوَّلِ الآية وجمعَ الضميرَ في آخرِها؛ لأنَّ لفظَ { مَنْ } للوِحْدَانِ، ومعناهُ يصلحُ للمذكَّر والمؤنَّث؛ والاثنينِ والجماعة؛ فعدلَ تارةً إلى اللَّّفظِ وتارةً للمعنَى؛ ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:**{ بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ }** [البقرة: 112] الآيةُ،**{ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ }** [الأحزاب: 31] الآيةُ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ)
وقوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ } الآية. أصل نون " مِنْ " أن تكسر لالتقاء الساكنين كنون " عَنْ " إذا لقيها ساكن، لكنها فتحت استثقالاً لاجتماع كسرتين / في حرف على حرفين. والهاءات من قوله: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ } إلى قوله: / { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } تعود على الكفار كلهم على من سبق في علم الله منهم أنه لا يؤمن. وقيل: تعود على كفار اليهود الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والسورة مدنية. وقيل: عني بهذه الآية المنافقون؛ يظهرون الإيمان ويضمرون الكفر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير حاشية الصاوي / تفسير الجلالين (ت1241هـ)
قوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ } يحتمل أن الجار والمجرور خبر مقدم، ومن اسم موصول أو نكرة موصوفة مبتدأ مؤخرة، وجملة يقول إما صلة أو صفة، والمعنى الذي يقول أو فريق يقول ما ذكر كائن من الناس ورد ذلك بأنه لا فائدة في ذلك الاخبار، والحق أن يقال إن من اسم بمعنى بعض مبتدأ أو جربها لأنها على صورة الحرف أو صفة لمحذوف بمبتدأ تقديره فريق من الناس، وخبره قوله (من يقول) الخ وعهده جعل الظرف مبتدأ حيث كان تمام الفائدة بما بعده كقوله تعالى:**{ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ }** [الجن: 11] وقوله تعالى**{ وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ }** [التوبة: 61]، وأصل ناس أناس أتى بأل بدل الهمزة مشتق من التأنس لتأنس بعضهم ببعض، وتسمية الانس به حقيقة، والجن مجاز وقيل مشتق من ناس إذا تحرك، وعليه فتسمية الجن به حقيقة أيضاً والحق الأول، ولذا قيل لم يوجد منافق أو مشرك إلا في بني آدم فقط وكفر الجن بغير الإشراك والنفاق وهو جمع إنسان أو إنسي، والمراد من المنافقين هنا بعض سكان البوادي بعض أهل المدينة في زمنه صلى الله عليه وسلم وخير ما فسرته بالوارد، قال تعالى:**{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ }** [التوبة: 101] الآية. قوله: { وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أعاد الجار لإفادة تأكد دعواهم الإيمان بكل ما جاء به رسول الله، فرد عليهم المولى بأبلغ رد بقوله: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } حيث أتى بالجملة الاسمية وزاد الجار في الخبر. قوله: (لأنه آخر الآيام) علة لتسميته اليوم الآخر، والمراد بالأيام الأوقات، وهل المراد الأوقات المحدودة وهو بناء على أن أوله النفخة وآخره الاستقرار في الدارين أو الأوقات الغير المحدودة بناء على أنه لا نهاية له، وقوله: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } جملة اسمية تفيد الدوام والاستمرار، أي لم يتصفوا بالإيمان في حال من الأحوال، لا في الماضي ولا في الحال ولا في الاستقبال. قوله: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره ما الحامل لهم على إظهار الإيمان وإخفاء الكفرة، وحقيقة المخادعة أن يظهر لصاحبه أنه موافق ومساعد له على مراده، والواقع أنه ساع في إبطال مراده، فاظهار خلاف ما يبطن إن كان في الدين سمي نفاقاً وخديعة ومكراً، وإن كان في الدنيا بأن يصانع أهل الدنيا لأجل حماية الدين ووقايته تسمى مداراة وهي ممدوحة. قوله: (من الكفر) بيان لما أبطنوه. وقوله: (ليدفعوا) علة للإظهار. قوله (أحكامه) أي الكفر. وقوله: (الدنيوية) أي الكائنة في الدنيا وذلك كالقتل والسبي والجزية والذل، ولو قصدوا دفع أحكامه الأخروية من الخلود في النار وغضب الجبار لأخلصوا في إيمانهم. قوله: (لأن وبال خداعهم) أي عذابه وعاقبه أمره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | قوله: (راجع إليهم) قال تعالى:**{ وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ }** [فاطر: 43]. قوله: (فيفتضحون) تفريع على قوله: (لأن وبال خداعهم الخ). قوله: (بإطلاع الله نبيه) أي وأمره بإخراجهم من المسجد ونزل فيهم: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم) الآيات. قوله: (ويعاقبون في الآخرة) أي بالعذاب الدائم المؤبد في الدرك الأسفل. قوله: (يعلمون) سمى العلم شعوراً لأنه يكون بأحد المشاعر الخمس وهي: الشم والذوق واللمس والسمع والبصر. قوله: (والمخادعة هنا من واحد) أي فليست على بابها وهو جواب عن سؤال تقديره إن المفاعلة تكون من الجانبين، وفعل الله لا يقال فيه مخادعة، فأجاب بما ذكر، وقد ورد سؤال آخر حاصله أن الخداع لا يكون إلا لمن تخفى عليه الأمور، فما معنى إسناد المخادعة إلى الله أجيب بأن في الكلام استعارة تمثيلية، حيث شبه حالهم مع ربهم في إيمانهم ظاهراً لا باطناً بحال رعية تخادع سلطانها واستعير اسم المشبه به للمشبه، أو مجاز عقلي، أي يخادعون رسول الله من اسناد الشيء إلى غير من هو له أو مجاز بالحذف، أو في الكلام تورية وهي أن يكون للكلام معنى قريب وبعيد، فيطلق القريب ويراد البعيد وهو مطلق الخروج عن الطاعة باطناً، وإن كان العامل لا تخفى عليه خافية، وأشار المفسر لذلك كله بقوله (وذكر الله فيها تحسين) أي يذكر المجاز لأنه أبلغ من الحقيقة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ)
واعلم أن النفاق هو: إظهار الخير وإبطان الشر، ويدخل في هذا التعريف النفاقُ الاعتقادي والنفاقُ العملي، فالنفاق العملي كالذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: **" آية المنافق ثلات: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان "** وفي رواية: **" وإذا خاصم فَجَر ".** وأما النفاقُ الاعتقادي المُخرج عن دائرة الإسلام، فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها، ولم يكن النفاق موجوداً قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم [من مكة] إلى المدينة، وبعد أن هاجر، فلما كانت وقعة " بدر " وأظهر الله المؤمنين وأعزَّهم، ذلَّ من في المدينة ممن لم يسلم، فأظهر بعضهم الإسلام خوفاً ومخادعة، ولتحقن دماؤهم، وتسلَمَ أموالهم، فكانوا بين أَظهُر المسلمين في الظاهر أنهم منهم، وفي الحقيقة ليسوا منهم. فمن لُطف الله بالمؤمنين، أن جلاَّ أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميَّزون بها، لئلا يغتر بهم المؤمنون، ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم [قال تعالى]:**{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ }** [التوبة: 64] فوصفهم الله بأصل النفاق فقال: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فأكذبهم الله بقوله: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } لأن الإيمان الحقيقي ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين. والمخادعة: أن يُظهر المُخادعُ لمن يخادعه شيئا ويُبطن خلافه، لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع، فهؤلاء المنافقون سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك، فعاد خداعهم على أنفسهم، فإن هذا من العجائب لأن المخادع، إما أن يُنتج خداعُه ويحصِّل ما يريد، أو يسلَمَ لا لَهُ ولا عليه، وهؤلاء عاد خداعهم عليهم، وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [شيئاً] وعباده المؤمنون لا يضرهم كيدُهم شيئاً، فلا يضر المؤمنين أَنْ أَظْهَرَ المنافقون الإيمان، فسلِمت بذلك أموالُهم وحقنت دماؤهم، وصار كيدهم في نحورهم، وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا، والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة. ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع، بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم، والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك. وقوله: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } والمراد بالمرض هنا: مرض الشكُّ والشبهات والنفاق، لأن القلب يعرض له مرضان يُخرِجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة، ومرض الشهوات المُردِية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع، كلها من مرض الشُّبهات، والزنا ومحبة [الفواحش و]المعاصي وفعلها من مرض الشهوات، كما قال تعالى:**{ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ }** [الأحزاب: 32] وهي شهوة الزنا، والمعافى من عوفي من هذين المَرَضين، فحصل له اليقين والإيمان، والصبر عن كل معصية، فرَفَل في أثواب العافية. وفي قوله عن المنافقين: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين، وأنه بسبب ذنوبهم السابقة، يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى:**{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ }** [الأنعام: 110] وقال تعالى:**{ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ }** [الصف: 5] وقال تعالى:**{ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** [التوبة: 125] فعقوبة المعصية المعصيةُ بعدها، كما أن من ثواب الحسنة الحسنةُ بعدها، قال تعالى:**{ وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى }** [مريم: 76]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير تفسير عبد الرزاق الصنعاني مصور /همام الصنعاني (ت 211 هـ)
17- عبد الرزّاق، قال: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة، في قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }: [الآية: 8]، حتى بلغ { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }: [الآية: 16]، قال: " هذه في المنافقين ". وضرب لهم مثلاً آخر في قوله تعالى: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ }: [الآية: 17]، قال: هي لا إلهَ إلاّ الله، أضاءت لهم، فأكلوا بها وشربوا، وآمنوا في الدنيا، فنكحوا النساء، وحقنوا بها دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلمات لا يبصرون. ثم ضرب لهم مثلاً آخر فقال: { أَوْ كَصَيِّبٍ }: [الآية: 19]، قال: الصيّب: المطر، { فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ }: [الآية: 19]، يقول: أجبن قوم، لا يسمعون بشيء إلاّ ظنوا أنهم هالكون فيه حذراً من الموت، والله محيط بالكافرين، ثم ضرب لهم مثلاً آخر، فقال: { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ }: [الآية: 20]، يقول: هذا المنافق، إذا كثر ماله، وكثرت ماشيته، وأصابته عافية، قال: لم يُصبني منذُ دخلت في ديني هذا إلاّ خَيْرٌ. { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ }: [الآية: 20]، يقول: إذا ذهبت أموالهم، وهلكت مواشيهم، وأصابَهم البلاءُ، قامُوا متحيِّرينَ. 18- عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: { ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }: [الآية: 16]، قال: اسْتَحبُّوا الضلالَةَ على الهدى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
أصل ناس أناس، حذفت همزته تخفيفاً، وحذفها مع لام التعريف كاللازم. ويشهد لأصله إنسان، وأناس، وأناسيّ، وإنس، وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون - كما سمي الجن لاجتنانهم - ولذلك سموا بشراً. وقيل: اشتقاقه من الأُنس - ضدّ الوحشة - لأن الإنسان مدنيٌّ بالطبع. والأول أظهر. واعلم أن صفات المنافقين إنما نزلت في السور المدنية؛ لأن مكّة لم يكن فيها نفاق؛ فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود - من أهل الكتاب - وهم ثلاث قبائل: بنو قينقاع - حلفاء الخزرج - وبنو النضير وبنو قُريظة - حلفاء الأوس - فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقلّ مَنْ أسلم من اليهود - إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه - ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً؛ لأنه لم يكن للمسلمين، بعدُ، شوكة تُخاف؛ بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادَعَ اليهود وقبائل كثيرةً - من أحياء العرب حوالي المدينة - فلما كانت وقعة بدر العظمى، وأظهر الله كلمته، وأعز الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبي ابنُ سلول - وكان رأسا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان ابنُ سيد الطائفتين في الجاهلية؛ وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم، فجاءهم الخير، وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر، قال: هذا أمر قد توجّه. فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف - ممن هو على طريقته ونِحْلَتِهِِ - وآخرون من أهل الكتاب؛ فمن ثَم وُجد النفاق في أهل المدينة، ومَنْ حولها من الأعراب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ)
قدّمنا أنّ الكلام من أوّل السورة في القرآن وأقسام الناس بإزائه، وذكرنا منهم ثلاث فرق - فرقتان لهما فيه هدىً: إحداهما: المتقون وبيّن حالهم بقوله**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }** [البقرة: 3] إلخ، ومنهم الذين كانوا يدعون الحنيفيّين، والمنصفون من أهل الكتاب الذين كانوا ينتظرون إشراق نور الحقّ ليهتدوا به كما تقدّم. والثانية: هي المذكورة في قوله تعالى:**{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ }** [البقرة: 4] إلخ وهم كلّ مَنْ آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب وغيرهم على التحقيق. وبيّنّا أنّه يوجد بإزاء هاتين الطائفتين، طائفتان أخريان لا ترجى هدايتهما بالقرآن. الأولى منهما هي المشروح حالها في قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }** [البقرة: 6] إلخ. وهي كما قدّمنا تنقسم إلى قسمين: جاحدين لا يسمعون، ومعاندين يعرفون الحقّ ولا يذعنون. وهذه الآيات - التي نحن بصدد تفسيرها الآن - هي المبيّنة لحال الفرقة الرابعة، وهي فرقة من الناس توجد في كلّ آن وفي كلّ عصر. وليست الآيات كما قيل في أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل، ولذلك قال تعالى في بيان حالهم: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [البقرة: 8] ولم يقل عنهم: إنّهم يقولون مع ذلك " وآمنّا بك يا محمد " وما كان القرآن ليعتني بأولئك النفر الذين لم يلبثوا أن انقرضوا كلّ هذه العناية، ويطيل في بيان حالهم أكثر ممّا أطال في الأصناف الثلاثة الذين هم سائر الناس. نعم، إنّ الآيات على عمومها تتناول مَنْ كان منهم في عصر التنزيل تناولا أوّليّاً، وتصف حالهم وصفاً مطابقاً، وهي مع ذلك عبرة عامة شاملة لمن مضى ولمن يجيء من هذا الصنف إلى يوم القيامة، وقد كان ويكون من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس ومن كلّ طائفة تدّعي أنّها على دين، ولم يحكَ عنهم دعوى الإيمان بالأنبياء والأعمال الصالحة - مع إنّ منهم الذين يدّعون ذلك - لأنّ الإيمان باليوم الآخر يتضمّن ذلك، فهو إنّما يعرف من قبل الأنبياء، وهذا من ضروب إيجاز القرآن التي بلغت حدّ الإعجاز. قد يقال: كان في أولئك القوم من كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر، كمنافقي اليهود، فلم كذّبهم ونفي عنهم الإيمان نفياً مطلقاً مؤكداً بدخول الباء في خبر " ما " فقال: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } أي بداخلين في جماعة المؤمنين الصادقين البتّة. وهو أبلغ من نفي فعل الإيمان المطابق - للفظهم، والمقيَّد بالإيمان بالله وباليوم الآخر؟ والجواب: إنّ اعتقادهم التقليديّ الضعيف لم يكن له أثر في أخلاقهم ولا في أعمالهم، فلو حصِّل ما في صدورهم، ومحِّص ما في قلوبهم، وعرفت مناشئ الأعمال من نفوسهم، لوُجِد أنّ ما كان لهم من عمل صالح كصلاة وصدقة فإنّما مبعثه رئاء الناس، وحبّ السمعة، وهم من وراء ذلك منغمسون في الشرور، كالإفساد والكذب والغشّ والخيانة والطمع وغير ذلك من الرذائل التي حكاها عنهم الكتاب ونقلها رواة السنّة، وهذه الأعمال تدلّ على أنّهم لا يؤمنون بالله كما يُحبّ ويرضى أن يؤمن به، وهو أن يشعر المؤمن بعظيم سلطانه، ويعلم أنّ الله سبحانه مطّلع على سرّه وإعلانه؛ لأنّه مهيمن على السرائر، وعالم بما في الضمائر، فيرضيه بظاهره وباطنه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | بل كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات يظنون أنّهم يرضون الله تعالى بذلك. ولذلك قال فيهم: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } أقول: الخدع: أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه له لتنزله عمّا هو بصدده، من قولهم: خدع الضبّ، إذا توارى في جحره. وضبٌّ خادع، إذا أوهم الصائد إقباله عليه ثمّ خرج من باب آخر، وأصله الإخفاء. هذا ما حرّره البيضاويّ، وقد جعله الراغب أعمّ، فلم يعتبر فيما يخفيه الخادع أن يكون مكروهاً، وهذا المعنى لا يمتنع إسناده إلى الله تعالى وإلى المؤمنين، وهو ما تدلّ عليه صيغة المشاركة " يخادعون " وقالوا: إنّه محال على الله وغير لائق بالمؤمنين، بل يستقبح لأنّه عمل المنافقين. وقد جاء في سورة النساء**{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142] ولمّا كان إخفاء شيء عن الله تعالى محالا؛ فسّروا مخادعتهم لله هنا وهناك بأنّه خداع في الصورة لا في الحقيقة؛ وذلك أنّه شرّع أن يعاملوا معاملة المؤمنين ولكنّهم لا يُجزون جزاءهم في الآخرة، بل يكونون في الدرك الأسفل من النار، فمعاملتهم الظاهرة غير جزائهم المغيّب عنهم في الآخرة، كما أنّ عملهم الظاهر غير كفرهم الخفيّ في أنفسهم، فالجزاء من جنس العمل، ولكنّ عملهم خداع - ومقابله حقّ صورته صورة الخداع، ولكنّه لا غشّ فيه لأنّ النصوص صريحةٌ في كفر المنافقين. والتحقيق: إنّ فعل المشاركة هنا خاصّ بالفاعل المسند إليه فعله: وهم المنافقون، وصيغة " فاعل " لا تطّرد فيها المشاركة بالفعل، كعاقبت اللصّ، وقد تكون مقدّرة أو باعتبار الشأن أو القصد، ومن التكلّف قول بعضهم: إنّه عبّر عن مخادعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بمخادعة الله تعالى. وقال شيخنا: العمل الظاهر الذي لا يصدّقه الباطن إذا قصد به إرضاء آخر، يسمّى في اللغة: مداجاة ومداراة ومخادعة، فإن كان يقصد به المخادعة فظاهر، وإلاّ فيكفي لصحّة الإطلاق أنّ العمل عمل المخادع، لا عمل الطائع الخاضع، وهذا مراد القرآن من مخادعة هؤلاء الذين هم من أهل الكتاب، المؤمنين بالله إيماناً ناقصاً، لم يقدّروا الله فيه حقّ قدره، ويستحيل أن يقصد المؤمن بالله تعالى مخادعته، ولكنّهم لجهلهم بالله ظنّوا به ما سوّغ وصفهم بما ذكر عنهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال تعالى: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } أقول: وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { وما يُخادعون إلاّ أنفسهم } وهو دليل على ما قلنا آنفا في صيغة " فاعل " والمشاركة هنا للإشارة إلى أنّهم هم الخادعون المخدوعون، وقراءة الجمهور { يخدعون } نصّ في أنّ مخادعتهم لله وللمؤمنين لا تأثير لها فيهما، فهي بالنسبة إليهما صورية، وفي الحقيقة أنّ القوم يخدعون أنفسهم؛ لأنّ ضرر عملهم خاصّ بهم، وعاقبته وبالٌ عليهم وحدهم. وقال الأستاذ في الدرس فيها ما مثاله: إذا رجع الإنسان إلى نفسه، وأصغى لمناجاة سرّه، يجد عندما يهمّ بعمل شيء أنّ في قلبه طريقين، وفي نفسه خصمين مختصمين، أحدهما يأمره بالعمل وسلوك الطريق الأعوج، وآخر ينهاه عن العوج، ويأمره بالإستقامة على المنهج، ولا يترجّح عنده باعث الشرّ، ولا يجيب داعي السوء، إلاّ إذا خدع نفسه بعد المشاورة والمذاكرة المطويّة فيها، وصرفها عن الحقّ، وزيّن لها الباطل، وهذه الشؤون النفسيّة في غاية الخفاء، تكون المنازعة، ثمّ المخادعة، ثمّ الترجيح، ويمرّ ذلك كلّه كلمح البصر، وربّما لا يلتفت إليه الإنسان بفكره. ولذلك قال: { وَمَا يَشْعُرُونَ } فإنّ الشعور هو إدراك ما خفي. أقول: قال الراغب بعد ذكر الشعر - بفتح الشين وسكون العين وفتحها - من مفرداته وشعرت أصبت الشّعر، ومنه استعير شعرت كذا، أي علمت علماً هو في الدقّة كإصابة الشعر، ومنه يسمّى الشاعر شاعراً؛ لفطنته ودقّة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم: ليت شعري. وصار في التعارف اسماً للموزون المقفّى من الكلام. اهـ. أقول: ويناسب هذا، الشِعار - بالكسر - للكساء الباطن الذي يمس شعر الإنسان، والمعروف في كتب اللغة أنّ شعر به - كنصر وكرم - يشعر شعراً - بالكسر والفتح - وشعورا معناه علم به وفطن له وأدركه. والفطنة تتعلّق بالأمور الدقيقة. وأطلق بعض المفسّرين: أنّ الشعور إدراك المشاعر، أي الحواسّ الخمس، والتحقيق: إنّه إدراك ما دقّ من حسّيٍّ وعقليٍّ، فلا تقول: شعرت بحلاوة العسل، وبصوت الصاعقة، وبألم كيّة النار، وإنّما تقول: أشعر بحرارة ما في بدني، وبملوحة أو مرارة في هذا الماء، إذا كانت قليلة - وبهينمة وراء الجدار، وما ورد في القرآن من هذا الحرف يدلّ على هذا المعنى، أي إدراك ما فيه دقّة وخفاء. فمعنى نفي الشعور عن المنافقين في مخادعتهم لله تعالى: إنّهم يجرون في كذبهم وتلبيسهم وريائهم على ما ألفوا وتعوّدوا، فلا يحاسبون أنفسهم عليه، ولا يراقبون الله فيه، وما كلّهم يؤمنون بوجود الله وإحاطة علمه، ومن يؤمن بوجوده، لم يتربّ على خشيته ومراقبته، ولا يفكّر فيما يرضيه وفيما يغضبه، فهو يعمل عمل المخادع له وما يشعر بذلك. وأمّا مخادعتهم للمؤمنين فظاهرة؛ لأنّهم اتّخذوهم أعداء وهم عاجزون عن إظهار عداوتهم، فأعمالهم التي يقصدون بها إرضاء المؤمنين: كلّها خداع ورياء، وقد فصّل شيخنا سرّ مخادعتهم وفلسفتها ببيان علميّ جليّ، فقال ما معناه: هؤلاء المغرورون إذا عرض زاجر الدين بينهم وبين شهواتهم، قام لهم من أنفسهم ما يسهّل لهم أمره من أمل في الغفران، أو تأويل إلى غير المراد، أو تحريف إلى ما يخالف القصد من الخطاب؛ وذلك بما رسخ في نفوسهم من ملكات السوء، المغشّاة بصور من العقائد الملوّنة بما قد يتجلّى للأعين فيما يسمّونه إيماناً - وما هم في الحقيقة بمؤمنين، وإنّما هم خادعون مخدوعون، ولكنّهم لما عمّي عليهم من أمر أنفسهم، لا يشعرون؛ لأنّ ذلك يمرّ في أنفسهم وهم عنه غافلون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفرق ظاهر بين ما تستحضره النفس من المعلومات وتستعرضه عندما تسأل عنه، وما هو راسخ فيها من تلك المعلومات، بصيرورته ملكةً في النفس متصرفة في الإرادة، باعثة لها على العمل. فمن العلوم ما هو ثابت في النفس ممتزج بها [على النحو الذي ذكرناه، فيتبع امتزاجه هذا: تمكّن ملكات أخر تصدر عنها الأعمال. وهي ما يعبّر عنه بالأخلاق والصفات كالكرم والشجاعة ونحوهما، فإنّها إنّما تنطبع في النفس تبعاً للعلم الذي يلائمها] وهو العلم الحقيقيّ الذي تصدر عنه الأعمال، وربّما يغفل الإنسان عنه ولا يلاحظه عندما يعمل. وفرق بين ملاحظة العلم واستحضاره، وبين وجوده وتحقّقه في نفسه. ومن العلوم ما يلاحظ الإنسان أنّه عنده، فهو صورة عند النفس تستحضره عند المناسبة، ويغيب عنها عند عدمها؛ لأنه لم يشربه القلب، ولم يمتزج بالنفس فيصير صفةً من صفاتها الراسخة التي لا تزايلها [وهذا النوع من العلم يتعلّق بما تعلق به النوع الأوّل، كعلم الحلال والحرام الذي يحصّله طلبة الفقه الإسلامي - مثلا - وكعلم مزايا الفضيلة، ورزايا الرذيلة الذي يخزنه طلاب علوم الآداب والأخلاق والنظّار في كتب الأواخر والأوائل. لتغزير مادّة العلم وتوسيع مجال القول، وتوفير القدرة على حسن المنطق ونحو ذلك، فهذا العلم كالأداة المنفصلة عن العامل، يبقى في خزانة الخيال، تستحضره النفس عندما تدفعها الشهوة إلى تزيين ظاهر المقال لا إلى تحسين باطن الحال، ولن يكون لهذا الضرب من العلم أدنى أثر في عمل من أعمال صاحبه. وتسمِيَتُه علماً؛ لأنّه يدخل في تعريفه العامّ " صورة من الشيء حاضرة عند النفس " وعند التدقيق لا ترتفع به منزلته إلى أن يندرج في معنى العلم الحقيقيّ] فاستحضار هذا العلم، كاستحضار الكتاب واللوح وإدراك ما فيه، ثمّ الذهول عنه ونسيانه عند الإشتغال بشيء آخر. فهؤلاء - الذين يخدعون أنفسهم ويخادعون الله تعالى - عندهم علم حقيقيّ تنبعث عنه أعمالهم، وإن كان باطلاً في نفسه، وهو تصديقهم بما في شهواتهم من المصلحة لذواتهم، وهو الذي رجّح عندهم اختيار ما فيه قضاؤها والانصباب إلى ما تدعو إليه، وهو ما أنساهم ما كانوا خزنوا في أنفسهم من صور الإعتقادات الدينية، فأبعدهم ذلك عن الإعتقاد الحقيقيّ الذي يعتدّ به، وجعله رسماً مخزوناً في الخيال، لا أثر له في الأفعال، يدعونه بألسنتهم، وتكذّبهم في دعواهم أعمالهم وأحوالهم؛ ولذلك نسبهم إلى الدعوى القوليّة، ولم يقل فيهم ما قال في ذلك الفريق الأوّل: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }** [البقرة: 3] فإنّه هناك ذكر إيمانهم، وقفّى عليه بذكر العمل الذي يشهد له. ومن هنا يعلم ما الإيمان الذي يعتدّ به القرآن، وهو يظهر لمن يقرأ القرآن ليحاسب به نفسه، ويزن إيمانه وأعماله بما حكم به على إيمان من قبله وأعمالهم، لا لمن يقرؤه على أنّه قصّة تاريخيّة مات من يحكي عنها، واستثنى القارئ نفسه ممّن حكم عليهم فيها. فإن كان مات من كانوا سبب النزول، فالقرآن حيّ لا يموت، ينطبق حكمه، ويحكم سلطانه على الناس في كلّ زمان [فكلّ مؤمن بالله واليوم الآخر - ومع ذلك - يصدر في عمله عن شهواته، ولا يمنعه إيمانه عن ركوب خطيئاته، فاعتقاده إنّما هو خيال، لا يعلو عن لفظ في مقال، ودعوىً عند جدال، فإذا ركن إلى هذا المعتقد فهو خادع لنفسه، مخادعٌ لربه يظنّ أنّ علاّم الغيوب، لا ينظر إلى ما في القلوب]. { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } عهد عند العرب التعبير عن العقول بالقلوب. والمرض: هو ما يطرأ على العقول فيضعف تعقّلها وإدراكها، والشكّ والوهم من أعراض هذا المرض، فهو ظلمة تعرض للعقل فتقف بشعاعه أن ينفذ إلى ما وراء التكاليف والأحكام من الأسرار والحكم. وهذا النفوذ هو الفقه في الدين الذي يسوق النفس إلى الأخذ به ظاهراً وباطناً. وقد عبّر القرآن عن فقد أمثال هؤلاء لهذا بقوله:**{ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا }** [الأعراف: 179] وربّما كان التعبير عن العقول بالقلوب في مثل هذا المقام؛ لأنّ القلب يظهر فيه أثر الوجدان الذي هو السائق إلى الأعمال [يظهر لك ذلك بما تجده من اضطراب قلبك عند إشتداد الخوف أو إشتداد الفرح، فإنّك تحسّ بزيادة ضرباته وشدّة نبضاته] فصورة الإعتقاد إذا تناولها العقل من طريق التقليد والتسليم، فجعلها في زاوية من زوايا الدماغ، لم يكن لها سلطان على القلب ولا تأثير في الوجدان، واعتقاد لا يصحبه هذا السلطان ولا يصدر عنه هذا التأثير، لا يعتدّ الله تعالى به ولا يستفيد الإنسان منه كما تقدّم آنفاً. فمن لم يطرق الإيمان قلبه بقوّة البرهان ولم يحلّ مذاقه منه في الوجدان، بحيث يكون هو المصرِّف له في أعماله لا ينفعه إيمانه، إلاّ إذا تمرّن على الأعمال الصالحة عن فهم وإخلاص، حتّى يحدث لقلبه الوجدان الصالح. فأهل اليقين يبعثهم يقينهم على العمل الصالح، وأهل التقليد تلحقهم أعمالهم الصالحة بأهل اليقين في الانتفاع بإيمانهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهذا الفريق الذي تحكي عنه الآيات، وتصفه بالكذب والخداع، قد فقد الأمرين معاً، ولا صحّة للقلب إلاّ بهما، فمن فقدهما مرض ولا يلبث مرضه أن يقتله. قال الأستاذ الإمام: ما معناه: ولضعف العقل أسباب منها: ما هو فطريّ كما هو حال أهل البله والعته، وهو الذي لا يكلَّف صاحبه ولا يلام. ومنها: ما يكون من فساد التربية العقليّة، كما هو حال المقلّدين الذين لا يستعملون عقولهم، وإنّما يكتفون بما عليه قومهم من الأوهام والخيالات، ويرين على قلوبهم ما يكسبونه من السّيئات، وما يكونون عليه من التقاليد والعادات، ولا يعتنون بما أمر الله به من تمزيق هذه الحجب، وإزالة هذه السحب؛ للوقوف على ما وراءها من مخدّرات العرفان، ونجوم الفرقان، وشموس الإيمان، بل يكتفون بما حكى الله عنهم في قوله:**{ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ }** [الزخرف: 23] حتّى يجيء اليوم الذي يقولون فيه:**{ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ }** [الأحزاب: 67]. وأقول: إنّ المرض في أصل اللغة: خروج البدن عن إعتدال مزاجه وصحّة أعضائه فيختلّ به بعض وظائفها وأعمالها، وتعرض الآلام لها. ويطلق مجازاً على اختلال مزاج النفس، وما يخلّ بكمالها من نفاق وجهل، وارتياب وشكٍّ، وغير ذلك من فساد الإعتقاد الحقّ، واضطراب حكم العقل وفساد الخلق، والمرض هنا من النوع الثاني كما تقدّم آنفاً، وخصّه شيخنا بمنافقي اليهود، فقال ما معناه: كان في قلوبهم مرض قبل مجيء النذير، وبيان الرشد من الغيّ، عندما كانوا في فترة، حظُّهم من الكتب قراءة ألفاظها، ومن الأعمال إقامةُ صورها، { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } بعدما جاءهم البرهان المنير ببعثة البشير النذير، ووجدوا منه زعزعةً في أنفسهم؛ ولكن أخذتهم العزّة بالإثم؛ فأبوا الإيمان، ونبوا عن القرآن، [وزاد تمسّكهم بما كانوا عليه واشتدّ حرصهم عليه] فكان شعاع النور الذي جاء به الرسول عمىً في أعينهم؛ ومرضاً على مرضهم { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي عذاب مؤلم فوق هذه الأمراض؛ و " أليم ": صيغة فعيل من ألم يألم فهو أليم وصف به العذاب نفسه { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فإنّهم لم يصدّقوا بأعمالهم، ما يزعمونه من حالهم]. أقول: وأمّا مرض منافقي المدينة من العرب، فهو: الشكّ في نبوّته صلى الله عليه وسلم كما روي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما وعن الأوّل: إنّه النفاق. وعن بعض تلاميذه: الرياء. وحسبك في زيادة مرضهم قوله تعالى:**{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً }** [التوبة: 124] إلى قوله**{ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ }** [التوبة: 125]. أقول: قرأ عاصم وحمزة والكسائي { يكذبون } بالتخفيف، أي بسبب كذبهم؛ وقرأ الباقون { يكذّبون } بالتشديد أي ولهم عذاب أليم بسبب تكذيبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم والحكمة في القراءتين: إثبات جمعهم للرذيلتين، أي الكذب في دعوى الإيمان، وتكذيب النبيّ صلى الله عليه وسلم والسلام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والثانية: سبب الأولى. وهم إنّما كانوا يكذّبونه في أنفسهم، وفيما بينهم إذا خلوا إلى شياطينهم والعذاب عقوبة عليهما معاً، أي على التكذيب وهو الكفر، وعلى الكذب في دعوى الإيمان وهو النفاق. وهؤلاء في باطنهم، شرٌّ من الذين كفروا عناداً من رؤساء قريش، فإنّهم لم يكونوا يكذّبونه صلى الله عليه وسلم وإنّما كانوا يجحدون جحود استكبار. قال تعالى:**{ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ }** [الأنعام: 33]. قال شيخنا: والقراءة الأولى هي المشهورة، والعذاب فيها مقرون بالكذب لا بالتكذيب. وقد يقال: لم جعل العذاب جزاء الكذب دون الكفر؟ والجواب: إنّ الكفر داخل في هذا الكذب، وإنّما اختير لفظ الكذب في التعبير، للتحذير عنه، وبيان فظاعته وعظم جرمه، ولبيان أنّ الكفر من مشتملاته، وينتهي إليه في غاياته؛ ولذلك حذّر القرآن منه أشدّ التحذير، وتوعّد عليه أسوأ الوعيد، وما فشا الكذب في قوم، إلاّ فشت فيهم كلّ جريمة وكبيرة؛ لأنّه ينشأ من دناءة النفس وضعف الحياء والمروءة، ومَنْ كان كذلك لا يترك قبيحاً إلاّ بالعجز عنه، نعوذ بالله تعالى من عمله ومنه. اهـ بالمعنى. وقد علمت أنّ السؤال لا يرد إلاّ على قراءة التشديد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير البرهان في تفسير القرآن/ هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ)
328/ [1]- قال الإمام: " قال العالم موسى بن جعفر (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه و آله) لما أوقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في يوم الغدير موقفه المشهور المعروف، ثم قال: يا عباد الله، انسبوني، فقالوا: أنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. ثم قال: أيها الناس، أ لست أولى بكم من أنفسكم؟ فأنا مولاكم، أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، فنظر رسول الله (صلى الله عليه و آله) إلى السماء، فقال: اللهم اشهد، يقول هو ذلك (صلى الله عليه و آله)، و هم يقولون ذلك، ثلاثا. ثم قال: ألا فمن كنت مولاه و أولى به، فهذا مولاه و أولى به، اللهم، وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله. ثم قال: قم- يا أبا بكر- فبايع له بإمرة المؤمنين، فقام ففعل ذلك. ثم قال: قم- يا عمر- فبايع له بإمرة المؤمنين، فقام فبايع. ثم قال بعد ذلك لتمام التسعة، ثم لرؤساء المهاجرين و الأنصار، فبايعوا كلهم. فقام من بين جماعتهم عمر بن الخطاب، فقال: بخ، بخ - يا ابن أبي طالب- أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة، ثم تفرقوا عن ذلك و قد وكدت عليهم العهود و المواثيق. ثم إن قوما من متمردي جبابرتهم تواطؤوا بينهم، إن كانت لمحمد (صلى الله عليه و آله) كائنة، ليدفعه هذا الأمر عن علي (عليه السلام) و لا يتركونه له، فعرف الله تعالى ذلك من قلوبهم ، و كانوا يأتون رسول الله (صلى الله عليه و آله) و يقولون له: لقد أقمت عليا، أحب خلق الله إلى الله و إليك و إلينا، كفيتنا به مؤنة الظلمة و الجائرين في سياستنا و علم الله في قلوبهم خلاف ذلك، [و من] مواطأة بعضهم لبعض، أنهم على العداوة مقيمون، و لدفع الأمر عن مستحقه مؤثرون. فأخبر الله عز و جل محمدا (صلى الله عليه و آله) عنهم، فقال: يا محمد، وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ الذي أمرك بنصب علي (عليه السلام) إماما، و سائسا لأمتك، و مدبرا وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بذلك، و لكنهم يتواطؤون على إهلاكك و إهلاكه، يوطنون أنفسهم على التمرد على علي (عليه السلام) إن كانت بك كائنة ". 329/ [2]- علي بن إبراهيم: إنها نزلت في قوم منافقين أظهروا لرسول الله (صلى الله عليه و آله) الإسلام، فكانوا إذا رأوا الكفار، قالوا: إنا معكم، و إذا لقوا المؤمنين قالوا: نحن مؤمنون، و كانوا يقولون للكفار: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }** [البقرة: 14] فرد الله عليهم:**{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }** [البقرة: 15] 330/ [3]- محمد بن الحسن الصفار، قال: حدثني أبو جعفر أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن معلي بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال لي: " إن الحكم بن عتيبة ممن قال الله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } فليشرق الحكم و ليغرب، أما و الله لا يصيب العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل ". و روى هذا الحديث محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، بباقي السند و المتن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ \* قال أبو جعفر: وخداع الـمنافق ربه والـمؤمنـين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي فـي قلبه من الشك والتكذيب لـيدرأ عن نفسه بـما أظهر بلسانه حُكْمَ الله عز وجل،اللازمَ من كان بـمثل حاله من التكذيب لو لـم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسبـاء، فذلك خداعه ربه وأهل الإيـمان بـالله. فإن قال قائل: وكيف يكون الـمنافق لله وللـمؤمنـين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقـية؟ قـيـل: لا تـمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو فـي ضميره تقـية لـينـجو مـما هو له خائف، فنـجا بذلك مـما خافه مخادعاً لـمن تـخـلص منه بـالذي أظهر له من التقـية، فكذلك الـمنافق سمي مخادعاً لله وللـمؤمنـين بـاظهاره ما أظهر بلسانه تقـية مـما تـخـلص به من القتل والسبـاء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر مستبطن، وذلك من فعله وإن كان خداعاً للـمؤمنـين فـي عاجل الدنـيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنـيتها ويسقـيها كأس سرورها، وهو موردها به حياض عطبها، ومـجرّعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب الله وألـيـم عقابه ما لا قبل لها به. فذلك خديعته نفسه ظنّا منه مع إساءته إلـيها فـي أمر معادها أنه إلـيها مـحسن، كما قال جل ثناؤه: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } إعلاماً منه عبـاده الـمؤمنـين أن الـمنافقـين بإساءتهم إلـى أنفسهم فـي إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم علـى عمياء من أمرهم مقـيـمون. وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل ذلك كان ابن زيد يقول. حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب قال: سألت عبد الرحمن بن زيد، عن قول الله جل ذكره: يُخادعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا إلـى آخر الآية، قال: هؤلاء الـمنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا، أنهم مؤمنون بـما أظهروا. وهذه الآية من أوضح الدلـيـل علـى تكذيب الله جل ثناؤه قول الزاعمين: إن الله لا يعذب من عبـاده إلا من كفر به عناداً، بعد علـمه بوحدانـيته، وبعد تقرّر صحة ما عاند ربه تبـارك وتعالـى علـيه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بـما وصفهم به من النفـاق وخداعهم إياه والـمؤمنـين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فـيـما هم علـيه من البـاطل مقـيـمون، وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيـمان به مخدوعون. ثم أخبر تعالـى ذكره أن لهم عذابـاً ألـيـماً بتكذيبهم بـما كانوا يكذبونه من نبوّة نبـيه واعتقاد الكفر به، وبـما كانوا يكذبون فـي زعمهم أنهم مؤمنون، وهم علـى الكفر مصرّون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قال لنا قائل: قد علـمت أن الـمفـاعلة لا تكون إلا من فـاعلـين، كقولك: ضاربت أخاك، وجالست أبـاك إذا كان كل واحد مـجالس صاحبه ومضاربه. فأما إذا كان الفعل من أحدهما فإنـما يقال: ضربت أخاك وجلست إلـى أبـيك، فمن خادع الـمنافق فجاز أن يقال فـيه: خادع الله والـمؤمنـين. قـيـل: قد قال بعض الـمنسوبـين إلـى العلـم بلغات العرب: إن ذلك حرف جاء بهذه الصورة، أعنـي «يُخادع» بصورة «يُفـاعل» وهو بـمعنى «يَفْعل» فـي حروف أمثالها شاذّة من منطق العرب، نظير قولهم: قاتلك الله، بـمعنى قتلك الله. ولـيس القول فـي ذلك عندي كالذي قال، بل ذلك من التفـاعل الذي لا يكون إلا من اثنـين كسائر ما يعرف من معنى «يُفـاعل ومُفـاعل» فـي كل كلام العرب، وذلك أن الـمنافق يخادع الله جل ثناؤه بكذبه بلسانه علـى ما قد تقدم وصفه، والله تبـارك اسمه خادعه بخذلانه عن حسن البصيرة بـما فـيه نـجاة نفسه فـي آجل معاده، كالذي أخبر فـي قوله:**{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً }** [آل عمران: 178] وبـالـمعنى الذي أخبر أنه فـاعل به فـي الآخرة بقوله:**{ يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ }** [الحديد: 13] الآية، فذلك نظير سائر ما يأتـي من معانـي الكلام بـيفـاعل ومفـاعل. وقد كان بعض أهل النـحو من أهل البصرة يقول: لا تكون الـمفـاعلة إلا من شيئين، ولكنه إنـما قـيـل: يخادعون الله عند أنفسهم بظنهم أن لا يعاقبوا، فقد علـموا خلاف ذلك فـي أنفسهم بحجة الله تبـارك اسمه الواقعة علـى خـلقه بـمعرفته { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم }. قال: وقد قال بعضهم: { وَمَا يَخْدَعُونَ } يقول: يخدعون أنفسهم بـالتـخـلـية بها. وقد تكون الـمفـاعلة من واحد فـي أشياء كثـيرة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم }. إن قال لنا قائل: أولـيس الـمنافقون قد خدعوا الـمؤمنـين بـما أظهروا بألسنتهم من قيل الـحقّ عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم حتـى سلـمت لهم دنـياهم وإن كانوا قد كانوا مخدوعين فـي أمر آخرتهم؟ قـيـل: خطأ أن يقال إنهم خدعوا الـمؤمنـين لأنا إذا قلنا ذلك أوجبنا لهم حقـيقة خدعة جاءت لهم علـى الـمؤمنـين، كما أنا لو قلنا: قتل فلان فلاناً، أوجبنا له حقـيقة قتل كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادع الـمنافقون ربهم والـمؤمنـين، ولـم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم، كما قال جل ثناؤه، دون غيرها، نظير ما تقول فـي رجل قاتل آخر فقتل نفسه ولـم يقتل صاحبه: قاتل فلان فلاناً ولـم يقتل إلا نفسه، فتوجب له مقاتلة صاحبه، وتنفـي عنه قتله صاحبه، وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول: خادع الـمنافق ربه والـمؤمنـين، ولـم يخدع إلا نفسه، فتثبت منه مخادعة ربه والـمؤمنـين، وتنفـي عنه أن يكون خدع غير نفسه لأن الـخادع هو الذي قد صحت له الـخديعة ووقع منه فعلها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | فـالـمنافقون لـم يخدعوا غير أنفسهم، لأن ما كان لهم من مال وأهل فلـم يكن الـمسلـمون ملكوه علـيهم فـي حال خداعهم إياهم عنه بنفـاقهم ولا قبلها فـيستنقذوه بخداعهم منهم، وإنـما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي فـي ضمائرهم، ويحكم الله لهم فـي أموالهم وأنفسهم وذراريهم فـي ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إلـيه من الـملة، والله بـما يخفون من أمورهم عالـم. وإنـما الـخادع من خَتَلَ غيره عن شيئه، والـمخدوع غير عالـم بـموضع خديعة خادعه. فأما والـمخادَع عارف بخداع صاحبه إياه، وغير لاحقه من خداعه إياه مكروه، بل إنـما يتـجافـى للظان به أنه له مخادع استدراجاً لـيبلغ غاية يتكامل له علـيه الـحجة للعقوبة التـي هو بها موقع عند بلوغه إياها. والـمستدرج غير عالـم بحال نفسه عند مستدرجه، ولا عارف بـاطلاعه علـى ضميره، وأن إمهال مستدرجه وتركه إياه معاقبته علـى جرمه لـيبلغ الـمخاتل الـمخادع من استـحقاقه عقوبة مستدرجه بكثرة إساءته وطول عصيانه إياه وكثرة صفح الـمستدرج وطول عفوه عنه أقصى غاية، فإنـما هو خادع نفسه لا شك دون من حدثته نفسه أنه له مخادع. ولذلك نفـى الله جل ثناؤه عن الـمنافق أن يكون خدع غير نفسه، إذ كانت الصفة التـي وصفنا صفته. وإذ كان الأمر علـى ما وصفنا من خداع الـمنافق ربه وأهل الإيـمان به، وأنه غير سائر بخداعه ذلك إلـى خديعة صحيحة إلا لنفسه دون غيرها لـما يورطها بفعله من الهلاك والعطب، فـالواجب إذا أن يكون الصحيح من القراءة: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } دون: «وما يخادعون»، لأن لفظ الـمخادع غير موجب تثبـيت خديعة علـى صحة، ولفظ خادع موجب تثبـيت خديعة علـى صحة. ولا شك أن الـمنافق قد أوجب خديعة الله عز وجل لنفسه بـما ركب من خداعه ربه ورسوله والـمؤمنـين بنفـاقه، فلذلك وجبت الصحة لقراءة من قرأ: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم }. ومن الدلالة أيضا علـى أن قراءة من قرأ: { وما يَخْدَعُونَ } أولـى بـالصحة من قراءة من قرأ: «وما يخادعون» أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والـمؤمنـين فـي أول الآية، فمـحال أن ينفـي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه، لأن ذلك تضادّ فـي الـمعنى، وذلك غير جائز من الله جل وعز. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَمَا يَشْعُرُونَ }. يعنـي بقوله جل ثناؤه: { وَمَا يَشْعُرُونَ }: وَما يدرون، يقال: ما شعر فلان بهذا الأمر، وهو لا يشعر به إذا لـم يدر ولـم يعلـم شعراً وشعوراً، كما قال الشاعر: | **عَقُّوا بِسَهْمٍ ولَـمْ يَشْعُرْ بِهِ أحَدٌ** | | **ثُمَّ اسْتَفـاءُوا وَقالُوا حَبَّذَا الوَضَحُ** | | --- | --- | --- | يعنـي بقوله: «لـم يشعر به»: لـم يدر به أحد ولـم يعلـم. فأخبر الله تعالـى ذكره عن الـمنافقـين، أنهم لا يشعرون بأن الله خادعهم بإملائه لهم واستدراجه إياهم الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغ إلـيهم فـي الـحجة والـمعذرة، ومنهم لأنفسهم خديعة، ولها فـي الآجل مضرّة. كالذي: حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } قال: ما يشعرون أنهم ضرّوا أنفسهم بـما أسرّوا من الكفر والنفـاق. وقرأ قول الله:**{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً }** [المجادله: 6] قال: هم الـمنافقون، حتـى بلغ**{ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ }** [المجادلة: 18] قد كان الإيـمان ينفعهم عندكم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
القراءة: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وما يخادعون إلا أنفسهم والباقون وما يخدعون. الحجة: حجة من قرأ يخدعون إن فعل هنا أليق بالموضع في فاعل الذي هو في أكثر الأمر يكون لفاعلين ويدل عليه قولـه في الآية الأخرى**{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142] وحجة من قرأ يخادعون هو أن ينزل ما يخطر بباله من الخدع منزلة آخر يجازيه ذلك ويعاوضه إياه فيكون الفعل كأنه من اثنين فيلزم أن يقول فاعل كقول الكميت وذكر حماراً أراد الورود: | **يُذَكِّرُ مَنْ أَنّى وَمَنْ أَيْنَ شُرْبِ** | | **يُؤامِرُ نُفْسَيْه كَذي الهَجْمَةِ الأَبِلِ** | | --- | --- | --- | فجعل ما يكون منه من وروده الماء أو تركه الورود والتمثيل بينهما بمنزلة نفسين. اللغة: أصل الخدع الإخفاء والإبهام بخلاف الحق والتزوير يقال خدعت الرجل أخدعه خدعاً ًبالكسر وخديعة وقالوا إنك لأخدع من ضبّ حرشته وخادعت فلاناً فخدعته والنفس في الكلام على ثلاثة أوجه النفس بمعنى الروح والنفس بمعنى التأكيد تقول جاءني زيد نفسه والنفس بمعنى الذات وهو الأصل ويقال النفس غير الروح ويقال هما اسمان بمعنى واحد ويشعرون وأصل الشعر الإحساس بالشيء من جهة تدق ومن هذا اشتقاق الشعر لأن الشاعر يفطن لما يدق من المعنى والوزن ولا يوصف الله تعالى بأنه يشعر لما فيه من معنى التلطف والتخيل. الإعراب: يخادعون فعل وفاعل والنون علامة الرفع والجملة في موضع نصب بكونها حالاً وذو الحال الضمير الذي في قولـه آمنّا العائد إلى من والله نصب بيخادعون والذين آمنوا عطف وما نفي وإلا إيجاب وأنفسهم نصب بأنه مفعول يخادعون الثانية وما نفي ويشعرون فعل وفاعل وكل موضع يأتي فيه إلا بعد نفي فهو إيجاب ونقض للنفي. المعنى: معنى قولـه تعالى: { يخادعون الله } أي يعملون عمل المخادع لأن الله تعالى لا يصح أن يخادعه من يعرفه ويعلم أنه لا يخفى عليه خافية وهذا كما تقول لمن يزين لنفسه ما يشوبه بالرياء في معاملته ما أجهله يخادع الله وهو أعلم به من نفسه أي يعمل عمل المخادع وهذا يكون من العارف وغير العارف وقيل المعنى يخادعون رسول الله لأن طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهذا كقولـه تعالى:**{ وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ }** [الأنفال: 62] والمفاعلة قد تقع من واحد كقولـهم عافاه الله وعاقبت اللص وطارقت النعل فكذلك يخادعون إنما هو من واحد فمعنى يخادعون يظهرون غير ما في نفوسهم وقولـه { والذين آمنوا } أي ويخادعون المؤمنين بقولـهم إذا رأوهم قالوا آمنا وهم غير مؤمنين أو بمجالستهم ومخالطتهم إياهم حتى يفشوا إليهم أسرارهم فينقلوها إلى أعدائهم والتقية أيضاً تسمى خِداعاً فكأنهم لما أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر صارت تقيتهم خداعاً من حيث إنهم نجوا بها من إجراء حكم الكفر عليهم ومعنى قولـه { وما يخدعون إلا أنفسهم } أنهم وإن كانوا يخادعون المؤمنين في الظاهر فهم يخادعون أنفسهم لأنهم يظهرون لها بذلك أنهم يعطونها ما تمنت وهم يوردونها به العذاب الشديد فوبال خداعهم راجع إلى أنفسهم وما يشعرون أي ما يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب فهم في الحقيقة إنما خدعوا أنفسهم كما لو قاتل إنسان غيره فقتل نفسه جاز أن يقال إنه قاتل فلاناً ولم يقتل إلا نفسه وقولـه { وما يشعرون } يدل على بطلان قول أصحاب المعارف لأنه تعالى أخبر عنهم بالنفاق وبأنهم لا يعلمون ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)
اعلم أن الله تعالى من قبائح المنافقين أربعة أشياء: أحدها: ما ذكره في هذه الآية، وهو أنهم { يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا } فيجب أن يعلم أولاً: ما المخادعة، ثم ثانياً: ما المراد، بمخادعة الله؟ وثالثاً: أنهم لماذا كانوا يخادعون الله؟ ورابعاً: أنه ما المراد بقوله وما يخدعون إلا أنفسهم؟. المسألة الأولى: اعلم أنه لا شبهة في أن الخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يميز من غيره لكي لا يفعل، وأصل هذه اللفظة الإخفاء، وسميت الخزانة المخدع، والأخدعان عرقان في العنق لأنهما خفيان. وقالوا: خدع الضب خدعاً إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلاً، وطريق خيدع وخداع، إذا كان مخالفاً للمقصد بحيث لا يفطن له، ومنه المخدع. وأما حدها فهو إظهار ما يوهم السلامة والسداد، وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير والتخلص منه، فهو بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسنة، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين لأن الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغرور والإساءة، كما يوجب المخالصة لله تعالى في العبادة، ومن هذا الجنس وصفهم المرائي بأنه مدلس إذا أظهر خلاف مراده، ومنه أخذ التدليس في الحديث، لأن الراوي يوهم السماع ممن لم يسمع وإذا أعلن ذلك لا يقال إنه مدلس. المسألة الثانية: وهي أنهم كيف خادعوا الله تعالى؟ فلقائل أن يقول: إن مخادعة الله تعالى ممتنعة من وجهين: الأول: أنه تعالى يعلم الضمائر والسرائر فلا يجوز أن يخادع، لأن الذي فعلوه لو أظهروا أن الباطن بخلاف الظاهر لم يكن ذلك خداعاً، فإذا كان الله تعالى لا يخفي عليه البواطن لم يصح أن يخادع. الثاني: أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله تعالى، فثبت أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره بل لا بدّ من التأويل وهو من وجهين: الأول: أنه تعالى ذكر نفسه وأراد به رسولة على عادته في تفخيم وتعظيم شأنه. قال:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ }** [الفتح: 10] وقال في عكسه**{ وَٱعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ }** [الأنفال: 41] أضاف السهم الذي يأخذه الرسول إلى نفسه فالمنافقون لما خادعوا الرسول قيل إنهم خادعوا الله تعالى. الثاني: أن يقال صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يخادع، وصورة صنيع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد الكفرة صورة صنيع الله معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم. المسألة الثالثة: فهي في بيان الغرض من ذلك الخداع وفيه وجوه: الأول: أنهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يجرونهم في التعظيم والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان وإن أسروا خلافه فمقصودهم من الخداع هذا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثاني: يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أسراره، وإفشاء المؤمنين أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم من الكفار. الثالث: أنهم دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفار مثل القتل، لقوله عليه الصلاة والسلام: **" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "** الرابع: أنهم كانوا يطمعون في أموال الغنائم، فإن قيل: فالله تعالى كان قادراً على أن يوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم كيفية مكرهم وخداعهم، فلم لم يفعل ذلك هتكاً لسترهم؟ قلنا: إنه تعالى قادر على استئصال إبليس وذريته ولكنه تعالى أبقاهم وقواهم، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو. فإن قيل هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح؟ قلنا قال صاحب «الكشاف» وجهه أن يقال: عنى به فعلت إلا أنه أخرج في زنة فاعلت، لأن الزنة في أصلها للمبالغة والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب، لزيادة قوة الداعي إليه، ويعضده قراءة أبي حيوة «يخدعون الله» ثم قال: { يُخَـٰدِعُونَ } بياناً ليقول ويجوز أن يكون مستأنفاً كأنه قيل ولِمَ يدَّعون الإيمان كاذبين. وما نفعهم فيه؟ فقيل { يُخَـٰدِعُونَ }. المسألة الرابعة: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر «وما يخادعون» والباقون «يخدعون» وحجة الأولين: مطابقة اللفظ حتى يكون مطابقاً للفظ الأول، وحجة الباقين أن المخادعة إنما تكون بين اثنين، فلا يكون الإنسان الواحد مخادعاً لنفسه، ثم ذكروا في قوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } وجهين: الأول: أنه تعالى يجازيهم على ذلك ويعاقبهم عليه فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلا أنفسهم عن الحسن. والثاني: ما ذكره أكثر المفسرين، وهو أن وبال ذلك راجع إليهم في الدنيا، لأن الله تعالى كان يدفع ضرر خداعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم، وهو كقوله:**{ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142] وقوله:**{ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ }** [البقرة: 14، 15]**{ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَاء }** [البقرة: 13]**{ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً }** [النمل: 50]**{ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً }** [الطارق: 15، 16]**{ إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }** [المائدة: 33]**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }** [الأحزاب: 57] وبقي في الآية بعد ذلك أبحاث. أحدها: قرىء «وما يخادعون» من أخدع و «يخدعون» بفتح الياء بمعنى يختدعون «ويخدعون» و «يخادعون» على لفظ ما لم يسم فاعله. وثانيها: النفس ذات الشيء وحقيقته، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى:**{ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ }** [المائدة: 116] والمراد بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لا يعدوهم إلى غيرهم. وثالثها: أن الشعور علم الشيء إذا حصل بالحس، ومشاعر الإنسان حواسه، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، لكنهم لتماديهم في الغفلة كالذي لا يحس. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أما قوله تعالى: { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } فاعلم أن المرض صفة توجب وقوع الضرر في الأفعال الصادرة عن موضع تلك الصفة، ولما كان الأثر الخاص بالقلب إنما هو معرفة الله تعالى وطاعته وعبوديته، فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعاً من هذه الآثار كانت تلك الصفات أمراضاً للقلب. فإن قيل: الزيادة من جنس المزيد عليه، فلو كان المراد من المرض ههنا الكفر والجهل لكان قوله: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } محمولاً على الكفر والجهل، فيلزم أن يكون الله تعالى فاعلاً للكفر والجهل. قالت المعتزلة: لا يجوز أن يكون مراد الله تعالى منه فعل الكفر والجهل لوجوه: أحدها: أن الكفار كانوا في غاية الحرص على الطعن في القرآن، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: إذا فعل الله الكفر فينا، فكيف تأمرنا بالإيمان؟ وثانيها: أنه تعالى لو كان فاعلاً للكفر لجاز منه إظهار المعجزة على يد الكذاب، فكان لا يبقى كون القرآن حجة فكيف نتشاغل بمعانيه وتفسيره. وثالثها: أنه تعالى ذكر هذه الآيات في معرض الذم لهم على كفرهم فكيف يذمهم على شيء خلقه فيهم. ورابعها: قوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فإن كان الله تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم، فأي ذنب لهم حتى يعذبهم؟ وخامسها: أنه تعالى أضافه إليهم بقوله: { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الأرض، وأنهم هم السفهاء، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، إذا ثبت هذا فنقول: لا بدّ من التأويل وهو من وجوه: الأول: يحمل المرض على الغم، لأنه يقال مرض قلبي من أمر كذا، والمعنى أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا ثبات أمر النبي صلى الله عليه وسلم واستعلاء شأنه يوماً فيوماً. وذلك كان يؤثر في زوال رياستهم، كما روي أنه عليه السلام مر بعبد الله بن أبي بن سلول على حمار، فقال له نح حمارك يا محمد فقد آذتني ريحه، فقال له بعض الأنصار اعذره يا رسول الله، فقد كنا عزمنا على أن نتوجه الرياسة قبل أن تقدم علينا: فهؤلاء لما اشتد عليهم الغم وصف الله تعالى ذلك فقال: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } أي زادهم الله غماً على غمهم بما يزيد في إعلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم شأنه.الثاني: أن مرضهم وكفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكاليف، فهو كقوله تعالى في سورة التوبة:**{ فَزَادَهُمُ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** [التوبة: 125] والسورة لم تفعل ذلك، ولكنهم لما ازدادوا رجساً عند نزولها لما كفروا بها قيل ذلك، وكقوله تعالى حكاية عن نوح**{ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً }** [نوح: 5، 6] والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا، ولكنهم ازدادوا فراراً عنده، وقال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى }** [التوبة: 49] والنبي عليه السلام إن لم يأذن له لم يفتنه، ولكنه كان يفتتن عند خروجه فنسبت الفتنة إليه**{ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـٰناً وَكُفْراً }** [المادة: 64] وقال:**{ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً }** [فاطر: 42] وقولك لمن وعظته فلم يتعظ وتمادى في فساده: ما زادتك موعظتي إلا شراً، ومازادتك إلا فساداً فكذا هؤلاء المنافقون لما كانوا كافرين ثم دعاهم الله إلى شرائع دينه فكفروا بتلك الشرائع وازدادوا بسبب ذلك كفراً لا جرم أضيفت زيادة كفرهم إلى الله. الثالث: المراد من قوله: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } المنع من زيادة الألطاف، فيكون بسبب ذلك المنع خاذلاً لهم وهو كقوله:**{ قَـٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ }** [المنافقون: 4] الرابع: أن العرب تصف فتور الطرف بالمرض، فيقولون: جارية مريضة الطرف. قال جرير: | **إن العيون التي في طرفها مرض** | | **قتلننا ثم لم يحيين قتلانا** | | --- | --- | --- | فكذا المرض ههنا إنما هو الفتور في النية، وذلك لأنهم في أول الأمر كانت قلوبهم قوية على المحاربة والمنازعة وإظهار الخصومة، ثم انكسرت شوكتهم فأخذوا في النفاق بسبب ذلك الخوف والإنكسار، فقال تعالى: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } أي زادهم ذلك الانكسار والجبن والضعف، ولقد حقق الله تعالى ذلك بقوله:**{ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ }** [الحشر: 2] الخامس: أن يحمل المرض على ألم القلب، وذلك أن الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه، فإذا دام به ذلك فربما صار ذلك سبباً لغير مزاج القلب وتألمه، وحمل اللفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته، فكان أولى من سائر الوجوه. أما قوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قال صاحب «الكشاف»: ألم فهو أليم، كوجع فهو وجيع، ووصف العذاب به فهو نحو قوله: تحية بينهم ضرب وجيع. وهذا على طريقة قولهم: جد جده، والألم في الحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد، أما قوله: { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } ففيه أبحاث. أحدها: أن الكذب هو الخبر عن شيء على خلاف ما هو به والجاحظ لا يسميه كذباً إلا إذا علم المخبر كون المخبر عنه مخالفاً للخبر، وهكذا الآية حجة عليه. وثانيها: أن قوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } صريح في أن كذبهم علة للعذاب الأليم، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً فأما ما روي أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به. وثالثها: في هذه الآية قراءتان. إحداهما: { يَكْذِبُونَ } والمراد بكذبهم قوله: { بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }. والثانية: «يكذبون» من كذبه الذي هو نقيض صدقه، ومن كذب الذي هو مبالغة في كذب، كما بولغ في صدق فقيل صدق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)
قال علماؤنا: معنى «يخادعون الله» أي يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم. وقيل: قال ذلك لعملهم عمل المخادع. وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن وغيره. وجعل خداعهم لرسوله خداعاً له لأنه دعاهم برسالته وكذلك إذا خادعوا المؤمنين فقد خادعوا الله. ومخادعتهم: ما أظهروه من الإيمان خلاف ما أبطنوه من الكفر، لَيحْقنوا دماءهم وأموالهم، ويظنون أنهم قد نجْوا وخدعوا قاله جماعة من المتأوّلين. وقال أهل اللغة: أصل الخدع في كلام العرب الفساد حكاه ثعلب عن ٱبن الأعرابي. وأنشد: | **أبْيَضُ اللّونِ لذيذٌ طعْمُه** | | **طيِّبُ الرّيق إذا الرِّيقُ خَدَعْ** | | --- | --- | --- | قلت: فـ «ـيخادعون الله» على هذا، أي يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله تعالى بالرياء. وكذا جاء مفسَّراً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم على ما يأتي. وفي التنزيل: «يُرَاءُونَ النَّاسَ». وقيل: أصله الإخفاء ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء حكاه ٱبن فارس وغيره. وتقول العرب: ٱنخدع الضب في جُحره. قوله تعالى: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } نفي وإيجاب أي ما تحلّ عاقبة الخدع إلا بهم. ومن كلامهم: مَن خَدَع من لا يُخْدع فإنما يَخْدع نفسه. وهذا صحيح لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه. ودلّ هذا على أن المنافقين لم يعرفوا الله إذ لو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع وقد تقدّم من قوله عليه السلام أنه قال: **" لا تخادع الله فإنه مَن يخادع الله يخدعه الله ونفسَه يخدع لو يشعر» قالوا: يا رسول الله، وكيف يُخَادَع اللَّهُ؟ قال: «تعمل بما أمرك الله به وتطلب به غيره "** وسيأتي بيان الخدع من الله تعالى كيف هو عند قوله تعالى:**{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }** [البقرة:15]. وقرأ نافع وٱبن كثير وأبو عمرو: «يخادعون» في الموضعين ليتجانس اللفظان. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وٱبن عامر: { يُخَـدِعُونَ } الثاني. والمصدر خِدْع بكسر الخاء وخديعة حكى ذلك أبو زيد. وقرأ مُوَرِّق العجليّ: «يُخَدِّعون الله» بضم الياء وفتح الخاء وتشديد الدال على التكثير. وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شدّاد والجارود بضم الياء وإسكان الخاء وفتح الدال، على معنى وما يخدعون إلا عن أنفسهم، فحذف حرف الجر كما قال تعالى:**{ وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ }** [الأعراف:155]أي من قومه. قوله تعالى: { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي يفطنون أنّ وبال خدعهم راجع عليهم فيظنون أنهم قد نجوا بخدعهم وفازوا وإنما ذلك في الدنيا، وفي الآخرة يقال لهم:**{ آرْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَآلْتَمِسُوا نُوراً }** [الحديد:13]على ما يأتي. قال أهل اللّغة: شَعَرْتُ بالشيء أي فطِنت له ومنه الشاعر لفطنته لأنه يفطن لما لا يَفْطُن له غيره من غريب المعاني. ومنه قولهم: لَيْتَ شِعْرِي أي ليتني علمت. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا } الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو فيه، وعما هو بصدده من قولهم: خدع الضب. إذ توارى في جحره، وضب خادع وخدع إذا أوهم الحارس إقباله عليه، ثم خرج من باب آخر وأصله الإخفاء ومنه المخدع للخزانة، والأخدعان لعرقين خفيين في العنق، والمخادعة تكون بين اثنين. وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه لا تُخْفَى عليه خافية، ولأنهم لم يقصدوا خديعته. بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته كما قال تعالى:**{ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ }** [النساء: 80].**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ }** [الفتح: 10] وإما أن صورة صنيعهم مع الله تعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر، وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار، استدراجاً وامتثال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم، وإجراء حكم الإسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين. ويحتمل أن يراد بـ { يُخَـٰدِعُونَ } يخدعون لأنه بيان ليقول، أو مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المخادعين. ويحتمل أن يراد بـ { يُخَـٰدِعُونَ } يخدعون لأنه بيان ليقول، أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه، إلا أنه أخرج في زنة فَاعَلَ للمبالغة، فإن الزنة لما كانت للمبالغة والفعل متى غولب فيه، كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض ومبار استصحبت ذلك، ويعضده قراءة من قرأ { يَخَـدِعُونَ }. وكان غرضهم في ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم ما يطرق به من سواهم من الكفرة، وأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإكرام والإعطاء، وأن يختلطوا بالمسلمين فيطلعوا على أسرارهم ويذيعوها إلى منابذيهم إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد. { وَمَا يُخَادَِعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو. والمعنى: أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها يحيق بهم. أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك. وخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الفارغة وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية. وقرأ الباقون { وَمَا } ، لأن المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين وقرىء و { يَخَـدِعُونَ } من خدع و { يَخَـدِعُونَ } بمعنى يختدعون و { يَخَـدِعُونَ } و { يُخَـٰدِعُونَ } على البناء للمفعول، ونصب أنفسهم بنزع الخافض، والنفس ذات الشيء وحقيقته، ثم قيل للروح لأن نفس الحي به، وللقلب لأنه محل الروح أو متعلقه، وللدم لأن قوامها به، وللماء لفرط حاجتها إليه، وللرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه لأنه ينبعث عنها أو يشبه ذاتاً تأمره وتشير عليه. والمراد بالأنفس ههنا ذواتهم ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم. { وَمَا يَشْعُرُونَ } لا يحسون لذلك لتمادي غفلتهم. جعل لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس. والشعور: الإحساس، ومشاعر الإنسان حواسه، وأصله الشعر ومنه الشعار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
{ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا } بإظهار خلاف ما أبطنوه من الكفر ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية { وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } لأن وبال خداعهم راجع إليهم فيفتضحون في الدنيا بإطلاع الله نبيه على ما أبطنوه ويعاقبون في الآخرة { وَمَا يَشْعُرُونَ } يعلمون أن خداعهم لأنفسهم، والمخادعة هنا من واحد( كعاقبت اللص)، وذكر الله فيها تحسين، وفي قراءة وما يخدعون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ)
قوله تعالى: { يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ } وأصل الخداع في اللغة هو الستر. يقال للبيت الذي يخزن فيه المال: مخدع، والعرب تقول: [انخدعت] الضب في جحرها. فكان المنافقون يظهرون الإيمان ويسترون نفاقهم وكفرهم فقال: { يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا } أي يكذبون ويخالفون الله والذين آمنوا [ويقال يظنون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا] لأنه قد بين في سياق الآية حيث قال تعالى { وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } روي عن الأخفش أنه قال: اجترأوا على الله حتى ظنوا أنهم يخادعون الله. [وقال بكر بن جريج يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وأنفسهم] ويقال: يظهرون غير ما في أنفسهم. وهذا موافق لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: علامة المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف وإذا أوتمن خان، وإذا حدث كذب. وقوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة الكسائي { وَمَا يَخْدَعُونَ } بغير ألف، وقرأ الباقون بالألف " وما يخادعون " وتفسير القراءتين واحد يعني: وبال الخداع يرجع إليهم ويضر بأنفسهم. قوله: { وَمَا يَشْعُرُونَ }. قال الكلبي: يعني وما يعلمون أن الله يطلع نبيه على كذبهم. وقال بعضهم: معناه وما يشعرون أن وبال الخداع يرجع إليهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ)
قوله تعالى: { يخادعون الله } قال ابن عباس: كان عبد الله بن أُبيّ، ومعتب بن قشير، والجد بن القيس؛ إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، ونشهد أن صاحبكم صادق، فاذا خلوا لم يكونوا كذلك، فنزلت هذه الآية. فأما التفسير، فالخديعة: الحيلة والمكر، وسميت خديعة، لأنها تكون في خفاء. والمخدع: بيت داخل البيت تختفي فيه المرأة، ورجل خادع: إذا فعل الخديعة، سواء حصل مقصوده أو لم يحصل، فاذا حصل مقصوده، قيل: قد خدع. وانخدع الرجل: استجاب للخادع، سواء تعمد الاستجابة أو لم يقصدها، والعرب تسمي الدهر خداعاً، لتلونه بما يخفيه من خير وشر. وفي معنى خداعهم الله خمسة أقوال. أحدها انهم كانوا يخادعون المؤمنين، فكأنهم خادعوا الله. روي عن ابن عباس؛ واختاره ابن قتيبة. والثاني: انهم كانوا يخادعون نبي الله، فأقام الله نبيه مقامه، كما قال:**{ إِن الذين يبايعونك إِنما يبايعون الله }** [الفتح: 10]. قاله الزجاج. والثالث أن الخادع عند العرب: الفاسد. وأنشدوا: | **أبيض اللون لذيذ طعمه** | | **طيب الريق إِذا الريق خدع** | | --- | --- | --- | أي: فسد. رواه محمد بن القاسم عن ثعلب عن ابن الاعرابي. قال ابن القاسم: فتأويل: يخادعون الله: يفسدون ما يظهرون من الايمان بما يضمرون من الكفر. والرابع: أنهم كانوا يفعلون في دين الله مالو فعلوه بينهم كان خداعا. والخامس: أنهم كانوا يخفون كفرهم، ويظهرون الإيمان به. قوله تعالى: { وما يخدعون إلا أنفسهم } قرأَ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: { وما يخادعون } وقرأَ الكوفيون، وابن عامر: { يخدعون } ، والمعنى: أن وبال ذلك الخداع عائد عليهم. ومتى يعود وبال خداعهم عليهم؟ فيه قولان. أحدهما: في دار الدنيا، وذلك بطريقين. أحدهما: بالاستدراج والإِمهال الذي يزيدهم عذاباً. والثاني: باطلاع النبي والمؤمنين على أحوالهم التي أسروها. والقول الثاني: ان عود الخداع عليهم في الآخرة، وفي ذلك قولان. أحدهما: أنه يعود عليهم عند ضرب الحجاب بينهم وبين المؤمنين، وذلك قوله:**{ قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب }** [الحديد:13]. والثاني: أنه يعود عليهم عند اطلاع أهل الجنة عليهم، فاذا رأَوهم طمعوا في نيل راحة من قبلهم، فقالوا:**{ أَفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله }** [الأعراف:50]. فيجيبونهم.**{ إِن الله حرَّمهما على الكافرين }** [الأعراف:51]. قوله تعالى: { وما يشعرون } أَي: وما يعلمون. وفي الذي لم يشعروا به قولان. أحدهما: أَنه إِطلاع الله نبيه على كذبهم، قاله ابن عباس. والثاني: أَنه إِسرارهم بأنفسهم بكفرهم، قاله ابن زيد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ)
{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ } أصل الخدع: الإخفاء، مخدع البيت يخفي ما فيه، جعل خداع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين خداعاً له، لأنه دعاهم برسالته. { وَمَا يَخْدَعُونَ } لما رجع وبال خداعهم عليهم قال ذلك. { وَمَا يَشْعُرُونَ } وما يفطنون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير لباب التأويل في معاني التنزيل/ الخازن (ت 725 هـ)
{ يخادعون الله والذين آمنوا } أي يخالفون الله والخديعة الحيلة والمكر وأصله في اللغة لإخفاء والمخادع يظهر ضد ما يضمر ليتخلص فهو بمنزلة النفاق، وهو خادعهم أي يظهر لهم نعيم الدنيا ويعجله لهم بخلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة. فإن قلت المخادعة مفاعلة، وإنما تجيء في الفعل المشترك، والله تعالى منزه عن المشاركة قلت المفاعلة قد ترد لا على وجه المشاركة تقول عافاك الله وطارقت النعل وعاقبت اللص، فالمخادعة هنا عبارة عن فعل الواحد والله تعالى منزه عن أن يكون منه خداع. فإن قلت: كيف يخادع الله وهو يعلم الضمائر والأسرار؟ فمخادعة الله ممتنعة فكيف يقال يخادعون الله؟. قلت إن الله تعالى ذكر نفسه وأراد به رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك تفخيم لأمره وتعظيم لشأنه، وقيل أراد به المؤمنين وإذا خادعوا المؤمنين فكأنهم خادعوا الله تعالى وذلك أنهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لم يعلموا حالهم ولتجري عليهم أحكام الإسلام في الظاهر وهم، على خلافه في الباطن { وما يخدعون إلاّ أنفسهم } أي إن الله تعالى يجازيهم على ذلك ويعاقبهم عليه فلا يكونون في الحقيقة إلاّ خادعين أنفسهم، وقيل: إن وبال ذلك الخداع راجع إليهم لأن الله تعالى يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على نفاقهم فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب في العقبى. والنفس ذات الشيء وحقيقته. وقيل للدم نفس لأن به قوة البدن { وما يشعرون } أي لا يعلمون أن وبال خداعهم راجع عليهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
قوله تعالى: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ... } قال الزمخشري: (في) هذه الجملة إمّا تفسير لما قبلها أو استئناف. قال الإمام ابن عرفة: الفرق بينهما أنه على الأوّل يكونون وَصفوا بأمرين: بعدم الإيمان (وبالخداع). وعلى الثاني وصفوا بعدم الإيمان فكأنّ قائلا يقول: لم حكم عليهم بعدم الإيمان فقيل: لأنّهم يخادعون الله. قال أبو حيّان ما نصّه: ((يخادعون (مستأنفة)، أو بدل من (يقول) آمنّا ولا موضع لها، أو حال من فاعل يقول (فموضعها) نصب)). قال: وأجاز أبو البقاء كونها حالا من الضمير في المؤمنين. قال: واعترض بأنه يلزم منه نفي الإيمان المقيَّد بالخداع، وهو فاسد لأن المقيَّد بقيد إذا نفي فله طريقان: إما نفي المقيِّد فقط وإثبات المقيَّد وهو الأكثر، فيلزم إثبات الإيمان، ونفي الخداع وهو فاسد. وإما نفيهما معا (فيلزم) نفي الإيمان (والخداع) وهو فاسد. قال: ومنع أن تكون الجملة حالا من الضمير في آمنّا لأن آمنّا محكي (بنقول) فيلزم أن يكونوا أخبروا عن أنفسهم بأنهم يخادعون وهو باطل، وأيضا فلو كان من قولهم لكان يخادع بالنون (انتهى). وأجاب ابن عرفة بأنك تقول: قال زيد: إنّ عمرا منطلق وهو كاذب، فالجملة الأخيرة في موضع الحال مع أنها ليست من قول زيد، (فلا) يلزم من ذلك أن يكون { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } مقولا لهم بوجه. قلت: وردّ بعضهم هذا بأنّ المعنى يقول: " ءَامنّا " مخادعين الله (فبالضّرورة) أنّها من قولهم. قال: وإنّما يتمّ هذا الجواب (إن) لو كان " يُخَادِعُونَ " حالا من الضّمير الفاعل في " يَقُولُ ". قال: وقوله يلزم إثبات الإيمان ونفي الخداع ليس كذلك، لأنّه إنما أخذه من المفهوم. ونحن نقول: لا مفهوم (له لأنّه مفهوم) خرج مخرج الغالب، إذِ الغالب عليهم الخداع، فلا يوجدون غير مخادعين، كما ورد: في سائمة الغنم الزّكاة أو يقال: إنّ المفهوم (منتفي) بالنص (على تفسير) في غير هذه الآية أو معلوم من السّياق. وأورد الزمخشري سؤالا قال: كيف يصحّ وقوع الخديعة بالله مع أنه عالم بكلّ شيء؟ وكيف صحّ وقوعها (فيه) مع أنه يستحيل عليه القبيح؟ وأجاب (بأجوبة أحدها) بأنه (لمَّا) نعّمهم في الدّنيا وعصم دماءهم وأموالهم ثمّ عذّبهم في الآخرة (كان) ذلك شبه الخديعة. قال: وكذلك المؤمنون (معهم). قال ابن عرفة: لا (نتصوّر) الخديعة من المؤمنين لأنهم عصموهم في الدنيا خاصة، والآخرة لا حكم/ لهم (فيها). قيل (له): قد يتصوّر باعتبار أنّهم عالمون بهم ومع هذا (تركوا) قتالهم. قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون هنا سؤالا وهو أنه عبر عن (نفيهم) عن المؤمنين في قوله:**{ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }** بالوصف المقتضي (أعلى) درجات الفلاح، (فدل على اختصار الفلاح فيه)، ولو أريد: وما هم بمؤمنين الإيمان الكامل، للزم عليه حصول بعض الفلاح لهم والغرض (أنهم) لم يحصل لهم من شيء (فإذا ثبت) أن الفلاح منحصر في مسمى المؤمنين لا في مسمى من آمن، فهلا قيل: يخادعون الله والمؤمنين، لأنّ المنافقين يصدق عليهم أنهم ممن آمن؟ قال: (والجواب أن المراد الإخبار عنهم بكونهم يخادعون الله تعالى) وكل من اتصف بمطلق الإيمان حتى أنهم (يخادعون) بعضهم فيظن بعضهم في بعض أنه غير منافق فيخادعه والكل منافقون. قوله: { وَمَا يَشْعُرُونَ }. نفى عنهم الشعور، وهو مبادئ الإدراك. (فبنفي) (مبادئ) الإدراك ينتفي كل الإدراك من باب أحرى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ)
قوله: " يخادعون " هذه الجملة الفعلية يحتمل أنْ تكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدّر هو: ما بالهم قالوا: آمنا وما هم بؤمنين؟ فقيل: يخادعون الله، ويحتمل أن تكون بدلاً من الجملة الواقعة صلة لـ " من " وهي " يقول " ، ويكون هذا من بدل الاشْتِمَالِ؛ لأن قولهم كذا مشتمل على الخداع، فهو نظير قوله: [الرجز] | **182- إِنَّ عَلَيَّ اللهَ أَنْ تُبَايِعَا** | | **تُؤْخَذَ كَرْهاً أَوْ تَجِيءَ طَائِعَا** | | --- | --- | --- | وقول الآخر: [الطويل] | **183- مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا** | | **تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا** | | --- | --- | --- | فـ " تؤخذ " بدل اشتمال من " تبايع " ، وكذا " تُلْمِم " بدلٌ من " تَأْتِنَا ". وعلى هذين القولين، فلا مَحَلّ لهذه الجملة من الإعراب. والجمل التي لا مَحَلّ لها من الإعراب أربع لا تزيد على ذلك - وإن توهّم بعضهم ذلك - وهي: المبتدأ والصِّلة والمُعْترضة والمفسّرة، وسيأتي تفسيرها في مواضعها. ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالاً من الضَّمير المستكن في [ " يقول " تقديره: ومن الناس من يقول حال كونهم مخادعين. وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير المستكن] في " بمؤمنين " ، والعامل فيها اسم الفاعل. وقد ردّ عليه بعضهم بما معناه: أن هذه الآية الكريمة نظير: " ما زيد أقبل ضاحكاً " ، قال: وللعرب في مثل هذا التركيب طريقان: أحدهما: نفي القيد وحده، وإثبات أصل الفعل، وهذا هو الأكثر، والمعنى: أن الإقبال ثابت، والضحك منتفٍ، وهذا المعنى لا يتصوّر إرادته في الآية، أعني: نفي الخِدَاع، وثبوت الإيمان. الطريق الثاني: أن ينتفي القَيْدُ، فينتفي العامل فيه، فكأنه قيل في المثال السابق: لم يقبل، ولم يضحك، وهذا المعنى - أيضاً - غير مراد بالآية الكريمة قطعاً، أعني: نفي الإيمان والخداع معاً، بل المعنى على نَفْي الإيمان، وثبوت الخداع، ففسد جعلها حالاً من الضمير في " بمؤمنين ". والعجب من أبي البَقَاءِ كيف استشعر هذا الإشكال، فمنع من جعل هذه الجملة في محل جر صفة لـ " مؤمنين "؟ قال: لأن ذلك يوجب نفي خِدَاعهم، والمعنى على إثبات الخداع، ثم جعلها حالاً من ضمير " بمؤمنين " ، ولا فرق بين الحال والصفة في هذا. و " الخداع " أصله: الإخفاءُ، ومنه الأَخْدَعَان: عِرْقان مُسْتَبْطنان في العُنُقِ، ومنه مخدع البيت، وخَدَع الضَّبُّ خِدْعاً: إذا توارى في جُحْرِه، وطريق خادع وخديع: إذا كان مخالفاً للمقصد، بحيث لا يفطن له؛ فمعنى يخادع: أي يوهم صاحبه خلاف ما يريد به المَكْروه. وقيل: هو الفساد أي يفسدون ما أَظْهَرُوا من الإيمان بما أَضمروا من الكُفْرِ قال الشاعر: [الرمل] | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **184- أَبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيذٌ طَعْمُهُ** | | **طَيِّبُ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ** | | --- | --- | --- | أي: فسد. ومعنى " يُخَادعون الله " أي: من حيث الصورة لا من حيث المَعْنَى. وقيل: لعدم عرفانهم بالله - تعالى - وصفاته ظنّوه ممن يُخَادَع. وقال الزَّمخشري: إن اسم الله - تعالى - مُقْحَم، والمعنى: يخادعون الذين آمنوا، ويكون من باب: أعجبني زيد وكرمه. والمعنى: أعجبني كرم زيد، وإنَّما ذكر " زيد " توطئةً لذكر كرمه. وجعل ذلك نظير قوله تعالى:**{ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }** [التوبة: 62]،**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }** [الأحزاب: 57]، وهذا منه غير مُرْضٍ؛ لأنه إذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله - تعالى - بالأوجه المتقدّمة، فلا ضرورة تدعو إلى ادعاء زيادة اسم الله تعالى. وأما " أعجبني زيد وكرمه " ، فإن الإعجاب أسند إلى " زيد " بجملته، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزاً لهذه الصفة من بين سائر الصفات للشرف، فصار من حيث المعنى نظيراً لقوله تعالى:**{ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ }** [البقرة: 98]. والمصدر " الْخِدْع " بكسر الخاء، ومثله: الخديعة. و " فَاعَلَ " له معانٍ خمسة: المشاركة المعنوية نحو: ضارب زيد عمراً. وموافقة المجرد نحو: " جاوزت زيداً " أي: جُزْتُه. وموافقة " أفعل " متعدياً نحو: " باعدت زيداً وأبعدته ". والإغناء عن " أفعل " نحو: " واريت الشيء ". وعن المجرد نحو: سافرت وقاسيت وعاقبت، والآية " فَاعَل " فيها يحتمل المعنيين الأوّلَيْن. أما المشاركة فالمُخَادعة منهم الله - تعالى - تقدم معناها، ومخادعة الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أَحْكام المسلمين في الدنيا، وَمُخَادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أمر الله - تعالى - فيهم، وأما كونه بمعنى المُجَرَّد، فيبينه قراءة ابن مسعود وأبي حَيَوَةَ " يَخْدَعُونَ ". وقرأ أبو عمرو والحرميان " وَمَا يُخَادِعُونَ " كالأولى، والباقون " وَمَا يَخْدَعُونَ " ، فيحتمل أن تكونا القراءتان بمعنى واحد، أي: يكون " فَاعَلَ " بمعنى " فَعَل " ، ويحتمل أن تكون المُفَاعلة على بابها، أعني صدورها من اثنين، فهم يُخَادعون أنفسهم، حيث يُمَنُّونَها الأباطيل، وأَنْفُسهمْ تخادعهم تمنِّيهم ذلك، فكأنها مُحَاورة بين اثنين، ويكون هذا قريباً من قول الآخر: [المنسرح] | **185- لَمْ تَدْرِ مَا لاَ؟ وَلَسْتَ قَائِلَهَا** | | **عُمْرَكَ ما عِشْتَ آخِرَ الأَبَدِ** | | --- | --- | --- | | **وَلَمْ تُؤَامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِياً** | | **فِيهَا وَفِي أُخْتِهَا وَلَمْ تَلِدِ** | وقال آخر: [الطويل] | **186- يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ وفِي الْعَيْشِ فُسْحَةٌ** | | **أَيَسْتَوْقِعُ الذُّوبَانَ أَمْ لاَ يَطُورُهَا** | | --- | --- | --- | قال الزمخشري: الاقتصار بـ " خادعت " على وجهه أن يُقَال: عني به " فعلت " ، إلا أنه على وزن " فاعلت " ، لأن الزِّنَةَ في أصلها للمغالبة، والفعل متى غولب فيه جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مُغَالب لزيادة قوة الداعي إليه، ويعضده قراءة أبي حيوة المتقدمة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقرىء: " وَمَا يُخَدِّعُونَ " ، ويُخَدَّعَونَ من خَدَّعَ مشدداً. و " يَخَدِّعَونَ " بفتح الياء والتشديد؛ الأصل يختدعون، فأدغم. وقرىء: " وما يُخْدَعُونَ " ، " ويُخَادَعُونَ " على لفظ ما لم يسم فاعله، وتخريجها على أن الأصل " وَمَا يُخْدَعُونَ إِلاَّ عَنْ أنفسهم " فلما حذف الجَرّ انتصب على حَدّ: [الوافر] | **187- تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا** | | **............................** | | --- | --- | --- | " إلا أنفسهم " " إلا " في الأصل حرف استثناء و " أنفسهم " مفعول به، وهذا استثناء مفرغ، وهو: عبارة عما افتقر فيه ما قبل " إلا " لما بعدها، ألا ترى أن " يخادعون " يفتقر إلى مفعول؟ ومثله: " ما قام إلا زيد " ، فـ " قام " يفتقر إلى فاعل، والتَّام بخلافه، أي: ما لم يفتقر فيه ما قيل " إلا " لما بعدها، نحو: قام القوم إلاّ زيداً، وضربت القوم إلا بكراً، فقام قد أخذ فاعله، وضربت أخذ مفعوله، وشرط الاستثناء المُفَرَّغ أن يكون بعد نفي، أو شبهة كالاستفهام والنهي. وأن قولهم: قرأت إلاّ يوم كذا، فالمعنى على نفي مؤول تقديره: ما تركت القراءة إلاَّ يوماً، هذا ومثله:**{ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ }** [التوبة: 32] و**{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ }** [البقرة: 45]. وللاستثناء أحكام كثيرة تأتي مفصّلة في مواضعها إن شاء الله تعالى. والنَّفسُ: هنا ذات الشيء وحقيقته، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى:**{ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }** [المائدة: 116]، " وَمَا يَشْعُرُونَ " هذه الجملة الفعلية يحتمل إلا يكون لها محلّ من الإعراب؛ لأنها استئناف، وأن يكون لها محلّ، وهو النصب على الحال من فاعل " يخدعون " والمعنى: وما يرجع وَبَال خداعهم إلاَّ على أنفسهم غير شاعرين بذلك، ومفعول " يشعرون " محذوف للعلم به، تقديره: وما يشعرون أن وَبَالَ خداعهم راجع على أنفسهم، واطّلاع الله عليهم. والأحسن ألا يقدّر مفعول؛ لأن الغرض نفي الشعور عنه ألبتة من غير نظر إلى مُتَعلَّقه، والأوّل يسمى حذف الاختصار، ومعناه: حذف الشيء بدليل. والثاني يسمى حذف الاقتصار، وهو حذف الشيء لا لدليل. والشُّعور: إدراك الشيء من وجه يدقّ، وهو مشتقّ من الشَّعَر لدقّته. وقيل: هو الإدراك بالحاسّة مشتقّ من الشِّعَار، وهو ثوب يلي الجَسَد، ومنه مشاعر الإنسان أي: حواسّه الخمسة التي يشعر بها. فصل في حد الخديعة اعلم أن الخديعة مذمومة. قال ابن الخطيب: " وَحَدُّهَا هي إظهار ما يوهم السّلامة والسّداد، وإبطال ما يقتضي الإضرار بالغير، أو التخلّص منه، فهو بمنزلة النِّفَاق في الكفر والرِّياء في الأفعال الحسنة، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين؛ لأن الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغُرُورِ والإساءة، كما يوجب المُخَالصة في العبادة ". فصل في امتناع مخادعة الله تعالى مخادعة الله - تعالى - ممتنعة من وجهين: أحدهما: أنه يعلم الضَّمائر والسرائر، فلا يصح أن يُخَادَع. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والثاني: أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم، فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله، فثبت أنه لا يمكن إجْراءُ هذا اللفظ على ظاهره، فلا بُدّ من التأويل، وهو من وجهين: الأول: أنه - تعالى - ذكر نفسه، وأراد به الرسول على عادته في تَفْخِيْمِ أمره، وتعظيم شأنه. قال:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ }** [الفتح: 10]. والمنافقون لما خادعوا [الله ورسوله] قيل: إنهم يخادعون الله. الثاني: أن يقال: صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يُخَادع، وصورة صنع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده من الكَفَرةِ صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم، فأجروا أحكامه عليهم. فصل في بيان الغرض من الخداع في الآية الغرض من ذلك الخداع وجوه: الأول: أنهم ظنوا أن النبي - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه يجرونهم في التَّعْظيم والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان. الثاني: يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي - عليه الصلاة والسلام - أَسْرَاره، والاطِّلاع على أسرار المؤمنين، فينقلونها إلى الكفار. الثالث: أنهم دفعوا عن أنفسهم أَحْكَام الكفار، كالقَتْلِ وغيره. الرابع: أنهم كانوا يطمعون في أموال الغَنَائم. فإن قيل: فالله تعالى كان قادراً على أن يوحي إلى نبيه كَيفية مَكْرِهِمْ وخداعهم، فَلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك هتكاً لسترهم؟ قلنا: هو قادر على استئصال " إبليس " وذريته ولكنه - تعالى - أبقاهم وقواهم، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو. وقوله: { وما يَخْدَعُونَ إلا أنفسهم } فيه وجهان: الأول: أنه - تعالى - يجازيهم على ذلك، ويعاقبهم عليه، فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلاّ أنفسهم. والثاني: ما ذكره أكثر المفسرين، وهو أن وَبَالَ ذلك راجع إليهم في الدنيا؛ لأن الله - تعالى - كان يدفع ضرر خِدَاعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم، وهو كقوله:**{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142] ونظائره. " في قلوبهم مرض " الجار والمجرور خبر مقدّم واجب التقديم لما تقدّم ذكره في قوله تعالى:**{ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَٰوَةٌ }** [البقرة: 7]. والمشهور تحريك الراء من " مرض ". وَرَوَى الأصمعي عن أبي عمرو سكونها، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَضُ. " والمرض ": الفتور. وقيل: الفساد. وقيل: صفة توجب وقوع الخَلَلِ في الأفْعال الصادرة عن الفاعل، ويطلق على الظلمة؛ وأنشدوا: [البسيط] | **188- فِي لَيْلَةٍ مَرِضَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ** | | **فَما يُحِسُّ بِهِ نَجْمٌ وَلاَ قَمَرُ** | | --- | --- | --- | أي: لظلمتها، ويجوز أن يكون أراد بـ " مَرِضَتْ " فَسَدْت، ثم بين جهة الفَسَادِ بالظُّلمة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قوله: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }. هذه جملة فعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، متسبّبة عنها، بمعنى أنَّ سبب الزِّيَادة حصول المرض في قلوبهم، إذ المراد بالمرض هنا الغِلّ والحسد لظهور دين الله تعالى. و " زاد " يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غير الأول كـ " أَعْطَى وكَسَا " ، فيجوز حذف مفعوليه، وأحدهما اختصاراً واقتصاراً، تقول: " زاد المال " فهذا لازم، و " زدت زيداً أجراً " ومنه:**{ وَزِدْنَٰهُمْ هُدًى }** [الكهف: 13]، { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [البقرة: 10] و " زدت زيداً " ولا تذكر ما زدته، و " زدت مالاً " ولا تذكر من زدته. وألف " زاد " منقلبة عن ياء؛ لقولهم: " يزيد ". وقرأ ابن عامر وحمزة: " فزادهم " بالإمالة. وزاد حمزة إمالة " زاد " حيث وقع، و**{ زَاغَ }** [النجم: 17]**{ وَخَابَ }** [إبراهيم: 15]، و**{ طَابَ }** [النساء: 13]، و " حَاقَ " [الأنعام: 10]، والآخرون لا يميلونها. فصل في أوجه ورود لفظ المرض ورد لفظ " المرض " على أربعة أوجه: الأول: الشّك كهذه الآية. الثاني: الزِّنَا قال تعالى:**{ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ }** [الأحزاب: 32]. الثالث: الحَرَجُ قال تعالى:**{ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ }** [النساء: 102]. الرابع: المرض بعينه. قوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } نظيره قوله تعالى:**{ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }** [البقرة: 7] وقد تقدّم. و " أليم " هنا بمعنى: مُؤْلِم، كقوله: [الوافر] | **189- ونَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاَتٍ** | | **يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ** | | --- | --- | --- | ويجمع على " فُعَلاَء " كـ: " شريف وشرفاء " ، و " أفْعَال " مثل: " شريف وأشراف " ، ويجوز أن يكون " فعيل ": هُنَا للمُبَالغة محولاً من " فَعِل " بكسر العَيْنِ، وعلى هذا تكون نسبة الألم إلى العَذَابِ مجازاً، لأنّ الألم حلّ بمن وقع به العذاب لا بالعذاب، فهو نظير قولهم: " شِعْرٌ شَاعِر ". و { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } متعلّق بالاستقرار المقدر في " لهم " ، أي: استقر لهم عَذَابٌ أليم بسبب تكذيبهم. و " ما " يجوز أن تكون مصدرية، أي: بكونهم يكذبون، وهذا على القول بأن لـ " كان " مصدراً، وهو الصحيح عند بعضهم للتصريح به في قول الشاعر: [الطويل] | **190- بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سَادَ في قوْمِهِ الفَتَى** | | **وَكَوْنُكَ إِيَّاهُ عَلَيْكَ يَسِيرُ** | | --- | --- | --- | فقد صَرّح بالكون، ولا جائز أن يكون مصدر " كان " التَّامة لنصبه الخبر بعدها، وهو " إياه " على أنَّ للنظر في هذا البيت مجالاً ليس هذا موضعه. وعلى القول بأن لها مصدراً لا يجوز التصريح به معها، لا تقول: " كان زيد قائماً كوناً " ، قالوا: لأن الخبر كالعوض من المصدر، ولا يجمع بين العوض والمُعَوَّض منه، وحينئذ فلا حَاجَةَ إلى ضمير عائد على " ما "؛ لأنها حرف مصدري على الصحيح، خلافاً للأخفش وابن السّراجِ في جعل المصدرية اسماً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويجوز أن تكون " ما " بمعنى " الذي " ، وحينئذ فلا بُدّ من تقدير عائدٍ أي: بالذي كانوا يكذبونه، وجاز حَذْفُ العائد لاستكمال الشُّروط، وهو كونه منصوباً متصلاً بفعل، وليس ثمَّ عائد آخر. وزعم أبو البَقَاءِ أن كون " ما " موصولةً اسميةً هو الأظهر، قال: لأنّ الهاء المقدرة عائدة على " الَّذِي " لا على المصدر. وهذا الَّذِي قاله غير لازم، إذ لقائل أن يقول: لا نسلّم أنه لا بُدَّ من هاءٍ مقدّرة حتى يلزم جعل " ما " اسمية، بل من قرأ { يَكْذِبُونَ } مخففاً فهو عنده غير متعدٍّ لمفعول، ومن قرأه مشدداً فالمفعول محذوف لفهم المعنى أي: بما كانوا يكذبون الرَّسول والقرآن، أو يكون المشدّد بمعنى المخفّف، وقرأ الكوفيون: { يَكْذِبُونَ } بالفتح والتَّخفيف، والباقون بالضَّم والتشديد. و " يكذّبون " مضارع " كذَّب " بالتشديد، وله معانٍ كثيرة: الرَّمي بكذا، ومنه الآية الكريمة والتعدية نحو: " فَرَّحْتُ زيداً ". والتكثير نحو: " قَطَّعْتُ الأثواب ". والجعل على صفة نحو: " قَطَّرْتُه " أي: جعلته مقطراً؛ ومنه: [السريع] | **191- قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَارَاتُهَا** | | **مَا قَطَّرَ الفَارِسَ إِلاَّ أَنَا** | | --- | --- | --- | والتسمية نحو: " فَسَّقْتُهُ " أي: سميته فاسقاً والدعاء له نحو: " سَقَّيْتُهُ " أي قلت له: " سَقَاكَ الله ". أو الدعاء عليه نحو: " عَقَّرتُه " أي قلت: عَقْراً لك. والإقامة على الشي نحو: " مَرَّضتُه " والإزالة نحو: " قَذَّيْتُ عينه " أي: أزلت قَذَاها. والتوجّه نحو: " شَرَّقَ وغَرَّبَ " ، أي: توجّه نحو الشرق والغرب. واختصار الحكاية نحو: " أمَّنَ " قال: آمين. وموافقة " تَفَعَّلَ " و " فَعَلَ " مخففاً نحو: وَلَّى بمعنى تولّى، وقَدَّرَ بمعنى قَدَر، والإغناء عن " تَفَعَّلَ " و " فَعَلَ " مخففاً نحو " حَمَّرَ " أي تكلم بلغة " حمير " ، قالوا: " مَنْ دخل ظَفَارِ حَمَّرَ وعَرَّدَ في القِتَال " هو بمعنى عَرَدَ مخففاً، وإن لم يلفظ به. و " الكذب " اختلف النَّاس فيه، فقائل: هو الإخبار عن الشيء بخير ما هو عليه ذهناً وخارجاً، وقيل: بغير ما هو عليه في الخارج، سواء وافق اعتقاد المتكلّم أم لا. وقيل: الإخبار عنه اعتقاد المتكلّم سواء وافق ما في الخارج أم لا، والصّدق نقيضه. فصل في معنى الآية قال المفسرون: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شكّ ونفاق { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }؛ لأن الآيات كانت تنزل آيةً بعد آيةٍ، كلما كفروا بآيةٍ ازدادوا كفراً ونفاقاً، وذلك معنى قوله:**{ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** [التوبة: 125] والسورة لم تفعل ذلك، ولكنهم ازدادوا رجساً عند نزولها حين كفروا بها قبل ذلك، وهو كقوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً }** [نوح: 6] والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا، ولكنهم ازدادوا فراراً عنده، وقال:**{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً }** [فاطر: 42]. قالت المعتزلة: لو كان المراد من المرض - هاهنا - الكفر والجَهْل لكان قوله: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } محمولاً على الكُفْرِ والجَهْلِ، فيلزم أن يكون الله - تعالى - فاعلاً للكفر والجهل. قالت المعتزلة: ولا يجوز أن يكون الله - تعالى - فاعلاً للكفر والجَهْلِ لوجوه: أحدها: أنّ الكفار كانوا في غَايَة الحرص على الطَّعن في القرآن، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: إذا فعل الله الكفر فينا، فكيف تأمرنا بالإيمان؟ وثانيها: أنه - تعالى - ذكر هذه الآيات في معرض الذَّم لهم على كُفْرِهِمْ، فكيف يذمّهم على شيء خلقه الله فيهم. وثالثها: قوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فإن كان الله خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم، فأيّ ذنب لهم حتَّى يعذبهم؟ ورابعها: أنه - تعالى - أضافه إليهم بقوله: { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } وبأنهم يفسدون في الأرض، وأنهم هم السّفهاء، وأنهم إذا خلوا إلى شَيَاطينهم قالوا: إنا معكم، وإذا ثبت هذا فلا بُدّ من التأويل، وهو من وجوه: الأول: يحمل المرض على الغَمّ، لأنه يقال: مرض قلبي من أمر كذا، والمعنى: أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا إثبات أمر النبي - عليه أفضل الصلاة والسلام -، واستعلاء شأنه يوماً فيوماً، وذلك يؤدي إلى زوال رياستهم، كما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - مَرَّ بعبد الله بن أُبَيّ على حِمَارٍ، فقال له: نَحّ حمارك يا مُحَمّد فقد آذانا رِيْحُهُ، فقال له بعض الأنصار، اعْذُرْهُ يا رسول الله، فإنه كان مؤملاً أن نُتَوِّجَهُ الرياسةَ قبل أن تقدم علينا، فهؤلاء لمَّا اشتدَّ عليهم الغَمّ وصفهم الله بذلك فقال: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } أي: زادهم غمًّا على غَمِّهِمْ. وثانيها: المراد من زيادة المرض زيادة منع الألطاف فيكون بسبب ذلك المَنْع خاذلاً لهم. الثالث: أنَّ العرب تصف فتور النَّظر بالمرض يقولون: جاريةٌ مريضةُ الطرف. قال جرير: [البسيط] | **192- إِنَّ العُيُونَ الَّتِي في طَرْفِهَا** | | **مَرَضٌ قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلاَنَا** | | --- | --- | --- | فكذا المرض هاهنا إنما هو الفتور في النِّية؛ لأن قلوبهم كانت قويةً على المُحَاربة، والمُنَازعة، والمخاصمة، ثم انكسرت شوكتهم، فأخذوا في النِّفَاق بسبب ذلك الخوف، والانكسار، فقال تعالى: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } أي: زادهم الانْكِسَارَ والجُبْنَ والضعف، وحقق الله ذلك بقوله:**{ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ }** [الأحزاب: 26] الرابع: أن يحمل المرض على أَلَم القلب؛ لأنَّ المُبْتَلَى بالحَسَدِ والنِّفَاقِ، ومشاهدة ما يكره ربما صار ذلك سبباً لتغيير مِزَاَجِهِ، وتألُّم قلبه، وحَمْلُ اللَّفْظِ على هذا الوَجْهِ حَمْلٌ له على حقيقته، فكان أولى. وقوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } صريح أن كذبهم علّة للعذاب الأليم، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً. فأما ما يروى عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أنه كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته الكذب سمي بذلك. والمراد بكذبهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم غير مؤمنين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ)
أخرج أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من الصحابة. **" أن قائلاً من المسلمين قال: يا رسول الله ما النجاة غداً قال: لا تخادع الله قال وكيف نخادع الله؟ قال أن تعمل بما أمرك به تريد به غيره، فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله، فإن المرائي ينادي به يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا خاسر، يا غادر. ضل عملك، وبطل أجرك، فلا خلاق لك اليوم عند الله، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع، وقرأ آيات من القرآن { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً } [الكهف:110] الآية و { إن المنافقين يخادعون الله } [النساء: 142] الآية ".** وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله { يخادعون الله } قال: يظهرون لا إله إلا الله، يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك. وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال: سألت ابن زيد عن قوله { يخادعون الله والذين آمنوا } قال: هؤلاء المنافقون، يخادعون الله ورسوله، والذين آمنوا أنهم يؤمنون بما أظهروه. وعن قوله { وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون } قال: ما يشعرون بأنهم ضروا أنفسهم بما أسروا من الكفر والنفاق، ثم قرأ**{ يوم يبعثهم الله جميعاً }** [المجادلة: 18] قال هم المنافقون حتى بلغ قوله { ويحسبون أنهم على شيء }. وأخرج البيهقي في الشعب عن قيس بن سعد قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم **" المكر والخديعة في النار، لكنت أمكر هذه الأمة ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ)
{ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا } بـيانٌ ليقولُ وتوضيحٌ لما هو غرضُهم مما يقولون، أو استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الذهن، كأنه قيل: ما لهم يقولون ذلك وهم غيرُ مؤمنين، فقيل: يخادعون الله الخ، أي يخدعون، وقد قرىء كذلك، وإيثارُ صيغة المفاعلةِ لإفادة المبالغةِ في الكيفية، فإن الفعل متى غولب فيه بولغ فيه قطعاً، أو في الكمية، كما في الممارسة والمزاولة، فإنهم كانوا مداومين على الخَدْع، والخِدْعُ أن يوهم صاحبَه خلاف ما يريد به من المكروه ليوقعَه فيه من حيث لا يحتسب، أو يوهمَه المساعدةَ على ما يريد هو به ليغترّ بذلك فينجُوَ منه بسهولة، من قولهم ضبٌّ خادع وخُدَع وهو الذي إذا أمرّ الحارشُ يده على باب جُحره يوهمه الإقبالَ عليه فيخرج من بابه الآخر، وكلا المعنيـين مناسبٌ للمقام، فإنهم كانوا يريدون بما صنعوا أن يطّلعوا على أسرار المؤمنين فيذيعوها إلى المنابذين، وأن يدفعوا عن أنفسهم ما يصيب سائرَ الكفرة. وأياً ما كان فنسبتُه إلى الله سبحانه إما على طريق الاستعارة والتمثيل، لإفادة كمال شناعةِ جنايتهم أي يعامِلون معاملة الخادعين، وإما على طريقة المجاز العقلي، بأن يُنسب إليه تعالى ما حقه أن يُنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إبانةً لمكانته عنده تعالى، كما ينبىء عنه قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }** [الفتح، الآية 10] وقوله تعالى:**{ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ }** [النساء، الآية 80] مع إفادة كمال الشناعةِ كما مر، وإما لمجرد التوطئةِ والتمهيد لما بعده من نِسبته إلى الذين آمنوا، والإيذانِ بقوةِ اختصاصِهم به تعالى كما في قوله تعالى:**{ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }** ،[الأحزاب، الآية 57] وقوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }** [الأحزاب، الآية 57] وإبقاءُ صيغة المخادعةِ على معناها الحقيقي بناءً على زعمهم الفاسد، وترجمةٌ عن اعتقادهم الباطل، كأنه قيل: يزعمون أنهم يخدعون الله والله يخدعهم، أو على جعلها استعارة تَبَعِيّة، أو تمثيلاً لما أن صورةَ صُنعِهم مع الله تعالى والمؤمنين وصنعِه تعالى معهم بإجراء أحكامِ الإسلام عليهم، وهم عنده أخبثُ الكفرة، وأهلُ الدَّرْك الأسفلِ من النار استدراجاً لهم، وامتثالُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأمر الله تعالى في ذلك مجازاةٌ لهم بمثل صنيعهم صورةَ صنيعِ المتخادعين كما قيل، مما لا يرتضيه الذوق السليم. أما الأولُ فلأن المنافقين لو اعتقدوا أن الله تعالى يخدعُهم بمقابلة خَدْعِهم له لم يُتصَّور منهم التصدّي للخدْع، وأما الثاني فلأن مقتضىٰ المقام إيرادُ حالهم خاصةً وتصويرُها بما يليق بها من الصورة المستهجَنة، وبـيانُ أن غائلَتها آيلةٌ إليهم من حيث لا يحتسبون، كما يُعرب عنه قوله عز وعلا: { وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } فالتعرضُ لحال الجانب الآخر مما يُخِل بتوفية المقامِ حقَّه، وهو حالٌ من ضمير (يخادعون)، أي يفعلون والحالُ أنهم ما يُضرون بذلك إلا أنفسَهم، فإن دائرةَ فعلِهم مقصورةٌ عليهم، أو ما يخدعون حقيقةً إلا أنفسَهم، حيث يُغرونها بالأكاذيب فيُلْقُونها في مهاوي الردىٰ، وقرىء (وما يخادعون) والمعنى هو المعنى، ومن حافظ على الصيغة فيما قبلُ قال: وما يعامِلون تلك المعاملةَ الشبـيهةَ بمعاملة المخادِعين إلا أنفسَهم لأن ضررَها لا يحيق إلا بهم، أو ما يخادعون حقيقة إلا أنفسَهم حيث يُمنّوُنها الأباطيل، وهي أيضاً تغرُهم وتمنّيهم الأمانيَّ الفارغةَ، وقرىء (وما يُخَادِّعون) من التخديع (وما يخدعون) أي يختدعون، ويُخدَعون ويُخادَعون على البناء للمفعول، ونصبُ (أنفسَهم) بنزع الخافض، والنفسُ ذاتُ الشيء وحقيقتُه وقد يقال للروح لأن نفس الحيِّ به، وللقلب أيضاً لأنه محلُ الروح. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | أو مُتعلَّقُه، وللدم أيضاً لأن قِوامَها به، وللماء أيضاً لشدة حاجتها إليه والمراد هنا هو المعنى الأول لأن المقصود بـيانُ أن ضرر مخادعتهم راجعٌ إليهم لا يتخطاهم إلى غيرهم. وقوله تعالى: { وَمَا يَشْعُرُونَ } حال من ضمير ما يخدعون، أي يقتصرون على خِدْع أنفسِهم والحالُ أنهم ما يشعرون أي ما يُحسّون بذلك لتماديهم في الغَواية، وحذفُ المفعولِ إما لظهوره أو لعمومه، أي ما يشعرون بشيء أصلاً، جُعل لُحوقُ وبالِ ما صنعوا بهم في الظهور بمنزلة الأمر المحسوسِ الذي لا يخفىٰ إلا على مَؤوفِ الحواس مختلِّ المشاعر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ)
قوله تعالى: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ... } الآية. قال بعض العراقيين: الخداع والمكر تنبيه من جهة شهود السعايات والاكتفاء إلى الطاعات حتى لا يعتقد فيها بأنها أسباب الوصول إلى الحق. كلا. وقيل: إنما يخادع من لا يعرف البواطن، فأما من عرف البواطن فمن دخل معه فى الخداع فإنما يخادع نفسه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
عاد وبال خداعهم والعقوبة عليه إلى أنفسهم فصاروا في التحقيق كأنهم خادعوا أنفسهم، فما استهانوا إلا بأقدارهم، وما اسْتَخَفُّوا إلا بأنفسهم، وما ذاق وبالَ فعلهم سواهم، وما قطعوا إلا وتينَهم. ومن كان عالماً بحقائق المعلومات فمن رام خداعه إنما يخدع نفسه. والإشارة في هذه الآية أن من تناسى لطفه السابق وقال لي وبي ومني وأنا يقع في وهمه وظنه لك وبك ومنك وأنت، وهذا التوهم أصعب العقوبات لأنه يرى سراباً فيظنه شراباً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ يخادعون الله } بيان ليقول فى الآية السابقة وتوبيخ لما هو غرضهم مما يقولون او استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق اليه الذهن كانه قيل مالهم يقولون ذلك وهم غير مؤمنين فقيل يخادعون الخ اى يخدعون وانما اخرج فى زنة فاعل للمبالغة وخداعهم مع الله سبحانه ليس على ظاهره لانه لا تخفى عليه خافية ولانهم لم يقصدوا خديعته بل المراد ما مخادعة رسوله على حذف المضاف او على ان معاملة الرسول معاملة الله من حيث انه خليفته فى ارضه والناطق عنه باوامره ونواهيه مع عباده ففيه رفع درجة النبى صلى الله عليه وسلم حيث جعل خداعه خداعه واما ان صورة صنعهم مع الله من اظهار الايمان واستبطان الكفر وصنع الله معهم من اجراء احكام المسلمين عليهم وهم عنده تعالى اخبث الكفار واهل الدرك الاسفل من النار استدراجا لهم وامتثال الرسول والمؤمنين امر الله تعالى فى اخفاء حالهم واجراء حكم الاسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنع المخادعين فتكون المخادعة بين الاثنين والخدع ان يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه ليوقعه فيه من حيث لا يحتسب او يوهمه المساعدة على ما يريد هو به ليغتر بذلك فينجو منه بسهولة من قولهم ضب خادع وخدع وهو الذى اذا امر الحارش يده على باب حجره يوهمه الاقبال عليه فيخرج من بابه الآخر وكلا المعنيين مناسب للمقام فانهم كانوا يريدون بما صنعوا ان يطلعوا على اسرار المؤمنين فيذيعوها الى منابذيهم اى يشيعوها الى مخالفيهم واعدائهم وان يدفعوا عن انفسهم ما يصيب سائر الكفرة من القتل والنهب والاسر وان ينالوا به نظم مصالح الدنيا جميعا كأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الاعطاء { والذين آمنوا } اى يخادعون المؤمنين بقولهم اذا رأوهم آمنا وهم غير مؤمنين وهو عطف على الاول ويجوز حمله على الحقيقة فى حقهم فانه وسعهم كذا فى التيسير { وما يخدعون الا انفسهم } النفس ذات الشئ حقيقته وقد يقال للروح لان النفس الحى به وللقلب لانه محل الروح او متعلقة وللدم لان قوامها به وللماء ايضا لشدة حاجتها اليه والمراد هنا هو المعنى الاول لان المقصود بيان ان ضرر مخادعتهم راجع اليهم لا يتخطاهم الى غيرهم اى يفعلون ما يفعلون والحال انهم ما يضرون بذلك الا انفسم فان دائرة فعلهم مقصورة عليهم ومن حافظ على الصيغة قال وما يعاملون تلك المعاملة الشبيهة بمعاملة المخادعين الا انفسهم لان ضررها لا يحقيق الا بهم ووبال خداعهم راجع اليهم لان الله تعالى يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على نفاقهم فيفضحون فى الدنيا ويستوجبون العقاب فى العقبى قال المولى جلال الدين قدس سره | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | **بازئ خود ديدى اى شطرنج باز بازئ خصمت ببين دور ودراز** | | | | --- | --- | --- | وقيل يعاملهم على وفق ما عاملوا وذلك فيما جاء انهم اذا القوا فى النيران وعذبوا فيها طويلا من الزمان استغاثوا بالرحمن قيل لهم هذا الابواب قد فتحت فاخرجوا فيتبادرون الى الابواب فاذا انتهوا اليها اغلقت دونهم واعيدوا الى الآبار والتوابيت مع الشياطين والطواغيت قال تعالى**{ إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا }** الطارق 15- 16 وفى الحديث **" يؤمر بنفر من الناس يوم القيامة الى الجنة حتى اذا دنوا منها واستنشقوا رايحتها ونظروا الى قصورها والى ما اعد الله تعالى لاهلها نودوا ان اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة وندامة ما رجع الاولون والآخرون بمثلها فيقولون يا ربنا لو ادخلتنا النار قبل ان ترينا ما اريتنا من ثواب ما اعددت لاوليائك فيقول ذلك اردت بكم كنتم اذا خلوتم بى بارزتمونى بالعظائم فاذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤن الناس وتظهرون خلاف ما تنطوى قلوبكم عليه هبتم الدنيا ولم تهابونى اجللتم الناس ولم تجلونى وتركتم للناس ولم تتركوا لى ".** يعنى لاجل الناس فاليوم اذيقكم أليم عذابى مع ما حرمتكم يعنى من جزيل ثوابى كذا فى روضة العلماء وتنبيه الغافلين { وما يشعرون } حال من ضمير ما يخدعون اى يقتصرون على خدع انفسهم والحال انهم ما يحسون بذلك لتماديهم فى الغفلة والغواية جعل طوق وبال الخداع ورجوع ضرره اليهم فى الظهور كالمحسوس الذى لا يخفى الا على مؤوف الحواس وهذا تنزيل لهم منزله الجمادات وحط من مرتبة البهائم حيث سلب منهم الحس الحيوانى فهم ممن قيل فى حقهم بل هم اضل فلا يشعرون ابلغ وانسب من لا يعلمون. والشعور الاحساس اى علم الشئ علم حس ومشاعر الانسان حواسه سميت به لكون كل حاسة محلا للشعور والعظة فيه ان المنافق عمل ما عمل وهو لا يعلم بوبال ما عمل والمؤمن يعلم به فما عذره عند ربه ثم فى هذه الآية نفى العلم عنهم وفى قوله**{ وتكتمون الحق وأنتم تعلمون }** آل عمران 71. اثبات العلم لهم والتوفيق بينهما انهم علموا به حقيقة ولكن لم يعملوا بما علموا فكأنهم لم يعلموا وهو كقوله عز وجل**{ صم بكم عمى }** البقرة 18. فكانوا ناطقين سامعين ناظرين حقيقة لكن لم ينتفعوا بذلك فكانوا كأنهم صم بكم عمى فذو الآلة اذا لم ينتفع بها فهو وعادم اللآلة سواء والعالم الذى لا يعمل بعلمه فهو والجاهل سواء والغنى الذى لا ينتفع بماله فهو والفقير سواء فاثبات العلم للكفار الزام الحجة وذكر الجهل إثابت المنقضة بخلاف المؤمنين فان اثبات العلم لهم اثبات الكرامة وذكر الجهل تلقين عذر المعصية كذا فى التيسير. فعلى المؤمن ان يتحلى بالعلم والعمل ويجتنب عن الخطأ والزلل ويطيع ربه خالصا لوجهه الكريم ويعبده بقلب سليم وفى الحديث | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **" ان اخوف ما اخاف عليكم الشرك الاصغر " قالوا وما الشرك الاصغر يا رسول الله؟ قال " الرياء يقول الله تعالى يوم يجازى العباد باعمالهم اذهبوا الى الذين كنتم تراؤن لهم فى الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم خيرا "** وانما يقال لهم ذلك لان عملهم فى الدنيا كان على وجه الخداع فيعاملون فى الآخرة على وجه الخداع كذا فى تنبيه الغافلين قال السعدى | **جه قدر آورد بنده نزد رئيس كه زير قبا دارد اندام بيس** | | | | --- | --- | --- | وفى التأويلات النجمية الاشارة ان الله تعالى لما قدر لبعض الناس الشقاوة فى الازل اثمر بذر سر القدر المستور فى اعماله ثمرة مخادعة الله فى الظاهر ولا يشعر ان المخادعة نتيجة بذر سر القدر بطريق تزيين الدنيا فى نظره وحب شهواتها فى قلبه كما قال تعالى**{ زين للناس حب الشهوات }** آل عمران 14 الآية. فانخدع بزينة الدنيا وطلب شهواتها عن الله وطلب السعادة الاخروية فعلى الحقيقة هو المخادع الممكور كما قال تعالى { يخادعون الله وهو خادعهم } البقرة 9 فعلى هذا { وما يخدعون الا انفسهم } حقيقة فى صورة مخادعتهم الله والذين آمنوا لانهم كانوا قبل مخادعتهم الله مستوجبين النار بكفرهم مع امكان ظهور الايمان منهم فلما شرعوا فى اظهار النفاق بطريقة المخادعة نزلوا بقدم النفاق الدرك الاسفل من النار فابطلوا استعداد قبول الايمان وامكانه عن انفسهم فكانت مفسدة خداعهم ومكرهم راجعة الى انفسهم { وما يشعرون } اى ليس لهم الشعور بسر القدر الازلى وان معاملتهم فى المكر والخداع من نتايجه لان فى قلوبهم مرضا ومرض القلب ما يفهم من شعور سر القدر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
القراءة: قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو بضم الياء وبألف. الباقون بفتح الياء بلا الف في قوله { وما يخدعون } اللغة: قال ابو زيد: خدعت الرجل اخدعه خِدعاً بكسر الخاء وخديعة ويقال في المثل: إنك لأخدع من ضب حرشته. وقال ابن الاعرابي: الخادع: الفاسد من الطعام ومن كل شيء وانشد: | **ابيض اللون لذيذاً طعمه** | | **طيب الريق اذا الريق خدع** | | --- | --- | --- | اي تغير وفسد. وقال ابو عبيدة: يخادعون بمعنى يخدعون قال الشاعر: | **وَخادعت المنية عنك سراً** | | **فلا جزع الاوان ولا رواعا** | | --- | --- | --- | التفسير: وخداع المنافق إظهاره بلسانه من القول أو التصديق خلاف ما في قلبه من الشك والتكذيب وليس لأحد ان يقول: كيف يكون المنافق لله ولرسوله وللمؤمنين مخادعاً وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟. وذلك ان العرب تسمي من اظهر بلسانه غير ما في قلبه لينجو مما يخافه مخادعاً لمن تخلص منه بما اظهر له من التقية فلذلك سمي المنافق مخادعاً من حيث انه نجا من اجراء حكم الكفر عليه بما اظهره بلسانه فهو وان كان مخادعاً للمؤمنين فهو لنفسه مخادع لأنه يظهر لها بذلك أنه يعطيها أمنيتها وهو يوردها بذلك أليم العذاب وشديد الوبال، فلذلك قال: { وما يخدعون إلا أنفسهم }. وقوله: { وما يشعرون } يدل على بطلان قول من قال: إن الله لا يعذب إلا من كفر عناداً بعد علمه بوحدانيته ضرورة، لأنه أخبر عنهم بالنفاق وبأنهم لا يعلمون ذلك، والمفاعلة، وإن كانت تكون من اثنين، من كل واحد منهما لصاحبه، مثل ضاربت وقاتلت وغير ذلك، فقد ورد من هذا الوزن " فاعَلَ " بمعنى (فَعلَ) مثل: قاتله الله، وطابقت النعل، وعافاه الله، وغير ذلك. وقد حكينا أن معناه: يخدعون، كما قال في البيت المقدّم وقيل: إنه لم يخرج بذلك عن الباب ومعناه: ان المنافق يخادع الله بكذبه بلسانه على ما تقدم، والله يخادعه بخلافه بما فيه نجاة نفسه كما قال.**{ إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين }** وحكي عن الحسن ان معنى يخادعون الله انهم يخدعون نبيه لأن طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله كما قال:**{ وإن يريدوا أن يخدعوك }** وقيل معناه: انهم يعملون عمل المخادع كما يقال فلان يسخر من نفسه ومن قرأ { وما يخادعون } بألف طلب المشاكلة والازدواج كما قال:**{ وإن عاقبتم فعاقبوا }** وكما قال:**{ وجزاء سيئة سيئة مثلها }** وكما قال الشاعر: | **ألا لا يجهلن احد علينا** | | **فنجهل فوق جهل الجاهلينا** | | --- | --- | --- | وقال تعالى:**{ فيسخرون منهم سخر الله منهم }** ومثله كثير. وقيل في حجة من قرأ يخادعون بألف هو ان ينزل ما يخطر بباله ويهجس في نفسه من الخداع بمنزلة آخر يجازيه ذلك ويفاوضه فكأن الفعل من اثنين كما قال الشاعر وذكر حماراً أراد الورود: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | **تذكر من أنى ومن أين شربه** | | **يؤامر نفسيه كذي الهجمة الابل** | | --- | --- | --- | فجعل ما يكون منه من وروده الماء والتمثل بينهما بمنزلة نفسين وقال الآخر: | **وهل تطيق وداعاً ايها الرجل** | | | | --- | --- | --- | وعلى هذا قول من قرأ: { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } فوصل فخاطب نفسه ونظائر ذلك كثيرة وانما دعاهم إلى المخادعة امور احدها ـ التقية وخوف القتل والثاني ـ ليكرموهم إكرام المؤمنين. الثالث ـ ليأنسوا اليهم في اسرارهم فينقلوها إلى اعدائهم. والخداع مشتق من الخدع وهو اخفاء الشيء مع ايهام غيره ومنه المخدع: البيت الذي يخفى فيه الشيء فان قيل: أليس الكفار قد خدعوا المؤمنين بما اظهروا بالسنتهم حتى حقنوا بذلك دماءهم واموالهم ـ وان كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم ـ قيل: لا نقول خدعوا المؤمنين لأن اطلاق ذلك يوجب حقيقة الخديعة لكن نقول: خادعوهم وما خدعوهم بل خدعوا انفسهم، كما قال في الآية، ولو أن انساناً قاتل غيره، فقتل نفسه جاز أن يقال: انه قاتل فلاناً. فلم يقتل إلا نفسه، فيوجب مقاتلة صاحبه، وينفي عنه قتله. والنفس مأخوذة من النفاسة، لأنها أجل ما في الانسان. تقول: نَفَس ينفس نفاسة: اذا ضن به، وتنافسوا في الأمر: اذا تشاحوا. والنفس: الروح. ونفس عنه تنفيساً: اذا روح عن نفسه. والنّفس: الدم، ومنه النفساء، ونفست المرأة. والنفس: خاصة الشيء، وقوله: { وما يشعرون } يعني وما يعلمون، يقال ما شعر فلان بهذا الأمر وهو لا يشعر به اذ لم يدر، شعراً وشعوراً ومشعوراً قال الشاعر: | **عقوا بسهم فلم يشعر به احد** | | **ثم استفاءوا وقالوا حبذا الوضح** | | --- | --- | --- | يعني: لم يعلم به أحد. واصل الشعر: الدقة شعر به يشعر: اذا اعلمه بامر يدق ومنه الشعيرة والشعير، لأن في رأسهما كالشعر في الدقة. والمشاعر: العلامات في مناسك الحج كالموقف والطواف، وغيرهما. واشعرت البدنة، اذا اعلمتها على انها هدي. والشعار ما يلي الجسد، لأنه يلي شعر البدن. الاعراب: { إلا أنفسهم } نصب على الاستثناء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
إن للمنافقين قبائح كثيرة من رذائل القلب وخبائث النفس، ذكَر الله أربعة منها في هذه الآيات: أحدها: ما ذكَره في هذه الآية وهي المخادعة مع الله والمؤمنين. والخَدْعُ: أن توهِمَ غيرَك خلافَ ما تُخفيه في نفسك من المكروه، لتصرِفه عمّا هو بصدده من قولهم: خدع الضبُّ: إذا توارى في جُحره وضبٌّ خادعٌ وخدع إذا أوهم الحارس إقباله عليه ثمّ خرج من باب آخر. وأصله الإخفاء. ومنه المخدَع: للخزانة. والأخدعان: لعرقين خفيّين في العنق. فهو ضرب من النفاق والغرور والرياء في الأفعال الحسنة. وكلّ ذلك بخلاف ما يقتضيه دين الله وطريقه، لأنّ الدين يوجب الاستقامةَ والعدولَ عن الغُرور والتدليس والمكر والإساءة، كما يوجب الاخلاص:**{ أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ }** [الزمر:3]. وأما أنّهم كيف خادَعوا الله ولا تخفى عنه خافيةٌ، وكيف خادعَهم الله، والمؤمنون - كما تقتضيه صيغة المفاعلة - والخدعة صفةٌ مذمومةٌ؟ فالمراد من الأول أحد أمور خمسة: أولها: أن يكون ذلك على معتقَدهم وظنِّهم أنّ الله ممَّن يرضى عنهم بصورة الأعمال الصادرة عنهم سُمعة ورياءً، مع أن القصد منهم بما لم يكن إلا أغراض النفس والهوى، ومحبة الجاه والثروة ومتاع الدنيا؛ وذلك لاغترارهم وجهلهم بأن الناقد بصير، والطريق اليه خطيرٌ، والبضاعة معيبة مموّهة، ولا يُقْبَل عند الله إلاّ العمل الخالص، وكيف، ومن كان ادعاؤه الإيمان بالله واليوم الآخر نفاقاً، لم يكن قد عرف الحقّ وصفاته، وأن له تعلّقاً بكل معلومٍ، وله غِنىً عن كلّ ما سواه. فلم يبعد عن مثله تجويز أن يكون الله في زعمه مخدوعاً من وجه خفي، وربما يوجد في الناس - بل في أكثر الأكياس منهم - مَن كان هذا شأنهم مع الله، وقد شاهَدناهم وصحبناهم كثيراً. وثانيها أن يقال: صورة صنيعهم مع الله - حيث يتظاهرون بالإيمان ويستبطنون الكفر - صورة صنيع الخادعين. وثالثها: أنّ المراد مِن " يخادعون الله " ، المخادعة مع رسول الله، إمّا على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنّه خليفته في أرضه، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده، وهو مع ذلك خارجٌ عن مقام بشريّته، ذاهبٌ الى الله وملكوته، واصلٌ بكلّيته في بحبوحة قُربه ومطالعة جماله وجلاله، مستغرقٌ في شهود إلٰهيته، كما قال تعالى**{ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ }** [النساء:80]. وقوله:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ }** [الفتح:10]. وقال (صلّى الله عليه وآله): **" مَن رآني فقد رأى الحقّ "** وفي الحديث القدسي: **" من بارزَ وليّاً فقد بارزني. ومن عاداه فقد عادني ".** ورابعها: ما ذكرَه صاحب الكشاف، وهو أن يكون من قبيل قولهم: " أعجبني زيدٌ وكرمه " فيكون المعنى: يخادعون الذين آمنوا بالله، وفائدة هذه الطريقة، قوّة الاختصاص. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وله نظائر ذكرَها. وخامسها: ما في الكشّاف أيضاً، وهو أن يقال، عنى به " يخدعون " إلاّ انه أخرج في زنة المفاعلة للمبالغة، لأنّ الزنة في أصلها للمبالغة، والفعل متى غولِب فيه فاعله كان أبلغ وأحكم منه إذا زاوَله من غير مقابلة معارض، ويعضده قراءة من قرأ " يخدعون " ، ولأنه بيان: ليقول، ويحتمل الاستيناف، لذكر ما هو الغرَض من دعواهم الإيمان كذباً. والمراد من الثاني هو أنّ صورة صُنع الله معهم صورة صُنع الخادع، حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده أخبث الكفّار، وأهل الدرَك الأسفل من النار، استدراجاً لهم، وتلطّفاً في إغفالهم عمّا أعدّ لأوليائه، وردْعهم وطرْدهم من جناب قُدسه ومحلّ كرامته من حيث لا يشعرون، مجازاةً لهم بمثل صنيعهم. وكذا صورة صُنع الرسول والمؤمنين معهم من حيث امتثالهم أمر الله في إخفاء حالهم، وإجراء الإسلام عليهم، وربما كانوا ولاة في البلاد، وقُضاة في دار الإسلام يحكمون على أموال المسلمين وفروجهم ودمائهم، ويجب على الناس الاقتداء بهم في الصلاة، والامتثال لأمرهم ونهيهم تقيّة ومداراة معهم، كما أخبر عنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بقوله: سيكون بعدي اثرة، وقال للاصحاب: إنّكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة. وعن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): **" كيف أنتم وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيء؟ قلت: أَمَا والذي بعثَك بالحقّ، أضعُ سيفي على عاتقي، ثمّ أضرب به حتّى القاك، قال: أَوَلاَ أدلّك على خيرٍ من ذلك؟ تصبرُ حتى تَلقاني ".** فصل الداعي لهم على الخديعة مع المؤمنين يحتمل مقاصد وأغراضاً شتّى: منها: أنّهم دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفّار؛ من قتل نفوسِهم، ونهْب أموالهم، وسبي ذَراريهم، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): **" أُمرتُ أن اقاتل الناس حتّى يقولوا لا إلٰه إلاّ الله ".** ومنها: قبولهم عند أهل الاسلام وإجراؤهم مجرى المؤمنين في التعظيم والإكرام. ومنها: أنّهم ربما التمسوا من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والمؤمنين إفشاء أسراره واسرارهم لينقلوها الى أعدائهم من الكفّار. ومنها: أنّهم طمعوا الاقتسام من أموال الغنائم - الى غير ذلك من المقاصد والأغراض. وليس لك أن تقول: لمّا كان الله قادراً على أن يوحي الى نبيّه محمد (صلّى الله عليه وآله) جميع ما قصدوه وأضمروه في نفوسهم ليدفع شرَّهم وخداعهم وإفسادهم، فلِمَ لم يفعل ذلك ولَمْ يهتك أسرارهم؟ قلنا: وإنّه أيضاً قادرٌ على استيصال إبليس وذريّته أجمعين، ولكنّه أبقاهم وقوّاهم وأجراهم مجرى الدم في عروق الآدميّين، لأنّ في ذلك الحكمة والمصلحة ما لا يعلم غورُه إلاّ الله ومَن اهتدى بنوره، واطّلع على وَحيه من أهل الرسالة والوِلاية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فصل فيه حكمة مشرقية [كيف يخدع الانسان نفسه] قوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } ، أي خداع المنافقين لا ينجع إلاّ في أنفسهم بإهلاكها وتخسيرها، وايراثها الوبال والنكال بازدياد الظلمة والكفر والنفاق، واجتماع أسباب البُعد من الله والشقاء عليها، كما في قوله تعالى:**{ وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ }** [فاطر:43]. وكذا خداع الله المتسبّب عن خداعهم، يؤثّر في أنفسهم أبلغ تأثير، ويوبقهم أشد إيباق لقوله تعالى:**{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ }** [آل عمران:54]. وهم من غاية تعمّقهم في جهلهم، ما يُحسّون بذلك الأمر المكشوف الظاهر، إذ الشعور: علم الشيء إذا حصل بالحسّ، من الشعار، - ومشاعر الإنسان حواسّه - عنى به أنّ لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، لكنهم لتماديهم في الغفلة، كالذي به خدرٌ لا يحسّ، والمراد من النفْس: ذاتُ الشيء وحقيقته، ولا يختصّ بالأجسام لقوله تعالى:**{ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }** [المائدة:116]. وقد يطلق على جوهرٍ مفارقٍ عن الأجسام ذاتاً وحقيقةً، مقارنٍ لها فِعلاً وتأثيراً، ثمّ قيل للقلب: نفسٌ، لأنّه خليفة النفس في البدن، كما انّ الصدر خليفةُ الطبيعة. ويقال للدم: نفسٌ، لأنّ قوامَ حياتها البدنيّة بالدم، وللماء: نفس لفَرط حاجتها إليه، قال تعالى:**{ وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }** [الأنبياء:30]. وللرأي في قولهم: فلانٌ يوامر نفسَه: إذا تردّد في الأمر واتّجه له رأيان وداعيان، كأنّهم أرادوا داعيي النفس وناجِيَيْٰها، فسمّوهما نَفْسَين، لصدورهما عن النفس، أو تشبيهاً لهما بمُبَشرين يأمر أحدهما وينهى الآخر، وستطّلع على هذا السرّ. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: وما يخادعون. والباقون: يخدعون، وحجّة الأولين التطابق في اللفظ بين الكلامين. وحجة الباقين: أن المخادعة إنّما تكون بين اثنين، فلا يكون الإنسان الواحدُ مخادعاً لنفسه. أقول: وكذلك الخداع لا يكون إلاّ بين اثنين. والفرق بينهما: بأن الفعل في الأول من الجانبين، وكذا الانفعال، وفي الثاني: الفعل من جانب، والانفعال من جانب آخر، فالإنسان الواحد، كما لا يخادع مع نفسه، كذلك لا يخدع نفسَه أيضاً، فما هو الجواب لذاك، فهو الجواب لهذا. فالأوْلىٰ أن يراد حقيقة المخادعة، أي وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنّونها الأماني الباطلة، ويحدّثونها بالأكاذيب، من الإيعاد بالخير، والوعد بالشر، وغير ذلك، وكذلك أنفسهم تعدهم وتمنّيهم وتحدثهم بالأماني. وتحقيق ذلك يبتني على معرفة النفس الإنسانية وهي: أنّ للنفس الإنسانيّة نشآت ومقامات متعدّدة، كالحسيّة والخياليّة والعقليّة، ولها مراحل ومنازل متفاوتة، كالدنيا والبرزخ والآخرة، وأكثر الناس ما داموا في الدنيا، فمقام نفوسهم بالفعل عالَم الحسّ، ولها بالقوّة نشأة الروح والعقل، وذلك إذا لم يبطل استعدادها لحصول النشأة الباقية، وأما إذا بطل ذلك، بمسخ باطنهم وطمسه بالكليّة، فليست نفوسُهم هي أرواحاً ولا عقولاً لا بالفعل ولا بالقوّة، ولا لها نشأة إلا نشأة الحسّ فقط كنفوس سائر الحيوانات. وبعض الناس، ممّن خرجت نفسُه من القوّة الى الفعل في نشآته الثلاث - كالكمّل من العلماء الإلٰهيّين والأولياء - فلهم من الأحديّة الحقّة ما حازوا به الأكوان الثلاثة، ولا يشغلهم شأنٌ عن شأن ولا يمنعهم موطنٌ عن موطن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإذا تقرر هذا فنقول: النفس بحسب كلّ مقام ونشأة، هي غيرها بحسب مقام آخر ونشأة أُخرىٰ، وبواسطة مزاولة أفعال تُناسب النشأة الدنيويّة وتكريرها تَقَوّي الجنبة السافلة منها وتضعف الجنبة العالية، وبالعكس عند مزاولة أفعال تناسب النشأة الآخرة وتكريرها. وعند الرسوخ في الأفعال الشهويّة والغضبيّة، والأعمال البهيميّة والسبُعيّة، تبطل النشأة العقليّة والحياة الملكيّة بالكليّة، بحيث لا يُرجىٰ إمكان عودها، وذلك هو الخسران المبين، لأنّ النفس خسرت ذاتها الباقية ونشأتها العقليّة، وعوضت عنها بهذه النشأة الفانية والحياة الحسّية كما قال:**{ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }** [الأنعام:12]. بتضييع رأس مالهم، وهو الفطرة السليمة والعقل السليم. ومن هذا القبيل، وقوع المخادعة بين النفس وذاتها، لكونها ذات وجهين: وجهٌ الى الحسّ والشهوة والدنيا والشيطان، ووجهٌ الى العقل والعدالة والعقبى والملك، ولكلّ من الوجهين أسباب ومهيّجات، ودواعي وأغراض، وأشخاص من جنود الشيطان وجنود الملك، والمنازعة [بين القبيلين] والمطاردة قائمة في عرصة باطن الإنسان وميدان صدره، ومعركة قلبه عند بلوغ الإنسان الى مرتبة التمييز وصيرورته مكلّفاً، والمملكة الإنسانية - وهي البُنية بما فيها من القُوى والمشاعر والأجزاء - مشتركة بين الخصمين الى أن ينفتح لأحدهما ويتخلّص عن الآخر. وأكثر الناس ممَّن انفتحت عرصة باطنه ومملكة ظاهره للهوى والشيطان، وبقي لمقابلهما من العقل والملك اجتيازٌ واختلاسٌ وعبور فيها على الندرة، إلاّ من عصمه الله وقوّى الملكيّة على نفسه الشيطانيّة. فإذا ثبتَ حكم المحاربة بين النفس وذاتها باعتبار كونها ذات الوجهين، فكذلك حكم المخادعة بينها وبين ذاتها. كيف والحرب خدعة، فالمحاربة لا تخلو عن المخادعة، ومن هذا الباب حكم الآيات الدالّة على مغايرة النفس لذاتها كقوله:**{ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ }** [الأنفال:24] وقوله:**{ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ }** [النازعات:40]. وقوله:**{ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً }** [التحريم:6]. وقوله:**{ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ }** [المائدة:105]. وقول موسى:**{ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ }** [البقرة:54] الآية، وقوله:**{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ }** [التوبة:111]. فاعلم ما ذكرنا، فإنه مفتاح من مفاتيح معرفة النفس، التي بها تفتح أبواب خزائن علم القرآن إنشاء الله. وقرئ: " وما يخدّعون " بالتشديد من خدّع، ويَخدعون بفتح الياء بمعنى يختدعون، ويُخدَعون ويُخادَعون على صيغة المجهول. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ)
