surah_name
stringclasses
113 values
revelation_type
stringclasses
2 values
ayah
stringlengths
2
1.15k
tafsir_book
stringclasses
84 values
tafsir_content
stringlengths
0
644k
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
أي: بطاعتك وعبادتك، وهم المذكورون في قوله تعالى:**{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ }** [النساء: 69]. { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال الأصفهاني: وإنما ذكر تعالى هذه الجملة لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء ليس هو النعم العامة، بل ذلك نعمة خاصة. ثم إن المراد بالمغضوب عليهم والضالين: كلّ من حاد عن جادة الإسلام من أيّ فرقة ونحلة. وتعيين بعض المفسرين فرقة منهم من باب تمثيل العام بأوضح أفراده وأشهرها، وهذا هو المراد بقول ابن أبي حاتم: لا أعلم بين المفسرين اختلافاً في أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى. فوائد الأولى: يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: " آمين " ومعناه: اللهم استجب، أو كذلك فليكن، أو كذلك فافعل، وليس من القرآن؛ بدليل أنه لم يثبت في المصاحف. والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي عن وائل بن حُجر قال: **" سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } فقال: " آمين " مدّ بها صوته "** ولأبي داود: رفع بها صوته. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وفي الباب عن عليّ وأبي هريرة، وروي عن عليّ وابن مسعود وغيرهم. وعن أبي هريرة قال: **" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }. قال: " آمين " حتى يسمع من يليه من الصف الأول "** رواه أبو داود. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه ".** وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعاً: **" إذا قال - يعني الإمام - ولا الضالين فقولوا: آمين، يجبكم الله ".** الثانية: في ذكر ما اشتملت عليه هذه السورة من العلوم: اعلم أن هذه السورة الكريمة قد اشتملت - وهي سبع آيات - على حمد الله تعالى، وتمجيده، والثناء عليه: بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله والتضرُّع إليه والتبرؤ من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له، وتوحيده بالألوهية، تبارك وتعالى، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم - وهو الدين القويم - وتثبيتهم عليه حتى يُفضِيَ بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين. واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال العلامة الشيخ محمد عبده في تفسيره: الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن. وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها. ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف كقولهم: إن أسرار القرآن في الفاتحة، وأسرار الفاتحة في البسملة، وأسرار البسملة في الباء، وأسرار الباء في نقطتها! فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليهم الرضوان، ولا هو معقول في نفسه، وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلوّ إلى إعدام القرآن خاصته، وهي البيان. قال -: وبيان ما أريد: أن ما نزل القرآن لأجله أمور: أحدها: التوحيد؛ لأن الناس كانوا كلهم وثنيين - وإن كان بعضهم يدّعي التوحيد. ثانيها: وعد من أخذ به، وتبشيره بحسن المثوبة، ووعيد من لم يأخذ به، وإنذاره بسوء العقوبة. والوعد يشمل ما للأمة وما للأفراد، فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما. والوعيد - كذلك - يشمل نقمهما وشقاءهما. فقد وعد الله المؤمنين: بالاستخلاف في الأرض، والعزّة، والسلطان، والسيادة. وأوعد المخالفين: بالخزي والشقاء في الدنيا. كما وعد في الآخرة بالجنة والنعيم وأوعد بنار الجحيم. ثالثها: العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس. رابعها: بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة. خامسها: قصص من وقف عند حدود الله تعالى وأخذ بأحكام دينه، وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهرياً لأجل الاعتبار، واختيار طريق المحسنين. هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن، وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية، والفاتحة مشتملة عليها إجمالا بغير ما شك ولا ريب. فأما التوحيد: ففي قوله:**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [الفاتحة: 2] لأنه ناطق بأن كل حمدٍ وثناءٍ يصدر عن نعمةٍ ما فهو له تعالى، ولا يصح ذلك إلا إذا كان سبحانه مصدر كل نعمة في الكون تستوجب الحمد، ومنها نعمة الخلق والإيجاد والتربية والتنمية. ولم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى فصرّح به بقوله:**{ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [الفاتحة: 2] ولفظ { رَبِّ } ليس معناه المالك والسيد فقط، بل فيه معنى التربية والإنماء. وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في نفسه وفي الآفاق منه عزّ وجلّ. فليس في الكون متصرف بالإيجاد والإشقاء، والإسعاد سواه. ثم إن التوحيد أهم ما جاء لأجله الدين. ولذلك لم يكتف في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه، بل استكمله بقوله:**{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }** [الفاتحة: 5] فاجتث بذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم، وهي اتخاذ أولياء من دون الله تعتقد لهم السطلة الغيبية، يُدعَون لذلك من دون الله، ويستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا، ويتقرب بهم إلى الله زلفى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد ومقارعة المشركين هو تفصيل لهذا الإجمال. وأما الوعد والوعيد: فالأول منهما مطويّ في**{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }** [الفاتحة: 1] فذكرُ الرحمة في اول الكتاب، وهي التي وسعت كل شيء. وعدٌ بالإحسان - لاسيما وقد كررها مرة ثانية - تنبيهاً لنا على أن أمره إيانا بتوحيده وعبادته رحمة منه سبحانه بنا، لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا. وقوله تعالى:**{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }** [الفاتحة: 4] يتضمن الوعد والوعيد معاً، لأن معنى الدين الخضوع، أي: إن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق والسيادة التي لا نزاع فيها، لا حقيقة ولا ادعاء؛ وإن العالم كله يكون فيه خاضعاً لعظمته - ظاهراً وباطناً - يرجو رحمته، ويخشى عذابه؛ وهذا يتضمن الوعد والوعيد. أو معنى الدين الجزاء وهو: إما ثواب للمحسن، وإما عقاب للمسيء، وذلك وعدٌ ووعيد. وزد على ذلك أنه ذكر بعد ذلك**{ ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }** [الفاتحة: 6] وهو الذي من سلكه فاز، ومن تنكبه هلك. وذلك يستلزم الوعد والوعيد. وأما العبادة، فبعد أن ذكرت في مقام التوحيد بقوله:**{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }** [الفاتحة: 5]، أوضح معناها بعض الإيضاح بقوله تعالى:**{ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }** [الفاتحة: 6] أي: إنه قد وضع لنا صراطاً سيبيّنه ويحدده. ويكون مناطُ السعادة في الاستقامة عليه، والشقاء في الانحراف عنه. وهذه الاستقامة عليه هي روح العبادة. ويشبه هذا قوله تعالى:**{ وَٱلْعَصْرِ \* إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ \* إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ }** [العصر: 1-3]. فالتواصي بالحق والصبر هو كمال العبادة بعد التوحيد. والفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها. وروح العبادة هي إشراب القلوب خشية الله، وهيبته، والرجاء لفضله، لا الأعمال المعروفة من فعلٍ وكفٍ وحركات اللسان والأعضاء. فقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة وأحكامها، والصيام وأيامه؛ وكانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا بهذه الأعمال البدنية، وقبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلاً ما؛ وإنما الحركات والأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة. ومخ العبادة الفكر والعبرة. وأما الأخبار والقصص: ففي قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } تصريح بأن هنالك قوما تقدموا، وقد شرع الله شرائع لهدايتهم، وصائح يصيح: ألا فانظروا في الشؤون العامة التي كانوا عليها واعتبروا بها، كما قال تعالى لنبيه يدعوه إلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ }** [الأنعام: 90] حيث بيّن أن القصص إنما هو للعظة والاعتبار. وفي قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } تصريح بأن مَن دون المنعم عليهم فريقان: فريق ضل عن صراط الله، وفريق جاحده، وعاند من يدعو إليه، فكان محفوفاً بالغضب الإلهيّ، والخزي في هذه الحياة الدنيا. وباقي القرآن يفصل لنا في أخبار الأمم هذا الإجمال على الوجه الذي يفيد العبرة، فيشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق، وحال الذين حافظوا عليه وصبروا على ما أصابهم في سبيله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فتبين من مجموع ما تقدم: أن الفاتحة قد اشتملت إجمالاً على الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلاً، فكان إنزالها أولاً موافقاً لسنة الله تعالى في الإبداع. وعلى هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى: " أم الكتاب ". الثالثة: مما صح في فضلها من الأخبار: ما رواه البخاريّ في صحيحه عن أبي سعيد بن المُعَلّى رضي الله عنه قال: **" كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه. فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي. فقال: " ألم يقل الله: { ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم } [الأنفال: 24]؟ " - ثم قال لي: " لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ " ثم أخذ بيدي، فملا أراد أن نخرج، قلت: يا رسول الله ألم تقل: " لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ". قال: " الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ".** وروى الإمام أحمد والترمذيّ بإسناد حسن صحيح عن أبي هريرة، نحوه، غير أن القصة مع أبيّ بن كعب، وفي آخره: **" والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، إنها السبع المثاني "** واستدل بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض، كما هو المحكيّ عن كثير من العلماء منهم: إسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن العربيّ؛ وابن الحضار من المالكية، وذلك بيّن واضح. وروى البخاريّ عن أبي سعيد الخدري قال: **" كنا في مسيرٍ لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحيّ سليم، وإن نفرنا غَيَبٌ فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه بُرقيةٍ. فرقاه، فَبَرَأ، فأمر له بثلاثين شاةً، وسقانا لَبَناً؛ فلما رجع قلنا له: أكنت تُحسن رقيةً، أو كنت ترقِي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب. قلنا: لا تُحْدِثوا شيئاً حتى نأتي، أو نسأل، النبيّ صلى الله عليه وسلم. فلما قدمنا المدينة، ذكرناه للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: " وما كان يُدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم "** وهكذا رواه مسلم وأبو داود. وفي بعض روايات مسلم: أن أبا سعيد الخدريّ هو الذي رقي ذلك السليم - يعني اللديغ، يسمونه بذلك تفاؤلا. وروى مسلم والنسائي عن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه فقال: **" هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم. فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم. فسلّم وقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتَهُمَا نبيّ قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداج (ثلاثاً) غيرُ تمام "** فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي - وقال مرّة فوّض إليّ عبدي - فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل ".** ويكفي من شرح الفاتحة هذا المقدار الجليل، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ
* تفسير كتاب نزهة القلوب/ أبى بكر السجستاني (ت 330هـ)
{ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم }: اليهود. { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }: النصارى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ \* قال أبو جعفر: وهذه الآية نظير الآية الأخرى التـي أخبر الله جل ثناؤه فـيها عن الـمنافقـين بخداعهم الله ورسوله والـمؤمنـين، فقال:**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }** [البقرة: 8] ثم أكذبهم تعالـى ذكره بقوله:**{ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }** [البقرة: 8] وأنهم بقـيـلهم ذلك يخادعون الله والذين آمنوا. وكذلك أخبر عنهم فـي هذه الآية أنهم يقولون للـمؤمنـين الـمصدقـين بـالله وكتابه ورسوله بألسنتهم: آمنا وصدّقنا بـمـحمدٍ وبـما جاء به من عند الله، خداعا عن دمائهم وأموالهم وذراريهم، ودرءا لهم عنها، وأنهم إذا خـلوا إلـى مَرَدَتِهم وأهل العتوّ والشرّ والـخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم علـى مثل الذي هم علـيه من الكفر بـالله وبكتابه ورسوله وهم شياطينهم. وقد دللنا فـيـما مضى من كتابنا علـى أن شياطين كل شيء مردته قالوا لهم: { إِنَّا مَعَكُمْ } أي إنا معكم علـى دينكم، وظهراؤكم علـى من خالفكم فـيه، وأولـياؤكم دون أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم، إنـما نـحن مستهزئون بـالله وبكتابه ورسوله وأصحابه. كالذي: حدثنا مـحمد بن العلاء: قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال حدثنا بشر بن عمار عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس فـي قوله: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } قال: كان رجال من الـيهود إذا لقوا أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم أو بعضهم، قالوا: إنا علـى دينكم، وإذا خـلوا إلـى أصحابهم وهم شياطينهم { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } قال: إذا خـلوا إلـى شياطينهم من يهود الذين يأمرونهم بـالتكذيب، وخلاف ما جاء به الرسول { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } أي إنا علـى مثل ما أنتـم علـيه { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }. حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } أما شياطينهم، فهم رؤوسهم فـي الكفر. حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } أي رؤسائهم وقادتهم فـي الشرّ، قالوا { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة فـي قوله: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } قال: الـمشركون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله عز وجل: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } قال: إذا خلا الـمنافقون إلـى أصحابهم من الكفـار. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، عن شبل بن عبـاد، عن عبد الله بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ قال أصحابهم: من الـمنافقـين والـمشركين. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن عبد الله بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } قال إخوانهم من الـمشركين، { قالُوا إنا مَعَكُم إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }. حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج فـي قوله: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } قال: إذا أصاب الـمؤمنـين رخاء، قالوا: إنا نـحن معكم إنـما نـحن إخوانكم، وإذا خـلوا إلـى شياطينهم استهزءوا بـالـمؤمنـين. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد: شياطينهم: أصحابهم من الـمنافقـين والـمشركين. فإن قال لنا قائل: أرأيت قوله: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } فكيف قـيـل «خـلوا إلـى شياطينهم» ولـم يقل «خـلوا بشياطينهم»؟ فقد علـمت أن الـجاري بـين الناس فـي كلامهم «خـلوت بفلان» أكثر وأفشى من «خـلوت إلـى فلان»، ومن قولك: إن القرآن أفصح البـيان قـيـل: قد اختلف فـي ذلك أهل العلـم بلغة العرب، فكان بعض نـحويـي البصرة يقول: يقال خـلوت إلـى فلان، إذا أريد به: خـلوت إلـيه فـي حاجة خاصة لا يحتـمل إذا قـيـل كذلك إلا الـخلاء إلـيه فـي قضاء الـحاجة. فأما إذا قـيـل: خـلوت به احتـمل معنـيـين: أحدهما الـخلاء به فـي الـحاجة، والآخر: فـي السخرية به، فعلـى هذا القول { وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطينهمْ } لا شك أفصح منه لو قـيـل: «وإذا خـلوا بشياطينهم» لـما فـي قول القائل: «إذا خـلوا بشياطينهم» من التبـاس الـمعنى علـى سامعيه الذي هو منتف عن قوله: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } فهذا أحد الأقوال. والقول الآخر أن توجيه معنى قوله: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } أي إذا خـلوا مع شياطينهم، إذ كانت حروف الصفـات يعاقب بعضها بعضاً كما قال الله مخبراً عن عيسى ابن مريـم أنه قال للـحواريـين:**{ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ }** [آل عمران: 52] يريد مع الله، وكما توضع «علـى» فـي موضع «من» و«فـي» و«عن» و«البـاء»، كما قال الشاعر: | **إذَا رَضِيَتْ عَلـيَّ بَنُو قُشَيْرٍ** | | **لَعَمْرُ اللّهِ أعْجَبَنِـي رِضَاها** | | --- | --- | --- | بـمعنى «عنِّـي». وأما بعض نـحويـي أهل الكوفة فإنه كان يتأوّل أن ذلك بـمعنى: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } وإذا صرفوا خلاءهم إلـى شياطينهم فـيزعم أن الـجالب «إلـى» الـمعنى الذي دل علـيه الكلام: من انصراف الـمنافقـين عن لقاء الـمؤمنـين إلـى شياطينهم خالـين بهم، لا قوله «خـلوا». | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وعلـى هذا التأويـل لا يصلـح فـي موضع «إلـى» غيرها لتغير الكلام بدخول غيرها من الـحروف مكانها. وهذا القول عندي أولـى بـالصواب، لأن لكل حرف من حروف الـمعانـي وجهاً هو به أولـى من غيره، فلا يصلـح تـحويـل ذلك عنه إلـى غيره إلا بحجة يجب التسلـيـم لها. ول«إلـى» فـي كل موضع دخـلت من الكلام حكم وغير جائز سلبها معانـيها فـي أماكنها. القول فـي تأويـل قوله جل ثناؤه: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }. أجمع أهل التأويـل جميعاً لا خلاف بـينهم، علـى أن معنى قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }: إنـما نـحن ساخرون. فمعنى الكلام إذاً: وإذا انصرف الـمنافقون خالـين إلـى مردتهم من الـمنافقـين والـمشركين قالوا: إنا معكم على ما أنتـم علـيه من التكذيب بـمـحمد صلى الله عليه وسلم، وبـما جاء به ومعاداته ومعاداة أتبـاعه، إنـما نـحن ساخرون بأصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي قـيـلنا لهم إذا لقـيناهم**{ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }** [البقرة: 8] كما حدثنا مـحمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس: قالوا: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } ساخرون بأصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }: أي إنـما نـحن نستهزىء بـالقوم ونلعب بهم. حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }: إنـما نستهزىء بهؤلاء القوم ونسخر بهم. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن عبد الله بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } أي نستهزىء بأصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