{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } الخداع والمخادعة والخدع بفتح الفاء وبكسرها مصادر، والخديعة اسم للمصدر والخدع ان تظهر الاحسان وتبطن الاساءة او تظهر الموافقة مع ابطان المخالفة، او تظهر الاعراض مع ابطان التعرّض، والخداع مصدر خادع بمعنى خدع او للمشاركة او للمبالغة فانّهم باظهارهم الايمان يظهرون الموافقة مع ابطانهم المخالفة والله تعالى بامهالهم فى الخديعة والانعام عليهم كأنّه يريهم الاعراض والاحسان مع انّه يخفى التّعرّض والاساءة والرّسول والمؤمنون بمداراتهم معهم يظهرون الموافقة مع علمهم بالمخالفة منهم باطناً وابطانهم المخالفة وكأنّهم يغالبون الله والرّسول والمؤمنين فى الخديعة، و المراد بالله واجد الوجود او الرّسول (ص) او علىٌّ (ع) لانّ آلهيّته تعالى شأنه ظهرت بهما { وَمَا يَخْدَعُونَ } قرء يخدعون بالبناء للفاعل والمفعول ويخادعون كذلك ويخدّعون من التّفعيل ويخدّعون من الافتعال { إِلاَّ أَنْفُسَهُم } فانّهم بمخادعة الرّسول والمؤمنين يضرّون بأنفسهم ويحسبون أنّهم يحسنون صنعاً لأنّهم ينزلون أنفسهم عن مقاماتهم الانسانيّة المقتضية للصّدق والمحبّة والانس الى الشّيطانيّة المقتضية للكذب والبغض والتوحّش ويقطعون عمّا يجب ان يوصل ويصلون الى ما يجب ان يقطع منه من الرّسول والشّيطان، والنّفس تطلق على ذات الشيء وعلى النّفس الانسانيّة الّتى هى النّفس الحيوانيّة المستضيئة بنور العقل؛ ويجوز ارادتهما من الانفس هاهنا، وعلى النّفس الحيوانيّة، وعلى النفس النّباتيّة، وعلى الدّم لمناسبة ما بين تلك الانفس والدّم، وعلى مراتب النّفس الانسانيّة من الأمّارة واللّوّامة والمطمئنّة، وامّا تفسيرها بالامام فى أمثال: **" من عرف نفسه فقد عرف ربّه، وأعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه "** ، واعرف نفسك تعرف ربّك؛ فانّما هو لكون الامام ذات كل شيئٍ ولا سيّما ذات من بايع معه وقبل ولايته { وَمَا يَشْعُرُونَ } ما يعلمون او يتفطّنون او يحسّون بالمدارك وكأنّه اراد به احد المعنيين الاخيرين حتّى يكون مع ما يأتى من قوله ولكن لا يعلمون تأسيساً، وكثيرا ما يستعمل الشعور فى الالتفات الى المدرك، والمقصود انّ خداعهم لأنفسهم من كثرة ظهوره كأنّه محسوس بالحواسّ الظّاهرة، وعدم ادراكهم له مع ظهوره من عدم التفاتهم وشعورهم مثل من يقع ابصاره على المرئىّ لكن لشدّة اشتغال النّفس بامر آخر لا يشعر بادراكه ولم يأت هاهنا باداة الاستدراك كما أتى بها فيما بعد من قوله ولكن لا يشعرون وقوله { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } لانّه تعالى جرى فى مخاطباته على طريقة المخاطبات الانسانيّة والاغلب انّ المتكلّم فى اوّل ذكر ذمائم المذموم لا يكون غضبه شديداً فلا يناسبه البسط والتأكيد والتّغليظ ولذا لم يؤكّد الكلام السّابق عليه بخلاف ما يأتى، والمخاطب فى اوّل الكلام يكون خالى الذّهن عن الرّدّ والشّكّ والقبول وعن توهّم الخلاف والوفاق فلا يناسبه التأكيد واداة الاستدراك أيضاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ)
{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } الخدع بإسكان الدال مع كسر الخاء قبلها أو فتح الخاء أن توهم غيرك خلاف ما نخفيه من المكروه الذى تريد إيقاعه فيه إخفاء تنزله به عما هو بصدده من الاستعداد والمدافعة لو علم، وقد يطلق على فعل المكروه من حيث لا يشعر المفعول فيه ولو بلا إيهام، لأن أصله الإخفاء، ومن المخدع للخزانة بضم الميم وكسرها، وهو بيت فى بيت، ويحتمل أن يكون سمى بذلك باعتبار أن بانيه كأنه جعله خادعاً لمن رام تناول ما فيه، وقد بينته فى كتاب الصلاة فى شرح النيل، ومنه الأخدعان لعرقين خفيفين فى العنق، فاستعمل المخدع والأخدع فى مطلق الإخفاء، ومن استعماله بمعنى إيهام خلاف ما يخفى من المكروه للتنزيل على الاستعداد قوله خدع الضب، وخدع كفرح، ويقال أيضاً خدع الضب إذا استتر فى بيته، ثم أوهم السائل إقباله إلى الباب الذى رصده فيه، ثم خرج من باب آخر، والوصف خادع كضارب، وخدع كفرح، ويقال أيضاً بمعنى مطلق الاستتار، وأما المخادعة والخداع اللذان اشتق من أحدهما يخادع الذى فى الآية، فبمعنى أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه على الحد السابق، ويوهمك غيرك خلاف ما يخفيه من المكروه كذلك، لأن المفاعلة والفعال بين متعدد، وذلك لا يجوز فى حق الله تعالى لا يخفى عليه شئ فلا يصح لهؤلاء أن يدعو إخفاء شئ عليه، ولأنهم لم يقصدوا إضراره خفية ولا جهراً إذ لا يلحقه ضر ولا نفع، وهو الغنى على الإطلاق، ولأنه تعالى لا يوهم غيره تنزيلا له، لأنه إنما يفعل لذلك من عجز عن المقابلة بما يكره، فتحمل الآية على أنه لعلهم اعتقدوا تجويز أن يكون الله مخدوعاً مصاباً بمكروه من وجه خفى عنه، وأن يدلس عباده ويخدعهم، لأن إيمانهم به تعالى نفاق، فليسوا عارفين بصفاته، ولا بأنه لا يخفى عنه شئ، ولا بأنه غنى عن فعل القبيح. وإما على الاستعارة التمثيلية التبعية إذ شبه متعدداً بمتعدد لجامع منتزع من متعدد شبه إظهارهم الإيمان، وإخفاء الكفر وإجراء الله عز وجل حكم المؤمنين عليهم عالماً بكفرهم، مستدرجاً لهم، وامتثاله مع المؤمنين صلى الله عليه وسلم. أمر الله سبحانه وتعالى فى إخفاء حالهم، وإجراء حكم الإسلام. عليهم جزاء على صنعهم بالمخادعة التى تقع بين اثنين من كل واحد للآخر، فسمى ذلك باسم المخادعة والخداع، فاشتق منه يخادع، ووجه الشبه الجامع وجود أمور مخفاة وأمور مظهرة تخالفهما، كذا ظهر لى، وإما على تقدير مضاف أى يخادعون رسول الله والذين آمنوا، فعلى الوجهين الأولين يكون رسول الله داخلا فى لفظ المؤمنين على هذا الوجه الثالث لا يدخل فيه لأنه مقدر كما ترى، وإما على أن معاملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم، معاملة الله سبحانه وتعالى، لأنه خليفة الله سبحانه وتعالى، والمجازى فى الهيئة التركيبية، وهو مجاز بالحذف، وكان بعد الحذف فى النسبة الإيقاعية إيقاع نسبة المخادعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولما حذف المضاف كان ظاهر الكلام إيقاعها عليه تعالى عن ذلك وعن كل نقص، وهذا الوجه قول الحسن بن أبى الحسن، يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأضاف الأمر إلى الله تجوزا لتعلق رسوله به، ويدل لهذا الوجه قوله جل وعلا**{ من يطع الرسول فقد أطاع الله }** وقوله تبارك وتعالى**{ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم }** كما قال قاتل بنو فلان السلطان، والمراد أنهم قاتلوا من قام مقامه فى حضور القتال وتدبيره وجنوده، وإما على أن ذكر الله لقوة الاختصاص والمكانة، وللتمهيد به لذكر ما يختص به، وهم المؤمنون. كما يقال أعجبنى زيد وعلمه، فالأصل أعجبنى علم زيد، ويخادعون المؤمنين، ولما كان للمؤمنين عند الله منزلة عظيمة ذكر الله قبل ذكرهم، ومن ذلك النوع المفعول الأول من باب علم، والمفعول الثانى من باب اعلم، فان المقصود بالذات فى قولك علمت زيداً فاضلا أنما هو معرفتك بفضل زيد لا معرفة زيد فى ذاته، والمقصود بالذات فى قولك أعلمت عمراً زيداً فاضلا إطلاعك عمراً على فضل زيد لا على ذاته، وإن قلت فهل يجوز أن يراد بلفظ الجلالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. مجازاً؟.. قلت لا يجوز للإجماع على أن قولك الله لا يطيلق على غيره سبحانه وتعالى حقيقة ولا مجازاً، وإما على أن المفاعلة ليست على بابها، بل لموافقة المجرد، وكأنه قيل يخدعون الله والذين آمنوا، بإسكان الخاء، وفتح الياء قبله، لكن هذا الوجه إنما يكفى فى دفع أنه سبحانه وتعالى يعجز عن الإضرار جهراً - تعالى عن ذلك - فيبقى البحث كيف يخدعونه، وإنما يخدعون من تخفى عليه الأشياء. فيجاب بأحد الأوجه السابقة عن هذا البحث، ويدل على أن المفاعلة ليست على بابها قراءة أبى حيوة يخدعون، بفتح الياء وإسكان الخاء، ويدعل أيضاً على أنها ليست على بابها أن قوله عز وجل { يخادعون } بيان لقوله**{ يقول آمنا بالله }** أو استئناف بذكر ما هو الغرض فى الخدع، وإيضاح الدلالة أنهم إنما يقولون**{ آمنا بالله وباليوم الآخر }** للمؤمنين، كأنه قيل**{ ومن الناس من يقول }** للمؤمنين لا لله، وهذا لا يناسبه أن قال يخادعون الله على حقيقة المفاعلة، اللهم إلا بأحد الاحتمالات السابقة، والمراد بالدلالة المذكورة المناسبة، ووجه الاستئناف أن ذلك بمنزلة أن يقال ما العلة فى ادعائهم الإيمان كاذبين؟ فيجاب بأن العلة فى ذلك إرادتهم الخدع، وإن قلت إذا كان المراد غير المفاعلة فلم جاء اللفظ بصيغتها؟. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . قلت للتأكيد، لأن صيغة المفاعلة وصفة الاجتهاد كل من المتقابلين أن يغلب الآخر ويقوى فعله على فعل الآخر، وحينئذ يقوى داعى الاجتهاد ليكون غالباً، والفعل الذى هو بهذه المنزلة يكون أبلغ وأحكم من الفعل الذى يفعله الفاعل وحده بلا مبالغة لغيره، فاستعملت صيغته فى التأكيد والقوة، ولو خرجت عن حقيقة المفاعلة وعرضهم فى الخدع أن ينجو مما يلحق الكفار من قتل، وسبى وغنم واستعباد وجزية وذل، وأن يكرمهم المؤمنون بما يكرم به بعض المؤمنين بعضاً، ويحسن إليهم ويعطونهم من المغانم، وأن يطلعوا على أسرار المؤمنين بمخالطتهم، وينقلونها إلى أحبائهم الكفرة الذين بينهم وبينهم مواصلة بما أحب كل من الآخر، ولم يميزهم الله والنبى للمؤمنين لمصلحة كسر شوكتهم، وإقامة الفتنة، ودفع أن يقول قائل إن محمداً وأصحابه يجفون من ألفى إليهم السلم وغير ذلك، كذا ظهر لى وإبليس أشد فساداً وقد أبقاه الله جل وعلا للملائكة. { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ } المراد بأنفسهم ذواتهم لا النفس الأمارة بالسوء، كأنه قيل وما يخادعون إلا إياهم، فالمفاعلة ليست على بابها، بل هى بمعنى الفعل كأنه قيل وما يخدعون إلا أنفسهم، بفتح الياء وإسكان الخاء، كما قال الكسائى وحمزة وابن عامر وعاصم، ولكن أتى بصفة المفاعلة فى القراءة الأولى، وهى قراءة نافع وابن كثير وأبى عمرو لتأكيد المعنى، وأن دائرة ذلك الخداع العظيم راجعة إليهم وضررها محيط بهم، بأن يفضحهم الله سبحانه لنبيه، ويعاقبهم فى الدنيا والآخرة، ولا يصل الله سبحانه ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا المؤمنين، ويدل على التأكيد قراءة يخدعون، بضم الياء وفتح الخاء وكسر الدال مشددة، وإسقاط الألف بينهما، فإن التشديد فيها للمبالغة، ولا مفاعلة فيها، ويدل عليه أيضاً قراءتهم يخدعون، بفتح الياء والخاء وكسر الدال مشددة، وإسقاط الألف، بوزن يفتعلون، ومن معانى الافتعال التأكيد، وأصلها يختدعون، بإسكان الخاء، ونقلت إليها حركة التاء، وأبدلت التاء دالا وأدغمت الدال فى الدال، وإن قلت كيف يخدع الإنسان نفسه والخدع إنما يتصور فى من لم يعلم؟ وهم يعلمون فى زعمهم أن ما يفعلونه لا يضرهم؟ قلت شبه فعلهم الشىء الموقع لهم فى المهالك، وهم لا يعلمون أنه يوقعهم فيها بفعل الإنسان شيئاً يضر الآخر، بحيث لا يعلم به الآخر، ويدل أيضاً على عدم حقيقة المفاعلة قراءة وما يخدعون، بالبناء للمفعول، وإسكان الخاء، وأما قراءة يخادعون بالبناء للمفعول، وإثبات الألف، فتأول على غير المفاعلة كما أولت قراءة نافع ومن معه، ووجه نصب { أَنْفُسَهُمْ } على القراءتين الأخيرتين ذواتى البناء للمفعول، أنه على تقدير فى، أو عن، أى إلا عن أنفسهم، أو لا فى أنفسهم، ويجوز على القراءة كلها أن يراد بالأنفس آراؤهم أو قلوبهم أو أرواحهم، فإن النفس يطلق على ذات الشىء كما مر، وعلى القلب لأنه محمل الرافع أو متعلقها، ولأن الذات إنما تعتبر به، وهو ملكها، تصلح به وتفسد به كما فى الحديث، وتعتبر به وباللسان فى عرف، كما قيل فى أن المرء بأصغريه، وطلق على الروح أيضاً، لأن الذات تنمو وينتفع بها إذا كانت الروح فيها، إذ لا نفع بميتة وعلو الدم، لأن قوام الذات بالدم، ألا ترى إذا نزف دمه من جرح مثلا مات، وعلى الماء شدة الحاجة إليه، قال الله سبحانه وتعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وجعلنا من الماء كل شىء حى }** وعلى الرأى لأنه ينبعث من الذات، يقال فلان يؤامر نفسه بالتثنية إذا تردد بين رأيين، سموهما نفسين لصدورهما عن النفس، أو لشبههما بذاتين مشيرتين عليه فى أمر، ويقال أيضاً يؤامر نفسه بالإفراد، أى رأيه سموه نفساً للعلتين، وإطلاق النفس على الرأى للشبه المذكور وهو العلة الثانية استعارة تحقيقية، وللصدور المذكور وهو العلة الأولى تسمية للمسبب باسم السبب، والنفس حقيقة فى الذات مجاز فيما عداها، لأن الذات تكون بالروح وبالقلب وبالدم وبالماء، ويجوز إبقاء المفاعلة فى الآية على بابها مجازاً، ويكون النفس على هذا الوجه، هى الأمارة بالسوء، وذلك أن يشبههم فى مطاوعتهم إياها بمن يقر إنساناً، ولو كانوا لا يعلمون أن ذلك وبال عليهم، وتشبه هى فى تحديثهم بالأمانى الفارغة، ومخالفة من لا تخفى عليه خافية، بمن يقر إنساناً كذلك. { وَمَا يَشْعُرُونَ } أن مضرة الخداع راجعة إليهم لتمادى غفلتهم والشعور الإحساس، ونفيه أبلغ من نفى العلم، ولذلك قال { وَمَا يَشْعُرُونَ } ، ولم يقل وما يعلمون، فإنه يلوح بالمضرة اللاحقة لهم بالخداع، كالشىء الذى يحس، وأنهم كمن جعل الله فى حواسه آفة، فلم يظهر له الشىء الذى يحسه، ومشاعر الإنسان حواسه، وأصل ذلك كله الشعر، بكسر الشين وفتحها وإسكان العين، وهو الفهم، ومنه الشعار للعلامة يعرف بها الإنسان فى الحرب أو فى غيرها، وقالت طائفة المعنى وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم فى قولهم آمنا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
{ يُخَٰدِعُونَ } أي يخدعون، بفتح الياء وإسكان الخاء، فالمفاعلة ليست على بابها، بمعنى الفعل، وهو إظهار ما يوهم السلامة وإبطان ما يقتضى الإضرار بالغير، أو التخلص منه، أو هو أن توهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه، وتصيبه به، ودخل فى المكروه جلب نفع منه لا يسمح به لك أو لغيرك**{ آللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا }** [البقرة: 257] يظهرون خلاف ما أبطنوا، ويظنون أن الله لا يعلم ذلك منهم. فأخبرنا الله عز وجل، أنهم عاملوا الله والمؤمنين بالمكر، والله لا يخفى عليه شىء، أو يخادعون الله مخادعة مجاز، على أنهم معتقدون لكون الله عالماً بما فى قلوبهم، وذلك أن تلفظهم بالإيمان، وإظهار مقتضياته مع مخالفته فى الأعمال والقلوب شبيه بالخداع، ويقدر محذوف، أى، ويخادعون المؤمنين خداعا حقيقيا، إذ يدفعون بإظهار الإيمان وشأنه القتل والسبى وما يصنع بالمشركين، ويجلبون الإكرام والمعاملة بمعاملة المؤمنين، وإنما قدرت محذوفا لئلا يكون لفظ يخادع فى مجازه وحقيقته معا، أو أراد يخادعون الذين آمنوا، وذكر الله معهم إكراما وتعظيماً لهم، بأنه من خانهم فقد خان الله، أو يخادعون نبى الله، قال الله تعالى:**{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله }** [الفتح: 10]**{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ }** [النساء: 80] والحاصل أن لفظ المفاعلة مبالغة، ويجوز إبقاؤها على معناها مجازاً، وذلك، أنهم أظهروا الإيمان، وهم كافرون، والله عز وجل أجرى عليهم أحكام المؤمنين، وهم عنده غير مؤمنين، ولهم عنده الدرك الأسفل من النار، وإجراء المؤمنين تلك الأحكام تشبه صورة المكر بهم، إذ ليس لهم ما لمن تحقق إيمانه فى الآخرة، وذلك استعارة تمثيلية فى الكلام، أو مفردة تبعية فى يخادعون، والله عز وجل لا يكون خادعاً إذ لا يخاف أحداً، ولا ينقض فعله أحد إذا أجهره، ولا مخدوعا، لأنه لا يخفى عليه شىء، ولا يناله مكروه، ولاينتفع بشىء، وإذا قدرنا يخادعون نبى الله الله تقدير معنى ففيه إيقاع الفعل على غير ما يوقع عليه للملابسة بينهما، وهى الخلافة، فذلك مجاز عقلى فى النسبة الإيقاعية لا الوقوعية { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } ما يعاملون بمضرة الخداع إلا أنفسهم؛ وهى الافتضاح بإخبار الله، سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بما أحفوه، والعقاب فى الآخرة { وَمَا يَشْعُرُونَ } لا يعلمون أن وبال العقاب راجع إليهم، إنما فسرت يخادع بيخدع لأن الله والمؤمنين لا يخدعونهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- )
جملة يخادعون مبدلة من جملة يقول آمنا بالله.. الخ، لأنهم ما قصدوا بهذا القول إلا الخداع، ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا أو حالا من فاعل يقول. ويخادعون من خادع الدال على الاشتراك في الخدع، وهو أن يوهم أحد غيره بقوله أو فعله عكس ما يريده به من المكروه، من خدع الضب إذا أوهم حارشه أنه يريد الخروج من الجهة التي أدخل الحارش فيها يده، ثم يخرج من جهة أخرى لئلا يرقبه الحارش فيصطاده. والاشتراك هنا شكل من وجهين: أولهما: أنه إذا أمكن للمنافقين أن يخدعوا المؤمنين بإظهارهم جميل القول وحسن المعاملة وإعلانهم الايمان، فلا يمكنهم بحال أن يخدعوا قيوم السماوات والأرض، العليم بما تنطوي عليه حنايا الضمائر، وما تكتنفه أعماق النفوس. ثانيهما: إذا كان الخدع من ديدن المنافقين فليس هو من شأن المؤمنين، لأنه صفة مذمومة، اللهم إلا ما استثنى من خدع العدو في الحرب لأجل إحراز النصر. وقد يحمد من المؤمن التغاضي والصفح اللذان قد يتوهم أنهما ناشئان عن البله، كما جاء في الحديث **" المؤمن غر كريم "** وهو معنى قول الفرزدق: | **استمطروا من قريش كل منخدع** | | **إن الكريم إذا خادعته انخدعا** | | --- | --- | --- | وقول ذي الرمة: | **تلك الفتاة التي علقتها عرضا** | | **إن الحليم وذا الاسلام يختلب** | | --- | --- | --- | فلا عجب إن كانوا مخدوعين بظواهر أعمال المنافقين؛ لأن من شأنهم إحسان الظن وغض الطرف عن الهفوات، مع توقد فطنهم ونفاذ بصائرهم، غير أنه لا يحمد بحال أن يكون شأنهم شأن المنافقين في إظهار غير ما يبطنون وإعلان خلاف ما يسرون. وإذا كان صدور الخدع من المؤمنين ممتنعا فأحرى أن يمتنع من عالم الغيب والشهادة الذي هو على كل شيء قدير. ومن الظاهر بداهة أن الخداع لا يكون إلا لضعف الخادع وقوة المخدوع، وإذا كان هذا في البشر فكيف يمكن صدور مثله ممن لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وأجيب عن الأول بوجوه: أولها: أن الخداع قد يصدر من أحد لغيره فيصادف غير مقصوده، كمن يخدع عامل الحاكم أو وكيله فينبه بأن صنيعه هذا يتجه إلى الحاكم، وهكذا شأن المنافقين، فهم قصدوا بخداعهم المؤمنين الذين صُنِعوا على عين الله وأحيطوا بكلاءته وشُمِلوا برعايته، فنبه أولئك المنافقون المخادعون بأن خداعهم للمؤمنين هو في حقيقته خداع لله سبحانه، إذ هو الكفيل بنصر عباده ودفع المكاره والأذى عنهم. ثانيها: أن صورة صنيعهم مع الله سبحانه صورة صنيع المخادع، فهم يظهرون الايمان ويبطنون خلافه، ويدعون الانخراط في سلك المؤمنين وهم أكثر ما يكونون بعدا عنهم وكيدا لهم، على أنه لا يبعد أن يكون هذا التعبير بالنظر إلى معتقداتهم الفاسدة ونواياهم السيئة في حق الله تعالى، فإن كثيرا منهم كانوا من اليهود، واليهود لا يتورعون عن مثل هذا الاعتقاد، كيف وهم الذين حكى الله عنهم قولهم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ }** [آل عمران: 181] وقولهم:**{ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ }** [المائدة: 64]. وما بأيديهم من نسخ التوراة المحرفة شاهد على أنهم أضل الناس اعتقادا في الله، وأبعدهم عن أن يقدروه حق قدره، تعالى الله عما يقولون وعما يعتقدون علوا كبيرا، ومن كانت هذه عقيدته فليس ببعيد أن يعتقد أنه يخدع الله سبحانه فضلا عن اعتقاده مخادعة المؤمنين. ثالثها: أن المراد بمخادعتهم لله مخادعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر اسم الله عز وجل بدلا من اسمه تشريفا له وإعلاء لقدره وإعلاما أنه محفوف بعصمة الله ومحاط بعنايته، فلا يخلص إليه شيء من كيد الكائدين، وذلك كما أخبر تعالى أن مبايعته صلى الله عليه وسلم هي مبايعة لله وذلك في قوله:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ }** [الفتح: 10]. وهذا الوجه مع ما فيه من التنويه بقدره صلى الله عليه وسلم غير خال من الضعف، فإن إطلاق اسم الله مع قصد رسوله لا يصح إلا بقرينة كما في آية المبايعة. وأجيب عن الثاني بوجوه أيضا: أولها: أن وزن فاعل لا يستلزم المشاركة دائما، فقد يأتي خاليا من معناها، نحو عالج المريض، وناهز الاحتلام، فإن الفعل فيها جميعا صادر من جهة واحدة، فلا يبعد أن يأتي خادع بمعنى خدع، وكثيرا ما يكون ذلك لقصد المبالغة، ومن المعلوم أن المنافقين كانوا يجهدون أنفسهم في خدع المؤمنين وابتكار الحيل والأساليب المؤدية لهذا الغرض، فكان فعلهم كأنما يصدر من أكثر من جهة، وتؤيد هذا التأويل قراءة يخدعون الله وهو إنما يدفع هذا الاشكال دون الذي قبله. ثانيها: أن المؤمنين أمروا من قبل الله بالاغضاء عن بوادر المنافقين وفلتات ألسنتهم وهفوات أفعالهم وكبوات تصرفاتهم التي يستشف من ورائها النفاق، كما أمروا أن يعاملوهم معاملة أنفسهم، فكان ذلك مما يجرئهم على الاسترسال في غيهم والانهماك في فسادهم، متخيلين أنهم قد أحرزوا أنفسهم من الخطر ووقوها المخاوف بهذا الصنيع، فكان هذا الأمر منه تعالى شبيها بخدعهم، لأن من ورائه ما ينتظرهم من العقاب الأليم والعذاب العظيم، فجاز أن يستعار لهذه المعاملة اسم الخداع، ولما كان صدور ذلك من المؤمنين بإذن منه تعالى، صح إسناد ذلك إليه وإليهم، ونحوه في إسناد الخدع إلى الله في قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142]. ثالثها: حمل هذا التعبير على الاستعارة التمثيلية، تشبيها لما يحصل - من إملاء الله لهم والابقاء عليهم ومعاملة المؤمنين إياهم معاملة أنفسهم في إجراء أحكام الاسلام عليهم - بفعل من يخدع غيره بمختلف الأساليب في المعاملة، كما تشبه بذلك أيضا حالتهم في معاملتهم للمؤمنين ولدين الله، ثم بيّن سبحانه ما يؤول إليه خداعهم بقوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } ، حيث نفى سبحانه أن تكون مغبة هذا الخداع واقعة إلا عليهم، لأنهم الذين يجنون ثمرتها المرة، ويكابدون غصصها المؤلمة، وقد يتبادر للسامع أو القارئ وجود تناقض بين ما في صدر الكلام وعجزه، حيث أثبت تعالى أولا أنهم يخادعون الله والذين آمنوا، ثم نفى ما أثبته ضمن قوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والجواب أن المنفي غير المثبت، فما عبر عنه بالخداع أولا هو تلك الأقوال والأعمال التي كانوا يبدونها مع انطوائهم على نقائضها، ثم أطلق اسم الخداع على لازم معاملتهم، وهو الضر الماحق والعاقبة الوخيمة، وذلك واقع بهم دون غيرهم كما علمت، وهذا من باب المجاز على المجاز، لأن المخادعة استعيرت أولا لما استعيرت له من معاملتهم للمؤمنين ودين الله، ثم نزلت منزلة الحقيقة فاستعملت مجازا في لازم ذلك المعنى الذي استعيرت له. وهذه الجملة حال من فاعل { يخادعون } في الجملة التي قبلها، وفيها قراءتان مشهورتان: الأولى: { وما يخدعون } وبها قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، من السبعة، كما قرأ بها أبو جعفر ويعقوب، من سائر العشرة. والثانية: { وما يخادعون } بزيادة ألف المفاعلة، وبها قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو، من السبعة، وخلف من بقية العشرة. وثم قراءات أخرى من الشواذ غير المعوّل عليها، ولا إشكال في القراءة الأولى، وإنما الاشكال في الثانية لاقتضائها في المشاركة التي لا تصدر إلا عن جهتين فصاعدا، مع أن الجهة هنا متحدة ويندرئ الاشكال باعتبار أن من يقدم على جريرة من الجرائر لا بد له أن تتفاعل في نفسه خواطر متضادة منها ما ينشأ عن بصيرة العقل ووحي الضمير، ومنها ما ينشأ عن رعونة العواطف واضطراب الهواجس، فيتولد ما يشبه العداوة بين الجانبين، ويظل المرء في تردد بين إقدام وإحجام، حسب إصغائه تارة إلى صوت العقل، وأخرى إلى داعي الهوى. ومن ثم جاءت هذه القراءة هنا مصورة لعداوة تنجم بين هؤلاء المنافقين ونفوسهم الداعية إلى الخير بطبيعة الفطرة، وصورت ما يصدر منهم من شغلها بالأماني واقتيادها إلى الشر بالمخادعة، وفي كلام العرب ما ينحو هذا المنحى في التعبير، كقول عمرو بن معد يكرب: | **فجاشت علي النفس أول مرة** | | **فردت على مكروهها فاستقرت** | | --- | --- | --- | وقول عروة بن أذينة: | **وإذا وجدت لها وساوس سلوة** | | **شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها** | | --- | --- | --- | وربما جعلوا هذه النوازع المتباينة نفسين مختلفين في شخص واحد، كقول بعض الأعراب: | **لم تدر ما (لا) ولست قائلها** | | **عمرك ما عشت آخر الأبد** | | --- | --- | --- | | **ولم تؤامر نفسيك ممتريا** | | **فيها وفي أختها ولم تكد** | وقول الآخر: | **يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة** | | **أيستوبع الذوبان أم لا يطورها** | | --- | --- | --- | وقول غيره: | **وكنت كذات الضنى لم تدر إذ بغت** | | **تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني؟** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويحتمل أن يكون خادع هنا بمعنى خدع مع قصد المبالغة كما تقدم في تفسير صدر الآية، وبناء على ذلك يكون معنى القراءتين واحدا. وانتقد ابن جرير قراءة { وما يخادعون } فعدها غير صحيحة، وقد بنى هذا الانتقاد على أن فَعَلَ هو الذي يكشف عاقبة المفاعلة دون فَاعَلَ، كما يقال قاتل فلان فلانا، وما قتل إلا نفسه، إذا كانت عاقبة المقاتلة رجعت عليه دون صاحبه، وعزز ذلك بأن مخادعتهم لله وللمؤمنين مثبتة في صدر الآية، فإذا حصرت المخادعة بعد في أنفسهم انتفى ما كان مثبتا، وهو تناقض لا يحوم حول ساحة القرآن. وقد علمت أن هذه القراءة هي قراءة ثلاثة من السبعة المشهورين، وقراءة كل واحد من القرّاء السبعة معدودة في المتواتر الذي لا يصح إنكاره أو رفضه، فرد أية قراءة من السبع عثرة لا تقال، وقد تكرر وقوع ابن جرير في هذه الورطة على إمامته في التفسير، كما سنبين ذلك إن شاء الله كلا في موضعه. وكما اتفق الجمهور على تواتر قراءتي " ملك ومالك " اتفقوا على تواتر قراءتي " يخدعون ويخادعون " ، ذلك لأن الاختلاف فيهما عائد إلى جوهر القراءة، وهو مما يعد من المتواتر عندهم، وإنما اختلفوا فيما كان من قبيل الأداء، كالامالة والمد والترقيق والتفخيم والغنّة، فقيل بتواتره في السبع، وقيل بعدمه. وبما ذكرته من توجيه هذه القراءة يندفع الاشكال الذي زعمه ابن جرير، وما ذكره من لزوم نفي ما أثبت عليها، مدفوع بأن جهتي الاثبات والنفي مختلفتان، وبذلك يندفع المحذور، ونحوه ما في قوله تعالى:**{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ }** [الأنفال: 17]، ففي صدر الآية نفي الرمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي وسطها إثباته، وفي آخرها إسناده إلى الله تعالى، فلو أخذ بظاهر اللفظ لقيل بالتناقض، غير أن الرمي المنفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثبت لله هو غير الذي أثبت للرسول، والقرآن نزل بلسان العرب الذي يستعمل الكلمات في حقيقتها تارة وفي مجازها أخرى، والقرائن هي الكفيلة ببيان المراد. وذكر أبو حيان في البحر أن بعضهم ادعى بأن في عبارة هذه الآية قلبا، وأن الأصل وما يخادعهم إلا أنفسهم، لأن الانسان لا يخدع نفسه، بل هي التي تخدعه وتسول له وتأمره بالسوء، وأورد أشياء مما قلبته العرب، وذكر أبو حيان أن للنحويين مذهبين في القلب: أحدهما: جوازه في النثر والشعر اتساعا واتكالا على فهم المعنى. ثانيهما: عدم جوازه إلا في الشعر في حالة الاضطرار. قال: وهذا الذي صححه أصحابنا ثم أتبع ذلك بأن هذا المدعي للقلب نظر إلى قوله تعالى:**{ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً }** [يوسف: 18]. وقولهم: منتك نفسك، فتخيل أن الممني والمسوِّل غير الممنَّى والمسوَّل له، ثم عكر عليه بأن الأمر ليس كما تخيل، فالفاعل هنا هو المفعول كما يقال أحبَّ زيد نفسه وعظم نفسه، فلا يتصور تباين بين الفاعل والمفعول إلا من حيث اللفظ مع وحدة المدلول، وإذا صح المعنى دون القلب فلا داعي إليه، مع أن الصحيح عدم جوازه إلا في الشعر، فما أجدر كتاب الله عز وجل أن ينزه عنه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والنفس: حقيقة الشيء وذاته، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى:**{ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }** [المائدة: 116]، وقوله:**{ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ }** [الأنعام: 12]، وقوله:**{ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ }** [آل عمران: 30]. هذا هو المعنى اللغوي للنفس، أما ما عدا ذلك من المعاني فهو من اصطلاح الحكماء الذي لا داعي إليه في فهم مقاصد القرآن. وجملة { وما يشعرون } إما مستأنفة وإما معطوفة على جملة { وما يخدعون } ، والشعور: يطلق على العلم بدقائق الأشياء الخفية، ويرى بعض أهل اللسان أنه مأخوذ من إصابة الشَّعَرِ فإنه لدقته مما يستصعب، وكذلك الشعور هو إصابة ما دق من المعاني، والتفطن لما خفي من الأمور. وأصل الشعر العلم بهذه الدقائق، ومنه قولهم: ليت شعري، ثم نقل إلى الكلام الموزون المقفَّى لما في تركيبه من الدقة وما يحتويه من خفي المعاني ودقيق المقاصد التي لا يتفطن لها إلا أصحاب الاحساس المرهف، ومن هنا قيل إن الشعور لا يستعمل إلا فيما دق من حسي وعقلي، فلا يقال: شعرت بحلاوة العسل، وبصوت الصاعقة، وبألم كية النار، وإنما يقال: شعرت بملوحة في الماء أو مرارة - إذا كانت قليلة - وبهينمة وراء الجدار، وبحرارة في بدني. وهذا الوصف في المنافقين مشعر بتحجر عقولهم وخبوِّ فطنهم، وهو - كما قيل - أبلغ في الذم من وصفهم بعدم الاحساس، لأن الذم على أمر يمكن حصوله ألذع وأنكى من الذم بما يتحقق عدمه، وإحساسهم أمر معلوم لهم وللناس، فلا يغيظهم أن يوصفوا بعدمه، بخلاف وصفهم بعدم الشعور المتضمن لمعنى البلادة. ومن حيث أن الشعور يتميز عن العلم باختصاصه بدقائق الأمور المحسوسة والمعقولة أوثر في التعبير هنا على العلم نظرا إلى أن مخادعتهم لأنفسهم مما لا يظهر إلا لذوي الفطن المتوقدة، والمدارك المتفتحة، والمنافقون بما ران على قلوبهم من النفاق واستحكم في عقولهم من الضلال ليسوا من الذين يراقبون الله عز وجل، فهم إن وجد بينهم من يؤمن بوجود الله سبحانه فإيمانه سطحي لم يتغلغل في أعماق نفسه، ولم يلامس شغاف قلبه، فلذلك كانوا أبعد ما يكونون عن خشيته ومراقبته، والتفكر فيما يرضيه وما يغضبه، فكانت معاملتهم له معاملة الخب الخادع لمن يرجو أن تنطلي عليه حيلته، ويؤثر فيه مكره، وما كانوا يتفطنون أن عاقبة مكرهم ستعود عليهم بشر مما كانوا يتوقعون. سر مخادعة المنافقين: وفي تفسير المنار بحث نفيس للامام محمد عبده كشف فيه سر مخادعتهم بأسلوبه الأدبي الرفيع وتحليله المنطقي البديع، ولما في هذا البحث من فوائد جمة رأيت إيراده برمته، قال: هؤلاء المغرورون إذا عرض زاجر الدين بينهم وبين شهواتهم قام لهم من أنفسهم ما يسهل لهم أمره، من أمل في الغفران أو تأويل إلى غير المراد، أو تحريف إلى ما يخالف القصد من الخطاب وذلك بما رسخ في نفوسهم من ملكات السوء المغشاة بصور من العقائد الملونة؛ بما قد يتجلى للأعين فيما يسمونه إيمانا وما هم في الحقيقة بمؤمنين، وإنما هم خادعون مخدوعون، ولكنهم لما عمي عليهم من أمر أنفسهم لا يشعرون لأن ذلك يمر في أنفسهم وهم عنه غافلون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفرق ظاهر بين ما تستحضره النفس من المعلومات وتستعرضه عندما تسأل عنه، وما هو راسخ فيها من تلك المعلومات بصيرورته ملكة في النفس متصرفة في الارادة باعثة لها على العمل، فمن العلوم ما هو ثابت في النفس ممتزج بها على النحو الذي ذكرنا، فيتبع امتزاجه هذا تمكن ملكات أخر تصدر عنها الأعمال، وهو ما يعبر عنه بالأخلاق والصفات، كالكرم والشجاعة ونحوهما، فإنها إنما تنطبع في النفس تبعا للعلم الذي يلائمها، وهو العلم الحقيقي الذي تصدر عنه الأعمال، وربما يغفل الانسان عنه ولا يلاحظه عندما يعمل، وفرق بين ملاحظة العلم واستحضاره، وبين وجوده وتحققه في نفسه. ومن العلوم ما يلاحظ الانسان أنه عنده، فهو صورة عند النفس تستحضره عند المناسبة ويغيب عنها عند عدمها، لأنه لم يُشْرَبه القلب، ولم يمتزج بالنفس فيصير صفة من صفاتها الراسخة التي لا تزايلها، وهذا النوع من العلم يتعلق بما تعلق به النوع الأول كعلم الحلال والحرام الذي يحصله طلبة الفقه الاسلامي مثلا، وكعلم مزايا الفضيلة، ورزايا الرذيلة الذي يخزنه طلاب علوم الآداب والأخلاق، والنظار في كتب الأوائل والأواخر لتعزير مادة العلم وتوسيع مجال القول وتوفير القدرة على حسن المنطق ونحو ذلك، فهذا العلم كالأداة المنفصلة عن العامل، يبقى في خزانة الخيال، تستحضره النفس عندما تدفعها الشهوة إلى تزيين ظاهر المقال لا إلى تحسين باطن الحال، ولن يكون لهذا الضرب من العلم أدنى أثر في عمل من أعمال صاحبه، وتسميته علما لأنه يدخل في تعريفه العام (صورة من الشيء حاضرة عند النفس) وعند التدقيق لا ترتفع به منزلته إلى أن يندرج في معنى العلم الحقيقي، فاستحضار هذا العلم كاستحضار الكتاب واللوح وإدراك ما فيه، ثم الذهول عنه ونسيانه عند الاشتغال بشيء آخر. فهؤلاء الذين يخدعون أنفسهم ويخادعون الله تعالى عندهم علم حقيقي تنبعث عنه أعمالهم، وإن كان باطلا في نفسه، وهو تصديقهم بما في شهواتهم من المصلحة لذواتهم، وهو الذي رجح عندهم اختيار ما فيه قضاؤها والانصباب إلى ما تدعو إليه، وهو ما أنساهم ما كانوا خزنوا في أنفسهم من صور الاعتقادات الدينية، فأبعدهم ذلك عن الاعتقاد الحقيقي الذي يعتد به، وجعله رسما مخزونا في الخيال لا أثر له في الأفعال يدعونه بألسنتهم وتكذبه في دعواه أعمالهم وأحوالهم، ولذلك نسبهم إلى الدعوى القولية ولم يقل فيهم ما قال في ذلك الفريق الأول { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإنه هناك ذكر إيمانهم وقفَّى عليه بذكر العمل الذي يشهد له، ومن هنا يعلم ما الايمان الذي يعتد به القرآن، وهو يظهر لمن يقرأ القرآن ليحاسب به نفسه، ويزن إيمانه وأعماله بما حكم به على إيمان من قبله وأعمالهم، لا لمن يقرأه على أنه قصة تاريخية مات من يحكي عنها واستثنى القارئ نفسه ممن حكم عليهم فيها، فإن كان مات من كانوا سبب النزول فالقرآن حي لا يموت، ينطبق حكمه ويحكم سلطانه على الناس في كل زمان، فكل مؤمن بالله واليوم الآخر وهو يصدر في عمله عن شهواته ولا يمنعه إيمانه عن ركوب خطيئاته، فاعتقاده إنما هو خيال لا يعدو عن لفظ في مقال، ودعوى عند جدال، فإذا ركن إلى هذا المعتقد فهو خادع لنفسه مخادع لربه، يظن أن علام الغيوب لا ينظر إلى ما في القلوب. اهـ. وبإمكاننا أن نستوحي من هذا البحث أن الامام يرى ما في هذه الآيات شاملا للصنفين من المنافقين، مَن كان نفاقه عقائديا ومن كان نفاقه عمليا، ولعله يرد ذلك إلى أن النفاق العملي لا ينشأ إلا عن ضعف العقيدة وعدم تمكنها في النفس، كتمكن عقيدة المؤمنين الذين كانت ظواهرهم شاهدة على سلامة بواطنهم وأعمالهم مصدقة لراسخ اعتقادهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ)
أصل الخدع بفتح الخاء وكسرها الإخفاء والإيهام، وقيل: بالكسر اسم مصدر، ومنه المخدع للخزانة والأخدعان لعرقين خفيين في موضع المحجمة وخدع الضب إذا توارى واختفى ويستعمل في إظهار ما يوهم السلامة وإبطال ما يقتضي الإضرار بالغير أو التلخص منه كما قاله الإمام، وقال السيد: هو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه وتصيبه به، وفي «الكشف» التحقيق أن الخدع صفة فعلية قائمة بالنفس عقيب استحضار مقدمات في الذهن متوصل بها توصلاً/ يستهجن شرعاً أو عقلاً أو عادة إلى استجرار منفعة من نيل معروف لنفسه أو إصابة مكروه لغيره مع خفائهما على الموجه نحوه القصد بحيث لا يتأتى ذلك النيل أو الإصابة بدونه أو لو تأتى لزم فوت غرض آخر حسب تصوره وعليه يكون الحرب خدعة مجازاً ولا تخفى غرابته. والمخادعة مفاعلة، والمعروف فيها أن يفعل كل أحد بالآخر مثل ما يفعله به فيقتضي أن يصدر من كل واحد من الله ومن المؤمنين ومن المنافقين فعل يتعلق بالآخر، وظاهر هذا مشكل لأن الله سبحانه لا يخدع ولا يخدع، أما على التحقيق فلأنه غني عن كل نيل وإصابة واستجرار منفعة لنفسه وهو أيضاً متعال على التعمل واستحضار المقدمات ولأنه جل عن أن يحوم حول سرادقات جلاله نقص الانفعال وخفاء معلوم ما عليه، وأما على ما ذكره السيد فلأنه جل شأنه أجل من أن تخفى عليه خافية أو يصيبه مكروه فكيف يمكن للمنافقين أن يخدعوه ويوقعوا في علمه خلاف ما يريدون من المكروه ويصيبونه به مع أنهم لكونهم من أهل الكتاب عالمون باستحالة ذلك، والعاقل لا يقصد ما تحقق لديه امتناعه، وأما أنه لا يخدع فلأنه وإن جاز عندنا أن يوقع سبحانه في أوهام المنافقين خلاف ما يريده من المكاره ليغتروا ثم يصيبهم به لكن يمتنع أن ينسب إليه لما يوهمه من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم لأنه المعهود منه في الإطلاق ـ كما في «الانتصاف» ـ ولذا زيد في تفسيره مع استشعار خوف أو استحياء من المجاهرة، وأما المؤمنون وإن جاز أن يخدعوا إلا أنه يبعد أن يقصدوا خدع المنافقين لأنه غير مستحسن بل مذموم مستهجن وهي أشبه شيء بالنفاق وهم في غنى عنه على أن الانخداع المتمدح به هو التخادع بمعنى إظهار التأثر دونه كرماً كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: **" المؤمن غر كريم "** لا الانخداع الدال على البله، ولذا قالت عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما: كان أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يخدع، ويجاب عن ذلك بأن صورة صنيعهم مع الله تعالى حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون، وصورة صنيع الله تعالى معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عند أهل الدرك الأسفل، وصورة صنيع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله تعالى فيهم فأجروا ذلك عليهم تشبه صورة المخادعة ففي الكلام إما استعارة تبعية في { يُخَـٰدِعُونَ } وحده أو تمثيلية في الجملة وحيث إن ابتداء الفعل في باب المفاعلة من جانب الفاعل صريحاً وكون المفعول آتياً بمثل فعله مدلول عليه من عرض الكلام حسن إيراد ذلك في معرض الذم لما أسند إليه الفعل صريحاً وكون مقتضى المقام إيراد حالهم خاصة ـ كما قاله مولانا مفتي الديار الرومية ـ مما لا يخدش هذا الوجه الحسن أو يجاب ـ كما قيل ـ بأن المراد مخادعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقع الفعل على غير ما يوقع عليه للملابسة بينهما وهي الخلافة فهناك مجاز عقلي في النسبة الإيقاعية وهذا ظاهر على رأي من يكتفي بالملابسة بين ما هو له وغير ما هو له، وأما على رأي من يعتبر ملابسة الفعل بغير ما هو له بأن يكون من معمولاته فلا، على أنه يبقى من الإشكال أن لا خدع من الرسول والمؤمنين ولا مجال لأن يكون الخدع من أحد الجانبين حقيقة ومن الآخر مجازاً لاتحاد اللفظ وكأن المجيب إما قائل بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز أو غير قائل بامتناع صدور الخدع من الرسول والمؤمنين حتى يتأتى لهم ما يريدون من إعلاء الدين ومصالح المسلمين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأبو حيوة (يخدعون) والجواب عما يلزم هو الجواب فيما يلزم، وقد تأتي/ فاعل بمعنى فعل كعافاني الله تعالى وعاقبت اللص فلا بعد في حمل قراءة الجمهور على ذلك ويكون إيثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة في الكيفية فإن الفعل متى غولب فيه بولغ به أو في الكمية كما في الممارسة والمزاولة فإنهم كانوا مداومين على الخدع و { يُخَـٰدِعُونَ } إما بيان لـِ { يقول } [البقرة:8] لا على وجه العطف إذ لا يجري عطف البيان في الجمل عند النحاة وإن أوهمه كلام أهل المعاني وإما استئناف بياني كأنه قيل لم يدعون الإيمان كاذبين وماذا نفعهم؟ فقيل يخادعون الخ، وهذا في المآل كالأول ولعل الأول أولى. وجوز أبو حيان كون هذه الجملة بدلاً من صلة { من } [البقرة:8] بدل اشتمال أو حالاً من الضمير المستكن في { يقول } [البقرة:8] أي مخادعين، وأبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير المستتر في { مؤمنين } [البقرة:8]، ولعل النفي متوجه للمقارنة لا لنفس الحال ـ كما في ما جاءني زيد، وقد طلع الفجر ـ**{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }** [الأنفال: 33] على أنه قد تجعل الحال ونحوها في مثل ذلك قيداً للنفي لا للمنفي كما قرروه في ـ لم أبالغ ـ في اختصاره تقريباً، وجعل الجملة صفة للمؤمنين ممنوع لمكان النفي والقيد وليست حال الصفة كصفة الحال فلا عجب في تجويز إحداهما ومنع الأخرى كما توهمه أبو حيان في «بحره»، نعم التعجب من كون الجملة بياناً للتعجب من كونهم من الناس كما لا يخفى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثم إن الغرض من مخادعة هؤلاء لمن خادعوه كالغرض من نفاقهم طبق النعل بالنعل فقد قصدوا تعظيمهم عند المؤمنين والتطلع على أسرارهم ليفشوها ورفع القتل عنهم أو ضرب الجزية عليهم والفوز بسهم من الغنائم ونحو ذلك وثمرة مخادعة من خادعوه إياهم إن كانت حكم إلهية ومصالح دينية ربما يؤدي تركها إلى مفاسد لا تحصى ومحاذير لا تستقصى. وقرأ الحرميان وأبو عمرو: { وَمَا يُخَـٰدِعُونَ } ، وقرأ باقي السبعة: { وَمَا يَخْدَعُونَ } وقرأ الجارود وأبو طالوت: { وَمَا يَخْدَعُونَ } بضم الياء مبنياً للمفعول. وقرأ بعضهم: { وَمَا يُخَـٰدِعُونَ } بفتح الدال مبنياً للمفعول أيضاً وقرأ قتادة والعجلي: { وَمَا يَخْدَعُونَ } من خدع مضاعفاً مبنياً للفاعل، وبعضهم بفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة وما عدا القراءتين الأوليين شاذة وعليهما نصب { أنفسهم } على المفعولية الصرفة أو مع الفاعلية معنى، وأما على قراءة بناء الفعل للمفعول فهو إما على إسقاط الجار أي في أنفسهم أو عن أنفسهم أو على التمييز على رأي الكوفيين أو التشبيه بالمفعول على زعم بعضهم أو على أنه مفعول بتضمين الفعل يتنقصون مثلاً، ولا يشكل على قراءة (يخادعون) أنه كيف يصح حصر الخداع على أنفسهم، وذلك يقتضي نفيه عن الله تعالى والمؤمنين، وقد أثبت أولاً، وإن المخادعة إنما تكون في الظاهر بين اثنين فكيف يخادع أحد نفسه لأنا نقول المراد أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها عائد عليهم فالخداع هنا هو الخداع الأول والحصر باعتباره أن ضرره عائد إلى أنفسهم فتكون العبادة الدالة عليه مجازاً أو كناية عن انحصار ضررها فيهم أو نجعل لفظ الخداع مجازاً مرسلاً عن ضرره في المرتبة الثانية، وكونه مجازاً باعتبار الأول كما قاله السعد غير ظاهر. وقد يقال إنهم خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك وخدعتهم حيث حدثتهم بالأماني الخالية، فالمراد بالخداع غير الأول. والمخادع والمخادع متغايران بالاعتبار فالخداع على هذا مجاز عن إيهام الباطل وتصويره بصورة الحق، وحمله على حقيقته بعيد وكون ذلك من التجريد كقوله: | **لا خيل عندك تهديها ولا مال** | | **فليسعد النطق إن لم يسعد الحال** | | --- | --- | --- | لا يرتضيه الذوق السليم كالقول بأن الكلام من باب المبالغة في امتناع خداعهم لله تعالى وللمؤمنين لأنه كما لا يخفى خداع المخادع لنفسه فيمتنع خداعه لها يمتنع خداع الله تعالى لعلمه والمؤمنون لاطلاعهم باعلامه تعالى أو الكناية عن أن مخالفتهم ومعاداتهم لله تعالى وأحبابه معاملة مع أنفسهم لأن الله تعالى والمؤمنين ينفعونهم كأنفسهم،/ وبعضهم يجعل التعبير هنا بالمخادعة للمشاكلة مع كون كل من المشاكل والمشاكل مجازاً وكل يعمل على شاكلته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والنفس حقيقة الشيء وعينه ولا اختصاص لها بالأجسام لقوله تعالى:**{ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ }** [الأنعام: 12]**{ وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ }** [آل عمران: 28] وتطلق على الجوهر البخاري اللطيف الحال لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية وسماها الحكيم الروح الحيوانية وأول عضو تحله القلب إذ هو أول ما يخلق على المشهور، ومنه تفيض إلى الدماغ والكبد وسائر الأعضاء ولا يلزم من ذلك أن يكون منبت الأعصاب إذ من الجائز أن يكون العضو المستفيد منبتاً لآلة الاستفادة، وقيل: الدماغ لأنه المنبت ولم تقم دلالة قطعية على ذلك كما في «شرح القانون» للإمام الرازي وكثيراً ما تطلق على الجوهر المجرد المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهي الروح الأمرية المرادة في - " من عرف نفسه فقد عرف ربه " - وتسمى النفس الناطقة وبتنوع صفاتها تختلف أسماؤها وأحظى الأعضاء بإشراق أنوارها المعنوية القلب أيضاً ولذلك الشرف قد يسمى نفساً، وبعضهم يسمي الرأي بها، والظاهر في الآية على ما قيل: المعنى الأول إذ المقصود بيان أن ضرر مخادعتهم راجع إليهم ولا يتخطاهم إلى غيرهم وليس بالمتعين كما لا يخفى، وتطلق على معان أخر ستسمعها مع تحقيق هذا المبحث إن شاء الله تعالى. وجملة { وَمَا يَشْعُرُونَ } مستأنفة أو معطوفة على { وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } ومفعول { يَشْعُرُونَ } محذوف أي: وما يشعرون أنهم يخدعونها أو أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون أو إطلاع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على خداعهم وكذبهم كما روي ذلك عن ابن عباس أو هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم كما روي عن زيد، أو المراد لا يشعرون بشيء، ويحتمل كما في «البحر» أن يكون { وَمَا يَشْعُرُونَ } جملة حالية أي: وما يخدعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك ولو شعروا لما خادعوا، والشعور الادراك بالحواس الخمس الظاهرة ويكون بمعنى العلم، قال الراغب: شعرت كذا يستعمل بوجهين بأن يؤخذ من مس الشعر ويعبر به عن اللمس؛ ومنه استعمل المشاعر للحواس، فإذا قيل: فلان لا يشعر فذلك أبلغ في الذم من أنه لا يسمع ولا يبصر لأن حس اللمس أعم من حس السمع والبصر، وتارة يقول: شعرت كذا أي أدركت شيئاً دقيقاً من قولهم شعرته أي أصبت شعره نحو أذنته ورأسته وكان ذلك إشارة إلى قولهم فلان يشق الشعر إذا دق النظر؛ ومنه أخذ الشاعر لإدراك دقائق المعاني انتهى. والآية تحتمل نفي الشعور بمعنى العلم فمعنى { لاَّ يَشْعُرُونَ } لا يعلمون وكثيراً ما ورد بهذا المعنى، وفي اللحاق نوع إشارة إليه، ويحتمل نفيه بمعنى الإدراك بالحواس فيجعل متعلق الفعل كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على فاقد الحواس، ونفي ذلك نهاية الذم لأن من لا يشعر بالبديهي المحسوس مرتبته أدنى من مرتبة البهائم فهم كالأنعام بل هم أضل. ولعل هذا أولى لما فيه من التهكم بهم مع الدلالة على نفي العلم بالطريق الأولى، وهو أيضاً أنسب بقوله تعالى:**{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ }** [البقرة: 7] كما لا يخفى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
جملة { يخادعون } بدل اشتمال من جملة**{ يقول آمنا بالله }** البقرة 8 وما معها لأن قولهم ذلك يشتمل على المخادعة. والخداع مصدر خادع الدال على معنى مفاعلة الخدع، والخدع هو فعل أو قول معه ما يوهم أن فاعله يريد بمدلوله نفع غيره وهو إنما يريد خلاف ذلك ويتكلف ترويجه على غيره ليغيره عن حالة هو فيها أو يصرفه عن أمر يوشك أن يفعله، تقول العرب خدع الضب إذا أوهم حارشه أنه يحاول الخروج من الجهة التي أدخل فيها الحارش يده حتى لا يرقبه الحارش لعلمه أنه آخذه لا محالة ثم يخرج الضب من النافقاء. والخداع فعل مذموم إلا في الحرب والانخداع تمشي حيلة المخادع على المخدوع وهو مذموم أيضاً لأنه من البله وأما إظهار الانخداع مع التفطن للحيلة إذا كانت غير مضرة فذلك من الكرم والحلم قال الفرزدق | **استمطروا من قريش كل منخدع إن الكريمَ إذا خادعته انخدعا** | | | | --- | --- | --- | وفي الحديث **" المؤمن غر كريم "** أي من صفاته الصفح والتغاضي حتى يظن أنه غر ولذلك عقبه بكريم لدفع الغرية المؤذنة بالبله فإن الإيمان يزيد الفطنة لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليل الرأي وطمس البصيرة ألا ترى إلى قوله **" والسعيد من وعظ بغيره "** مع قوله **" لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين "** ، وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله وأما معنى «المؤمن غر كريم» فهو أن المؤمن لما زكت نفسه عن ضمائر الشر وخطورها بباله وحمل أحوال الناس على مثل حاله فعرضت له حالة استئمان تشبه الغرية قال ذو الرمة | **تلك الفتاة التي علقتها عرضاً إِنَّ الحليم وذا الإسلام يختلب** | | | | --- | --- | --- | فاعتذر عن سرعة تعلقه بها واختلابها عقله بكرم عقله وصحة إسلامه فإن كل ذلك من أسباب جودة الرأي ورقة القلب فلا عجب أن يكون سريع التأثر منها. ومعنى صدور الخداع من جانبهم للمؤمنين ظاهر، وأما مخادعتهم الله تعالى المقتضية أن المنافقين قصدوا التمويه على الله تعالى مع أن ذلك لا يقصده عاقل يعلم أن الله مطلع على الضمائر والمقتضية أن الله يعاملهم بخداع، وكذلك صدور الخداع من جانب المؤمنين للمنافقين كما هو مقتضى صيغة المفاعلة مع أن ذلك من مذموم الفعل لا يليق بالمؤمنين فعله فلا يستقيم إسناده إلى الله ولا قصد المنافقين تعلقه بمعاملتهم لله كل ذلك يوجب تأويلاً في معنى المفاعلة الدال عليه صيغة { يخادعون } أو في فاعله المقدر من الجانب الآخر وهو المفعول المصرح به. فأما التأويل في { يخادعون } فعلى وجوه أحدها أن مفعول خَادع لا يلزم أن يكون مقصوداً للمخادِع ـــ بالكسر ـــ إذ قد يقصد خداع أحد فيصادف غيره كما يخادع أحد وكيلَ أحد في مال فيقال له أنت تخادع فلاناً وفلاناً تعني الوكيل وموكِّلَه، فهم قصدوا خداع المؤمنين لأنهم يكذّبون أن يكون الإسلام من عند الله فلما كانت مخادعتهم المؤمنين لأجل الدِّين كان خداعهم راجعاً لشارع ذلك الدين، وأمَّا تأويل معنى خداع الله تعالى والمؤمنين إياهم فهو إغضاء المؤمنين عن بوادرهم وفلتات أَلسُنهم وكبواتِ أفعالهم وهفواتِهم الدال جميعها على نفاقهم حتى لم يزالوا يعاملونهم معاملة المؤمنين فإن ذلك لما كان من المؤمنين بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لقد نهى من استأذنه في أن يقتل عبدَ الله بن أبي ابن سلول، كان ذلك الصنيع بإذن الله فكان مرجعه إلى الله، ونظيره قوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم }** في سورة النساء 142، كما رجع إليه خداعُهم للمؤمنين، وهذا تأويل في المخادعة من جانبيها، كل بما يلائمه. الثاني ما ذكره صاحب «الكشاف» أن { يخادعون } استعارة تمثيلية تشبيهاً للهيئة الحَاصلة من معاملتهم للمؤمنين ولدين الله، ومن معاملة الله إياهم في الإملاء لهم والإِبْقاء عليهم، ومعاملة المؤمنين إياهم في إجراء أحكام المسلمين عليهم، بهيئة فعل المتخادعَين. الثالث أن يكون خادع بمعنى خدع أي غير مقصود به حصول الفعل من الجانبين بل قَصْدُ المبالغة. قال ابن عطية عن الخليل يقال خَادع مِنْ واحد لأن في المخادعة مُهْلةً كما يقال عَالجت المريضَ لمكان المهلة، قال ابن عطية كأنه يرد فَاعَل إلى اثنين ولا بُدَّ من حيثُ إن فيه مهلة ومدافعة ومماطلة فكأنه يقاوم في المعنى الذي يجيء فيه فاعَلَ ا هـ. وهذا يرجع إلى جعل صيغة المفاعلة مستعارة لِمعنى المبالغة بتشبيه الفعل القوي بالفعل الحاصل من فاعَلْين على وجه التبَعية، ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن عامر ومن معه يخْدَعون الله. وهذا إنما يدفع الإشكال عن إسناد صدور الخداع من الله والمؤمنين مع تنزيه الله والمؤمنين عنه، ولا يدفع إشكال صدور الخداع من المنافقين لله. وأما التأويل في فَاعِل { يخادعون } المقدَّر وهو المفعول أيضاً فبأن يُجعل المراد أنهم يخادعون رسول الله فالإسناد إلى الله تعالى إما على طريقة المجاز العقلي لأجل الملابسة بين الرسول ومُرسله وإما مجازٌ بالحذف للمضافِ، فلا يكون مرادهم خداعَ الله حقيقة، ويبقى أن يكون رسول الله مخدوعاً منهم ومخادعاً لهم، وأما تجويز مخادعة الرسول والمؤمنين للمنافقين لأنها جزاءٌ لهم على خداعهم فذلك غير لائق. وقوله { يخادعون الله } قرأه نافع وابن كثير وأبو عَمرو وخلَف يخادعون بألف بعد الخاء وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب يخْدَعون بفتح التحتية وسكون الخاء. وجملة { وما يخادعون إلا أنفسهم } حال من الضمير في { يُخادعون } الأول أي يخادعون في حال كونهم لا يخادعون إلا أنفسهم أي خداعهم مقصور عن ذواتهم لا يرجع شيء منه إلى الله والذين آمنوا، فيتعين أن الخداع في قوله { وما يخادعون } عينُ الخِداع المتقدم في قوله { وما يخادعون } فَيَرِد إشكال صحة قصر الخِداع على أنفسهم مع إثبات مخادعتهم الله تعالى والمؤمنين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد أجاب صاحب «الكشاف» بما حاصله أن المخادعة الثانية مستعملة في لازم معنى المخادعة الأولى وهو الضُّر فإنها قد استعملت أولاً في مطلق المعاملة الشبيهة بالخداع وهي معاملة الماكر المستخف فأطلق عليها لفظُ المخادعة استعارة ثم أطلقت ثانياً وأريد منها لازِم معنى الاستعارة وهو الضُر لأن الذي يعامَل بالمكر والاستخفاف يتصدى للإنتقام من معامِلِه فقد يجد قدرة من نفسه أو غِرَّةً من صاحبه فيضره ضراً فصار حصول الضر للمعامِل أمراً عرفياً لازماً لمعامَله، وبذلك صح استعمال يخادع في هذا المعنى مجازاً أو كناية وهو من بناء المجاز على المجاز لأن المخادعة أطلقت أولاً استعارة ثم نُزلت منزلة الحقيقة فاستعملت مجازاً في لازم المعنى المستعار له، فالمعنى وما يَضُرون إلا أنفسهم فيجري فيه الوجوه المتعلقة بإطلاق مادة الخداع على فعلهم، ويجىء تأويل معنى جَعل أنفسهم شقاً ثانياً للمخادعة مع أن الأنفس هي عينهم فيكون الخداع استعارة للمعاملة الشبيهة بفعل الجانبين المتخادعين بناء على ما شاع في وِجدان الناس من الإحساس بأن الخواطر التي تدعو إلى ارتكاب ما تَسوء عواقبه أنها فعلُ نفس هي مغايرة للعقل وهي التي تسول للإنسان الخير مرة والشر أخرى وهو تخيُّل بُني على خَطابة أخلاقية لإحداث العداوة بين المرء وبين خواطره الشريرة بجعلها واردة عليه من جهة غير ذاته بل من النَّفْس حتى يتأهب لمقارعتها وعصيان أمرها ولو انتسبت إليه لما رأى من سبيل إلى مدافعتها، قال عمرو بن معديكرب | **فجاشَت عليَّ أوَّلَ مرة فرُدَّتْ على مكروهها فاستقرتِ** | | | | --- | --- | --- | وذكر ابن عطية أن أبا عليّ الفارسي أنشد لبعض الأعراب | **لم تَدر ما لا ولستَ قائلَها عُمْرَك ما عِشْتَ آخر الأبد ولم تُؤامر نفسيْك مُمتريا فيها وفي أختها ولم تكد** | | | | --- | --- | --- | يريد بأختها كلمة نعم وهي أخت لا والمراد أنها أخت في اللسان. وقلت ومنه قول عروة بن أذينة | **وإذا وجدتُ لها وَسَاوِسَ سَلْوَة شَفَع الفؤاد إلى الضمير فَسَلَّها** | | | | --- | --- | --- | فكأنهم لما عصوا نفوسهم التي تدعوهم للإيمان عند سماع الآيات والنذر إذ لا تخلو النفس من أوبة إلى الحق جعل معاملتهم لها في الإعراض عن نصحها وإعراضها عنهم في قلة تجديد النصح لهم وتركهم في غيهم كالمخادعة من هذين الجانبين. واعلم أن قوله { وما يخادعون إلا أنفسهم } أجمعت القراءات العشر على قراءته بضم التحتية وفتح الخاء بعدها ألف. والنفس في لسان العرب الذات والقوة الباطنية المعبر عنها بالروح وخاطر العقل. وقوله { وما يشعرون } عطف على جملة { وما يخادعون } والشعور يطلق على العلم بالأشياء الخفية، ومنه سمي الشاعر شاعراً لعلمه بالمعاني التي لا يهتدي إليها كل أحد وقدرته على الوزن والتقفية بسهولة، ولا يحسن لذلك كل أحد، وقولهم ليت شعري في التحير في علم أمر خفي، ولولا الخفاء لما تمنى علمه بل لعلمه بلا تمن، فقولهم هو لا يشعر وصف بعدم الفطنة لا بعدم الإحساس وهو أبلغ في الذم لأن الذم بالوصف الممكن الحصول أنكى من الذم بما يتحقق عدمه فإن إحساسهم أمر معلوم لهم وللناس فلا يغيضهم أن يوصفوا بعدمه وإنما الذي يغيضهم أن يوصفوا بالبلادة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | على أن خفاء مخادعتهم أنفسهم مما لا يمتري فيه واختير مثله في نظيره في الخفاء وهو**{ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون }** البقرة 12 لأن كليهما أثبت فيه ما هو المآل والغاية وهي مما يخفي واختير في قوله**{ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون }** البقرة 13 نفي العلم دون نفي الشعور لأن السفه قد يبدو لصاحبه بأقل التفاتة إلى أحواله وتصرفاته لأن السفه أقرب لادعاء الظهور من مخادعة النفس عند إرادة مخادعة الغير ومن حصول الإفساد عند إرادة الإصلاح وعلى الإطلاق الثاني درج صاحب «الكشاف» قال فهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
{ يُخَادِعُونَ } { آمَنُوا } (9) - وَهُمْ إِنَّما يُرِيدُونَ خِدَاعَ النَّبيِّ وَالمؤْمِنِينَ وَغِشَّهُمْ مِنْ وَرَاءِ تَظَاهُرِهِمْ أَمَامَ المسلِمينَ بِالإِسْلاَمِ. وَلكِنَّ الله يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُمْ، وَقَدْ نَبَّهَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَالمُؤْمِنينَ إِلى ذلِكَ، وَلِهذا فَإِنَّهُمْ لا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أَنَّ أَمْرَهُمْ مَكْشُوفٌ. الخِدَاعُ - أَنْ يُوهِمَ الإِنْسَانُ غَيْرَهُ خِلاَفَ مَا يُخْفِيهِ لِيَحُولَ بَينَهُ وَبَينَ مَا يُريدُ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ)
وتأتي الصفة الثانية من صفات المنافقين، وهي صفة تدل على غفلتهم وحمق تفكيرهم، فإنهم يحسبون أنهم بنفاقهم يخدعون الله سبحانه وتعالى، وهل يستطيع بشر أن يخدع رب العالمين؟ إن الله عليم بكل شيء، عليم بما نُخفي وما نُعلن، عليم بالسر وما هو أخفَى من السر، وهل يوجد ما هو أخفى من السر؟ نقول نعم، السر هو ما أسررت به لغيرك، فكأنه يعلمه اثنان، أنت ومَنْ أسررت إليه. ولكن ما هو أخفى من السر، ما تبقيه في نفسك ولا تخبر به أحداً، إنه يظل في قلبك لا تُسِرُّ به لإنسان، والله سبحانه وتعالى يقول:**{ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى }** [طه: 7]. فلا يوجد مخلوق، يستطيع أن يخدع خالقه، ولكنهم من غفلتهم، يحسبون أنهم يستطيعون خداع الله جل جلاله. وفي تصرفهم هذا لا يكون هناك سلام بينهم وبين الله. بل يكون هناك مقت وغضب. وهم في خداعهم يحسبون أيضاً أنهم يخدعون الذين آمنوا، بأنهم يقولون أمامهم غير ما يبطنون، ولكن هذا الخداع شقاء عليهم، لأنهم يعيشون في خوف مستمر، وهم دائماً في قلق أو خوف من أن يكشفهم المؤمنون، أو يستمعوا إليهم في مجالسهم الخاصة، وهم يتحدثون بالكفر ويسخرون من الإيمان، ولذلك إذا تحدثوا فلابد أن يتأكدوا أولاً من أن أحدا من المؤمنين لا يسمعهم، ويتأكدوا ثانياً من أن أحداً من المؤمنين لن يدخل عليهم وهم يتحدثون، والخوف يملأ قلوبهم أيضاً، في أثناء وجودهم مع المؤمنين، فكل واحد منهم يخشى أن تفلت منه كلمة، تفضح نفاقه وكفره. وهكذا فلا سلام بينهم وبين المؤمنين.. والحقيقة أنهم لا يخدعون إلاَّ أنفسهم. فالله سبحانه وتعالى، يعلم نفاقهم، والمؤمنون قد يعلمون هذا النفاق، فإن لم يعلموه، فإن الله يخبرهم به، واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:**{ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ }** [محمد: 30]. ألم يأت المنافقون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليشهدوا أنه رسول الله، ففضحهم الله أمام رسوله وأنزل قوله تعالى:**{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }** [المنافقون: 1]. جاء المنافقون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بصدق رسالته، والله سبحانه وتعالى يعلم أن هذه الشهادة حق وصدق، لأنه جل جلاله، يعلم أن رسوله صلى الله عليه وسلم، صادق الرسالة، ولكنه في الوقت نفسه يشهد بأن المنافقين كاذبون. كيف؟ كيف يتفق كلام الله مع ما قاله المنافقون ثم يكونون كاذبين؟ نقول: لأن المنافقين قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فهم شهدوا بألسنتهم فقط أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله ولكن قلوبهم منكرة لذلك، مكذِّبة به، ولذلك فإن ما قاله المنافقون رغم أنه حقيقة إلا أنهم يكذبون، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، لأن الصدق هو أن يوافق الكلام حقيقة ما في القلب، وهؤلاء كذبوا، لأنهم في شهادتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يُعبِّرون عن واقع في قلوبهم، بل قلوبهم تُكَذِّبُ ما يقولون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم يفضح الله سبحانه وتعالى فيها المنافقين وينبئ رسوله صلى الله عليه وسلم بما يضمرونه في قلوبهم، إذن: فخداعهم للمؤمنين، رغم أنه خداع بشر لبشر، إلا أنه أحياناً تفلت ألسنتهم، فتعرف حقيقتهم، وإذا لم يفلت اللسان، جاء البيان من الله سبحانه وتعالى ليفضحهم، وتكون حصيلة هذا كله، أنهم لا يخدعون أحداً، فالله يعلم سرهم وجهرهم، فمرة يعين الله المؤمنين عليهم فيكشفونهم، ومرة تفلت ألسنة المنافقين فيكشفون أنفسهم. إذن فسلوك المنافق، لا يخدع به إلا نفسه، وهو الخاسر في الدنيا والآخرة، عندما يؤدي عملاً إيمانيا، فالله يعلم أنه نفاق، وعندما يحاول أن يخدع المؤمنين، ينكشف، والنتيجة أنهم يعتقدون بأنهم حققوا لأنفسهم نفعاً، بينما هم لم يحققوا لأنفسهم إلا الخسران المبين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ)
قوله تعالى: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ }: هذه الجملةُ الفعلية يُحْتمل أن تكونَ مستأنفةً جواباً لسؤال مقدَّر، وهو: ما بالُهم قالوا آمنَّا وما هم بمؤمنين؟ فقيل: يُخادعون اللهَ، ويحتمل أن تكونَ بدلاً من الجملةِ الواقعة صلةً لـ " مَنْ " وهي " يقولُ " ، ويكون هذا من بدلِ الاشتمال، لأنَّ قولَهم كذا مشتملٌ على الخِداع فهو نظيرُ قوله: | **172ـ إنَّ عليَّ اللهَ أن تُبايعا** | | **تُؤْخَذَ كَرْهاً أو تَجِيءَ طائِعا** | | --- | --- | --- | وقول الآخر: | **173ـ متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارنا** | | **تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجَا** | | --- | --- | --- | فـ " تُؤْخَذَ " بدلُ اشتمالٍ من " تُبايع " وكذا " تُلْمم " بدلٌ من " تأتِنا " ، وعلى هذين القولين فلا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب. والجملُ التي لا محلَّ لها من الإِعراب أربعٌ لا تزيد على ذلك -وإن تَوَهَّم بعضُهم ذلك- وهي: المبتدأ والصلة والمعترضة والمفسِّرة، وسيأتي تفصيلُها في مواضعها. ويُحْتمَل أن تكونَ هذه الجملةُ حالاً من الضمير المستكنِّ في " يقول " تقديرُه: ومن الناسِ مَنْ يقول حالَ كونِهم مخادِعين. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في " بمؤمنين " والعاملُ فيها اسمُ الفاعل. وقد رَدَّ عليه بعضُهم بما معناه: أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ نظيرُ: ما زيدٌ أقبل ضاحكاً، قال: " وللعربِ في مثل هذا التركيبِ طريقان، أحدُهما: نفيُ القيدِ وحدَه وإثباتُ أصلِ الفعل، وهذا هو الأكثر، والمعنى أنَّ الإِقبالَ ثابتٌ والضحكَ منتفٍ، وهذا المعنى لا يُتَصَوَّرُ إرادتُه في الآية، أعني نفيَ الخِداع، وثبوتَ الإِيمان. الطريقُ الثاني: أن ينتفيَ القيدُ فينتفيَ العاملُ فيه فكأنه قيل في المثال السابق: لم يُقْبِلْ ولم يَضْحَكْ، وهذا المعنى أيضاً غيرُ مرادٍ بالآية الكريمة قَطْعاً، أعني نفيَ الإِيمان والخداعِ معاً، بل المعنى على نفي الإِيمان وثبوتِ الخداع، ففَسَد جَعْلُها حالاً من الضميرِ في " بمؤمنين ". والعجبُ من أبي البقاء كيف استشعر هذا الإِشكال فمنعَ مِنْ جَعْلِ هذه الجملةِ في محلِّ الجرِّ صفة لمؤمنين؟ قال: " لأنَّ ذلك يوجبُ نَفْيَ خداعِهِم، والمعنى على إثباتِ الخداعِ " ، ثم جَعَلَها حالاً مِنْ ضمير " مؤمنين " ولا فرقَ بين الحالِ والصفةِ في هذا. والخِداعُ أصلُه الإِخفاء، ومنه الأَخْدَعان: عِرْقَان مستبطنان في العُنُق ومنه مَخْدَع البيت، فمعنى خادع أي: مُوهِمٌ صاحبَه خلافَ ما يريد به من المكروه، وقيل: هو الفساد، قال الشاعر: | **174ـ أبيضُ اللونِ لذيذٌ طَعْمُهُ** | | **طَيِّبُ الرِّيقِ إذا الريقُ خَدَعْ** | | --- | --- | --- | أي: فَسَد. والمصدر الخِدْعُ بكسر الخاء، ومثله: الخَدِيعة. ومعنى يخادعون الله أيْ مِنْ حيث الصورةُ لا مِنْ حيث المعنى، وقيل: لعدم عرفانِهم بالله تعالى وصفاته ظنُّوه مِمَّنْ يخادَعُ. وقال أبو القاسم الزمخشري/: " إنَّ اسمَ الله تعالى مُقْحَمٌ، والمعنى: يُخادِعون الذين آمنوا، ويكون من باب " أعجبني زيدٌ وكرمُه ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | المعنى: أعجبني كرمُ زيد، وإنما ذُكر " زيدٌ " توطئةً لذِكْر كرمه " وجَعَل ذلك نظيرَ قوله تعالى:**{ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }** [التوبة: 62]**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }** [الأحزاب: 57]. وهذا منه غيرُ مُرْضٍ، لأنه إذا صَحَّ نسبةُ مخادعتِهم إلى الله تعالى بالأوجهِ المتقدمة فلا ضرورة تدعو إلى ادِّعاء زيادةِ اسم اللهِ تعالى، وأمَّا " أعجبني زيدٌ وكرمُه " فإنَّ الإِعجابَ أُسْنِدَ إلى زيدٍ بجملتِه، ثم عُطِفَ عليه بعضُ صفاتِه تمييزاً لهذه الصفةِ مِنْ بينِ سائرِ الصفاتِ للشرفِ، فصار من حيث المعنى نظيراً لقولِه تعالى:**{ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ }** [البقرة: 98]. وفَاعَلَ له معانٍ خمسةٌ: المشاركةُ المعنويةُ نحو: " ضاربَ زيدٌ عمراً " وموافقةُ المجرد نحو: " جاوَزْتُ زيداً " أي جُزْتُه، وموافقةُ أَفْعَل متعدياً نحو: " باعَدْتُ زيداً وأَبْعدته " ، والإِغناءُ عن أَفْعل نحو: " وارَيْتُ الشيءَ " ، وعن المجردِ نحو: سافَرْت وقاسَيْت وعاقَبْت، والآيةُ فيها فاعَلَ يحتمل المعنيين الأَوَّلَيْنِ. أمَّا المشاركةُ فالمخادعةُ منهم لله تعالى تقدَّم معناها، ومخادعةُ الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أحكامَ المسلمين في الدنيا، ومخادعةُ المؤمنين لهم كونُهم امتَثلوا أمرَ الله تعالى فيهم، وأمَّا كونُه بمعنى المجرد فيبيِّنه قراءةُ ابن مسعود وأبي حيوة: " يَخْدَعون ". وقرأ أبو عمرو والحرمِيَّان: " وما يُخَادِعون " كالأولى، والباقون: وما يَخْدعون، فيُحتمل أن تكونَ القراءتان بمعنىً واحد، أي يكون فاعَلَ بمعنى فَعَل، ويُحتمل أن تكونَ المفاعلةُ على بابها، أعني صدورَها من اثنين، فهم يُخادعون أنفسَهم، حيثُ يُمَنُّونَها الأباطيلَ، وأنفُسُهم تخادِعهم حيث تُمَنِّيهم ذلك أيضاً فكأنها محاورةٌ بين اثنين، ويكون هذا قريباً من قول الآخر: | **175ـ لم تَدْرِ ما لا ولستَ قائلَها** | | **عُمْرَكَ ما عِشْت آخرَ الأبدِ** | | --- | --- | --- | | **ولم تُؤامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِياً** | | **فيها وفي أختِها لم تَكَدِ** | | --- | --- | --- | وقال آخرُ: | **176ـ يؤامِرُ نَفْسَيْهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ** | | **أَيَسْتَوْقِعُ الذُّوبانَ أَمْ لا يَطورُها** | | --- | --- | --- | وقوله " إلا أنفسَهم ": " إلا " في الأصل حَرف استثناء،ِ وأنفسَهم مفعول به، وهذا الاستثناءُ مفرغٌ، وهو عبادرةٌ عما افْتَقَر فيه ما قبلَ " إلا " لِما بعدها، ألا ترى أن " يُخادعون " يَفْتَقِرُ إلى مفعولٍ، ومثلُه: " ما قام إلا زيدٌ " فقام يفتقر إلى فاعل،ٍ والتامُّ بخلافِه، أي: ما لم يَفْتَقِرْ فيه ما قبلَ " إلاَّ " لِما بعدها، نحو: قام القومُ إلا زيداً، وضرْبتُ القوم إلا بكراً، فقام قد أخذ فاعلَه، وضرْبتُ أخذ مفعولَه، وشرطُ الاستثناء المفرغ أن يكونَ بعد نفيٍ أو شِبْههِ كالاستفهام والنفي. وأمَّا قولُهم: " قرأتُ إلا يومَ كذا " فالمعنى على نفيٍ مؤول تقديره: ما تركتُ القراءة إلا يوم كذا، ومثلُه:**{ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | [التوبة: 32]،**{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ }** [البقرة: 45]، وللاستثناء أحكامٌ كثيرة تأتي مفصلةً في غضون الكتاب إن شاء الله تعالى. وقُرئ: " وما يُخْدَعون " مبنياً للمفعول، وتخريجُها على أنَّ الأصلَ وما يُخْدَعون إلا عن أنفسِهم، فلمّا حُذِف الحرف انتصبَ على حدٍّ: | **177ـ تَمُرُّون الديار ولم تَعُوجوا** | | **.............................** | | --- | --- | --- | و " يُخَدِّعون " ، مِنْ خَدَّعَ مشدداً، و " يَخَدِّعون " بفتح الياء والتشديد والأصل: يَخْتَدِعون فأدغم. { وَمَا يَشْعرونَ } هذه الجملةُ الفعليةُ، يُحتمل ألاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ من الإِعراب، لأنها استئنافٌ، وأن يكونَ لها محلٌّ وهو النصبُ على الحال من فاعل " يَخْدعون " ، والمعنى: وما يَرْجِعِ وبالُ خِداعِهم إلا على أنفسِهم غيرَ شاعِرين بذلك. ومفعولُ " يَشْعُرون " محذوفٌ للعلم به، تقديرُه: وما يشعرون أنَّ وبالَ خداعِهم راجعٌ على أنفسِهم، أو اطِّلاعِ اللهِ عليهَم، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ له مفعولٌ لأنَّ الغرضَ نفيُ الشعورِ عنهم البتةَ من غير نظرٍ إلى مُتَعَلِّقِهِ، والأولُ يُسَمَّى حذفَ الاختصارِ، ومعناه حَذْفُ الشيءِ لدليلٍ، والثاني يُسَمَّى حذفَ الاقتصار، وهو حَذْفُ الشيءِ لا لدليلٍ. والشعورُ: إدراكُ الشيء من وجهٍ يَدِقُّ ويَخْفى، مشتقٌّ من الشَّعْرِ لدقَّته، وقيل: هوالإِدراك بالحاسَّة مشتقٌّ من الشِّعار، وهو ثوبٌ يَلي الجسدَ، ومنه مشاعرُ الإِنسانِ أي حواسُّه الخمسُ التي يَشْعُرُ بها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ)
{ يُخَٰدِعُونَ } أي يفعلون فعل المخادع، ويرومون الخدع بإظهار خلاف ما يسرون، وقيل: معناه يخدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول أظهر { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } أي وبال فعلهم راجع عليهم، وقرئ: وما يخدعون بفتح الياء من غير ألف من خدع وهو أبلغ في المعنى، لأنه يقال خادع إذا رام الخداع، وخدع إذا تم له { وَمَا يَشْعُرُونَ } حذف معموله أي: لا يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ)
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا }؛ أي يخالِفُون اللهَ ويَكْذِبُونَهُ وَيَكْذِبُونَ المؤمنين. ويخالفونَهم في ضمائرِهم وهم المنافقونَ. وأصلُ الْخَدَعِ في اللغة الاختفاءُ؛ ومنهُ قِيْلَ للبيتِ الذي يُخَبَّأُ فيه الْمَتَاعُ: مَخْدَعٌ؛ فالْمُخَادِعُ يُظهرُ خلافَ ما يُضمرُ. وقال بعضُهم: أصل الْخَدَاعِ في اللغة: الفسادُ. وقال الشاعرُ: | **أبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيْذٌ طَعْمُهُ** | | **طَيِّبُ الرِّيْقِ إذَا الرِّيْقُ خَدَعْ** | | --- | --- | --- | أي فَسَدَ، فيكون المعنى: مُفْسِدُونَ ما أظهَروا بألسنتهم مِما أضمَرُوا في قلوبهم. وقيلَ: معناهُ: يخادعونَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كقولهِ تعالى:**{ فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ }** [الزخرف: 55] أي آسَفوا نَبيَّنَا. وقَوْلُهُ تَعَالَى:**{ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }** [الأحزاب: 57] أي أولياءَ الله؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يؤذَى ولا يُخادَع. وقد يكون المفاعلةُ من واحد كالمسافَرَة. فإن قِيْلَ: ما وجهُ مخادعتِهم اللهَ؛ وهو لا يَخفى عليه شيء؟ وما وجهُ مخادعةِ المؤمنين ومخادعةِ أنفسهم؟ قيل: المخادعةُ الإخفاءُ، يقال: انخدعَتِ الضَّبيةُ في جُحرها. واللهُ تعالى لا يخادَع في الحقيقةِ، ولكن أطلقَ عليه اسمُ المخادعةِ لَمَّا فعَلُوا فعلَ المخادِعين. ولو كان يصحُّ لَهم خِداعُهم لقالَ: يَخْدَعُونَ اللهَ. وَقِيْلَ: معناهُ: يخادعونَ رسولَ اللهِ. وأما مخادعةُ المؤمنينَ، فإظهارُهم لَهم الإسلامَ تُقْيَةً؛ وَقِيْلَ: إظهارُ الإسلامِ لَهم ليكرِمُوهم ويبجِّلوهم. وَقِيْلَ: أظهَروا لَهم ذلك لِيُفْشُوا إليهم سرَّهُم فينقلوهُ إلى أعدائِهم. وأمَّا مخادعةُ أنفُسِهم فضررُ ذلك عليهم. قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم }؛ لأنَّ وبالَ الخداعِ عائدٌ إلى أنفسهم فكأنَّهم في الحقيقة إنَّما يخدعونَ أنفسهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا يَشْعُرُونَ }؛ أي وما يعلمون أنهُ كذلك. والشعرُ: هو العلمُ الدقيقُ الذي يكون حادِثاً من الفطنةِ؛ وهو من شِعَار القلب؛ ومنه سُمي الشاعرُ شاعراً لفطنتهِ لما يدقُّ من المعنى والوزنِ، ومنه الشعرُ لدقَّتهِ. ويقال: ما شَعَرْتُ به؛ أي ما عَلِمْتُ بهِ. وليتَ شِعْرِي ما صنعَ فلانٌ؛ أي ليتَ عِلْمِي. واختلف القرَّاءُ في قولهِ تعالى: { وَمَا يَخْدَعُونَ } فقرأ نافعُ؛ وابن كثير؛ وأبو عمرٍو: (يُخَادِعُونَ) بالألفِ. وقرأ الباقون: (يَخْدَعُونَ) بغير ألِف على أشهرِ اللغتين وأفصحِهما؛ واختارهُ أبو عُبيدٍ. ولا خلافَ في الأول أنه بالألفِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ)
قوله: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ }. الخداع: إظهار خلاف الاعتقاد. وقوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم }. أي وباله يرجع عليهم. واختار جماعة من العلماء: (وَمَا يَخْدَعُون) - بفتح الياء وسكون الخاء - من غير ألف، وهي قراءة ابن عامر وأهل الكوفة، وإنما اختاروا ذلك لأن الله جل ذكره أخبر عنهم أولاً أنهم { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ }. ولفظ قوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } ، نفي ذلك، فيصير في ظاهر اللفظ قد أوجب شيئاً ثم نفاه بعينه، فوجب أن يختاروا { وَمَا يَخْدَعُونَ } ليكون المنفي على معنى مخالفاً للموجب. [فأما وجه] قراءة من قرأ الثاني " { وَمَا يَخْدَعُونَ } بألف فهو على معنى: وما يخادعون تلك المخادعة المذكورة عنهم إلا أنفسهم، إذ وبالها راجع عليهم. و " خادع " في اللغة، يجوز أي يكون معناه / معنى " خدع " من واحد. ومعنى " خدع " بلغ مراده. فلذلك أجمع القراء على { يُخَادِعُونَ } في الأول لأنه ليس بواقع، وفي الثاني { يُخَادِعُونَ } بغير ألف لأنه أخبر تعالى أنه واقع بهم وراجع عليهم. وذكر القتبي أن معنى الأول: يخادعون بالله الذين آمنوا / وهو قولهم إذا لقوا المؤمنين: آمنا ". وأصل المفاعلة أن تكون من اثنين، لكن قد أتت من واحد، قالوا: " عَاقَبْتُ اللِّصَّ " ، " وَطارَقْتُ النَّعْلَ " و " جَازَيْتُ فُلاناً وَحَادَيْتُهُ وَوَادَعْتُهُ وَدارَيْتُهُ ". والمخادعة في هذا المعنى إنما هي للنبي / صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أي يخادعون نبي الله وأولياءه. و " خدع " فعل واقع، و " خادع " فعل يجوز أن يقع، ويجوز ألا يقع، فلذلك اختار بعض العلماء، { وَمَا يَخْدَعُونَ } إلا أنفسهم لأنه فعل واقع بهم بلا شك، " فَيَخْدَعُون " أولى من " يخادعون " الذي يجوز أن يقع، ويجوز ألا يقع. وقوله: { وَمَا يَشْعُرُونَ }. أي ليس يشعرون، أي يعلمون أن ضر مخادعتهم راجع عليهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
قال القاشاني: المخادعة استعمال الخدع من الجانبين. وهو إظهار الخير، واستبطان الشر. ومخادعة الله مخادعة رسوله، لقوله:**{ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ }** [النساء: 80] فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة، واستبطان الكفر والعداوة، وخداع الله والمؤمنين إياهم مسالمتهم، وإجراء أحكام الإسلام عليهم، بحقن الدماء وحصن الأموال وغير ذلك. وادخّار العذاب الأليم، والمآل الوخيم، وسوء المغبة لهم، وخزيهم في الدنيا لافتضاحهم بإخباره تعالى وبالوحي عن حالهم، لكن الفرق بين الخداعين: أن خداعهم لا ينجح إلا في أنفسهم، بإهلاكها وتحسيرها، وإيراثها الوبال والنكال - بازدياد الظلمة، والكفر، والنفاق، واجتماع أسباب الهلكة، والبعد والشقاء، عليها - وخداع الله يؤثر فيهم أبلغ تأثير، ويوبقهم أشدّ إيباق، كقوله:**{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ }** [آل عمران: 54] وهم - من غاية تعمقهم في جهلهم - لا يحسون بذلك الأمر الظاهر. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " وَما يُخَادِعُونَ " بالألف. قال ابن كثير: نبه الله سبحانه على صفات المنافقين، لئلا يغترّ بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض - من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم، وهم كفَّار في نفس الأمر - وهذا من المحذورات: أن يُظَنَّ بأهل الفجور خيرٌ. ثم إن قول من قال: كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافين -إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقاً - في غزو تبوك - الذين همُّوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك، عزموا على أن ينفِّروا به الناقة، ليسقط عنها، فأوحى الله إليه أمرهم، فأطلع على ذلك حذيفة. فأما غير هؤلاء، فقد قال الله تعالى:**{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ }** [التوبة: 101] الآية. وقال تعالى:**{ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً }** [الأحزاب: 60 ] ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم، وإنما كان تُذْكَرُ له صفاتهم، فيتوسمها في بعضهم، كما قال تعالى:**{ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ }** [محمد: 30]. وقد كان من أشهرهم بالنفاق، عبد الله بن أبي بن سلول. واستند - غير واحد من الأئمة - في الحكمة عن كفه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، بما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: **" أكره أن يتحدث العرب أنَّ محمداً يقتل أصحابه "** ومعناه خشية أن يقع بسبب ذلك تنفيرٌ لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام، ولا يعلمون حكمة قتلهم - بأنَّه لأجل كفرهم - فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم، فيقولون: إن محمداً يقتل أصحابه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير كتاب نزهة القلوب/ أبى بكر السجستاني (ت 330هـ)
{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } بمعنى يخدعون: أي يظهرون خلاف ما في قلوبهم. وقيل: يخادعون: أي يظهرون الإيمان بالله ورسوله ويضمرون خلاف ما يظهرون فالخداع منهم يقع بالإحتيال والمكر؛ والخداع من الله عز وجل يقع بأن يظهر لهم من الإحسان ويعجل لهم من النعيم في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم ويستر من عذاب الآخرة لهم جزاء لفعلهم، فجمع الفعلان لتشابههما من هذه الجهة. وقيل: معنى الخداع في كلام العرب الفساد؛ ومنه قول الشاعر: | **طيب الريق إذا الريق خدع** | | | | --- | --- | --- | أي فسد. فمعنى يخادعون الله أي يفسدون ما يظهرون من الإيمان بما يضمرون من الكفر؛ كما أفسد الله نعمهم في الدنيا بما صاروا إليه من عذاب الآخرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
* تفسير البرهان في تفسير القرآن/ هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ)
331/ [1]- قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): " فاتصل ذلك من مواطأتهم و قيلهم في علي (عليه السلام)، و سوء تدبيريهم عليه برسول الله (صلى الله عليه و آله)، فدعاهم و عاتبهم، فاجتهدوا في الأيمان. و قال أولهم: يا رسول الله، و الله ما اعتددت بشيء كاعتدادي بهذه البيعة، و لقد رجوت أن يفسح الله بها لي في قصور الجنان، و يجعلني فيها من أفضل النزال و السكان. و قال ثانيهم: بأبي أنت و أمي- يا رسول الله- ما وثقت بدخول الجنة، و النجاة من النار إلا بهذه البيعة، و الله ما يسرني- إن نقضتها، أو نكثت بها- ما أعطيت من نفسي ما أعطيت، و إن كان لي طلاع ما بين الثرى إلى العرش لآلئ رطبة و جواهر فاخرة. و قال ثالثهم: و الله- يا رسول الله- لقد صرت من الفرح بهذه البيعة- من السرور و الفسح من الآمال في رضوان الله- ما أيقنت أنه لو كان على ذنوب أهل الأرض كلها، لمحصت عني بهذه البيعة و حلف على ما قال من ذلك، و لعن من بلغ عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) خلاف ما حلف عليه، ثم تتابع بمثل هذا الاعتذار بعدهم من الجبابرة المتمردين. فقال الله عز و جل لمحمد (صلى الله عليه و آله): { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } يعني يخادعون رسول الله بأيمانهم بخلاف ما في جوانحهم { وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } كذلك أيضا الذين سيدهم و فاضلهم علي بن أبي طالب (عليه السلام). ثم قال: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } ما يضرون بتلك الخديعة إلا أنفسهم، فإن الله غني عنهم و عن نصرتهم، و لو لا إمهاله لهم لما قدروا على شيء من فجورهم و طغيانهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } أن الأمر كذلك، و أن الله يطلع نبيه على نفاقهم، و كفرهم و كذبهم، و يأمره بلعنهم في لعنة الظالمين الناكثين، و ذلك اللعن لا يفارقهم، في الدنيا يلعنهم خيار عباد الله، و في الآخرة يبتلون بشدائد عقاب الله ". 332/ [2]- ابن بابويه، قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهم السلام) [قال: **" إن رسول الله (صلى الله عليه و آله)] سئل: فيم النجاة غدا؟ فقال: إنما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم، فإنه من يخادع الله يخدعه، و يخلع الله منه الإيمان، و نفسه يخدع لو يشعر.** **فقيل له: كيف يخادع الله؟ فقال: يعمل بما أمر الله عز و جل به، ثم يريد به غيره، فاتقوا الرياء فإنه شرك بالله عز و جل، إن المرائي يدعي يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر حبط عملك، و بطل أجرك، و لا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } وأصل الختم الطبع، والخاتم: هو الطابع، يقال: منه ختمت الكتاب: إذا طبعته، فإن قال لنا قائل: وكيف يختم على القلوب،وإنما الختم طبع على الأوعية والظروف والغلف؟ قيل: فإن قلوب العباد أوعية لما أودعت من العلوم وظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور، فمعنى الختم عليها وعلى الاسماع التي بها تدرك المسموعات، ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء،عن المغيبات نظير معنى الختم،على سائر الأوعية والظروف. فإن قال: فهل لذلك من صفة تصفها لنا فنفهمها؟ أهي مثل الختم الذي يعرف لما ظهر للأبصار، أم هي بخلاف ذلك؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم.فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملى،قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش قال أرانا مجاهد بيده فقال كانوا يرون أن القلب في مثل هذا يعني الكف فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه وقال بإصبعه الخنصر هكذا فإذا أذنب ضم وقال بإصبع أخرى فإذا أذنب ضم وقال باصبع أخرى هكذا حتى ضم اصابعه كلها قال ثم يطبع عليه بطابع قال مجاهد وكانوا يرون أن ذلك الرين.حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع عن الأعمش، عن مجاهد قال القلب مثل الكف، فإذا أذنب ذنبا قبض أصبعا حتى يقبض أصابعه كلها، وكان أصحابنا يرون أنه الران.حدثنا القاسم بن الحسن، قال حدثنا الحسين بن داود، قال حدثني حجاج، قال حدثنا ابن جريج، قال: قال مجاهد: نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع الختم. قال ابن جريج: الختم، ختم على القلب والسمع.حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: حدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهد يقول: الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الاقفال، والإقفال أشد ذلك كله. وقال بعضهم: إنما معنى قوله: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } إخبار من الله جل ثناؤه عن تكبرهم واعراضهم عن الاستماع لما دوا إليه من الحق كما يقال إن فلاناً الأصم عن هذا الكلام إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا.والحق في ذلك عندي ما صحّ بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما.حدثنا به محمد بن يسار، قال حدثنا صفوان بن عيسى، قال حدثنا: ابن عجلان عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت حتى يغلف قلبه، فذلك الران الذي قال الله جل ثناؤه "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }** [المطففين: 14] فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلفتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع، فلا يكون للإيمان اليها مسلك،ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو الطبع والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم، إلا بعد فضه خاتمه، وحله رباطه عنها. ويقال لقائلي القول الثاني الزاعمين، أن معنى قوله جل ثناؤه { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } هو وصفهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دعوا إليه من الإقرار بالحق تكبرا، أخبرونا عن استكبار الذين وصفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة، واعراضهم عن الإقرار بما دعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللواحق به أفعل منهم،أم فعل من الله تعالى ذكره بهم. فإن زعموا أن ذلك فعل منهم، وذلك قولهم،قيل لهم: فإن الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وسمعهم،وكيف يجوز أن يكون إعراض الكافر عن الإيمان وتكبره عن الاقرار به، وهو فعله عندكم ختما من الله على قلبه، وسمعه، وختمه على قلبه وسمعه، فعل الله عز وجل دون فعل الكافر، فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك، لأن تكبره واعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه، فلما كان الختم سببا لذلك جاز أن يسمى مسببه به تركوا قولهم، وأوجبوا أن الختم من الله على قلوب الكفار وأسماعهم معنى غير كفر الكافر، وغير تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان واوالاقرار به، وذلك دخول فيما أنكره. وهذه الآية من أوضح الأدلة على فساد قول المنكريه تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه ختم على قلوب صنف من كفار عباده وأسماعهم، ثم لم يسقط التكليف عنهم ولم يضع عن أحد منهم فرائضه ولم يعذره في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه، بل أخبر أن لجميعهم منه عذاباً عظيماً على تركهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه مع حتمه القضاء عليهم مع ذلك بأنهم لا يؤمنون. القول في تأويل قوله جل ثناؤه { وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ } وقوله { وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ } خبر مبتدأ بعد تمام الخبر عما ختم الله جل ثناؤه عيه من جوارح الكفار الذين مضت قصصهم، وذلك أن غشاوة مرفوعة بقوله { وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ } فذلك دليل على أنه خبر مبتدأ، وأن قوله: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } قد تناهى عند قوله: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين، أحدهما: اتفاق الحجة من القراء والعلماء على الشهادة بتصحيحها، وانفراد المخالف لهم في ذلك وشذوذه عما هم على تخطئته مجمعون، وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهداً على خطئها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والثاني: أن الختم غير موصوفة به العيون في شيء من كتاب الله، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا موجود في لغة أحد من العرب. وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى: { وَختَمَ على سَمْعهِ وَقَلْبِهِ } ثم قال: { وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشاوَة } فلم يدخل البصر في معنى الختم، وذلك هو المعروف في كلام العرب. فلم يجز لنا ولا لأحد من الناس القراءة بنصب لغشاوة لما وصفت من العلتين اللتين ذكرت،وإن كان لنصبها مخرج معروف في العربية. وبما قلنا في ذلك من القول والتأويل، رُوي الخبر عن ابن عباس. حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي الـحسين بن الـحسن، عن أبـيه، عن جده، عن ابن عبـاس: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } والغشاوة علـى أبصارهم. فإن قال قائل: وما وجه مخرج النصب فـيها؟ قـيـل له: إن نصبها بإضمار «جعل» كأنه قال: وجعل علـى أبصارهم غشاوة ثم أسقط «جعل» إذ كان فـي أول الكلام ما يدل علـيه. وقد يحتـمل نصبها علـى إتبـاعها موضع السمع إذ كان موضعه نصبـاً، وإن لـم يكن حسناً إعادة العامل فـيه علـى «غشاوة» ولكن علـى إتبـاع الكلام بعضه بعضا، كما قال تعالـى ذكره:**{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ \* بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ }** [الواقعة: 17-18] ثم قال:**{ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ \* وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ \* وَحُورٌ عِينٌ }** [الواقعة: 20-22] فخفض اللـحم والـحور علـى العطف به علـى الفـاكهة إتبـاعاً لآخر الكلام أوله. ومعلوم أن اللـحم لا يطاف به ولا بـالـحور، ولكن ذلك كما قال الشاعر يصف فرسه: | **عَلَفْتُها تِبْناً وَماءً بـارِداً** | | **حَتَّـى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْناها** | | --- | --- | --- | ومعلوم أن الـماء يشرب ولا يعلف به، ولكنه نصب ذلك علـى ما وصفت قبل. وكما قال الآخر: | **وَرَأيْتُ زَوْجَكِ فـي الوَغَى** | | **مُتَقَلِّدَاً سَيْفـاً وَرُمْـحَا** | | --- | --- | --- | وكان ابن جريج يقول فـي انتهاء الـخبر عن الـختـم إلـى قوله: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } وابتداء الـخبر بعده بـمثل الذي قلنا فـيه، ويتأول فـيه من كتاب الله:**{ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ }** [الشورى: 24] حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: حدثنا ابن جريج، قال: الـختـم علـى القلب والسمع، والغشاوة علـى البصر، قال الله تعالـى ذكره:**{ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ }** [الشورى: 24] وقال: { وخَتـمَ علـى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ علـى بَصَرِهِ غِشاوَةً } والغشاوة فـي كلام العرب: الغطاء، ومنه قول الـحارث بن خالد بن العاص: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **تَبِعْتُكَ إذْ عَيْنِـي عَلَـيْها غِشاوَةٌ** | | **فَلـمَّا انْـجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي ألُومُها** | | --- | --- | --- | ومنه يقال: تغشاه الهم: إذا تـجلّله وركبه. ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان: | **هَلا سألْتِ بَنِـي ذُبْـيانَ ما حَسَبـي** | | **إذَا الدُّخانُ تَغَشَّى الأشمَطَ البَرِمَا** | | --- | --- | --- | يعنـي بذلك: إذا تـجلله وخالطه. وإنـما أخبر الله تعالـى ذكره نبـيه مـحمداً صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبـار الـيهود، أنه قد ختـم علـى قلوبهم وطبع علـيها فلا يعقلون لله تبـارك وتعالـى موعظة وعظهم بها فـيـما آتاهم من علـم ما عندهم من كتبه، وفـيـما حدّد فـي كتابه الذي أوحاه وأنزله إلـى نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم، وعلـى سمعهم فلا يسمعون من مـحمد صلى الله عليه وسلم نبـيّ الله تـحذيراً ولا تذكيراً ولا حجة أقامها علـيهم بنبوّته، فـيتذكروا ويحذروا عقاب الله عز وجل فـي تكذيبهم إياه، مع علـمهم بصدقه وصحة أمره وأعلـمه مع ذلك أن علـى أبصارهم غشاوة عن أن يبصروا سبـيـل الهدى فـيعلـموا قبح ما هم علـيه من الضلالة والردى. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك رُوي الـخبر عن جماعة من أهل التأويـل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ } أي عن الهدى أن يصيبوه أبداً بغير ما كذبوك به من الـحقّ الذي جاءك من ربك، حتـى يؤمنوا به، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك. حدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } يقول فلا يعقلون، ولا يسمعون. ويقول: وجعل علـى أبصارهم غشاوة، يقول: علـى أعينهم فلا يبصرون. وأما آخرون فإنهم كانوا يتأوّلون أن الذين أخبر الله عنهم من الكفـار أنه فعل ذلك بهم هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، قال: هاتان الآيتان إلـي: { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } هم:**{ ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ }** [إبراهيم: 28] وهم الذين قتلوا يوم بدر فلـم يدخـل من القادة أحد فـي الإسلام إلا رجلان: أبو سفـيان ابن حرب، والـحكم بن أبـي العاص. وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، عن الـحسن، قال: أما القادة فلـيس فـيهم مـجيب، ولا ناج، ولا مهتد، وقد دللنا فـيـما مضى علـى أولـى هذين التأويـلـين بـالصواب كرهنا إعادته. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }. وتأويـل ذلك عندي كما قاله ابن عبـاس وتأوّله. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: ولهم بـما هم علـيه من خلافك عذاب عظيـم، قال: فهذا فـي الأحبـار من يهود فـيـما كذّبوك به من الـحق الذي جاءك من ربك بعد معرفتهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ)
الختم والكتم أخوان لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه. والغشاوةالغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة. فإن قلت ما معنى الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار؟ قلت لا ختم ولا تغشية ثم على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز، ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه وهما الاستعارة والتمثيل. أما الاستعارة فأن تجعل قلوبهم لأن الحق لا ينفذ فيها ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله واعتقاده، وأسماعهم لأنها تمجه وتنبو عن الإصغاء إليه وتعاف استماعه كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لأنها لا تجتلي آيات الله المعروضة ودلائله المنصوبة كما تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين كأنما غطي عليها وحجبت، وحيل بينها وبين الإدراك. وأمّا التمثيل فأن تمثل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التي كلفوها وخلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها بالختم والتغطية. وقد جعل بعض المازنيين الحبسة في اللسان والعيّ ختماً عليه فقال | **خَتَمَ الإِلٰهُ عَلى لِسَانِ عُذَافِرٍ خَتْماً فلَيْسَ عَلى الكلامِ بقَادِرِ وإذا أَرَادَ النَّطْقَ خِلْتَ لِسَانَهُ لَحْماً يُحَرِّكُهُ لِصَقْرٍ نَاقِرِ** | | | | --- | --- | --- | فإن قلت فلم أسند الختم إلى الله تعالى وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحق والتوصل إليه بطرقه وهو قبيح والله يتعالى عن فعل القبيح علواً كبيراً لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عنه. وقد نص على تنزيه ذاته بقوله**{ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ }** ق 29،**{ وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّـٰلِمِينَ }** الزخرف 76،**{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاء }** الأعراف 28 ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل؟ قلت القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها. وأما إسناد الختم إلى الله عز وجل، فلينبه على أنّ هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشيء الخلقي غير العرضي. ألا ترى إلى قولهم فلان مجبول على كذا ومفطور عليه، يريدون أنه بليغ في الثبات عليه. وكيف يتخيل ما خيل إليك وقد وردت الآية ناعية على الكفار شناعة صفتهم وسماجة حالهم، ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم؟ ويجوز أن تضرب الجملة كما هي، وهي ختم الله على قلوبهم مثلاً كقولهم سال به الوادي، إذا هلك. وطارت به العنقاء، إذا أطال الغيبة، وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته وإنما هو تمثيل مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء فكذلك مثلت حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليها نحو قلوب الأغتام التي هي في خلوّها عن الفطن كقلوب البهائم، أو بحال قلوب البهائم أنفسها، أو بحال قلوب مقدّر ختم الله عليها حتى لا تعي شيئاً ولا تفقه، وليس له عزّ وجلّ فعل في تجافيها عن الحق ونبوّها عن قبوله، وهو متعال عن ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | ويجوز أن يستعار الإسناد في نفسه من غير الله لله، فيكون الختم مسنداً إلى اسم الله على سبيل المجاز. وهو لغيره حقيقة. تفسير هذا أنّ للفعل ملابسات شتى. يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له فإسناده إلى الفاعل حقيقة، وقد يسند إلى هذه الأشياء على طريق المجاز المسمى استعارة وذلك لمضاهاتها للفاعل في ملابسة الفعل، كما يضاهي الرجل الأسد في جراءته فيستعار له اسمه، فيقال في المفعول به عيشة راضية، وماء دافق. وفي عكسه سيل مفعم. وفي المصدر شعر شاعر، وذيل ذائل. وفي الزمان نهاره صائم. وليله قائم. وفي المكان طريق سائر، ونهر جار. وأهل مكة يقولون صلى المقام. وفي المسبب بنى الأمير المدينة، وناقة صبوث وحلوب. وقال | **إِذَا رَدَّ عَافِي الْقِدْرِ مَنْ يَسْتَعِيرُها** | | | | --- | --- | --- | فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أنّ الله سبحانه لما كان هو الذي أقدره ومكنه، أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب. ووجه رابع وهو أنهم لما كانوا على القطع والبت ممن لا يؤمن ولا تغنى عنهم الآيات والنذر، ولا تجدى عليهم الألطاف المحصلة ولا المقربة إن أعطوها. لم يبق ـــ بعد استحكام العلم بأنه لا طريق إلى أن يؤمنوا طوعاً واختياراً ـــ طريق إلى إيمانهم إلا القسر والإلجاء، وإذا لم تبق طريق إلا أن يقسرهم الله ويلجئهم ثم لم يقسرهم ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض في التكليف، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم، إشعاراً بأنهم الذين ترامى أمرهم في التصميم على الكفر والإصرار عليه إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء، وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغي واستشرائهم في الضلال والبغي. ووجه خامس وهو أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكماً بهم من قولهم**{ في قُلُوبُنَا أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ }** فصلت 5 ونظيره في الحكاية والتهكم قوله تعالى**{ لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيّنَةُ }** البينة 1 فإن قلت اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية فعلى أيهما يعوّل؟ قلت عل دخولها في حكم الختم لقوله تعالى**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً }** الجاثية 23 ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم. فإن قلت أيّ فائدة في تكرير الجارّ في قوله «وعلى سمعهم»؟ قلت لو لم يكرّر لكان انتظاماً للقلوب والأسماع في تعدية واحدة وحين استجدّ للأسماع تعدية على حدة، كان أدل على شدة الختم في الموضعين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | ووحد السمع كما وحد البطن في قوله كلوا في بعض بطنكم تعفوا، يفعلون ذلك إذا أمن اللبس. فإذا لم يؤمن كقولك فرسهم، وثوبهم، وأنت تريد الجمع رفضوه. ولك أن تقول السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع. فلمح الأصل يدل عليه جمع الأذن في قوله**{ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ }** فصلت 5 وأن تقدّر مضافاً محذوفاً أي وعلى حواس سمعهم. وقرأ ابن أبي عبلة وعلى أسماعهم. فإن قلت هلا منع أبا عمرو والكسائي من إمالة أبصارهم ما فيه من حرف الاستعلاء وهو الصاد؟ قلت لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية، لما فيه من التكرير كأن فيها كسرتين، وذلك أعون شيء على الإمالة وأن يمال له ما لا يمال. والبصر نور العين، وهو ما يبصر به الرائي ويدرك المرئيات. كما أن البصيرة نور القلب، وهو ما به يستبصر ويتأمل. وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما الله فيهما آلتين للإبصار والاستبصار. وقرىء «غِشاوةً» بالكسر والنصب. وغُشاةٌ بالضم والرفع. وغَشاوةً بالفتح والنصب. وغِشوةُ بالكسر والرفع. وغَشوةٌ بالفتح والرفع والنصب. وعشاوةٌ بالعين غير المعجمة والرفع، من العشا. والعذاب مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول أعذب عن الشيء، إذا أمسك عنه. كما تقول نكل عنه. ومنه العذب لأنه يقمع العطش ويردعه، بخلاف الملح فإنه يزيده. ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخاً لأنه ينقخ العطش أي يكسره. وفراتاً، لأنه يرفته على القلب. ثم اتسع فيه فسمى كل ألم فادح عذاباً، وإن لم يكن نكالاً ـــ أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة. والفرق بين العظيم والكبير، أن العظم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكأن العظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير. ويستعملان في الجثث والأحداث جميعاً. تقول رجل عظيم وكبير، تريد جثته أو خطره. ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله. ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله. اللَّهم أجرنا من عذابك ولا تبلنا بسخطك يا واسع المغفرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
القراءة: القراءة الظاهرة غشاوة بكسر الغين ورفع الهاء وروي عن عاصم في الشواذ غشاوة بالنصب وعن الحسن بضم الغين وعن بعضهم غشوة بغير ألف وقرأ أبو عمرو والكسائي على أبصارهم بالإمالة والباقون بالتفخيم وللقُرّاء في الإمالة مذاهب يطول شرحها. الحجة: حجة من رفع غشاوة أنه لم يحمله على ختم كما في الآية الأخرى وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فإذا لم يحملها عليه قطعها عنه فكانت مرفوعة إما بالظرف وإما بالابتداء وكذلك قولـه ولهم عذاب عظيم فإن عند سيبويه ترتفع غشاوة وعذاب بأنه مبتدأ فكأنه قال غشاوة على أبصارهم وعذاب لهم وعند الأخفش يرتفع بالظرف لأن الظرف يضمر فيه فعل وستعرف فائدة اختلافهما في هذه المسألة بعدُ إن شاء الله تعالى ومَن نصب غشاوة فإمّا أن يحملها على ختم كأنه قال وختم على أبصارهم بغشاوة فلما حذف حرف الجر وصل الفعل إليها فنصبها وهذا لا يتحين لأنه فصل بين حرف العطف والمعطوف به وذلك إنما يجوز في الشعر وإمّا أن يحملها على فعل مضمر كأنه قال وجعل على أبصارهم غشاوة نحو قول الشاعر: | **عَلّفتها تِبناً وماءً بارداً** | | | | --- | --- | --- | أي وسقيتها وقول الآخر: | **يَا لَيْتَ بَعلكِ قَدْ غَزا** | | **مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورمُحا** | | --- | --- | --- | أي وحاملاً رمحاً وهذا أيضاً لا يوجد في حال الاختيار فقد صح أن الرفع أولى وتكون الواو عاطفة جملة على جملة والغشاوة فيها ثلاث لغات فتح الغين وضمها وكسرها وكذلك الغشوة فيها ثلاث لغات. اللغة: الختم نظير الطبع يقال طبع عليه بمعنى ختم عليه ويقال طبعه أيضاً بغير حرف ولا يمتنع في ختم ذلك قال: | **كأنَّ قُرَاديْ زَوْرِهِ طَبَعْتُهما** | | **بِطِينٍ مِنَ الْجَوْلانِ كُتَّابُ أَعْجَمِ** | | --- | --- | --- | وقولـه ختامه مسك أي آخره ومنه ختم الكتاب لأنه آخر حال الفراغ منه وقولـه على سمعهم يريد على أسماعهم والسمع مصدر تقول يعجبني ضربكم أي ضروبكم فيوحّد لأنه مصدر ويجوز أن يريد على مواضع سمعهم فحذفت مواضع ودل السمع عليها كما يقال أصحابك عدل أي ذَوُو عدلٍ يجوز أن يكون لما أضاف السمع إليهم دلَّ على معنى أسماعهم قال الشاعر: | **بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فأمَّا عِظَامُها** | | **فَبِيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ** | | --- | --- | --- | وقال الآخر: | **في حَلْقكُم عَظمٌ وقد شَجينا** | | | | --- | --- | --- | أي في حلوقُكم والغشاوة الغطاء وكل ما اشتمل على الشيء بُني على فِعالة نحو العِمامة والقِلادة والعِصابة وكذلك أسماء الصناعات كالخياطة والقصارة والصياغة لأن معنى الصناعة الاشتمال على كل ما فيها وكذلك كل من استولى على شيء فاسم ما استولى عليه الفعالة كالإمارة والخلافة وغير ذلك وسُمّيَ القلب قلباً لتقلبه بالخواطر قال الشاعر: | **مَا سمّيَ القَلْبُ إلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ** | | **والرَّأيُ يَعْزُبُ وَالإِنْسَانُ أَطْوارُ** | | --- | --- | --- | والفوائد محل القلب والصدر محل الفؤاد وقد يُعبّر عن القلب بمحله كقولـه | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ }** [الفرقان: 32] وقال:**{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }** [الشرح: 1] يعني به القلب في الموضعين. والعذاب استمرار الألم يقال عذبته تعذيباً وعذاباً ويقال عذب الماء إذا استمر في الحلق وحمار عاذب وعذوب إذا استمر به العطش فلم يأكل من شدة العطش وفرس عذوب مثل ذلك وأعذبته عن الشيء بمعنى فطمته والعظيم الكبير يقال هو عظيم الجثة وعظيم الشأن سُمّيَ سبحانه عظيماً وعظمته كبرياؤه. المعنى: قيل في معنى الختم وجوه: أحدها: أن المراد بالختم العلامة وإذا انتهى الكافر من كفره إلى حالة يعلم الله تعالى أنه لا يؤمن فإنه يُعَلّمَ على قلبه علامة وقيل هي نكتة سوداء تشاهدها الملائكة فيعلمون بها أنه لا يؤمن بعدها فيذمونه ويدعون عليه كما أنه تعالى يكتب في قلب المؤمن الإيمان ويُعَلّمَ عليه علامة تعلم الملائكة بها أنه مؤمن فيمدحونه ويستغفرون له وكما طبع على قلب الكافر وختم عليه فوسمه بسمة تعرف بها الملائكة كفره فكذلك وسم قلوب المؤمنين بسمات تعرفهم الملائكة بها وقد تأول على مثل هذا مناولة الكتاب باليمين والشمال في أنها علامة أن المناول باليمين من أهل الجنة والمناول بالشمال من أهل النار وقولـه تعالى**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }** [النساء: 155] يحتمل أمرين أحدهما أنه طبع عليها جزاء للكفر وعقوبة عليه والآخر: أنه طبع عليها بعلامة كفرهم كما تقول طبع عليه بالطين وختم عليه بالشمع وثانيها: أن المراد بالختم على القلوب إن الله شهد عليها وحكم بأنها لا تقبل الحق كما يقال أراك تختم على كل ما يقولـه فلان أي تشهد به وتصدّقه وقد ختمت عليك بأنك لا تفلح أي شهدت وذلك استعارة وثالثها: أن المراد بذلك أنه تعالى ذمهم بأنها كالمختوم عليها في أنه لا يدخلها الإيمان ولا يخرج عنها الكفر كقولـه:**{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ }** [البقرة: 18] وكقول الشاعر: | **أصَمُّ عمّا ساءَه سَمِيعُ** | | | | --- | --- | --- | وقول الآخر: | **لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيت حَيّاً** | | **وَلكِنْ لا حَيَاةَ لِمَنْ تُنادِي** | | --- | --- | --- | والمعنى أن الكفر تمكن من قلوبهم فصارت كالمختوم عليها وصاروا بمنزلة من لا يفهم ولا يبصر ولا يسمع عن الأصم وأبي مسلم الأصفهاني ورابعها: أن الله وصف من ذمه بهذا الكلام بأن قلبه ضاق عن النظر والاستدلال فلم يشرع له فهو خلاف من ذكره في قولـه:**{ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ }** [الزمر: 22] ومثل قولـه:**{ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ }** [محمد: 24] وقولـه:**{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ }** [البقرة: 88] وقوله**{ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ }** [فصلت: 5] ويقوي ذلك أن المطبوع على قلبه وُصِف بقلة الفهم بما يسمع من أجل الطبع فقال بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً وقال:**{ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ }** [التوبة: 87] ويبين ذلك قولـه تعالى:**{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ }** [الأنعام: 46] فعدل الختم على القلوب بأخذه السمع والبصر فدل هذا على أن الختم على القلب هو أن يصير على وصف لا ينتفع به فيما يحتاج فيه إليه كما لا ينتفع بالسمع والبصر مع أخذهما وإنما يكون ضيّقه بأن لا يتسع لما يحتاج إليه فيه من النظر والاستدلال الفاصل بين الحق والباطل وهذا كما يوصف الجبان بأنه لا قلب له إذا بولغ في وصفه بالجبن لأن الشجاعة محلها القلب فإذا لم يكن القلب الذي هو محل الشجاعة لو كانت فإن لا تكون الشجاعة أولى قال طرفة: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | **فَالهَبيتُ لا فُؤادَ لَهُ** | | **وَالثَّبيتُ قَلْبُهُ قِيَمُهْ** | | --- | --- | --- | وكما وصف الجبان بأنه لا فؤاد له وإنه يَراعه وأنه مجوف كذلك وصف من بعد عن قبول الإسلام بعد الدعاء إليه وإقامة الحجة عليه بأنه مختوم على قلبه ومطبوع عليه وضيق صدره وقلبه في كنان وفي غلاف وهذا من كلام الشيخ أبي علي الفارسي وإنما قال ختم الله وطبع الله ذلك كان لعصيانهم الله تعالى فجاز ذلك اللفظ كما يقال أهلكته فُلاَنَةٌ إذا أعجب بها وهي لا تفعل به شيئاً لأنه هلك في اتباعها. سؤال: إن قيل لم خصّ هذه الأعضاء بالذكر؟ فالجواب: قيل إنها طرق العلم فالقلب محل العلم وطريقه إمّا السماع أو الرؤية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنهم لا يؤمنون أخبر في هذه الآية بالسبب الذي لأجله لم يؤمنوا، وهو الختم، والكلام ههنا يقع في مسائل: المسألة الأولى: الختم والكتم أخوان لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية، لئلا يتوصل إليه أو يطلع عليه، والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة. المسألة الثانية: اختلف الناس في هذا الختم، أما القائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر، ثم لهم قولان، منهم من قال: الختم هو خلق الكفر في قلوب الكفار، ومنهم من قال هو خلق الداعية التي إذا انضمت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سبباً موجباً لوقوع الكفر، وتقريره أن القادر على الكفر إما أن يكون قادراً على تركه أو لا يكون، فإن لم يقدر على تركه كانت القدرة على الكفر موجبة للكفر، فخلق القدرة على الكفر يقتضي خلق الكفر، وإن قدر على الترك كانت نسبة تلك القدرة إلى فعل الكفر وإلى تركه على سواء، فإما أن يكون صيرورتها مصدراً للفعل بدلاً عن الترك يتوقف على انضمام مرجح إليها أولا يتوقف، فإن لم يتوقف فقد وقع الممكن لا عن مرجح، وتجويزه يقتضي القدح في الاستدلال بالممكن على المؤثر، وذلك يقتضي نفي الصانع وهو محال، وأما إن توقف على المرجح فذلك المرجح إما أن يكون من فعل الله أو من فعل العبد أولا من فعل الله ولا من فعل العبد، لا جائز أن يكون من فعل العبد وإلا لزم التسلسل، ولا جائز أن يكون لا بفعل الله ولا بفعل العبد لأنه يلزم حدوث شيء لا لمؤثر، وذلك يبطل القول بالصانع. فثبت أن كون قدرة العبد مصدراً للمقدور المعين يتوقف على أن ينضم إليها مرجح هو من فعل الله تعالى. فنقول: إذا انضم ذلك المرجح إلى تلك القدرة فإما أن يصير تأثير القدرة في ذلك الأثر واجباً أو جائزاً أو ممتنعاً، والثاني والثالث، باطل فتعين الأول، وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون جائزاً لأنه لو كان جائزاً لكان يصح في العقل أن يحصل مجموع القدرة مع ذلك المرجح تارة مع ذلك الأثر، وأخرى منفكاً عنه، فلنفرض وقوع ذلك لأن كل ما كان جائزاً لا يلزم من فرض وقوعه محال، فذاك المجموع تارة يترتب عليه الأثر، وأخرى لا يترتب عليه الأثر، فاختصاص أحد الوقتين يترتب ذلك الأثر عليه إما أن يتوقف على انضمام قرينة إليه، أو لا يتوقف، فإن توقف كان المؤثر هو ذلك المجموع مع هذه القرينة الزائدة، لا ذلك المجموع، وكنا قد فرضنا أن ذلك المجموع هو المستقل خلف هذا، وأيضاً فيعود التقسيم في هذا المجموع الثاني، فإن توقف على قيد آخر لزم التسلسل وهو محال، وإن لم يتوقف فحينئذٍ حصل ذلك المجموع تارة بحيث يكون مصدراً للأثر، وأخرى بحيث لا يكون مصدراً له مع أنه لم يتميز أحد الوقتين عن الآخر بأمر ما ألبتة، فيكون هذا قولاً بترجح الممكن لا عن مرجح وهو محال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فثبت أن عند حصول ذلك المرجح يستحيل أن يكون صدور ذلك الأثر جائزاً، وأما أنه لا يكون ممتنعاً فظاهر، وإلا لكان مرجح الوجود مرجحاً للعدم وهو محال، وإذا بطل القسمان ثبت أن عند حصول مرجح الوجود يكون الأثر واجب الوجود عن المجموع الحاصل من القدرة، ومن ذلك المرجح، وإذا ثبت هذا كان القول بالجبر لازماً: لأن قبل حصول ذلك المرجح كان صدور الفعل ممتنعاً وبعد حصوله يكون واجباً، وإذ عرفت هذا كان خلق الداعية الموجبة للكفر في القلب ختماً على القلب ومنعاً له عن قبول الإيمان فإنه سبحانه لما حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون ذكر عقيبه ما يجري مجرى السبب الموجب له، لأن العلم بالعلة يفيد العلم بالمعلول، والعلم بالمعلول لا يكمل إلا إذا استفيد من العلم بالعلة، فهذا قول من أضاف جميع المحدثات إلى الله تعالى. وأما المعتزلة فقد قالوا: إنه لا يجوز إجراء هذه الآية على المنع من الإيمان واحتجوا فيه بالوجوه التي حكيناها عنهم في الآية الأولى وزادوا ههنا بأن الله تعالى قد كذب الكفار الذين قالوا إن على قلوبهم كنان وغطاء يمنعهم عن الإيمان**{ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }** [النساء: 155] وقال:**{ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ }** [فصلت: 4، 5] وهذا كله عيب وذم من الله تعالى فيما ادعوا أنهم ممنوعون عن الإيمان ثم قالوا: بل لا بدّ من حمل الختم والغشاوة على أمور أخر ثم ذكروا فيه وجوهاً: أحدها: أن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بدلائل الله تعالى حتى صار ذلك كالألف والطبيعة لهم أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه وكذلك هذا في عيونهم حتى كأنها مسدودة لا تبصر شيئاً وكأن بآذانهم وقراً حتى لا يخلص إليها الذكر، وإنما أضيف ذلك إلى الله تعالى لأن هذه الصفة في تمكنها وقوة ثباتها كالشيء الخلقي ولهذا قال تعالى:**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ }** [النساء: 155]**{ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }** [المطففين: 14]**{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ }** [التوبة: 77] وثانيها: أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وثالثها: أنهم لما أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى الذكر وكان ذلك عند إيراد الله تعالى عليهم الدلائل أضيف ما فعلوا إلى الله تعالى لأن حدوثه إنما اتفق عند إيراده تعالى دلائله عليهم كقوله تعالى في سورة براءة:**{ زَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** [التوبة: 125] أي ازدادوا بها كفراً إلى كفرهم. ورابعها: أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى تحصيل الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء إلا أن الله تعالى ما أقرهم عليه لئلا يبطل التكليف فعبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم إشعاراً بأنهم الذين انتهوا في الكفر إلى حيث لا يتناهون عنه إلا بالقسر وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغي. وخامسها: أن يكون ذلك حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكماً به من قولهم:**{ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ }** [فصلت: 5] ونظيره في الحكاية والتهكم قوله:**{ لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيّنَةُ }** [البينة: 1]. وسادسها: الختم على قلوب الكفار من الله تعالى هو الشهادة منه عليهم بأنهم لا يؤمنون، وعلى قلوبهم بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحق، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إلى الحق كما يقول الرجل لصاحبه أريد أن تختم على ما يقوله فلان، أي تصدقه وتشهد بأنه حق، فأخبر الله تعالى في الآية الأولى بأنهم لا يؤمنون، وأخبر في هذه الآية بأنه قد شهد بذلك وحفظه عليهم. وسابعها: قال بعضهم: هذه الآية إنما جاءت في قوم مخصوصين من الكفار فعل الله تعالى بهم هذا الختم والطبع في الدنيا عقاباً لهم في العاجل، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا فقال:**{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِئِين }** [البقرة: 65] وقال:**{ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى ٱلأرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَـٰسِقِينَ }** [المائدة: 26] ونحو هذا من العقوبات المعجلة لما علم الله تعالى فيها من العبرة لعبادة والصلاح لهم، فيكون هذا مثل ما فعل بهؤلاء من الختم والطبع، إلا أنهم إذا صاروا بذلك إلى أن لا يفهموا سقط عنهم التكليف كسقوطه عمن مسخ، وقد أسقط الله التكليف عمن يعقل بعض العقل كمن قارب البلوغ، ولسنا ننكر أن يخلق الله في قلوب الكافرين مانعاً يمنعهم عن الفهم والاعتبار إذا علم أن ذلك أصلح لهم كما قد يذهب بعقولهم ويعمي أبصارهم ولكن لا يكونون في هذا الحال مكلفين. وثامنها: يجوز أن يجعل الله على قلوبهم الختم وعلى أبصارهم الغشاوة من غير أن يكون ذلك حائلاً بينهم وبين الإيمان بل يكون ذلك كالبلادة التي يجدها الإنسان في قلبه والقذى في عينيه والطنين في أذنه، فيفعل الله كل ذلك بهم ليضيق صدورهم ويورثهم الكرب والغم فيكون ذلك عقوبة مانعة من الإيمان كما قد فعل ببني إسرائيل فتاهوا ثم يكون هذا الفعل في بعض الكفار ويكون ذلك آية للنبي صلى الله عليه وسلم ودلالة له كالرجز الذي أنزل على قوم فرعون حتى استغاثوا منه، وهذا كله مقيد بما يعلم الله تعالى أنه أصلح للعباد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وتاسعها: يجوز أن يفعل هذا الختم بهم في الآخرة كما قد أخبر أنه يعميهم قال:**{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّا }** [الإسراء: 97] وقال:**{ وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً }** [طه: 102] وقال:**{ ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوٰهِهِم }** [يۤس: 65] وقال:**{ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ }** [االأنبياء: 100]. وعاشرها: ما حكوه عن الحسن البصري ـ وهو اختيار أبي على الجبائي والقاضي ـ أن المراد بذلك علامة وسمة يجعلها في قلب الكفار وسمعهم فتستدل الملائكة بذلك على أنهم كفار، وعلى أنهم لا يؤمنون أبداً فلا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامة تعرف الملائكة بها كونهم مؤمنين عند الله كما قال:**{ أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإيمَـٰنَ }** [المجادلة: 22] وحينئذٍ الملائكة يحبونه ويستغفرون له، ويكون لقلوب الكفار علامة تعرف الملائكة بها كونهم ملعونين عند الله فيبغضونه ويلعنونه، والفائدة في تلك العلامة إما مصلحة عائدة إلى الملائكة لأنهم متى علموا بتلك العلامة كونه كافراً ملعوناً عند الله تعالى صار ذلك منفراً لهم عن الكفر أو إلى المكلف، فإنه إذا علم أنه متى آمن فقد أحبه أهل السموات صار ذلك مرغباً له في الإيمان وإذا علم أنه متى أقدم على الكفر عرف الملائكة منه ذلك فيبغضونه ويلعنونه صار ذلك زاجراً له عن الكفر. قالوا: والختم بهذا المعنى لا يمنع، لأنا نتمكن بعد ختم الكتاب أن نفكه ونقرأه، ولأن الختم هو بمنزلة أن يكتب على جبين الكافر أنه كافر، فإذا لم يمنع ذلك من الإيمان فكذا هذا الكافر يمكنه أن يزيل تلك السمة عن قلبه بأن يأتي بالإيمان ويترك الكفر. قالوا: وإنما خص القلب والسمع بذلك لأن الأدلة السمعية لا تستفاد إلا من جهة السمع، والأدلة العقلية لا تستفاد إلا من جانب القلب، ولهذا خصهما بالذكر. فإن قيل: فيتحملون الغشاوة في البصر أيضاً على معنى العلامة؟ قلنا لا، لأنا إنما حملنا ما تقدم على السمة والعلامة، لأن حقيقة اللغة تقتضي ذلك، ولا مانع منه فوجب إثباته. أما الغشاوة فحقيقتها الغطاء المانع من الإبصار ومعلوم من حال الكفار خلاف ذلك فلا بدّ من حمله على المجاز، وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية. فهذا مجموع أقوال الناس في هذا الموضع. المسألة الثالثة: الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الختم هي: الطبع، والكنان، والرين على القلب، والوقر في الآذان، والغشاوة في البصر ثم الآيات الواردة في ذلك مختلفة فالقسم الأول: وردت دلالة على حصول هذه الأشياء قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ }** [المطففين: 14]**{ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً }** [الأنعام: 25]**{ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ }** [التوبة: 87]**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }** [النساء: 155]**{ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون }** [فصلت: 4]**{ لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً }** [يۤس: 70]**{ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَاء }** [النمل: 80]**{ أَمْوٰتٌ غَيْرُ أَحْيَاء }** [النحل: 21]**{ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ }** [البقرة: 10] والقسم الثاني: وردت دلالة على أنه لا مانع البتة**{ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ }** [الأسراء: 94]**{ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر }** [االكهف: 29]**{ لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }** [البقرة: 286]**{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ }** [الحج: 78]**{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ }** [البقرة: 28]**{ لِمَ تَلْبِسُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَـٰطِلِ }** [آل عمران: 71] والقرآن مملوء من هذين القسمين، وصار كل قسم منهما متمسكاً لطائفة، فصارت الدلائل السمعية لكونها من الطرفين واقعة في حيز التعارض. أما الدلائل العقلية فهي التي سبقت الإشارة إليها، وبالجملة فهذه المسألة من أعظم المسائل الإسلامية وأكثرها شعباً وأشدها شغباً، ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال لا، لأنهم نزهوه، فسئل عن أهل السنّة فقال لا، لأنهم عظموه، والمعنى أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعلو كبريائه، إلا أن أهل السنّة وقع نظرهم على العظمة فقالوا: ينبغي أن يكون هو الموجد ولا موجد سواه، والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح، وأقول: ههنا سر آخر، وهو أن إثبات الإله يلجىء إلى القول بالجبر، لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح، وهو نفي الصانع، ولو توقفت لزم الجبر. وإثبات الرسول يلجىء إلى القول بالقدرة. بل ههنا سر آخر هو فوق الكل، وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح، وهذا يقتضي الجبر، ونجد أيضاً تفرقة بديهية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية وجزماً بديهياً بحسن المدح وقبح الذم والأمر والنهي، وذلك يقتضي مذهب المعتزلة، فكأن / هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية، وبحسب العلوم النظرية، وبحسب تعظيم الله تعالى نظراً إلى قدرته وحكمته، وبحسب التوحيد والتنزيه وبحسب الدلائل السمعية، فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت وعظمت، فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين رب العالمين. المسألة الرابعة: قال صاحب الكشاف: اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم، وفي حكم التغشية، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم، لقوله تعالى:**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً }** [الجاثية: 23] ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم. المسألةالخامسة: الفائدة في تكرير الجار في قوله: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } أنها لما أعيدت للأسماع كان أدل على شدة الختم في الموضعين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | المسألة السادسة: إنما جمع القلوب والأبصار ووحد السمع لوجوه: أحدها: أنه وحد السمع، لأن لكل واحد منهم سمعاً واحداً، كما يقال: أتاني برأس الكبشين، يعني رأس كل واحد منهما، كما وحد البطن في قوله: «كلوا في بعض بطنكمو تعيشوا» يفعلون ذلك إذا أمنوا اللبس، فإذا لم يؤمن كقولك. فرشهم وثوبهم وأنت تريد الجمع رفضوه. الثاني: أن السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع يقال: رجلان صوم، ورجال صوم، فروعي الأصل، يدل على ذلك جمع الأذن في قوله:**{ وَفِى ءاذانِنَا وَقْر }** [فصلت: 5] الثالث: أن نقدر مضافاً محذوفاً أي وعلى حواس سمعهم. الرابع قال سيبويه: إنه وحد لفظ السمع إلا أنه ذكر ما قبلة وما بعده بلفظ الجمع، وذلك يدل على أن المراد منه الجمع أيضاً، قال تعالى:**{ يُخْرِجُهُم مّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّور }** [البقرة: 257]**{ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَال }** [المعارج: 37] قال الراعي: | **بها جيف الحيدى فأما عظامها** | | **فبيض وأما جلدها فصليب** | | --- | --- | --- | وإنما أراد جلودها، وقرأ ابن أبي عبلة وعلى أسماعهم. المسألة السابعة: من الناس من قال: السمع أفضل من البصر، لأن الله تعالى حيث ذكرهما قدم السمع على البصر، والتقديم دليل على التفضيل، ولأن السمع شرط النبوة بخلاف البصر، ولذلك ما بعث الله رسولاً أصم، وقد كان فيهم من كان مبتلى بالعمى، ولأن بالسمع تصل نتائج عقول البعض إلى البعض، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف، والبصر لا يوقفك إلا على المحسوسات، ولأن السمع متصرف في الجهات الست بخلاف البصر، ولأن السمع متى بطل بطل النطق، والبصر إذا بطل لم يبطل النطق. ومنهم من قدم البصر، لأن آلة القوة الباصرة أشرف، ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور، ومتعلق القوة السامعة الريح. المسألة الثامنة: قوله: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } يدل على أن محل العلم هو القلب. واستقصينا بيانه في قوله:**{ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ }** [الشعراء: 193] في سورة الشعراء. المسألة التاسعة: قال صاحب الكشاف: البصر نور العين وهو ما يبصر به الرائي ويدرك المرئيات، كما أن البصيرة نور القلب، وهو ما يستبصر به ويتأمل، فكأنهما جوهران لطيفان خلق الله تعالى فيهما آلتين للإبصار والاستبصار، أقول: إن أصحابه من المعتزلة لا يرضون منه بهذا الكلام: وتحقيق القول في الأبصار يستدعي أبحاثاً غامضة لا تليق بهذا الموضع. المسألة العاشرة: قرىء { غِشَـٰوَةً } بالكسر والنصب، وغشاوة بالضم والرفع، وغشاوة بالفتح والنصب، وغشوة بالكسر والرفع، وغشوة بالفتح والرفع والنصب، وغشاوة بالعين غير المعجمة والرفع من الغشا، والغشاوة هي الغطاء، ومنه الغاشية، ومنه غشي عليه إذا زال عقله والغشيان كناية عن الجماع. المسألة الحادية عشرة: العذاب مثل النكال بناء ومعنى، لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، كما تقول نكل عنه، ومنه العذب، لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده، ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخاً، لأنه ينقخ العطش أي يكسره، وفراتاً لأنه برفته عن القلب، ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذاباً وإن لم يكن نكالاً أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة، والفرق بين العظيم والكبير: أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكأن العظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير، ويستعملان في الجثث والأحداث جميعاً، تقول: رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره، ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | المسألة الثانية عشرة: اتفق المسلمون على أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار، وقال بعضهم لا يحسن وفسروا قوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } بأنهم يستحقون ذلك لكن كرمه يوجب عليه العفو، ولنذكر ههنا دلائل الفريقين، أما الذين لا يجوزون التعذيب فقد تمسكوا بأمور. أحدها: أن ذلك التعذيب ضرر خالٍ عن جهات المنفعة، فوجب أن يكون قبيحاً، أما أنه ضرر فلا شك، وأما أنه خالٍ عن جهات المنفعة، فلأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى، أو إلى غيره، والأول باطل، لأنه سبحانه متعالٍ عن النفع والضرر بخلاف الواحد منا في الشاهد، فإن عبده إذا أساء إليه أدبه، لأنه يستلذ بذلك التأديب لما كان في قلبه من حب الانتقام ولأنه إذا أدبه فإنه ينزجر بعد ذلك عما يضره. والثاني: أيضاً باطل، لأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى المعذب أو إلى غيره أما إلى المعذب فهو محال، لأن الإضرار لا يكون عين الانتفاع وأما إلى غيره فمحال، لأن دفع الضرر أولى بالرعاية من إيصال النفع، فإيصال الضرر إلى شخص لغرض إيصال النفع إلى شخص آخر ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو باطل وأيضاً فلا منفعة يريد الله تعالى إيصالها إلى أحد إلا وهو قادر على ذلك الاتصال من غير توسيط الإضرار بالغير، فيكون توسيط ذلك الإضرار عديم الفائدة. فثبت أن التعذيب ضرر خالٍ عن جميع جهات المنفعة وأنه معلوم القبح ببديهة العقل، بل قبحه أجلى في العقول من قبح الكذب الذي لا يكون ضاراً، والجهل الذي لا يكون ضاراً، بل من قبح الكذب الضار والجهل الضار، لأن ذلك الكذب الضار وسيلة إلى الضرر وقبح ما يكون وسيلة إلى الضرر، دون قبح نفس الضرر، وإذا ثبت قبحه امتنع صدوره من الله تعالى، لأنه حكيم والحكيم لا يفعل القبيح، وثانيها: أنه تعالى كان عالماً بأن الكافر لا يؤمن على ما قال:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [البقرة: 6] إذا ثبت هذا ثبت أنه متى كلف الكافر لم يظهر منه إلا العصيان، فلو كان ذلك العصيان سبباً للعقاب لكان ذلك التكليف مستعقباً لاستحقاق العقاب، إما لأنه تمام العلة، أو لأنه شطر العلة، وعلى الجملة فذلك التكليف أمر متى حصل حصل عقيبة لا محالة العقاب، وماكان مستعقباً للضرر الخالي عن النفع كان قبيحاً، فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحاً، والقبيح لا يفعله الحكيم، فلم يبق ها هنا إلا أحد أمرين، إما أن يقال لم يوجد هذا التكليف أو إن وجد لكنه لا يستعقب العقاب، وكيف كان فالمقصود حاصل وثالثها: أنه تعالى إما أن يقال خلق الخلق للإنفاع، أو للإضرار، أولا للإنفاع ولا للإضرار، فإن خلقهم للإنفاع وجب أن لا يكلفهم ما يؤدي به إلى ضد مقصوده مع علمه بكونه كذلك، ولما علم إقدامهم على العصيان لو كلفهم كان التكليف فعلاً يؤدي بهم إلى العقاب، فإذا كان قاصداً لإنفاعهم وجب أن لا يكلفهم، وحيث كلفهم دل على أن العصيان لا يكون سبباً لاستحقاق العذاب، ولا جائز أن يقال. خلقهم لا للإنفاع ولا للإضرار، لأن الترك على العدم يكفي في ذلك، ولأنه على هذا التقدير يكون عبثاً، ولا جائز أن يقال: خلقهم للإضرار، لأن مثل هذا لا يكون رحيماً كريماً، وقد تطابقت العقول والشرائع على كونه رحيماً كريماً، وعلى أنه نعم المولى ونعم النصير، وكل ذلك يدل على عدم العقاب. ورابعها: أنه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي، فيكون هو الملجىء إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها، إنما قلنا إنه هو الخالق لتلك الدواعي، لما بينا أن صدور الفعل عن مقدرة يتوقف على انضمام الداعية التي يخلقها الله تعالى إليها، وبينا أن ذلك يوجب الجبر، وتعذيب المجبور قبيح في العقول، وربما قرروا هذا من وجه آخر فقالوا: إذا كانت الأوامر والنواهي الشرعية قد جاءت إلى شخصين من الناس فقبلها أحدهما وخالفها الآخر فأثيب أحدهما وعوقب الآخر، فإذا قيل لم قيل هذا وخالف الآخر؟ فيقال لأن القابل أحب الثواب وحذر العقاب فأطاع، والآخر لم يحب ولم يحذر فعصى، أو أن هذا أصغى إليّ من وعظه وفهم عنه مقالته فأطاع، وهذا لم يصغ ولم يفهم فعصى، فيقال: ولم أصغى هذا وفهم ولم يصغ ذلك ولم يفهم؟ فنقول: لأن هذا لبيب حازم فطن، وذلك أخرق جاهل غبي فيقال ولم اختص هذا بالحزم والفطنة دون ذاك، ولا شك أن الفطنة والبلادة من الأحوال الغريزية. فإن الإنسان لا يختار الغباوة والخرق ولا يفعلهما في نفسه بنفسه؟ فإذا تناهت التعليلات إلى أمور خلقها الله تعالى اضطراراً علمنا أن كل هذه الأمور بقضاء الله تعالى وليس يمكنك أن تسوي بين الشخصين اللذين أطاع أحدهما وعصى الآخر في كل حال أعني في العقل والجهل، والفطانة والغباوة، والحزم والخرق، والمعلمين والباعثين والزاجرين، ولا يمكنك أن تقول إنهما لو استويا في ذلك كله لما استويا في الطاعة والمعصية، فإذن سبب الطاعة والمعصية من الأشخاص أمور وقعت بتخليق الله تعالى وقضائه، وعند هذا يقال: أين من العدل والرحمة والكرم أن يخلق العاصي على ما خلقه الله عليه من الفظاظة والجسارة، والغباوة والقساوة، والطيش والخرق، ثم يعاقبه عليه، وهلا خلقه مثل ما خلق الطائع لبيباً حازماً عارفاً عالماً، وأين من العدل أن يسخن قلبه ويقوي غضبه ويلهب دماغه ويكثر طيشه ولا يرزقه ما رزق غيره من مؤدب أديب ومعلم عالم وواعظ مبلغ، بل يقيض له أضداد هؤلاء في أفعالهم وأخلاقهم فيتعلم منهم ثم يؤاخذه بما يؤاخذ به اللبيب الحازم، والعاقل العالم، البارد الرأس، المعتدل مزاج القلب، اللطيف الروح الذي رزقه مربياً شفيقاً، ومعلماً كاملاً؟ ما هذا من العدل والرحمة والكرم والرأفة في شيء فثبت بهذه الوجوه أن القول بالعقاب على خلاف قضايا العقول. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وخامسها: أنه تعالى إنما كلفنا النفع لعوده إلينا، لأنه قال:**{ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا }** [الإسراء: 7] فإذا عصينا فقد فوتنا على أنفسنا تلك المنافع، فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنساناً ويقول له إني أعذبك العذاب الشديد، لأنك فوت على نفسك بعض المنافع، فإنه يقال له إن تحصيل النفع مرجوح بالنسبة إلى دفع الضرر فهب أني فوت على نفسي أدون المطلوبين أفتفوت عليّ لأجل ذلك أعظمها وهل يحسن من السيد أن يأخذ عبده ويقول إنك قدرت على أن تكتسب ديناراً لنفسك ولتنتفع به خاصة من غير أن يكون لي فيه غرض ألبتة، فلما لم تكتسب ذلك الدينار ولم تنتفع به آخذك وأقطع أعضاءك إرباً إرباً، لا شك أن هذا نهاية السفاهة، فكيف يليق بأحكم الحاكمين ثم قالوا هب أن سلمنا هذا العقاب فمن أين القول بالدوام؟ وذلك لأن أقسى الناس قلباً وأشدهم غلظة وفظاظة وبعداً عن الخير إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه وعذبه يوماً أو شهراً أو سنة فإنه يشبع منه ويمل، فلو بقي مواظباً عليه لامه كل أحد، ويقال هب أنه بالغ هذا في أضرارك، ولكن إلى متى هذا التعذيب، فإما أن تقتله وتريحه، وإما أن تخلصه، فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذ بالانتقام فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام الذي يقال وسادسها: أنه سبحانه نهى عباده عن استيفاء الزيادة، فقال:**{ فَلاَ يُسْرِف فّى ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا }** [الإسرءا: 33] وقال:**{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا }** [الشورى: 40] ثم إن العبد هب أنه عصى الله تعالى طول عمره فأين عمره من الأبد؟ فيكون العقاب المؤبد ظلماً. وسابعها: أن العبد لو واظب على الكفر طول عمره، فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه وأجاب دعاءه وقبل توبته، ألا ترى أن هذا الكريم العظيم ما بقي في الآخرة، أو عقول أولئك المعذبين ما بقيت فلم لا يتوبون عن معاصيهم؟ وإذا تابوا فلم لا يقبل الله تعالى منهم توبتهم، ولم لا يسمع نداءهم، ولم يخيب رجاءهم؟ ولم كان في الدنيا في الرحمة والكرم إلى حيث قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ }** [غافر: 60]**{ أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ }** [النمل: 62] وفي الآخرة صار بحيث كلما كان تضرعهم إليه أشد فإنه لا يخاطبهم إلا بقوله:**{ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ }** [المؤمنون: 108] قالوا: فهذه الوجوه مما توجب القطع بعدم العقاب. ثم قال من آمن من هؤلاء بالقرآن: العذر عما ورد في القرآن من أنواع العذاب من وجوه: أحدها: أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد اليقين، والدلائل العقلية تفيد اليقين، والمظنون لا يعارض المقطوع. وإنما قلنا: إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين، لأن الدلائل اللفظية مبنية على أصول كلها ظنية والمبني على الظني ظني، وإنما قلنا إنها مبنية على أصول ظنية، لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف، ورواة هذه الأشياء لا يعلم بلوغهم إلى حد التواتر، فكانت روايتهم مظنونة، وأيضاً فهي مبنية على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار بالزيادة والنقصان وعدم التقديم والتأخير، وكل ذلك أمور ظنية، وأيضاً فهي مبنية على عدم المعارض العقلي، فإنه بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معاً، ولا يمكن ترجيح النقل على العقل لأن العقل أصل النقل، والطعن في العقل يوجب الطعن في العقل والنقل معاً، لكن عدم المعارض العقلي مظنون، هذا إذا لم يوجد فكيف وقد وجدنا ههنا دلائل عقلية على خلاف هذه الظواهر، فثبت أن دلالة هذه الدلائل النقلية ظنية، وأما أن الظني لا يعارض اليقيني فلا شك فيه. وثانيها: وهو أن التجاوز عن الوعيد مستحسن فيما بين الناس، قال الشاعر: | **وإني إذا أوعدته أو وعدته** | | **لمخلف إيعادي ومنجز موعدي** | | --- | --- | --- | بل الإصرار على تحقيق الوعيد كأنه يعد لؤما، وإذا كان كذلك وجب أن لا يصلح من الله تعالى، وهذا بناءً على حرف وهو أهل السنّة جوزوا نسخ الفعل قبل مدة الامتثال وحاصل حروفهم فيه أن الأمر يسن تارة لحكمة تنشأ من نفس المأمور به، وتارة لحكمة تنشأ من نفس الأمر، فإن السيد قد يقول لعبده إفعل الفعل الفلاني غداً وإن كان يعلم في الحال أنه سينهاه عنه غداً، ويكون مقصوده من ذلك الأمر أن يظهر العبد الانقياد لسيده في ذلك ويوطن نفسه على طاعته، فكذلك إذا علم الله من العبد أنه سيموت غداً فإنه يحسن عند أهل السنّة أن يقول: صلِ غداً إن عشت، ولا يكون المقصود من هذا الأمر تحصيل المأمور به، لأنه ههنا محال بل المقصود حكمة تنشأ من نفس الأمر فقط، وهو حصول الانقياد والطاعة وترك التمرد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | إذا ثبت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يقال الخبر أيضاً كذلك؟ فتارة يكون منشأ الحكمة من الأخبار هو الشيء المخبر عنه وذلك في الوعد، وتارة يكون منشأ الحكمة هو نفس الخبر لا المخبر عنه كما في الوعيد، فإن الأخبار على سبيل الوعيد مما يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات، فإذا حصل هذا المقصود جاز أن لا يوجد المخبر عنه كما في الوعيد، وعند هذا قالوا إن وعد الله بالثواب حق لازم وأما توعده بالعقاب فغير لازم، وإنما قصد به صلاح المكلفين مع رحمته الشاملة لهم، كالوالد يهدد ولده بالقتل والسمل والقطع والضرب، فإن قبل الولد أمره فقد انتفع وإن لم يفعل فما في قلب الوالد من الشفقة يرده عن قتله وعقوبته، فإن قيل فعلى جميع التقادير يكون ذلك كذباً والكذب قبيح قلنا لا نسلم أن كل كذب قبيح بل القبيح هو الكذب الضار، فأما الكذب النافع فلا، ثم إن سلمنا ذلك، لكن لا نسلم أنه كذب، أليس أن جميع عمومات القرآن مخصوصة ولا يسمى ذلك كذباً، أليس أن كل المتشابهات مصروفة عن ظواهرها، ولا يسمى ذلك كذباً فكذا ههنا. وثالثها: أليس أن آيات الوعيد في حق العصاة مشروطة بعدم التوبة وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً في صريح النص، فهي أيضاً عندنا مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً بصريح النص صريحاً، أو نقول: معناه أن العاصي يستحق هذه الأنواع من العقاب فيحمل الإخبار عن الوقوع على الأخبار عن استحقاق الوقوع فهذا جملة ما يقال في تقرير هذا المذهب. وأما الذين أثبتوا وقوع العذاب، فقالوا إنه نقل إلينا على سبيل التواتر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوع العذاب فإنكاره يكون تكذيباً للرسول وأما الشبه التي تمسكتم بها في نفي العقاب فهي مبنية على الحسن والقبح وذلك مما لا نقول به والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | | | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)