القراءة: بعض القراء ترك الهمزة من مستهزؤون وقولـه خلوا إلى قراءة أهل الحجاز خَلولى حذفوا الهمزة وألقوا حركتها على الواو قبلها وكذلك أمثاله والباقون أسكنوا الواو وحققوا الهمزة. الحجة: قال سيبويه: الهمزة المضمومة المكسور ما قبلها تجعلها إذا خففتها بين بين وكذلك الهمزة المكسورة إذا كان ما قبلها مضموماً نحو مرتع إبلك تجعلها بين بين. وذهب الأخفش إلى أن تقلب الهمزة ياء في مستهزيون قلباً صحيحاً من أجل الكسرة التي قبلها ولا تجعلها بين بين ولا تقلبها واواً مع تحركها بالضمة لخروجه إلى ما لا نظير له ألا ترى أنه واو مضمومة قبلها كسرة وذلك مرفوض عندهم. اللغة: اللقاء نقيض الحجاب قال الخليل: كل شيء استقبل شيئاً أو صادفه فقد لقيه وأصل اللقاء الاجتماع مع الشيء على طريق المقاربة والاجتماع قد يكون لا على طريق المجاورة كاجتماع العرضين في محل والخلاء نقيض الملاء ويقال خلوت إليه وخلوت معه. ويقال خلوت به على ضربين أحدهما بمعنى خلوت معه والآخر بمعنى سخرت منه وقد ذكرنا معنى الشيطان في مفتتح سورة الفاتحة ويستهزئون أي يهزءون ومثله يستسخرون أي يسخرون وقرَّ واستقرَّ وعلا قرنه واستعلى قرنه ورجل هُزاءَة يهزأ بالناس وهُزْءَة يهزأ به الناس وهذا قياس. الإعراب: إنا أصله إننا لكن النون حذفت لكثرة النونات والمحذوفة النون الثانية من إن لأنها التي تحذف في نحو وإن كل لما جميع وقد جاء على الأصل في قولـه إنني معكما ومعكم انتصب انتصاب الظروف نحو إنا خلفكم أي إنا مستقرون معكم والقراءة بفتح العين ويجوز للشاعر إسكان العين قال: | **وَرِيشي مِنْكُمْ وَهَوَايَ مَعْكُم** | | **وَإِنْ كَانَتْ زِيَارَتُكُمْ لِمامَا** | | --- | --- | --- | المعنى: وإذا لقوا الذين آمنوا يعني أن المنافقين إذا رأوا المؤمنين قالوا آمنا أي صدقنا نحن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم كما صدقتم أنتم وإذا خلوا إلى شياطينهم قيل رؤساؤهم من الكفار عن ابن عباس وقيل هم اليهود الذين أمروهم بالتكذيب وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنهم كَهَّانُهم قالوا إنا معكم أي على دينكم إنما نحن مستهزءون أي نستهزئ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ونسخر بهم في قولنا آمنا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)
هذا هو النوع الرابع من أفعالهم القبيحة، يقال: لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه، وقرأ أبو حنيفة: «وإذا لاقوا» أما قوله: { قَالُواْ ءامَنَّا } فالمراد أخلصنا بالقلب، والدليل عليه وجهان: الأول: أن الإقرار باللسان كان معلوماً منهم فما كانوا يحتاجون إلى بيانه، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب، فيجب أن يكون مرادهم من هذا الكلام ذلك. الثاني: أن قولهم للمؤمنين «آمنا» يجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم، وإذا كانوا يظهرون لهم التكذيب بالقلب فيجب أن يكون مرادهم فيما ذكروه للمؤمنين التصديق بالقلب، أما قوله: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } فقال صاحب «الكشاف»: يقال خلوت بفلان وإليه، وإذا انفردت معه ويجوز أن يكون من «خلا» بمعنى مضى، ومنه القرون الخالية، ومن «خلوت به» إذا سخرت منه، من قولك: «خلا فلان بعرض فلان» أي: يعبث به، ومعناه أنهم أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول: أحمد إليك فلاناً وأذمه إليك. وأما شياطينهم فهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم، أما قوله: { إِنَّا مَعَكُمْ } ففيه سؤالان: السؤال الأول: هذا القائل أهم كل المنافقين أو بعضهم. الجواب: في هذا خلاف، لأن من يحمل الشياطين على كبار المنافقين يحمل هذا القول على أنه من صغارهم وكانوا يقولون للمؤمنين آمنا وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا إنا معكم لئلا يتوهموا فيهم المباينة، ومن يقول في الشياطين: المراد بهم الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كل المنافقين، ولا شبهة في أن المراد بشياطينهم أكابرهم، وهم إما الكفار وإما أكابر المنافقين، لأنهم هم الذين يقدرون على الإفساد في الأرض، وأما أصاغرهم فلا. السؤال الثاني: لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالجملة الإسمية محققة «بأن» الجواب: ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين، لأنهم كانوا في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم في الدرجة الكاملة منه، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة لأن القول الصادر عن النفاق والكراهة قلما يحصل معه المبالغة وإما لعلمهم بأن ادعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين، وأما كلامهم مع إخوانهم فهم كانوا يقولونه عن الاعتقاد وعلموا أن المستمعين يقبلون ذلك منهم، فلا جرم كان التأكيد لائقاً به. أما قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } ففيه سؤالان. السؤال الأول: ما الاستهزاء؟ الجواب: أصل الباب الخفة من الهزء وهو العدو السريع، وهزأ يهزأ مات على مكانه، وناقته تهزأ به أي تسرع، وحدُّه أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية، فعلى هذا قولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنأمن شرهم ونقف على أسرارهم، ونأخذ من صدقاتهم وغنائمهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | السؤال الثاني: كيف تعلق قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } بقوله: { إِنَّا مَعَكُمْ } الجواب: هو توكيد له لأن قوله: { إِنَّا مَعَكُمْ } معناه الثبات على الكفر وقوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } رد للإسلام، ورد نقيض الشيء تأكيد لثباته، أو بدل منه، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر، أو استئناف، كأنهم اعترضوا عليه حين قالوا: إنا معكم، فقالوا إن صح ذلك فكيف توافقون أهل الإسلام؟ فقالوا: إنما نحن مستهزئون. واعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكى عنهم ذلك أجابهم بأشياء. أحدها: قوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } وفيه أسئلة. الأول: كيف يجوز وصف الله تعالى بأنه يستهزىء وقد ثبت أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس، وهو على الله محال، ولأنه لا ينفك عن الجهل، لقوله:**{ قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ }** [البقرة: 67] والجهل على الله محال والجواب: ذكروا في التأويل خمسة أوجه: أحدها: أن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء، لأن جزء الشيء يسمى باسم ذلك الشيء قال تعالى:**{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا }** [الشورى: 40]**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ }** [البقرة: 194]**{ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142]**{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ }** [آل عمران: 54] وقال عليه السلام: **" اللهم إن فلاناً هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فاهجه، اللهم والعنه عدد ما هجاني "** أي أجزه جزاء هجائه، وقال عليه السلام: **" تكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا "** وثانيها: أن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم. وثالثها: أن من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة فذكر الاستهزاء، والمراد حصول الهوان لهم تعبيراً بالسبب عن المسبب. ورابعها: إن استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أحكامه في الدنيا ما لهم عند الله خلافها في الآخرة، كما أنهم أظهروا للنبي والمؤمنين أمراً مع أن الحاصل منهم في السر خلافه، وهذا التأويل ضعيف، لأنه تعالى لما أظهر لهم أحكام الدنيا فقد أظهر الأدلة الواضحة بما يعاملون به في الدار الآخرة من سوء المنقلب والعقاب العظيم، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا. وخامسها: أن الله تعالى يعاملهم معاملة المستهزىء في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه، وأما في الآخرة فقال ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار فتح الله من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة، وأهل الجنة ينظرون إليهم، فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب، فذاك قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ }** [المطففين: 29] إلى قوله:**{ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُون }** [المطففين:34] فهذا هو الاستهزاء بهم. السؤال الثاني: كيف ابتدأ قوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } ولم يعطف على الكلام الذي قبله؟ الجواب: هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة. وفيه أن الله تعالى هو الذي يستهزىء بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم في مقابلته كالعدم، وفيه أيضاً أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله. السؤال الثالث: هل قيل: إن الله مستهزىء بهم ليكون مطابقاً لقوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } الجواب. لأن «يستهزىء» يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتاً بعد وقت، وهذا كانت نكايات الله فيهم:**{ أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ }** [التوبة: 126] وأيضاً فما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار واستشعار حذر من أن تنزل عليهم آية**{ يَحْذَرُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا قُلُوبِهِم في قُلِ ٱسْتَهْزِءواْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ }** [التوبة:64] الجواب الثاني: قوله تعالى: { وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ } [البقرة: 15] قال صاحب الكشاف إنه من مد الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره، وكذلك مد الدواة وأمدها زادها ما يصلحها ومددت السراج والأرض إذا أصلحتهما بالزيت والسماد، ومده الشيطان في الغي، وأمده إذا واصله بالوسواس، ومد وأمد بمعنى واحد. وقال بعضهم: مد يستعمل في الشر، وأمد في الخير قال تعالى:**{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ }** [المؤمنين: 55] ومن الناس من زعم أنه من المد في العمر والإملاء والإمهال وهذا خطأ لوجهين: الأول: أن قراءة ابن كثير، وابن محيصن ونمدهم وقراءة نافع وإخوانهم يمدونهم في الغي يدل على أنه من المدد دون المد. الثاني: أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له، كأملي له. قالت المعتزلة: هذه الآية لا يمكن أجراؤها على ظاهرها لوجوه: أحدها: قوله تعالى: { وَإِخْوٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ } أضاف ذلك الغي إلى إخوانهم، فكيف يكون مضافاً إلى الله تعالى. وثانيها: أن الله تعالى ذمهم على هذا الطغيان فلو كان فعلاً لله تعالى فكيف يذمهم عليه. وثالثها: لو كان فعلاً لله تعالى لبطلت النبوة وبطل القرآن فكان الاشتغال بتفسيره عبثاً. ورابعها: أنه تعالى أضاف الطغيان إليهم بقوله: «في طغيانهم» ولو كان ذلك من الله لما أضافه إليهم، فظهر أنه تعالى إنما أضافه إليهم ليعرف أنه تعالى غير خالق لذلك، ومصداقه أنه حين أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي ولم يقيده بالإضافة في قوله:**{ وَإِخْوٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ }** [الأعراف: 202] إذا ثبت هذا فنقول: التأويل من وجوه: أحدها: وهو تأويل الكعبي وأبي مسلم بن يحيـى الأصفهاني أن الله تعالى لما منحهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مظلمة بتزايد الظلمة فيها وتزايد النور في قلوب المسلمين فسمي ذلك التزايد مدداً وأسنده إلى الله تعالى لأنه مسبب عن فعله بهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وثانيها: أن يحمل على منع القسر والإلجاء كما قيل: إن السفيه إذا لم ينه فهو مأمور. وثالثها: أن يسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده. ورابعاً: ما قاله الجبائي فإنه قال ويمدهم أي يمد عمرهم ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون وهذا ضعيف من وجهين: الأول: لما تبينا أنه لا يجوز في اللغة تفسير ويمدهم بالمد في العمر. الثاني: هب أنه يصح ذلك ولكنه يفيد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في طغيانهم يعمهون وذلك يفيد الإشكال أجاب القاضي عن ذلك بأنه ليس المراد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في الطغيان، بل المراد، أنه تعالى يبقيهم ويلطف بهم في الطاعة فيأبون إلا أن يعمهوا. واعلم أن الكلام في هذا الباب تقدم في قوله: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } فلا فائدة في الإعادة. واعلم أن الطغيان هو الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتو، قال تعالى:**{ إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَاء }** [الحاقة: 11] أي جاوز قدره، وقال:**{ ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ }** [طه: 24] أي أسرف وتجاوز الحد. وقرأ زيد بن علي في طغيانهم بالكسر وهما لغتان كلقيان ولقيان، والعمه مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي والعمه في الرأي خاصة، وهو التردد والتحير لا يدري أين يتوجه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)
قوله تعالى: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } أنزلت هذه الآية في ذكر المنافقين. أصل لَقُوا: لَقِيُوا، نُقلت الضمة إلى القاف وحُذفت الياء لالتقاء الساكنين. وقرأ محمد بن السَّمَيْقَع اليماني: «لاقوا الذين آمنوا». والأصل لاقيوا، تحرّكت الياء وقبلها فتحة ٱنقلبت ألفاً، ٱجتمع ساكنان الألف والواو فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ثم حُرّكت الواو بالضم. وإن قيل: لم ضُمّت الواو في لاقُوا في الإدراج وحُذفت من لَقُوا؟ فالجواب: أن قبل الواو التي في لَقُوا ضمة فلو حركت الواو بالضم لثقل على اللسان النطق بها فحذفت لثقلها، وحُركت في لاقوا لأن قبلها فتحة. قوله تعالى: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكْمْ } إن قيل: لم وُصلت «خَلَوْا» بـ «إلى» وعُرْفها أن توصل بالباء؟ قيل له: «خلوْا» هنا بمعنى ذهبوا وٱنصرفوا ومنه قول الفَرَزْدَق: | **كيف تَرانِي قالباً مِجَنِّي** | | **أضْرِبُ أمْرِي ظهرَه لبَطْنِ** | | --- | --- | --- | | **قد قتل الله زِياداً عَنِّي** | | | لما أنزله منزلة صَرَفَ. وقال قوم: «إلى» بمعنى مع وفيه ضعف. وقال قوم: «إلى» بمعنى الباء وهذا يأباه الخليل وسيبويه. وقيل: المعنى وإذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم فـ «إلى» على بابها. والشياطين جمع شيطان على التكسير وقد تقدم القول في ٱشتقاقه ومعناه في الاستعاذة. وٱختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا فقال ٱبن عباس والسُّدِّي: هم رؤساء الكفر. وقال الكلبي: هم شياطين الجن. وقال جمع من المفسرين: هم الكهان. ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الإيمان والخير يعم جميع من ذكر. والله أعلم. قوله تعالى: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أي مكذبون بما ندعى إليه. وقيل: ساخرون. والهزء: السخرية واللعب يقال: هَزِىء به وٱستهزأ قال الراجز: | **قد هَزِئت مِنّي أمُّ طَيْسَلَهْ** | | **قالت أراه مُعدماً لا مال لَهْ** | | --- | --- | --- | وقيل: أصل الاستهزاء: الانتقام كما قال الآخر: | **قد ٱستهزءوا منهم بألفَيْ مُدجّجٍ** | | **سَرَاتُهُم وسْطَ الصَّحَاصح جُثّمُ** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا } بيان لمعاملتهم المؤمنين والكفار، وما صدرت به القصة فمساقه لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير. روي أن ابن أبيّ وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة، فقال لقومه: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال: مرحباً بالصديق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال: مرحباً بسيد بني عدي الفاروق القوي في دينه، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد علي رضي الله عنه فقال: مرحباً بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه سيد بني هاشم، ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت. واللقاء المصادفة يقال؛ لقيته ولاقيته، إذا صادفته واستقبلته، ومنه ألقيته إذا طرحته فإنك بطرحه جعلته بحيث يلقى. { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } من خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه. أو من خلاك ذَمٌّ أي عداك ومضى عنك، ومنه القرون الخالية. أو من خلوت به إذا سخرت منه، وعدي بإلى لتضمن معنى الإنهاء، والمراد بشياطينهم الذين ماثلوا الشيطان في تمردهم، وهم المظهرون كفرهم، وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر. أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم. وجعل سيبويه نونه تارة أصلية على أنه من شطن إذا بعد فإنه بعيد عن الصلاح، ويشهد له قولهم: تشيطن. وأخرى زائدة على أنه من شاط إذا بطل، ومن أسمائه الباطل. { قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ } أي في الدين والاعتقاد، خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية، والشياطين بالجملة الإسمية المؤكدة بإن لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان، وبالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه، ولأنه لم يكن لهم باعث من عقيدة وصدق رغبة فيما خاطبوا به المؤمنين، ولا توقع رواج ادعاء الكمال في الإيمان على المؤمنين من المهاجرين والأنصار بخلاف ما قالوه مع الكفار. { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } تأكيد لما قبله، لأن المستهزىء بالشيء المستخف به مُصِرٌّ على خلافه. أو بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر. أو استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم لما (قالوا إنا معكم) إن صح ذلك فما بالكم توافقون المؤمنين وتدعون الإيمان فأجابوا بذلك. والاستهزاء السخرية والاستخفاف يقال: هزئت واستهزأت بمعنى كأجبت واستجبت، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع يقال: هزأ فلان إذا مات على مكانه، وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ)