فيها عشر مسائل: الأولى: قوله تعالى: { خَتَمَ ٱللَّهُ } بيَّن سبحانه في هذه الآية المانع لهم من الإيمان بقوله: «ختم الله». والختم مصدر ختمت الشيء ختماً فهو مختوم ومختّم شدّد للمبالغة، ومعناه التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء ومنه: ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك، حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غير ما فيه. وقال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرَّيْن والموت والقساوة والانصراف والحَمِيّة والإنكار. فقال في الإنكار:**{ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ }** [النحل:22] وقال في الحَمِيّة:**{ إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ }** [الفتح:26] وقال في الانصراف:**{ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون }** [التوبة:127] وقال في القساوة:**{ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ }** [الزمر:22] وقال:**{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ }** [البقرة:74] وقال في الموت:**{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ }** [الأنعام:122]. وقال:**{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ }** [الأنعام:36]. وقال في الرَّيْن:**{ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }** [المطففين:14]. وقال في المرض:**{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَض }** [البقرة:10]. وقال في الضيق:**{ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً }** [الأنعام:125] وقال في الطبع:**{ فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ }** [المنافقون:3] وقال:**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }** [النساء:155]. وقال في الختم: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ }. وسيأتي بيانها كلها في مواضعها إن شاء الله تعالى. الثانية: الختم يكون محسوساً كما بينا، ومعنىً كما في هذه الآية. فالختم على القلوب: عدم الوعي عن الحق ـ سبحانه ـ مفهوم مخاطباته والفكر في آياته. وعلى السمع. عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دعُوا إلى وحدانيته. وعلى الأبصار: عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته هذا معنى قول ٱبن عباس وٱبن مسعود وقتادة وغيرهم. الثالثة: في هذه الآية أدَلّ دليل وأوضح سبيل على أن الله سبحانه خالق الهدى والضلال، والكفر والإيمان فاعتبروا أيها السامعون، وتعجبوا أيها المفكرون من عقول القدرية القائلين بخلق إيمانهم وهداهم فإن الختم هو الطبع فمن أين لهم الإيمان ولو جَهَدوا وقد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، فمتى يهتدون، أو من يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم**{ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }** [الرعد:33] وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن أضله وخذله، إذ لم يمنعه حقاً وجب له فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم. فإن قالوا: إن معنى الختم والطبع والغشاوة التسميةُ والحكم والإخبارُ بأنهم لا يؤمنون، لا الفعل. قلنا: هذا فاسد، لأن حقيقة الختم والطبع إنما هو فعل ما يصير به القلب مطبوعاً مختوماً لا يجوز أن تكون حقيقته التسمية والحكم ألا ترى أنه إذا قيل: فلان طبع الكتاب وختمه، كان حقيقة أنه فعل ما صار به الكتاب مطبوعاً ومختوماً، لا التسمية والحكم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة، ولأن الأمة مجمعة على أن الله تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال تعالى:**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }** [النساء:155]. وأجمعت الأمة على أن الطبع والختم على قلوبهم من جهة النبي عليه السلام والملائكة والمؤمنين ممتنع فلو كان الختم والطبع هو التسمية والحكم لما ٱمتنع من ذلك الأنبياء والمؤمنون لأنهم كلهم يسمون الكفار بأنهم مطبوع على قلوبهم، وأنهم مختوم عليها وأنهم في ضلال لا يؤمنون ويحكمون عليهم بذلك. فثبت أن الختم والطبع هو معنىً غير التسمية والحكم وإنما هو معنىً يخلقه الله في القلب يمنع من الإيمان به دليله قوله تعالى:**{ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ.لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ }** [الحجر:12]. وقال:**{ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ }** [الأنعام:25]. أي لئلا يفقهوه، وما كان مثله. الرابعة: قوله: { عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } فيه دليل على فضل القلب على جميع الجوارح. والقلب للإنسان وغيره. وخالص كل شيء وأشرفه قلبه فالقلب موضع الفكر. وهو في الأصل مصدر قَلَبْتُ الشيء أقلِبه قلباً إذا رددته على بداءته. وقلبت الإناء: رددته على وجهه. ثم نقل هذا اللفظ فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان، لسرعة الخواطر إليه، ولترددها عليه كما قيل: | **ما سُمِّيَ القلب إلاّ مِنْ تقلُّبِه** | | **فاحذْر على القلب من قَلْبٍ وتحويل** | | --- | --- | --- | ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو الشريف التزمت فيه تفخيم قافه، تفريقاً بينه وبين أصله. روى ٱبن ماجه عن أبي موسى الأشعري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" مَثَلُ القلب مَثَلُ ريشة تقلّبها الرياح بفلاة "** ولهذا المعنى كان عليه الصلاة والسلام يقول: **" اللهم يا مثبت القلوب ثبّت قلوبنا على طاعتك "** فإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقوله مع عظيم قدره وجلال منصبه فنحن أولى بذلك اقتداء به قال الله تعالى:**{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ }** [الأنفال:24]. وسيأتي. الخامسة: الجوارح وإن كانت تابعة للقلب فقد يتأثر القلب ـ وإن كان رئيسها وملِكها ـ بأعمالها للارتباط الذي بين الظاهر والباطن قال صلى الله عليه وسلم: **" إن الرجل ليصدُقُ فتُنْكت في قلبه نكتة بيضاء وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسودّ قلبه "** وروى الترمذي وصححه عن أبي هريرة: **" أن الرجل ليصيب الذنب فيسودّ قلبه فإن هو تاب صقل قلبه "** قال: وهو الرَّين الذي ذكره الله في القرآن في قوله:**{ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }** [المطففين:14]. وقال مجاهد: القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب إصبع، ثم يطبع. قلت: وفي قول مجاهد هذا، وقوله عليه السلام: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" إن في الجسد مُضْغةً إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "** دليل على أن الختم يكون حقيقياً والله أعلم. وقد قيل: إن القلب يشبه الصّنوْبرة، وهو يَعْضُد قول مجاهد والله أعلم. وقد روى مسلم عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدّثنا **" أن الأمانة نزلت في جِذْر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فَعلِموا من القرآن وعلِموا من السُّنة "** ثم حدّثنا عن رفع الأمانة قال: **" ينام الرجل النَّومة فتُقْبَض الأمانةُ من قلبه فَيَظَل أثرها مثلَ الوكْت ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المَجْلِ كَجْمرٍ دحرجته على رجلك فَنفِط فتراه مُنْتَبِراً وليس فيه شيء ـ ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله ـ فيُصبِح الناس يتبابعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال للرجل ما أجْلدَه ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيَّكم بايعت لئن كان مسلماً ليردّنه عليّ دينه ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردّنه عليّ ساعيه وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً "** ففي قوله: «الْوَكْت» وهو الأثر اليسير. ويقال للبُسْر إذا وقعت فيه نكتة من الإرطاب: قد وكَت، فهو مُوكِّت. وقوله: «الْمَجْل»، وهو أن يكون بين الجلد واللحم ماء وقد فسّره النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: **" كجمرٍ دحرجته "** أي دوّرته على رجلك فنفط. «فتراه مُنْتَبِراً» أي مرتفعاً ـ ما يدل على أن ذلك كله محسوس في القلب يفعل فيه وكذلك الختم والطبع والله أعلم. وفي حديث حذيفة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" تُعْرَض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عُوداً فأَيُّ قلب أُشْرِبَها نُكِت فيه نُكتةٌ سوداء وأيّ قلب أَنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قَلْبين على أبيضَ مثل الصَّفا فلا تضره فتنةٌ ما دامت السموات والأرض والآخرُ أسودُ مُرْبَادٌ كالكُوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفاً ولا يُنْكر منكراً إلاّ ما أُشْرب من هواه... "** وذكر الحديث. «مُجَخِّياً»: يعني مائلاً. السادسة: القلب قد يعبر عنه بالفؤاد والصدر، قال الله تعالى:**{ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ }** [الفرقان: 32]. وقال:**{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }** [الشرح:1] يعني في الموضعين قلبك. وقد يعبر به عن العقل قال الله تعالى:**{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ }** [ق:37] أي عقل لأن القلب محل العقل في قول الأكثرين. والفؤاد محل القلب، والصدر محل الفؤاد والله أعلم. السابعة: قوله تعالى: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } ٱستدل بها مَن فضّل السمع على البصر لتقدمه عليه، وقال تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ }** [الأنعام:46]. وقال:**{ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ }** [السجدة: 9]. قال: والسمع يُدْرَك به من الجهات الست، وفي النور والظلمة ولا يُدْرَك بالبصر إلا من الجهة المقابلة، وبواسطة من ضياء وشعاع. وقال أكثر المتكلمين بتفضيل البصر على السمع لأن السمع لا يدرك به إلا الأصوات والكلام، والبصر يدرك به الأجسام والألوان والهيئات كلها. قالوا: فلما كانت تعلقاته أكثر كان أفضل وأجازوا الإدراك بالبصر من الجهات الست. الثامنة: إن قال قائل: لِمَ جمع الأبصار ووَحَّد السمع؟ قيل له: إنما وحده لأنه مصدر يقع للقليل والكثير يقال: سمعت الشيء أسمعه سَمْعاً وسماعاً، فالسّمع مصدر سمعت والسمع أيضاً ٱسم للجارحة المسموع بها سُمِّيت بالمصدر. وقيل: إنه لما أضاف السمع إلى الجماعة دل على أنه يراد به أسماع الجماعة كما قال الشاعر: | **بها جِيَفُ الحَسْرَى فأما عِظامُها** | | **فبيضٌ وأما جلدها فصَلِيبُ** | | --- | --- | --- | إنما يريد جلودها فوحّد لأنه قد علم أنه لا يكون للجماعة جلد واحد. وقال آخر في مثله: | **لا تُنكِرِ القتلَ وقد سُبينَا** | | **في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شجينا** | | --- | --- | --- | يريد في حلوقكم ومثله قول الآخر: | **كأنّه وجهُ تُرْكِيّيْن قد غضبا** | | **مستهدف لطعان غير تذبيب** | | --- | --- | --- | وإنما يريد وجهين، فقال وجه تركيين لأنه قد علم أنه لا يكون للاثنين وجه واحد ومثله كثير جداً. وقرىء: «وعلى أسماعهم» ويحتمل أن يكون المعنى وعلى مواضع سمعهم لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقد يكون السمع بمعنى الاستماع يقال: سَمْعُك حديثي ـ أي ٱستماعك إلى حديثي ـ يعجبني ومنه قول ذي الرُّمة يصف ثورا تَسمَّع إلى صوت صائد وكلاب: | **وقد تَوَجَّسَ رِكْزاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ** | | **بِنَبْأَةِ الصوتِ ما في سَمعه كَذِبُ** | | --- | --- | --- | أي ما في ٱستماعه كذب أي هو صادق الاستماع. والنَّدُس: الحاذق. والنَّبْأَة: الصوت الخفي، وكذلك الركز. والسِّمع بكسر السين وإسكان الميم: ذِكر الإنسان بالجميل يقال: ذهب سِمْعه في الناس أي ذكره. والسِّمْع أيضاً: ولد الذئب من الضبع. والوقف هنا: «وعلى سمعهم». و «غِشَاوَةٌ» رفع على الابتداء وما قبله خبر. والضمائر في «قلوبهم» وما عُطِف عليه لمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن من كفار قريش، وقيل من المنافقين، وقيل من اليهود، وقيل من الجميع، وهو أصوب لأنه يعم. فالختم على القلوب والأسماع. والغشاوة على الأبصار. والغشاء: الغطاء. وهي: التاسعة: ومنه غاشية السَّرْج وغشيت الشيء أغشيه. قال النابغة: | **هلاّ سألت بني ذُبْيان ما حسبِي** | | **إذا الدُّخَانُ تَعشَّى الأشمْطَ البَرَمَا** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **صحبتُكَ إذ عيني عليها غشاوةٌ** | | **فلما ٱنجلَتْ قطَّعتُ نفسي أَلُومُها** | | --- | --- | --- | قال ٱبن كَيسان: فإن جمعت غشاوة قلت: غشاء بحذف الهاء. وحكى الفرّاء: غشاوى مثل أداوى. وقرىء: «غشاوةً» بالنصب على معنى وجعل، فيكون من باب قوله: | **علفتُها تبْناً وماء بارداً** | | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال الآخر: | **يا ليت زوجَك قد غدا** | | **متقلِّداً سيفاً ورُمْحَا** | | --- | --- | --- | المعنى وأسقيتها ماء، وحاملا رمحا لأن الرمح لا يتقلد. قال الفارسي: ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة وٱختيار فقراءة الرفع أحسن، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة. قال: ولم أسمع من الغشاوة فعلاً متصرفاً بالواو. وقال بعض المفسرين: الغشاوة على الأسماع والأبصار والوقف على «قلوبهم». وقال آخرون: الختم في الجميع، والغشاوة هي الختم فالوقف على هذا على «غشاوة». وقرأ الحسن «غُشاوة» بضم الغين، وقرأ أبو حَيْوَةَ بفتحها وروي عن أبي عمرو: غشوة ردّه إلى أصل المصدر. قال ٱبن كيسان: ويجوز غَشْوة وغُشْوة وأجودها غِشاوة كذلك تستعمل العرب في كل ما كان مشتملاً على الشيء، نحو عِمامة وكِنانة وقِلادة وعِصابة وغير ذلك. العاشرة: قوله تعالى: { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } أي للكافرين المكذبين { عَذَابٌ عظِيمٌ } نعته. والعذاب مثل الضرب بالسوط والحرق بالنار والقطع بالحديد إلى غير ذلك مما يؤلم الإنسان. وفي التنزيل:**{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }** [النور:2] وهو مشتق من الحبس والمنع يقال في اللغة: أَعْذِبه عن كذا أي ٱحبسه وٱمنعه ومنه سمي عذوبة الماء لأنها قد أعذبت. وٱستعذب بالحبس في الوعاء ليصفو ويفارقه ما خالطه ومنه قول عليّ رضي الله عنه: أَعْذِبُوا نساءكم عن الخروج أي ٱحبسوهن. وعنه رضي الله عنه وقد سَيَّعَ سَرِيَّةً فقال: أَعْذِبُوا عن ذكر النساء أنفسكم فإن ذلك يَكْسِرُكم عن الغزو وكل من منعته شيئاً فقد أعذبته وفي المثل: «لألجمنّك لجاماً معذِباً» أي مانعاً عن ركوب الناس. ويقال: أَعْذَبَ أي ٱمتنع. وَأَعْذَب غيره، فهو لازم ومتعدٍّ فسمي العذاب عذاباً لأن صاحبه يحبس ويمنع عنه جميع ما يلائم الجسد من الخير ويهال عليه أضدادها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ } تعليل للحكمِ السابق وبيان لما يقتضيه. والختم الكتم، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له والبلوغ آخره نظراً إلى أنه آخر فعل يفعل في إحرازه. والغشاوة: فعالة من غشاه إذا غطاه، بنيت لما يشتمل على الشيء، كالعصابة والعمامة ولا ختم ولا تغشية على الحقيقة، وإنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصي، واستقباح الإيمان والطاعات بسبب غيهم، وانهماكهم في التقليد، وإعراضهم عن النظر الصحيح، فتجعل قلوبهم بحيث لا ينفذ فيها الحق، وأسماعهم تعاف استماعه فتصير كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لا تجتلي الآيات المنصوبة لهم في الأنفس والآفاق كما تجتليها أعين المستبصرين، فتصير كأنها غُطي عليها. وحيل بينها وبين الإبصار، وسماه على الاستعارة ختماً وتغشية. أو مثل قلوبهم ومشاعرهم المؤوفة بها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها ختماً وتغطية، وقد عبر عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى:**{ أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْ }** [النحل: 108] وبالاغفال في قوله تعالى:**{ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا }** [الكهف: 28] وبالاقساء في قوله تعالى:**{ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً }** [المائدة: 13] وهي من حيث إن الممكنات بأسرها مستندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه ومن حيث إنها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله تعالى:**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }** [النساء: 155] وقوله تعالى:**{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ }** [المنافقون: 3] وردت الآية ناعية عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم. واضطربت المعتزلة فيه فذكروا وجوهاً من التأويل: الأول: أن القوم لما أعرضوا عن الحق وتمكن ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه. الثاني: أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن. أو قلوب مقدر ختم الله عليها، ونظيره: سال به الوادي إذا هلك. وطارت به العنقاء إذا طالت غيبته. الثالث: أن ذلك في الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر، لكن لما كان صدوره عنه بإقداره تعالى إياه أسند إليه إسناد الفعل إلى المسبب. الرابع: أن أعراقهم لما رسخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى الإلجاء والقسر، ثم لم يقسرهم إبقاء على غرض التكليف، عبر عن تركه بالختم فإنه سد لإيمانهم. وفيه إشعار على تمادي أمرهم في الغي وتناهي انهماكهم في الضلال والبغي. الخامس: أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولون مثل:**{ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ }** [فصلت: 5] تهكماً واستهزاءً بهم [و] كقوله تعالى:**{ لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | [البينة: 1] الآية. السادس: أن ذلك في الآخرة، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحققه وتيقن وقوعه ويشهد له قوله تعالى:**{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا }** [الإسراء: 97] السابع: أن المراد بالختم وَسْمُ قُلوبهم بسمة تعرفها الملائكة، فيبغضونهم وينفرون عنهم، وعلى هذا المنهاج كلامنا وكلامهم فيما يضاف إلى الله تعالى من طبع وإضلال ونحوهما. و { عَلَىٰ سَمْعُهُمْ } معطوف على قلوبهم لقوله تعالى:**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ }** [الجاثية: 23] وللوفاق على الوقف عليه، ولأنهما لما اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات، وإدراك الأبصار لما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة، وكرر الجار ليكون أدل على شدة الختم في الموضعين واستقلال كل منهما بالحكم. ووحد السمع للأمن من اللبس واعتبار الأصل، فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تجمع. أو على تقدير مضاف مثل وعلى حواس سمعهم. والأبصار جمع بصر وهو: إدراك العين، وقد يطلق مجازاً على القوة الباصرة، وعلى العضو وكذا السمع، ولعل المراد بهما في الآية العضو لأنه أشد مناسبة للختم والتغطية، وبالقلب ما هو محل العلم وقد يطلق ويراد به العقل والمعرفة كما قال تعالى:**{ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ }** [ق: 37] وإنما جاز إمالتها مع الصاد لأن الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير. وغشاوة رفع بالابتداء عند سيبويه، وبالجار والمجرور عند الأخفش، ويؤيده العطف على الجملة الفعلية. وقرىء بالنصب على تقدير، وجعل على أبصارهم غشاوة، أو على حذف الجار وإيصال الختم بنفسه إليه والمعنى: وختم على أبصارهم بغشاوة، وقرىء بالضم والرفع، وبالفتح والنصب وهما لغتان فيها. وغشوة بالكسر مرفوعة، وبالفتح مرفوعة ومنصوبة وعشاوة بالعين الغير المعجمة. { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } وعيد وبيان لما يستحقونه. والعذاب كالنكال بناءً، ومعنى تقول: عذب عن الشيء ونكل عنه إذا أمسك، ومنه الماء العذب لأنه يقمع العطش ويردعه ولذلك سمي نقاخاً وفراتاً، ثم اتسع فأطلق على كل ألم قادح وإن لم يكن نكالاً، أي: عقاباً يردع الجاني عن المعاودة فهو أعم منهما. وقيل اشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذب كالتقذية والتمريض. والعظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكما أن الحقير دون الصغير، فالعظيم فوق الكبير، ومعنى التوصيف به أنه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه وحقر بالإضافة إليه ومعنى التنكير في الآية أن على أبصارهم نوع غشاوة ليس مما يتعارفه الناس، وهو التعامي عن الآيات، ولهم من الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ)
قال السدي ختم الله، أي طبع الله. وقال قتادة في هذه الآية استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، فهم لا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. وقال ابن جريج قال مجاهد ختم الله على قلوبهم، قال الطبع، ثبتت الذنوب على القلب، فحفت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع الختم. قال ابن جريج الختم على القلب والسمع قال ابن جريج وحدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهداً يقول الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد من ذلك كله وقال الأعمش أرانا مجاهد بيده، فقال كانوا يرون أن القلب في مثل هذه، يعني الكف، فإذا أذنب العبد ذنباً ضم منه، وقال بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضم، وقال بأصبع أخرى، فإذا أذنب ضم، وقال بأصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعه كلها، ثم قال يطبع عليه بطابع. وقال مجاهد كانوا يرون أن ذلك الرين. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن الأعمش عن مجاهد بنحوه، قال ابن جرير وقال بعضهم إنما معنى قوله تعالى { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق كما يقال إن فلاناً أصم عن هذا الكلام إذا امتنع من سماعه، ورفع نفسه عن تفهمه تكبراً. قال وهذا لا يصح لأن الله تعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم قلت وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير ههنا، وتأول الآية من خمسة أوجه، وكلها ضعيفة جداً، وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله لأن الختم على قلوبهم، ومنعها من وصول الحق إليها، قبيح عنده، يتعالى الله عنه في اعتقاده، ولو فهم قوله تعالى**{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم }** الصف 5 وقوله**{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }** الأنعام 110 وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم، وحال بينهم وبين الهدى، جزاء وفاقاً على تماديهم في الباطل، وتركهم الحق، وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح، فلو أحاط علماً بهذا لما قال ما قال، والله أعلم. قال القرطبي وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }** النساء 155 وذكر حديث تقليب القلوب **" ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك "** وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **" تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباد، كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً "** الحديث، قال ابن جرير والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما حدثنا به محمد بن بشار حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا ابن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } "** المطففين 14 هذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة والليث بن سعد، وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم، ثلاثتهم عن محمد بن عجلان به، وقال الترمذي حسن صحيح. ثم قال ابن جرير فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب، أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذٍ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } نظير الختم والطبع على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحل رباطه عنها. واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } ، وقوله { وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ } جملة تامة، فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع، والغشاوة، وهي الغطاء، يكون على البصر كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } يقول فلا يعقلون، ولا يسمعون. يقول وجعل على أبصارهم غشاوة، يقول على أعينهم، فلا يبصرون. وقال ابن جرير حدثني محمد بن سعد حدثنا أبي حدثني عمي الحسين بن الحسن عن أبيه عن جده عن ابن عباس ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، والغشاوة على أبصارهم. قال وحدثنا القاسم حدثنا الحسين - يعني ابن داود وهو سنيد - حدثني حجاج - وهو ابن محمد الأعور - حدثني ابن جريج قال الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ }** الشورى 24 وقال**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً }** الجاثية 23 قال ابن جرير ومن نصب غشاوة من قوله تعالى { وعلى أبصارهم غشاوة } ، يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره وجعل على أبصارهم غشاوة، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محل وعلى سمعهم كقوله تعالى**{ وَحُورٌ عِينٌ }** الواقعة 22 وقول الشاعر | **عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً حَتَّى شَتَتْ هَمَّالةً عيناها** | | | | --- | --- | --- | وقال الآخر | **ورأيتُ زوجَكِ في الوَغَى مُتَقَلداً سَيْفاً وَرُمْحا** | | | | --- | --- | --- | تقديره وسقيتها ماء بارداً، ومعتقلاً رمحاً. لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات، ثم عرَّف حال الكافرين بهاتين الآيتين، شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس، أطنب في ذكرهم بصفات متعددة، كل منها نفاق، كما أنزل سورة براءة فيهم، وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور تعريفاً لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضاً، فقال تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } طبع عليها واستوثق فلا يدخلها خير { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } أي مواضعه فلا ينتفعون بما يسمعونه من الحق { وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَٰوَةٌ } غطاء فلا يبصرون الحق { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } قوي دائم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ)
قوله تعالى: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي طبع الله، ومعنى الختم على قلوبهم أي، ليس أنه يذهب بعقولهم ولكنهم لا يتفكرون فيعتبرون بعلامات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيؤمنون { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } فهم لا يسمعون الحق { وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ } أي غطاء فلا يبصرون الهدى. واتفقت الأئمة السبعة رحمهم الله على القراءة برفع الهاء (غشاوة) وقرأ بعضهم بنصبها وهي قراءة شاذة. فأما من قرأ برفع الهاء، فهو على معنى الابتداء أي: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، ثم ابتدأ فقال { وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ } وأما من قرأ بالنصب فيكون الجعل فيه مضمراً، يعني: جعل على أبصارهم غشاوة. فقد ذكر في شأن المؤمنين ثوابهم في الدنيا الهدى، وفي الآخرة الفلاح، وذكر في شأن الكفار عقوبتهم في الدنيا الختم، وفي الآخرة { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } يعني عذاباً وجيعاً، يخلص الوجع إلى قلوبهم. قال [الفقيه رحمه الله] وفي الآية إشكال في موضعين: أحدهما في اللفظ والآخر في المعنى: فأما الذي في اللفظ { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } ذكر جماعة القلوب ثم قال: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } ذكر بلفظ الوحدان، ثم قال: { وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ } ذكر بلفظ الجمع، فجوابه: [عن هذا: أن يقال] أن السمع مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع فلهذا المعنى والله أعلم ذكر بلفظ الوحدان. وقد قيل: معنى { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } أي: موضع سمعهم لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع. وقد قيل: إن الإضافة إلى الجماعة تغني عن لفظ الجماعة، لأنه قال: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } فقد أضاف إلى الجماعة، والشيء إذا أضيف إلى الجماعة مرة يذكر بلفظ الجماعة، ومرة يذكر بلفظ الوحدان. فلو ذكر القلوب والأبصار بلفظ الوحدان لكان سديداً في اللغة. فذكر البعض بلفظ الوحدان، والبعض بلفظ الجماعة، وهذه علامة الفصاحة لأن كتاب الله تعالى أفصح الكلام. وأما الإشكال الذي في المعنى أن يقال: إذا ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، فمنعهم عن الهدى فكيف يستحقون العقوبة؟ والجواب عن هذا: أن يقال: أنه ختم مجازاة لكفرهم. كما قال في آية أخرى:**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }** [النساء: 155] لأن الله تعالى قد يسر عليهم سبيل الهدى، فلو جاهدوا لوفقهم، كما قال [تعالى]**{ وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }** [العنكبوت: 69] فلما لم يجاهدوا واختاروا الكفر عاقبهم الله تعالى في الدنيا بالختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم وفي الآخرة بالعذاب العظيم. وروي عن مجاهد أنه قال: من أول سورة البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين. وروي عن مقاتل أنه قال: آيتان من أول السورة في نعت المؤمنين المهاجرين [وآيتان في نعت المؤمنين غير المهاجرين]، وآيتان في نعت مؤمني أهل الكتاب، وآيتان في نعت الكفار، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين من قوله:**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ }** [البقرة: 8] إلى قوله:**{ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ }** [البقرة: 20]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ)
قوله تعالى: { خَتَمَ اللهُ على قُلُوبِهِمْ } الختم الطبع، ومنه ختم الكتاب، وفيه أربعة تأويلات: أحدها: وهو قول مجاهد: أن القلب مثل الكف، فإذا أذنب العبْدُ ذنباً ضُمَّ منه كالإصبع، فإذا أذنب ثانياً ضم منه كالإصبع الثانية، حتى يضمَّ جميعه ثم يطبع عليه بطابع. والثاني: أنها سمة تكون علامة فيهم، تعرفهم الملائكة بها من بين المؤمنين. والثالث: أنه إخبار من الله تعالى عن كفرهم وإعراضهم عن سماع ما دعوا إليه من الحق، تشبيهاً بما قد انسدَّ وختم عليه، فلا يدخله خير. والرابع: أنها شهادة من الله تعالى على قلوبهم، بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحقَّ، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إليه، والغشاوة: تعاميهم عن الحق. وسُمِّي القلب قلباً لتقلُّبِهِ بالخواطر، وقد قيل: | **ما سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ** | | **وَالرَّأْيُ يَصْرِفُ، والإنْسَانُ أَطْوَارُ** | | --- | --- | --- | والغشاوة: الغطاء الشامل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ)
قوله تعالى: { ختم الله على قلوبهم } الختم: الطبع، والقلب: قطعة من دم جامدة سوداء، وهو مستكن في الفؤاد، وهو بيت النفس، ومسكن العقل، وسمي قلبا لتقلبه. وقيل: لأنه خالص البدن، وإنما خصَّه بالختم لأنه محل الفهم. قوله تعالى: { وعلى سمعهم } يريد: على أسماعهم، فذكره بلفظ التوحيد، ومعناه: الجمع، فاكتفى بالواحد عن الجميع، ونظيره قوله تعالى:**{ ثم يخرجكم طفلا }** [الحج: 5]. وأنشدوا من ذلك: | **كلوا في نصف بطنكم تعيشوا** | | **فانَّ زمانكم زمن خميص** | | --- | --- | --- | أي: في أنصاف بطونكم. ذكر هذا القول أبو عبيدة، والزجاج. وفيه وجه آخر، وهو أن العرب تذهب بالسمع مذهب المصدر، والمصدر يوحد، تقول: يعجبني حديثكم، ويعجبني ضربكم، فأما البصر والقلب فهما اسمان لا يجريان مجرى المصادر في مثل هذا المعنى. ذكره الزجاج، وابن القاسم. وقد قرأ عمرو بن العاص، وابن أبي عبلة: { وعلى أسماعهم } قوله تعالى: { وعلى أبصارهم غشاوة } الغشاوة: الغطاء. قال الفراء: أما قريش وعامة العرب، فيكسرون الغين من«غشاوة» وعكل يضمون الغين، وبعض العرب يفتحها، وأظنها لربيعة. وروى المفضل عن عاصم «غشاوةً» بالنصب على تقدير: جعل على أبصارهم غشاوة. فأما العذاب، فهو الألم المستمر، وماء عذب: إذا استمر في الحلق سائغاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ)
{ خَتَمَ اللَّهُ } حفظ ما في قلوبهم ليجازيهم عنه، كأنه مأخوذ من ختم ما يُراد حفظه، الختم: الطبع، ختمت الكتاب. وذلك علامة تعرفهم الملائكة بها من بين المؤمنين، أو القلب كالكف إذا أذنب العبد ذنباً ختم منه كالإصبع، فإذا أذنب آخر ختم منه كالإصبع الثانية حتى ينختم جميعه، ثم يطبع عليه بطابع، أو هو إخبار عن كفرهم، وإعراضهم عن سماع الحق شبهه بما سد وختم عليه فلا يدخله خير، أو شهادة من الله عليها أنها لا تعي الحق، وعلى أسماعهم أنها لا تصغي إليه، كما يختم الشاهد على الكتاب { غِشَاوَةٌ } والغشاوة الغطاء الشامل، أراد بذلك تعاميهم عن الحق. سمى القلب قلباً، لتقلبه بالخواطر. | **ما سمى القلب إلا من تقلبه** | | **والرأي يصرف والإنسان أطوار** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
قوله تعالى: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ... } قرر ابن عرفة وجه المناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها (بأنها) سبب فيه، كأنه قيل: لِمَ لا ينفع الإنذار فيهم؟ فقيل: بسبب الختم على قلوبهم. قال ابن عرفة: هكذا قرره بعضهم. ويرد عليه (أنه كان يكون الأوْلى تقدير هذه الآية على ما قبلها، لأنها سبب فيه وكان يمشي لنا فيه) إن كان تقرير المناسبة بأنّ امتناع تأثير الفعل في المفعول إما (لخلل) في الفاعل أو المَانِعِ في القابل فقد يضرب بالسيف شجاع قوي ويكون على المضروب مصفّح من حديد فلا يؤثر فيه شيئا، فأخبر هنا أن (تعذر) تأثير الإنذار فيهم لا بتوهم أنه (لإخلال) (واقع في الرسول) في تبليغه بوجه بل لمانع فيهم هو (الطبع) على قلوبهم. وفسر ابن عطية الختم بثلاثة أوجه: الأول: أنه (حسي) حقيقة، فإن القلب على هيئة الكف ينقبض مع زيادة الضلال كما ينقبض الكف إصبعا إصبعا. الثاني: أنّه مجاز (عبارة عن خلق الضّلال في قلوبهم) (وأنّ ما خلق الله في قلوبهم من الكفر والضلال والإعراض عن الإيمان سمّاه ختما). الثالث: إنّه مجاز في الإسناد كما (يقال)، أهلك المال فلانا وإنّما أهلكه (سوء تصرفه فيه). قال ابن عرفة: وسكت ابن عطية عن هذا الثالث وهو إنما يناسب مذهب المعتزلة ولما جاءت الآية مصادمة لمذهبهم تأولها الزمخشري وأطال وقال: إنه مجاز واستعارة. وقال ابن عرفة: فجعله تمثيلا. قال: والفرق بين التشبيه والتمثيل والاستعارة أن إطلاق الصفة على الموصوف إن كان بأداة التشبيه فهو تشبيه مثل: زيد كالأَسَدِ، وإلا فإن كان بواسطة ما يدل على التمثيل فهو تمثيل نحو: زيد الأسد، وإن لم يكن بواسطة فهو استعارة مثل: رأيت أسدا (يكرّ) ويفرّ في الحرب. وظاهر كلام الطيبي أنّه لا فرق بين التشبيه والتمثيل. قال: والآية حجة لمن يقول: إن العقل في القلب، ولو كان في الدماغ لقال: ختم الله على أدمغتهم. فإن قلت: لم قدم القلب والأصل تأخيره؟ قلت: لوجهين: إما (لأنّ) السمع والبصر طريقان إليه فما يلزم من الختم (عليهما) الختم عليه، إذ لعلّه يعلم (المعقولات) بقلبه. ويلزم من الختم على القلب عدم الانتفاع بمدركات السمع؛ وإما لأن المدركات قسمان: وجدانيات ومحسوسات. فما يلزم من نفي المحسوسات نفي الوجدانيات (بخلاف) العكس. (قال): وأجاب (الطيبي) بأن (الأمور) المدركات على ثلاثة أقسام: معقولات، ومسموعات، ومبصرات قال: فإن المعقولات أغمض وإدراكها (أصعب) والمحسوسات أبين وإدراكها أهون، فقدم الختم على القلب ليكون تأسيسا، إذ لا يلزم من عدم إدراكهم الدليل الصعب الغميض عدم إدراكهم الدليل البين الظاهر. ((وقال بعض الناس: (نص) أفلاطون وأرسطو وغيرهما على أن المعقولات فرع المحسوسات))، ونفي الفرع لا يستلزم نفي الأصل بخلاف العكس. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | قوله تعالى: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ... } إفراد السمع إما لأمن اللبس أو لأنه مصدر (مبهم) (يحتمل القليل والكثير). أو لإضافته إلى (المجموع فأغنى عن جمعه أو لأن الكلام على حذف مضاف قدره الزمخشري: (وعلى) حواس سمعهم، وابن عطية: على (مواضع) سمعهم. (وضعف ابن عرفة الأول بأنه أمن اللبس أيضا في القلوب فهلا قيل: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } وضعف الثاني بأن الختم إذا كان (حقيقة) كأول تأويلات ابن عطية: فيه أنه حسّي فلا يصح تعلقه (بالسمع) لأن (المصدر) معنى من المعاني إلا أن يتجوز في الختم، (أو) يتجوز في السمع فيراد به محله. قال الزمخشري: (والبصر) نور العين، وهو ما يبصر به الرائي ويدرك به المرئيات، كما أنّ البصيرة نور القلب وهو ما (به) يستبصر ويتأمل. قيل لابن عرفة: إنّ ابن (راشد) قال: (إنّ) هذا لا يجري على قواعده وإنما يتم على مذهب أهل السنة؟ (فقال): بل هو (يحتمل) (الأمرين)، لأن ذلك النور هل هو بأشعة تنفصل من الرائي للمرئي، أو يحتمل المذهبين؟ قال: وإعادة حرف الجر دليل على أن لكل واحد منهما (ختما) (يخصه) فهو يمنزله (الكلّية) لاَ الكل. قوله تعالى: { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } قال ابن عرفة: (العَظِيمُ) للتّهكم. قال الزمخشري: والعظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، والعظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير. قال ابن عرفة: هذا ينتج له العكس (لأن) نفي (الأبلغ) يحصل (بثبوت) (أدون نقائضه)، ونفي (احقر) العذاب يصدق (بثبوت) العذاب العظيم وإن كان في نفسه صغيرا، أما العذاب الصغير يصدق عليه أنه عذاب عظيم لأن نفي (الأبلغ) في الحقارة عنه منتف، فإذا كان ضد الحقير عظيما لزم أن يكون الكبير أعظم من العظيم قطعا، لأنه إذا انتفى عن العذاب اسم الحقارة ثبت له نقيضه وهو (العظم) وإن كان في نفسه صغيرا. ((وإذا انتفى عنه ما فوق الحقارة وهو (الصغر) ثبت له ما فوق ذلك وهو (الكبر) (وكان) أعظم من العظيم./ ويؤيد ذلك (اختيارهم) في تكبير الصلاة عند الإحرام لفظ: الله أكبر (ولم يختاروا) الله العظيم فدل على أن الكبير أعظم من العظيم)). قلت: هذا عند مالك خلافا لأبي حنيفة فإنه أجاز دخول الصّلاة بالله العظيم أو السّميع أو الكبير ونحو ذلك والزمخشري حنفي المذهب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ)
اعلم أنه - تعالى - لما بيَّن في الآية الأولى أنَّهُمْ لا يؤمنون أخبر في هذه الآية السَّبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم. واعلم أن الختم والكَتْم أخوان وهو: الاشتياق بالشَّيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية؛ لئلا يتوصّل إليه، ومنه: الخَتْم على الباب. " على قلوبهم " متعلّقة بـ " ختم " ، و " على سمعهم " يحتمل عطفه على " قلوبهم " ، وهو الظاهر، للتصريح بذلك، أعني: نسبة الختم إلى السمع في قوله تعالى:**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ }** [الجاثية: 23] ويحتمل أن يكون خبراً مقدماً، وما بعده عطف عليه. و " غشاوة " مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خَبرُها ظرفاً، أو حرف جر تاماً، وقدم عليها جاز الابتداء بها، [ويكون تقديم الخبر حينئذ واجباً؛ لتصحيحه الابتداء بالنكرة]، والآية من هذا القبيل، وهذا بخلاف قوله تعالى:**{ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ }** [الأنعام: 2]؛ ويبتدأ بما بعده، وهو " وعلى أبصارهم غشَاوَةٌ " فـ " على أبصارهم " خبر مقدم، و " غِشَاوة " مبتدأ مؤخر. وعلى الاحتمال الثاني يوقف على " قلوبهم " ، وإنما كرر حرف الجر؛ ليفيد التأكيد ويشعر ذلك بتَغَايُرِ الختمين، وهو: أن ختم القلوب غير ختم الأسماع. وقد فرق النحويون بين " مررت بزيد وعمرو " وبين " مررت بزيد وبعمرو " فقالوا في الأول هو ممرور واحد، وفي الثاني هما ممروران، وهو يؤيد ما قُلْتُهُ، إلا أن التعليل بالتأكيد يشمل الإعرابين، أعني: جعل " وعلى سمعهم " معطوفاً على قوله: " على قلوبهم " ، وجعله خبراً مقدماً. وأما التعليل بتغاير الختمين فلا يجيء إلا على الاحتمال الأول، وقد يُقَال على الاحتمال الثاني أن تكرير الحرف يُشعر بتغاير الغِشَاوتين، وهو أنَّ الغشاوة على السَّمع غير الغِشَاوة على البَصَرِ، كما تقدم ذلك في الختمين. وقرىء: غِشَاوة بالكسر والنصب، وبالفتح والنصب وبالضَّم والرفع، وبالكسر والرفع - و " غشوة " بالفتح والرفع والنصب - و " عشاوة " بالعين المهملة، والرفع من العَشَا. فأما النصب ففيه ثلاثة أوجه: الأول: على إضمار فعل لائق، أي: وجعل على أبصارهم غِشَاوة، وقد صرح بهذا العامل في قوله تعالى:**{ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَٰوَةً }** [الجاثية: 23]. والثاني: الانتصاب على إسقاط حرف الجر، ويكون " على أَبْصَارهم " معطوفاً على ما قبله، والتقدير: ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم بغشاوة، ثم حذف الجر، فانتصب ما بعده؛ كقوله: [الوافر] | **159- تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا** | | **كَلاَمُكُم عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ** | | --- | --- | --- | أي: تمرون بالدِّيَار، ولكنه غير مقيس. والثالث: أن يكون " غشاوة " اسماً وضع موضع المصدر الملاقي لـ " خَتَمَ " في المعنى؛ لأن الخَتْمَ والتغشية يشتركان في معنى السّتر، فكأنه قيل: " وختم تغشية " على سبيل التأكيد، فهو من باب " قعدت جلوساً " ، وتكون " قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال الفَارِسِيّ: قراءة الرفع الأولى، لأن النَّصب إما أن تحمله على ختم الظاهر، فَيَعْرِضُ من ذلك أنك حُلْتَ بين حرف العطف والمعطوف به، وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر، وإما أن تحمله على فعل يدلّ عليه " ختم " ، تقديره: وجعل على أبصارهم غشاوة، فهذا الكلام من باب: [الكامل] | **160- يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا** | | **مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحا** | | --- | --- | --- | وقوله: [الرجز] | **161- عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً** | | **حتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا** | | --- | --- | --- | ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سَعَةٍ، ولا اختيار. واستشكل بعضهم هذه العبارة، وقال: لا أدري ما معنى قوله؛ لأن النصب إما أن تحمله على " خَتَم " الظاهر، وكيف تحمل " غشاوة " المنصوب على " ختم " الذي هو فعل هذا ما لا حمل فيه؟ قال: اللّهم إلا أن يكون أراد أن قوله تعالى: " ختم الله على قلوبهم " دعاء عليهم لا خَبَر، ويكون " غشاوة " في معنى المصدرية المَدْعُو به عليهم القائم مقام الفعل، فكأنه قيل: وغَشَّى الله على أبصارهم، فيكون إذ ذاك معطوفاً على " ختم " عطف المصدر النائب مناب فعله في الدّعاء، نحو: " رحم الله زيداً وسُقياً له " فتكون إذ ذاك قد حُلْت بين " غشاوة " المعطوف وبين " خَتَمَ " المعطوف عليه بالجار والمجرور. وهو تأويل حسن، إلاّ أن فيه مناقشة لفظيةً؛ لأن الفارسي ما ادّعى الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه إنما ادعى الفصل بين حرف العطف والمعطوف به أي بالحرف، فتحرير التأويل أن يقال: فيكون قد حُلْت بين غشاوة وبين حرف العطف بالجار والمجرور. والقراءة المشهورة بالكسر؛ لأن الأشياء التي تدلّ على الاشتمال تجيء أبداً على هذه الزِّنَة كالعِصَابة والعِمَامَة. والغِشَاوة فِعَالة: الغطاء من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لِمَا يشتمل على الشيء، ومنه غشي عليه، وَالغِشْيَان كناية عن الجِمَاع. و " القلب " أصله المصدر، فسمي به هذا العضو الصَّنَوْبَرِي؛ لسرعة الخواطر إليه وتردُّدها عليه، ولهذا قال: [البسيط] | **162- مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ** | | **فَاحْذَرْ عَلَى القَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ** | | --- | --- | --- | ولما سمي به هذا العضو التزموا تفخيمه فرقاً بينه وبين أصله، وكثيراً ما يراد به العقل ويطلق أيضاً على لُبّ كل شيء وخالصه. و " السمع " و " السماع " مصدران لـ " سمع " ، وقد يستعمل بمعنى الاستماع؛ قال: [البسيط] | **163- وَقَدْ تَوَجَّسَ رِكْزاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ** | | **بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعِهِ كَذِبُ** | | --- | --- | --- | أي: ما في استماعه. و " السِّمْع " - بالكسر - الذِّكْر بالجميل، وهو - أيضاً - ولد الذئب من الضَّبُع، ووحد وإن كان المراد به الجمع كالذي قبله وبعده؛ لأنه مصدر حقيقة، يقال: رَجُلان صَوْم، ورجال صوم، ولأنه على حذف مضاف، أي: مواضع سمعهم، أو حواس سمعهم، أو يكون كني به عن الأُذُن، وإنما وحَّده لفهم المعنى؛ كقوله [الوافر] | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **164- كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا** | | **فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ** | | --- | --- | --- | أي: بطونكم. ومثله قال سيبويه: " إنه وإن وُحِّد لفظ السمع إلاَّ أن ذكر ما قبله وما بعده بلفظ الجمع دليل على إرادة الجمع ". ومنه أيضاً قال تَعَالى:**{ يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ }** [البقرة: 257]،**{ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ }** [ق: 17]؛ قال الراعي. | **165- بِهَا جِيَفُ الْحَسْرى فأمّا عِظَامُهَا** | | **فَبِيضٌ وأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ** | | --- | --- | --- | أي: جلودها. وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ: " أسماعهم ". قال الزمخشري: واللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الخَتْم، وفي حكم التَّغْشِيَةِ، إلاّ أن الأولى دخولها في حكم الختم؛ لقوله تعالى:**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً }** [الجاثية: 23] و " الأبصار ": جمع بصر، وهو نور العين الذي يدرك به المرئيات. قالوا: وليس بمصدر لجمعه، ولقائل أن يقول: جمعه لا يمنع كونه مصدراً في الأصل، وإنما سهل جَمْعَهُ كَوْنُهُ سمي به نور العين، فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية، كما تقدم في قلوب جمع قَلْب. وقد قلتم: إنه في الأصل مصدر ثم سمي به، ويجوز أن يكنى به عن العَيْن، كما كني بالسمع عن الأذن، وإن كان السَّمع في الأصل مصدراً كما تقدم. وقرأ أبو عمرو والكِسَائي: " أبصارهم " بالإِمَالَةِ، وكذلك كلّ ألف بعدها مجرورة في الأسماء كانت لام الفعل يميلانها. ويميل حمزة منها ما تكرر فيه الراء " كالقرار " ونحوه، وزاد الكسائي إمالة**{ جَبَّارِينَ }** [المائدة: 22]، و**{ ٱلْجَوَارِ }** [الشورى: 32]، و**{ بَارِئِكُمْ }** [البقرة: 54]، و**{ مَنْ أَنصَارِيۤ }** [آل عمران: 32]، و**{ نُسَارِعُ }** [المؤمنون: 56] وبابه، وكذلك يميل كل ألف هي بمنزلة لام الفعْل، أو كانت علماً للتأنيث مثل:**{ ٱلْكُبْرَىٰ }** [طه: 23]، و**{ ٱلأُخْرَىٰ }** [الزمر: 42]، ولام الفعل مثل:**{ يَرَى }** [البقرة: 165]، و**{ ٱفْتَرَىٰ }** [آل عمران: 94] يكسرون الراء منها. و " الغشاوة ": الغطاء. قال: [الطويل] | **166- تَبِعْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ** | | **فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا** | | --- | --- | --- | وقال: [البسيط] | **167- هَلاَّ سَأَلْتِ بَنِي ذُبْيَانَ مَا حَسبِي** | | **إِذَا الدُّخَانُ تَغَشَّى الأَشْمَطَ الْبَرِمَا** | | --- | --- | --- | وجمعها " غِشاءٌ " ، لما حذفت الهاء قلبت الواو همزة. وقيل: " غشاوي " مثل " أداوي ". قال الفارسي: لم أسمع من " الغشاوة " فعلاً متصرفاً بـ " الواو " ، وإذا لم يوجد ذلك، وكان معناها معنى ما " اللام " منه " الياء " ، وهو غشي بدليل قولهم: " الْغِشْيَان " ، و " الغشاوة " من غشي كـ " الجِبَاوة " من جبيت في أن " الواو " كأنها بدل من " الياء " ، إذْ لم يُصَرَّفْ منه فعل كما لم يُصَرَّف منه الجباوة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وظاهر عبارته أن " الواو " بدل من " الياء " ، و " الياء " أصل بدليل تصرف الفعل منها دون مادة " الواو ". والذي يظهر أن لهذا المعنى مادتين " غ ش و " ، و " غ ش ي " ، ثم تصرفوا في إحدى المادتين، واستغنوا بذلك عن التصرف في المادة الأخرى، وهذا أقرب من ادعاء قلب " الواو " " ياء " من غير سبب، وأيضاً " الياء " أخف من " الواو " ، فكيف يقلبون الأخف للأثقل؟ و " لهم " خبر مقدم فيتعلّق بمحذوف، و " عذاب " مبتدأ مؤخر و " عظيم " صفة. والخبر - هنا - جائز التقديم؛ لأن للمبتدأ مسوغاً وهو وصفة ونظيره:**{ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ }** [الأنعام: 2] من حيث الجواز. والعذاب في الأَصْلِ: الاستمرار، ثم سمي به كلّ استمرار أَلَمٍ. وقيل: أصله: المَنْع، وهذا هو الظَّاهر، ومنه قيل للماء: عَذَب؛ لأنه يمنع العطش، والعذاب يمنع من الجريمة. " عظيم " اسم فاعل من " عَظُمَ " ، نحو: كريم من " كَرُم " غير مذهوب به مذهب الزمان، وأصله أن توصف به الأجرام، ثم قد توصف به المعاني. وهل هو و " الكبير " بمعنى واحد أو هو فوق " الكبير "؛ لأن العظيم يقابل الحقير، والكبير يقابل الصغير، والحقير دون الصغير؟ قولان. و " فعيل " له معانٍ كثيرة، يكون اسماً وصفة، والاسم مفرد وجمع، والمفرد اسم معنى، واسم عين، نحو: " قميص وظريف وصهيل وكليب جمع كلب ". والصفة مفرد " فُعَلَة " كـ " غَزِي " يجمع على " غُزَاة " ومفرد " فَعَلَة " كـ " سَرِي " يجمع على " سَرَاة ". ويكون اسم فاعل من " فَعُلَ " نحو: عظيم من عَظُم كما تقدم. ومبالغةً في " فَاعِل " ، نحو " عليم من عالم ". وبمعنى " أَفْعَل " كـ " شميط " بمعنى: " أشمط " و " مَفْعُول " كـ " جريح " بمعنى: مجروح، و " مُفْعِل " كـ " سَمِيع " بمعنى: " مُسْمِع " ، و " مُفْعَل " ، كـ " وَلِيْد " بمعنى: مُولَد، و " مُفَاعِل " ، كـ " جَلِيس " بمعنى: مُجَالِس، و " مُفْعَل " ، كـ " بَدِيع " بمعنى: مُبْتَدِع، و " مُتَفَعِّل " كـ: " سَعِيْر " بمعنى: " مُتَسَعِّر " ، و " مُسْتَفْعِل " كـ " مَكِين " بمعنى: " مُسْتَمْكن ". و " فَعْل " كـ " رطيب " بمعنى: " رَطْب " ، و " فَعَل " كـ " عجيب " بمعنى: " عجب " و " فِعَال " كـ " صحيح " بمعنى: صِحَاح، وبمعنى: " الفاعل والمفعول " كـ " صريخ " بمعنى: " صارخ ومصروخ ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وبمعنى الواحد والجمع نحو: " خليط " ، وجمع فاعل كـ " غريب " جمع غارب. فصل في أيهما أفضل: السمع أو البصر؟ من الناس من قال: السَّمع أفضل من البَصَرِ؛ لأن الله - تعالى - حيث ذكرهما قدم السَّمع على البصر، والتقديم دليلٌ على التفضيل، ولأنّ السمع شرط النّبوة بخلاف البَصَرِ، ولذلك ما بعث الله رسولاً أَصَمّ، وقد كان فيهم الأعمى، ولأنَّ بالسَّمع تصلُ نتائج عقول البعض إلَى البعض، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العَقْلِ بالمعارف، والبَصَر لا يوقفك إلا على المحسوسات، ولأن السمع متصرف في الجهات السّت بخلاف البَصَرِ، ولأنّ السمع متى بطل النُّطق، والبصر إذا بطل لم يبطل النُّطق. ومنهم من قدم البصر؛ لأنّ آلة القوة الباصرة أشرف، ولأن متعلّق القوة الباصرة هو النور، ومتعلّق القوة السَّامعة هو الريح. فصل في ألفاظ وردت بمعنى الختم الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الخَتْم هي " الطَّبع " و " الكنان " و " الرين " على القلب، و " الوقر " في الأذن، و " الغشاوة " في البصر. واختلف الناس في هذا الخَتْم: فالقائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله - تعالى - فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر، ثم لهم قولان: منهم من قال: الختم هو خلق الكُفْر في قلوب الكفار. ومنهم من قال هو خلق الدَّاعية التي إذا انضمّت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سبباً موجباً لوقوع الكُفْر. وأما المعتزلة فأوّلوا هذه الآية، ولم يجروها على ظاهرها. أما قوله تعالى: { لهم عذاب عظيم } أي: في الآخرة. وقيل: الأَسْر والقَتْل في الدنيا، والعذاب الدائم في العُقْبَى. و " العذاب " مشتق من " العَذْب " وهو القَطْع، ومنه سمي الماء الفرات عَذْباً، لأنه يقطع العطش. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ)
{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } استئنافٌ تعليلي لما سبق الحكم، وبـيانٌ لما يقتضيه، أو بـيان وتأكيد له، والمرادُ بالقلب محلُّ القوة العاقلة من الفؤاد، والختم على الشيء الاستيثاقُ منه بضرب الخاتم عليه صيانةً له، أو لما فيه من التعرض له كما في البـيت الفارغ والكيس المملوء، والأولُ هو الأنسب بالمقام، إذ ليس المراد به صيانةَ ما في قلوبهم، بل إحداثَ حالةٍ تجعلها بسبب تماديهم في الغي وانهماكِهم في التقليد، وإعراضِهم عن منهاج النظر الصحيح، بحيث لا يؤثر فيها الإنذار، ولا ينفُذُ فيها الحقُّ أصلاً، إما على طريقة الاستعارة التبعية، بأن يُشبّه ذلك بضرب الخاتم على نحو أبوابِ المنازل الخالية المبنية للسُكنى تشبـيهَ معقولٍ بمحسوس بجامعٍ عقلي هو الاشتمالُ على منع القابل عما من شأنه وحقه أن يقبَلَه، ويستعار له الختمُ ثم يشتق منه صيغةُ الماضي، وإما على طريقة التمثيل بأن يُشبه الهيئةُ المنتزعةُ من قلوبهم وقد فُعل بها ما فعل من إحداث تلك الحالة المانعة من أن يصل إليها ما خلقت هي لأجله من الأمور الدينية النافعة، وحيل بـينها وبـينه بالمرة بهيئةٍ منتزعةٍ من محالٍَّ مُعدةٍ لحلول ما يَحُلُّها حُلولاً مستتبعاً لمصالحَ مُهمة وقد مَنَع من ذلك بالختم عليها وحيل بـينها وبـين ما أعدت لأجله بالكلية، ثم يُستعار لها ما يدل على الهيئة المشبَّهِ بها فيكون كلٌّ من طرفي التشبـيه مركباً من أمور عدةٍ قد اقتُصر من جانب المشبَّهِ به على ما عليه يدور الأمرُ في تصوير تلك الهيئةِ وانتزاعِها وهو الختم، والباقي منويٌّ مرادٌ قصداً بألفاظٍ متخيَّلة بها يتحقق التركيب، وتلك الألفاظُ وإن كان لها مدخَلٌ في تحقيق وجهِ الشبه الذي هو أمرٌ عقلي منتزَع منها وهو امتناعُ الانتفاعِ بما أُعِدَّ له بسبب مانعٍ قوي، ليس في شيء منها على الانفراد تجوز باعتبار هذا المجاز، بل هي باقية على حالها من كونها حقيقةً أو مجازاً أو كنايةً، وإنما التجوُّزُ في المجموع، وحيث كان معنى المجموع مجموعَ معاني تلك الألفاظ التي ليس فيها التجوزُ المعهود، ولم تكن الهيئةُ المنتزعةُ منها مدلولاً وضعياً لها ليكون ما دلَّ على الهيئة المشبه بها عند استعمالِه في الهيئة المشبهة مستعملاً في غير ما وضع له، فيندرجَ تحت الاستعارةِ التي هي قسمٌ من المجاز اللغوي، الذي هو عبارةٌ عن الكلمة المستعملة في غير ما وضع له، ذهب قدماء المحققين كالشيخ عبدِ القاهر وأضرابِه إلى جعل التمثيلِ قسماً برأسه، ومن رام تقليلَ الأقسام عَدَّ تلك الهيئةَ المشبَّهَ بها من قبـيل المدلولات الوضعية، وجعل الكلامَ المفيد لها عند استعمالِه فيما يُشبَّه بها من هيئة أخرى منتزعةٍ من أمور أُخَرَ من قبـيل الاستعارة، وسماه استعارة تمثيلية، وإسنادُ إحداث تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى لاستناد جميعِ الحوادث عندنا من حيث الخلقُ إليه سبحانه وتعالى، وورودُ الآية الكريمة ناعيةً عليهم سوءَ صنيعهم ووخامةَ عاقبتِهم لكون أفعالِهم من حيث الكسبُ مستندةً إليهم، فإن خلْقَها منه سبحانه ليس بطريق الجبر بل بطريق الترتيبِ على ما اقترفوه من القبائح كما يُعرِبُ عنه قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }** [النساء، الآية 155] ونحو ذلك. وأما المعتزلةُ فقد سلكوا مسلكَ التأويل، وذكروا في ذلك عدةً من الأقاويل منها أن القومَ لمّا أعرضوا عن الحق وتمكنَ ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبـيعة لهم شُبّه بالوصف الخَلْقي المجبول عليه، ومنها أن المراد به تمثيلُ قلوبِهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خاليةً عن الفِطَن، أو بقلوب قد ختم الله تعالى عليها كما في: سال به الوادي إذا هلك، وطارت به العنقاءُ إذا طالت غَيْبته، ومنها أن ذلك فعلُ الشيطان أو الكافر، وإسنادُه إليه تعالى باعتبار كونه بإقداره تعالى وتمكينه، ومنها أن أعراقَهم لما رسَخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق إلى تحصل إيمانهم طريقٌ سوى الإلجاءِ والقسرِ، ثم لم يَفعَلْ ذلك محافظةً على حكمة التكليف عُبّر عن ذلك بالختم، لأنه سدٌّ لطريق إيمانهم بالكلية، وفيه إشعارٌ بترامي أمرهم في الغي والعِناد، وتناهي انهماكِهم في الشر والفساد، ومنها أن ذلك حكايةٌ لما كانت الكفرة يقولونه مثل قولهم:**{ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ }** [فصلت، الآية 5] تهكّماً بهم، ومنها أن ذلك في الآخرة، وإنما أُخبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه ويعضُده قوله تعالى:**{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا }** [الإسراء، الآية 97] ومنها أن المراد بالختم وسْمُ قلوبهم بسِمَةٍ يعرِفها الملائكة فيبغضونهم وينفِرون عنهم. { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } عطفٌ على ما قبله داخل في حكم الختم لقوله عز وجل:**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ }** [الجاثية، الآية 23] وللوفاق على الوقف عليه لا على قلوبهم، ولاشتراكهما في الإدراك من جميع الجوانب، وإعادةُ الجارّ للتأكيد والإشعار بتغايُر الختمَيْن، وتقديمُ ختمِ قلوبهم للإيذان بأنها الأصلُ في عدم الإيمان، وللإشعار بأن ختمَها ليس بطريق التبعيةِ بختم سمعِهم، بناءً على أنه طريقٌ إليها، فالختمُ عليه ختمٌ عليها، بل هي مختومةٌ بختم على حِدَة، لو فُرض عدمُ الختم على سمعهم فهو باقٍ على حاله حسبما يُفصح عنه قوله تعالى:**{ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ }** [الأنفال، الآية 23] والسمعُ إدراكُ القوة السامعة، وقد يُطلق عليها وعلى العضو الحامل لها وهو المراد ههنا، إذ هو المختومُ عليه أصالةً، وتقديمُ حاله على حال أبصارِهم للاشتراك بـينه وبـين قلوبهم في تلك الحال، أو لأن جنايتَهم من حيث السمعُ الذي به يُتلقىٰ الأحكامُ الشرعية، وبه يَتحققُ الإنذارُ أعظمَ منها من حيث البصرُ الذي به يشاهَد الأحوالُ الدالة على التوحيد، فبـيانُها أحقُّ بالتقديم، وأنسبُ بالمقام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | قالوا: السمعُ أفضلُ من البصر، لأنه عز وعلا حيث ذكَرهما قدم السمعَ على البصر، ولأن السمع شرطُ النبوة ولذلك ما بعث الله رسولاً أصم، ولأن السمع وسيلة إلى استكمال العقلِ بالمعارف التي تُتلقف من أصحابها، وتوحيدُه للأمن عن اللَّبس، واعتبارِ الأصل، أو لتقدير المضاف، أي وعلى حواسِّ سمعهم، والكلامُ في إيقاع الختم على ذلك كما مر من قبل { وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ } الأبصار جمع بصر، والكلام فيه كما سمعته في السمع، والغِشاوةُ فِعالة من التغشية أي التغطية، بُنيت لما يشتمل على الشيء كالعِصابة والعِمامة، وتنكيرُها للتفخيم والتهويل، وهي على رأي سيبويه مبتدأ خبرُه الظرفُ المقدم، والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها، وإيثارُ الاسمية للإيذان بدوام مضمونها، فإن ما يُدرَك بالقوة الباصرة من الآيات المنصوبة في الآفاق والأنفسِ حيث كانت مستمرةً كان تعاميهم من ذلك أيضاً كذلك. وأما الآياتُ التي تُتلقَّى بالقوة السامعة فلمّا كان وصولُها إليها حيناً فحيناً أوثر - في بـيان الختم عليها وعلى ما هي أحدُ طريقي معرفتِه، أعني القلبَ - الجملةُ الفعلية، وعلى رأي الأخفش مرتفعٌ على الفاعلية مما تعلق به الجار، وقرىء بالنصب على تقدير فعلٍ ناصب، أي وجَعَل على أبصارهم غشاوة، وقيل: على حذف الجار وإيصال الختم إليه، والمعنى وختم على أبصارهم بغشاوة، وقرىء بالضم والرفع وبالفتح والنصب، وهما لغتان فيها، و(غشوٰة) بالكسر مرفوعةٌ وبالفتح مرفوعة ومنصوبة، وعشاوةٌ بالعين غير المعجمة والرفع { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وعيد وبـيان لما يستحقونه في الآخرة والعذاب كالنَكال بناءً ومعنى، يقال: أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، ومنه الماءُ العذبُ لما أنه يقمَعُ العطش ويردَعه، ولذلك يسمى نُقاخاً، لأنه ينقَخُ العطشَ ويكسِرُه، وفرُاتاً لأنه يرفتُه على القلب ويكسره، ثم اتُسِع فيه فأطلق على كل ألمٍ فادح، وإن لم يكن عقاباً يُراد به ردْعُ الجاني عن المعاودة، وقيل: اشتقاقُه من التعذيب الذي هو إزالة العذاب، كالتقذية والتمريض. والعظيم نقيضُ الحقير، والكبـير نقيضُ الصغير، فمن ضرورة كونِ الحقيرِ دونَ الصغير كونُ العظيم فوق الكبـير، ويستعملان في الجُثث والأحداث. تقول: رجل عظيم وكبـير، تريد جثتَه أو خطرَه، ووصفُ العذاب به لتأكيد ما يفيده التنكيرُ من التفخيم والتهويل والمبالغة في ذلك. والمعنى: أن على أبصارهم ضرباً من الغِشاوة خارجاً مما يتعارفه الناس، وهي غشاوة التعامي عن الآيات، ولهم من الآلام العظامِ نوعٌ عظيم لا يُبلغ كُنهُه ولا يدرك غايتُه، اللهم إنا نعوذ بك من ذلك كلِّه يا أرحم الراحمين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ)
قوله تعالى: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ }. فلا يقول عن الحق فهوم مخاطباته، على سمعهم فلم يسمعوا منه لذيذ كلامه، وعلى أبصارهم فلم يبصروا المغيبات بعين الغرامة، غشاوة غشيتهم ظلمات أنفسهم فلم تضئ لهم أنوار قلوبهم، ولهم عذاب عظيم سكوتهم إلى هذه الأحوال واكتفاؤهم بها. وقال بعضهم: أهل البصر نظروا من الله إلى الأشياء فشاهدوها فى سر القدرة، وأهل النظر استدلوا بالأشياء على الله تعالى محجتهم عقولهم واستدلالهم عن بلوغ كنه المعرفة بالله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
الختم على الشيء يمنع ما ليس فيه أن يدخله وما فيه أن يخرج منه، وكذلك حَكَمَ الحقُّ سبحانه بألا يُفارقَ قلوبَ أعدائه ما فيها من الجهالة والضلالة، ولا يدخلها شيء من البصيرة والهداية. على أسماع قلوبهم غطاء الخذلان، سُدَّت تلك المسامع عن إدراك خطاب الحق من حيث الإيمان، فوساوس الشيطان وهواجس النفوس شغلتها عن استماع خواطر الحق. وأمَّا الخواص فخواطر العلوم وجولان تحقيقات المسائل في قلوبهم شغلت قلوبهم عن ورود أسرار الحق عليهم بلا واسطة، وإنما ذلك لخاص الخاص، لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" لقد كان في الأمم مُحَدَّثُون فإن يكن في أمتي فعمر "** فهذا المحدَّث مخصوص من الخواص كما أن صاحب العلوم مخصوص من بين العوام. وعلى بصائر الأجانب غشاوة فلا يشهدون لا ببصر العلوم ولا ببصيرة الحقائق، ولهم عذاب عظيم لحسبانهم أنهم على شيء، وغفلتهم عما مُنُوا من المحنة (و...) في الحال والمال، في العاجل فُرقَته، وفي الآجل حُرقته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ)
{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } اي ما نظر اليها منذ خلقها فحرَّم عليها انوار ذكره ومواصلة إلهامه { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } اي على سمعهم وقر الضلال فلم يسمعوا حقائق الخطاب { وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } اي على ابصارهم غطاء القَصْر فلم يبصرُوا بها طراوةَ صفة الصانع في الصنع ولم يتفرَّسوا بالبصائر ما كشف الله لاهل الايمان من ملكوت السماوات والارض { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } عَذَابهم بُعْدهم عن قرب مولاهم حتى لم يدركوا بركات كراماته وقيل اهل البصر نظروا من الله الى الاشياء فشاهَدوها في اسرار القدر واهل النظر استدلوا بالاشياء على الله فحَجَبَهم عقولهم واستدلالاتهم عن بلوغ كنه المعرفة بالله قال علي بن ابي طالب رضى الله عنه طبع الله على قلوبهم برؤية افعالهم بمعاونة النفوس حتى كفروا سرّاً وأمنوا علانية قال جعفر الصادق الختم على وجوهٍ منهم من خَتَم على قلبه برؤية فعله ومنهم مَن ختم على قلبه برؤية الاعَواض ومنهم من ختم قلبه بالاسلام ومنهم من ختم قلبَه بالايمان ومنهم من ختم قلبه بالمعرفة ومنهم من ختم قلبه بالتوحيد فكلٌّ واقف مع ذلك الختم وقال سَهُل اسبل عليهم ستر شقاوةٍ فصمُّوا عن سماع الحق وعَمّوا عن ذكره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ ختم الله على قلوبهم } لما ذكر هؤلاء الكفار بصفاتهم وحالاتهم الحق به ذكر عقوباتهم فهو تعليل للحكم السابق وبيان ما يقتضيه. والختم الكتم سمى به الاستيثاق من الشئ بضرب الخاتم عليه لانه كتم له وبلوغ آخره ومنه ختم القرآن نظرا الى انه آخر فعل يفعل فى احرازه ولا ختم على الحقيقة وانما المراد به ان يحدث فى نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصى واستقباح الايمان والطاعات بسبب غيهم وانهماكهم فى التقليد واعراضهم عن النظر الصحيح فتجعل قلوبهم بحيث لا يؤثر فيها الانذار ولا ينفذ فيها الحق اصلا وسمى هذه الهيئة على الاستعارة ختما وقد عبر عن احداث هذه الهيئة بالطبع فى قوله تعالى**{ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم }** النحل 108. وبالاغفال فى قوله**{ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا }** الكهف 28. وبالاقساء فى قوله وجعلنا قلوبهم قاسية وهى من حيث ان الممكنات باسرها مسندة الى الله تعالى واقعة بقدرته اسندت اليه تعالى ومن حيث انها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله تعالى**{ بل طبع الله عليها بكفرهم }** النساء 155 وقوله ذلك**{ ذلك بإنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم }** المنافقون 3. وردت الآية الكريمة ناعية عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم فالختم مجازاة لكفرهم والله تعالى قد يسر عليهم السبل فلو جاهدوا لوفقهم فسقط الاعتراض بانه اذا ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فمنعهم عن الهدى فكيف يستحقون العقوبة. قال الشيخ فى تفسيره واسناد الختم الى الله للتنبيه على ان اباءهم عن قبول الحق كالشئ الخلق غير العرضى انتهى. وقال فى التيسير حاصل الختم عند اهل عقوبة من الله تعالى لا تمنع العبد من الايمان جبرا ولا تحمله على الكفر كرها بل هى زيادة عقوبة له على سوء اختياره وتماديه فى الكفر واصراره يحرم بها من اللطف الذي سهل به فعل الايمان وترك العصيان يدل عليه انهم بقوا مخاطبين بالايمان بقوله تعالى**{ آمنوا بالله ورسوله }** النساء 136. وملومين على الامتناع عنه لقوله تعالى**{ فما لهم لا يؤمنون }** الإِنشقاق 20. ولو صاروا مجبورين وعن الايمان عاجزين لزال الخطاب وسقط اللوم والعتاب كما فى الختم على الافواه يوم الحساب لما عجزوا به حقيقة عن الكلام لم يبق الخطاب بالكلام وتحقيق المذهب اثبات فعل العبد وتخليق الله تعالى. والقلوب جمع قلب وهو الفؤاد سمى قلبا لتقلبه فى الامور ولتصرفه فى الاعضاء. وفى تفسير الشيخ القلب قطعة لحمم مشكل بالشكل الصنوبرى معلق بالوتين مقلوبا والوتين عرق فى القلب الذى انقطع مات صاحبه ويقال له الابهر. وفى تفسير الكواشى القلب قطعة سوداء فى الفؤاد وزعم بعضهم انه الشكل الصنوبرى المعلق بالوتين مقلوبا \* وفى تعريفات السيد القلب لطيفة ربانية لها بهذا القلب الجسمانى الصنوبرى الشكل المودع فى الجانب الايسر من الصدر تعلق وتلك اللطيفة هى حقيقة الانسان قال المولى الجامى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **نسيت اين بيكر مخروطى دل بلكه هست اين قفص طوطى دل كرتو طوطى زقفس نشناسى بخدا ناس نه نشناسى** | | | | --- | --- | --- | والمراد بالقلب فى الآية محل القوة العاقلة من الفؤاد وقد يطلق ويراد به المعرفة والعقل كما قال**{ إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب }** ق 37 { و } ختم الله { على سمعهم } اى على آذانهم فجعلها بحث تعاف استماع الحق ولا تصغى الى خير ولا تعيه ولا تقبله كأنها مستوثق منها بالختم عقوبة لهم على سوء اختيارهم وميلهم الى الباطل وايثارهم. والسمع هو ادراك القوة السامعة وقد يطلق عليها وعلى العضو الحامل لها وهو المراد ههنا لانه أشد منهاسبة للختم وهو المختوم عليه اصالة. وفى توحيد السمع وجوده. احدها انه فى الاصل مصدر والمصادر لا تجمع لصلاحيتها للواحد والاثنين والجماعة قال تعالى**{ إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا }** الطارق 15-16 فان قالوا فلم جمع الابصار والواحد بصر وهو كالسمع قلنا انه اسم للعين فكان اسما لا مصدرا فجمع لذلك. والثانى ان فيه اضمارا اى على مواضع سمعهم وحواسه كما فى قوله تعالى { واسئل القرية } اى اهلها وثبت هذا الاضمار دلالة ان السمع فعل ولا يختم على الفعل وانما يختم على محله. والثالث انه اراد سمع كل واحد منهم والاضافة الى الجماعة تغنى عن الجماعة وفى التوحيد امن اللبس كما فى قوله كلو فى بعض بطنكم اى بطونكم اذا لبطن لا يشترك فيه. والرابع قول سيبويه انه توسط جمعين فدل على الجمع وان وجد كما فى قوله**{ يخرجهم من الظلمات إلى النور }** البقرة 257 دل على الانوار ذكر الظلمات وتقديم ختم قلوبهم للايذان بانها الاصل فى عدم الايمان وتقديم حال السمع على حال ابصارهم للاشتراك بينه وبين قلوبهم فى تلك الحال. قالوا السمع افضل من البصر لانه تعالى حيث ذكرهما قدم السمع على البصر ولان السمع شرط النبوة ولذلك ما بعث الله تعالى رسولا اصم ولان السمع وسيلة الى استكمال العقل بالمعارف التى تتلقف من اصحابها { وعلى ابصارهم } جمع بصر وهو ادراك العين وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة وعلى العضوين وهو المراد ههنا لانه اشد مناسبة للتغطية { غشاوة } اى غطاء ولا تغشية على الحقيقة وانما المراد بها احداث حاله تجعل ابصارهم بسبب كفرهم لا تجتلى الآيات المنصوبة فى الانفس والآفاق كما تجتليها اعين المستبصرين وتصير كأنها غطى عليها وحيل بينها وبين الابصار ومعنى التنكير ان على ابصارهم ضربا من الغشاوة خارجا مما يتعارفه الناس وهى غشاوة التعامى عن الآيات. قوله غشاوة مبتدأ مؤخر خبره المقدم قوله وعلى ابصارهم ولما اشترك السمع والقلب فى الادراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختم الذى يمنع من جميع الجهات وادراك الابصار مما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال فى التيسير انما ذكر فى الآية القلوب والسمع والابصار لان الخطاب كان باستعمال هذه الثلاثة فى الحق كما قال تعالى**{ أفلا تعقلون }** البقرة44**{ أفلا تبصرون }** القصص 72**{ أفلا تسمعون }** القصص71**{ ولهم عذاب عظيم }** البقرة 7 اى عقوبة شديدة القوة ومنه العظم والعذاب كالنكال بناء ومعنى يقال اعذب عن الشئ اذا امسك عنه وسمى العذاب عذابا لانه يمنع عن الجناية اذا تأمل فيها العاقل ومنه الماء العذب لما انه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فانه يزيده ويدل عليه تسميتهم اياه نفاخا لانه ينقخ العطش اى يكسره وفراتا لانه يرفته على القلب يعنى الفرات وهو الماء العذب مأخوذ من الرفت وهو قلبه وقيل انما سمى به لانه جزاء ما استعذ به المرؤ بطبعه اى استطابه ولذلك قالوا فذوقوا عذابى وانما يذاق الطيب على معنى انه جزاء ما استطابه واستحلاه بهواه فى الدنيا \* والعظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير فكان العظيم فوق الكبير كما ان الحقير دون الصغير. قال فى التيسير عظيم اى كبير او كثير او دائم وهو التعذيب بالنار ابدا ثم عظمه باهواله وبشدة احواله وكثرة سلاسله واغلاله فتكون هذه الآية وعيدا وبيانا لما يستحقونه فى الآخرة وقيل هو القتل والاسر فى الدنيا والتحريق بالنار فى العقبى ومعنى التوصيف بالعظيم انه اذا قيس سائر ما يجانسه قصر عنه جميعه ومعنى التنكير ان لهم من الآلام نوعا عظيما لا يعلم كنهه الا الله عز وجل. فعلى العاقل ان يجتنب عما يؤدى الى العذاب الاليم والعقاب العظيم وهو الاصرار على الذنوب والاكباب على اقتراف الخطيئات والعيوب. قيل فى سبب الحفظ من هذه العقوبة التى هى الختم على الكيس فلا يمنعه عن حق ووضع الختم على اللسان فلا يطلق فى باطل قال السعدى | **بكمراه كفتن نكو ميروى كناه بزركست وجور قوى مكو شهدشيرين شكر فايقست كسى راكه سقمونيا لا يقست** | | | | --- | --- | --- | قال النبى صلى الله عليه وسلم **" ان هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد " قيل وما جلاؤها؟ قال " تلاوة القرآن وكثرة ذكر الله وكثرة ذكر الموت "** وامهات الخطايا ثلاث الحرص والحسد والكبر فحصل من هؤلاء ست فصارت تسعا الشبع والنوم والراحة وحب المال وحب الجاه وحب الرياسة فحب المال والرياسة من اعظم ما يجر صاحبه الى الكفر والهلاك – حكى – ان ملكا شابا قال انى لا اجد فى الملك لذة فلا ادرى أكذلك يجدة الناس ام انا اجده فقالوا له كذلك يجده الناس قال فماذا يقيمه قالوا يقيمه لك ان تطيع الله فلا تعصيه فدعا من كان فى بلده من العلماء والصلحاء فقال لهم كونوا بحضرتى ومجلسى فما رأيتم من طاعة الله فأمرونى وما رأيتم من المعصية فازجرونى عنها ففعل ذلك فاستقام له الملك اربعمائة سنة ثم ان ابليس اتاه يوما على صورة رجل وقال له من انت قال الملك رجل من بنى آدم قال لو كنت من بنى آدم لمت كما تموت بنوا آدم ولكنك اله فادع الناس الى عبادتك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فدخل فى قلبه شئ ثم صعد المنبر فقال ايها الناس انى اخفيت عليكم امرا حان اظهاره وهو انى ملككم منذ كذا سنة ولو كنت من بنى آدم لمت ولكنى اله فاعبدونى فاوحى الله الى نبى زمانه وقال اخبره انى استقمت له ما استقام لى فتحول من طاعتى الى معصيتى فبعزتى وجلالى لاسلطن عليه بخت نصر ولم يتحول عن ذلك فسلطه عليه فضرب عنقه وأوقر من خزينته سبعين سفينة من ذهب قال المولى جلال الدين قدس سره | **جز عنايت كه كشايد جثم را جز محبت كه نشاند خشم را جهد بى توفيق خود كس را مباد در جهان والله اعلم بالرشاد** | | | | --- | --- | --- | وفى التأويلات النجمية فى الختم اشارة الى بداية سوابق احكام القدر بالسعادة والشقاوة على وفق الحكمة والارادة الازلية للخليقة كما قال تعالى**{ فمنهم شقى وسعيد }** هود 105 مع حسن استعداد جميعهم بقبول الايمان والكفر ولهذا لما خاطب الحق ذراتهم بخطاب الست بربكم قالوا بلى جميعا ثم اودع الله الذرات فى القلوب والقلوب فى الاجساد والاجساد فى الدنيا فى ظلمات ثلاث وكانت روزنة القلوب كلها مفتوحة الى عالم الغيب بواسطة الذرات المودعات التى سمعت خطاب الحق وشاهدت كمال الحق الى وقت ولادة كل انسان كما قال عليه السلام **" كل مولود يولد على فطرة الاسلام فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه "** وفيه اشارة الى ان الله يكل الاشقياء الى تربية الوالدين فى معنى الدين حتى يلقنوهم تقليد ما الفوا عليه آباءهم من الضلالة فيضلوهم كما قال تعالى**{ قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم فى ضلال مبين }** الأنبياء 54. فكانت تلك الشقاوة المقدرة مضمرة فى ضلالة التقليد والصفات النفسانية الظلمانية والهوى والطبيعة ثم جعل تأثيرها وظلمتها ورينها يندرج الى القلوب فيقسيها ويسودها ويغطيها ويسد روزنتها الى الذرات فيعميها ويصمها حتى لا يبصر اهل الشقاوة ببصر الذرات من الحق ما كانوا يبصرون ولا يسمع بِسمع الذرات من الحق ما كانوا يسمعون فينكرون على الانبياء ويكفرون بهم وبما يدعونهم اليه فيختم الله شقاوتهم بكفرهم هذا ويطبع به على قلوبهم كقوله تعالى**{ بل طبع الله عليها بكفرهم }** النساء 155. فسر القدر مستور لا يطلع عيله احد الا الله فيظهر آثار السعادة باقرار السعداء ويظهر آثار الشقاؤة بانكار الاشقياء وكفرهم من القدر كالبذر فى الارض مستور فتظهر الشجرة منه وهو فى الشجرة مستور فيخرج مع الاغصان من الشجرة وهو فى الاغصان مستور حتى يخرج مع الثمرة من الاغصان وهو فى الثمرة مستور حتى يظهر من الثمرة فيختم ظهور البذر بالثمرة فكذلك سر القدر وهو بذر السعادة او الشقاوة مستور فى علم الله تعالى فتظهر شجرة وجود الانسان منه والسعادة والشقاوة مستورة فيها فتخرج مع اغصان الاخلاق وهى مستورة فيها فتخرج مع ثمرة الاعمال وهى الاقرار والنكار والايمان والكفر فيختم ظهور سر القدر وهو السعادة او الشقاوة بثمرة الايمان او الكفر فيظهر سر القدر عند الختم بالسعادة او الشقاوة فالذين { ختم الله على قلوبهم } انما ختم بخاتم كفرهم وان كان نقش خاتمهم هو الاحكام الازلية وسر القدر حتى حرموا من دولة الوصال وبه ختم { على سمعهم } حتى لم يسمعوا خطاب الملك ذى الجلال { وعلى ابصارهم غشاوة } من العمى والضلال فلم يشاهدوا ذلك الجمال والكمال فلهم حرمان مقيم { ولهم عذاب عظيم } لانهم منعوا من مرادهم وهو العلى العظيم فعظم العذاب يكون على قدر عظمة المراد الممنوع منه انتهى ما فى التأويلات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
القراءة ـ أجمع القراء السبعة على كسر الغين وضم التاء، وروي عن بعض القراء فتح الغين، وعن الحسن ضم الغين. وحكي عن عاصم في الشواذ: غشاوةً، بنصب التاء، ولا يقرأ بجميع ذلك. التفسير { ختم الله على قلوبهم } أي شهد عليها بانها لا تقبل الحق، يقول القائل: أراك تختم على كل ما يقول فلان، أي تشهد به وتصدقه، وقد ختمت عليك بانك لا تعلم، أي شهدت، وذلك استعارة. وقيل ان ختم بمعنى طبع فيها أثراً للذنوب كالسمة والعلامة لتعرفها الملائكة فيتبرءوا منهم، ولا يوالوهم، ولا يستغفروا لهم مع استغفارهم للمؤمنين. وقيل: المعنى في ذلك أنه ذمهم بانها كالمختوم عليها في انها لا يدخلها الايمان ولا يخرج عنها الكفر قال الشاعر: | **لقد أسمعت لو ناديت حياً** | | **ولكن لا حياة لمن تنادي** | | --- | --- | --- | أي كأنه لا حياة فيه. والختم آخر الشيء ومنه قوله تعالى:**{ ختامه مسك }** ومنه: خاتم النبيين أي آخرهم. ومنه: ختم الكتاب لأنه آخر حال الفراغ منه والختم الطبع والخاتم الطابع. وما يختم الله على القلوب من السمة والعلامة التي ذكرناها ليست بمانعة من الايمان كما أن ختم الكتاب والظرف والوعاء لا يمنع من أخذ ما فيه. وحكي عن مجاهد أنه قال: الرّين أيسر من الطبع والطبع أيسر من الختم ومن الاقفال والقفل اشد من ذلك. وقيل: إن قوله تعالى: { ختم الله } إخبار عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا اليه من الحق كما يقال: فلان اصم عن هذا الكلام اذا امتنع عن سماعه ورفع نفسه عن تفهمه. والغشاوة: الغطاء وفيها ثلاث لغات: فتح الغين وضمها وكسرها وكذلك غشوة فيها ثلاث لغات. ويقال: تغشاني السهم اذا تجلله وكل ما اشتمل على شيء مبني على فعالة كالعمامة والقلادة والعصابة وكذلك في الصناعة كالخياطة والقصارة والصباغة والنساجة غير ذلك وكذلك من استولى على شيء كالخلافة والامارة والاجارة وغير ذلك. قال ابو عبيدة: { وعلى سمعهم } معناه على اسماعهم ووضع الواحد موضع الجمع لأنه اسم جنس كما قال:**{ يخرجكم طفلا }** يعني اطفالا. ويجوز ان يكون اراد موضع سمعهم فحذف لدلالة الكلام عليه. ويجوز ان يكون اراد المصدر لأنه يدل على القليل والكثير؛ فمن رفع التاء قال: الكلام الاول قد تم عند قوله: { وعلى سمعهم } واستأنف: { وعلى أبصارهم غشاوة } وتقديره: وغشاوة على أبصارهم، ومن نصب قدّره، يعني: جعل على أبصارهم غشاوة، كما قال الشاعر: | **علفتها تبناً وماء باردا** | | | | --- | --- | --- | وقال الآخر: | **متقلداً سيفاً ورمحا** | | | | --- | --- | --- | لما دل الكلام الأول عليه، فاذا لم يكن في الكلام ما يدل عليه، لا يجوز إضماره، ويجوز أن ينصب بالفعل الأول الذي هو الختم، لأن الختم لا يطلق على البصر، كما ذكر في قوله تعالى: { وختم على سمعه وقلبه } ثم قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ وجعل على بصره غشاوة }** فلم يدخل المنصوب في معنى الختم وقال قوم: إن ذلك على وجه الدعاء عليهم، لا للاخبار عنهم، وهذا يمكن في قوله تعالى: { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } وفي قوله { وعلى أبصارهم غشاوة } فيمن نصب غشاوة، فاما من رفع ذلك، فلا يكون دعاء. والأقوى أن ذلك خبر، لأنه خرج مخرج الذم لهم والازراء عليهم، فكيف يحمل على الدعاء؟ ويحتمل أن يكون المراد (بختم) أنه سيختم، ويكون الماضي بمعنى المستقبل كما قال:**{ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار }** وعلى هذا يسقط سؤال المخالف والقلب جعل الشيء على خلاف ما كان. يقال: قلبه يقلبه قلباً والقليب البئر لأن الماء ينقلب اليها، وما به قلبة: أي انقلاب عن صحة، وفلان حوّل قلب: اذا كان يقلب الامور برأيه ويحتال عليها، والقلوب الذئب لتقلبه في الحيلة على الصيد بخبثه، وسمي القلب قلباً لتقلبه بالخواطر. قال الشاعر: | **ما سمي القلب إلا من تقلبه** | | **والرأي يعزب والانسان أطوار** | | --- | --- | --- | والبصر: مصدر بصر به يبصر بصراً، بمعنى أبصره ابصاراً. والبصيرة: الابصار للحق بالقلب. والبصائر قطع الدم لأنها ترى كثيرة للعسل. { ولهم عذاب عظيم } باظهار التنوين، لأن النون تبين عند حروف الحلق وهي ستة أحرف: العين، والغين، والحاء، والخاء، والهمزة والهاء ومن هذه الاحرف ما لا يجوز فيه الاخفاء، وهي العين، كقوله: { من عند الله } و { من عليها }. والهمزة نحو قوله:**{ غثاء أحوى }** والخاء والغين يجوز إخفاؤهما عندهم على ضعف فيه من قوله: { والمنخنقة } و { ناراً خالداً } { فان خفتم } { من خلفهم } و**{ ميثاقاً غليظاً }** **{ ماء غدقا }** **{ قولا غير الذي }** قال الفراء: أهل العراق يبينون وأهل الحجاز يخفون وكل صواب. فان قيل: اذا قلتم: ان الله ختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فكيف يكونون قادرين على الايمان؟ قيل: يكونون عليه لأن الختم والغشاوة ليسا بشيء يفعلهما الله تعالى في القلب والعين يصد بهما عن الايمان، ولكن الختم شهادة على ما فسرناه من الله عليهم بانهم لا يؤمنون، وعلى قلوبهم بانها لا تعي الذكر، ولا تعي الحق، وعلى اسماعهم بأنها لا تصغي إلى الحق. وهذا إخبار عمن يُعلم منه أنه لا يؤمن. والغشاوة هي " إلفُهم الكفر بحبهم له " ولم يقل تعالى: إنه جعل على قلوبهم بل أخبر انه كذلك. ومن قرأ بالنصب ـ وإن كان شاذاً ـ يحتمل أن يكون أراد معنى قوله: ان السورة زادتهم رجساً إلى رجسهم والسورة لم تزدهم ولكنهم ازدادوا عندها، وسنوضح ذلك فيما بعد ان شاء الله تعالى. { ولهم عذاب عظيم } تقديره: ولهم، بما هم عليه من خلافك، عذاب عظيم وحكي ذلك عن ابن عباس. وأصل العذاب الاستمرار بالشيء يقال: عذبه تعذيباً: إذا استمر به الألم. وعذب الماء عذوبة: اذا استمر في الحلق وحمار عاذب وعذوب: اذا استمر به العطش فلم يأكل من شدة العطش. وفرس عذوب مثل ذلك. والعذوب الذي ليس بينه وبين السماء ستر وأعذبته عن الشيء بمعنى فطمته. وعذبة السوط طرفه والعذاب استمرار الألم. وأصل العِظَمِ عِظم الشخص، ومنه عظيم الشأن الغني بالشيء عن غيره وعظمة الله تعالى كبرياؤه والعظام من العِظم لأنه من أكبر ما يركب منه البدن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
لمّا وصفَ الله تعالى الكفارَ بأخصّ صفاتهم التي كانوا عليها، وهو عدم تأثّرهم عند الانذار والنصيحة، والتهذيب والتعليم للإيمان، بيّن في هذه الآية السبب الذي لأجله لا ينجع فيهم الانذار ولا يؤثّر فيهم التعليم، وهو الختْم على القلوب، للقساوة والفظاظة الأصليّة، والغشاوة على الأسماع والأبصار، للصمم والبكْم الفطريّة. وأنت تعلم أنّ نظام الدنيا لا ينصلح إلاّ بنفوس غليظة، وقلوبٍ قاسية، وطبائع جاسية. فلو كان الناس كلّهم سعداء بنفوسٍ خائفة من عذاب الله، وقلوبٍ خاشعة خاضعة لآياته، وطبائع لطيفة منفعلة، لاختلَّ النظام بعدم القائمين بعمارة هذه الدار من النفوس الغلاظ الشداد، كالفراعنة والدجاجلة، والنفوس المكّارة كشياطين الانس، والنفوس البهيمية كجهَلة الكفّار. وفي الحديث الرّباني: إنّي جعلتُ معصيةَ آدم سبباً لعمارة العالَم، وقال سبحانه:**{ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ }** [السجدة:13]. فكون الناس على طبقةٍ واحدةٍ، ينافي الحكمة والعناية، وهو إهمال سائر الطبقات الممكنة الوجود في مَكمن الإمكان، من غير أن تخرج من القوّة الى الفعل، وخلوّ أكثر مراتب هذا العالَم عن أربابها، فلا يتمشّى النظام، ولا تنصلح العمارة إلاّ بوجود الأمور الخسيسة والنفوس الدنيّة المحتاج اليها هذه الدار، التي يقوم بها أهل الظلمة والحجاب ويتنعّم بها أهل الذلّة والقسوة وسائر الأنعام والدوابّ، المبعدين عن دار الكرامة والنور، المطرودين عن عالَم المحبّة والسرور. فوجبَ في العناية الأولى والحكمةِ الكبرى، التفاوت في الاستعدادات لمراتب الدرجات، في الشرف والخسّة، والصفاء والكدورة، والعلوّ والدناءة. وثبت بموجب القضاء اللازم النافذ في القدَر المتحتّم، الحكمُ بوجود السعداء والأشقياء جميعاً، والمؤمنين والكفار والمنافقين كُلاً. قال بعض المكاشفين: يدخل أهل الدارين؛ السعداء بفضل الله في دارهم، وأهل النار بعدل الله فيها، وينزلون فيهما بالأعمال، ويخلّدون فيهما بالنيّات. وفي المقام أسرار أخرى تركناها الى مقام آخر. تبصرة [الختم وقول الأشاعرة فيه] الخَتْم والكَتْم؛ أَخَوان لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتَم عليه كَتْماً له، والغِشاوة: الغطاء فِعالة من غَشّاه إذا غطّاه. وهذا البناء لِما يشتملُ على الشيء كالعِصابة والعِمامة. واختلف الناس في هذا الختْم، أما القائلون بالقضاء والقدَر في الكل، فهو من فعل الله من جهة خصوصيّة بعض القوابل المتخالفة الطبائع والصور كما مرّ، ولهم قولان: منهم من قال: إنّ الختْم هو خلْق الكفْر في قلوب الكفّار، ومنهم من قال: خلْق الداعية التي إذا انضمّت الى القدرة، صار مجموعُ القدرةِ معها سبباً لوقوع الكفر. والحقّ، أنّ الختم موجودٌ لبعض الكفّار لا للجميع، وهو بمنزلة طبيعة جبليّة لذلك البعض، مستحيل الانفكاك عنه، وتقريره: أنّ الذي يحصل منه الكفر، إمّا أن لا يكون قادراً على تركه، أم يكون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فعلى الأول، كان مبدأ الكفر صفةً لازمة لا من غير اختياره وعلى الثاني كانت نسبة قدرته الى فعل الكفْر وتركه على السواء، فإمّا أن تكون صيرورتها مصدراً لأحد الطرفين دون الآخر، يتوقّف على انضمام مرجّح أَوْلا، وعلى الثاني، يلزم صدور الممكن من غير مرجّح، وتجويزه يؤدّي الى القدح في الاستدلال بالممكن على المؤثّر، وينسدّ منه باب اثبات الصانع، وذلك باطل. وعلى الأوّل: إمّا أن يكون المرجّح من فعْل الله، أو من فعْل العبْد. وعلى الثاني يلزم التسلسل في الأفعال الاختياريّة للعبد، وهو محال، وعلى الأول، وهو كون المرجّح - ولنسمّه الختْم - من فعل الله، يلزم المطلوب. فنقول: إذا انضمّ ذلك المرجّح الى تلك القدرة، فإمّا أن يصير صدور الكفر واجباً، أو جائزاً، أو ممتنعاً. والأخيران باطلان، فتعيّن الأول. أما بطلان كونه جائزاً: فلأنّه لو كان جائزاً، لكان يصحّ صدورُه في وقتٍ وتركُه في وقت آخر. فلنفرض وقوعَه - إذ المفروض جوازه والجائز ما لا يلزم من فرض وقوعه محال - فذلك المجموع، تارةً يترتّب عليه الأثر، وأخرى لا يترتّب عليه، واختصاص أحد الوقتين بترتّبه عليه، إمّا أن يتوقّف على انضمام قرينة إليه أوْلا يتوقّف، فإن توقّف، كان المرجّح هو ذلك المجموع مع هذه القرينة الزائدة، لا ذلك المجموع، والمفروض خلافُه، هذا خلف. وايضاً، فيعود التقسيم في هذا المجموع الثاني، فإنْ توقّف على قيد آخر، لزم التسلسل، وهو محالٌ، وإن لم يتوقّف، حصل ذلك المجموع، بحيث يكون مصدراً تارةً للأثر، وأخرى لا يكون كذلك مع انّه لم يتميّز أحد الوقتين بأمر لا يكون في الوقت الآخر عنه، فيكون هذا قولاً بترجّح الممكن لا عن مرجّح، وهو محال. فثبت أنّ عند حصول ذلك المرجّح، يستحيل أن يكون صدور ذلك الأثر جائزاً، وأما انّه لا يكون ممتنعاً فظاهر، وإلاّ لكان مرجّح الوجود مرجّحاً للعدم، وهو محال. وإذا بطل القسمان فثبت أنّ عند حصول مرجّح الوجود يكون الأثر واجبَ الوجود عن المجموع الحاصل من تلك القدرة ومن ذلك المرجّح. وإذا عرفت هذا، كان خلْق الداعية موجبةً للكفر، أو الأمر الجِبِلّي الموجب له، ختماً على القلب، ومنعاً عن قبول الإيمان، فهذا هو السبب الفاعلي، والذي ذكرنا في الفصل المتقدّم هو السبب الغائي لوجود الخَتْم وأشباهه، كالطبع والرَّين والغشاوة والصمَم والبكْم وغيرها، فإنّه تعالى لما حكَم بأنّهم لا يؤمنون، ذكَر عقيبَه ما يجري مجرى السبب الموجب له، لأنّ العلم بالعلّة يفيد العلمَ بالمعلول، والعلمُ بذي السبب لا يكمل إلاّ من جهة العلم بسببه، فهذا قول من أضاف جميعَ المحدَثات الى الله على ترتيب الأسباب والمسبّبات، وأمّا الأشاعرة، فهم بمعزل عن ذكر المرجّح والعلّة ها هنا؛ لانكارهم القول بالعلّة والمعلول مطلقاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فصل [اقوال المعتزلة في المراد من الختم] وأمّا المعتزلة، فلمّا لم يجوزوا بناءً على أصولهم خلْق الكفر وما يشبهه وما يستدعيه من قِبَل الله تعالى، لا يجوز عندهم إجراء هذه الآية على ظاهرها من المنع من الإيمان، سيّما وقد ذمّ الله كفاراً قالوا: إن على قلوبنا أكناناً وغطاءً وفي آذاننا وقر، فقد التجأوا الى حمل الختْم والغشاوة على أمور أخرى. قالوا: لأن إسناد الختْم الى الله - مع كونه دالاً على المنع من قبول الحقّ والتوصل اليه بطرقه - إسناد أمر قبيح اليه تعالى، والله يتعاظَم عمّن فعَل القبيح علوّاً كبيراً، لعلمه بقُبحه، وعلمه بغناه عنه، وقد نصّ على تنزيه ذاته عنه بقوله:**{ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }** [ق:29].**{ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ }** [الزخرف:76].**{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ }** [الأعراف:28]. ونظائر ذلك. فذكروا في الآية وجوهاً من المحامل والتأويلات: أحدها: القصد الى صفة القلوب بأنّها كالمختوم عليها، وأما إسناد الختْم الى الله، فللتنبيه على أنّ هذه الصفة في فرط تمكّنها وثبات قدمها، كالشيء الخَلْقي غير العرَضي، ولهذا قال:**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ }** [النساء:155]. ألا ترى الى قولهم: فلانٌ مجبول على كذا، مفطور عليه؟ يريدون أنّه بليغٌ في الثبات عليه. وثانيها: إنّه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، والشيطان هو الخاتِم بالحقيقة، أو الكافر. إلاّ انّ الله تعالى لمّا كان هو الذي أقدَرهم على ذلك، أُسند اليه الختْم كما يُسند الفعلُ الى المسبّب. قال صاحب الكشّاف: إن للفعل ملابسات شتّى، يلابس الفاعلَ والمفعولَ به، والمصدرَ والزمانَ والمكانَ والمسبِّب، فإسناده الى الفاعل حقيقة، والى غيره استعارة، لمضاهاتها الفاعل في ملابسته، فيقال: عيشةٌ راضيةٌ، وشعرٌ شاعرٌ، ونهاره صائمٌ، وطريقٌ سائرٌ، وبنى الأميرُ المدينةَ. وثالثها: إنّهم أعرضوا عن التدبّر ولم يصغوا الى الذِكْر، وكان ذلك عند إيراد الله تعالى الدلائل، فأضيف ما فَعلوا الى الله تعالى، لأنّ حدوثَه إنّما اتّفق عند ايراده تعالى دلائله عليهم، كقوله تعالى في أهل التوراة:**{ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** [التوبة:125]. أي ازدادوا بها كُفر الى كفرهم. ورابعها: أن يكون ذلك حكايةً لِما كان الكفَرةُ يقولونه تهكّماً به في قولهم:**{ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ }** [فصلت:5]. ونظيره في الحكاية والتهكّم قوله:**{ لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ }** [البينة:1]. وخامسها: إنّ المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله خالية عن الفطن، أو قلوب مقدّرة ختم الله عليها. ونظيره: سالَ به الوادي: إذا هلك، وطارت به العنقاء: إذا طالت غيبته. وسادسها: إنّ المراد من الختم من الله على قلوب الكفار، وهو الشهادة منه عليهم بأنّهم لا يؤمنون، وعلى قلوبهم بأنّها لا تعي الذكْر ولا تقبل الحقَّ، وعلى أسماعهم بأنّها لا تُصغي الى الحقّ، كما يقول الرجل لصاحبه: أُريُد أن يختم على ما يقوله فلانٌ أي يصدقه ويشهد بأنّه حقٌّ، فأخبر الله تعالى في الآية الأولى بأنّهم لا يؤمنون، وأخبر في هذه الآية أنّه قد شهِد بذلك وحفِظَه عليهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وسابعها: ما قال بعضهم: إنّها جاءتْ في قوم مخصوصين من الكفّار، فعَل الله بهم هذا الختم والطبع في الدنيا عقاباً لهم في العاجل، كما عجّل لكثيرٍ من الكفّار عقوبات في الدنيا، كما قال تعالى:**{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }** [البقرة:65]. وقال تعالى**{ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ }** [المائدة:26]. ونحو هذا من العقوبات المعجّلة، لما علم الله فيها من العبرة للعباد والمصلحة لهم. فيكون من هذا ما فَعل بهؤلاء من الختْم والطبْع. إلا أنّهم إذا صاروا بذلك الى أن لا يفهموا، سقط عنهم التكليف كسقوطه عمّن مُسخ. وقد أسقط الله التكليفَ عمَّن يعقل بعض العقل كمن قاربَ البلوغ. ولسنا ننكر أن يَخلق الله في قلوب الكافرين مانعاً يمنعهم عن الفهم والاعتبار، إذا عِلم أنّ ذلك أصلح لهم، كما يذهب بعقولهم ويُعمي أبصارَهم، ولكن لا يكونون في هذا الحال مكلَّفين. وثامنها: يجوز أن يفعل هذا الختم بهم في الآخرة، وإنّما أخبر عنه بالماضي لتحقّقه وتيقّن وقوعه، كما قد أخبر أنّه يُعميهم، قال:**{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً }** [الإسراء:97]. وقال:**{ وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً }** [طه:102]. وقال:**{ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ }** [الأنبياء:100]. وتاسعها: ما حكوه عن الحسن البصري، - وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي-: أن المراد بذلك علامةٌ وسِمَةٌ وسم بها قلوبُهم وسمعهم، يعرفها الملائكة ويعرفونهم بها أنّهم كفار، فيبغضونهم وينفرون عنهم، كما لا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامةٌ يَعرف الملائكةُ بها كونَهم مؤمنين عند الله، كما قال تعالى:**{ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ }** [المجادلة:22] وحينئذ يحبّونهم ويستغفرون لهم، والفائدة في تلك العلامة، مصلحةٌ تعود الى الملائكة. وقالوا: وإنّما خصّ السمعَ والقلبَ بذلك، لأن أحدهما للأدلّة السمعيّة، والأخرى للعقليّة. وهؤلاء لم يحملوا الغشاوةَ في البصَر أيضاً على معنى العلامة والسِّمة، كما حمَلوا الختمَ عليه، محافظة على مقتضى اللغة من غير مانع في الختم، إذ لا مانع من حمْله على معناه، بخلاف الغشاوة، لأنّها الغطاء المانع عن الإبصار، ومعلومٌ من حال الكفّار خلاف ذلك، فلا بدّ فيه من حمله على المجاز، وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية. وعاشرها: إنّ أعراقهم لما رسخت في الكفر واستحكمت، بحيث لم يبق لهم طريق الى تحصيل ايمانهم سوى الإلجاء والقَسر، ثمّ لم يقع الإلجاء والقَسْر إبقاءً على غرَضِ التكليف، عبّر عن تركه بالختْم، فإنّه سدٌّ لإيمانهم وفيه إشعارٌ على ترامي أمرهم في الغيّ والضلال، وتناهي انهماكهم في البطلان والوبال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فهذا مجمع ما ذكَروه في هذا المقام. فصل [وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ...] أكثر المفسّرين على أن قوله: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } معطوفٌ على قوله: { عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } ، وفاقاً لقوله تعالى:**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً }** [الجاثية:23], ولِما مرّ من أن الأدلّة السمعيّة لا تستفاد إلاّ من طريق السمع، والأدلّة العقلية لا تستفاد إلاّ من طريق القلب، ولأنهما لمّا اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب، جعل ما يمنعهما من خاص فعْلهما، الختم الذي يمنع من جميع الجهات، وإدراك الأبصار لما اختصّ بجهة المقابل، جعل المانع عن فعلها الغشاوة المختصّة بتلك الجهة. والفائدة في تكرير الجار في قوله: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } ، لاستقلال كلّ منهما بالحكم، ولأنّها لما اعيدت في السمع، كان أدلّ على شدّة الختم في الموضعين، وإنّما وحّد السمع للأمن من اللبس، كما يقال: أتاني برأس كبشين، وكقوله (عليه السلام): " كُلوا في بعض بطنكم " ولأن السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع، فُروُعِيَ الأصل، دلّ عليه جمع الأذُن في قوله:**{ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ }** [فصّلت:5]. ووجهٌ ثالث: وهو تقدير مضاف محذوف، أي وعلى حواسّ سمعهم، ووجهٌ رابع إنّه محفوفٌ بين الجمعين فيُراد به الجمع أيضاً، كما قال تعالى:**{ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ }** [البقرة:257].**{ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ }** [ق:17]. وقرأ ابن أبي عبلة: وعلى أسماعهم. والأبصار: جمع بصَر، وهو إدراك العين، وقد يطلق على القوّة الباصرة، وعلى العضو، كما يطلق العقل - وهو إدراك الكلّيات - على القوّة الناطقة، وعلى الشخص المحسوس، وهذا ليس من باب المجاز كما زعموه، بل لعلاقة اتّحادية بين الفعل والفاعل، والقوّة وذي القوة، كما بين العقل والعاقل، والنفس والبدن، كما ذهب اليه بعض أعاظم الفلاسفة المسمّى " بفرفوريوس " ، ودلّ عليه كلام استاذه معلم الفلسفة القديمة " أرسطاطاليس " في كتابه الموسوم بمعرفة الربوبيّة. وكذا الكلام في السمع، حيث يطلق على الإدراك وقوّته ومادّته، واختلف الناس في كون أيّهما أفضل، فقيل: السمع، لأنّ الله حيث ذكرهما، قدّمه على البصر، والتقديم علامة التفضيل، ولأنّه شرط النبوّة بخلاف البصر، ولهذا ما بُعث نبيٌّ أصم، وقد كان فيهم مبتلى بالعمى، ولِما مرّ من كونه متصرّفاً في الجهات دون البصر، ولأنّه متى بطل، بطل النطق، والعين إذا بطلت لم يبطل النطق، ولأنّ بالسمع تصل نتايج العقول بعضها الى بعض، فهو كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف، والبصر لا يوقفك إلاّ على المحسوسات. أقول: وفي هذا الوجه محل نظرٍ، وكأنّ مراد القائل، إنّ الواسطة بين السمع والعقل أقلّ ممّا بين البصر والعقل، فإنّ العقلَ يفهم المعاني من النقوش والكتابة بواسطة دلالتهما على الألفاظ، ودلالة الألفاظ على الصوَر العقليّة، ويفهمهما من النقوش السمعيّة لدلالتها على الصوَر العقلية بلا واسطة، وكأنّ الهواء بما فيه من صور الألفاظ صحيفة مكتوبة يدلّ على المعاني من غير توسط الألفاظ، لأنّها نفس الألفاظ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: بأنّ البصر أقدم، لأن آلة القوّة الباصرة أشرف، ولهذا يقال لهما: كريمتان. وفي الحديث: **" من أحبّ كريمتاه لا يكتبن بالعصر "** ، ولأنّ متعلّق القوّة الباصرة هو النور، ومتعلّق القوّة السامعة هو الريح. أقول: ولأنّ البصر يعمّ إدراكه القريب والبعيد الى فلك البروج، والسمع لا يتعدّى إدراكه عن كرة البخار، ولأنّ إدراك البصر دفعيٌّ وإدراك السمع زمانيّ تدريجيّ، والأول أشرف، لكونه يشبه إدراك العقل والثاني يشبه الحركة والاستحالة، ومعلومٌ أنّ العقل أشرف من الحركة، لأنّه أشرف الجواهر، وهي أخسّ الأعراض، والشبيه بالأشرف أشرف من الشبيه بالأخسّ، فالبصر أشرف من السمع. فصل فيه ذكر مشرقي [السمع أشرف من البصر] لعلك كنتَ ناظراً فيما ذكرنا من قبلُ في المفاتيح الغيبيّة، الفرق بين كلام الله وكتابه، وانّ احدهما - لكونه من عالَم الأمر والإبداع - أشرف من الآخر - لكونه من عالَم الخلْق والتقدير -. فاعلم أنّ للنفس الإنسانيّة المخلوقة على صورة الكمال، وهي على بيّنة من ربّها، كتاباً وكلاماً وهما يدلاّن على كلام الله وكتابه، يشهدان عليهما، الكلام على الكلام والكتاب على الكتاب، وكل منهما غير صاحبه بوجه، وعينه بوجه آخر، كما مرّ بيانه. فكلام الحقّ يدرك بالسمع الباطني، وكتابه يدرك بالبصر الباطني. وأمّا كلام النفس وكتابها، فهما يدرَكان بهذا السمع وهذا البصر الحسّيين الظاهرين. فإذا تقرّر هذا، ظهر وجهُ كون السمع أقدمَ من البصَرِ في الشرف والفضيلة، ولهذا قُدّم ذكرُه على ذكر البصر في القرآن كما مرّ. وممّا يزيدك استيضاحاً، أنّ النفس الإنسانيّة متى استيقظت من نوم الجهالة وسِنَة الغفلة، وتجاوزت حدودَ البهيميّة، فأول ما أدركته هو العدد، وبه صارت عادّةً ماسِحة، والعددُ والمساحة من الخواصّ الشاملة للنفس الناطقة، لارتفاع الملائكة العقليّة عنها، وانحطاط النفوس الحيوانيّة عن نيلها. فالنفس الآدمية هي العادّة الماسحة، كما تقرّر عند القوم؛ فهي في بداية أمرها عرفت مراتبَ العددِ، لتَعلم بها مراتب الملكوت الباطنة، ولكلّ مرتبة منها اسم يخصّه، فتولّدت من مراتب العدد أساميها، لكن بحكم أنّ الكلام إنّما يتأتّى من جهة السمع، فالحروف والأصوات صارت محصّلة لتلك الأسامي تحصيل البسيط للمركب، فكما أنّ الأسامي المركّبة دالّة على أشخاص وأعداد مركّبة، سواء كان في عالَم الحسّ كزيد وعمروٍ، أو في عالم العقل كالمعقول من الإنسان، والفرس والياقوت والعسل وغيرها، فكذا الحروفُ المبسوطة، دالةٌ على أعداد بسيطة، كالعقل والنفس والطبيعة والهيولىٰ. وأسبق الحروف هي حروف المدّ سيّما الألف، فلذلك صارت حرف أول الموجودات البسيطة الذوات، ثمّ تحصل المركّبات من هذه البسائط، كما تتألّف الأسامي من الحروف الوحدان، وأسامي المفردات وأرقامها من أرقام المفردات بتركيب مفردات كلّ من هذه العوالم العقليّة العدديّة، والسمعيّة اللفظيّة، والحسيّة الرقميّة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فالأعداد دلائل على عالَم العقل، والحروف بأصواتها دلائل على عالَم المثال البرزخي، والأرقام الماديّة دلائل على عالَم الحسّ والشهادة. فالعدد وجوده في لوح النفس، والحروف وجودها في صحيفة الهواء النفسي المتحرّك بسبب قوة التكلّم، وإنّما يدركها السمع لا البصَر. والبصَر يدرك نقوشاً كتابية للحروف والأسامي الدالّة عليها، وعلى ما في النفس، فللأشياء وجود في النفس، ووجود في النَّفَس الإنساني، وهو الهواء اللطيف الخارج من باطنه، بإزاء النَّفَس الرحماني المبعث من فيض وجود الحقّ، المنبسط على هياكل الماهيات وصحائف القابليّات، ووجودٌ في الكتابة. فالأول ليس بمداخلة وضع وتعمّل، بخلاف الأخيرين، والأول قول النفس، والثاني كلامها والثالث كتابها. فعلى ما قرّرنا من المقدمات، ثبت أنّ الكلام أشرف من الكتابة، كما أنّ القول أشرف من الكلام، فقد تحقّق وتبيّن أنّ السمع أشرف من البصر. فصل [اللغة والقراءة] ذكر صاحب الكشّاف: قرأ " غِشاوةً " بالكسر والنصب، و " غُشاوةٌ " بالضم والرفع، و " غَشاوةً " بالفتح والنصب، و " غِشوةٌ " بالكسر والرفع، و " غَشوةٌ " بالفتح والرفع والنصب، و " عشاوةٌ " بالعين غير المعجمة والرفع من " العشاء ". والغشاوة: هي الغطاء، ومنه الغاشية، ومنه غشي عليه، أي زال عقله، والغشيان: كناية عن الجماع. والعذاب: مثل النكال بناء ومعنىً، لأنك تقول: أعذَبَ عن الشيء إذا أمسك عنه، كما تقول: نكل عنه، ومنه العَذْب، لأنه يقمع العطش ويردعه، بخلاف المِلْح فإنّه يزيده، ويدلّ عليه تسميتهم إيّاه نُقاخاً لانه ينقخ العطش، أي: يكسره، وفُراتاً، لأنه يرفته عن القلب. ثمّ اتّسع فيه فسمّي كل ألَم قادحٍ عذاباً، وإن لم يكن نكالاً، أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة. والفرق بين العظيم والكبير: أنّ العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكأن العظيم فوقَ الكبير، كما أنّ الحقير دون الصغير، ويستعملان في الجثث والأحداث جميعا تقول: رجلٌ عظيمٌ وكبيرٌ، تريد جثّته أو خطره، ومعنى التنكير: أنّ على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوعٌ عظيم لا يعلم كنهه إلاّ الله. فصل [عذاب الكفّار وخلودهم في النار] اتّفق أهل الإسلام، على أنّه يحسن من الله تعذيب الكفّار وقال بعضهم: لا يحسن، أمّا الفرقة الأولى، فمستندهم ادلّة سمعيّة كالكتاب والخبر والإجماع، وأمّا الفرقة الثانية فمستندهم دلائل عقليّة. الأول: انّه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي، وذلك لحكمة النظام ومصلحة الخلائق، لما مرّ من أنّ الناس لو كانوا كلّهم صلحاء مؤمنين خائفين من عقاب الله، لاختلّ نظام الدنيا، وبطلت أسباب المعيشة، ولِما بيّنا انّ صدور الفعل عن قدرة العبد، يتوقّف على انظمام الداعية من العلم والإرادة وغيرها، وبعد انضمام الداعي يجب صدور الفعل، وحصول الداعي ليس بقدرته، وإلاّ لكان للداعي داعٍ آخر، ويعود الكلام جذعاً فيتسلسل، وهو محال، أو ينتهي الى داعٍ حصل بخَلق الله لا بقدرة العبد، فإذاً كان الله هو الخالق للدواعي الشيطانيّة التي توجب المعاصي، فيكون هو الملجئ إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وربما قرّروا هذا بوجه آخر وقالوا: إذا كانت التكاليف الشرعيّة قد جاءت الى شخصين، فقبلها أحدهما فأُثيب، وخالفها الآخر فعوقِبَ، فإذا سُئِل: لِمَ أطاع هذ وعصى الآخر؟ فيجاب: لأنّ المطيعَ أحبَّ الثواب وحذر العقاب، والعاصي لم يحبّ ولم يحذر، أو لأن هذا أصغىٰ الى مَن وعظه وفهم عنه مقالته، فأطاع، وهذا لم يصغ ولم يفهم، فعَصىٰ. فيقال: ولِم أحبّ الخير هذا وأصغى وفهم، ولم يكن الآخر كذلك ولم يفهم؟ فيجاب: لأنّ هذا حازمٌ لبيبٌ فطِنٌ، وذاك أخرقُ جاهلٌ غبيٌ. فيقال: ولِم خُصّ هذا بالعقل والفِطنة دون ذاك؟ ولا شكّ أنّ الفطنة والبَلادة من الأحوال الغريزيّة، فإذا تناهت التعليلات الى أُمور خلَقها الله اضطراراً، فعلم أنّ سبب الطاعة والعصيان، والتوفيق والحرمان، من الأشخاص، أمور واقعة عليها بقضاء الله وتقديره. وعند هذا يقال: أين من العدل والرحمة أن يخلق في عبد من الفظاظة والقساوة والغباوة والطيش والخُرق ما يوجب عنه صدور العصيان، ثمّ يعاقب عليه، وهذه مما هو مجبولٌ عليه، كما جُبل على أضدادها الطائع. وأين من العدل أن يسخّن قلب العاصي ويقوّي غضبه ويلهب دماغه ويكثر طيشه، ولا يرزقه ما يرزق المطيع من أستاذ سليم، ومؤدب عليم، وواعِظ مبلّغ، وناصحٍ شفيق، بل يقيّض له أضداد هؤلاء في أفعالهم وأخلاقهم، فيكتسب منهم ما يكسبه المطيع، ثمّ يؤاخذه بما يؤاخذ به اللبيبَ الحازم العالم، البارد طبيعة الراس، الصبور، المعتدل مزاج القلب، الزكي، اللطيف الروح، الدرّاك، يقظان النفس، الحازم. ما هذا من العدل والكرم والرحمة، فثبت بهذا أن القول بالعقاب على خلاف قضيّة العقول. الثاني: أنّ التعذيب في الآخرة ضررٌ خالٍ من جهات المنفعة، أمّا أنّه ضرر فظاهر، وأما انّه خالٍ عن جهات النفع، فلأن تلك المنفعة إمّا عائدةٌ الى الله او الى غيره، والأول باطل، لتعاليه عن وَسمة التغيّر والانفعال. والثاني أيضاً باطل، لأنها إمّا عائدة الى المعذَّبِ، أو الى غيره، أما اليه فهو محال، لأنّ الإضرار لا يكون عين الانتفاع وأما الى غيره فهو محال، لأنّ دفع الضرر أولىٰ بالرعاية من ايصال النفع، فايصال الضرر الى شخص لغرَض ايصال النفع الى آخر ترجيحٌ للمرجوح على الراجح، وهو باطلٌ. وأيضاً، فلا منفعة يريد الله ايصالها الى أحد إلاّ وهو قادر عليه بوجوه شتّى، فالإضرار عديم الفائدة. فثبت أنّ التعذيب ضررٌ خال عن جميع جهات المنفعة، وأنّه معلوم القُبح بديهةٌ، بل قُبحه أجلى في العقول من قُبح الكذب الغير الضارّ، والجهل الغير الضارّ، بل من قُبْح الكذب الضارّ والجهل الضارّ؛ لأنّ الكذب الضارّ وسيلة الى الضرر، وقُبْح وسيلة الضرر دون قبح نفس الضرر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإذا ثبت قُبح التعذيب، امتنع صدوره من الله تعالى، لأنّه حكيمٌ، والحكيم لا يفعل القبيح. الثالث: انّه كان عالماً بأنّ الكافر لا يؤمن، كما اخبر عنه في الآية السابقة، فمتى كُلِّف لم يظهر منه إلاّ العصيان، وهو يكون سبباً للعقاب فكان ذلك التكليف مستعقباً لاستحقاق العذاب، أمّا لأنه تمام العلّة، أو لأنّه شطرها. فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحاً لكونه مستعقباً للضرر الخالي عن النفع، والحكيم لا يفعل القبيح، فوجب أحد الأمرين: إما عدم التكليف أو عدم العقاب وعلى أيّهما فالمطلوب حاصل. الرابع: إنّه سبحانه، إنّما كلّفنا النفع لعوده إلينا، لأنّه تعالى قال:**{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا }** [الإسراء:7]. فإذا عصينا فقد فوّتنا على أنفسنا تلك المنافع، فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنساناً ويقول: إني أعذّبك العذاب الشديد لأنك فوّتَ على نفسك بعض المنافع، فإنّه يقول له: إنّ تحصيل النفع مرجوح بالنسبة الى دفع الضرر، فهبْ انيّ فوّت على نفسي أدْوَنَ المطلوبين، فأنت تفوِّت عليَّ لأجل ذلك أعظمها، أو هل يحسن من السيّد أن يأخذ عبده ويقول: إنّك قدرتَ على أن تكتسب ديناراً لنفسك لتنتفع به خاصّة من غير أن يكون لي فيه شيء ألبتّة، فلمّا لم تفعل، فأنا أعذّبكَ وأقطع اعضاءك إرباً إرباً. لا شكّ أنّ هذا نهاية السفاهة، فكيف يليق بأحكم الحاكمين؟! ثمّ قالوا: هبْ أنّا سلّمنا هذا العقابَ، فمن أين القول بالدوام، وذلك لأن أقسى الناس قلباً وأشدّهم غلظةً وبُعداً عن الخير والرحمة؛ إذا أخذ من بالَغ في الإساءة إليه عذّبه يوماً أو شهراً أو سَنةً، ثم إنّه يشبع منه ويملّ، ولو بقي مواظباً عليه يلومه كلّ أحد ويقال: هبْ أنّه بالَغ في الإساءة والإضرار بك، ولكن الى متى هذا التعذيب؟ فإمّا أن تقتله وتريحه، وإمّا أن تخلصه، فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذّ بالانتقام، فالغني عن الكلّ كيف يليق به هذا الدوام الذي يقال؟! الخامس: أنّه تعالى نهى عبادَه من استيفاء الزيادة، فقال تعالى:**{ فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً }** [الإسراء:33].**{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }** [الشورى:40]. ثمّ إنّ العبد هبْ أنّه عصى طولَ عمره، فأين عمره من الأبد، فيكون العذاب المؤبد ظلماً؟ السادس: إنّ العبد لو واظَب على الكفر طولَ عمره فإذا تابَ ثمّ مات؛ عفى الله عنه وأجاب دعاءَه وقبل توبتَه. أترى هذا الكرم العظيم ما بقي في الآخرة، أو عقول اولئك المعذَّبين ما بقيت، فلِمَ يتوبون عن معاصيهم، وإذا تابوا فلِمَ لا يقبل الله توبتَهم؟ ولِمَ لا يسمع دعاءَهم ولِمَ يخيّب رجاءَهم، ولِمَ كان في الدنيا في الرحمة والكرم الى حيث قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ }** [غافر:60].**{ أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ }** [النمل:62]. وصار في الآخرة بحيث كلّما كان تضرّعهم إليه أشدّ، فانه لا يخاطبهم إلاّ بقوله:**{ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ }** [المؤمنون:108]؟! قالوا: فهذه الوجوه مما توجب القطع بعدم العقاب. واعلم أنّ أكثرها مبنيّة على أصول المعتزلة من التحسين والتقبيح العقلييّن، وأنّ الأصلح واجبٌ على الله، ولا محيص لهم عنها من جهة العقل. والأشاعرة أجابوا عن هذه الشُّبه بمنع صحّة تلك الأصول، وبما تواتر من الآيات والأخبار المنقولة من الرسول (صلّى الله عليه وآله)، الورادة في باب خلود الكفّار في عذاب النار. وأما على أصولنا الحكميّة الإيمانية، فالجواب عنها بما مرّ من أن العقوبة إنّما لحق الكفار، لا من جهة انتقام منتقِمٍ خارجي، يفعل الإيلام والتعذيب على سبيل القصد وتحصيل الغرَض، حتى يرد السؤال في الفائدة وعدم الفائدة او في كون المنفعة عائدة إليه تعالى أو الى العبد، بل العقوبةُ إنّما تلحقهم من باب اللوازم والتبعات والنتايج والثمرات، فهذا هو الجوابُ بحسب الأصول الحقّة عن الإشكال الوارد على أصل العقاب. وأمّا الإشكال الوارد على دوام العذاب وأبديّته للكفار، فوروده من جهة أخرى غير جهة التحسين والتقبيح، فلذلك كان موجب تحيّر الحكماء ودهشة أفاضل العرفاء، حتّى أنّ الشيخ العارف السبحاني محيي الدين الأعرابي وتلميذه الشيخ صدر الدين القونوي قدّس سرهما، صرّحا القول بانتهاء مدّة العقاب وعدم تسرمد العذاب، وتبعهما غيرهما من شرّاح الفصوص ومن يحذو حذوهم. قال في الفص الإسماعيلي: " الثناء بصدق الوعْد لا بصدق الوعيد، والحضرة الإلٰهيّة تطلب الثناء المحمود بالذات فيثني عليها بصدق الوعْد لا بصدق الوعيد بل بالتجاوز:**{ فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ }** [إبراهيم:47]. ولم يقل: ووعيده: بل قال:**{ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ }** [الأحقاف:16] مع انّه توعّد على ذلك. وقال في الفصّ اليونسي من فصوص الحكم بعدما بيّن فضيلة الإنسان وشرفه بهذه العبارة: " ولا بدّ أن يكون في الإنسان جزء يذكر الحق به، ويكون الحقّ جليس ذلك الجزء، فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية، وما يتولّى الحقّ هدم هذه النشأة بالمسمّى موتاً، فليس بإعدام، وإنّما هو تفريقٌ، فيأخذ اليه وليس المراد إلا أن يأخذه الحقّ اليه، واليه يرجع الأمر كلّه، فإذا أخذه الحقّ اليه، سوّى له مركباً من جنس الدار التي ينتقل اليها، وهي دار البقاء لوجود الاعتدال، فلا يموتُ أبداً، أي لا تفترق أجزاؤه، وأما أهل النار، فمآلهم الى النعيم، ولكن في النار، إذ لا بدّ لصورة النار بعد انتهاء مدّة العذاب أن تكون برْداً وسلاماً على مَن فيها، وهذا نعيمُهم، فنعيمُ أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيمُ خليل الله (عليه السلام) حين ألقي في النار " - انتهى. وقال في الباب الثامن والخمسين " وأمّا كتاب الفجّار ففي سجّين، وفيه أصول السِّدرة التي هي شجرة الزقّوم فهناك تنتهي أعمال الفجّارْ في أسفل السافلين، فإن رَحِمَهم الرحمٰن من عرش الرحمانيّة بالنظرة التي ذكرناها، جعل لهم نعيما في منزلهم فلا يموتون فيه ولا يحيون، فهم في نعيم النار دائمون مؤبدون كنعيم النائم بالرؤيا التي يراها في حال نومه من السرور، وربما يكون في فراشه مريضاً ذا بؤس وفقْر، ويرىٰ نفسه في المنام ذا سلطان ونَعمة وملك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن نظرتَ الى النائم من حيث ما يراه في منامه ويلتذّ به، قلتَ: إنّه في نعيم وَصَدَقْتَ، وإن نظرتَ إليه من حيث ما تراه في فراشه الخشِن ومرضه وبؤسِه وفقره وكُلُومه، قلت: إنّه في عذاب. هكذا يكون أهل النار، (لا يموت فيها ولا يحيى) أي لا يستيقظ أبداً من نومته، فتلك (هي) الرحمة التي يرحم الله بها أهل النار الذين هم أهلها وأمثالها، كالمحرور منهم يتنعم بالزمهرير، والمقرور منهم يُجعل في الحَرور. وقد يكون عذابهم توهّم وقوع العذاب بهم، وذلك كلّه بعد قوله:**{ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ }** [الزخرف:75] ذلك زمان عذابهم وأخذهم بجرائمهم قبل أن تلحقهم الرحمةُ التي سبقت الغضب الإلٰهي، فإذا اطّلع أهل الجنان في هذه الحالة على أهل النار ورأوا منازلَهم في النار، وما أعدّ الله فيها، وما هي عليه من قُبح المنظَر، قالوا: معذَّبون، وإذا كوشفوا على الحسن المعنوي الإلٰهي في خلق ذلك المسمى قُبحاً ورأوا ما هم فيه من نومتهم، وعلموا أحوال أمزجتهم، قالوا: منعَّمون، فسبحانه القادر على ما يشاءُ، لا إلٰه إلاّ هو العزيزُ الحكيم، فقد فهمت قول الله تعالى:**{ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ }** [طه:74]. وقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): **" أمّا أهل النار الذين هم أهل فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون "** انتهى. وقال في الباب الثامن والخمسين وثلاثمائة من الفتوحات المكيّة: اعلم - أسعدنا الله وإيّاك بسعادة الأبد - أنّ النفس الناطقة سعيدةٌ في الدنيا والآخرة، لا حظّ لها في الشقاء، لأنّها ليست من عالَم الشقاء، إلاّ انّ الله ركبها هذا المركب البدني المعبَّر عنه بالنفْس الحيوانيّة، فهي لها كالدّابة، وهي كالراكب عليها، وليس للنفْس الناطقة في هذا المركب الحيواني إلاّ المشي بها على الصراط المستقيم الذي عيّنه لها الحقّ، فإن أجابت النفس الحيوانيّة لذلك، فهي المركَب الذَّلول المرتاض، وإن أبتْ، فهي الدابّة الجَموح، كلّما أراد الراكبُ أن يردّها الى الطريق، جمَحت وحَرَنَت عليه، وأخذت يميناً وشمالاً لقوّة رأسها، وسوء تركيب مزاجها. فالنفس الحيوانيّة، ما تقصد المخالفة ولا تأتي المعصية انتهاكاً لحرمة الشريعة، وإنّما تجري بحسب طبعها، لأنّها غير عالمة بالشرع، واتّفق انّها على مزاج لا يوافق راكبها على ما يريد منها. والنفس الناطقة، لا يتمكن لها المخالفة، لأنّها من عالَم العصمة والأرواح الطاهرة، فإذا وقع العقاب يوم القيامة، فإنّما يقع على النفس الحيوانيّة، كما يَضربُ الراكب دابّته إذا جَمَحَت وخرجت عن الطريق الذي يريد صاحبها أن يمشي بها عليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ألاَ ترى الحدودَ في الزنا والسرقة والافتراء، إنّما محلّها النفس الحيوانيّة البدنيّة، وهي التي تحسّ بألم القتل وقطع اليَد وضرب الظَّهر، فقامت الحدود بالجسم، وقام الألم بالنفس الحسّاسة الحيوانيّة التي يجتمع فيها جميع الحيوان المحسّ للآلام. فلا فرق بين محلّ العذاب من الإنسان، وبين جميع الحيوان في الدنيا والآخرة. والنفس الناطقة على شرفها مع علمها في سعادتها دائمةٌ، ألا ترى أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قد قام لجنازة يهوديٍّ فقيل له: إنّها جنازةُ يهودي؟! فقال: أليست نَفْساً فما علّل بغير ذاتها، فقام إجلالاً وتعظيماً لشرفها ومكانتها. وكيف لا يكون لها الشرف وهي منفوخة من روح الله، فهي من العالَم الأشرف الملكي الروحاني، عالَم الطهارة. فلا فَرْق بين النفس الناطقة الموجودة لكل أحد، وانّها ما عصتْ، وإنما النفس الحيوانيّة ما ساعدتها على ما طلبت منها، وانّ الحيوانيّة خوطبت بالتكليف فتتّصف بطاعة أو معصية. فاتّفق أن كانت جموحاً اقتضاه طبعها لمزاج خاصّ، فاعل ذلك. وان الله يعمّ برحمته الجميع لأنّها سبقت غضبه لما تجاريا الى الانسان " انتهى كلامه. وقال في الباب الخامس وثلثمائة من الفتوحات أيضاً: واعلم أنّ من الأحوال التي هي الأمّهات من هذا الباب.... أحوال الفطرة التي فطَر الله الخلَق عليها، وهو أن لا يعبدوا إلاّ الله، كما قال:**{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ }** [الإسراء:23] فبقوا على تلك الفطرة في توحيد الله، فما جعلوا مع الله مسمّى آخر هو الله بل، جعلوا آلهة على طريق القربة الى الله، ولهذا قال:**{ قُلْ سَمُّوهُمْ }** [الرعد:33]، فإنّهم إذا سمّوهم بانَ أنّهم ما عبَدوا إلاّ الله، فما عبَد عابدٌ إلاّ الله في محل الذي نصب الألوهيّة له، فصحَّ بقاء التوحيد لله الذي أقرّوا به في الميثاق، وانّ الفطرة مستصحبة. والسبب في نسبة الألوهيّة لهذه الصوَر المعبودة؛ هو أنّ الحقّ لمّا تجلّى لهم في أخذ الميثاق، تجلّى لهم في مظهَر من المظاهر الإلٰهيّة، فذلك الذي أجرأهم على أن يعبدوه في الصوَر. ومن قوّة بقائهم على الفطرة، أنّهم ما عبدوه على الحقيقة في الصوَر، وإنّما عبَدوا الصوَر لِمَا تخيّلوا فيها من رتبة التقرّب كالشفعاء، وهاتان الحقيقتان إليهما مال الخلْق في الدار الآخرة، وهما الشفاعة والتجلّي في الصور على طريق التحوّل. فإذا تمكّنت هذه الحالة في قلب الرجل، وعرف من العلم الإلٰهي ما الذي دعى هؤلاء الذين صفتُهم هذا وانّهم تحت قهر ما إليه يؤولون، تضرّعوا الى الله في الدياجير، وتملّقوا له في حقّهم وسألوه أن يدخلهم في رحمته إذا أخذَتْ منهم النقمةُ حدَّها، وإن كانوا عمّار تلك الدار فيجعل لهم فيها نعيماً به إذا كانوا من جملة الأشياء التي وسعتهم الرحمةُ العامّة، وحاشى الجنابُ الإلٰهي من النقمة وهو القائل بأنّ رحمتَه سبقتْ غضبَه، فلحق الغضبُ بالعدم فإن كان شيئاً فهو تحت إحاطة الرحمة الإلٰهيّة الواسعة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد قال (صلى الله عليه وآله): **" إنّ الأنبياء (عليهم السلام) يوم القيامة إذا سُئلوا في الشفاعة قالوا: إنّ الله قد غضب اليومَ غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله "** ، وهو من أرجى حديث يُعتمد عليه في هذا الباب أيضاً، فإنّ اليومَ المشار اليه - وهو يوم القيامة - هو يوم قيام الناس من قبورهم لربّ العالمين، وفيه يكون الغضبُ من الله على أهل الغضب، وأعطى حكم ذلك الغضب الأمر بدخول النار، وحلول العذاب والانتقام من المشركين وغيرهم من القوم الذين يخرجون بالشفاعة، والذين يُخرجهم الرحمن كما ورد في الصحيح، ويُدخلهم الجنّة إذا لم يكونوا من أهل النار - الذين هم أهلها - ولم يبق في النار إلاّ أهلها الذين هم أهلها، فعمّ الأمر بدخول النار كلّ من دخل فيها من أهلها ومن غير أهلها لذلك الغضب الإلٰهي الذي لن يغضب مثله بعده، فلو سرمدَ عليهم العذابَ لكان ذلك عن غضب أعظم من غضب الأمر بدخول النار. وقد قالت الأنبياء: إن الله لا يغضبُ بعد ذلك مثل ذلك الغضب، ولم يكن حكمُه إلاّ الأمر بدخول النار، فلا بدّ من حكم الرحمة على الجميع، ويكفي من الشارع التعريف بقوله: " وَأما أهل النار الذين هم أهلها " ولم يقل أهل العذاب. ولا يلزم من كان من أهل النار الذين يعمرونها أن يكونوا معذَّبين بها، فإنّ أهلَها وعمّارها مالك وخزنتها، وهم ملائكة، وما فيها من الحشرات والحيّات وغير ذلك من الحيوانات التي تبعث يوم القيامة - ولا واحد منها يكون النار عليه عذاباً - كذلك مَن يبقى فيها، لا يموتون فيها ولا يحيون، وكلّ من ألِف موطنه كان به مسروراً، وأشدّ العذاب مفارقة الوطن، ولو فارقَ النار أهلُها، لتعذّبوا باغترابهم عمّا أُهِّلوا له، وأنّ الله قد خلقَهم عل نشأة تألف ذلك الموطن. فعمّرت الداران، وسبقت الرحمةُ الغضبَ، ووسِعتْ كلَّ شيءٍ - جهنم ومن فيها - والله أرحم الراحمين كما قال في نفسه. وقد وجدنا في نفوسنا ممّن جَبَلهم الله على الرحمة، أنّهم يرحمون جميعَ عباد الله، حتّى لو حكّمهم الله في خلْقه لأزالوا صفة العذاب من العالَم، ممّا تمكّن حكمُ الرحمةِ من قلوبهم، وصاحب هذه الصفةَ أنا وأمثالي - ونحن مخلوقون أصحاب أهواء وأغراض - وقد قال عن نفسه جلّ علاؤه: انَّه ارْحَمُ الرَّاحِمين، فلا يشك أنّه أرحم منّا بخلقه، ونحن عرفنا من نفوسنا هذه المبالغة في الرحمة فكيف يتسرمد العذابُ عليهم وهو بهذه الصفة العامة؟ إنّ الله أكرمُ من ذلك، ولا سيّما وقد قام الدليلُ العقليّ على أنّ الباري لا تنفعه الطاعات ولا تضرّه المخالفات، وأنّ كلّ شيء جارٍ بقضائه وقدَره وحكمِه، وأنّ الخلْقَ مجبورون في اختيارهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد قام الدليل السمعي على أنّ الله يقول في الصحيح: " يا عبادي " فأضافهم الى نفسه، وما أضاف قطُّ العبادَ الى نفسه إلاّ مَن سبقت له الرحمة، وأن لا يؤبد عليهم الشقاء فقال: **" يا عبادي، لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص من ملكي شيئاً ".** فقد أخبرَ بما دلّ عليه العقل، أنّ الطاعات والمعاصي ملكه، وأنّه على ما هو عليه لا يتغيّر ولا يزيد ولا ينقص ملكه مما طرأ عليه وفيه، فإنّ الكلّ مُلكه ومِلكه. ثم قال من تمام هذا الخبر الصحيح: يا عبادي، لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كلّ واحد منكم مسألتَه، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. الحديث. وما نشكّ انّه ما من أحد إلاّ وهو يكره ما يؤِلمه طبعاً، فما من أحدٍ إلاّ وقد سأله أن لا يؤلمه، وأن يعطيه اللذّة في الأشياء، ولا يقدح ما أومأنا اليه في الحديث إذا تعلّق به المنازع في المسألة إدخال " لو " في ذلك، فإنّ السؤال من العالم قد عُلم وقوعه بالضرورة من كلّ مخلوق، فإنّ الطبع يقتضيه، والسؤال قد يكون قولاً، وحالاً، كبكاء الصغير الرضيع وإن لم يعقل عند وجود الألم الحسّي بالوجع أو الألم النفسي لمخالفة الغرَض إذا مُنِع من الثدي، وقد أخذت المسألة حقّها. والأحوال التي ترِدُ على قلوب الرجال لا تحصىٰ كثرته، وقد أعطيناك منها في هذا الباب أنموذجاً على هذا الأسلوب ". انتهى كلامه. وقال العلاّمة القيصري في شرح الفصّ الهودي من الفصوص: اعلم أنّ من اكتحلت عينُه بنور الحقّ، يعلم أنّ العالَم بأسره عباد الله، وليس لهم وجودٌ وصفةٌ وفعْل إلاّ بالله وحولِهِ وقوّته، وكلهم محتاجون الى رحمته، وهو الرحمن الرحيم، ومن شأن من هو موصوفٌ بهذه الصفات، أن لا يعذّب أحداً عذاباً أبديّاً، وليس ذلك المقدار من العذاب أيضاً إلا لأجل ايصالهم الى كمالاتهم المقدَّرة لهم، كما يُذاب الذهبُ والفضّة بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدّره وينقص عياره، وهو متضمّن لعين اللطف والرحمة كما قيل: | **وتعذيبكم عذبٌ وسخطكم رِضىً** | | **وقطْعكم وصلٌ وجوركم عدلُ** | | --- | --- | --- | والشيخ - رضي الله عنه - إنّما يشير في أمثال المواضع، الى ما فيه من الرحمة الحقّانية، وهو من المطّلعات المدرَكة بالكشف، لا انّه ينكر وجودَ العذاب وما جاءَت به الرسلُ من أحوال جهنّم، فإنّ من يبصر بعينه أنواعَ التعذيب في النشأة الدنيوية بسبب الأعمال القبيحة، كيف ينكر في النشأة الأخرويّة، وهو من أكبر ورثة الرسل صلوات الله عليهم، فلا ينبغي أن يسيء أحدٌ ظنّه في حق الأولياء الكاملين الكاشفين لأسرار الحقّ بأمره ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | انتهى. وقال في موضع آخر من شرحه للفصوص: اعلم أنّ المقامات الكليّة الجامعة لجميع العباد في الآخرة ثلاثة، وإن كان كلٌّ منها مشتملاً على مراتب كثيرة لا تُحصى وهي: الجنّة والنار، والأعراف الذي بينهما، على ما نطَق به الكلام الإلٰهي. ولكل منها اسم حاكم عليه يطلب بذاته أهل ذلك المقام لأنهم رعاياه، وعمارة الملك بهم، والوعْد شامل للكلّ، إذ وعده في الحقيقة عبارةٌ عن ايصال كلّ واحد منّا الى كماله المعيَّن له أزلاً، فكما أنّ الجنّة موعود بها، كذلك النار والأعراف موعود بهما. والإيعاد أيضاً شامل للكلّ؛ فإنّ أهل الجنة إنّما يدخلونها بالجاذب والسائق، قال تعالى:**{ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ }** [ق:21]. والجاذب: المناسبة الجامعية بينهما بواسطة الأنبياء والأولياء، والسائق: هو الرحمن بالإيعاد والابتلاء بأنواع المصائب والمحن. كما ان الجاذب الى النار: المناسبة الجامعة بينها وبين أهلها، والسائق: الشيطان، فعين الجحيم موعود لهم لا متوعَّد بها. والوعيد: هو العذاب الذي يتعلّق بالاسم المنتقِم، وتظهر أحكامه في خمس طوائف لا غير. لأن أهل النار إما مشركٌ أو كافرٌ أو منافقٌ أو عاصٍ من المؤمنين، وهو ينقسم بالموحّد العارف الغير العامل والمحجوب. وعند تسلّط سلطان المنتقِم عليهم، يتعذّبون بنيران الجحيم كما قال تعالى:**{ أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا }** [الكهف:29] وَقَالُوا:**{ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ }** [الزخرف:77].**{ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }** [البقرة:86] وقال:**{ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ }** [الزخرف:77].**{ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ }** [المؤمنون:108]. فلما مرّت عليهم السِنون والأحقاب، واعتادوا بالنيران ونسوا نعيم الرضوان، قالوا:**{ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ }** [إبراهيم:21] فعند ذلك تعلّقت الرحمة بهم ورفع عنهم العذاب. مع أن العذاب بالنسبة الى العارف الذي دخل فيها بسبب الأعمال التي تناسبها، عذبٌ من وجه، وإن كان عذاباً من آخر كما قيل: وتعذيبكم عذبٌ - البيت. لأنه يشاهد المعذِّب في تعذيبه، فيصير التعذيب سبباً لشهود الحقّ، وهو أعلى ما يمكن من النعيم حينئذ في حقّه. وبالنسبة الى المحجوبين الغافلين عن اللّذات الحقيقة أيضاً، عذْبٌ من وجهٍ، كما جاء في الحديث: إنّ بعض أهل النار يتلاعبون فيها بالنار. والملاعبة لا تنفكّ عن التلذّذ وإن كان معذّباً، لعدم وجدانه ما آمن به من جنّة الأعمال التي هي الحُور والقصور. وبالنسبة الى قوم يطلب استعدادهم البُعدَ من الحقّ والقربَ من النار - وهو المعنيُّ بجهنم - أيضاً عذبٌ وإن كان في نفس الأمر عذاباً، كما يشاهد ها هنا ممّن تقطع سواعدهم وترمى أنفسهم من القلاع مثل بعض الملاحدة. وقد شاهدتُ رجلاً سُمِّر في أصول أصابع إحدى يديه خمسةُ مسامير، غلظ كلّ مسمارٍ مثل غلظ القلم، واجتهد المسمِّر ليخرجه من يده فما رضِيَ بذلك، وكان يفتخر به وبقيَ على حاله الى أنّ استدركه الأجل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وبالنسبة الى المنافقين الذين لهم استعداد الكمال واستعداد النقص وإن كان أليماً لإدراكهم الكمال وعدم إمكان وصولهم إليه، ولكن لما كان استعداد نقصهم أغلب؛ رضَوا بنقصانهم، وزال عنهم تألّمهم بعد انتقام المنتقِم منهم بتعذيبهم، وانقلب العذاب عذْباً، كما يشاهدَ ممّن لا يرضى بأمر خسيس أولاً، ثم إذا وقع فيه وابتلي به وتكرّر صدورُه منه، تألّف به واعتادَ فصار يفتخرُ به بعد أن كان يستقبحه. وبالنسبة الى المشركين الذين يعبدون غير الله من الموجودات، فينتقم منهم لكونهم حصروا الحقّ في ما عبدوه، وجعلوا الإلٰه المطلق مقيّداً، وأمّا من حيث انّ معبودهم عين الوجود الحقّ الظاهر في تلك الصورة، فما يعبدون إلاّ الله، فرضي الله عنهم من هذا الوجه، فينقلب عذابهم عذباً في حقهم. وبالنسبة الى الكافرين أيضاً، وإن كان العذاب عظيماً، لكنهم لم يتعذّبوا به لرضاهم بما [هم] فيه، فإنّ استعدادهم يطلب ذلك كالأتوني الذي يفتخر بما هو فيه، وعِظَم عذابه بالنسبة الى من يعرف انّ وراء مرتبتهم مرتبة، وانّ ما هم فيه عذابٌ بالنسبة إليها. وأنواع العذاب غير مخلّد على أهله من حيث إنّه عذاب، لانقطاعه بشفاعة الشافعين، وآخر من يشفع هو أرحم الراحمين، كما جاء في الحديث الصحيح، ولذلك ينبت الجرجير في قعر جهنّم لانطفاء النار وانقطاع العذاب، وبمقتضى " سبقتْ رحمتي غضبي " فظاهر الآيات التي جاءت في حقّهم بالتعذيب، كلّها حقٌّ، وكلام الشيخ لا ينافي ذلك، لأنّ كون الشيء من وجه عذاباً لا ينافي كونه من وجه آخر عذْباً. وإنّما بسطتُ الكلام لئلا ينكر على هذا الخاتَم المحمدي فيما أخبر، فإنّ الأولياء - رضوان الله عليهم - ما يخبرون إلاّ ما يشاهدونه يقيناً من أحوال الاستعدادات في الحضرة العلميّة، وعوالم الأرواح والأجساد، لعلْمهم بالحقائق وصوَرها في كل عالَم. والله أعلم " انتهى كلامه بألفاظه. وممّا يدل أيضاً على نفي تسرمد العذاب، حديث: سيأتي على جهنّم زمانٌ ينبت في قعرها الجرجير، وذكر البغوي المشهور بمحيي السُنَّة، في معالم التنزيل، في تفسير قوله تعالى:**{ ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ }** [هود:108] أنه قال ابن مسعود: ليأتينّ على جهنّم زمانٌ ليس فيها أحدٌ، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً. فصل [احتجاجات القائلين بالخلود في النار والنافين له] واعلم أنّ القائلين بنفي تخليد الكفّار في العذاب، زعموا أن لا دليل يفيد القطع واليقين في تخليدهم في العذاب، أما التمسك بالدلائل اللفظيّة، فلا يفيد اليقين، بل يفيد الظنّ. والدلائل العقليّة في مقابلها تفيد اليقين، والمظنون كيف يعارض المقطوع؟ وإنّما قلنا: " إنّ الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين " لأنها مبنيّة على أصول كلّها ظنيّة، والمبنيّ على الظني لا يكون إلا ظنيّاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإنّما قلنا إنّها ظنية، لأنها مبنيّة على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف. ورواةُ هذه الأشياء لا يُعلم بلوغُهم الى حدّ التواتر، فكانت روايتهم مظنونة. وأيضاً، فهي مبنيّة على عدم الاشتراك، وعدم التخصيص، وعدم الاضمار بالزيادة والنقصان، وعدم التقديم والتأخير، وكلّ ذلك أمور ظنيّة، وأيضاً فهي مبنيّةٌ على عدم المعارض العقليِّ، فإنّ بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معاً، ولا يمكن ترجيح النقل على العقل، لأنّ العقل أصل النقل، فالطعن في العقل يوجب الطعنَ في النقل والعقل معاً، لكن عدم المعارض العقليِّ مظنون. هذا إذا لم يوجَد، فكيف [وقد] وجَدنا ها هنا دلائل عقليّة على خلاف هذه الظواهر. فثبت أنّ دلالة هذه الدلائل النقليّة ظنيةٌ، وأما أنّ الظنيَّ لا يعارض فلا شك فيه. الثاني: هو إنّ التجاوز عن الوعيد مستحسنٌ فيما بين كما مرّ في كلام صاحب الفصوص، قال الشاعر: | **فإنّي إذا أوعدتُه أو وعدتُه** | | **لمُخِلفُ معيادي ومُنجزُ موعدي** | | --- | --- | --- | بل الإصرار على تحقيق الوعيد كأنه يُعدّ لؤماً. وإذا كان كذلك وجب أن لا يقبح من الله تعالى وهذا بناءً على حرفٍ، وهو أنّ كثيراً من أهل الإسلام جوّزوا نسخ الفعل قبل مضيّ مدّة الامتثال، وحاصل حرفهم فيه، أنّ الأمر يحسن تارةً لحِكمة تنشأ من نفس المأمور به، وتارةً لحكمة تنشأ من نفس الأمر، فإنّ السيد قد يقول لعبده: إفعل الفعلَ الفلاني غداً وإن كان يعلمُ في الحال انّه سينهاه غداً، ويكون مقصوده من ذلك الأمر أن يُظهر العبدُ الانقياد لسيّده، ويوطّن نفسه على طاعته، وكذلك إذا علم الله من العبد أنّه سيموت غداً، فإنّه يحسن عند هؤلاء القوم أن يقول: صلّ غداً إن عشتَ. ولا يكون المقصود من هذا الأمر تحصيل الأمور به لأنه ها هنا محالٌ، بل المقصود حكمةٌ تنشأ من نفس الأمر فقط. وهو حصول الانقياد والطاعة وترك التمرّد. وإذا ثبت هذا فنقول: لِمَ لا يجوز أن يقال: الخبر أيضاً كذلك، فتارةً يكون منشأ الحكمة من الإخبار هو الشيء المخبَر، وذلك في الوعد، وتارة يكون منشأ الحكمة هو نفس الخبر، لا المخبَر عنه؛ كما في الوعيد، فإن الإخبار على سبيل الوعيد، مما يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات، فإذا حسن هذا المقصود، جاز أن لا يوجد المخبَر وعند هذا قالوا: إن وعد الله الثواب حقّ لازمٌ، أما توعيده بالعقاب فغير لازمٍ، وإنما قصد به صلاح المكلّفين، مع رحمته الشاملة لهم كوالد يهدّد ولده بالقتل والسَّلِّ والقطع والضرب، فإن قَبل الولدُ أمره فقد انتفع، وإن لم يقبل؛ فما في قلب الوالد من الشفقة يرده عن قتله وعقوبته. فإن قيل: فعلى جميع التقادير ذلك كِذباً، والكذب قبيحٌ. قلنا: لا نسلّم أنّ كلّ كذْبٍ قبيحٌ، بل القبيح هو الكذب الضارّ، أما الكذْب النافع فلا، ثمّ - إن سلّمنا - لكن لا نسلم انّه كذبٌ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أليس أن جميع عمومات القرآن مخصوصة ولا نسمّي ذلك كذْباً؟ أليس أنّ كل المتشابهات مصروفة عن ظواهرها وعند الأكثر لا يسمّى ذلك كذباً؟ فكذا ها هنا. الثالث: أليس أن آيات الوعيد في حقّ الكفار مشروطة بعدم التوبة، وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً في صريح النصّ، فهي أيضاً عندنا مشروطة بعدم العفو، وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً صريحاً. أو نقول: معناها: أن العاصي يستحق هذه الأنواع من العقاب، فيحمل الإخبار عن الوقوع الى الإخبار عن استحقاق الوقوع، فهذا جملة ما يقال في تقرير هذا المذهب. وأما الذين أثبتوا وقوعَ العذاب، فقالوا: إنّه نقل إلينا على سبيل التواتر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقوع العقاب، فإنكارُه يكون تكذيباً للرسول صلوات الله عليه وآله، وتفتيحاً لأبواب القدح في نصوصيّة القرآن، فغير مسموع، والله الهادي الى سبيل الصواب وبيده مفاتيح الأبواب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ)
{ خَتَمَ ٱللَّهُ } خبر بعد خبر او حال او استئناف فى مقام التعليل او فى مقام الدّعاء والختم الطّبع ختم الكتاب والاناء وختم على الكتاب طبع عليه بخاتمه او بشيئ مثل الخاتم بحيث اذا فتح لا يمكن ختمه الاّ بمثل ذلك وختم الكتاب بلغ آخره فى قراءته. تحقيق مراتب القلب واطلاقاته وتحقيق ختم القلب والبصر { عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } جمع القلب والقلب يطلق على القلب الصّنوبرىّ اللحمىّ وعلى النّفس الانسانيّة الّتى هى برزخ بين عالم الجنّة والشّياطين وبين عالم الملائكة وهى الّتى يعبّر عنها بالصّدر منشرحاً بالكفر او الاسلام او غير منشرح بشيئ منهما ويعبّر عنها بالاعتبارات بالنّفس الامّارة واللّوامة والمطمئنّة ويطلق على المرتبة الّتى بين هذه النّفس والعقل ويدرك الانسان فى تلك المرتبة شيئاً من حقائق علومه وثمرات اعماله ويتشأنّ بشؤنات علومه وأعماله ولذا قيل انّ القلب معدن المشاهدة اى مشاهدة شيئ جزئىٍّ من حقائق العلوم والاعمال، والى هذا اشار تعالى بقوله:**{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }** [ق:37] فانّ المراد بمن كان له قلب من كان متحقّقاً ومشاهداً لشيء يسير من حقائق علمه وعمله وخارجاً من التّقليد الصّرف داخلاً فى تحقيقٍ ما، ويطلق على اللّطيفة السّيارة الانسانيّة وعلى المرتبة الرّوحانيّة من الانسان من دون اعتبار مرتبة خاصّة، ويسمّى القلب قلباً لتقلّبه بين عالمى الملائكة والشّياطين وتقلّبه فى العلوم والاحوال وفى الشؤن والاطوار، والمراد بالقلوب هاهنا هى النّفوس الانسانيّة، وجمع القلوب امّا باعتبار جمعيّة المضاف اليه او باعتبار كلّ واحد من المضاف اليه اى ختم الله على قلب كلّ منهم او على قلوب كلّ منهم نظير كلّ قلب متكبّر جبّار على قراءة اضافة القلب الى متكبّر جبّار فانّ النّفس الانسانيّة ذات شؤن كثيرة كدارٍ ذات بيوت كثيرة فى طبقة واحدة، وذات مراتب كثيرة بعضها فوق بعضٍ كدارٍ ذات بيوت بعضها فوق بعضٍ وكلّ شأنٍ او مرتبة منها يسمّى قلباً، والقلب لمّا كان واقعاً بين مصرى الاشقياء والسّعداء ومحّلاً للجنود العقليّة والجهليّة، وله بابان الى مصر السّعداء والاشقياء قال تعالى: ختم الله على ابواب قلوبهم الى مصر السّعداء حتّى لا يتمكّن أحدٌ من الدّخول والخروج من تلك الابواب وختم تلك الابواب ملازم لفتح ابواب العالم السّفلىّ، واطلاق الختم للاشارة الى أنّ باب القلب هو الباب الّذى الى العالم العلوىّ وأمّا بابه الى العالم السّفلىّ فليس باباً للقلب حقيقةً، ونسبة الختم اليه تعالى كنسبة الاضلال لا يستلزم جبراً لانّ الختم من شعب الرّحمة الرّحمانيّة الّتى تختلف باعتبار القابل فانّ الرّحمة الرّحمانيّة كشعاع الشّمس الّذى يبيّض ثوب القصّار ويسوّد وجهه ويطيّب ريح الورد وينتن ريح الغايط حسب استعداد القابل واقتضائه وسيأتى تمام الكلام فيه ان شاء الله فى موضعٍ آخر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } السّمع مصدر سمع الكلام كالسّماع ويطلق على العضو الّذى قوّة السّماع موضوعة فيه، ويطلق على القوّة المودعة فى الرّوح المصبوبة فى العصبة المفروشة فى الصّماخ الّتى بها يحصل السّماع، والمدرك بالسّمع هو الصّوت الحاصل من تموّج الهواء والحاصل من امساسٍ عنيفٍ سواء كان بالقرع او الامرار؛ او تفريقٍ عنيفٍ كقلع الشّجرة وخرق الثّوب، والقوّة الّتى بها يدرك النّفس المسموعات شأن من شؤن النّفس ولها كالقلب سوى قوتها الى الخارج قوتان؛ قوة الى العالم العلوىّ والى الارواح الطّيّبة بها تسمع من الملائكة، وما تسمع من الخارج بها تؤدّى جهته الحقّة الى مرتبتها الحقّة العقلانيّة، وقوة الى العالم السّفلىّ والى الارواح الخبيثة بها تسمع من الشّيطان وتصغى اليه، وما تسمع من خارج بها تؤدّى الى جهته الباطلة الى مرتبتها الباطلة السّفليّة، ولمّا كان قوتها الى الارواح الطّيّبة ذاتيّةً لها وقوتها الى الارواح الخبيثة غير ذاتيّةٍ فختمها على الاطلاق منصرف الى ختم قوتها العلويّة فلا ينفث فيها الملك ويوسوس فيها الشّيطان وما تسمع من خارج يصرفه الشّيطان الى ما يوافقه ويحرّف الكلمة عن معناها ويجعل فيها معنى؛ آخر، وافراد السّمع مع كون القلوب والابصار جمعين لملاحظة كونه مصدراً فى الاصل واستواء التّأنيث والتّذكير والافراد والتثنية والجمع فيه بخلاف الاذن ولذا اتى بالجمع فى قوله تعالى**{ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً }** [الأنعام: 25]**{ فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ }** [الكهف: 11]؛ وتقديمه على الابصار لانّه أعلى تجرّداً من البصر كما حقّق فى موضعه ولذا لا يغلبه النّوم فى بعض ما يغلب البصر { وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ } عطف على: { على قلوبهم }؛ او متعلّق بمحذوف اى جعل على أبصارهم على قراءة نصب ما بعده وخبر مقدّم على قراءة رفعه او مبتدأ مكتفٍ بمرفوعه عن الخبر، والابصار جمع البصر وهو ادراك العين او العضو المخصوص او القوّة المودعة فى الرّوح المصبوبة فى العصبتين المجوّفتين الممتدّتين الى العينين وهذه ايضاً كقوّة السّماع شأن من شؤن النّفس ولها سوى قوتها الى الخارج قوتان، وختمها على الاطلاق ختم قوتها العلويّة وكذا حجابها { غِشَاوَةٌ } قرء بالنّصب وبالرّفع وبتثليث الفاء وتنكير الغشاوة للتّفخيم. { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } عطف على قوله تعالى " على أبصارهم " غشاوة او على قوله " ختم الله " | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ)
{ خَتَمَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } هذه الجملة الفعلية ومتعلقاها اللذان هما على قلوبهم وعلى سمعهم، والجملة الاسمية بعد ذلك تعليل لاستواء الإنذار وعدمه عندهم ولعدم إيمانهم، فذلك من التعليل الجملى المستأنف كقولك لجائع كل إنك جائع، ويجوز كون ذلك مستأنفاً لبيان ما يتولد عى استواء الإنذار وعدمه، وعلى عدم الإيمان من ختم الله عز وجل على قلوبهم وسمعهم. والختم على الشىء الإغلاق عليه وكتمه ويسمى الاستيثاق إذا كان بضرب الخاتم على الشىء ختما، لأنه كتم له. ويسمى أيضاً بلوغ آخر الشىء ختما لأنه آخر ما يفعل فى إحراز ذلك الشىء وإن قلت إذا كان الله هو الذى ختم على قلوبهم، فكيف يعذبهم على كفرهم؟. قلت التحقيق أنه ليس ذلك الختم على طريق الجبر على الكفر بل أتوا الكفر باختيارهم، فعذبهم على كفرهم باختيارهم وإعراضهم عن الآيات، ولكن لما كان كفرهم مخلوقاً لله - جل وعلا - سما ما يتولد منه من زيادة كفر ختما منه تعالى، وإن شئت فقل لما كان ما يتولد على غيهم وتقليدهم وإعراضهم عن الآيات من زيادة كفر واستحبابه، واستقباح الإيمان ومتعلقاته، ومن ملازمة ذلك والجرأة عليه مخلوقاً لله تعالى، سماه ختما من الله - عز وجل - وإن شئت فقل لما كان حدوث ذلك خلقاً من الله سماه ختما منه تعالى وفى التعبير بختم استعارة تصريحية تحقيقية تبيعة شبه خلق عدم نفود الحق فى القلوب وتحقق كلال الأسماع وامتناعها عن سماعه سماعا موصلا إلى القلوب، بالإغلاق على الشىء، والمنع من الوصول إليه، بجامع انتفاء التوصل من خارج إلى داخل، وعدم الانتفاع بداخل. فكما لا ينتفع بسمن مختوم عليه فى خابية ما دام مختوماً عليه، كذلك لا ينتفع بقلب فى داخل الجسد فاسد، ولا يسمع داخل الأذن لا يوصل مسموعه إلى القلب أيضاً لا نافعاً، فكان خلق عدم النفوذ وتحقق الكلال من جنس الإغلاق على شىء، فسمى باسم الإغلاق على شىء واسمه الختم، فاشتق من الختم بمعنى الخلق لعدم النفوذ وتحقق الكلال ختم بمعنى خلق عدم النفوذ وتحقق الكلال. فاستعاره فى ختم تابعة لها فى الختم وليس المشبه مخيلاً فكانت تحقيقية، وقد صرح بلفظ المشبه وهو ختم فكانت تصريحية، وإن شئت فقل فى قوله { خَتَمَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } استعارة تمثيلية، بأن تقول شبه القلوب وعدم نفوذ الحق فيها وخلق ذلك العدم والإسماع وكلالهما، وخلق ذلك الكلال بإناء وشىء فيه والإغلاق على ذلك الشىء بجامع مطلق وجود وعاء وشىء فيه، وعدم الوصول للشىء الذى فيه. بل حفظت عن بعض كتب عصام الدين فى الاستعارات وغيره أنه لا يعدل عن الاستعارة التمثيلية إلى المفردة ما وجدت التمثيلية، وهى المركبة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومثل الختم الطبع والأغفال والأقسار حيث ذكرنا ولا جبر فى شىء من ذلك بيل أسند إلى الله - جل وعلا - من حيث إنه خلقهن ووقعن بقدرته وأسنده إليهم لأنهم اكتسبوها باختيارهم، ووصفت بالقبح وذموا عليها لاختيارهم، فلا قبح فيها من حيث إنه تعالى خلقها، بل من حيث إنهم اكتسبوها، فلا إشكال فى إسنادها إلى الله - جل وعلا - من حيث خلقها. والمعتزلة لما منعوا إسناد القبيح إلى الله تعالى من أى وجه، أجابوا عن ذلك بأوجه ذكرها القاضى الأول أنه لما أعرض الكفار عن الحق وتمكن ذلك فى قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقى المجبول عليه. الثانى أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التى خلقها الله تعالى خالية من الفطن. وقد مر فى كلامى تخريج ذلك على الاستعارة المفردة والمركبة. الثالث أن ذلك فى الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر، ولكن لما كان صدوره عنه بإقدار الله تعالى إياه، أسند إليه إسناد الفعل إلى المسبب. الرابع أن أعراقهم لما رسخت فى الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى القهر والجبر، ثم لم يقرهم ولم يجبرهم إبقاء على عرض التكليف، عبر عن ترك التحصيل بالختم فإنه سد لإيمانهم وفيه إشعار عن وقع أمرهم بالكلية فى الغى. ووصول انهماكهم غاية الضلال والبغى. الخامس أن يكون حكاية لما كانوا يقولونه مثل**{ قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب }** تهكماً واستهزاء بهم، كما تهكم بهم إذ قال**{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين }** الآية كانوا يقولون لا ننفك عن ديننا حتى يأتى الرسول الموعود به فى التوراة والإنجيل، فتهكم بذكر ما قالوا، لأنهم لما جاء كفروا به، ولو كان غير تهكم لتحقق الانفكاك عند مجيئه لاستحالة تخلف أخباره. السادس أن ذلك فى الآخرة وإنما أخبر عنهم بالماضى لتحققه وتيقن وقوعه، ويشهد له قوله جل وعلا**{ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما }** والسابع أن المراد بالختم وسم قلوبهم بسيما تعرفهم بها الملائكة فيبغضونهم وينفرون عنهم. والكلام على التعبير بحصول الغشاوة على أبصارهم، كالكلام على ما قبله فى المجاز والاستعارة، وفى نفى الجبر على ذلك، وكيفية التوصل إليه بالأوجه المذكورة وكرر على مع سمعهم ليكون أدل على شدة الختم فى القلب والسمع، وعلى استقلال كل منهما بالختم. وعطف قوله على سمعهم على قوله على قلوبهم، لأن القلب والبصر لما اشتركا بالإدراك من جميع الجوانب الست، جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما، الختم الذى يمنع من جميع الجهات، فإن الأذن تسمع الصوت من أى جهة كان من الجهات كما يدرك القلب الشىء فى أى جهة كان، ولذلك قلنا إنه معطوف على قلوب، ولم نقل إنه خبر لغشاوة، فتعطف عليه على أبصارهم، وأيضاً يدل على أنه معطوف على قولهعلى قلوبهم لا خبر لغشاوة قوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ }** فجمع القلب والسمع فى الختم ويدل على ذلك أيضاً الوفاق على الوقف عليه، والإضافة فى سمعهم للحقيقة أو للاستغراق فكأنه جمع كما جمع القلب ولو أفرد القلب على نية تلك الإضافة لجاز، ولكن خص السمع بالإفراد لأنه فى الأصل مصدر يستعمل فى مقام الأذن، والكلام فيها والمصدر يكفى بلفظ المفرد مع أنه لا يتوهم الإفراد فيه. والقلب ولو كان إفراده لا لبس فيه لكنه مصدراً مستعملا، فى مقام القلب الذى به يعقل، بخلاف السمع فإنه يقال سمع بأذنه سمعاً، ولا يقال قلب بقلبه قلبا، ولو كان أيضاً فى الأًول مصدرا. والسمع بمعنى الأذن ويجوز إبقاؤه على المعنى المصدرى، فبقدر مضاف أى على حواس شمعهم أو آلات سمعهم أو نحو ذلك مثل أن تقول وعلى مواضع سمعهم وهى داخل الأذن الذى خلق الله سبحانه فيه إدراك الأصوات. ولفظ السمع يطلق على إدراك الصوت، وقد يطلق مجازا على القوة السامعة الموضوعة داخل الأذن، وعلى الأذن. ولعله المراد فى الآية، لأنه أشد مناسبة للختم فإن الذات مثل الإناء أشد مناسبة له من المعانى ولهذه العلة يختار تفسير القلب بالعضو المخصوص، وهو محل العلم. وقد يطلق علىالمعرفة كما قال بعض فى قوله عز وجل**{ إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب }** وعنه - صلى الله عليه وسلم - **" إن العبد إذا أذنب نكتت نكتة سوداء فى قلبه. فإن تاب وفزع واستغفر صقل قلبه، وإن زايد زادت حتى تعلق قلبه "** لذلك الرين الذى قال الله تعالى**{ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }** رواه الطبرى وقال مختصر هذا الحديث يدل على أن الختم على الحقيقة. { وَعَلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } على أبصارهم خبر، وغشاوة مبتدأ، أى على أبصارهم تغطية مشتملة عليها، حدثت بانهماكهم فى التقليد وإعراضهم عن النظر الصحيح فلا يبصرون إبصارا نافعاً مؤثرا في القلب كأنه غطى على عيونهم، فكانت لا تبصر أصلا، كما كانت أسماعهم. كأنه غطى عليها، فكانت لا تسمع إذ كانوا لا يستمعون الآيات وينفرون عنها، وإذا سمعوا لم يؤثر فيهم كأنهم لم يسمعوا. ولما كان البصر يختص إدراكه بما قابله فقط ولو من جنب، ولا يدرك ما لم يقابله، جعل المانع للأبصار عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة. والأبصار جمع بصر، وهو إدراك العين، وقد يطلق مجازاً على القوة الباصرة الموضوعة فى العين، وعلى العين. ولعل المراد فى الآية العين لأنها من حيث إنها ذات كوعاء أنسب فى الختم وإنما أميلت ألف أبصارهم والفتح المتولدة هى منها مع أن الصاد قبلها، والمفتوح هو الصاد لأن الراء المكسورة تغلب حرف الاستقلاء لما فيها من التكرير، كأنها حرفان مكسوران، وجملة على أبصارهم غشاوة من المبتدأ والخبر مستأنفة أو حال، أو معطوفة على الجملة الفعلية عطف اسمية على فعليه، ويجوز على مذهب الأخفش المجيز أن يرفع الظاهر فاعلا ولو لم نعتمد أن يكون غشاوة فالعلا لقوله على أبصارهم، لنيابة الظرف على قوله عن، ثبتت فيكون عطف فعلية على فعلية، وقرىء بنصب غشاوة بمحذوف، أى وأثبت على أبصارهم غشاوة، أو واجعل على أبصارهم غشاوة، فيتعلق على بذلك المحذوف، أو النصب بختم على نزع الخافض، وعلى متعلق بختم المذكور بواسطة العطف، أو بختم محذوفاً أى ختم بغشاوة، قرىء غشاوة بكسر الغين وفتح التاء وبفتحهما وبضمهما، وغشاوة بكسر الغين وإسكان الشين وضم التاء، وغشاوة بفتح الغين وإسكان الشين مع ضم التاء، ومع فتحها، وعشاوة بالعين المهملة مكسورة، وضم التاء من عشى يعشى كعلم يعلم إذا صار يعشى لا يبصر ليلا، أو من عشاء يعشو كدعا يدعو إذا جعل نفسه كأنه أعشى، قال جل وعلا | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً }** { ولهم عذاب عظيم } اللام للاستحقاق أى أعد الله لهم عذابا عظيما استوجبوه بكفرهم، والعذاب الإيلام الفادح، ويطلق أيضاً على الألم الفادح، وهما جائزان فى الآية وغيرها، والعذاب والتعذيب مستعملان بالوجهين، وسواء كان ذلك الإيلام أو الألم عقابا كما فى الآية عما يردع الجانى من المعاودة أو لم يكن عقاباً كذلك، وأصلهما أن يستعملا عقاباً، وأصل هذا الأصل أن يستعملا بمعنى الإمساك عن الشىء، ويقال ماء عذب أى مبعد عن العطش ممسك عنه، ولذا يقال نقاح أى يكسر العطش، وفراث أى يسكن العطش، والعذاب أعم من العقاب والنكال، أما العقاب فواضح، وأما النكال فلأنه إما بمعنى العقاب، وإما بمعنى الإمساك عن الشىء وقيل العذاب مأخوذ من التعذيب الذى هو إزالة العذاب، كما يقال قذيت العين بالتشديد، بمعنى أزلت قذاها وأخرجته، فإن التفعيل والإفعال يكونان للسلب، يقال أقردت البعير أزلت قراده، وأعذرن خالداً أزلت عذره، والعظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فالعظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير، فالحقير إذا كان مقابلا للعظيم، والصغير مقابلا للكبير، كان العظيم فوق الكبير لأن العظيم لا يكون حقيراً، والكبير قد يكون حقيراً، كما أن الصغير قد يكون عظيما، والمراد أن لهم على كفرهم عذاباً يقصر عنه ما عداه من العذاب، ويحتقر بالنسبة إليه. وتنكير عذاب عظيم، وغشاوة للتعظيم كأنه قيل إن على أبصارهم نوع غشاوة، وليس مما يتعارفه الناس، وهو التعامى عن الآيات التى تظهر لمن دونهم فى الفهم والفصاحة، ولهم من العذاب نوع لا يعلم غايته إلا الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
{ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } لم يوفقهم، سمى القلب قلباً لتقلبه، روى البيهقى عن أبى عبيدة بن الجراح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" قلب ابن آدم مثل العصفور، يتقلب في اليوم سبع مرات "** ، وليس المعنى فى الآية الإجبار، جل الله شبه الخذلان بالربط أو الإعلاق على شىء حتى لا يدخله غيره، فقلوبهم من حيث عدم نفوذ الحق إليها واستقراره فيها كالخابية والخريطة المختوم عليهما، وهذا تصوير للمعقول بصورة المحسوس للإيضاح، وكذا الختم فى قوله { وَعَلَى سَمْعِهِمْ } أي آلات سمعهم، فلذلك لا ينتفعون بما سمعوا من الحق، قال صلى الله عليه وسلم: **" إذا أذنب العبد ضم من قلبه هكذا، فضم خنصره، وإذا أذنب ضم من قلبه هكذا، وضم التى تليها، وهكذا إلى الإبهام "** والمراد بالقلوب هنا الجسم اللطيف القائم بالقلب، الكثيف الصنوبرى الشكل قيام العرض بالجسم، وقيام الحرارة فى الوقود، والبرودة بالماء، وبهذا اللطيف يحصل الإدراك وترتسم المعرفة، وكذا الأسماع يقوم بصماخها جسم لطيف يدرك الأصوات، { وَعَلَى أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ } غطاء عظيم، كأنه لا يرون بها، فيستدلون بما يرون على قدرة الله، لما لم ينتفعوا فى الدين بالنظر بها كانوا كمن جعل على بصره غشاوة، وفى ختم استعارة تصريحية تبعية. وفى غشاوة تصريحية أصلية، أو الاستعارة تمثيلية، شبه قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأحوالهم المانعة من الانتفاع بأشياء معدة للانتفاع، منع مانع من الانتفاع بها { وَلَهُمْ } على كفرهم { عَذَابٌ عَظِيمٌ } عظم شدة وأنواع ودوام، ولم يعطف إن الذين كفروا لأن المراد، والله أعلم، استئناف بيان أن عدم اهتداء الأشقياء لسبق شقوتهم وبيان مقابلتهم بإصرارهم لمن اتصف بالكمال ومضاتدتهم، لا لقصور فى القرآن عن البيان، فإنه غاية فى البيان، وإنما ضلوا باختيارهم للسوء، كما قال قائل: | **وَالنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الأَبْصَارُ رَؤْيَتَهُ** | | **وَالذَّنْبُ لِلطَّرْفِ لاَ لِلنَّجْمِ فِي الصِّغَرِ** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- )
تمكن الضلال من نفوس الكافرين: حال هؤلاء الذين كفروا تدعو إلى الاستغراب وتبعث الحيرة في نفوس السامعين، ما بالهم لا يؤمنون، وقد توفرت دواعي الايمان، فهو سبب سلامة الدنيا وسعادة العقبى، وقد برزت معالمه ووضحت مسالكه، وتبرأ من كل أسباب الشك ودواعي اللبس، ليس فيه ما لا تستسيغه العقول المبصرة وتميل إليه الطبائع السليمة، فإذا طرق مسامع الناس ما تقدم في الآية السابقة من استواء الانذار وعدمه عليهم، حاروا من ذلك ولم يدركوا السبب الذي أدى بهم إلى هذه الحالة، حيث استولى الضلال على عقولهم وهيمن العناد على نفوسهم، فلذلك عقبت تلك الآية بهذه ليكون ما فيها كالتعليل لما تقدم، فهي مع تقريرها لسابقتها كاشفة عن علة ما فيها، ولا ينافي ذلك ما قيل إن جملة ختم الله على قلوبهم استئناف بياني يفيد جواب سائل يسأل عن سبب كونهم لا يؤمنون. ومن ناحية أخرى هي مقابلة لجملة { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } ، فتلك مشعرة بتمكن المؤمنين من الهدى والثناء عليهم بارتقائهم في درجاته، وهذه مشعرة بتمكن الضلال من نفوس الكافرين وإحاطته بها حتى لم يعد للحق سبيل إليها، كما أنها مشعرة بذمهم على انحطاطهم في دركات الضلال. والختم والكتم أخوان، كما قال الزمخشري، لأن تقاربهما اللفظي يشعر بالتقائهما في المعنى، وحقيقته في المحسوسات كالختم على الاناء بمعنى سده، والختم على الكتاب بوضع علامة - مرسومة في خاتم - عليه ليمنع ذلك من فتحه. واختُلِف في المراد بالختم هنا: فذهبت طائفة من مفسري السلف إلى أن الخَتم واقع حقيقة على القلوب، ومن ذلك ما رواه ابن جرير عن الأعمش، قال: أرانا مجاهد بيده فقال كانوا يرون أن القلب في مثل هذا - يعني الكف - فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه - وقال بإصبعه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى، فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى - هكذا حتى ضَمَّ أصابعه كلها، قال: ثم يطبع عليه بطابع. قال مجاهد: وكانوا يرون أن ذلك الرَّيْن. واختار هذا القول ابن جرير والقرطبي، وعضداه بما رواه الترمذي - وصححه - والنسائي وابن ماجة وابن جرير نفسه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إن المذنب إذا أذنب ذنبا كان نَكتَة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يُغلف قلبه وذلك الران الذي قال الله جل ثناؤه: { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين: 14] ".** ووجه الاستدلال بالحديث أنه يفيد أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلفتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع، فلا يكون للايمان إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وعضده القرطبي أيضا بما رواه مسلم عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا **" أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة "** ، ثم حدثنا عن رفع الأمانة، قال: **" ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوَكْتِ، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المَجْلِ كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه مُنْتَبِرا وليس فيه شيء - ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله - فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله، وما في قلبه مثال حبة من خردل من إيمان، ولقد أتى عليّ زمان وما أبالي أيَّكُم بايعت لئن كان مسلما ليردنه علي دينه، ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه، وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا ".** وعضده كذلك بحديث حذيفة عند البخاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أُشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبادِّ كالكوز مُجَخِّيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه.. "** " الحديث ". وذهب أكثر مفسري الخلف إلى أن ذلك من باب المجاز، فإن عدم وعي القلوب للحق ونبوَّها عن قبوله جعلها كأنها مختوم عليها بسداد يحول بينها وبين وصول الحق إليها، ويقال مثال ذلك في ختم الأسماع، ومثله في تغشية الأبصار، وإيضاح ذلك، أن يصور رفض عقولهم لما أنزل الله من هدى - بسبب كفرهم بالله الذي ملأ تفكيرهم وسيطر على نفوسهم ومج أسماعهم لأصوات الحق - في صورة الاستيثاق بالختم، ويصور إعراضهم عن النظر في آيات الله الدالة على وحدانيته، في صورة تغشية الأبصار بغشاوة حائلة بينها وبين الإِبصار، فيكون المجاز استعاريا ويصح أن يكون من باب المجاز التمثيلي، بأن تشبه هيئة منتزعة من تصميمهم على الكفر، وإعراضهم عن داعي الحق الصادع بقواطع البراهين، بهيئة الختم المنتزعة من فعله وفاعله، وهو الخاتم، والواقع عليه الفعل، وهو المختوم عليه، وتشبه حالة أبصارهم في عدم تأمل دلائل وحدانية الله وصدق رسوله بهيئة الغشاوة، ويجوز أيضا أن يكون من باب المجاز الارسالي، فإن لازم الختم والغشاوة عدم العقل والحس، فيراد هذا اللازم بذكر ملزومه وأنكر أصحاب هذا القول على أصحاب القول الأول ووصفوهم بالظاهرية، وقد ظهر لي بعد إمعان النظر في القولين أن الثاني هو الراجح، فإن اقتران القلوب بالأسماع، واشتراكهما في الختم، وذكر غشاوة الأبصار من بعد، قرائن كافية لصرف لفظ الختم عن حقيقته إلى مجازه، فإن الأسماع يتعذر أن يكون ختمها حقيقيا، فإذا حمل ختم القلوب على الحقيقة، كان ذلك من باب حمل اللفظ على حقيقته ومجازه في إطلاق واحد، وذلك ما لا يصح، على أن ختم الأسماع لو كان حقيقيا ما وصل إلى مسامعهم صوت، وكذلك يتعذر حمل الغشاوة التي في الإبصار على معناها الحقيقي، إذ لا غشاوة حسية تشاهد، ولو أن عليها غشاوة حسية لامتنع عليها الابصار رأسا، وذلك لا ينافي أن تتأثر القلوب تأثرا محسوسا بمعصية الله، كما يقيده ظاهر حديث أبي هريرة، وحديثي حذيفة - رضي الله عنهما - على انني أميل إلى أن المراد من هذه الأحاديث تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم، ما يعرو القلوب بسبب المعصية من الانقباض عن الحق، واستثقاله والانبساط للباطل، والارتياح له، في صورة الأمر المحسوس تيسيرا للأفهام، وتقريبا للأذهان، كما هو شأنه صلى الله عليه وسلم في غالب كلامه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والغشاوة ما يغشى العين من موانع الابصار، كما قال الشاعر: | **صحبتك إذ عيني عليها غشاوة** | | **فلما انجلت قطعت نفسي ألومها** | | --- | --- | --- | وأصلها بمعنى الغطاء، وإنما قصرت الغشاوة على الأبصار، وألحقت الأسماع بالقلوب في الختم ليتفق ما في هذه الآية مع ما في قوله تعالى:**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً }** [الجاثية: 23]، ولأن الغشاوة أنسب بالأبصار، والختم بالقلوب والأسماع، لأن الختم من شأنه أن يكون على المستور المكنون، وهكذا موضع حس السمع، وموضع إدراك العقل، أما حاسة البصر فهي منكشفة ظاهرة، فلذلك كانت الغشاوة هي المناسبة لها. هذا، وما أصاب هؤلاء من الختم على قلوبهم، وعلى أسماعهم، وغشاوة أبصارهم، ليس إلا نتيجة إصرارهم على الكفر، وإخلادهم إلى الضلال، كما يدل عليه قوله سبحانه:**{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }** [النساء: 155]، وقوله:**{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ }** [المنافقون: 3]. وهذا لأن الاسترسال في العصيان، والاستسلام لمطالب الشيطان، يؤديان إلى الهبوط في دركات المعاصي، وحضيض الضلال، حتى يحرم صاحب ذلك من عناية الله التي تفك عنه أغلال الغواية، وتخلصه من حبائل الهوى. ومهما يكن المراد بالختم في الآية، فإن إسناده إلى الله حقيقي، لأن القلوب كسائر مخلوقاته واقعة في قبضته، يصرفها كما يشاء، وما الهداية إلا محض فضل منه، كما أن الخذلان ليس هو إلا عدلا منه سبحانه | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }** [الأنبياء: 23]. الافراط والتفريط في نسبة الأفعال: وبهذا تعلم أن معصية العبد لربه لها صلة بقدرة الله وإرادته، فهو سبحانه الخالق لها عندما تتجه إرادة العبد إلى اكتسابها، ومثل ذلك يقال في طاعته، وهذه مسألة اضطربت فيها الأفهام، وكثر فيها الجدل منذ القرن الأول الهجري، وقد ضلت فيها طائفتان؛ طائفة تطاولت على الله عز وجل، فادعت اشتراكها معه في الايجاد، ويُمثّل هذه الطائفة المعتزلة، أصحاب واصل بن عطاء، الذين نفوا تعلق قدرة الله وإرادته بأفعال العبد، وزعموا أن العبد يستقل استقلالا تاما بخلق أفعاله. وطائفة ما قدرت الله حق قدره، إذ نسبت إليه معاصي العباد، وزعمت أن العبد ليست له إرادة فيما يفعل، وإنما هو مصرف في ذلك تصريفا إجباريا كالخيط في الهواء الذي تحركه الرياح، ويمثل هذه الطائفة الجبرية، أصحاب جهم ابن صفوان، وإذا كانت الطائفة الأولى فرّطت في نسبة القدر والمقدور إلى الله حتى سلبته تعالى الارادة والقدرة في أفعال العباد، فإن هذه الطائفة أفرطت في نسبة ما يصدر من العبد إليه عز وجل، حتى زعمت أنه يجبر العباد على المعاصي التي يرتكبونها ثم يعاقبهم عليها، وليس قولهم هذا إلا صريحا في نسبة الظلم إليه تعالى، والقضية مزلة للأقدام، ومزلقة للأفهام، فيجب على من رام الهدى والسلامة أن يتبصر فيها، ولا ينسب إلى الله ما هو برريء منه، ولا يسلبه ما هو حقيق به، والقول الفصل الذي هدى الله إليه أهل البصائر فاعتقدوه دينا، هو أن الفعل تتعلق به قدرتان وإرادتان؛ قدرة العبد وإرادته، وهما متعلقتان بكسبه ولا تستقلان بإيجاده، وقدرة الله وإرادته وهما اللتان تهيئان أسباب الكسب للعبد، وتخلقان له الفعل عندما يريد اكتسابه، سواء كان حقا أو باطلا، من غير إكراه للعبد عليه، وبهذا ندرك أن الله لا يعصى مكرها، ولا يؤاخذ العباد بما لم يجعل لهم محيصا عنه، ولا مخلصا منه، وبهذا يجمع بين الآيات التي قد يحسبها الغبي متناقضة بسبب قلة تدبره وسوء فهمه، فكل ما دل على نسبة أفعال العباد إلى الله، فهو يعني به خلق هذه الأفعال، وكل ما دل على إسناده إلى العباد فيقصد به الكسب دون الخلق، وثواب الله وعقابه متعلقهما كسب العباد، كما قال عز من قائل:**{ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ }** [البقرة: 286]، وقد علم الله تعالى في الأزل ما سيختاره كل أحد من أعمال الخير والشر، فكان قدره تعالى في ذلك بحسب ما سبق من علمه، وقد أمر سبحانه بالخير، ونهى عن الشر، وأثنى على من عمل خيرا، وذم من عمل سوءا، وذلك لأنه سبحانه وهب الجميع القدرة على الأمرين، فكان الثناء والذم على اختيار الناس بأنفسهم، ولا شك أنها مسألة دقيقة، ولذلك كان جل الذين بحثوها لم يرووا ببحثهم غليلا، ولم يشفوا علة، بل كثيرا ما أدت بحوثهم إلى التعقيد، وقد تردد بعض العلماء بين المذهبين، مذهب الجبر ومذهب القدر، ولم يستقر رأيه على أحدهما، ومن هؤلاء الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب، فبعد أن أتى بأدلة الطائفتين صرح أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله، وعلو كبريائه، وإنما وقع نظر فريق منهم على العظمة، ونظر فريق آخر إلى الحكمة، وروي مثل هذا القول عن أبي القاسم الأنصاري، ولم ير الفخر القطع بما تفيده الأدلة السمعية في المسألة بناء على أصله أن الدلالة السمعية لا تتجاوز الظن إلى القطع، ولم ير كذلك القطع بمفاد الأدلة العقلية، نظرا إلى ما توهمه من التعارض بينها، والأدلة إذا تعارضت تساقطت. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وبما أن المعتزلة ومن حذا حذوهم يفرون من نسبة إيجاد أفعال العباد إلى الله، هاموا في مثل هذه الآية وسلكوا طرائق قددا في تأويلها، كما ترى ذلك في الكشاف وغيره مما دبّجته أقلامهم، فقالوا تارة إن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بدلائل الله حتى صارت المعصية مألوفة لهم، كانوا كأنما طبعوا عليها، فأشبهت حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه، فلذلك أضيف إلى الله تعالى ما حلّ بهم، لأن هذه الصفة في تمكنها وقوة ثباتها كالشيء الخلقي، وتارة قالوا إن الشيطان هو الخاتم في الحقيقة، أو الكافر نفسه، وإنما إسناد ذلك إلى الله لأن إقدار الشيطان والكافر منه عز وجل، وقالوا تارة أخرى إنه لما اتفق أن يكون كفرهم عند ورود دلائل الله عليهم، كان ورود هذه الدلائل كالسبب لما حصل منهم من الكفر، فلذلك أسند إليه تعالى الختم المذكور، وذلك على غرار قوله سبحانه:**{ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** [التوبة: 125]، ومرة قالوا إن القوم لما بلغوا من الكفر مبلغا لا يمكن معه إيمانهم إلا بالقسر والالجاء من الله، ولما لم يفعل ذلك بهم ناسب ذلك إسناد الختم إليه عز وجل، إلى غير ذلك من التأويلات المتشابهة في التكلف والهروب من الحقيقة، ولعمري لو أنصفوا لرأوا الحق جليا، ولما أدى بهم اللجاج إلى الهروب من الواضح إلى المشكل، ومن الحقيقة إلى الوهم، ومن الصواب إلى الخطأ، ولسنا نشك في كونهم أرادوا تنزيه الله تعالى من نسبة المعاصي إليه، ولكنهم وقعوا فيما هو أعظم منها، وهو نسبة العجز إليه سبحانه، إذ لو كانت المعصية الصادرة من العبد وقعت على كره منه تعالى، لما كان لذلك تفسير، إلا أنه تعالى يحدث في ملكه ما ليس من مقدوره ضده، وبالجملة فإن علينا أن نتقيد في ذلك بدلائل النص، وأن لا نطلق لأنفسنا عنان الفكر الشارد الذي كثيرا ما يهوي بصاحبه في مهاوي الأوهام، وللعقل البشري حدود مرسومة، لو حاول تجاوزها تردى في المخاطر والعياذ بالله، وهذه المسألة ترتبط بقاعدتين اعتزاليتين؛ أولاهما: تحكيم العقل، فإن المعتزلة يبنون معتقداتهم وسائر آرائهم على العقل، ويرون الشرع لا يكون إلا مؤكدا للعقل أو مبينا له، وإذا تصادما وجب الاستمساك بالعقل لأنه الأصل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثانيتهما: وجوب مراعاة الأصلحية والصلاحية على الله، ومن تأمل هذه الأصول الثلاثة التي هي أمهات الاعتزال، رآها لا ينفك بعضها عن بعض، فالقول بنفي خلق الأفعال عن الله فيه التفات إلى كل واحد من الأصلين الآخرين، فهو من ناحية ناشئ عن كون العقل يستقبح أن يخلق الله للعبد ما يعذبه به، وبما أن ذلك مستقبح عقلا فهو غير سائغ فعلا. ومن ناحية أخرى فإن ذلك يتنافى مع ما يتبادر من مصلحة العباد، ويجب على الله - في زعمهم - أن لا يفعل إلا ما فيه مصلحتهم، وسيأتي إن شاء الله بحث كل واحد من هذه الأصول بما فيه مقنع لمن وفقه الله للهدى. وبالجملة فإن إسناد الختم إلى الله حقيقي ولا داعي إلى تكلف الاجابات المتنوعة التي جاء بها الزمخشري، إذ لا يصار إلى المجاز إلا مع تعذر الحقيقة، والشواهد قائمة - بحمد الله - على أن الحقيقة هنا مقصودة. والمراد بالقلب هنا العقل، فإن العرب تطلق القلب على اللحمة الصنوبرية المعروفة في الجسم بهذا الاسم، وتطلقه على العقل والادراك، ومن هذا الاطلاق قوله عز وجل:**{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }** [ق: 37]. وهذا الاطلاق ناشئ عما بين العقل والقلب من الترابط، فإن العقل وإن كان سلطانه في الدماغ أو هو نفسه في الدماغ، كما يرى المتأخرون، فإن للقلب تأثيرا عليه لأنه مصدر الانفعالات، ومنبع العواطف ومحل الوجدان باتفاق الجميع، ولكل ذلك تأثير على العقل ولا يبعد أن يكون للقلب أثر في تكوين الفكر في الدماغ. وسمي بهذا الاسم لما يطرأ عليه من التقلب، وهو ما يشير إليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: **" قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن "** ، وما هو إلا كناية عن تصريف الله تعالى له بحكمته ولطفه. ومن ثم قال الشاعر: | **ما سمي القلب إلا من تقلبه** | | **فاحذر على القلب من قلب وتحويل** | | --- | --- | --- | والسمع: مصدر سمع، ويطلق على القوة المدركة للأصوات المودعة في الجارحة، ويطلق على نفس الجارحة وهي الأذن. والبصر: هو القوة المدركة للصور، ويطلق على الجارحة التي يحل فيها، كما يطلق على الابصار فيكون اسم مصدر. واختلف في إفراد السمع مع جمع القلوب والأبصار، فقيل: هو لأجل لمح أصله وهو المصدر، فإن من شأن المصادر أن لا تثنى ولا تجمع، ومن ثم جمع عندما أبدل لفظه بالأذن كما في قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم }** [البقرة: 19]، وقوله:**{ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً }** [الأنعام: 25]، أما القلوب فهي متعددة. والأبصار جمع بصر، وهو اسم وليس بمصدر، وقيل هو على تقدير محذوف نحو وعلى حواس سمعهم أو على جوارح سمعهم، وهذا ضعيف، فإن التقدير لا يصار إليه إلا مع الضرورة، والمعنى هنا تام بدون مقدر. وقيل إن في إفراد السمع لطيفة من لطائف التعبير القرآني، وهي جديرة بأن تعد من مزاياه التي لا يرقى إليها سائر الكلام، فإن السمع مصدر من مصادر العلم والناس متساوون فيه، فإن تلقي المعلومات السمعية لا يختلف فيه سامع عن سامع، فهو بمثابة الينبوع الواحد المتدفق بما يعم جميع الواردين. أما القلوب فهي تتفاوت في استقبالها المعلومات بتفاوت استعدادها واشتغالها بما تتلقاه، وبتفاوت ما يلمح لها من الأدلة والبراهين، واختلاف ما يرد عليها من الأفكار، قلة وكثرة، وكذلك الأبصار متفاوتة في مشاهدة المبصرات التي توحي إلى النفس أنواعا من العلوم، فلكل بصر حظه من النظر في آيات الله في الأنفس وفي الآفاق الشاهدة بوحدانيته، واتصافه بكل كمال ذاتي والدالة على صدق رسله فيما يدعون إليه الناس، ولذا كان الأنسب بالقلوب والأبصار الجمع، وبالسمع الإِفراد، وأجيز بأن يكون الإِفراد هنا لأمْنِ اللبس، كما في قول الشاعر: | **كلوا في بعض بطنكم تعفوا** | | **فإن زمانكم زمن خمص** | | --- | --- | --- | وقول الآخر: | **كأنه وجه تركيين قد غضبا** | | **مستهدف لطعان غير تذبيب** | | --- | --- | --- | وهو شائع في الشعر العربي، ولكني لا أرى تخريج ما في القرآن عليه لسمو القرآن عن درجات الشعر. وإذا كان النثر البليغ يستعصي أحيانا تخريجه على ما يباح في الأشعار، فما بالك بكلام الله تعالى الذي لا يعدل فيه عن لفظة إلى أخرى إلا وفي طي هذا العدول معنى بليغ يشار به إليه. وبعد أن بين سبحانه حال هؤلاء، في الدار الدنيا بأنهم لا يهتدون سبيلا ولا يسمعون للحق قيلا، لما على قلوبهم وسمعهم من الختم، وعلى أبصارهم من الغشاوة، أتبعه ببيان مآلهم في الدار الآخرة، بما يوعدهم به من العذاب العظيم، هذا إن قلنا إن العذاب المتوعد به هو عذاب الآخرة، وهو المتبادر، وأجاز بعض المفسرين أن يقصد به إما عذاب النار في الآخرة، وإما عذاب القتل والسغب في الدنيا. والعذاب كالنكال لفظا ومعنى مأخوذ من أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، كما يقال فيه نكل عنه. أو من قولهم عذب الرجل إذا ترك المأكل والنوم، فهو عاذب وعذوب، وبناء على ذلك فالتعذيب أصله حمل الانسان على أن يعذب أي يجوع ويسهر. وقيل: هو مأخوذ من العذب والعذوبة، وعليه فمعنى التعذيب إزالة عذوبة حياة المعذب، كما يقال مَرَّضْته أي أزلت مرضه، وقَذَّيْته أي أزلت قذاه. وقيل: أصل التعذيب إكثار الضرب بعذبة السوط، أي طرفه، وبناء على ما تقدم فالعذاب رديف النكال ويراد بهما العقاب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: إن العذاب أعم منهما، فهو يشمل ما يلم بالنفس أو الجسم من الألم سواء كان رادعا عن العصيان أم غير رادع. أما النكال والعقاب، فلا يكادان يطلقان إلا على ما يردع. والعظيم قيل هو كالكبير، وقيل فوقه لأنه يقابله الحقير، ويقابل الكبير الصغير، والحقير أدنى من الصغير، فيلزم أن يكون العظيم أعلى من الكبير. واستشكل ذلك مع قوله تعالى في الحديث القدسي: **" الكبرياء ردائي والعظمة إزاري "** حيث جعل تعالى الكبرياء في مقام الرداء والعظمة في مقام الازار، مع أن الرداء أرفع من الازار، ويترتب عليه كون الكبرياء أرفع من العظمة، ويندرىء هذا الاشكال باعتبار أن المراد من هذا الحديث القدسي بيان اختصاص الله تعالى بالكبرياء والعظمة، كاختصاص أحدنا بردائه وإزاره، وليس المراد منه بيان التفاضل بين الصفتين، ولو قلنا بالتفاضل لاعتبرنا ما كان في محل الازار أكثر اختصاصا لأن ملابسة الازار لصاحبه أكثر من ملابسة الرداء عادة، ويغنيك هذا الجواب عما ساقه الألوسي من الأجوبة كقوله بأن ما ذكر خاص بما إذا استعمل الكبير والعظيم في غيره تعالى، أو فيما إذا خلا الكلام عن قرينة تقتضي العكس، أو أنه سبحانه جعل العظمة وهي أشرف من الكبرياء إزارا لقلة العارفين به جل شأنه بهذا العنوان إذا ما قيسوا إلى عارفيه بعنوان الكبرياء: فلقلة أولئك كانت إزارا، ولكثرة هؤلاء كانت رداء، ولا يخلو جواب مما ذكره من التكلف والتعسف الظاهرين، ولا يستند شيء منها إلى دليل عقلي أو نقلي. والعظمة تكون حسية، وذلك إذا وصفت بها الأجسام، ومعنوية إذا وصفت بها الأسماء الدالة على المعاني. وتنكير عذاب للدلالة على أنه نوع غريب من أنواع جنسه، وذهب بعضهم إلى أن التنكير للتعظيم، وما وليه من وصفه بأنه عظيم إنما هو لتأكيد هذا التعظيم المستفاد من التنكير، ورده الامام ابن عاشور بأن دلالة التنكير على التعظيم غير وضعية والدلائل غير الوضعية يستغنى عنها مع وجود ما يدل على المراد وضعا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ)
إشارة إلى برهان لميّ للحكم السابق كما أن**{ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ }** [البقرة: 6] الخ على تقدير كونه اعتراضاً برهان إنِّي، فالختم والتغشية مسببان عن نفس الكفر، واقتراف المعاصي سببان للاستمرار على عدم الإيمان أو لاستواء الإنذار وعدمه فالقطع لأنه سؤال عن سبب الحكم، والختم الوسم بطابع ونحوه والأثر الحاصل، ويتجوز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتباراً بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب، وتارة في تحصيل أثر عن أثر اعتباراً بالنقش الحاصل، وتارة يعتبر معه بلوغ الآخر، ومنه ختمت القرآن والغشاوة ـ على ما عليه السبعة ـ بكسر الغين/ المعجمة من غشاه إذا غطاه، قال أبو علي: ولم يسمع منه فعل إلا يائي فالواو مبدلة من الياء عنده أو يقال لعل له مادتين وفعالة عن الزجاج لما اشتمل على شيء كاللفافة ومنه أسماء الصناعات كالخياطة لاشتمالها على ما فيها وكذلك ما استولى على شيء كالخلافة، وعند الراغب: هي لما يفعل به الفعل كاللف في اللفافة فإن استعملت في غيره فعلى التشبيه، وبعضهم فرق بين ما فيه هاء التأنيث وبين ما ليس فيه، فالأول: اسم لما يفعل به الشيء كالآلة نحو حزام وإمام، والثاني: لما يشتمل على الشيء ويحيط به وحمل الظاهريون الختم والتغشية على حقيقتهما وفوضوا الكيفية إلى علم من لا كيفية له سبحانه، وروى عن مجاهد أنه قال: إذا أذنب العبد ضم من القلب هكذا ـ وضم الخنصر ـ ثم إذا أذنب ضم هكذا ـ وضم البنصر ـ وهكذا إلى الإبهام ثم قال: وهذا هو الختم والطبع والرين، وهو عندي غير معقول، والذي ذهب إليه المحققون أن الختم استعير من ضرب الخاتم على نحو الأواني لإحداث هيئة في القلب والسمع مانعة من نفوذ الحق إليهما كما يمنع نقش الخاتم ـ تلك الظروف ـ من نفوذ ما هو بصدد الانصباب فيها فيكون استعارة محسوس لمعقول بجامع عقلي وهو الاشتمال على منع القابل عما من شأنه أن يقبله ثم اشتق من الختم ختم، ففيه استعارة تصريحية تبعية، وأما الغشاوة فقد استعيرت من معناها الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضية لعدم اجتلائها الآيات والجامع ما ذكر؛ فهناك استعارة تصريحية أصلية أو تبعية إذا أولت الغشاوة بمشتق أو جعلت اسم آلة على مقيل، ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن يقال شبهت حال قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم مع الهيئة الحادثة فيها المانعة من الاستنفاع بها بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع من ذلك بالختم والتغطية ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركباً والجامع عدم الانتفاع بما أعد له بسبب عروض مانع يمكن فيه كالمانع الأصلي وهو أمر عقلي منتزع من تلك العدة ثم إن إسناد الختم إليه عز وجل باعتبار الخلق والذم والتشنيع الذي تشير إليه الآية باعتبار كون ذلك مسبباً عما كسبه الكفار من المعاصي كما يدل عليه قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }** [النساء: 155] وإلا أشكل التشنيع والذم على ما ليس فعلهم كذا قاله مفسرو أهل السنة عن آخرهم فيما أعلم. والمعتزلة لما رأوا أن الآية يلزم منها أن يكون سبحانه مانعاً عن قبول الحق وسماعه بالختم وهو قبيح يمتنع صدوره عنه تعالى على قاعدتهم التزموا للآية تأويلات ذكر الزمخشري جملة منها حتى قال: الشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله سبحانه وتعالى لما كان هو الذي أقدره (أو) مكنه أسند الختم إليه كما يسند [الفعل] إلى السبب نحو ـ بني الأمير المدينة، وناقة حلوب ـ وأنا أقول: إن ماهيات الممكنات معلومة له سبحانه أزلاً فهي متميزة في أنفسها تميزاً ذاتياً غير مجعول لتوقف العلم بها على ذلك التميز وإن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة أيضاً مختلفة الاقتضاءات والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم/ الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الخير والشر تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره العبد بمقتضى استعداده فيصير مراده بعد تعلق الإرادة الإلهية مراداً لله تعالى فاختياره الأزلي بمقتضى استعداده متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكمة وأن اختياره فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة باختياره لما اختاره، فالعباد منساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر وليسوا مجبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على تعلق العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعاً لما هو متأخر عنه بمراتب، فما من شيء يبرزه الله تعالى بمقتضى الحكمة ويفيضه على الممكنات إلا وهو مطلوبها بلسان استعدادها وما حرمها سبحانه شيئاً من ذلك كما يشير إليه قوله تعالى:**{ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء خَلْقَهُ }** [طه: 50] أي الثابت له في الأزل مما يقتضيه استعداده الغير المجعول، وإن كانت الصور الوجودية الحادثة مجعولة. وقوله تعالى:**{ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }** [الشمس: 8] أي الثابتين لها في نفس الأمر والكل من حيث أنه خلقه حسن لكونه بارزاً بمقتضى الحكمة من صانع مطلق لا حاكم عليه ولهذا قال عز شأنه:**{ أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ }** [السجدة: 7] و**{ مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَـٰوُتٍ }** [الملك: 3] أي من حيث أنه مضاف إليه ومفاض منه وإن تفاوت من جهة أخرى وافترق عند إضافة بعضه إلى بعض، فعلى هذا يكون الختم منه سبحانه وتعالى دليلاً على سواء استعدادهم الثابت في علمه الأزلي الغير المجعول بل هذا الختم الذي هو من مقتضيات الاستعداد لم يكن من الله تعالى إلا إيجاده وإظهار يقينه طبق ما علمه فيهم أزلاً حيث لا جعل | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ }** [النحل: 33] تعالى في إظهاره إذ من صفته سبحانه إفاضة الوجود على القوابل بحسب القابليات على ما تقتضيه الحكمة**{ وَلَـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }** [النحل: 33] حيث كانت مستعدة بذاتها لذلك فحينئذ يظهر أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار الإيجاد حقيقة ويحسن الذم لهم به من حيث دلالته على سوء الاستعداد وقبح ما انطوت عليه ذواتهم في ذلك الناد**{ وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَٱلَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا }** [الأعراف: 58]. وأما ما ذكره المفسرون من أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار الخلق فمسلم لا كلام لنا فيه، وأما إن الذم باعتبار كون ذلك مسبباً عما كسبه الكفار الخ فنقول فيه: إن أرادوا بالكسب ما شاع عند الاشاعرة من مقارنة الفعل لقدرة العبد من غير تأثير لها فيه أصلاً وإنما المؤثر هو الله تعالى فهو مع مخالفته لمعنى الكسب وكونه**{ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً }** [النور: 39] لا يشفي عليلاً ولا يروى غليلاً إذ للخصم أن يقول أي معنى لذم العبد بشيء لا مدخل لقدرته فيه إلا كمدخل اليد الشلاء فيما فعلته الأيدي السليمة وحينئذ يتأتى ما قاله الصاحب بن عباد في هذا الباب: كيف يأمر الله تعالى العبد بالإيمان وقد منعه منه وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول:**{ أنى يُصْرَفُونَ }** [غافر: 69] ويخلق فيهم الإفك ثم يقول:**{ أَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ }** [الأنعام: 95] وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول**{ لِمَ تَكْفُرُونَ }** [آل عمران: 70] وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول:**{ لِمَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَـٰطِلِ }** [آل عمران: 71] وصدهم عن السبيل ثم يقول:**{ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }** [آل عمران: 99] وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال:**{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ }** [النساء: 39] وذهب بهم عن الرشد ثم قال:**{ فَأيْنَ تَذْهَبُونَ }** [التكوير: 26] وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال:**{ فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ }** [المدثر: 49]؟ فإن أجابوا بأن لله أن يفعل ما يشاء ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون**{ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ }** [الأنبياء: 23] قلنا لهم: هذه كلمة حق أريد بها باطل وروضة صدق ولكن ليس لكم منها حاصل لأن كونه تعالى لا يسأل عما يفعل ليس إلا لأنه حكيم لا يفعل ما عنه يسأل وإذا قلتم لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومه فوجه مطالبة/ العبد بأفعاله كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألواناً وإدراكات وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى التزام الباطل والمحال، وفيه إبطال الشرائع العظام ورد ما ورد عن النبيين عليهم الصلاة والسلام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإن أرادوا بالكسب فعل العبد استقلالا ما يريده هو وإن لم يرده الله تعالى فهذا مذهب المعتزلة وفيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة واقتحام ورطات الضلال وسلوك مهامه الوبال. | **مساوٍ لو قسمن على الغواني** | | **لما أمهرن إلا بالطلاق** | | --- | --- | --- | وإن أرادوا به تحصيل العبد بقدرته الحادثة حسب استعداده الأزلي المؤثرة لا مستقلاً بل بإذن الله تعالى ما تعلقت به من الأفعال الاختيارية مشيئته التابعة لمشيئة الله تعالى على ما أشرنا إليه فنعمت الإرادة وحبذا السلوك في هذه الجادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسطها وإقامة الأدلة على صحتها وإماطة الأذى عن طريقها إلا أن أشاعرتنا اليوم لا يشعرون وأنهم ليحسبون أنهم يحسنون صنعاً ولبئس ما كانوا يصنعون. | **ما في الديار أخو وجد نطارحه** | | **حديث نجد ولا خل نجاريه** | | --- | --- | --- | وأما ما ذكره المعتزلة لا سيما علامتهم الزمخشري فليس أول عشواء خبطوها وفي مهواة من الأهواء أهبطوها ولكم نزلوا عن منصة الإيمان بالنص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة واستيفاء لما كتب عليهم من المحنة وطالما استوخموا من السنة المناهل العذاب ووردوا من حميم البدعة موارد العذاب، والشبهة التي تدندن هنا حول الحمى أن أفعال العباد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها على عباده ولا عاقبهم بها ولا قامت حجة الله تعالى عليهم وهي أوهى من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت، وقد علمت جوابها مما قدمناه لك ـ وليكن على ذكر منك ـ على أنا نرجع فنقول إن أسندوا الملازمة ـ وكذلك يفعلون ـ إلى قاعدة التحسين والتقبيح، وقالوا: معاقبة الإنسان مثلاً بفعل غيره قبيحة في الشاهد لا سيما إذا كانت من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائباً، قيل: ويقبح في الشاهد أيضاً أن يمكن الإنسان عبده من القبائح والفواحش بمرأى ومسمع ثم يعاقبه على ذلك مع القدرة على ردعه ورده من الأول عنها وأنتم تقولون إن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة لله تعالى على علم منه عز وجل أن العبد يخلق بها لنفسه ذلك فهو بمثابة إعطاء سيف باتر لفاجر يعلم أنه يقطع به السبيل ويسبى به الحريم وذلك في الشاهد قبيح جزماً. فَانٍ قَالُواْ ثم حكمة استأثر الله تعالى بعلمها فرقت بين الغائب والشاهد فحسن من الغائب ذلك التمكين ولم يحسن في الشاهد قُلْنَا سبيل التنزل والموافقة لبعض الناس ما المانع أن تكون تلك الأفعال مخلوفة لله تعالى ويعاقب العبد عليها لمصلحة وحكمة استأثر بها كما فرغتم منه الآن حذو القذة بالقذة؟!