يقول تعالى وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا آمنا، وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة غروراً منهم للمؤمنين، ونفاقاً ومصانعة وتقية، وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } يعني إذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم، فضمن خلوا معنى انصرفوا لتعديته بإلى ليدل على الفعل المضمر، والفعل الملفوظ به. ومنهم من قال «إلى» هنا بمعنى «مع» والأول أحسن، وعليه يدور كلام ابن جرير. وقال السدي عن أبي مالك خلوا يعني مضوا، وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم ورؤساؤهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين. قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } يعني هم رؤساؤهم في الكفر. وقال الضحاك عن ابن عباس وإذا خلوا إلى أصحابهم، وهم شياطينهم. وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } من يهود، الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين. وقال قتادة { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } قال إلى رؤوسهم وقادتهم في الشرك والشر. وبنحو ذلك فسره أبو مالك وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس. قال ابن جرير وشياطين كل شيء مردته، ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تعالى**{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِىٍّ عَدُوّاً شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً }** الأنعام 112 وفي المسند عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن "** فقلت يا رسول الله أوَ للإنس شياطين؟ قال **" نعم "** وقوله { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، أي إنا على مثل ما أنتم عليه { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } أي إنما نحن نستهزىء بالقوم، ونلعب بهم. وقال الضحاك عن ابن عباس قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك قال الربيع بن أنس وقتادة. وقوله تعالى جواب ومقابلة على صنيعهم { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ } وقال ابن جرير أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى**{ يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ }** الحديد 13 الآية، وقوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً }** آل عمران 178 الآية، قال فهذا وما أشبهه من استهزاء الله - تعالى ذكره - وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ومتأول هذا التأويل. قال وقال آخرون بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه والكفر به. قال وقال آخرون هذا وأمثاله على سبيل الجواب كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به أنا الذي خدعتك، ولم يكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذا صار الأمر إليه. قالوا وكذلك قوله تعالى**{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ }** آل عمران 54 و { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء. والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم. وقال آخرون قوله تعالى { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } وقوله**{ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** النساء 142 وقوله**{ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ }** التوبة 79 و**{ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ }** التوبة 67، وما أشبه ذلك إخبار من الله تعالى أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج خبره عن جزائه إياهم، وعقابه لهم، مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى**{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ }** الشورى 40 وقوله تعالى**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ }** البقرة 194 فالأول ظلم، والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظهما، فقد اختلف معناهما، قال وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك. قال وقال آخرون إن معنى ذلك أن الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم مستهزئون، فأخبر تعالى أنه يستهزى بهم، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا، يعني من عصمة دمائهم وأموالهم، خلاف الذي عنده في الآخرة، يعني من العذاب والنكال. ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عز وجل بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك. قال وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس حدثنا أبو كريب حدثنا أبو عثمان حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } قال يسخر بهم للنقمة منهم، وقوله تعالى { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمدهم يملي لهم. وقال مجاهد يزيدهم، وقال تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ }** المؤمنون 55 - 56 وقال**{ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ }** الأعراف 182 قال بعضهم كلما أحدثوا ذنباً، أحدث لهم نعمة، وهي في الحقيقة نقمة. وقال تعالى**{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }** الأنعام 44 - 45 قال ابن جرير والصواب نزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم كما قال تعالى**{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }** الأنعام 110 والطغيان هو المجاوزة في الشيء كما قال تعالى**{ إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَـٰكُمْ فِى ٱلْجَارِيَةِ }** الحاقة 11 وقال الضحاك عن ابن عباس في طغيانهم يعمهون في كفرهم يترددون، وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة، وبه يقول أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس ومجاهد وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد في كفرهم وضلالتهم. قال ابن جرير والعمه الضلال. يقال عمه فلان، يعمه عمها وعموهاً إذا ضل، قال وقوله في طغيانهم يعمهون في ضلالتهم، وكفرهم الذي غمرهم دنسه، وعلاهم رجسه، يترددون حيارى ضلالاً، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً لأن الله قد طبع على قلوبهم، وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى، وأغشاها، فلا يبصرون رشداً، ولا يهتدون سبيلاً. وقال بعضهم العمى في العين، والعمه في القلب، وقد يستعمل العمى في القلب أيضاً قال تعالى**{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ }** الحج 46 وتقول عمه الرجل يعمه عموهاً، فهو عمه وعامه، وجمعه عمه، وذهبت إبله العمهاء إذا لم يدر أين ذهبت. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
{ وَإِذَا لَقُواْ } أصله لقيوا حذفت الضمة للاستثقال ثم( الياء ) لالتقائها ساكنة مع الواو { ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ } منهم ورجعوا { إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ } رؤسائهم { قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ } في الدين { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } بهم بإظهار الإيمان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ)
{ لَقُواْ } أصله لقيوا، نقلت الضمة إلى القاف، وحذفت الياء، لالتقاء الساكنين. ومعنى لقيته ولاقيته استقبلته قريباً. وقرأ محمد بن السميفع اليماني، وأبو حنيفة " لاقوا " ، وأصله لاقيوا تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. وخلوت بفلان وإليه إذا انفردت به. وإنما عدي بإلى، وهو يتعدى بالباء فيقال خلوت به لا خلوت إليه لتضمنه معنى ذهبوا وانصرفوا. والشياطين جمع شيطان على التكسير. وقد اختلف كلام سيبويه في نون الشيطان، فجعلها في موضع من كتابه أصلية، وفي آخر زائدة، فعلى الأوّل هو من شطن، أي بعد عن الحق، وعلى الثاني من شطّ، أي بعد أو شاط أي بطل، وشاط، أي احترق، وأشاط إذا هلك قال الشاعر | **وقد يَشِيطُ علىَ أرمَاحِنا البَطَلُ** | | | | --- | --- | --- | أي يهلك. وقال آخر | **وأبْيَضِ ذي تاجٍ أشَاطَت رِمَاحنُا لمَعْتَركٍ بين الفوَارِس أقتمَا** | | | | --- | --- | --- | أي أهلكت. وحكي سيبويه أن العرب تقول تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشياطين. ولو كان من شاط لقالوا تشيط، ومنه قول أمية بن أبي الصلت | **أيما شاطن عصاه عكا ه ورماه في السجن والأغلال** | | | | --- | --- | --- | وقوله { إِنَّا مَعَكُمْ } معناه مصاحبوكم في دينكم، وموافقوكم عليه. والهزؤ السخرية واللعب. قال الراجز | **قد هَزِئَتْ مني أُم طيْسلَه قَالَت أرَاهُ مُعْدمَاً لا مَال لَهُ** | | | | --- | --- | --- | قال في الكشاف وأصل الباب الخفة، من الهزء، وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ مات على المكان. عن بعض العرب مشيت فلغبت فظننت لأهزأنّ على مكاني. وناقته تهزأ به، أي تسرع وتخفّ. انتهى. وقيل أصله الانتقام. قال الشاعر | **قد استهزءوا منهم بألفي مدجج سراتهم وسط الصحاصح جثم** | | | | --- | --- | --- | فأفاد قولهم { إِنَّا مَعَكُمْ } أنهم ثابتون على الكفر، وأفاد قولهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } ردّهم للإسلام ورفعهم للحق، وكأنه جواب سؤال مقدّر ناشىء من قولهم { إنا معكم } أي إذا كنتم معنا فما بالكم إذا لقيتم المسلمين وافقتموهم؟ فقالوا إنما نحن مستهزءون بهم في تلك الموافقة، ولم تكن بواطننا موافقة لهم ولا مائلة إليهم، فردّ الله ذلك عليهم بقوله { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } أي ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخفّ بهم انتصافاً منهم لعباده المؤمنين، وإنما جعل سبحانه ما وقع منه استهزاء مع كونه عقوبة ومكافأة مشاكلة. وقد كانت العرب إذا وضعت لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاء ذكرته بمثل ذلك اللفظ وإن كان مخالفاً له في معناه. وورد ذلك في القرآن كثيراً، ومنه**{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا }** الشورى 40**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ }** البقرة 194 والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق، ومنه**{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ }** آل عمران 54 و | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً }** الطارق 15 ــ 16**{ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا }** البقرة 9**{ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** النساء 142**{ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ }** المائدة 116. وهو في السنة كثير كقوله صلى الله عليه وسلم **" إن الله لا يملّ حتى تملوا "** وإنما قال { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } لأنه يفيد التجدّد وقتاً بعد وقت، وهو أشدّ عليهم وأنكأ لقلوبهم، وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت، المستفاد من الجملة الإسمية، لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتاً بعد وقت، والمتجددة حيناً بعد حين، أشدّ على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمرّ لأنه يألفه، ويوطن نفسه عليه. والمدّ الزيادة. قال يونس بن حبيب يقال مدّ في الشر، وأمدّ في الخير، ومنه**{ وَأَمْدَدْنَـٰكُم بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ }** الإسراء 6**{ وَأَمْدَدْنَـٰهُم بِفَـٰكِهَةٍ وَلَحْمٍ }** الطور 22. وقال الأخفش مددت له إذا تركته، وأمددته إذا أعطيته. وقال الفراء واللحياني مددت فيما كانت زيادته من مثله، يقال مدّ النهر، ومنه**{ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ }** لقمان 27 وأمددت فيما كانت زيادته من غيره، ومنه**{ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ }** آل عمران 125 والطغيان مجاوزة الحدّ، والغلوّ في الكفر، ومنه**{ إِنَّا لَمَّا طَغَىٰ ٱلْمَاء }** الحاقة 11 أي تجاوز المقدار الذي قدّرته الخُزَّان. وقوله في فرعون**{ إِنَّهُ طَغَىٰ }** طه 24، 43 أي أسرف في الدعوى حيث قال**{ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأعْلَىٰ }** النازعات 24. والعمه والعامه الحائر المتردد، وذهبت إبله لعمهى إذا لم يدر أين ذهبت، والعمه في القلب كالعمى في العين. قال في الكشاف العمه مثل العمى، إلا أن العمى في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة انتهى. والمراد أن الله سبحانه يطيل لهم المدّة ويمهلهم كما قال**{ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً }** آل عمران 178. قال ابن جرير { فِي طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ } في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى ضلالاً يجدون إلى المخرج منه سبيلاً، لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً. وقد أخرج الواحدي والثعلبي بسند واه، لأن فيه محمد بن مروان وهو متروك، عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وذكر قصة وقعت لهم مع أبي بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعضهم قالوا إنا على دينكم { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } وهم إخوانهم قالوا { إِنَّا مَعَكُمْ } على مثل ما أنتم عليه { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } بأصحاب محمد { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } قال يسخر بهم للنقمة منهم { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } قال في كفرهم { يَعْمَهُونَ } قال يتردّدون. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه بمعناه وأطول منه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه بنحو الأوّل. وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود في قوله { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } قال رؤسائهم في الكفر. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك قال { وَإِذَا خَلَوْاْ } أي مضوا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحو ما قاله ابن مسعود، وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { وَيَمُدُّهُمْ } قال يملي لهم { فِي طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال في كفرهم يتمادون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما قاله ابن مسعود في تفسير يعمهون. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد { يمدهم } يزيدهم { فِي طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال يلعبون ويتردّدون في الضلالة. وأخرج أحمد في المسند عن أبي ذرّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" نعوذ بالله من شياطين الإنس والجنّ "** فقلت يا رسول الله وللإنس شياطين؟ قال **" نعم ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ)
ثم قال تعالى { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا } نزلت هذه الآية في ذكر المنافقين منهم عبد الله بن أبي بن سلول وجد بن قيس، ومعتب بن قشير وغيرهم وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - مروا بقوم من المنافقين. فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: انظروا كيف أرد هؤلاء الجهال عنكم فتعلموا مني كيف أكلمهم، فأخذ بيد أبي بكر، وقال: مرحباً بسيد بني تميم، وثاني اثنين وصاحبه في الغار، وصفيه من أمته، الباذل نفسه وماله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أخذ بيد عمر قال: مرحباً بسيد بني عدي القوي في أمر الله تعالى، الباذل نفسه وماله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أخذ بيد علي فقال: مرحباً بسيد بني هاشم، ما خلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الباذل نفسه ودمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسابق إلى الهجرة. فقال له علي: اتق الله يا عبد الله ولا تنافق، فإن المنافقين شر خليقة الله. قال: فلم تقول هكذا وإيماني كإيمانكم وتصديقي كتصديقكم، ثم افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتم ردي هؤلاء عنكم؟ فقالوا: لا نزال بخير ما عشت لنا، فنزلت الآية: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا } يعني إيماننا كإيمانكم، وتصديقنا كتصديقكم قوله تعالى { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } قال الكلبي: يعني إلى كهنتهم وهم خمسة رهط من اليهود، ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان، منهم كعب بن الأشرف بالمدينة وأبو بردة الأسلمي في بني [سليم]، [وأبو السوداء] بالشام، وعبد الدار من جهينة، وعوف بن مالك من بني أسد. ويقال: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } يعني إلى رؤسائهم في الضلالة. وقال أبو عبيدة: كل عات متمرد فهو شيطان ثم قال تعالى { قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ } أي على دينكم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } بمحمد - صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ)
قوله تعالى: { وَإِذَا خَلَوْا إِلى شَيَاطِينِهِمْ } في شياطينهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، الذين يأمرونهم بالتكذيب، وهو قول ابن عباس. والثاني: رؤوسهم في الكفر، وهذا قول ابن مسعود. وفي قوله: { إلى شَيَاطِينِهِمْ } ثلاثة أوجه: أحدها: معناه مع شياطينهم، فجعل " إلى " موضع " مع " ، كما قال تعالى:**{ مَنْ أَنْصَارِي إلى اللهِ }** [آل عمران: 52] أي مع الله. والثاني: وهو قول بعض البصريين: أنه يقال خلوت إلى فلان، إذا جعلته غايتك في حاجتك، وخلوت به يحتمل معنيين: أحدهما: هذا. والآخر: السخرية والاستهزاء منه فعلى هذا يكون قوله: { وَإِذَا خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ } أفصح، وهو على حقيقته مستعمل. والثالث: وهو قول بعض الكوفيين: أن معناه إذا انصرفوا إلى شياطينهم فيكون قوله: { إلى } مستعملاً في موضع لا يصح الكلام إلا به. فأما الشيطان ففي اشتقاقه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه فيعال من شطن، أي بَعُدَ، ومنه قولهم: نوى شطون أي بعيدة، وشَطَنَتْ دارُه، أي بعدت، فسمي شيطاناً، إما لبعده عن الخير، وإما لبعد مذهبه في الشر، فعلى هذا النون أصلية. والقول الثاني: أنه مشتق من شاط يشيط، أي هلك يهلك كما قال الشاعر: | **............................** | | **وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا البَطَلُ** | | --- | --- | --- | أي يهلك، فعلى هذا يكون النون فيه زائدة. والقول الفاصل: أنه فعلان من الشيط وهو الاحتراق، كأنه سُمِّي بما يؤول إليه حاله. { قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } أي على ما أنتم عليه من التكذيب والعداوة، { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أي ساخرون بما نظهره من التصديق والموافقة. قوله تعالى: { اللهُ يَسْتَهْزئُ بِهِمْ } فيه خمسة أوجه: أحدها: معناه أنه يحاربهم على استهزائهم، فسمي الجزاء باسم المجازى عليه، كما قال تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } ، وليس الجزاء اعتداءً، قال عمرو بن كلثوم: | **أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا** | | **فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينا** | | --- | --- | --- | والثاني: أن معناه أنه يجازيهم جزاء المستهزئين. والثالث: أنه لما كان ما أظهره من أحكام إسلامهم في الدنيا، خلاف ما أوجبه عليهم من عقاب الآخرة، وكانوا فيه اغترار به، صار كالاستهزاء [بهم]. والرابع: أنه لما حسن أن يقال للمنافق:**{ ذُقْ إِنًّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }** [الدخان: 49]، صار القول كالاستهزاء به. والخامس: ما حكي: أنهم يُفْتَح لهم باب الجحيم، فيرون أنهم يخرجون منها، فيزدحمون للخروج، فإذا انتهوا إلى الباب ضربهم الملائكة، بمقامع النيران، حتى يرجعوا، وهاذ نوع من العذاب، وإن كان كالاستهزاء. قوله عز وجل: { وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهم يَعْمَهُونَ } وفي يمدهم تأويلان: أحدهما: يملي لهم، وهو قول ابن مسعود. والثاني: يزيدهم، وهو قول مجاهد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ)
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } يعني هؤلاء المنافقين إذا لقوا المهاجرين والأنصار { قَالُوۤاْ ءَامَنَّا } كإيمانكم { وَإِذَا خَلَوْاْ } رجعوا. ويجوز أن يكون من الخلوة { إِلَى } بمعنى الباء أي بشياطينهم وقيل: إلى بمعنى مع كما قال الله تعالىٰ**{ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَٰلِكُمْ }** [النساء: 2] أي مع أموالكم { شَيَـٰطِينِهِمْ } أي رؤسائهم وكهنتهم قال ابن عباس رضي الله عنهما: وهم خمسة نفر من اليهود كعب بن الأشرف بالمدينة، وأبو بردة في بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن السوداء بالشام، ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان تابع له. والشيطان: المتمرد العاتي من الجن والإنس ومن كل شيء وأصله البعد، يقال بئر شطون أي: بعيدة العمق. سمي الشيطان شيطاناً لامتداده في الشر وبعده من الخير. وقال مجاهد: إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } أي: على دينكم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما نظهر من الإسلام. قرأ أبو جعفر مستهزون ويستهزون وقل استهزوا وليطفوا وليواطوا ويستنبونك وخاطين وخاطون ومتكن ومتكون فمالون والمنشون بترك الهمزة فيهن { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } أي: يجازيهم جزاء استهزائهم سمي الجزاء باسمه لأنه في مقابلته كما قال الله تعالىٰ:**{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }** [الشورى:40]، قال ابن عباس: هو أن يفتح لهم باب من الجنة فإذا انتهوا إليه سد عنهم، وردوا إلى النار وقيل هو أن يضرب للمؤمنين نور يمشون به على الصراط فإذا وصل المنافقون إليه حيل بينهم وبين المؤمنين كما قال الله تعالى:**{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ }** [سبأ: 54] قال الله تعالى:**{ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ }** الآية [الحديد: 13] وقال الحسن معناه الله يُظْهِر المؤمنين على نفاقهم { وَيَمُدُّهُمْ } يتركهم ويمهلهم والمد والإِمداد واحد، وأصله الزيادة إلا أن المد أكثر ما يأتي في الشر والإِمداد في الخير قال الله تعالىٰ في المد**{ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً }** [مريم: 79]، وقال في الإِمداد**{ وَأَمْدَدْنَـٰكُم بِأَمْوَٰلٍ وَبَنِينَ }** [الإسراء: 6]**{ وَأَمْدَدْنَـٰهُم بِفَـٰكِهَةٍ }** [الطور: 22] { فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } أي في ضلالتهم وأصله مجاوزة الحد. ومنه طغى الماء { يَعْمَهُونَ } أي: يترددون في الضلالة متحيرين { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } أي استبدلوا الكفر بالإِيمان، { فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ } أي: ما ربحوا في تجارتهم أضاف الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فيها كما تقول العرب: ربح بيعك وخسرت صفقتك { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } من الضلالة، وقيل: مصيبين في تجارتهم { مَثَلُهُمْ } شبههم، وقيل: صفتهم. والمثل: قول سائر في عرف الناس يعرف به معنى الشيء وهو أحد أقسام القرآن السبعة، { كَمَثَلِ ٱلَّذِى } يعني الذين بدليل سياق الآية. ونظيره:**{ وَٱلَّذِى جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ }** [الزمر: 33] { ٱسْتَوْقَدَ } أوقد { نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ } النار { مَا حَوْلَهُ } أي حول المستوقد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وأضاء: لازم ومتعد يقال أضاء الشيء بنفسه وأضاءه غيره وهو هاهنا متعد { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } قال ابن عباس وقتادة ومقاتل والضحاك والسدي: نزلت في المنافقين. يقول: مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مفازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف فبينما هو كذلك إذ طفيت ناره فبقي في ظلمة طائفاً متحيراً فكذلك المنافقون بإظهار كلمة الإِيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم وناكحوا المؤمنون ووارثوهم وقاسموهم الغنائم فذلك نورهم فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف. وقيل: ذهاب نورهم في القبر. وقيل: في القيامة حيث يقولون للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم. وقيل: ذهاب نورهم بإظهار عقيدتهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فضرب النار مثلاً ثم لم يقل أطفأ الله نارهم لكن عبر بإذهاب النور عنه لأن النار نور وحرارة فيذهب نورهم وتبقى الحرارة عليهم. وقال مجاهد: إضاءة النار إقبالهم إلى المسلمين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى المشركين والضلالة وقال عطاء ومحمد بن كعب: نزلت في اليهود. وانتظارهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلما خرج كفروا به، ثم وصفهم الله فقال: { صُمٌّ } أي: هم صم عن الحق لا يقبلونه وإذا لم يقبلوا فكأنهم لم يسمعوا { بُكْمٌ } خرس عن الحق لا يقولونه أو أنهم لما أبطنوا خلاف ما أظهروا فكأنهم لم ينطقوا بالحق { عُمْىٌ } أي لا بصائر لهم ومن لا بصيرة له كمن لا بصر له { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } عن الضلالة إلى الحق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ)
اختلفوا فيمن نزلت على قولين. أحدهما: أنها نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه. قاله ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في المنافقين وغيرهم من أهل الكتاب الذين كانوا يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان ما يلقون رؤساءهم بضدّه، قاله الحسن. فأما التفسير: فـ «إلى» بمعنى «مع» كقوله تعالى: { من أنصاري إِلى الله } أي: مع الله. والشياطين: جمع شيطان، قال الخليل: كل متمرّد عند العرب شيطان. وفي هذا الاسم قولان. أحدهما: أنه من شطن، أي: بعد عن الخير، فعلى هذا تكون النون أصليَّة. قال أميَّة بن أبي الصَّلت في صفة سليمان عليه السلام: | **أيما شاطنٍ عصاه عكاه** | | **ثم يُلقى في السّجن والأغلال** | | --- | --- | --- | عكاه: أوثقه. وقال النابغة: | **نأت بسعاد عنك نوىً شطون** | | **فبانت والفؤاد بها رهين** | | --- | --- | --- | والثاني: أنه من شاط يشيط: إِذا التهب واحترق، فتكون النون زائدة. وأنشدوا: وقد يشيط على أرماحنا البطل. أي: يهلك. وفي المراد، بشياطينهم ثلاثة أقوال. أحدها: أنهم رؤوسهم في الكفر، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، والسّدي. والثاني: إِخوانهم من المشركين، قاله أبو العالية، ومجاهد. والثالث: كهنتهم، قاله الضَّحاك، والكلبي. قوله تعالى: { إِنا معَكمْ } فيه قولان. أحدهما: أنَّهم أرادوا: إنا معكم على دينكم. والثاني: إِنا معكم على النصرة والمعاضدة. والهزء: السخرية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ)
{ خَلَوْاْ إِلَى } إلى بمعنى " مع " أو خلوت إليه: إذا جعلته غايتك في حاجتك، أو صرفوا خلاءهم إلى شياطينهم. { شَيَاطِينِهِمْ } رؤوسهم في الكفر، أو اليهود الذين يأمرونهم بالتكذيب، شيطان: فيعال من شطن إذا بعد ـ نوىً شطون ـ سمى به لبعده عن الخير، أو لبعد مذهبه في الشر، نونه أصلية، أو من شاط يشيط إذا هلك زائد النون، أو من التشيط وهو الاحتراق سمى ما يؤول إليه أمره. { إِنَّا مَعَكُمْ } على التكذيب والعداوة. { مُسْتَهْزِءُونَ } بإظهار التصديق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
وقال جل ذكره: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا... } (إنما) اعبر بإذا اعتبارا بالأمر العادي لأنهم (مجاورون) لهم (وقريبون منهم) فهم في مظنة أن يكون لقاؤهم لهم محقق الوقوع. فإن قلت لم قال: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوۤا ءَامَنَّا }. ولم يقل إذا لقيهم الذين آمنوا، وأي فرق بين قولك: لقيني زيد ولقيت زيدا، مع أنه أمر نسبي، فإن من لقيته لقيك؟ قال ابن عرفة: فرق بعضهم بينهما بأن المتلاقيين إن كانت لأحدهما مندوحة عن اللقاء، ويجد ملجأ أو مقرا فهو مفعول، والآخر الذي لم يجد ملجأ ولا مقرا بل اضطر إلى لقاء صاحبه يستحسن أن يكون فاعلا للقاء، والمنافقون كانوا يكرهون لقاء المؤمنين، وإذا لقوهم في طريق يحيدون عنهم، فلذلك كانوا في الآية فاعلين لأنهم مضطرون إلى اللّقاء. قال جل ذكره: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ... } قال الزمخشري: لم عبّر في الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم؟ وأجاب بأنهم عبروا بالفعل (لأنّ) مقصودهم الإخبار بتحصيل مطلق الإيمان، ولم يلتزموا تحصيل أعلاه، وأخبروا شياطينهم بحقيقة أمرهم على جهة الثبوت. قال ابن عرفة: وتقدّم الجواب عنهم بأنّهم (إنّما) عبّروا بالفعل لكونهم نزّلوا أنفسهم منزلة البريء الذي يقبل قوله ولا يتّهم، فلو أكّدوا كلامهم لكانوا مقرّين بأنَّ المؤمنين يتهمونهم بالكفر وينكرون عليهم زعمهم أنهم مؤمنون، فأرادوا أن لا يوقعوا لأنفسهم ريبة، بل يخبرون بذلك على البراءة الأصلية خبر من يكتفي منهم بأدنى (العبارة) ويقبل كلامه، ولا ينكر عليه. وقولهم لشياطينهم: " إِنَّا مَعَكُمْ " أكدوا ذلك لأمرين: إما لكون (ذلك محبوبا لهم)، فبالغوا فيه كما (يبالغ) الإنسان (في مدح ما) هو محبوب (له)، وإما تقرير لمعذرتهم لأنّهم أظهروا الإسلام (فخشوا أن) يتوهّم فيهم أصحابهم أنّهم مسلمون، فبالغوا في تمهيد العذر (لنيّتهم). قال ابن عطية: قال الشّافعي وأصحابه: إنما منع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قتل المنافقين (لما) كانوا يظهرونه من الإسلام بألسنتهم مع العلم بنفاقهم لأن الإسلام يجبّ ما كان قبله فمن قال: إن عقوبة الزنادقة أشد من عقوبة الكفار فقد خالف الكتاب والسنة. قال الشافعي: إنّما كفّ رسول الله عليه وسلّم عن قتل المنافقين مع العلم بهم، لأنّ الله نَهَاهم عن قتلهم إذا أظهروا الإيمان فكذلك هو الزنديق. قال ابن عرفة: الفرق بينهما أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم كان يعلم أن المنافقين يموتون على نفاقهم وكفرهم والزنديق لا يقدر أحد منا أن يعلم وفاته على الزندقة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ)
" إذا " منصوب بـ " قالوا " الذي هو جواب لها، وقد تقدّم الخلاف في ذلك، و " لقوا " فعل وفاعل، والجملة في محلّ خفض بإضافة الظّرف إليها. وأصل " لقوا ": لقيوا بوزن " شربوا " فاستثقلت الضمة على " الياء " التي هي " لام " الكلمة، فحذفت الضمة فالتقى ساكنان: لام الكلمة وواو الجمع، ولا يمكن تحريك أحدهما، فحذف الأول وهو " الياء " ، وقلبت الكسرة التي على القاف ضمّة؛ لتجانِسَ واو الضمير، فوزن " لَقُوا ": " فَعُوا " ، وهذه قاعدة مطّردة نحو: " خشوا " ، و " حيوا ". وقد سمع في مصدر " لقي " أربعة عشر وزناً: " لُقْياً وَلِقْيَةً " بكسر الفاء وسكون العَيْن، و " لقاء ولقاءة " بفتحها أيضاً مع المَدّ في الثلاثة، و " لَقَى " و " لُقَى " بفتح الفاء وضمّها، و " لُقْيَا " بضم الفاء، وسكون العين و " لِقِيًّا " بكسرها والتشديد و " لُقِيًّا " بضم الفاء، وكسر العَيْنِ مع التشديد، و " لُقْيَاناً وَلِقْيَاناً " بضم الفاء وكسرها، و " لِقْيَانَةً " بكسر الفاء خاصّة، و " تِلْقَاء ". وقرأ أبو حنيفة - رحمه الله -: " وَإِذَا لاَقُوا ". و " الَّذِينَ ءَامَنُوا " مفعول به، و " قالوا " جواب " إذا " ، و " آمَنَّا " في محل نصب بالقول. قال ابن الخطيب: " والمراد بقولهم: " آمنا ": أخلصنا بالقلب؛ لأن الإقرار باللسان كان معلوماً منهم مما كانوا يحتاجون إلى بَيَانِهِ، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب، وأيضاً فيجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم، وإنما كانوا يظهرون لهم التَّكذيب بالقلب ". وقوله: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ } تقدّم نظيره، والأكثر نظيره، والأكثر في " خَلاَ " أن يتعدّى بالباء، وقد يتعدّى بـ " إلى " ، وإنما تعدّى في هذه الآية بـ " إلى " لمعنى بديع، وهو أنه إذا تعدّى بالباء احتمل معنيين: أحدهما: الانفراد. والثاني: السُّخرية والاستهزاء، تقول: " خلوت به " أي: سخرت منه، وهو من قولك: خَلاَ فلان بعرض فلان أي: يَعْبَثُ به. وإذا تعدّى بـ " إلى " كان نصًّا في الانفراد فقط، أو تقول: ضمن " خلا " معنى " صرف " فتعدّى " إلى " ، والمعنى: صرفوا خَلاَهم إلى شَيَاطينهم، أو تضمّن معنى " ذهبوا وانصرفوا " ومنه: " القرون الخالية ". وقيل: " إلى " - هنا - بمعنى " مع " ، كقوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ }** [النساء: 2]. وقيل: هي هنا بمعنى " الباء " ، وهذان القولان إنما يجوزان عند الكوفيين، وأما البصريون فلا يُجِيزون التجوّز في الحروف؛ لضعفها. وقيل المعنى: وإذا خلوا رجعوا إلى شياطينهم. فـ " إلى " على بابها. والأصل في خَلَوا: خَلَوُوا، فقلبت " الواو " الأولى التي هي " لام " الكلمة " ألفاً " لتحركها، وانفتاح ما قبلها، فبقيت ساكنة وبعدها " واو " الضمير ساكنة، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما، وهو " الألف " ، وبقيت الفتحة دالةً عليها. و " شياطينهم ": جمع شيطان، جمع تكسير، وقد تقدّم القول في اشتقاقه، فوزن شياطين: إما " فَعَالِيل " أو " فَعَالِين " على حسب القولين المتقدّمين في الاستعاذة، والفصيح في شياطين وبابه أن يعرب بالحركات؛ لأنه جمع تَكْسير، وفي لغةٌ رديئة، وهي إجراؤه إجراء الجمع المذكر السالم، سمع منهم: " لفلان البستان حوله البُسْتَانُون ". وقرىء شاذًّا: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطون } [الشعراء: 210]. وشياطينهم: رؤساؤهم وكَهَنَتُهُمْ. قال ابن عباس: وهم خمسة نفر من اليهود: كَعْبُ بن الأشرف بـ " المدينة " ، وأبو بردة بـ " الشام " في بني أسلم، وعبد الدار في " جهينة " ، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن السوداء بـ " الشام " ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان تابع له. وقال مجاهد: شياطينهم: أصحابهم من المنافقين والمشركين. قوله: { إِنَّا مَعَكُمْ } " إنّ " واسمها و " معكم " خبرها، والأصل في " إنا ": " إننا " لقوله تعالى:**{ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً }** [آل عمران: 193]، وإنما حذفت نُونَي " إنّ " لما اتصلت بنون " نا " ، تخفيفاً. وقال أبو البقاء: " حذفت النون الوُسْطَى على القول الصحيح، كما حذفت في " إن " إذا خففت ". و " مَعَ " ظرف والضمير بعده في محلّ خفض بإضافته إليه وهو الخبر - كما تقدم - فيتعلّق بمحذوف وهو ظرف مكان، وفهم الظرفية منه قلق. قالوا: لأنه يدلّ على الصحبة، ومن لازم الصحبة الظَّرفية، وأما كونه ظرف مكان، لأنه يخبر به عن الجُثَثِ نحو: " زيد معك " ، ولو كان ظرف زمان لم يَجُزْ فيه ذلك. واعلم أن " مع " لا يجوز تسكين عينها إلا في شعر كقوله: [الوافر] | **210- فَرِيشِي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعْكُمْ** | | **وَإِنْ كَانَتْ زَيَارَتُكُمْ لِمَامَا** | | --- | --- | --- | وهي حينئذ على ظرفيتها خلافاً لمن زعم أنها حينئذ حرف جَرّ، وإن كان النَّحاس ادّعى الإجماع في ذلك، وهي من الأسماء اللازمة للإضافة، وقد تقطع لفظاً، فتنتصب حالاً غالباً، تقول: جاء الزيدان معاً أي: مصطحبين، وقد تقع خبراً، قال الشاعر: [الطويل] | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **211- حَنَنْتَ إلى رَيَّا وَنَفْسُكَ بَاعَدَتْ** | | **مَزَارَكَ مِنْ رَيَّا وَشَعْبَاكُمَا مَعَا** | | --- | --- | --- | فـ " شَعْبَاكُمَا " مبتدأ، و " مَعاً " خبره، على أنه يحتمل أن يكون الخبر محذوفاً، و " مَعاً " حال. واختلفوا في " مع " حال قطعها عن الإضافة؛ هل هي من باب المقصور نحو: " عصى " و " رحا " ، أو المنقوص نحو: " يد " و " دم "؟ قولان: الأوّل: قول يونس، والأخفش. والثاني: قول الخليل وسيبويه، وتظهر فائدة ذلك إذا سمّي به فعلى الأول تقول: " جاءني معاً " و " رأءَت معاً " و " مررت بمعاً ". وعلى الثاني: " جاءني معٌ " و " رأيت مَعاً " و " مررت بمَعٍ " كـ " يَدٍ " ، ولا دليل على القول الأوّل في قوله: " وشعباكما معاً "؛ لأن معاً منصوب على الظَّرف النائب عن الخبر، نحو: " زيد عندك " وفيها كلام كثير. فصل في نظم الآية لم كانت مُخَاطبتهم للمؤمنين بالجملة الفعلية ومخاطبة شياطينهم بالجملة الاسمية محققة بـ " إن "؟ قال ابن الخطيب: الجواب: ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين؛ لأنهم كانوا في ادعاء حدوث الإيمان منهم، لا في ادعاء أنهم في الدَّرجة الكاملة منه، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة، لأن القول الصادر عن النّفاق والكراهة قلّما يحصل معه المبالغة، وإما لعلمهم بأن ادِّعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين، وأما كلامهم مع إخوانهم، فكانوا يقولونه عن الاعتقاد، ويعلمون أنّ المستمعين يقبلون ذلك منهم، فلا جَرَمَ كان التأكيد لائقاً به. واختلفوا في قائل هذا القول أَهَمُّ كُلّ المُنَافقين، أو بعضهم؟ فمن حمل الشَّيَاطين على كبار المُنَافقين، فحمل هذا القول على أنه من صغارهم، فكانوا يقولون للمؤمنين: " آمنا " وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا: " إنا معكم " ، ومن قال: المراد بالشّياطين الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كُلّ المُنَافقين. وقوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } كقوله:**{ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }** [البقرة: 11]، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها من الإعراب لاستئنافها؛ إذ هي جواب لرؤسائهم، كأنهم لما قالوا لهم: " إنَّا مَعكُمْ " توجّه عليهم سؤال منهم، وهو: فما بالكم مع المُؤْمنين تُظَاهرونهم على دينهم، فأجابوهم بهذه الجملة. وقيل: محلّها النصب، لأنها بدلٌ من قوله: " إنَّا مَعَكُمْ ". وقياس تخفيف همزة " مستهزؤون " ونحوه أن تجعل بَيْنَ بَيْنَ، أي بين الهمزة والحرف الذي منه حركتها وهو " الواو " ، وهو رأي سيبويه، ومذهب الأخفش قلبها " ياء " محضة. وقد وقف حمزة على { مُسْتَهْزِءُونَ } و**{ فَمَالِئُونَ }** [الصافات: 66] و**{ لِيُطْفِئُواْ }** [الصف: 8] و**{ لِّيُوَاطِئُواْ }** [التوبة: 37] و | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَيَسْتَنبِئُونَكَ }** [يونس: 53] و**{ ٱلْخَاطِئِينَ }** [يوسف: 29] و**{ ٱلْخَاطِئُونَ }** [الحاقة: 37]، و**{ مُّتَّكِئِينَ }** [الكهف: 31] و**{ مُتَّكِئُونَ }** [يس: 56]، و**{ ٱلْمُنشِئُونَ }** [الواقعة: 72] بحذف صورة الهَمْزَةِ اتباعاً لرسم المُصْحَفِ. وقولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } توكيد لقولهم: " إنَّا مَعَكُمْ ". وقوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } الله: رفع بالابتداء، و " يستهزىء ": جملة فعلية في محلّ رفع خبر، و " بِهِمْ " متعلّق به، ولا محل لهذه الجملة لاستئنافها. و " يَمُدُّهُمْ " يتركهم ويُمْهِلُهُمْ، وهو في محلّ رفع أيضاً لعطفه على الخَبَرِ، وهو " يستهزىء ". و " يَعْمَهُونَ " في مَحَلّ الحال من المفعول في " يَمُدُّهُمْ " ، أو من الضمير في " طغيانهم " ، وجاءت الحال من المُضَاف إليه؛ لأنَّ المُضَاف مصدر. و " في طُغْيَانِهِمْ " يحتمل أن يتعلّق بـ " يمدهم " ، أو بـ " يعمهون " ، وقدّم عليه، إلاَّ إذا جعل " يعمهون " حالاً من الضَّمير في " طغيانهم " ، فلا يتعلّق به حينئذ، لفساد المعنى. وقد منع أبو البَقَاءِ أن يكون " في طغيانهم " ، و " يعمهون " حَالَيْن من الضَّمير في " يمدهم " معللاً ذلك بأن العاملَ الواحدَ لا يعمل في حالين، وهذا على رأي من منع ذلك. وأما من يجيز تعدُّد الحال مع عدم تعدُّد صاحبها فيجيز ذلك، إلاّ أنه في هذه الآية ينبغي أن يمنع من ذلك لا لما ذكره أبو البَقَاءِ، بل لأن المعنى يأبى جَعْلَ هذا الجار والمجرور حالاً؛ إذ المعنى منصب على أنه متعلّق بأحد الفعلين، أعني: " يمدّهم " ، أو " يعمهون " لا بمحذوف على أنه حال. والمشهور: فتح " الياء " من " يمدهم ". وقرىء شاذاً: " يُمِدُّهُمْ " بضم الياء. فقيل: الثلاثي والرُّباعي بمعنى واحدٍ تقول: " مدّه " و " أمدّه " بكذا. وقيل: " مدّه " إذا زاده عن جِنْسِهِ، و " أمدّه " إذا أراده من غير جِنْسِهِ. وقيل: مدّه في الشَّرِّ لقوله تعالى:**{ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً }** [مريم: 79]، وأمدّه في الخير لقوله تعالى:**{ وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ }** [نوح: 12]**{ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ }** [الطور: 22]،**{ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ ءَالٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ }** [آل عمران: 124] إلا أنه يعكر على هذين الفرقين أنه قرىء:**{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ }** [الأعراف: 202] باللغتين، ويمكن أن يُجَاب عنه بما ذكره الفارسي في توجيه ضم " الياء " أنه بمنزلة قوله تعالى:**{ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ }** [آل عمران: 21]،**{ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ }** [الليل: 10] يعني أبو علي - رحمه الله - بذلك أنه على سبيل التهكُّم. وأصل المدد الزيادة. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم زعمت أنه من المَدَد دون المَدّ في العُمُر والإمْلاَء والإمْهَال؟ قلت: كفاك دليلاً على ذلك قراءة ابن كثير، وابن محيصن: " ويمدهم " وقراءة نافع: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ }** [الأعراف: 202] على أنَّ الذي بمعنى أَمْهَلَ إنما هو مَدّ له بـ " اللام " كأملى له. والاستهزاء لغةً: السخرية واللّعب؛ يُقَال: هَزِىءَ به، واستهزأ، قال: [الرجز] | **212- قَدْ هَزِئَتْ مِنِّي أُمُّ طَيْسَلَهْ** | | **قالَتْ: أَرَاهُ مُعْدِماً لاَ مَالَ لَهْ** | | --- | --- | --- | وقيل: أصله الانتقام؛ وأنشد: [الطويل] | **213- قَدِ اسْتَهْزَؤُوا مِنْهُمْ بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ** | | **سَرَاتُهُمُ وَسْطَ الصَّحَاصِحِ جُثَّمُ** | | --- | --- | --- | فعلى هذا القول الثَّاني نسبة الاستهزاء إليه - تعالى - على ظاهرها. وأما على القول الأول فلا بد من تأويل وهو من وجوه: الأول: قيل: المعنى: يجازيهم على استهزائهم فسمى العقوبة باسم الذَّنب ليزدوج الكَلاَم، ومنه:**{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ }** [الشورى: 40]،**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ }** [البقرة: 194]. وقال:**{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142]،**{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ }** [آل: عمران: 54]. وقال عليه الصلاة والسلام: **" اللَّهُمَّ إنّ فلاناً هَجَاني، وهو يعلم أني لَسْتُ بِشَاعِرٍ، اللّهم فاهْجُهُ، اللهم فالْعَنْهُ عَدَدَ ما هَجَانِي "** ؛ وقال عليه الصلاة والسَّلام: **" تَكَلَّفُوا من الأَعْمَالِ ما تُطِيقُونَ فإنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا "** ؛ وقال عمرو بن كلثوم: [الوافر] | **214- أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا** | | **فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا** | | --- | --- | --- | وثانيها: أنَّ ضرر استهزائهم بالمُؤْمنين راجعٌ إليهم، وغير ضَارّ بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم. وثالثها: أنّ من آثار الاستهزاء حُصُول الهَوَان والحَقَارة، فذكر الاستهزاء، والمراد حُصُول الهَوَان لهم فعبّر بالسَّبب عن المُسَبَّب. ورابعها: أنَّ استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أَحْكَامِهِ في الدُّنْيا ما لهم عند اللهِ خلافها في الآخرة، كما أنهم أَظْهَرُوا [للنَّبي و] المؤمنين أمراً مع أنَّ الحاصل منهم في السر خلافه، وهذا ضعيف؛ لأنه - تعالى - لما أظهر لهم أحكام الدُّنيا، فقد أظهر الأدلّة الواضحة بما يعاملون به في الدَّار الآخرة، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا. وخامسها: أن الله - تعالى - يُعَاملهم مُعَاملة المُسْتَهْزِىءِ في الدُّنيا والآخرة، أما في الدنيا، فلأنه أطلع الرسول على أَسْرَارِهِمْ لِمُبَالغتهم في إخْفَائها، وأمّا في الآخرة فقال ابنُ عَبَّاس: هو أن يفتح لهم باباً من الجنة، فإذا رأوه المُنافقون خرجوا من الجَحِيمِ متوجّهين إلى الجنة، فإذا وصلوا إلى باب الجنة، فهناك يغلق دونهم الباب، فذلك قوله تعالى:**{ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }** [المطففين: 34] وقيل: هو أن يُضْرَبَ للمؤمنين نورٌ يَمْشون به على صراط، فإذا وصل المنافقون إليه حِيلَ بينهم وبينه، كما قال تَعَالَى:**{ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ }** [الحديد: 13] الآية. فإن قيل: هلا قيل: إن الله يستهزىء بهم ليكون مطابقاً لقوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [البقرة: 14]؟ والجواب: أنَّ " يستهزىء " يفيد حدوث الاستهزاء وتجدّده وقتاً بعد وقت، وهكذا كانت نكايات الله فيهم**{ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ }** [التوبة: 126]. و " الطُّغيان ": الضلال مصدر طَغَى يَطْغَى طِغْياناً وطُغْيَاناً بكسر الطَّاء وضمها. وبكسر الطَّاء قرأ زيد بن علي، ولام " طغى " قيل: ياء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: واو، يقال: طَغَيْتُ وطَغَوْتُ، وأصل المادّة مُجَاوزة الحَدّ، ومنه: طغى الماء. و " العَمَهُ ": التردُّد والتحيُّر، وهو قريب من العَمَى، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً، لأن العَمَى يطلق على ذهاب ضوء العين، وعلى الخطأ في الرأي، والعَمَهُ لا يطلق إلا على الخطأ في الرأي، يقال: عَمِهَ عَمَهاً وَعَمَهَاناً فهو عَمِهٌ وعَامِهٌ. فصل في الرد على المعتزلة قالت المعتزلة: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه: أحدها: قوله تعالى:**{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ }** [الأعراف: 202] أضاف ذلك الغيّ إلى إخوانهم، فكيف يكون مضافاً إلى الله. وثانيهما: أن الله - تعالى - ذمّهم على هذا الطغيان، فلو كان فعلاً لله - تعالى - فكيف يذمهم عليه؟ وثالثها: لو كان فعلاً لله - تعالى - لبطلت النبوة، وبطل القرآن، فكان الاشتغال بتفسيره عَبَثاً. ورابعها: أنه - تعالى - أضاف الطّغيان إليهم بقوله: { فِي طُغْيَانِهِمْ } ، ولو كان من الله لما أضافه إليهم فظهر أنه إنما أضافه إليهم ليعلم أنه - تعالى - غير خالق لذلك، ومصداقه أنه حين أسند المَدّ إلى الشَّياطين أطلق الغيّ، ولم يقيده بالإضافة في قوله:**{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ }** [الأعراف: 202] إذا ثبت هذا، فلا بُدَّ من التأويل، وهو من وجوه: أحدها: قال الكَعْبِيّ وأبو مسلم الأصفهاني: إن الله - تعالى - لَمَّا منحهم أَلْطافَهُ التي منحها للمؤمنين، وخَذَلَهُمْ بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مُظْلِمَةً بتزايد الرَّيْن فيها، وكتزايد النور في قلوب المؤمنين، فسمى ذلك النور مدداً، وأسنده إلى الله تعالى، لأنه مسبّب عن فعله بهم. وثانيها: أن يحمل على منع القَسْرِ والإِلْجَاءِ. وثالثها: أن يسند فعل الشيطان إلى الله - تعالى - لأنه بتمكينه، وإقْدَاره، والتَّخلية بينه وبين إغواء عباده. ورابعها: قال الجُبَّائي: ويمدهم أي يمد عمرهم، ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون، وهذا ضعيف من وجهين: الأول: ما بَيَّنَا أنه لا يجوز في اللُّغة تفسير " ويمدهم " بالمَدّ في العمر. الثاني: هَبْ أنه يصحّ ذلك، ولكنه يفيد أنه - تعالى - يمد عمرهم بغرض أن يكونوا في طُغْيَانهم يعمهون، وذلك يفيد الإشكال. أجاب القَاضِي عن ذلك بأنه ليس المُرَاد أنه - تعالى - يمدّ عمرهم بغرض أن يكونوا في الطغيان، بل المراد أنه - تعالى - يبقيهم، ويلطف بهم الطَّاعة، فيأبون إلاَّ أن يعمهوا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ)
أخرج الواحدي والثعلبي بسنده عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبدالله بن أبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبدالله بن أبي: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحباً بالصديق سيد بني تيم، وشيخ الإِسلام، وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحباً بسيد عدي بن كعب، الفاروق القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ بيد علي وقال: مرحباً بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم افترقوا فقال عبدالله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فاثنوا عليه خيراً. فرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك، فأنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وإذا لقوا الذين آمنوا } الآية. قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم قالوا: إنا على دينكم { وإذا خلوا إلى شياطينهم } وهم إخوانهم { قالوا: إنا معكم } أي على مثل ما أنتم عليه { إنما نحن مستهزئون } قال: ساخرون بأصحاب محمد { الله يستهزئ بهم } قال: يسخر بهم للنقمة منهم { ويمدهم في طغيانهم } قال: في كفرهم { يعمهون } قال يترددون. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله { وإذا لقوا الذين آمنا قالوا آمنا } وهم منافقو أهل الكتاب، فذكرهم وذكر استهزاءهم، وأنهم { إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } على دينكم { إنما نحن مستهزئون } بأصحاب محمد. يقول الله { الله يستهزئ بهم } في الآخرة، يفتح لهم باباً في جهنم من الجنة ثم يقال لهم: تعالوا فيقبلون يسبحون في النار، والمؤمنون على الأرائك وهي السرر في الحجال ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى الباب سد عنهم، فضحك المؤمنون منهم فذلك قول الله { الله يستهزئ بهم } في الآخرة، ويضحك المؤمنون منهم حين غلقت دونهم الأبواب. فذلك قوله**{ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون }** [المطففون: 34]. وأخرج ابن اسحق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } أي صاحبكم رسول الله ولكنه إليكم خاصة { وإذا خلوا إلى شياطينهم } ، من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب { قالوا إنا معكم } أي إنا على مثل ما أنتم عليه { إنما نحن مستهزئون } أي إنما نحن مستهزئون بالقوم، ونلعب بهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وأخرج ابن الأنباري عن اليماني أنه قرأ { وإذا لاقوا الذين آمنوا }. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله { وإذا خلوا } قال: مضوا. واخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { وإذا خلوا إلى شياطينهم } قال: رؤوسهم في الكفر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله { إذا خلوا إلي شياطينهم } قال: أصحابهم من المنافقين والمشركين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله { وإذا خلوا إلى شياطينهم } قال: إلى إخوانهم من المشركين، ورؤوسهم وقادتهم في الشر { قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون } يقولون: إنما نسخر من هؤلاء القوم ونستهزئ بهم. وأخرج ابن المنذر عن أبي صالح في قوله { الله يستهزئ بهم } قال: يقال: لأهل النار وهم في النار اخرجوا، وتُفْتَحُ لهم أبواب النار، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم. فذلك قوله { الله يستهزئ بهم } ويضحك عليهم المؤمنون حين غلقت دونهم. فذلك قوله**{ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون، على الأرائك ينظرون }** [المطففون: 34 ـ 35] الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { ويمدهم } قال: يملي لهم { في طغيانهم يعمهون } قال: في كفرهم يتمادون. واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { يعمهون } قال: يتمادون. وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له أخبرني عن قوله عز وجل { يعمهون } قال: يلعبون ويترددون. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت قول الشاعر: | **أراني قد عمهت وشاب رأسي** | | **وهذا اللعب شين بالكبير** | | --- | --- | --- | وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله { ويمدهم } قال: يزيدهم { في طغيانهم يعمهون } قال: يلعبون ويترددون في الضلالة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ)
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا } بـيانٌ لتبايُن أحوالِهم وتناقضِ أقوالهم في أثناء المعاملة والمخاطبةِ حسَب تباينِ ومَساقِ ما صُدِّرت به قصتُهم لتحرير مذهبهم والترجمةِ عن نفاقهم، ولذلك لم يُتعرَّضْ ههنا لِمُتَعَلَّق الإيمان فليس فيه شائبةُ التكرير. روي أن عبدَ الله بن أبـيٍّ وأصحابَه خرجوا ذاتَ يوم فاستقبلهم نفرٌ من الصحابة، فقال ابن أبـيَ: أنظروا كيف أردُ هؤلاءِ السفهاءَ عنكم، فلما دنَوْا منهم أخذ بـيد أبـي بكرٍ رضي الله عنه فقال: مرحباً بالصّدّيق سيدِ بني تيم، وشيخِ الإسلام، وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، الباذلِ نفسَه ومالَه لرسول الله، ثم أخذ بـيد عمرَ رضي الله عنه فقال: مرحباً بسيد بني عديّ، الفاروقِ القويّ في دينه الباذلِ نفسَه ومالَه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بـيد علي كرّم الله وجهه فقال: مرحباً بابن عمِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وخَتَنِه، وسيدِ بني هاشم ما خلا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقيل: قال له علي رضي الله عنه: يا عبدَ الله اتق الله، ولا تنافقْ، فإن المنافقين شرُ خلق الله تعالى، فقال له: مهلاً يا أبا الحسن أفيَّ تقول هذا، والله إن إيماننا كإيمانكم، وتصديقَنا كتصديقكم ثم افترقوا فقال ابن أبـيَ لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فإذا رأيتموهم فافعلوا مثل ما فعلت، فأثنَوْا عليه خيراً، وقالوا: لا نزالُ بخير ما عشتَ فينا. فرجع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك فنزلت. واللقاءُ المصادفة، يقال لقِيته ولاقَيْته أي صادفته واستقبلتهُ، وقرىء إذا لاقَوْا { وَإِذَا خَلَوْاْ } من خلوتُ إلى فلان، أي انفردت معه، وقد يستعمل بالباء، أو من خلا بمعنى مضىٰ، ومنه القرونُ الخالية، وقولُهم: خلاك ذمٌّ أي جاوزك ومضىٰ عنك، وقد جُوّز كونُه من خلوتُ به إذا سخِرْتُ منه، على أن تعديته بإلى في قوله تعالى: { إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } لتضمُّنه معنى الإنهاء، أي وإذا أَنهَوْا إليهم السخرية الخ. وأنت خبـير بأن تقيـيدَ قولهم المحكيّ بذلك الإنهاءِ مما لا وجهَ له، والمرادُ بشياطينهم المماثلون منهم للشيطان في التمرد والعناد، المظهرون لكفرهم، وإضافتُهم إليهم للمشاركة في الكفر، أو كبارُ المنافقين، والقائلون صغارُهم، وجعل سيبويهِ نونَ الشيطان تارةً أصلية فوزنُه فَيْعالٌ، على أنه من شطَنَ إذا بعُدَ، فإنه بعيدٌ من الخير والرحمة، ويشهد له قولُهم تَشَيْطن، وأخرى زائدة فوزنه فعلان، على أنه من شاط أي هلك أو بطَل، ومن أسمائه الباطل، وقيل معناه هاج واحترق { قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ } أي في الدين والاعتقاد لا نفارقكم في حال من الأحوال، وإنما خاطبوهم بالجملة الاسمية المؤكدة، لأن مُدّعاهم عندهم تحقيقُ الثبات على ما كانوا عليه من الدين، والتأكيدُ للإنباء عن صدق رغبتهم، ووفورِ نشاطِهم، لا لإنكار الشياطين، بخلاف معاملتهم مع المؤمنين، فإنهم إنما يدّعون عندهم إحداثَ الإيمان لجزمهم بعدم رواج ادعاء الكمال فيه أو الثبات عليه { إِنَّمَا نَحْنُ } أي في إظهار الإيمان عند المؤمنين { مُسْتَهْزِءونَ } بهم من غير أن يخطرُ ببالنا الإيمانُ حقيقةً، وهو استئنافٌ مبني على سؤالٍ ناشىءٍ من ادعاء المعية كأنه قيل لهم عند قولهم إنا معكم فما بالُكم توافقون المؤمنين في الإتيان بكلمة الإيمان، فقالوا: إنما نحن مستهزئون بهم فلا يقدح ذلك في كوننا معكم، بل يؤكده وقد ضمِنوا جوابهم أنهم يُهينون المؤمنين، ويُعدّون ذلك نُصرةً لدينهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | أو تأكيدٌ لما قبله، فإن المستهزىء بالشيء مُصرٌّ على خلافه، أو بدلٌ منه، لأن مَنْ حَقّر الإسلامَ فقد عظّم الكفرَ، والاستهزاءُ بالشيء السخرية منه، يقال: هَزَأتُ واستهزأت بمعنى، وأصله الخِفّة من الهُزء، وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ مات على مكانه، وتَهْزأُ به ناقتُه أي تُسرع به وتخِف | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
أراد المنافقون أن يجمعوا بين عِشْرة الكفار وصحبة المسلمين، فإِذا برزوا للمسلمين قالوا نحن معكم، وإذا خَلَوْا بأضرابهم من الكفار أظهروا الإخلاص لهم، فأرادوا الجمع بين الأمْرَيْن فَنُفُوا عنهما. قال الله تعالى:**{ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ }** [النساء: 143] وكذلك من رام أن يجمع بين طريق الإرادة وما عليه أهل العادة لا يلتئم ذلك، فالضدان لا يجتمعان، و **" المُكَاتَبُ عَبدٌ ما بَقِيَ عليه درهم "** ، وإذا ادلهم الليل من ها هنا أدبر النهار من ها هنا، ومن كان له في كل ناحية خليط، وفي زاوية من قلبه ربيط كان نهباً للطوارق، ينتابه كل قوم، وينزل في قلبه كل (...)، فقلبه أبداً خراب، لا يهنأ بعيش، ولا له في التحقيق رزق من قلبه، قال قائلهم: | **أراك بقية من قوم موسى** | | **فهم لا يصبرون على طعام** | | --- | --- | --- | ولما قال المنافقون: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } قال الله تعالى: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } أي يجازيهم على استهزائهم، كذلك لما ألقى القوم أزِمَّتهم في أيدي الشهوات استهوتهم في أودية التفرقة، فلم يستقر لهم قدم على مقام فتطوحوا في متاهات الغيبة، وكما يمد المنافقين في طغيانهم يعمهون يطيل مدة هؤلاء في مخايل الأمل فيكونون عند اقتراب آجالهم أطول ما كانوا أملاً، وأسوأ ما كانوا عملاً، ذلك جزاء ما عملوا، ووبال ما صنعوا. وتحسين أعمالهم القبيحة في أعينهم من أشد العقوبات لهم، ورضاؤهم بما فيه من الفترة أَجَلُّ مصيبة لهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ واذا لقوا الذين آمنوا } بيان لمعاملتهم مع المؤمنين والكفار وما صدرت به القصة فمساقه لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير اى هؤلاء المنافقون اذا عاينوا وصادفوا واستقبلوا الذين آمنوا وهم المهاجرون والانصار { قَالوا } كذبا { آمنا } كأيمانكم وتصديقكم روى ان عبد الله بن ابى المنافق واصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من الصحابة رضى الله عنهم فقال ابن ابى انظروا كيف ارد هذه السفهاء عنكم فلما دنوا منهم اخذ بيد ابى بكر رضى الله عنه فقال مرحبا بالصديق سيد بنى تميم وشيخ الاسلام وثانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اخذ بيد عمر رضى الله عنه فقال مرحبا بسيد بنى عدى الفاروق القوى فى دينه الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اخذ بيد على رضى الله عنه فقال مرحبا بابن عم رسول الله وخنته وسيد بنى هاشم ما خلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له على رضى الله عنه يا عبد الله اتق الله ولا تنافق فان المنافقين شر خلق الله فقال له مهلا يا ابا الحسن أنى تقول هذا والله ان ايماننا كأيمانكم وتصديقنا كتصديقكم ثم افترقوا فقال ابن ابى لاصحابه كيف رأيتمونى فعلت فاذا رأيتموهم فافعلوا ما فعلت فأثنوا عليه خيرا وقالوا ما نزال بخير ما عشت فينا فرجع المسلمون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واخبروه بذلك فنزلت الآية { واذا خلوا } اى مضوا أو اجتمعوا على الخلوة والى بمعنى مع او انفردوا والى بمعنى الباء او مع تقول خلوت بفلان واليه اذا انفردت معه { الى شياطينهم } اصحابهم المماثلين للشيطان فى التمرد والعناد المظهرين لكفرهم واضافتهم اليه للمشاركة فى الكفر او كبار المنافقين والقائلون صغارهم وكل عات متمرد فهو شيطان. وقال الضحاك المراد بشياطينهم كهنتهم وهم فى بنى قريظة كعب بن الاشرف وفى بنى اسلم ابو بردة وفى جهينة عبد الدار وفى بنى اسد عوف بن عامر وفى الشام عبد الله بن سوداء وكانت العرب تعتقد فيهم انهم مطلعون على الغيب ويعرفون الاسرار ويداوون المرضى وليس من كاهن الا وعند العرب ان معه شيطانا يلقى اليه كهانته وسموا شياطين لبعدهم عن الحق فان الشطون هو البعد كذا فى التيسير { قالوا انا معكم } انا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم واعتقادكم لا نفارقكم فى حال من الاحوال وكأنه قيل لهم عند قوله { انا معكم } فما بالكم توافقون المؤمنين فى الاتيان بكلمة الشهادة وتشهدون مشاهدهم وتدخلون مساجدهم وتحجون وتغزون معهم فقالوا { انما نحن } اى فى اظهار الايمان عند المؤمنين { مستهزءون } بهم من غير ان يخطر ببالنا الايمان حقيقة فنريهم انا نوافقهم على دينهم ظاهرا وباطنا وانما نكون معهم ظاهرا لنشاركهم فى غنائمهم وننكح بناتهم ونطلع على اسرارهم ونحفظ اموالنا واولادنا ونساءنا من ايديهم والاستهزاء التجهيل والسخرية والاستخفاف والمعنى انا نجهل محمد واصحابه ونسخر بهم باظهارنا الاسلام فرد الله عليهم بقوله { الله يستهزئ بهم } اى يجازيهم على استهزائهم او يرجع وبال ألا ستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم او ينزل بهم الحقارة والهوان الذى هو لازم الاستهزاء والغرض منه او يعاملهم معاملة المستهزئ بهم اما فى الدنيا فباجراء احكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالامهال والزيادة فى النعمة على التمادى فى الطغيان واما فى الآخرة فما يروى انه يفتح لهم باب الى الجنة وهم فى جهنم فيسرعون نحوه فاذا وصلوا اليه سند عليهم الباب وردوا الى جهنم والمؤمنون على الارائك فى الجنة ينظرو اليهم فيضحكون منهم كما ضحكوا من المؤمنين فى الدنيا فذلك بمقابلة هذا ويفعل بهم ذلك مرة بعد مرة { ويمدهم } اى يزيدهم ويقويهم من مد الجيش وأمده اذا زاده وقواه لا من المد فى العمر فانه يعدى باللام كأملى لهم ويدل عليه قراءة ابن كثير ويمدهم { فى طغيانهم } متعلق بيمدهم والطغيان مجاوزة الحد فى كل امر والمراد افراطهم فى العتو وغلوهم فى الكفر وفى اضافته اليهم ايذان باختصاصه بهم وتأييد لما اشير اليه من ترتب المد على سوء اختيارهم { يعمهون } اى يترددون فى الضلالة متحيرين عقوبة لهم فى الدنيا لاستهزائهم وهو حال من الضمير المنصوب او المجرور لكنون المضاف مصدرا فهو مرفوع حكما. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | والعمه فى البصيرة كالعمى فى البصر وهو التحير والتردد بحيث لا يدرى اين يتوجه وفى الآيتين اشارات. الاولى فى قوله تعالى { انا معكم } وهى ان من رام ان يجمع بين طريق الارادة وما عليه اهل العادة لا يلتئم له ذلك والضدان لا يجتمعان ومن كان له من كل ناحية خليط ومن كل زاوية من قلبه ربيط كان نهبا للطوارق ومنقسما بين العلائق فهذا حال المنافق يذبذب بين ذلك وذلك يعنى ان المنافقين لما ارادوا ان يجمعوا بين غبرة الكفار وصحبة المسلمين وان يجمعوا بين مفاسد الكفر ومصالح الايمان وكان الجمع بين الضدين غير جائز فبقوا بين الباب والدار كقوله تعالى**{ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء }** النساء 143 وكذلك حال المتمنين الذي يدعون الارادة ولا يخرجون عن العادة ويريدون الجمع بين مقاصد الدارين يتمنون اعلى مراتب الدين ويرتعون فى اسفل مراتع الدنيا فلا يلتئم لهم ذلك قال عليه السلام **" ليس الدين بالتمنى "** وقال **" بعثت لرفع العادات ودفع الشهوات "** وقال **" الدنيا والآخرة ضرتان فمن يدع الجمع بينهما فممكور ومغرور "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | فمن رام مع متابعة الهوى البلوغ الى الدرجات العلى فهو كالمستهزئ بطريق هذا الفريق فكم فىهذا البحر من امثاله غريق فالله تعالى يمهلهم فى طغيان النفس بالحرص على الدنيا حتى يتجاوزوا فى طلبها حد الاحتياج اليها ويفتح ابواب المقاصد الدنيوية عليهم ليستغنوا بها وبقدر الاستغناء يزيد طغيانهم كما قال الله تعالى**{ إن إلانسان ليطغى أن رآه استغنى }** العلق 6- 7. فكان جزاء سيئة تلونهم فى الطلب الاستهزاء وجزاء سيئة الاستهزاء الخذلان والامهال الى ان طغوا وجزاء سيئة الطغيان العمة فيترددون فى الضلال متحيرين لا سبيل لهم الى الخروج من الباطل والرجوع ال الحق. والاشارة الثانية فى قوله تعالى { الله يستهزىء بهم } وهي ان ذلك يدل على شرف المؤمنين ومنزلتهم عند الله حيث ان الله هو الذى يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين ولا يحوج المؤمنين الى ان يعارضوهم باستهزاء مثله فناب الله عنهم واستهزأ بهم الاستهزاء الابلغ الذى ليس استهزاؤهم عنده من باب الاستهزاء حيث ينزل بهم من النكال ويحل عليهم من الذل والهوان مالا يوصف به. ودلت الآية على قبح الاستهزاء بالناس وقد قال**{ لا يسخر قوم من قوم }** الحجرات 11. وقال فى قصة موسى عليه السلام**{ قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين }** البقرة 67. اخبر انه فعل الجاهلين واذا كان الاستهزاء بالناس قبيحا فما جزاء الاستهزاء بالله وهو فيما قال النبى صلى الله عليه وسلم **" المستغفر من الذنب وهو مصر كالمستهزئ بربه "** والاشارة الثالثة فى قوله تعالى { ويمدهم فى طغيانهم يعمهون } البقرة 15. وهى ان العبد ينبغى له ان لا يغتر بطول العمر وامتداده ولا بكثربة امواله واولاده والله تعالى يقول فى اعدائه فى حق المعمر ويمدهم وفى حق المال والبنين يحسبون انما نمدهم به من مال وبنين وكان طول العمر لهم خذلانا وكثرة الاموال والاولاد لهم حرمانا ولهم فى مقابلة هذا المدمد قال الله تعالى**{ ونمد له من العذاب مدا }** مريم 79 وقد جعل الله لعدوه فى الدنيا مالا ممدودا ولوليه فى الآخرة ظلا ممدودا وقال الله جل جلاله لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج **" ان من نعمتى على امتك انى قصرت اعمارهم كيلا تكثر ذنوبهم واقللت اموالهم كيلا يشتد فى القيامة حسابهم واخرت زمانهم كيلا يطول فى القبور حبسهم "** وروى ان الله تعالى قال لحبيبه ليلة المعراج **" يا احمد لا تتزين بلين اللباس وطيب الطعام ولين الوطاء فان النفس مأوى كل شر وهى رفيق سوء كلما تجرها الى طاعة تجرك الى معصية وتخالفك فى الطاعة وتطيع لك فى المعصية وتطغى اذا شبعت وتتكبر اذا استغنت وتنسى اذا ذكرت وتغفل اذا امنت وهى قرينة للشيطان "** كذا فى مشكاة الانوار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ)
قلت: اللقاء: المصادفة بلا قصد، والخلو بالشيء أو معه: الانفراد به، ضمنه هنا معنى رجع، ولذلك تعدَّى بإلى، والشيطان فَيْعَالٌ، من شَطَنَ، إذا بعد، أو فَعْلاَن من شاط، إذا بطل، والاستهزاء بالشيء: الاستخفاف بحقه، والعَمَهُ في البصيرة كالعمى في البصر. يقول الحقّ جلّ جلاله: في وصف المنافقين تقريراً لنفاقهم: إنهم كانوا { إذَا لَقُوا } الصحابة أظهروا الإيمان، وإذا رجعوا { إلَى شَيَاطِينِهِمْ } أي: كبرائهم المتمردين في الكفر والطغيان، { قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } لم نخرج عن ديننا { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } بهم، ومستسخرون بشأنهم، نزلت في عبد الله بن أُبَيّ - رأس المنافقين - كان إذا لقي سعداً قال: نعم الدين دين محمد، وإذا خلا برؤساء قومه من أهل الكفر، شدوا أيديكم على دين آبائكم. وخرج ذات يوم مع أصحابه فاستقبلهم نفر من الصحابة - رضوان الله عليهم - فقال عبدُ الله لأصحابه: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال: مرحباً بالصدِّيق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد عمر، فقال: مرحباً بسيد بني عدي بن كعب، الفاروق، القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد عَلِيّ فقال: مرحباً بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخِتِنِه، سيد بني هاشم، ما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليّ رضي الله عنه: يا عبد الله، اتق الله ولا تنافق، فإن المنافقين شرُّ خليقة الله، فقال عبد الله: مهلاً يا أبا الحسن، أنى تقول هذا؟ والله إن إيماننا كإيمانكم، وتصديقنا كتصديقكم، فنزلت الآية. ثم ردّ الله تعالى عليهم فقال: { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } أي: يفعل بهم فعل المستهزئ بأن يفتح لهم باباً إلى الجنة وهم في النار، ويطلع المؤمنين عليهم، فيقول لهم: ادخلوا الجنة، فإذا جاءوا يستبقون إليها وطمعوا في الدخول، سُدَّتْ عليهم ورجعوا إلى النار،**{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }** [المطفّفِين: 34] الآية. { وَيَمُدُّهُمْ } أي: يمهلهم { فِي } كفرهم، و { طُغْيَانِهِمْ } يتحيرون إلى يوم يبعثون لأنهم { اشْتَرُوا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } أي: استبدلوا بها رأس مالهم، فضلاً عن الربح، إذ الإيمان رأس المال، وأعمال الطاعات ربح، فإذا ذهب الرأس فلا ربح ولذلك قال تعالى: { فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُمْ } ، بل خسرت صفقتهم، { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } إلى أسباب الربح أبداً، لاستبدالهم الهدى - التي هي رأس المال - بالضلالة - التي هي سبب الخسران. وبالله التوفيق. وها هنا استعارات وبلاغات يطول سردها، إذ مرادنا تربية اليقين بكلام رب العالمين. الإشارة: الناس في طريق الخصوص على أربعة أقسام: قسم: سبقت لهم من الله العناية، وهبت عليهم ريح الهداية: فصدقوا ودخلوا فيها، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، فَتَجِرُوا فيه وربحوا، فعوّضهم الله تعالى جنة المعارف، يتبوؤون منها حيث شاءوا، فإذا قدموا عليه أدخلهم جنة الزخارف، يسرحون فيها حيث شاءوا، وأتحفهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وقسم: سبقت لهم من الله الهداية، وحفتهم الرعاية، فصدقوا وأقروا، ولكنهم ضعفوا عن الدخول، ولم تتعلق همتهم بالوصول، فبقوا في ضعفاء المسلمين**{ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ... }** [التّوبَة: 91]. وقسم: أنكروا وأظهروا وجحدوا وكفروا، فتجروا وخسروا، " مَنْ عَادَى لي وَلِياً فقَد آذنْتُهُ بالْحَربِ ". وقسم رابع: هم مذبذبون بين ذلك إذا لقوا أهل الخصوصية قالوا: آمنا وصدقنا فأنتم على الجادة، وإذا رجعوا إلى أهل التمرد من المنكرين - طعنوا وجحدوا، وقالوا: إنما كنا بهم مستهزئين، { الله يستهزئ بهم } بما يظهر لهم من صور الكرامات والاستدراجات، ويمدهم في تعاطي العوائد والشهوات، وطلب العلو والرئاسات، متحيرين في مهامه الخواطر والغفلات، { أولئك الذي اشتروا الضلالة } عن طريق الخصوص من أهل الوصول، { بالهدى } الذي كان بيدهم، لو حصل لهم التصديق والدخول، فما ربحوا في تجارتهم، وما كانوا مهتدين إلى بلوغ المأمول. قال بعض العارفين: التصديق بطريقتنا ولاية، والدخول فيها عناية، والانتقاد عليها جناية. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
القراءة قرىء في الشواذ واذا لاقوا الذين. قرأها اليماني. وفى القراء من همز { مستهزئون } ، ومنهم من ترك الهمزة. المعنى: حكي عن ابن عباس أنه قال: هذه في صفة المنافقين فكان الواحد منهم اذا لقي اصحاب النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال إنا معكم ـ أي على دينكم ـ وإذا خلوا إلى شياطينهم ـ يعني اصحابهم ـ قالوا انما نحن مستهزئون ـ يعني نسخر منهم يقال خلوت اليه، وخلوت معه. ويقال خلوت به على ضربين: احدهما ـ بمعنى خلوت معه، والآخر ـ بمعنى سخرت منه. وخلوت اليه في قضاء الحاجة لا غير. وخلوت به له معنيان: احدهما ـ هذا، والآخر ـ سخرت منه. قال الأخفش: رقد تكون " إلى " في موضع الباء، " وعلى " في موضع عن، وانشد: | **اذا رضيت عليّ بنو قشير** | | **لَعمر الله أعجبني رضاها** | | --- | --- | --- | فعلى هذا يحتمل أن تكون الآية: { خلوا مع.. } وقال الرماني: الفرق بين اللقاء والاجتماع، أن اللقاء لا يكون إلا على وجه المجاورة، والاجتماع قد يكون كاجتماع العزمين في محل. وقد بينا معنى الشيطان فيما مضى معكم و { معكم } ـ بفتح العين وسكونها ـ لغتان. وترك الهمزة في { مستهزئون } لغة قريش، وعامة غطفان. وكنانه بعضها يجعلها بمنزلة (يستقصون، ويستعدون) بحذفها. وبعض بني تميم وقيس يشيرون إلى الزاء بالرفع، بين الرفع والكسر، وهذيل، وكثير من تميم يخففون الهمزة وقال بعض الكوفيين: إن معنى { إذا خلوا }: إذا انصرفوا خالين، فلأجل ذلك قال: إلى شياطينهم. على المعنى، وهو مليح، وقيل: إن شياطينهم: رؤساؤهم وقيل: أريد بهم أصحابهم من الكفار. وروي عن أبي جعفر عليه السلام: أنهم كهانهم. والاستهزاء: طلب الهزء بايهام أمر ليس له حقيقة في من يظن فيه الغفلة. والهزء: ضد الجد يقال هزىء به هزء والتهزي: طلب الهزء: بالشيء، وغرضهم كان بالاستهزاء مع علمهم بقبحه حقن دمائهم باظهار الايمان واذا خلوا الى شياطينهم كشفوا ما في نفوسهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
هذا هو النوع الرابع من أنواع الأفعال والأقوال القبيحة للمنافقين المذكورة في هذه الآيات، ولهم أنواع كثيرةٌ من القبائح مذكورة في مواضع من القرآن. منها: ما ذكره بقوله:**{ وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }** [الزمر:45]. وبقوله:**{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِٱلَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا }** [الحج:72]. ومنها ما وصفهم الله به في قوله:**{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ }** [البقرة:206]. ومنها: تقليدهم للآباء والمشايخ وإن كانوا على الباطل، كما وصَفهم الله في مواضع بمثل قوله:**{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ }** [لقمان:21]. ومنها: اتّباعهم للهوى:**{ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ }** [الكهف:28]. الآية. ومنها: انكارهم واستكبارهم عن طلب الحق وقبوله:**{ فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ }** [النحل:22]. ومنها: غمزهم للمؤمنين:**{ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ }** [المطففين:30]. ومنها: الهمزة واللمز:**{ ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ }** [الهمزة:1]. ومنها: تَنابزهم بالألقاب:**{ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ }** [الحجرات:11]. ومنها: تفاخرهم بالأنساب:**{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ }** [الحجرات:13]. ومنها: تزكيتهم أنفسهم:**{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ }** [النساء:49]. ومنها: افتراؤهم على الله:**{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ }** [الأنعام:93]. ومنها: كتمانهم ما أنزل الله:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا }** [البقرة:159] الى قوله:**{ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ }** [البقرة:159]. ومنها: أكلهم أموال اليتامىٰ ظلماً:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً }** [النساء:10]. الآية. ومنها: أكلهم الأموال بالباطل من جهة التشبّث بالدين:**{ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ }** [التوبة:34]. ومنها: غرورهم بالدين:**{ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }** [آل عمران:24]. ومنها:**{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا }** [آل عمران:120]. ومنها:**{ وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـآءَ ٱلنَّاسِ }** [النساء:38]. ومنها:**{ ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً }** [النساء:139]. ومنها:**{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً }** [الأنفال:35]. ومنها:**{ ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ }** [التوبة:9]. ومنها:**{ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }** [التوبة:109]. ومنها: إنهم يجعلون لله ما يكرهون من الصفات التشبيهية، والانفعالات، كالغضب والانتقام على النحو الذي تخيّلوه. ومنها: سعيهم في تحصيل العلوم الظاهريّة طلباً للدنيا والاشتهار، وانكارهم للعلوم الخفيّة الإلٰهية:**{ ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً \* أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً }** [الكهف:104 - 105]. ومنها: مجادلتهم في الله من غير معرفة وبصيرة:**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ \* كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ }** [الحج:3 - 4]. ومنها: انهم زُيّن لهم سوءُ عملهم:**{ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [محمد:14]. ومنها: ارتدادهم عن الهدى بحسب سرّهم:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ }** [محمد:25] الى قوله:**{ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ }** [محمد:26]. ومنها: استنكافهم عن صحبة الصلحاء:**{ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ }** [المنافقون:8]. ومنها: كثرة يمينهم وحلْفهم في إثبات الدواعي والدعاوي:**{ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ }** [القلم:10]. الآيات. قال تعالى:**{ وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ }** [البقرة:224]. وقيل: إيمان المرء يُعرف من أَيْمانِه. ومنها: تولّيهم عن ذكر الله الى الدنيا:**{ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَٰوةَ ٱلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ }** [النجم:29 - 30]. ومنها: الاستدارج من الله لهم:**{ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }** [القلم:44 - 45]. ومنها: إعراضهم عن الآيات والحكمة، ونسيانهم ذكر الله:**{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ \* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً \* قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ }** [طه:124 - 126]. وقوله:**{ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ }** [المجادلة:19]. وقوله:**{ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ }** [التوبة:67]. ومنها: انهم يضحكون من طور أهل العلم والورع، وينسبونهم الى الضلال، قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ \* وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ \* وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ \* وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ }** [المطففين:29 - 32]. إلى غير ذلك من أقوالهم القبيحة، وأطوارهم النكيرة، وآرائهم المردية، وأهوائهم الشيطانية التي يطول الكلامُ بذكرها، بل هي خارجة عن الضبط. وقرئ: " إذا لاقوا ". وقوله: { آمَنَّا } المراد به أخلصنا بالقلب، وما صدّرت به القصة كان بمعنى " أقررنا " ، فلا تكرار. والدليل على ما ذكرنا أمران: أحدهما: أنّ الإقرار باللسان كان معلوماً منهم فما احتاجوا الى بيانه، انما المشكوك فيه منهم هو الإخلاص بالقلب، فاحتاجوا الى إظهاره. وثانيهما: أنّ قولهم للمؤمنين: { آمَنَّا } يجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يُظهرونه لشياطينهم، فادعاؤهم هناك كان تكذيباً قلبياً، فها هنا ينبغي أن يكون تصديقاً قلبياً. وقيل: هذا بيان معاملتهم مع الطرفين، والذي ذكر في صدر القصّة، فلبيان مذهبهم وتمهيد كفرهم ونفاقهم، فليس بتكرير. وقوله: { وَإِذَا خَلَوْاْ } ، في الكشّاف: إنّه من " خَلَوتُ بفلان، وإليه ": إذا انفردتَ معه، أو من " خَلا " بمعنى: مضى. و " خلاكَ ذم " أي: عداكَ ومضى عنك. ومنه " القرونُ الخَالِية ". أو من " خَلوتُ به " اذا سخرت منه. وعدّي بـ " إلى " لتضمين معنى الانتهاء، والمراد أنهم انهوا السخريّة بالمؤمنين الى شياطينهم كما تقول: أحمدُ إليك فلاناً وأذمّه اليك. فصل فيه إشراق وأما: { شَيَاطِينِهِمْ } ، فهم الذين ماثَلوا الشياطين في تمرّدهم وعصيانهم واستبدادهم بالرأي، وإنكارهم للحق، وإبرازهم الباطلَ بصورةِ الحق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واعلم أنّ كل منافق فهو شيطانٌ بالحقيقة وبحسب الباطن، وإن كان ظاهره ظاهر الإنسان، إذ لا عبرة به، إنّما العبرة بالقلب وأحواله، وما حشر إليه في يوم الآخرة، ويكون حشْر المنافقين يوم القيام من قبورهم الى الشياطين، لغلبة صفة الشيطنة على قلوبهم، من المكْر والحيلة والخديعة، وسوء الاعتقاد، والإغواء للخلق، وحبّ الاستيلاء والتمرّد والتجبّر، وغير ذلك. بيانه: أنّ في الإنسان قوّة علمية وقوّة عملية. والعلمية منقسمة الى عقلية ووهمية. والعملية منقسمة الى شهوية وغضبية، وسعادته منوطة بتكميل القوّة النظرية والبصيرة الباطنية بتكرير النظر الى حقائق الأشياء، والمطالعة للأمور الإلٰهية على وجه الحق والصواب، وبتسخير قواه الإدراكية والتحريكية وسياستها إياها لتصير مقهورة تحت أمرها ونهيها، ولا تكون متمرّدة عاصية، ولتلك القوى رؤوساً ثلاثة: الوهم للادراكية، والشهوة والغضب للتحريكية، إذ كل منها متشعّبة الى فروع كثيرة، وخوادم هي جنودها، ففي الإنسان ما دام كونه الدنيوي أربع شوائب: العقل والوهم والشهوة والغضب. والأول مَلَك بالقوّة. والثاني شيطان بالقوّة. والثالث بهيمة بالقوّة. والرابع سُبعٌ بالقوة. وكل منها إذا قوي بتكرير أعمال وأفعال تُناسبه، يصير ذلك الشيء الذي كان هو هو بالقوّة، بالفعل، ويكون الحكم له في الإنسان ويحشر إليه. فمن غلب عليه في الدنيا إدراك المعارف، والميل الى الطاعات، والتجرّد عن الوساوس والعادات، والتوحّش عن الدنيا والخلائق، يكون معاده الى عالَم الملكوت الربّاني صائراً مَلَكاً ربّانياً محشوراً اليه مع الملائكة المقرّبين، قال تعالى:**{ يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً }** [مريم:85]. ومن غلب عليه إدراك الوهميّات الباطلة، وإبداء الشبهات والأقيسة الفاسدة، والميل الى المكر والحيلة والخديعة، والسمعة والرياء، والاستهزاء والسخريّة للعباد، والشهرة في البلاد، والاستبداد بالرأي، والاتّباع للهوىٰ، ومخالفة أهل الحق، والإغواء للناس، فيكون معاده الى عالم الشياطين، صائراً شيطاناً مَريداً ملعوناً محشوراً مع الشياطين، كما قال تعالى:**{ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ }** [مريم:68]. ومن غلب عليه حبّ الشهوات؛ من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة، وغير ذلك من مشتهيات البطْن والفرْج، فمعاده الى عالَم البوار، وحشْره الى الحشرات كما قال:**{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ }** [الأنعام:38] الى قوله:**{ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }** [الأنعام:38]. وكذا من غلبت عليه صفات السُّبُعية من التهجّم والايذاء، والعداوة والبغضاء، والظلم والوقاحة، وغير ذلك، فيحشر مع السباع والوحوش كما قال:**{ وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ }** [التكوير:5]. فعُلم انّ حشر الخلائق إلى أحد هذه الأجناس الأربعة، التي لا يخلو عنها شيء من الجواهر الحيّة المدركة والمحرّكة. فقد ثبت وتحقّق بهذا البيان والبرهان، أنّ اطلاق الشياطين على المنافقين، بالحقيقة واليقين، لا بالمجاز والتخمين، لأنّ مَدار نفاقهم على المكر وايهام الحق، وترويج الباطل، والتشبّه بأهل الإيمان والعلم، وادّعاء الصلاح، فقد صارت بواطنهم، بكثرة أعمالهم الشيطانية الوهمية، انقلبت الى حقيقة الشياطين بالفعل، وخرجت عن القوة والاستعداد لها ولغيرها، وتمنّي الرجوع منهم الى اصل الفطرة كما في قولهم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً }** [السجدة:12] تمنّي امر مستحيل الوقوع، فلأجل ذلك قال تعالى: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } ، إذ المراد بهم أكابر المنافقين، والراسخون في الكفْر والنفاق، وهؤلاء المتردّدون اليهم تارة والى المؤمنين أخرى من الأصاغر. فصل قوله: " إنّا مَعَكُمْ " ، أي في الضمير وعقيدته، وقد خاطَبوا المؤمنين بالجملة الفعلية، وخاطبوا الشياطين بالجملة الإسمية المؤكدة " بإنّ " لأنهم قصَدوا بالأولى إحداث الإيمان، وبالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه، ولأن أنفسهم لا تساعدهم على أن يكون ما خاطَبوا به المؤمنين جديراً بكونه أقوى الكلامين؛ لركونهم الى أهل البطالة والشهوة؛ وكراهتهم بالطبع عن لقاء الله وأهله والقول الصادر عن الكراهة والنفاق. قلما تحصل معه المبالغة، فادّعوا عندهم حدوث الإيمان لإكمال تحقّقه، بخلاف ما صدر عنهم عند إخوانهم، لعلمهم أيضاً بأن ادّعاء الكمال في الإيمان، لا يروج على المؤمنين. وأما كلامهم مع إخوانهم في إنكار الشريعة، فعلموا انّه مقبولٌ عندهم بأي وجه كان من التأكيد، فأكّدوا القول فيه. قوله جلّ اسمه: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ كأنه جواب عن سؤال الشياطين بأن قالوا إنّا معكُم: إن صحّ ذلك منكم، فما بالَكم تتردّدون الى المؤمنين وتُوافقونهم في الكلام، وتدّعون الإسلام؟ فأجابوا بأنّا مستهزئون بهم. أو تأكيد لما قبله؛ لأن المُستهزئ بالشيء مصرٌّ على خلافه. أو بدلٌ منه، لأن من حقّر شيئاً فقد عظّم نقيضه. والاستهزاء: هو السخرية والاستخفاف يقال: هزأت واستهزأت بمعنى واحد، كأحببت واستجبت. وأصله الخفّة، من الهزء. وهو القتل السريع يقال هزأ فلان إذا مات على مكانه، وناقته تهزأته أي تسرع وتخف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ)
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } كانت الفقرتان الاوليان لبيان حالهم فى أنفسهم وأنّهم باعجابهم بأنفسهم وارتضائهم لافعالهم لا يسمعون نصح النّاصح وهاتان لبيان حالهم مع المؤمنين والكفّار وبيان خديعتهم للمؤمنين { قَالُوۤا آمَنَّا } بالجملة الفعليّة الخالية عن المؤكّدات لايهام انّ ايمانهم لا ينبغى ان ينكر او يشكّك فيه ولعدم مساعدة قلوبهم على المبالغة والتّأكيد { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } جمع الشّيطان والشّيطان معروف، وتسمية الانسان شيطاناً امّا لصيرورته مظهراً للشيطان ومسخّراً تحت حكمه، او للمشاكلة والمشابهة، او لكون الانسان احد مصاديقه باعتبار معناه اللّغوىّ فانّه مشتقّ من شطن اذا بعد لبعد شياطين الجنّ والانس عن الخير، او من الشّطن بمعنى الحبل الطويل المضطرب، او من شاط اذا بطل لبطلانهم فى ذواتهم فعلى هذا كان نونه زائدة { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } فى الدّين والاعتقاد اكدّوا الحكم لتوهّم انكاره او الشّكّ فيه من شياطينهم لمخالطتهم مع المؤمنين ولنشاطهم فى اظهاره فانّ نشاط المتكلّم فى الحكم يدعوه الى المبالغة والتّأكيد، ولهذا لم يكتفوا بهذا القدر وبسطوا فى الكلام وقالوا مؤكّدين بتأكيدات قاصرين شأنهم قصر القلب او الافراد { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } الاستهزاء معروف وان كان بحسب حال المستهزء والمستهزء به من حيث الاستهزاء محتاجاً الى شرح وتفصيل وكيف كان فالاستهزاء المنسوب الى الله كان مجازاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير تفسير الأعقم/ الأعقم (ت القرن 9 هـ)
{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } الآية، نزلت في عبد الله بن أُبي وأصحابه. روي عن ابن عباس ان عبد الله بن اُبي وأصحابه خرجوا فاستقبلهم نفر من الصحابة (رضي الله عنهم) فقال: انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم، وأخذ بيد عمر وقال مرحباً بالفاروق وسيد بني عدي، واخذ بيد أبي بكر وقال مرحباً بسيد بني تميم وثاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار، واخذ بيد علي (عليه السلام) وقال: مرحباً بابن عم رسول الله وحبيبه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال له علي (عليه السلام): " يا عبد الله اتق الله ولا تنافق فإن المنافقين في النار وانهم شر خلق الله ". فقال: مهلاً يا ابا الحسن لا تقل هذا فوالله ان إيماننا كإيمانكم، فتفرقوا فقال لأصحابه: كيف رأيتم ما فعلتُ؟ فأثنوا عليه وقالوا: لا نزال بخير ما دمت فينا، ورجع المسلمون فأخبروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية. { وإذا خلوا إلى شياطينهم } مضوا معهم، يقال: خلا معه وإليه وبه، قال الاخفش: يقال: خلا به اذا انفرد به، قال الحسن: " الشياطين مردة الجن وابليس أصلهم، وشياطين الانس مردتهم، وآدم أبوهم ". { الله يستهزئ بهم } أي يجازيهم على استهزائِهم. { ويمدهم } يعني يمهلهم. { في طغيانهم يعمهون } قيل: يحادون، وقيل: يترددون. { اولئك الذين اشتروا الضلالة } مجاز بالشراء لما مالوا اليها قال الشاعر: | **كما اشترى المسلم اذا تبصَّر** | | | | --- | --- | --- | { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } الآية: اي هؤلاء المنافقون مثلهم في كونهم من جملة المسلمين في الدنيا وتميزهم عنهم في الآخرة كمثل رجل بقي هو وأصحابه في الطريق في ليلة مظلمة فأوقد ناراً لينظر هو واصحابه الطريق. { فلما أضاءت } النار { ما حوله } أطفأ الله تلك النار فعادت الظلمة كما كانت فكذلك اذا مات هؤلاء المتقدم ذكرهم عادوا الى الظلمة، وبقوا في العقاب الدآئم أجارنا الله منه. { صم بكم عمي فهم لا يرجعون } يعني هؤلاء المنافقين، قيل: صم عن استماع الحق، بكمٌ عن التكلم به، عميٌ عن الابصار له. { أو كصيب } قيل: مثل ثان للمنافقين. { من السماء } قيل: سحاب من السماء ذا مطر، وقيل: كمطر من السماء. { فيه } يعني في الصيب. { ظلمات ورعد } قيل: صوت ملك يزجر السحاب، وقيل: الرعد هو الملك. { وبرق } قيل: محاريق من حديد، وقيل: سوط من نار، رواه أمير المؤمنين علي (عليه السلام). { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذر الموت } أي مخافة الموت أن تناله الصاعقة فتهلكه، فيجعل اصبعه في أذنه كيلا يسمع منه شيئاً كذلك هذا الجاهل يفر عن سماع القرآن والحق. { يكاد البرق يخطف أبصارهم } أي تكاد الدلائل والآيات تخطف قلوب هؤلاء، المتقدم ذكرهم لما فيها من الازعاج الى النظر، والدعاء الى الحق كما يكاد البرق يخطف أبصار أولئك. { كلما أضاء لهم مشوا فيه } قيل: اذا آمنوا صار الإسلام لهم نوراً، واذا ماتوا عادوا الى الظلمة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ)
{ وَإِذَا لَقُوا } أصله لقيوا بكسر القاف وضم الياء نقلت ضمة الياء لثقلها عليها إلى القاف بعد سلب كسرته، فالتقى ساكنان الياء والواو، فحذفت الياء، ثم التقى ساكنان الواو ولام أل فحذفت الواو فى التلاوة وثبتت فى الرسم واللقاء أواخر الاستقبال إلى الشىء وأوائل الاجتماع به، وإن شئت فقل المصادفة، يقال لقيه ولاقاه بمعنى، وقد قرأ أبو حنيفة { وإِذَا لاَقُوا } بمد الألف وفتح القاف وكسر الواو للساكن بعدها، ويقال ألقيته أى طرحته بحيث يوافيه الماشى ويصادفه، ويجتمع به فأصلهما واحد والمعنى وإذا صادفوا. { الَّذِينَ آمَنُوا } واجتمعوا بهم وهم المهاجرون والأنصار ومن يهابونه من المؤمنين. { قَالُوا } لهم { آمَنَّا } بما أمنتم به، بالله وباليوم الآخر والقرآن، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن قلت هل يتكرر قوله { وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } مع قوله**{ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا }** قلت لا يتكرر معه، لأن قوله عز وعلا**{ ومن الناس من يقول آمنا }** سبق لبيان طريقهم فى النفاق وتمهيد نفاقهم بأن صرح بأنهم يؤمنون بألسنتهم فقط. وأما قوله { وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا }.. إلخ فتصريح بأنهم يلاقون المؤمنين بوجه، ويلاقون الكافرين بوجه آخر، وزادوا على ذلك أنهم يخبرون والكفار بأن الوجه الذى نلقى به المؤمنين مخادعة غير حقيق، قال ابن عباس نزلت هذه الآية فى عبد الله بن أبى وأصحابه، خرجوا ذات يوم واستقبلهم نفر من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن أبى أنظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فذهب فأخذ بيد أبى بكر الصديق فقال مرحباً بالصديق سيد بنى تميم، وشيخ الإسلام، وثانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الغار، الباذل نفسه وماله لرسوله الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد عمر فقال مرحباً بسيد بنى عدى بن كعب الفاروق القوى فى دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد على فقال مرحباً بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وسيد بنى هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له على اتق الله يا عبد الله ولا تنافق، فإن المنافقين شر خليقة الله تعالى، فقال مهلا يا أبا الحسن لا تقل هذا والله، إن إيماننا كإيمانكم، وتصديقنا كتصديقكم. ثم تفرقوا فقال عبد الله لأصحابه كيف رأيتمونى فعلت؟ فأثنوا عليه خيراً. رواه الواحدى والبغوى وغيرهما، يزيد بعض على بعض. وختن الرجل عند العرب من كان من جهة امرأته، وعند العامة زوج ابنته وكلاهما صحيح عندى. { وَإِذَا خَلُوا إِلى شَيَاطِنِهِمْ } إلى بمعنى مع أو عند، ولو قيل خلوا بشياطينهم لكان أيضاً بمعنى معهم أو عندهم، ويجوز إبقاء إلى على أصلها من الانتهاء، على أن خلا بمعنى مضى، أى مضوا من المؤمنين أو عن المؤمنين إلى شياطينهم، أو بمعنى جاوزوا المؤمنين إلى شياطينهم، يقال خلاك ذم أى جاوزك إلى غيرك، أو ضمن خلا بمعنى رجع، أى رجعوا إلى شياطينهم فإن الخلو من شىء رجوع إلى غيره، أو ضمن معنى الإنهاء والإبلاغ من خلا فلان إذا سخر منه وعبث به، أى إذا بلغوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها، يقال أحمدك الله، أى أبلغك أنى أحمده على حالك، وأذم إليك عمراً كذلك، فمفعول خلا محذوف كما رأيت تقديره، أو خلا باق على معنى الانفراد واللزوم، فيقدر حال ومفعولها، أى وإذا انفردوا مبلغين السخرية إلى شياطينهم، والمراد بشياطينهم الآدميون الذين يشبهون الجن المتمردين على دين الله فى القول والفعل علانية وتصريحاً، وتسميتهم شياطين استعارة تصريحية تحقيقية أصلية، والقرينة إضافة الشياطين إليهم والخلو إليهم المذكور بعد، وهم أولى لقوتهما فى جانب الحقيقة، وإذا جعلنا شياطينهم قرينة فما سواه تجريد وإنما أضيفوا إليهم للمشاركة فى الكفر، أو لأنهم قدوتهم ورؤساؤهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال الحسن شياطينهم هم الآدميون الكفار، وقال أصحابنا رحمهم الله كبراؤهم وقادتهم فى الشر، وكلام الحسن يحتمله، قال ابن عباس رضى الله عنه شياطينهم رؤساء الكفر، وقال مجاهد أصحابهم من المنافقين والمشركين، وقيل المنافقون الكفار. فالقائلون المنافقون الصغار، وقيل شياطينهم كهنتهم، وعن ابن عباس كهنتهم الخمسة المتمردة كعب بن الأشرف من اليهود بالمدينة لعنه الله، وأبو بردة فى بنى أسلم لعنه الله، وعبد الدار فى جهينة لعنه الله، وعوف بن عامر فى بنى أسد لعنه الله، وعبد الله بن السوار فى الشام لعنه الله، وتسميتهم شياطين أشد مناسبة لأنهم يتكلمون مع الشياطين ويأخذون عنهم، إذ لا كاهن إلا ومعه شيطان تابع له، وإطلاق الشياطين على الآدميين المتمردين مجاز فى العرف والعادة والعربية والعامة، وأما فى أصل العربية فاالشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب، ونون الشيطان أصلية والياء والألف زائدة، ووزنه فيعال، فلو سمى به أحد لصرفه وهو من شطن إذا بعد لبعده عن الصلاح والخير، ويدل له قولهم تشيطن أو زائدة مع الألف والياء أصل، ووزنه فعلان، فلو سمى به لمنع الصرف وهو من شاط يشيط إذا احترق، أو بطل، والشيطان باطل ومحترق بالشهب، وفى جهنم، ويدل له تسمية الشيطان بالباطل، وقد ذكر سيبويه فى موضع من كتابه أنها أصل وفى آخر أنها زائدة لا يتنافى ذلك، بل أراد أن فيه وجهين محتملين. { قَالُوا } لهم { إِنَّا مَعَكُمْ } فى الاعتقاد والديانة التى دنتم بها، وفى الأثر **" ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها "** وعنه صلى الله عليه وسلم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" من شر الناس ذو الوجهين يأتى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه "** رواه أبو داود فى سننه، وقال صلى الله عليه وسلم **" من كان له وجهان فى الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار "** رواه أبو داود فى سننه أيضاً. قلت لم قالوا للمؤمنين آمنا معبرين بالجملة الفعلية، وقالوا للكفار إنا معكم بالجملة الاسمية المؤكدة، بأن؟ قالت عبروا للمؤمنين بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث ادعاء لحدوث الإيمان لهم، وأنهم بعد ما كانوا فى الكفر تركوه وخرجوا عنه إلى الإيمان، وهذا ما أمكن لهم أن يخادعوا به المؤمنين، ولا يمكنهم أن يخادعوا بادعاء الإيمان والرسوخ فيه، والتأكيد والمبالغة، ولا بادعاء أنهم أعظم إيماناً داخلون الجنة التى لم يدخلها سواهم، إذ لو ادعوا ذلك لم يقبله المؤمنون عنهم ولم يصدقوهم، بل يكذبونهم، ولأن أنفسهم لا تساعدهم على ادعاء ذلك، لأنه يؤدى إلى ظهور كذبهم وافتضاحهم، ولرسوخها فى الكفر والنفاق حتى لا تطاوعهم إلى ادعاء ذلك كذباً، وربما صدر منهم مكابرة لأنفسهم، وتشجعاً موطنين أنفسهم على أن يكذبهم السامع كما مر عن عبد الله بن أبى مع على بن أبى طالب. وأما مخاطبتهم الكفار بالكون معهم فقابلة للتأكيد بالجملة الاسمية وإن، وادعاء البقاء على الكفر، وعدم الخروج منه لأنهم على هذه الصفة من أنفسهم وظاهر منهم ما يصدقهم عليها، فهم يصرحون بها إلى الكفرة فى نشاط وارتياح إلى التكلم بها، وتقبل الكفرة ذلك عنهم وتصدقهم فساغ التأكيد للجملة الاسمية الدالة على الثبوت وبأن وبقولهم { وَإِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } فى قولنا للمؤمنين منا فإنا نقوله بألسنتنا فقط، فهذه الجملة مؤكدة الجملة { إنَّا مَعَكُمْ } ، وبيان التأكيد أن المستهزئ بالشىء المستخف به منكر لذلك الشىء، ودافع لأن يكون معتداً به ودفع الإيمان إصرار على الكفر، كما أن قولهم إنا معكم إصرار عليه، ويجوز أن تكون جملة إنما نحن مستهزئون بدل من جملة إنا معكم، بدل مطابق، فإن الاستهزاء بالإيمان ترك للكون مع أهله، وعدم الكون معهم نفسه الكون مع الكفرة المدلول عليه بقوله { إِنَّا مَعَكُمْ } وإن شئت فقل الاستهزاء به تحقير له وتحقيره تعظيم للكفر، وقولهم إنا معكم تعظيم للكفر، ويجوز أن تكون استئنافاً بيانياً كأنه قيل إن صح أنكم معنا فمالكم تقولون للمؤمنين آمنا؟ فأجابوا بأنا نقول لهم ذلك استهزاء بمحمد وأصحابه والمؤمنين لنا من شرهم، ونقف على سرهم ونأخذ من غنائمهم وصدقاتهم، والاستهزاء السخرية والاستخفاف، وأصله الموت السريع والفعل الخفيف والسريع، يقال هزأ فلان مات فى مكانه سريعاً، وهزأت الناقة أى أسرعت وخفت، وهزأ بقوله أسرع به من غير توقف أن يكون من صميم قلبه. { اللَّهُ يَسْتَهْزئُ بِهِمْ } أى يجازيهم على استهزائهم، وذلك من تسمية العقوبة باسم الذنب، فسمى جزاء الاستهزاء باسم الاستهزاء، ذلك مذهب الجمهور، وإنما لم نحمل الاستهزاء على ظاهره لأنه عبث وجهل، كما قال قوم موسى له | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين }** فجعل المستهزئ من الجاهلين، والله جل وعلا منزه عن القبائح من عبث وجهل وغيرهما، ومن ذلك بتسمية جزاء السيئة سيئة إلا أن يقل تسميتها سيئة أو تسمية الجزاء سيئة باعتبار المعنى اللغوى وهى الفعلية تسوئ وتؤلم، وإن قلت فهل لا قيل الله يجازيهم على استهزائهم بدل الله يستهزئ بهم؟ قلت عبر عن المجازاة على استهزائهم بالاستهزاء إما للمشاكلة لقوله { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهزِءُونَ } ، والمشاكلة نوع من أنواع البديع اللفظية، وهى ذكر الشىء بلفظ غيره لوقوع ذلك الشىء فى صحبة ذلك الغير وقوعاً محققاً أو مقدراً. وستأتى إن شاء الله تعالى فى سورة النحل، وإما لكون الجزاء على الاستهزاء مماثلا للاستهزاء فى القدر، وكلا الوجهين مجاز، فالأول مرسل تبعى لعلاقة المجاورة، والثانى بالاستعارة التصرحية التحقيقية التبعية، أو معنى يتسهزئ بهم ليرد وبال الاستهزاء عليهم، ورده الوبال عليهم كالاستهزاء بهم، وفيه الاستعارة المذكورة، أو معناه ينزل بهم الحقارة والهوان اللذين هما لازم الاستهزاء والغرض منه، فيكون مجازاً مرسلا تبعيا من التعبير باسم الملزوم عن اللازم، أو بلفظ المسبب عن السبب نظراً إلى الوجود، فإن الاستهزاء مسبب عن الحقارة الموجودة فى نفس الأمر، أو بلفظ السبب عن المسبب نظراً إلى التصور، فإن الاستهزاء إنما يمكن ويتصور إذا وجدت الحقارة والهوان، وأو باللازم عن الملزوم كذلك، فإن الاستهزاء إنما يترتب على حقارة وهوان موجودين، أو معنى يستهزئ بهم يعاملهم معاملة المستهزئ بأن يفعل بهم فعالا هى فى تأمل البشر هزء، فتكون تلك الاستعارة المذكورة شبه صورة صنع الله بصورة صنع الهازئ مع المهزأ به، وذلك فى الدنيا والآخرة، فأما فى الدنيا فإجراء أحكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالإهمال والزيادة فى النعمة مع تماديهم فى الطغيان، كأنهم شاكرون، وأما فى الآخرة فقد روى أن النار تجمد لهم كما يجمد الشحم المذوب، ويظنون أنها منجاة فتخسف بهم، روى ابن أبى الدنيا فى كتاب الصمت عن الحسن مرسلا، وغيره عن الحسن وابن عباس والشيخ هود رحمه الله، وغيره وهو أطولهم حديثاً واللفظ له، وبعض يزيد على بعض. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" يجاء بالمستهزئين يوم القيامة فيفتح لهم باب إلى الجنة "** قال القاضى وهم فى النار فيدعون ليدخلوها، أى بصورة من يدعى ليدخلها - وإلا فلم يدعوا ليدخلوها - بل يقال لهم تعالوا فيجيئوا فيزدادوا فيقع الاغتمام لهم بذلك، فيجيئون أى مسرعين ليدخلوها، فإذا بلغوا الباب أغلق، فيرجعون. ثم يدعون حتى إنهم ليدعون فما يجيئون من الإياس. واختص الشيخ بذكر تكرار دعائهم وردهم حتى يئسوا، وفى رواية عن الحسن وابن عباس تفتح لهم أبواب النار فيدعون فيسرعون للخروج، فتغلق عليهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا } أى ذكروا ما يفيد أنهم آمنوا، وسائر الأقوال والأفعال، وذلك أن الإيمان قد علم منهم فى الظاهر قبل ذلك، وذلك دفع للمؤمنين عن أنفسهم واستهزاء، ولا يتكرر مع ما مر؛ لأنه إبداء لخبثهم وخوفهم، وادعاء أنهم أخلصوا الإيمان، ولأنه بيان لكونهم يقولون ذلك خداعا واستهزاء، وأنهم يقولون ذلك عند الحاجة إليه فقط، وذلك عند لقاء المؤمنين { وَإِذَا خَلَوْاْ } عن المؤمنين راجعين { إِلَى شَيَٰطِينِهِمْ } أو خلوا مع شياطينهم، يقال، خلوت إليه، أى معه، وشياطينهم رؤساؤهم، كعب بن الأشرف من اليهود فى المدينة، وأبو بردة فى أسلم، وعبد الدار فى جهينة، وعوف بن عامر فى أسد، وعبدالله بن الأسود فى الشام، وغيرهم ممن يخافونه، من كبار المشركين والمنافقين، سماهم شياطين تشبيها لمزيد فسادهن وإغوائهم، وذكر بعض أن هؤلاء المذكورين كهنة، وقيل: الشيطان حقيقة فى كل متمرد من الجن أو من الإنس وليس المراد الكهنة خلافا للضحاك، ولو كان مع كل كاهن شيطان، لأنهم أهون من أن يتملقوا إليهم، بقولهم، إنا معكم، كما قال الله عنهم { قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } فى الدين اليهودى، إن أريد بشياطينهم اليهود، وإن أريد به مشركو العرب فالمراد فى الإشراك { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } بالمؤمنين فى قولنا، آمنا، لا مؤمنون حقيقة، بل قلنا ذلك لنكف عن أنفسنا القتل والشر والسبى وبحلب الخير، كالأخذ من الصدقة والغنيمة، مع الاحتقار والتهكم بهم، ولا تظنوا أننا تبعناهم، والاستهزاء بمعنى الهزء، كاستعجاب بمعنى العجب، وهو الاستخفاف والسخرية، وأصله الخفة، يقال هزأت به الناقة أسرعت به. روى أن أُبىّ بن عبدالله وأصحابه جاءهم نفر من الصحابة لينصحوهم، فقال لقومه، انظروا، كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد أبى بكر الصديق، فقال، مرحبا بالصديق وشيخ الإسلام، ثم أخذ بيد عمر، وقال مرحبا بالفاروق القوى فى دينه، ثم أخذ بيد علىّ، وقال: مرحبا بابن عم رسول الله، وسيد بنى هاشم، فقال له: يا عبدالله، اتق الله ولا تنافق، فقال له: مهلا. يا أبا الحسن؛ إنى لا أقول هذا والله، إلا أن إيماننا كإيمانكم، ثم انترقوا، وقال لأصحابه، كيف رأيتمونى فعل فإذا رأيتموهم فافعلوا مثل ما فعلت، فأثنو عليه، وقالوا: لا نزال بخير ما دمت فينا. وأخبر المسلمون النبى صلى الله عليه وسلم بذلك فنزلت الآية، وليس ذلك عين سبب النزول، بل مناسبة؛ لأن أبيّا قال لأصحابه، انظرواكيف أفعل، والجملة مستأنفة فى كلامهم بلا تقدير سؤال هكذا، ما لكم توافقون المؤمنين، لقول عبدالقاهر موضوع إنما أن تجىء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته، إلا أنه قد يصور السؤال فى صورة لا تحتاج إليه فيجوز التقدير المذكور، وقد لا نسلم قول عبدالقاهر إذا ادعى أنه ذلك أصل إنما، وأن مدخلوها معلوم، وحىء بها لإفادة الحصر، وليس كذلك أيضاً، فإنك تقول: إنما قام زيد لمن لا شعور له بقيامه وحده، ولا مع غيره، ولا بقيام غيره دونه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- )
يبين لنا الله تعالى هنا نمطا من أنماط معاملتهم لغيرهم، وأسلوبا من أساليب الخداع التي يلجأون إليها، هروبا من الفضيحة، وركونا إلى السلامة مما يترتب على انهتاك سترهم وظهور أمرهم، فهم يلقون الناس بوجهين، ويتحدثون إليهم بلسانين لأجل إرضاء كل طائفة والتوقي من كل فريق، وهو شر ما يكون في الانسان، ولذلك ترتب عليه أعظم الوعيد، كما جاء في الحديث: **" من كان له وجهان في الدنيا كان له وجهان من النار يوم القيامة، ومن كان له لسانان في الدنيا كان له لسانان من النار يوم القيامة ".** طريقة المنافقين في التعامل: هذه الطريقة متبعة عند منافقي جميع العصور على اختلافها، فهم عندما يحسون بقوة الحق، وظهور المحقين لجأوا إلى هذا المسلك، فلقوا المحقين بوجه، والمبطلين بآخر، متصورين أن هذه براعة وفطنة وذكاء، وما هي إلا غباوة ونذالة وانحطاط وسفاهة، لا يرضاها إلا الأدنياء، فلذلك عُدوا أسوأ حالا ممن أعلن باطله وجاهر بكفره، فإنهم مع ما اشتركوا فيه مع الكفار من عقيدة الكفر، تميزوا بهذا الأسلوب الذي يسخرون به من المؤمنين ويستخفون به بما أنزل الله من الحق، وتلك هي الحقيقة التي يبدونها لشياطينهم حتى يطمئنوا إليهم ويثقوا فيهم. وإنما قلت إن هذا هو ديدن أهل النفاق عندما يشعرون بسلطان الحق، ويرون آثار مده، لأن استشراء النفاق إنما بدأ بعد ما أخذ الاسلام يهز قواعد الكفر ويزلزل أركان الجاهلية، وقد علمت مما تقدم أن النفاق إنما عهد بعد غزوة بدر التي جعلت شياطين الكفر يحسبون كل حساب لهذا الدين، ولم يكن الذين لجأوا إلى النفاق من الشهامة والرجولة بحيث يتمكنون من المنابذة الصريحة والمقاومة المكشوفة، فلم يجدوا أمامهم إلا هذه الطريقة الملتوية فصاروا مذبذبين بين الطائفتين. وقوله عز من قائل { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } توطئة لما بعده، فلا يُعد تكرارا لما في قوله { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }. وأرى أن هذا العطف والذي قبله جيء بهما لتعداد مساوئ أهل النفاق كما سبق ذكره. وذكر كثير من المفسرين في سبب نزول هاتين الآيتين قصة أخرجها الثعلبي والواحدي في أسباب النزول من رواية السدي الصغير، ومحمد بن مروان عن أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وملخصها أن عبدالله بن أبيّ وأصحابه خرجوا يوما فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبدالله: أنظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم. فأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحبا بالصّدّيق سيد بني تيم وشيخ الاسلام وثاني رسول الله في الغار، الباذل ماله ونفسه لرسول الله، ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد علي فقال: مرحبا بابن عم رسول الله وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله، ثم افترقوا فقال لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا، فنزلت الآيتان فيهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإسناد هذه القصة من الضعف بمكان، فقد ذكر الحافظ في تخريجه أحاديث الكشاف أن محمد بن مروان متروك متهم بوضع الحديث، وقال عن هذا الحديث إنه في غاية النكارة، وذكر الألوسي أن سلسلة هذه الرواية سلسلة الكذب وليست بسلسلة الذهب. وأنتم إذا نظرتهم إلى سياق الآيات رأيتموها متناسقة، آخذا بعضها بحجزة بعض، كل آية منها كاشفة عن جانب مهم من مساوئ أهل النفاق، وذلك يقتضي عدم انفصال بعضها عن بعض بالاستقلال بالسببية، وإنما مجموع أعمال المنافقين في مجملها سبب رئيسي لنزول جميع هذه الآيات. ولقاؤهم الذين آمنوا الذي يترتب عليه قولهم آمنا هو عند اجتماعهم بهم في مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها، وخلوهم إلى شياطينهم عودهم إليهم في مجامعهم التي هي محل استقرارهم ومظان طمأنينتهم. والأصل تعدى خلا بالباء أو بمع، يُقال خلوت به أو خلوت معه، وتعديه هنا بإلى لتضمنه معنى آب ورجع، فإنهم منقلبهم الذي يعودون إليه، لأن لقاءهم بالمؤمنين لا يكون إلا عرضا بخلاف لقائهم بشياطينهم. والشياطين جمع شيطان وهو جنس من المخلوقات، ذو روح شريرة، طبعه الحرارة النارية، لأن النار عنصر تكوينه، بدليل قوله تعالى - حكاية عن إبليس لعنه الله -:**{ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }** [الأعراف: 12]، وقوله:**{ وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ }** [الحجر: 27]، وهم من جنس الجن لقوله تعالى:**{ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ.. }** [الكهف: 50]، وأطلقت العرب اسم الشيطان على كل عات متمرد من أي جنس كان، فقد جاء في القاموس واللسان: " الشيطان كل عات متمرد من الإِنس والجن والدواب " ، وهذا لأن طبيعة الشياطين التمرد والعتو، فأطلق اسمهم على كل ما شابههم في وصفهم على طريق الاستعارة، ومن هذا الباب قوله عز وجل:**{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ }** [الأنعام: 112]، وفي الحديث: **" الكلب الأسود شيطان "** ، وقال جرير: | **أيام يدعونني الشيطان من غزلي** | | **وهن يهوينني إذ كنت شيطانا** | | --- | --- | --- | وقد أطال علماء العربية وتبعهم المفسرون في بيان اشتقاق هذه الكلمة، وقد ذهبوا فيها مذاهب؛ منهم من عدها من شطن بمعنى بَعُدَ، ومنهم من قال هي من شاط بمعنى هاج أو احترق أو بطل، ولا أجد داعيا إلى حشو التفسير بمثل هذه الأمور التي هي أخص بفنون أخرى، وذهب ابن عاشور إلى أن الشيطان اسم جامد شابه في حروفه مادة مشتقة، ودخل في العربية من لغة سابقة، لأنه من الأسماء المتعلقة بالعقائد والأديان، ولم يأت بدليل يقضي بصحة قوله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا، قيل هم اليهود، وهو مقتضى ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا إنا على دينكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم - وهم إخوانهم - قالوا إنا معكم على مثل ما أنتم عليه.. الخ " ، وأخرج نحوه البيهقي في الأسماء والصفات، وقيل: هم رؤساؤهم في الكفر، روى ذلك ابن جرير عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - ورواه هو وعبد بن حميد عن قتادة، ورُوي مثله عن ابن عباس والسدي، وعزي إلى الكلبي أنهم شياطين الجن، وهو مشكل، وقيل هم الكهان، وعزاه القرطبي إلى جمع من المفسرين، والأظهر أنهم قادة اليهود، فإنهم الذين ديدنهم تأجيج الفتنة، وتمزيق الشمل، والتشكيك في الحق، وقد كانوا يستغلون المنافقين لهذا الغرض، على أن كثيرا من أهل النفاق كانوا من العنصر اليهودي. والمراد بمعيتهم في قوله { إنا معكم } مجامعتهم لهم على الكفر بالإِسلام، ومناوأة المسلمين، وعدم تأثر نفوسهم بالإِيمان، وهو معنى ما روي عن ابن عباس " إنا معكم على مثل ما أنتم عليه ". وفي مثل هذا الموقف قد تثور خواطر الشكوك في نفوس أولئك الشياطين؛ لما يعرفونه عن أهل النفاق من التملق للمسلمين وإبداعهم في مجاملتهم، ومحاولة التنصل أمامهم من كل العقائد المغايرة للاسلام، وقد تؤدي هذه الشكوك إلى مساءلتهم؛ ما بالكم تتملقون لدى المسلمين وتتوددون إليهم بالكلمات الطيبة والعبارات المليئة بالتقدير والاحترام؟ فيدفع المنافقون عن أنفسهم التُّهم، ويتنصلون إلى شياطينهم بقولهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } ليستأصلوا منهم الشك، وليغرسوا في أنفسهم الثقة بهم والطمأنينة إليهم، أي إنما نأتي الذي نأتيه مع المؤمنين استخفافا بهم وسخرية منهم. ويُبحث في وجه تأكيدهم لخطاب الشياطين دون خطاب المؤمنين، مع أن المتبادر أنهم أحوج إلى التأكيد في خطاب أولي الإِيمان ليدرأوا عن أنفسهم تهمة النفاق، وأجيب عنه بجوابين: أولهما: أن خطابهم لأهل الإِيمان لم يصدر عن باعث في نفوسهم فلذلك اختصروا؛ لأن ألسنتهم لا تطاوعهم على التأكيد لما وقر في قلوبهم من الكراهة المتأصلة للحق ولأهل الحق، على أنهم لا يدّعون عندهم أنهم على ذروة الإِيمان لعدم رجائهم رواج ذلك بين من يخاطبونهم، كيف وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار الذين مثلهم في التوراة والانجيل، وإنما يقنعون بادّعاء أنهم منتظمون في سلك عامة أهل الإِيمان، وبعكس ذلك خطابهم للشياطين، فإنه خطاب ناشئ من أعماق نفوسهم وصادر عن أقصى رغبتهم، وتأكيد الخطاب يراعى فيه تارة جانب المتكلم، وتارة جانب المخاطب، وأخرى جانبهما معا. ثانيهما: أن العدول عن مقتضى الظاهر في خطابهم للمؤمنين ولشياطينهم؛ لأنهم لا يريدون أن يضعوا أنفسهم موضع من يتطرق ساحته الشك في صدقه، إذ لو خاطبوا المؤمنين بالتأكيد لكان من خطابهم ما يشكك المؤمنين فيما يقولون، وهذا من إتقان نفاقهم، على أن المؤمنين قد يكونون أخلياء الذهن من الشك في المنافقين لعدم تعينهم عندهم، فتعبيرهم عن إيمانهم جدير بأن يكون تعبيرا عاديا خاليا من المؤكدات، وذلك بخلاف مخاطبتهم لقومهم، فإن إبداعهم في النفاق واختراع أساليب الخداع عند لقائهم بالمؤمنين قد يثير شكوك كبرائهم في بقائهم على دينهم، فلذلك احتاجوا إلى التأكيد في مخاطبتهم ليتقرر في نفوسهم بقاؤهم على الكفر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أساليب المنافقين في الخطاب: وأنتم إذا أمعنتم النظر فيما ورد من آي الكتاب حاكيا أقوال المنافقين، أدركتم أن خطابهم للمؤمنين كان يتلون بحسب المقامات، فتارة يكون مؤكدا، وتارة خاليا من التأكيد، وكثيرا ما يقترن بتغليظ الأيمان، وهذا يرجع - حسبما أرى - إلى اختلاف أحوال المؤمنين المخاطبين أو أحوال المنافقين المتكلمين، فخطابهم للذين يتفطنون لأحوالهم ويتنبهون لغاياتهم ليس كخطاب غيرهم ممن يكون خالي الذهن من تصور عمق النفاق وإدراك ملامح أهله، ولذا عندما يحكى خطابهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاه مقرونا بمؤكدات أكثر مما إذا حكي خطابهم لغيره، كما تجد ذلك في نحو { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } ، وذلك لما يعرفونه عنه صلى الله عليه وسلم من عمق إدراكه وسرعة تفطنه لمكائدهم، كيف وهو الذي يتلقى عن الله تعالى وحيه الكاشف لخفايا الأمور، وكذا يستدعي حال الذين شُهروا بالنفاق عند المؤمنين أن يكون كلامهم أكثر تأكيدا من كلام غيرهم، محاولة منهم لتبرئة ساحتهم وتغطية مساوئهم. والفرق بين خطابهم للمؤمنين الذي جاء جملة فعلية، وخطابهم لغيرهم الذي صيغ من الجملة الإِسمية، لأنهم عند المؤمنين يدّعون حدوث الايمان في نفوسهم بعد أن كانوا على ملة الكفر، والجملة الفعلية من شأنها الدلالة على الحدوث والتجدد، بينما يؤكدون لشياطينهم بقاءهم على ما كانوا عليه من عقيدة الكفر، وذلك يستفاد من كون الجملة الدالة عليه اسمية؛ فإنها من شأنها الدلالة على الثبوت والدوام، ويتضح مما قررناه سابقا أن جملة { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } مستأنفة استئنافا بيانيا، جوابا لتساؤل شياطينهم عما يكون منهم في خطابهم للمؤمنين من دعوى الايمان مع أنهم على مثل ما كانوا عليه من الكفر، فيجيبونهم بأن ذلك ناشئ عن استهزائهم بهم، ليس غير، وقال بعض أهل التفسير هو بدل من { إنا معكم } ، واختلفوا هل هو بدل اشتمال أو كل أو بعض، وذهب الفخر إلى أنه تأكيد له، والصحيح ما أسلفناه. والاستهزاء: الاستخفاف، ومادته دالة عليه، فإنهم يقولون تهزأ به ناقته إذا أسرعت وخفت، وذكر الامام الغزالي أنه الاستحقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يُضحك منه، وذكر الفخر أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية، وأتبع ذلك بقوله: فعلى هذا قولهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنأمن شرهم، ونقف على أسرارهم، ونأخذ من صدقاتهم ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ورده الألوسي بأنه مخالف للغة والعرف. وبعد أن حكى الله سبحانه عن أولئك السفهاء ما حكاه من استخفافهم بأولي الحلوم الراجحة، والايمان الراسخ، رد على مقالتهم السيئة بقوله { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } ليكون في هذا الرد الصريح تسلية للمؤمنين في ذلك العصر، وفيما يتبعه من العصور؛ بأن الله تعالى كافيهم مكائد خصومهم الذين يلقونهم بوجوه الخير ويخفون وراءها قلوبا طافحة بالشر، غاصة بالأحقاد، ومثله قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم:**{ إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ }** [الحجر: 95]، وفي هذا تثبيت لعزائم أهل الحق، وبعث لهم لأن يشقوا طريقهم، لا يلوون على أحد من مناوئيهم، ما دام الله سبحانه هو المتكفل بأن يجزيهم جزاء من جنس عملهم. والآية الكريمة وإن نزلت في المنافقين الذين كانوا في عهد الرسالة، فمدلولها يشمل كل من كان على شاكلتهم، وما أكثر أولي الاستخفاف بالحق والاستهزاء بأهله الذين يلقون المؤمنين بالألسنة الكاذبة، والقلوب الحاقدة والنوايا السيئة، وإنما سلو المؤمنين في هذه الكفاية الربانية**{ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً }** [النساء: 45]. وقطع هذه الجملة عما قبلها لأن عطفها قد يوهم أنها من مقول المنافقين، وأنهم يدعون أن الله تعالى يؤيدهم ويعزز جانبهم، إذ يستهزئ بالمؤمنين كما يستهزئون، فكان فصلها دالا على استقلالها عن كلامهم، وأنها من كلام الله تعالى تبكيتا لهم وانتصارا لعباده المؤمنين، وثم سبب آخر، وهو أن حكاية ما كان من المنافقين في معاملتهم أهل الإِيمان، ومصارحتهم قومهم بأنهم يستهزئون بهم بما يلقونهم به من الكلم الطيب، يجعل الأعناق تشرئب، والعيون تتطلع إلى ما يحدث من رد فعل من جانب المؤمنين، فرب قائل يقول ماذا عسى أن يفعل الذين آمنوا، وقد اصطبغوا بخديعة أهل النفاق، ووقعوا في فخ كيدهم، وشراك مكرهم؟ فجاء هذا الرد من قبل الله بأن ذلك ليس موكولا إليهم، وإنما الله الذي هداهم إلى الحق هو المتكفل بخصومهم، وفي القطع في هذا المقام من الجزالة ما لا يخفى. ومن ناحية أخرى فإن العطف يقتضي أن يكون استهزاؤهم مما يُعْتَدّ به، وتركه يشعر أنه لا شيء بجانب استهزاء الله بهم، فهم لن يستطيعوا أن يصلوا إلى شيء من مرادهم في الذين آمنوا لأن الله بهم محيط، وبكيدهم خبير. ومما يؤكد اعتبار الاستئناف تقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي الذي وَلِيَهُ، إذ لم يقل يستهزئ الله بهم، لأنه مما يجول في خواطر السامعين السؤال عن من يتولى جزاء صنيعهم، وفي هذا الجواب تنبيه على أن الله تعالى وحده هو الذي يتولى ذلك، وفيه ما لا يخفى من رفعة قدر المؤمنين عنده، ونحوه قوله سبحانه: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ }** [الحج: 38]، على أن بعض أهل البلاغة يرى أن تقديم المسند إليه هنا قاض بقصر المسند عليه، وهو مقتضى مذهب إمامي البلاغة عبدالقاهر الجرجاني وجارالله الزمخشري. وقد كان مقتضى الظاهر أن يقال: الله مستهزئ بهم ليوافق قولهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } غير أنه عدل عن الاسم إلى الفعل