على أن في كون الخاتم في الحقيقة هو الشيطان مما لا يقدم عليه حتى الشيطان ألا تسمعه كيف قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }** [ص: 82] فلا حول ولا قوة إلا بالله. وليكن هذا المقدار كافياً في هذا المقام ولشحرور القلم بعد إن شاء الله تعالى على كل بانة تغريد بأحسن مقام. والقلوب ـ جمع قلب ـ وهو في الأصل مصدر سمي به الجسم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو مشرق اللطيفة الإنسانية، ويطلق على نفس اللطيفة النورانية الربانية العالمة التي هي مهبط الأنوار الإلهية الصمدانية وبها يكون الإنسان إنساناً وبها يستعد لاكتساب الأوامر واجتناب الزواجر وهي خلاصة تولدت من الروح الروحاني ويعبر عنها الحكيم بالنفس الناطقة ولكونها هدف سهام القهر واللطف ومظهر الجمال والجلال ومنشأ البسط والقبض ومبدأ المحو والصحو ومنبع الأخلاق المرضية والأحوال الردية، وقلما تستقر على حال وتستمر على منوال ـ سميت قلباً ـ فهي متقلبة في أمره ومنقلبة/ بقضاء الله وقدره. وفي الحديث **" إن القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح "** وقد قال الشاعر: | **قد سمي القلب قلباً من تقلبه** | | **فأحذر على القلب من قلب وتحويل** | | --- | --- | --- | وتسمية الجسم المعروف قلباً إذا أمعنت النظر ليس إلا لتقلب هاتيك اللطيفة المشرقة عليه لأنه العضو الرئيس الذي هو منشأ الحرارة الغريزية الممدة للجسد كله ويكنى بصلاحه وفساده عن صلاح هاتيك اللطيفة وفسادها لما بينهما من التعلق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وكأنه لهذا قال صلى الله عليه وسلم: **" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "** وكثير من الناس ذهب إلى أن تلك المضغة هي محل العلم، وقيل: إنه في الدماغ وقيل إنه مشترك بينهما وبنى ذلك على إثبات الحواس الباطنة والكلام فيها مشهور. ومن راجع وجد أنه أدرك أن بين الدماغ والقلب رابطة معنوية ومراجعة سرية لا ينكرها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لكن معرفة حقيقة ذلك متعززة كما هي معتذرة والإشارة إلى كنه ما هنالك على أرباب الحقائق وأصحاب الدقائق متعسرة، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه، والعجز عن درك الإدراك إدراك. والسمع مصدر ـ سمع سمعا وسماعا ـ ويطلق على قوة مودعة في العصب المفروش أو المبطل في الأذن تدرك بها الأصوات ويعبر به تارة عن نفس الأذن وأخرى عن الفعل نحو**{ إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ }** [الشعراء: 212]، والأبصار ـ جمع بصر ـ وهو في الأصل بمعنى إدراك العين وإحساسها ثم تجوز به عن القوة المودعة في ملتقى العصبتين المجوفتين الواصلتين من الدماغ إلى الحدقتين التي من شأنها إدراك الألوان والأشكال بتفصيل معروف في محله وعن العين التي هي محله، وشاع هذا حتى صار حقيقة في العرف لتبادره وهو المناسب للغشاوة لتعلقها بالأعيان ويناسب الختم ما يناسب الغشاوة، وإنما قدم سبحانه الختم على القلوب هنا لأن الآية تقرير لعدم الإيمان فناسب تقديم القلوب لأنها محل الإيمان والسمع ـ والأبصار طرق وآلات له ـ وهذا بخلاف قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ }** [الجاثية: 23] فإنه مسوق لعدم المبالاة بالمواعظ ولذا جاءت الفاصلة**{ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }** [الجاثية: 23] فكان المناسب هناك تقديم السمع، وأعاد جل شأنه الجار لتكون أدل على شدة الختم في الموضعين فإن ما يوضع في خزانة إذا ختمت خزانته وختمت داره كان أقوى المنع عنه وأظهر في الاستقلال لأن إعادة الجار تقتضي ملاحظة معنى الفعل المعدى به حتى كأنه ذكر مرتين، ولذا قالوا في مررت بزيد وعمرو: مرور واحد، وفي مررت بزيد وبعمرو: مروران، والعطف وإن كان في قوة الإعادة لكنه ليس ظاهراً مثلها في الإفادة لما فيه من الاحتمال. ووحد السمع مع أنه متعدد في الواقع ومقتضى الانتظام بالسباق واللحاق أن يجري على نمطهما للاختصار والتفنن مع الإشارة إلى نكتة ـ هي أن مدركاته نوع واحد ومدركاتهما مختلفة ـ وكثيراً ما يعتبر البلغاء مثل ذلك، وقيل: إن وحدة اللفظ تدل على وحدة مسماه ـ وهو الحاسة ـ ووحدتها تدل على قلة مدركاتها في بادىء النظر فهناك دلالة التزام ويكفي مثل ما ذكر في اللزوم عرفاً ومنه يتنبه لوجه جمع القلوب كثرة والأبصار قلة وإن كان ذلك هو المعروف في استعمال الفقهاء في جميعها على أن الإسماع قلما قرع السمع ـ ومنه قراءة ابن أبـي عبلة في الشواذ ـ (وعلى أسماعهم)، واستشهد له بقوله: | **/ قالت ولم تقصد لقيل الخنا** | | **مهلا لقد أبلغت أسماعي** | | --- | --- | --- | والقول بأنه وحدة للأمن عن اللبس كما في قوله: | **كلوا في بعض بطنكم تعفوا** | | **فإن زمانكم زمن خميص** | | --- | --- | --- | ولأنه في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فروعي ذلك ليس بشيء لأن ما ذكر مصحح لا مرجع وأدنى من هذا عندي تقدير مضاف مثل - وحواس سمعهم - وقد اتفق القراء على الوقف على { سمعهم } وظاهره دليل على أنه لا تعلق له بما بعده فهو معطوف على { على قلوبهم } وهذا أولى من كونه هو وما عطف عليه خبراً مقدماً لغشاوة أو عاملان فيه على التنازع وإن احمتلته الآية لتعين نظيره في قوله تعالى:**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ }** [الجاثية: 23] والقرآن يفسر بعضه بعضاً ولأن السمع كالقلب يدرك ما يدركه من جميع الجهات فناسب أن يقرن معه بالختم الذي يمنع من جميعها وإن اختص وقوعه بجانب إلا أنه لا يتعين، ولما كان إدراك البصر لا يكون عادة إلا بالمحاذاة والمقابلة جعل المانع ما يمنع منها وهو الغشاوة لأنها في الغالب كذلك كغاشية السرج، ومثل هذا يكفي في النكات ولا يضره ستره لجميع الجوانب كالإزار، وما في " الكشف ": من أن الوجه أن الغشاوة مشهورة في أمراض العين فهي أنسب بالبصر من غير حاجة لما تكلفوه، يكشف عن حاله النظر في المعنى اللغوي ممن لا غشاوة على بصره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولعل سبب تقديم السمع على البصر مشاركته للقلب في التصرف في الجهات الست مثله دون البصر. ومن هنا قيل: إنه أفضل منه، والحق أن كلا من الحواس ضروري في موضعه، ومن فقد حساً فقد علماً، وتفضيل البعض على البعض تطويل من غير طائل. وقد قرىء بإمالة { أَبْصَارِهِمْ } ووجه الإمالة - مع أن الصاد حرف مستعل وهو مناف لها لاقتضائها لتسفل الصوت - مناسبة الكسرة واعتبرت على الراء دون غيرها لمناسبة الإمالة الترقيق، والمشهور عند أهل العربية أن ذلك لقوة الراء لتكرره على اللسان في النطق به فإنه يرتعد ويظهر ذلك إذا شدد أو وقف عليه فكسرته بمنزلة كسرتين فقوي السبب حتى أزال المانع. ولعل مرادهم أنه متكرر طبعاً كما يدركه الوجدان إلا أنه يجب المحافظة لئلا يقع التقرير فإنه مضر في الأداء حتى سمعت من بعض الشافعية أن من كرر الراء في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته والعهدة على الراوي، والجمهور على أن { عَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ } خبر مقدم لغشاوة والتقديم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة مع أن فيه مطابقة الجملة قبله لأنه تقدم الجزء المحكوم به فيها وهذا كذلك، ففي الآية جملتان خبريتان فعلية دالة على التجدد واسمية دالة على الثبوت حتى كأن الغشاوة جبلية فيهم وكون الجملتين دعائيتين ليس بشي، وفي تقديم الفعلية إشارة إلى أن ذلك قد وقع وفرغ منه، ونصب المفضل وأبو حيوة وإسماعيل بن مسلم { غِشَاوَةٌ } فقيل هو على تقدير جعل كما صرح به في قوله تعالى**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً }** [الجاثية: 23]، وقيل إنه على حذف الجار، وقال أبو حيان: يحتمل أن يكون مصدراً من معنى ختم لأنه معناه غشى وستر كأنه قيل تغشيه على سبيل التأكيد فيكون حينئذ قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة، وقيل: يحتمل أن يكون مفعول ختم والظروف أحوال أي ختم غشاوة كائنة على هذه الأمور لئلا يتصرف بها بالرفع والإزالة، وفي كل ما لا يخفى، فقراءة الرفع أولى، وقرىء أيضاً بضم الغين ورفعه، وبفتح الغين ونصبه، وقرىء (غشوة) بكسر المعجمة مرفوعاً وبفتحها مرفوعاً ومنصوباً، وغشية بالفتح والرفع وغشاوة بفتح المهملة والرفع، وجوز فيه الكسر والنصب من الغشا/ بالفتح والقصر وهو الرؤية نهاراً لا ليلاً، والمعنى أنهم يبصرون إبصار غفلة لا إبصار عبرة أو أنهم لا يرون آيات الله في ظلمات كفرهم ولو زالت أبصروها، وقال الراغب: العشا ظلمة تعرض للعين، وعشي عن كذا عمي قال تعالى:**{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ }** [الزخرف: 36] فالمعنى حينئذ ظاهر والتنوين للإشارة إلى نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ويحتمل أن يكون للتعظيم أي غشاوة أيّ غشاوة، وصرَّح بعضهم بحمله على النوعية والتعظيم معاً كما حمل على التكثير والتعظيم معاً في قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ }** [فاطر: 4]. واللام في { لَهُمْ } للاستحقاق كما في**{ لَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ }** [البقرة: 114] وفي " المغني ": لام الاستحقاق هي الواقعة بين معنى وذات وهنا كذلك إلا أنه قدم الخبر استحساناً لأن المبتدأ نكرة موصوفة ولو أخر جاز كـ**{ أَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ }** [الأنعام: 2] ويجوز كما قيل: أن يكون تقديمه للتخصيص فلا يعذب عذابهم أحد ولا يوثق وثاقهم أحد وكون اللام للنفع واستعملت هنا للتهكم مما لا وجه له لأنها إنما تقع له في مقابلة (على) في الدعاء وما يقاربه ولم يقل به أحد ممن يوثق به هنا ولا يقال عليهم العذاب، والظاهر أن الجملة مساقة لبيان إصرارهم بأن مشاعرهم ختمت وأن الشقوه عليهم ختمت، وهي معطوفة على ما قبلها وليست استئنافاً ولا حالاً، وقال السيالكوتي: عطف على**{ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }** [البقرة: 6] والجامع أن ما سبق بيان حالهم وهذا بيان ما يستحقونه، أو على خبر إن والجامع الشركة في المسند إليه مع تناسب مفهوم المسندين، وجعل ذلك لدفع ما يتوهم من عدم استحقاقهم العذاب على كفرهم لأنه بختم الله تعالى وتغشيته ليس بوجيه كما لا يخفى. والعذاب في الأصل الاستمرار ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم، واشتقوا منه فقالوا: عذبته أي دوامت عليه الألم قاله أبو حيان، وعن الخليل - وإليه مال كثير - أن أصله المنع يقال:عذب الفرس إذا امتنع عن العلف، ومنه العذب لمنعه من العطش ثم توسع فأطلق على كل مؤلم شاق مطلقاً وإن لم يكن مانعاً ورادعاً ولهذا كان أعم من النكال لأنه ما كان رادعاً كالعقاب، وقيل العقاب ما يجازي به كما في الآخرة، وشمل البيان عذاب الأطفال والبهائم وغيرهما، وخص السجاوندي العذاب بإيصال الألم إلى الحي مع الهوان فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب عنده، وقيل إن العذاب مأخوذ في الأصل من التعذيب ثم استعمل في الإيلام مطلقاً، وأصل التعذيب على ما قيل: إكثار الضرب بعذبه السوط، وقال الراغب أصله من العذب فعذبته أزلت عذب حياته على بناء مرضته وقذيته والتنكير فيه للنوعية أي لهم في الآخرة نوع من العذاب غير متعارف في عذاب الدنيا، وحمله على التعظيم يستدعي حمل ما يستفاد من الوصف على التأكيد ولا حاجة إليه. والعظيم الكبير، وقيل: فوق الكبير لأن الكبير يقابله الصغير والعظيم يقابله الحقير والحقير دون الصغير، فالصغير والحقير خسيسان والحقير أخسهما، والعظيم والكبير شريفان والعظيم أشرفهما فتوصيف العذاب به أكثر في التهويل من توصيفه بالكبير كما ذكره الكثير ممن شاع فضله إذ العادة جارية بأن الأخس يقابل بالأشرف والخسيس بالشريف فما يتوهم من أن نقيض الأخص - أعم - مما لا يلتفت إليه هنا، نعم يشكل على دعوى أن التعظيم فوق الكبير قوله عز شأنه في الحديث القدسي: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" الكبرياء ردائي والعظمة إزاري "** حيث جعل سبحانه الكبرياء مقام الرداء والعظمة مقام الإزار، ومعلوم أن الرداء أرفع من الإزار فيجب أن يكون صفة الكبر أرفع من العظمة، ويقال: إن الكبير هو الكبير في ذاته سواء استكبره غيره أم لا، وأما العظمة فعبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره، فالصفة الأولى على هذا ذاتية وأشرف من الثانية ويمكن أن يجاب على بعد بأن ما ذكروه خاص بما إذا استعمل الكبير والعظيم في غيره تعالى أو فيما إذا خلا الكلام عن قرينة تقتضي العكس، أو يقال: إنه سبحانه جعل العظمة وهي أشرف من الكبرياء إزاراً لقلة العارفين به جل شأنه بهذا العنوان بالنظر إل العارفين/ بعنوان الكبرياء فلقلة أولئك كانت إزاراً ولكثرة هؤلاء كانت رداءاً وسبحان الكبير العظيم، وذكر الراغب (( أن أصل عظم الرجل كبر عظمه ثم استعير لكل كبير وأجري مجراه محسوساً كان أو معقولاً معنى كان أو عيناً، والعظيم إذا استعمل في الأعيان فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة والكبير يقال في المنفصلة، وقد يقال فيها أيضاً: عظيم وهو بمعنى كبير كجيش عظيم))، وعظم العذاب بالنسبة إلى عذاب دونه يتخلله فتور وبهذا التخلل يصح ان يتفاضل العذابان كسوداين أحدهما اشبع من الآخر وقد تخلل الآخر ما ليس بسواد. وقد ذهب المسلمون إلى أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار، وهذه الآية وأمثالها شواهد صدق على ذلك. وقال بعضهم: لا يحسن وذكروا دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح العقلين فقالوا: التعذيب ضرر خال عن المنفعة لأنه سبحانه منزه عن أن ينتفع بشيء والعبد يتضرر به ولو سلم انتفاعه فالله تعالى قادر أن يوصل إليه النفع من غير عذاب، والضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة، وأيضاً إن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب وما كان مستعقباً للضرر من غير نفع قبيح، فأما أن يقال لا تكليف أو تكليف ولا عذاب، وأيضاً هو الخالق لداعية المعصية فيقبح أن يعاقب عليها، وقالوا أيضاً: هب أنا سلمنا العقاب فمن أين القول بالدوام؟ وأقسى الناس قلباً إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه - وعذبه وبالغ فيه وواظب عليه - لامه كل أحد وقيل له إما أن تقتله وتريحه وإما أن تعفو عنه فإذا قبح هذا من إنسان يلتذ بالانتقام، فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام؟! وأيضاً من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه، أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون أو يحسن أن يقول في الدنيا: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ }** [غافر: 60] وفي الآخرة لا يجيب دعاءهم إلا بـ**{ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ }** [المؤمنون: 108]. بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له على أنا ندعي أن أخبار الوعيد في الكفار مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً صريحاً كما قال ذلك فيها من جوز العفو عن الفساق، على أنه يحتمل أن تكون تلك الجمل دعائية أو أنها إخبارية لكن الإخبار عن استحقاق الوقوع لا عن الوقوع نفسه، وهذا خلاصة ما ذكر في هذا الباب. وبسط الإمام الرازي الكلام فيه ولم يتعقبه بما يشرح الفؤاد ويبرد الأكباد وتلك شنشنة أعرفها من أخزم، ولعمري إنها شبه تمكنت في قلوب كثير من الناس فكانت لهم الخناس الوسواس فخلعوا ربقة التكليف وانحرفوا عن الدين الحنيف وهي عند المؤمنين المتمكنين كصرير باب أو كطنين ذباب، فأقول: وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب نفي العذاب مطلقاً مما لم يقله أحد ممن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر حتى إن المجوس لا يقولونه مع أنهم الذين بلغوا من الهذيان أقصاه فإن عقلاءهم - والعقل بمراحل عنهم - زعموا أن إبليس عليه اللعنة لم يزل في الظلمة بمعزل عن سلطان الله تعالى ثم لم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب فصار في سلطان الله تعالى وأدخل معه الآفات والشرور فخلق الله تعالى هذا العالم شبكة له فوقع فيها فصار لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه فبقي محبوساً يرمى بالآفات فمن أحياه الله تعالى أماته ومن أصحه أسقمه ومن أسره أحزنه وكل يوم ينقص سلطانه فإذا قامت القيامة وزالت قوته طرحه الله تعالى في الجو وحاسب أهل الأديان وجازاهم على طاعتهم للشيطان وعصيانهم له، نعم المشهور عنهم أن الآلام الدنيوية قبيحة لذاتها ولا تحسن بوجه من الوجوه فهي صادرة عن الظلمة دون النور، وبطلان مذهب هؤلاء أظهر من نار على علم، ولئن سلمنا أن أحداً من الناس يقول ذلك فهو مردود، وغالب الأدلة التي تذكر في هذا الباب مبني على الحسن والقبح العقليين وقد نفاهما أهل السنة والجماعة وأقاموا الأدلة على بطلانهما وشيوع ذلك/ في كتب الكلام يجعل نقله هنا من لغو الكلام على أنا نقول إن لله تعالى صفتي لطف وقهر ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك - لا سيما ملك الملوك - كذلك إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ومن منع ذلك فقد كابر، وقد مدح في الشاهد ذلك كما قيل: | **يداك يد خيرها يرتجى** | | **وأخرى لأعدائها غائظة** | | --- | --- | --- | فلما نظر الله سبحانه إلى ما علمه من الماهيات الأزلية والأعيان الثابتة ورأى فيها من استعد للخير وطلبه بلسان استعداه ومن استعد للشر وطلبه كذلك أفاض على كل بمقتضى حكمته ما استعد له وأعطاه ما طلبه منه ثم كلفه ورغبه ورهبه إتماماً للنعمة وإظهاراً للحجة إذ لو عذبه وأظهر فيه صفة قهره قبل أن ينذره لربما قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ }** [طه: 134] فالتعذيب وإن لم يكن فيه نفع له سبحانه بالمعنى المألوف لكنه من آثار القهر ووقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى وكل ما تقتضيه حكمته تعالى وكماله حسن، وإن شئت فقل: إن صفتي اللطف والقهر من مستتبعات ذاته التي هي في غاية الكمال ولهما متعلقات في نفس الأمر مستعدة لهما في الأزل استعداداً غير مجعول. وقد علم سبحانه في الأزل التعلقات والمتعلقات فظهرت طبق ما علم ولو لم تظهر كذلك لزم انقلاب الحقائق وهو محال. فالإيمان والكفر في الحقيقة ليسا سبباً حقيقاً وعلة تامة للتنعيم والتعذيب وإنما هما علامتان لهما دعت إليهما الحكمة والرحمة. وهذا معنى ما ورد في " الصحيح " **" اعملوا فكل ميسر لما خلق له "** أما من كان - أي في علم الله - من أهل السعادة المستعدة لها ذاته فسييسر بمقتضى الرحمة لعمل أهل السعادة لأنه شأنه تعالى الإفاضة على القوابل بحسب القابليات، وأما من كان القهر - لعمل أهل الشقاوة، وفي ذلك تظهر المنة وتتم الحجة ولا يرد في قوله تعالى:**{ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }** [لأنعام: 149] لأن نفي الهداية لنفي المشيئة ولا شك أن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع لثبوت المعلوم في نفس الأمر كما يشير إليه قوله تعالى في المستحيل الغير الثابت في نفسه:**{ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ }** [الرعد: 33] وحيث لا ثبوت للهداية في نفسها لا تعلق للعلم بها، وحيث لا تعلق لا مشيئة، فسبب نفي إيجاد الهداية نفي المشيئة وسبب نفي المشيئة تقرر عدم الهداية في نفسها فيئول الأمر إلى أن سبب نفي إيجاد الهداية انتفاؤها في نفس الأمر وعدم تقررها في العلم الأزلي:**{ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ }** [الأنفال: 23] فإذا انتقش هذا على صحيفة خاطرك، فنقول: قولهم الضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة ليس بشيء لأن ذلك الضرر من آثار القهر التابع للذات الأقدس ومتى خلا عن القهر - كان عز شأنه عما يقوله الظالمون - كالأقطع الذي ليس له إلا يد واحدة بل من أنصفه عقله يعلم أن الخلو عن صفة القهر يخل بالربوبية ويسلب إزار العظمة ويحط شأن الملكية إذ لا يرهب منه حينئذ فيختل النظام وينحل نبذ هذا الانتظام. على أن هذه الشبهة تستدعي عدم إيلام الحيوان في هذه النشأة لا سيما البهائم والأطفال الذين لا ينالهم من هذه الآلام نفع بالكلية لا عاجلاً ولا آجلاً مع أنا نشاهد وقوع ذلك أكثر من نجوم السماء فما هو جوابهم عن هذه الآلام منه سبحانه في هذه النشأة مع أنه لا نفع له منها بوجه فهو جوابنا عن التعذيب في تلك النشأة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقولهم إن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب الخ، ففيه أن الكافر في علم الله تعالى حسب استعداده متعشق للنار تعشق الحديد للمغناطيس وإن نفر عنها نافر عن الجنة نفور الظلمة عن النور وإن تعشقها فهو إن كلف وإن لم يكلف لا بد وأن يعذب فيها، ولكن التكليف لاستخراج ما في استعداده من الإباء لإظهار الحجة والكفر مجرد علامة**{ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }** [النحل: 33]. وقولهم هو سبحانه الخالق لداعية المعصية مسلم لكنه خلقها وأظهرها طبق ما دعا إليه الاستعداد الذاتي الذي لا دخل للقدرة إلا في إيجاده وأي قبح في إعطاء الشيء ما طلبه بلسان استعداده وإن أضر به ولا يلزم الله تعالى عقلاً أن يترك مقتضى حكمته ويبطل شأن ربوبيته مع عدم تعلق علمه بخلاف ما اقتضاه ذلك الاستعداد. وقولهم هب أنا سلمنا العقاب فينم أين الدوام الخ قلنا الدوام من خبث الذات وقبح الصفات الثابتين فيما لم يزل الظاهرين فيما لا يزال بالإباء بعد التكليف مع مراعاة الحكمة، وهذا الخبث دائم فيهم ما دامت حكمة الله تعالى الذاتية وذواتهم - كما يرشدك إلى ذلك - قوله سبحانه:**{ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ }** [الأنعام: 28] ويدوم المعلول ما دامت علته أو يقال العذاب وهو في الحقيقة البعد من الله لازم للكفر والملزوم لا ينفك من اللازم، وأيضاً الكفر مع ظهور البرهان في الأنفس والآفاق بمن لا تتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته أمر لا يحيط نطاق الفكر بقبحه وإن لم يتضرر به سبحانه لكن الغيرة الإلهية لا ترتضيه وإن أفاضته القدرة الأزلية حسب الاستعداد بمقتضى الحكمة، ومثل ذلك يطلب عذاباً أبدياً وعقاباً سرمدياً وشبيه الشيء منجذب إليه، ولا يقاس هذا بما ضربه من المثال إذ أين ذل التراب من عزة رب الأرباب، وليس مورد المسألتين منهلاً واحداً. وقولهم من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه، أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون الخ. ففيه أن من تاب من الكفر فقد أبدل القبيح بضده وأظهر سبحانه مقتضى ذاته وماهيته المعلومة له حسب علمه فهناك حينئذ كفر قبيح زائل وإيمان حسن ثابت، وقد انضم إلى هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها تدارك ما فات والندم على الهفوات فيصير الكفر بهذا الإيمان كأن لم يكن شيئاً مذكوراً إذ يقابل القبيح بالحسن ويبقى الندم وهو ركن التوبة مكسباً على أن ظهور الإيمان بعد الكفر دليل على نجابة الذات في نفسها وطهارتها في معلوميتها والأعمال بالخواتيم فلا بدع في مغفرة الله تعالى له جوداً وكرماً ورحمة الله تعالى - وإن وسعت كل شيء ببعض اعتباراتها - إلا أنها خصت المتقين باعتبار آخر كما يشير إليه قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ }** [الأعراف: 156] فهي كمعيته سبحانه الغير المكيفة، ألا تسمع قوله تعالى مرة:**{ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ }** [المجادلة: 7]، وتارة**{ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }** [النحل: 128] وكرة**{ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا }** [التوبة: 40] وطوراً**{ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي }** [الشعراء: 62] ولا ينافي كون الرحمة أوسع دائرة من الغضب كما يرمز إليه**{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ }** [طه: 5] أن الكفار المعذبين أكثر من المؤمنين المنعمين كما يقتضيه قوله تعالى:**{ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }** [الرعد: 1] وكذا حديث البعث لأن هذه الكثرة بالنسبة إلى الملائكة والحور والغلمان**{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ }** [المدثر: 31]**{ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }** [النحل: 8] فيكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب على أن أهل النار مرحومون في عذابهم وما عند الله تعالى من كل شيء لا يتناهى وبعض الشر أهون من بعض وهم متخلفون في العذاب، وبين عذاب كل طبقة وطبقة ما بين السماء والأرض وإن ظن كل من أهلها أنه أشد الناس عذاباً لكن الكلام في الواقع بل منهم من هو ملتذ بعذابه من بعض الجهات ومنهم غير ذلك، نعم فيهم من عذابه محض لا لذ لهم فيه ومع هذا يمقتون أنفسهم لعلمهم أنها هي التي استعدت لذلك ففاض عليها ما فاض من جانب المبدأ الفياض كما يشير إليه قوله تعالى:**{ لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ }** [غافر: 10] ومن غفل منهم عن ذلك نبهه إبليس عليه اللعنة كما حكى الله عنه بقوله:**{ فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ }** [إبراهيم: 22] ولا تنفعهم التوبة هناك كما تنفعهم هنا إذ قد اختلفت الداران وامتاز الفريقان وانتهى الأمد المضروب/ لها بمقتضى الحكمة الإلهية. وقد رأينا في الشاهد أن لنفع الدواء وقتاً مخصوصاً إذا تعداه ربما يؤثر ضرراً ومن الكفار من يعرف أنه قد مضى الوقت وانقضى ذلك الزمان وأن التوبة إنما كانت في الدار الدنيا ولهذا**{ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ \* لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ }** [المؤمنون: 99ـ100] ولما كان هذا الطلب عارف من وجه جاهل من وجه آخر قال الله تعالى في مقابلته:**{ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا }** [المؤمنون: 100] ولم يغلظ عليه كما أغلظ على من قال:**{ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [المؤمنون: 107] حيث صدر عن جهل محض فأجابهم بقوله:**{ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ }** [المؤمنون: 108] فلما اختلف الطلب اختلف الجواب وليس كل دعاء يستجاب كما لا يخفى على أولي الألباب. وقولهم بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له فيقال فيه إن أرادوا أن هذه الأدلة العقلية مفيدة لليقين فقد علمت حالها وأنها كسراب بقيعة وليتها أفادت ظناً وإن أرادوا مطلق الأدلة العقلية فهذه ليست منها على أن كون الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين إنما هو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة، والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات، ومن صدق القائل يعلم عدم المعارض العقلي فإنه إذا تعين المعنى وكان مراداً له فلو كان هناك معارض عقلي لزم كذبه، نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأن كونها مفيدة لليقين مبني على أنه هل يحصل بمجردها والنظر فيها - وكون قائلها صادقاً - الجزم بعدم المعارض العقلي وأنه هل للقرينة التي تشاهد أو تنقل تواتراً مدخل في ذلك الجزم وحصول ذلك الجزم بمجردها ومدخلية القرينة فيه مما لا يمكنه الجزم بأحد طرفيه الإثبات والنفي فلا جرم كانت إفادتها اليقين في العقليات محل نظر وتأمل. فإن قلت: إذا كان صدق القائل مجزوماً به لزم منه الجزم بعدم المعارض في العقليات كما لزم منه في الشرعيات وإلا احتمل كلامه الكذب فيهما فلا فرق بينهما. قلت: أجاب بعض المحققين بأن المراد بالشرعيات أمور يجزم العقل بإمكانها ثبوتاً وانتفاء ولا طريق إليها، وبالعقليات ما ليس كذلك وحينئذ جاز أن يكون من الممتنعات فلأجل هذا الاحتمال ربما لم يحصل الجزم بعدم المعارض العقلي للدليل النقلي في العقليات وإن حصل الجزم به في الشرعيات وذلك بخلاف الأدلة العقلية في العقليات فإنها بمجردها تفيد الجزم بعدم المعارض لأنها مركبة من مقدمات علم بالبديهة صحتها أو علم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة، وحينئذ يستحيل أن يوجد ما يعارضها لأن أحكام البديهة لا تتعارض بحسب نفس الأمر أصلاً. هذا وقال الفاضل الرومي هٰهنا بحث مشهور وهو أن المعنى بعدم المعارض العقلي في الشرعيات صدق القائل وهو قائم في العقليات أيضاً وما لا يحكم العقل بإمكانه ثبوتاً أو انتفاء لا يلزم أن يكون من الممتنعات لجواز إمكانه الخافي من العقل فينبغي أن يحمل كل ما علم أن الشرع نطق به على هذا القسم لئلا يلزم كذبه وإبطال قطع العقل بصدقه فالحق أن النقلي يفيد القطع في العقليات أيضاً ولا مخلص إلا بأن يقال المراد أن النظر في الأدلة نفسها والقرائن في الشرعيات يفيد الجزم بعدم المعارض لأجل إفادة الإرادة من القائل الصادق جزماً. وفي العقليات إفادته الجزم بعدمه محل نظر بناء على أن إفادته الإرادة محتملة انتهى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره إلى تقديم الدليل النقلي على العقلي فقال في الباب الثاني والسبعين والأربعمائة من «الفتوحات»: | **على السمع عولنا فكنا أولي النهى** | | **ولا علم فيما لا يكون عن السمع** | | --- | --- | --- | وقال قدس سره في الباب الثامن والخمسين والثلثمائة: | **كيف للعقل دليل والذي** | | **قد بناه العقل بالكشف انهدم** | | --- | --- | --- | | **فنجاة النفس في الشرع فلا** | | **تك إنساناً رأى ثم حرم** | | **/ واعتصم بالشرع في الكشف فقد** | | **فاز بالخير عبيد قد عصم** | | **اهمل الفكر فلا تحفل به** | | **واتركنه مثل لحم في وضم** | | **إن للفكر مقاماً فاعتضد** | | **به فيه تك شخصاً قد رحم** | | **كل علم يشهد الشرع له** | | **هو علم فيه فلتعتصم** | | **وإذا خالفه العقل فقل** | | **طورك الزم ما لكم فيه قدم** | ويؤيد هذا ما روي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن للعقل حداً ينتهي إليه كما أن للبصر حداً ينتهي إليه، وقال الإمام الغزالي: ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل كما لا تستبعد أن يكون العقل طوراً وراء التمييز والإحساس ينكشف فيه عوالم وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز إلى آخر ما قال ففيما نحن فيه في القرآن والسنة المتواترة ما لا يحصى مما يدل على الخلود في النار، وفي العذاب دلالة واضحة لا خفاء فيها فتأويلها كلها بمجرد شبه أضعف من حبال القمر، والعدول عنها إلى القول بنفي العذاب أو الخلود فيه مما لا ينبغي لا سيما في مثل هذه الأوقات التي فيها الناس كما ترى، على أن هذه التأويلات في غاية السخافة إذ كيف يتصور حقيقة الدعاء من رب الأرض والسماء أم كيف يكون التعليق بعد النظر في قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء }** [النساء: 48] أم كيف يقبل أن يكون الإخبار عن الاستحقاق دون الوقوع على ما فيه في مثل قوله تعالى:**{ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا }** [الإسراء: 97] و**{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَـٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا }** [النساء: 56] سبحانك هذا بهتان عظيم. وأما ما ينقل عن بعض السلف الصالح ـ وكذا عن حضرة مولانا الشيخ الأكبر ومن حذا حذوه من السادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم ـ من القول بعدم الخلود فذلك مبني على مشرب آخر وتجل لم ينكشف لنا، والكثير منهم قد بنى كلامه على اصطلاحات ورموز وإشارات قد حال بيننا وبين فهمها العوائق الدنيوية والعلائق النفسانية، ولعل قول من قال بعدم الخلود ممن لم يسلك مسلك أهل السلوك مبني على عدم خلود طائفة من أهل النار وهم العصاة مما دون الكفر وإن وقع إطلاق الكفر عليهم حمل على معنى آخر كما حمل على رأي في قوله صلى الله عليه وسلم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" من ترك الصلاة فقد كفر "** ، على أن الشيخ قدس سره كم وكم صرح في كتبه بالخلود فقال في عقيدته الصغرى أول «الفتوحات»: والتأبيد لأهل النار في النار حق، وفي الباب الرابع والستين في بحث ذبح الموت ونداء المنادي يا أهل النار خلود ولا خروج ما نصه: ويغتم أهل النار أشد الغم لذلك ثم تغلق أبواب النار غلقاً لا فتح بعده وتنطبق النار على أهلها ويدخل بعضهم في بعض ليعظم انضغاطهم فيها ويرجع أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ويرى الناس والجن فيها مثل قطع اللحم في القدر التي تحتها النار العظيمة تغلي كغلي الحميم فتدور في الخلق علواً وسفلاً**{ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا }** [الإسراء: 97]. وذكر الشيخ عبد الكريم الجيلي في كتابه المسمى بـ «الإنسان الكبير»، وفي «شرح لباب الأسرار من الفتوحات»: أن مراد القوم بأن أهل النار يخرجون منها هم عصاة الموحدين لا الكفار، وقال: إياك أن تحمل كلام الشيح محيى الدين أو غيره من الصوفية في قولهم بانتهاء مدة أهل النار من العصاة على الكفار فإن ذلك كذب وخطأ وإذا احتمل الكلام وجهاً صحيحاً وجب المصير إليه انتهى، نعم قال قدس سره في تفسير الفاتحة من «الفتوحات»: فإذا وقع الجدار وانهدم الصور وامتزجت الأنهار والتقى البحران وعدم البرزخ صار العذاب نعيماً وجهنم جنة ولا عذاب ولا عقاب إلا نعيم وأمان بمشاهدة العيان الخ، وهذا وأمثاله محمول على معنى/ صحيح يعرفه الذوق لا ينافي ما وردت به القواطع، وقصارى ما يخطر لأمثالنا فيه أنه محمول على مسكن عصاة هذه الأمة من النار، وفيه: يضع الجبار قدمه ويتجلى بصفة القهر على النار فتقول قط قط ولا تطيق تجليه فتخمد ولا بعد أن تلحق بعد بالجنة وإياك أن تقول بظاهره مع ما أنت عليه وكلما وجدت مثل هذا لأحد من أهل الله تعالى فسلمه لهم بالمعنى الذي أرادوه مما لا تعلمه أنت ولا أنا لا بالمعنى الذي ينقدح في عقلك المشوب بالأوهام فالأمر والله وراء ذلك والأخذ بظواهر هذه العبارات النافية للخلود في العذاب وتأويل النصوص الدالة على الخلود في النار بأن يقال الخلود فيها لا يستلزم الخلود في العذاب لجواز التنعم فيها وانقلاب العذاب عذوبة مما يجر إلى نفي الأحكام الشرعية وتعطيل النبوات وفتح باب لا يسد. وإن سولت نفسك لك ذلك قلبنا البحث معك ولنأتينك بجنود من الأدلة لا قبل لها بها وما النصر إلا من عند الله**{ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ }** [الروم: 47]، ولا يوقعنك في الوهم أن الخلود مستلزم لتناهي التجليات فالله تعالى هو الله و**{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }** [الرحمن: 29]**{ فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ }** [الأعراف: 144] ولا أظنك تجد هذا التحقيق من غيرنا والحمد لله رب العالمين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ }. هذه الجملة جارية مجرى التعليل للحكم السابق في قوله تعالى**{ سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون }** البقرة 6 وبيان لسببه في الواقع ليدفع بذلك تعجب المتعجبين من استواء الإنذار وعدمه عندهم ومن عدم نفوذ الإيمان إلى نفوسهم مع وضوح دلائله، فإذا عَلم أن على قلوبهم ختماً وعلى أسماعهم وأن على أبصارهم غشاوة عَلِمَ سبب ذلك كله وبطل العجب، فالجملة استئناف بياني يفيد جواب سائل يسأل عن سبب كونهم لا يؤمنون، وموقع هذه الجملة في نظم الكلام مقابل موقع جملة**{ أولئك على هدى من ربهم }** البقرة 5 فلهذه الجملة مكانة بين ذم أصحابها بمقدار ما لتلك من المكانة في الثناء على أربابها. والختم حقيقته السد على الإناء والغلقُ على الكتاب بطين ونحوه مع وضع علامة مرسومة في خاتَم ليمنع ذلك من فتح المختوم، فإذا فُتح علم صاحبه أنه فتح لفسادٍ يظهر في أثر النقش وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً لذلك، وقد كانت العرب تختم على قوارير الخمر ليصلحها انحباس الهواء عنها وتسلم من الأقذار في مدة تعتيقها. وأما تسمية البلوغ لآخِر الشيء ختماً فلأن ذلك الموضع أو ذلك الوقت هو ظرف وَضع الختم فيسمى به مجازاً. والخاتَم بفتح التاء الطين الموضوع على المكان المختوم، وأطلق على القالَب المنقوش فيه علامة أو كتابة يطبع بها على الطين الذي يختم به. وكان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم " محمد رسول الله ". وطينُ الختم طين خاص يشبه الجبس يبل بماء ونحوه ويشد على الموضع المختوم فإذا جف كان قوي الشد لا يُقلع بسهولة وهو يكون قِطَعاً صغيرة كل قطعة بمقدار مضغة وكانوا يجعلونه خواتيم في رقاب أهل الذمة قال بشار | **ختم الحب لها في عُنقي موضعَ الخاتَم من أهل الذِّمَم** | | | | --- | --- | --- | والغِشاوة فِعالة من غشاه وتغشاه إذا حجبه ومما يصاغ له وزن فِعالة بكسر الفاء معنى الاشتمال على شيء مثل العِمامة والعِلاوة واللِّفافة. وقد قيل إن صوغ هذه الزنة للصناعات كالخِياطة لما فيها من معنى الاشتمال المجازي ومعنى الغشاوة الغطاء. وليس الختم على القلوب والأسماع ولا الغشاوة على الأبصار هنا حقيقة كما توهمه بعض المفسرين فيما نقله ابن عطية بل ذلك جار على طريقة المجاز بأن جعل قلوبهم أي عقولهم في عدم نفوذ الإيمان والحق والإرشاد إليها، وجعل أسماعهم في استكاكها عن سماع الآيات والنذر، وجعل أعينهم في عدم الانتفاع بما ترى من المعجزات والدلائل الكونية، كأنها مختوم عليها ومغشًّى دونها إما على طريقة الاستعارة بتشبيه عدم حصُول النفع المقصود منها بالختم والغشاوة ثم إطلاق لفظ خَتَم على وجه التبعية ولفظ الغشاوة على وجه الأصلية وكلتاهما استعارة تحقيقية إلا أن المشبه محقق عقلاً لا حساً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولك أن تجعل الختم والغشاوة تمثيلاً بتشبيه هيئة وهمية متخيلة في قلوبهم أي إدراكهم من التصميم على الكفر وإمساكهم عن التأمل في الأدلة - كما تقدم - بهيئة الختم، وتشبيه هيئة متخيلة في أبصارهم من عدم التأمل في الوحدانية وصدق الرسول بهيئة الغشاوة وكل ذينك من تشبيه المعقول بالمحسوس، ولك أن تجعل الختم والغشاوة مجازاً مرسلاً بعلاقة اللزوم والمراد اتصافهم بلازم ذلك وهو أن لا تعقل ولا تحس، والختم في اصطلاح الشرع استمرار الضلالة في نفس الضال أو خلق الضلالة، ومثله الطبع، والأكنة. والظاهر أن قوله { وعلى سمعهم } معطوف على قوله { قلوبهم } فتكون الأسماع مختوماً عليها وليس هو خبراً مقدماً لقوله { غشاوة } فيكون { وعلى أبصارهم } معطوفاً عليه لأن الغشاوة تناسب الأبصار لا الأسماع ولأن الختم يناسب الأسماع كما يناسب القلوب إذ كلاهما يشبه بالوعاء ويتخيل فيه معنى الغلق والسد، فإن العرب تقول استكَّ سمعه ووقر سمعه وجعلوا أصابعهم في آذانهم. والمراد من القلوب هنا الألباب والعقول، والعرب تطلق القلب على اللحمة الصنوبرية، وتطلقه على الإدراك والعقل، ولا يكادون يطلقونه على غير ذلك بالنسبة للإنسان وذلك غالب كلامهم على الحيوان، وهو المراد هنا، ومقره الدماغ لا محالة ولكن القلب هو الذي يمده بالقوة التي بها عمل الإدراك. وإنما أفرد السمع ولم يجمع كما جمع قلوبهم وأبصارهم إما لأنه أريد منه المصدر الدال على الجنس، إذ لا يطلق على الآذان سمع ألا ترى أنه جمع لما ذكر الآذان في قوله**{ يجعلون أصابعهم في أذانهم }** البقرة 19 وقوله**{ وفي آذاننا وقر }** فصلت 5 فلما عبر بالسمع أفرد لأنه مصدر بخلاف القلوب والأبصار فإن القلوب متعددة والأبصار جمع بصر الذي هو اسم لا مصدر، وإما لتقدير محذوف أي وعلى حواس سمعهم أو جوارح سمعهم. وقد تكون في إفراد السمع لطيفة روعيت من جملة بلاغة القرآن هي أن القلوب كانت متفاوتة واشتغالها بالتفكر في أمر الإيمان والدين مختلف باختلاف وضوح الأدلة، وبالكثرة والقلة وتتلقى أنواعاً كثيرة من الآيات فلكل عقل حظه من الإدراك، وكانت الأبصار أيضاً متفاوتة التعلق بالمرئيات التي فيها دلائل الوحدانية في الآفاق، وفي الأنفس التي فيها دلالة، فلكل بصر حظه من الالتفات إلى الآيات المعجزات والعبر والمواعظ، فلما اختلفت أنواع ما تتعلقان به جمعت. وأما الأسماع فإنما كانت تتعلق بسماع ما يُلقى إليها من القرآن فالجماعات إذا سمعوا القرآن سمعوه سماعاً متساوياً وإنما يتفاوتون في تدبره والتدبر من عمل العقول فلما اتحد تعلقها بالمسموعات جعلت سمعاً واحداً. وإطلاق أسماء الجوارح والأعضاء إذا أريد به المجاز عن أعمالها ومصادرها جاز في إجرائه على غير المفرد إفراده وجمعه وقد اجتمعا هنا فأما الإطلاق حقيقة فلم يصح، قال الجاحظ في «البيان» " قال بعضهم لغلام له اشتر لي رأس كبشين فقيل له ذلك لا يكون، فقال إذاً فرأسي كبش فزاد كلامه إحالة» وفي «الكشاف» أنهم يقولون ذلك إذا أمن اللبس كقول الشاعر | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **كُلوا في بعضِ بطنكم تَعُّفوا فإنَّ زمانكم زَمَن خَمِيص** | | | | --- | --- | --- | وهو نظير ما قاله سيبويه في باب ما لُفظ به مما هو مثنى كما لفظ بالجمع من نحو قوله تعالى**{ فقد صغت قلوبكما }** التحريم 4 ويقولون ضع رحالهما وإنما هما اثنان وهو خلاف كلام الجاحظ وقد يكون ما عده الجاحظ على القائل خطأً لأن مثل ذلك القائل لا يقصد المعاني الثانية فحمل كلامه على الخطأ لجهله بالعربية ولم يحمل على قصد لطيفة بلاغية بخلاف ما في البيت فضلاً عن الآية كقول علي رضي الله عنه لمن سأله حين مرت جنازة من المتوفي بصيغة اسم الفاعل فقال له علي «الله» لأنه علم أنه أخطأ أراد أن يقول المتوفى وإلا فإنه يصح أن يقال توفى فلان بالبناء للفاعل فهو متوف أي استوفى أجله، وقد قرأ عليُّ نفسه قوله تعالى { والذين يَتوفون منكم } بصيغة المبني للفاعل. وبعد كون الختم مجازاً في عدم نفوذ الحق لعقولهم وأسماعهم وكون ذلك مسبباً لا محالة عن إعراضهم ومكابرتهم أسند ذلك الوصف إلى الله تعالى لأنه المقدِّر له على طريقة إسناد نظائر مثل هذا الوصف في غير ما آية من القرآن نحو قوله**{ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم }** النحل 108 وقوله**{ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا }** الكهف 28 ونظائر ذلك كثيرة في القرآن كثرة تنبو عن التأويل ومحملها عندنا على التحقيق أنها واردة على اعتبار أن كل واقع هو بقدر الله تعالى وأن الله هدى ووفق بعضاً، وأضل وخذل بعضاً في التقدير والتكوين، فلا ينافي ذلك ورود الآية ونظائرها في معنى النعي على الموصوفين بذلك والتشنيع بحالهم لأن ذلك باعتبار ما لهم من الميل والاكتساب، وبالتحقيق القدرة على الفعل والترك التي هي دون الخلق، فالله تعالى قدَّر الشرور وأوجد في الناس القدرة على فعلها ولكنه نهاهم عنها لأنه أوجد في الناس القدرة على تركها أيضاً، فلا تعارض بين القدَر والتكليف إذ كلٌّ راجع إلى جهة خلاف ما توهمته القدرية فنفوا القدَر وهو التقدير والعلم وخلاف ما توهمته المعتزلة من عدم تعلق قدرة الله تعالى بأفعال المكلفين ولا هي مخلوقة له وإنما المخلوق له ذواتهم وآلات أفعالهم، ليتوسلوا بذلك إلى إنكار صحة إسناد مثل هاته الأفعال إلى الله تعالى تنزيهاً له عن إيجاد الفساد، وتأويلِ ما ورد من ذلك على أن ذلك لم يغن عنهم شيئاً لأنهم قائلون بعلمه تعالى بأنهم سيفعلون وهو قادر على سلب القُدَر منهم فبتركه إياهم على تلك القُدرة إمهال لهم على فعل القبيح وهو قبيح، فالتحقيق ما ذهب إليه الأشاعرة وغيرهم من أهل السنة أن الله هو مقدر أفعال العباد إلا أن فِعْلها هو من العبد لا من الله وهو الذي أفصح عنه إمام الحرمين وأضرابُه من المحققين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولا يرد علينا أنه كيف أقدرهم على فعل المعاصي؟ لأنه يَرد على المعتزلة أيضاً أنه كيف عَلم بعد أن أقدرهم بأنهم شارعون في المعاصي ولم يسلب عنهم القدرة؟ فكان مذهب الأشاعرة أسعد بالتحقيق وأجرى على طريق الجمع بين ما طفح به الكتاب والسنة من الأدلة. ولنا فيه تحقيق أعلى من هذا بسطناه في «رسالة القدرة والتقدر» التي لما تظهر. وإسناد الختم المستعمل مجازاً إلى الله تعالى للدلالة على تمكن معنى الختم من قلوبهم وأن لا يرجى زواله كما يقال خِلقةٌ في فلان، والوصف الذي أودعه الله في فلان أوأعطاه فلاناً، وفرق بين هذا الإسناد وبين الإسناد في المجاز العقلي لأن هذا أريد منه لازم المعنى والمجازَ العقلي إنما أسند فيه فعل لغير فاعله لملابسة، والغالب صحة فرض الاعتبارين فيما صلح لأحدهما وإنما يرتكب ما يكون أصلح بالمقام. وجملة { وعلى سمعهم } معطوفة على قوله { وعلى قلوبهم } بإعادة الجار لزيادة التأكيد حتى يكون المعطوف مقصوداً لأن على مؤذنة بالمتعلق فكأنَّ { خَتَم } كُرر مرتين. وفيه ملاحظة كون الأسماع مقصودة بالختم إذ ليس العطف كالتصريح بالعامل. وليس قوله { وعلى سمعهم } خبراً مقدماً لغشاوة لأن الأسماع لا تناسبها الغشاوة وإنما يناسبها السد ألا ترى إلى قوله تعالى**{ وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة }** الجاثية 23 ولأن تقديم قوله { وعلى أبصارهم } دليل على أنه هو الخبر لأن التقديم لتصحيح الابتداء بالنكرة فلو كان قوله { وعلى سمعهم } هو الخبر لاستغنى بتقديم أحدهما وأبقى الآخر على الأصل من التأخير فقيل وعَلى سمعهم غشاوة وعلى أبصارهم. وفي تقديم السمع على البصر في مواقعه من القرآن دليل على أنه أفضل فائدة لصاحبه من البصر فإن التقديم مؤذن بأهمية المقدم وذلك لأن السمع آلة لتلقي المعارف التي بها كمال العقل، وهو وسيلة بلوغ دعوة الأنبياء إلى أفهام الأمم على وجه أكمل من بلوغها بواسطة البصر لو فقد السمع، ولأن السمع ترد إليه الأصوات المسموعة من الجهات الست بدون توجه، بخلاف البصر فإنه يحتاج إلى التوجه بالالتفات إلى الجهات غير المقابلة. { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }. العذاب الألم، وقد قيل إن أصله الإعذاب مصدر أعذب إذا أزال العذوبة لأن العذاب يزيل حلاوة العيش فصيغ منه اسم مصدر بحذف الهمزة، أو هو اسم موضع للألم بدون ملاحظة اشتقاق من العذوبة إذ ليس يلزم مصير الكلمة إلى نظيرتها في الحروف. ووصف العذاب بالعظيم دليل على أن تنكير عذاب للنوعية وذلك اهتمام بالتنصيص على عظمه لأن التنكير وإن كان صالحاً للدلالة على التعظيم إلا أنه ليس بنص فيه ولا يجوز أن يكون { عظيم } تأكيداً لما يفيده التنكير من التعظيم كما ظنه صاحب «المفتاح» لأن دلالة التنكير على التعظيم غير وضعية، والمدلولات غير الوضعية يستغني عنها إذا ورد ما يدل عليها وضعاً فلا يعد تأكيداً. والعذاب في الآية، إما عذاب النار في الآخرة، وإما عذاب القتل والمسغبة في الدنيا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ)
قوله تعالى { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } الآية - لا يخفى أن الواو في قوله { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ } محتملة في الحرفين أن تكون عاطفة على ما قبلها، وأن تكون استئنافية. ولم يبين ذلك هنا، ولكن بين في موضع آخر أن قوله { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } معطوف على قوله { عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } وأن قوله { وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ } استئناف، والجار والمجرور خبر المبتدأ الذي هو { غِشَاوَةٌ } وسوغ الابتداء بالنكرة فيه اعتمادها على الجار والمجرور قبلها. ولذلك يجب تقديم هذا الخبر، لأنه هو الذي سوغ الابتداء بالمبتدأ كما عقده في الخلاصة بقوله | **ونحو عندي درهم ولي وطر ملتزم فيه تقدُّم الخبر** | | | | --- | --- | --- | فتحصل أن الختم على القلوب والأسماع، وأن الغشاوة على الأبصار، وذلك في قوله تعالى**{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً }** الجاثية 23. والختم الاستيثاق من الشيء حتى لا يخرج منه داخل فيه ولا يدخل فيه خارج عنه، والغشاوة الغطاء على العين يمنعها من الرؤية، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص | **هويتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها** | | | | --- | --- | --- | وعلى قراءة من نصب " غشاوة " فهي منصوبة بفعل محذوف أي وجعل على أبصارهم غشاوة كما في سورة الجاثية، وهو كقوله | **علفتها تبناً وماءاً بارداً حتى شتت همالة عيناها** | | | | --- | --- | --- | وقول الآخر | **ورأيت زوجك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحا** | | | | --- | --- | --- | وقول الآخر | **إذا ما الغانيات برزن يوماً وزججن الحواجب والعيونا** | | | | --- | --- | --- | كما هو معروف في النحو. وأجاز بعضهم كونه معطوفاً على محل المجرور، فإن قيل قد يكون الطبع على الأبصار أيضاً، كما في قوله تعالى في سورة النحل**{ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ }** النحل 108 الآية. فالجواب أن الطبع على الأبصار المذكور في آية النحل هو الغشاوة المذكورة في سورة البقرة والجاثية، والعلم عند الله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
{ ٰ أَبْصَارِهِمْ } { غِشَاوَةٌ } (7) - وَهؤُلاءِ قَدْ تَمَكَّنَ الكُفْرُ مِنْهُمْ حَتَّى أَصْبَحُوا وَكَأَنَّ اللهَ، قّدْ وَضَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ خَتْماً فَأَصْبَحَتْ لاَ يَصِلُ إِلَيهَا شَيءٌ مِنَ الهِدَايَةِ، وَكَأَنَّ اللهَ وَضَعَ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ خَتْماً فَأَصْبَحَتْ لاَ تَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، وَلاَ تَتَأَثَّرُ بِأَسْبَابِ الهِدَايَةِ، وَكَأَنَّ الله تَعَالَى أَلْقَى عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً فَأَفْقَدَهَا القُدْرَةَ عَلَى الرُّؤْيَةِ الوَاضِحَةِ الجَلِيَّةِ، لِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ سَيَسْتَمِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَسَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَباً لاستِحْقَاقِهِم العَذَابَ العَظِيمَ مِنْ رَبِّهِمْ. الخَتْمُ وَالطَّبْعُ والرَّينُ - بِمَعْنىً وَاحِدٍ، وَهُوَ تَغْطِيَةُ الشَّيءِ. الغِشَاوَةُ - الغِطَاءُ والسَّتْرُ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ)
وكما أعطانا الحق سبحانه وتعالى أوصاف المؤمنين يعطينا صفات الكافرين.. وقد يتساءل بعض الناس إذا كان هذا هو حكم الله على الكافرين؟ فلماذا يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان منهم وقد ختم الله على قلوبهم؟! ومعنى الختم على القلب هو حكم بألاّ يخرج من القلب ما فيه من الكفر.. ولا يدخل إليه الإيمان. نقول إن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين.. فإن استغنى بعض خلقه عن الإيمان واختاروا الكفر.. فإن الله يساعده على الاستغناء ولا يعينه على العودة إلى الإيمان.. ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي: **" أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبتُ إليه ذراعاً، وإن تقرَّب إليَّ ذراعا تقرَّبتُ إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ".** وقد وضَّحَ الحديث القدسي أن الله تبارك وتعالى يعين المؤمنين على الإيمان، وأن الله جل جلاله كما يعين المؤمنين على الإيمان.. فإنه لا يهمه أن يأتي العبد إلى الإيمان أو لا يأتي.. ولذلك نجد القرآن دقيقاً ومحكماً بأن مَنْ كفروا قد اختاروا الكفر بإرادتهم. واختيارهم للكفر كان أولاً قبل أن يختم الله على قلوبهم.. والخالق جل جلاله أغنى الشركاء عن الشرك، ومَنْ أشرك به فإنه في غنى عنه. إن الذين كفروا.. أي ستروا الإيمان بالله ورسوله.. هؤلاء يختم الله بكفرهم على آلات الإدراك كلها.. القلب والسمع والبصر. والقلب أداة إدراك غير ظاهرة.. وقد قدم الله القلب على السمع والبصر في تلك الآية لأنه يريد أن يعلمنا منافذ الإدراك.. وفي القرآن الكريم يقول الحق تبارك وتعالى:**{ وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }** [النحل: 78]. وهكذا يعلمنا الله أن منافذ العلم في الإنسان هي: السمع والأبصار والأفئدة، ولكن في الآية الكريمة التي نحن بصددها قدم الله القلوب على السمع والأبصار. إن الله يعلم أنهم اختاروا الكفر.. وكان هذا الاختيار قبل أن يختم الله على قلوبهم.. والختم على القلوب.. معناه أنه لا يدخلها إدراك جديد ولا يخرج منها إدراك قديم.. ومهما رأت العين أو سمعت الأذن.. فلا فائدة من ذلك لأن هذه القلوب مختومة بخاتم الله بعد أن اختار أصحابها الكفر وأصروا عليه.. وفي ذلك يصفهم الحق جل جلاله:**{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }** [البقرة: 18]. ولكن لماذا فقدوا كل أدوات الإدراك هذه؟. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | . لأن الغشاوة التفت حول القلوب الكافرة، فجعلت العيون عاجزة عن تأمل آيات الله.. والسمع غير قادر على التلقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذن فهؤلاء الذين اختاروا الكفر وأصروا عليه وكفروا بالله رغم رسالاته ورسله وقرآنه.. ماذا يفعل الله بهم؟ إنه يتخلى عنهم. ولأنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين فإنه ييسر لهم الطريق الذي مشوا فيه ويعينهم عليه.. واقرأ قوله تبارك وتعالى:**{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }** [الزخرف: 36]. ويقول جل جلاله:**{ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ \* تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ }** [الشعراء: 221-222]. ومن عظمة علم الله تبارك وتعالى أنه يعلم المؤمن ويعلم الكافر.. دون أن يكون جل جلاله تدخُّل في اختيارهم.. فعندما بعث الله سبحانه وتعالى نوحاً عليه السلام.. ودعا نوح إلى منهج الله تسعمائة وخمسين عاماً. وقبل أن يأتي الطوفان علم الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤمن بنوح عليه السلام إلا مَنْ آمن فعلاً، فطلب الله تبارك وتعالى من نوح أن يبني السفينة لينجو المؤمنون من الطوفان.. واقرأ قوله جل جلاله:**{ وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ \* وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ }** [هود: 36-37]. وهكذا نرى أنه من عظمة علم الله سبحانه وتعالى.. أنه يعلم مَنْ سيصر على الكفر وأنه سيموت كافرا.. وإذا كانت هذه هي الحقيقة، فلماذا يطلب الله تبارك وتعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم بالمنهج وبالقرآن؟.. ليكونوا شهداء على أنفسهم يوم القيامة، فلا يأتي هؤلاء الناس يوم المشهد العظيم ويجادلون بالباطل.. إنه لو بلغهم الهدى ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لآمنوا.. ولكن لماذا يختم الله جل جلاله على قلوبهم؟.. لأن القلب هو مكان العقائد.. ولذلك، فإن القضية تناقش في العقل، فإذا انتهت مناقشتها واقتنع بها الإنسان تماماً فإنها تستقر في القلب ولا تعود إلى الذهن مرة أخرى وتصبح عقيدة وإيماناً.. والحق سبحانه وتعالى يقول:**{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ }** [الحج: 46]. وإذا عمى القلب عن قضية الإيمان.. فلا عين ترى آيات الإيمان.. ولا أذن تسمع كلام الله.. وهؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإيمان لهم في الآخرة عذاب عظيم.. ولقد وصف الله سبحانه وتعالى العذاب بأنه أليم، وبأنه مهين، وبأنه عظيم.. العذاب الأليم هو الذي يسبب ألماً شديداً، والعذاب المهين هو الذي يأتي لأولئك الذين رفعهم الله في الدنيا.. وأحيانا تكون الإهانة أشد إيلاماً للنفس من ألم العذاب نفسه.. أولئك الذين كانوا أئمة الكفر في الدنيا.. يأتي بهم الله تبارك وتعالى يوم القيامة أمام مَنْ اتبعوهم فيهينهم.. أما العذاب العظيم فإنه منسوب إلى قدرة الله سبحانه وتعالى.. لأنه بقدرات البشر تكون القوة محدودة.. أما بقدرات الله جل جلاله تكون القوة بلا حدود.. لأن كل فعل يتناسب مع فاعله.. وقدرة الله سبحانه وتعالى عظيمة في كل فعل.. وبما أن العذاب من الله جل جلاله فإنه يكون عذاباً عظيماً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ)
قوله تعالى: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ }.. الآية { عَلَىٰ قُلُوبِهمْ }: متعلّق بخَتَم، و " على سمعهم " يَحْتمل عطفه على قلوبهم وهو الظاهر للتصريح بذلك، أعني نسبةَ الختم إلى السمع في قوله تعالى:**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ }** [الجاثية: 23] ويَحْتمل أن يكونَ خبراً مقدماً وما بعده عَطْفٌ عليه، و " غِشَاوة " مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خبرها ظرفاً أو حرفَ جر تاماً وقُدِّمَ عليها جاز الابتداء بها، ويكون تقديمُ الخبر حينئذٍ واجباً لتصحيحه الابتداء بالنكرة، والآيةُ من هذا القبيل، وهذا بخلافِ قوله تعالى:**{ وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ }** [الأنعام: 2] لأن في تلك الآية مُسوِّغاً آخر وَهو الوصفُ، فعلى الاحتمال الأول يُوقف على " سمعهم " ويُبتدأ بما بعده وهو " وعلى أبصارهم غشاوةٌ " فعلى أبصارهم خبرٌ مقدم وغشاوة مبتدأ مؤخر، وعلى الاحتمال الثاني يُوقف على " قلوبهم " ، وإنما كُرِّر حرفُ الجر وهو " على " ليفيد التأكيدَ أو ليُشْعِرَ ذلك بتغايرِ الختمين، وهو أنَّ خَتْم القلوبِ غيرُ خَتْمِ الأسماعِ. وقد فرَّق النحويون بين: " مررت بزيد وعمرو " وبين: " مررت بزيد وبعمرو " ، فقالوا: في الأول هو مرورٌ واحدٌ وفي الثاني هما مروران، وهو يؤيِّد ما قلته، إلاَّ أن التعليلَ بالتأكيدِ يَشْمل الإِعرابين، أعني جَعْلَ " وعلى سَمْعِهم " معطوفاً على قوله " على قلوبهم " وجَعْلَه خبراً مقدماً، وأمَّا التعليلُ بتغاير الخَتْمين فلا يَجيء إلا على الاحتمالِ الأولِ، وقد يُقال على الاحتمال الثاني إنَّ تكريرَ الحرفِ يُشْعرُ بتغاير الغِشاوتين، وهو أنَّ الغِشاوة على السمع غيرُ الغشاوةِ على البصرِ كما تَقَدَّم ذلك في الخَتْمين. وقُرئ: " غِشاوةً " نصباً، وفيه ثلاثةُ أوجه، الأولُ: على إضمار فعلٍ لائق، أي: وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً، وقد صُرِّح بهذا العامل في قوله تعالى:**{ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً }** [الجاثية: 23]. والثاني: الانتصابُ على إِسقاط حرف الجر، ويكون " وعلى أبصارهم " معطوفاً على ما قبله، والتقدير: ختم الله على قلوبهم وعلى سَمْعهم وعلى أبصارهم بغشاوة، ثم حُذِفَ حرفُ الجر فانتصب ما بعده كقوله: | **148ـ تَمُرُّون الدِّيارَ ولم تَعُوجوا** | | **كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرامُ** | | --- | --- | --- | أي تمرون بالديارِ، ولكنه غيرُ مقيسٍ. والثالث: أن يكونَ " غِشاوةً " اسماً وُضِع موضع المصدر الملاقي لَخَتم في المعنى، لأنَّ الخَتْمَ والتَغْشيَة يشتركانِ في معنى السَِّتر، فكأنه قيل: " وخَتَم تغشيةً " على سبيل التأكيد، فهو من باب " قَعَدْتُ جلوساً " وتكونُ قلوبُهم وسمعهُم وأبصارُهم مختوماً عليها مُغَشَّاةً. وقال الفارسي: " قراءةُ الرفع أَوْلى لأنَّ النصبَ: إمَّا أَنْ تَحْمِلَه على خَتَم الظاهرِ فَيَعْرِضُ في ذلك أنّك حُلْتَ بين حرفِ العطف والمعطوفِ بِهِ، وهذا عِندنا إنما يجوزُ في الشعر، وإمَّا أن تحمِلَه على فِعْلٍ يَدُلُّ عليه " خَتَم " تقديره: وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً، فيجيء الكلامُ من باب: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | **149ـ يا ليتَ زَوجَكَ قد غَدَا** | | **متقلِّداً سيفاً ورُمْحا** | | --- | --- | --- | وقوله: | **150ـ عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً** | | **حتى شَتَتْ هَمَّالةً عَيْناها** | | --- | --- | --- | ولا تكاد تجدُ هذا الاستعمالَ في حالِ سَعَةٍ ولا اختيار ". واستشكل بعضهم هذه العبارةَ، وقال: " لا أَدْري ما معنى قوله: " لأن النصبَ إمَّا أن تحمله على خَتَم الظاهر " ، وكيف تَحْمِل " غشاوةً " المنصوبَ على " ختم " الذي هو فعل وهذا ما لا حَمْلَ فيه؟ ". ثم قال: " اللهم إلا أن يكونَ أراد أنَّ قوله تعالى { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } دعاءٌ عليهم لا خبرٌ، ويكون غشاوةً في معنى المصدر المَدْعُوِّ به عليهم القائم مقامَ الفعلِ فكأنه قيل: وغَشَّى الله على أبصارهم، فيكون إذ ذاك معطوفاً على " خَتَم " عَطْفَ المصدر النائبِ منابَ فعلِهِ في الدعاء، نحو: " رَحِمَ الله زيداً وسقياً له " ، فتكونُ إذ ذاكَ قد حُلْتَ بين " غشاوة " المعطوفِ وبين " ختم " المعطوفِ عليه بالجار والمجرور " انتهى، وهو تأويلٌ حسنٌ، إلا أن فيه مناقشةً لفظيةً، لأن الفارسي ما ادَّعى الفصلَ بين المعطوف والمعطوفِ عليه إنما ادَّعى الفصلَ بين حرف العطف والمعطوف به أي بالحرفِ، فتحرير التأويلِ أنْ يقال: فيكونُ قد حُلْتَ بين غشاوة وبين حرفِ العطفِ بالجارِّ والمجرور. وقُرئ " غشاوة " بفتح العين وضَمِّها، و " عشاوة " بالمهملة. وأصوبُ القراءاتِ المشهورةُ، لأن الأشياءَ التي تَدُلُّ على الاشتمالِ تجيء أبداً على هذه الزنة كالعِمامة/ والضِمامة والعِصابة. والخَتْمُ لغةً: الوَسْمُ بطابع وغيره و " القلبُ " أصله المصدرُ فسُمُّي به هذا العضوُ، وهو اللَّحْمة الصَّنَوْبَرِيَّة لسُرعة الخواطِر إليه وتردُّدِها، عليه، ولهذا قال: | **151ـ ما سُمِّي القلبُ إلاَّ مِنْ تقلُّبِه** | | **فاحذَرْ على القَلْبِ من قَلْبٍ وتَحْويلِ** | | --- | --- | --- | ولمَّا سُمِّي به هذا العضو التزموا تفخيمه فَرْقاً بينه وبين أصلِه، وكثيراً ما يراد به العقلُ، ويُطلق أيضاً على لُبِّ كلِّ شيء وخالِصِه. والسَّمعُ والسَّماعُ مصدران لسَمِع، وقد يستعمل بمعنى الاستماع، قال: | **152ـ وقد تَوَجَّس رِكْزاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ** | | **بِنَبْأةِ الصوتِ ما في سَمْعِهِ كَذِبُ** | | --- | --- | --- | أي في استماعه، والسِّمْع - بالكسر - الذِّكْرُ الجميل، وهو أيضاً وَلَدُ الذئب من الضبُعِ، وَوُحِّد وإن كان المرادُ به الجَمْعَ كالذين قبله وبعده لأنه مصدرٌ حقيقةً، ولأنه على حذفِ مضافٍ، أي مواضعِ سَمْعِهم، أو يكونُ كَنَى به عن الأذن، وإنما وَحَّدَه لِفَهْمِ المعنى كقوله: | **153ـ كُلُوا في بعض بَطْنِكُم تَعِفُّوا** | | **فإنَّ زمانَكمْ زَمَنٌ خَمِيصُ** | | --- | --- | --- | أي: بطونكم، وَمثلُه: | **154ـ لها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها** | | **فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصليبُ** | | --- | --- | --- | أي: جلودها، ومثله: | **155ـ لا تُنْكِروا القَتْلَ وقد سُبينا** | | **في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شُجِينا** | | --- | --- | --- | وقُرِئَ شاذاً " على أسماعِهم " وهي تؤيِّد هذا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | والأَبْصار: جمعُ بَصَر وهو نور العين التي تُدْرِكُ بِه المرئيَّاتِ، قالوا: وليس بمصدر لجَمْعِه، ولقائلٍ أن يقولَ: جَمْعُه لا يَمْنع كونه مصدراً في الأصل، وإنما سَهَّل جَمْعَه كونُه سُمِّي به نُور العين فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية كما تقدَّم في قلوب جمع قَلْب، وقد قلتم إنه في الأصل مصدرٌ ثم سُمِّي به، ويجوز أن يُكَنْى به عن العين كما كُنِي بالسمع عنى الأذنِ وإن كان السمعُ في الأصلِ مصدراً كما تقدَّم. والغِشاوى الغِطَاءُ، قال: | **156ـ تَبِعْتُك إذ عَيْني عليها غِشاوةٌ** | | **فلمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نفسي أَلومُها** | | --- | --- | --- | وقال: | **157ـ هَلاَّ سألْتِ بني ذُبْيان ما حَسْبي** | | **إذا الدُّخانُ تَغَشَّى الأشْمَطَ البَرِمَا** | | --- | --- | --- | وجَمْعُها غِشَاءٌ، لمَّا حُذِفَتِ الهاءُ قُلِبَتِ الواوُ همزةٍ، وقيل: غَشَاوىٰ مثل أَداوى، قال الفارسي: " ولم أَسمع من الغِشاوة متصرفاً بالواو، وإذا لم يوجَدْ ذلك وكان معناها معنى ما اللامُ منه الياءُ وهو غَشِي يَغْشَىٰ بدليلِ قولِهم: الغِشْيان، والغِشاوة من غَشِيَ كالجِباوَة من جَبَيْت في أنَّ الواو كأنها بدلٌ من الياء، إذ لم يُصَرَّفْ منه فِعْلٌ كما لم يُصَرَّفْ من الجباوة " انتهى. وظاهر عبارتِه أن الواو بدلٌ من الياء، فالياء أصل بدليلِ تصرُّف الفعلِ منها دون مادة الواو، والذي يظهرُ أنَّ لهذا المعنى مادتين: غ ش و، و غ ش ي، ثم تصرَّفوا في إحدى المادتين واستغْنَوا بذلك عن التصرُّف في المادة الأخرى، وهذا أقربُ من ادِّعاء قَلْبِ الواو ياءً من غير سببٍ، وأيضاً فالياءُ أخفُّ من الواو فكيف يَقْلِبون الأخفَّ للأثقل؟ { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }: " لهم " خبرٌ مقدَّمٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و " عذابٌ " مبتدأ مؤخر، و " عظيمٌ " صفته، والخبرُ هنا جائزُ التقدُّم، لأنَّ للمبتدأ مُسَوِّغاً وهو وصفُه، فهو نظير:**{ وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ }** [الأنعام: 2] من حيث الجوازُ. والعَذابُ في الأصل: الاستمرارُ ثم سُمِّيَ به كلُّ استمرارِ ألمٍ، وقيل: أصلُه المنعُ، وهذا هو الظاهرُ، ومنه قيل للماء: عَذْب، لأنه يمنع العطشَ، والعذابُ يمنع من الجريمة. و " عظيمٌ " اسمُ فاعلٍ من عَظُم، نحو: كَريم من كَرُم غيرَ مذهوبٍ به مذهبَ الزمان، وأصله أن تُوصف به الأجرامُ، ثم قد توصفُ به المعاني، وهل هو والكبيرُ بمعنى واحد أو هو فَوْقَ الكبيرِ، لأنَّ العظيمَ يقابِلُ الحقيرَ، والكبيرَ يقابل الصغيرَ، والحقيرَ دونَ الصغيرِ؟ قولان. وفعيل له معانٍ كثيرةٌ، يكون اسماً وصفةً، والاسمُ مفردٌ وجمعٌ، والمفردُ اسمُ معنى واسمُ عينٍ، نحو قميص وظريف وصهيل وكلِيب جمع كَلْب، والصفةُ مفردُ فُعَلَة كعَرِيّ يجمع على عُرَاة، ومفرد فَعَلة كَسِريٍّ يُجْمَعُ على سَراة، ويكون اسمَ فاعل من فَعُل نحو: عظيم مِنَ عظمُ كما تقدم، ومبالغةً في فاعِل نحو: عليم من عالم، وبمعنى أَفْعل كشَمِيط بمعنى أَشْمط ومفعول كجِريح بمعنى مَجْروح، ومُفْعِل كسميع بمعنى مُسْمِع، ومُفْعَل كوليد بمعنى مُولَد، ومُفاعِل كجليس بمعنى مُجالِس، ومُفْتَعِل كبديع بمعنى مُبْتدِع، ومُتَفَعِّل كسَعِير بمعنى مُتَسَعِّر، ومُسْتَفْعِل كمكين بمعنى مُسْتَمْكِن، وفَعْل كرطيب بمعنى رَطِب، وفَعَل كعَجِيب بمعنى عَجَب، وفِعال كصحيح بمعنى صِحاح، وبمعنى الفاعلِ والمفعول كصريخ بمعنى صارخ أو مصروخ، وبمعنى الواحد والجَمْعِ نحو خليط، وجمع فاعِل كغريب جمع غارِب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -)
{ خَتَمَ ٱللَّهُ } أي طبع على قلوبهم وعلى سمعهم { وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } فلا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. قال مجاهد: الختم: الطبعُ، ثبتت الذنوب على القلب فحفَّت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبعُ، والطبعُ الختم، وقد وصف تعالى نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال:**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }** [النساء: 155]، وفي الحديث **" يا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك ".** قال ابن جرير: وقال بعضهم: إن معنى قوله تعالى: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دُعوا إليه من الحق، كما يقال: فلان أصمُّ عن هذا الكلام، إذا امتنع من سماعه ورَفَع نفسه عن تفهمه تكبراً، قال: وهذا لا يصح لأن الله قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم. قلت: وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما ردّه ابن جرير هٰهنا، وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جداً، وما جرّأه على ذلك إلاّ اعتزاله، لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده. ولو فهم قوله تعالى:**{ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ }** [الصف: 5]، وقوله:**{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ }** [الأنعام: 110] وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقاً على تماديهم في الباطل وتركهم الحق - وهذا عدل منه تعالى حسنٌ وليس بقبيح - فلو أحاط علماً بهذا لما قال ما قال. قال ابن جرير: والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى: { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } "** فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذٍ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكره الله في قوله: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |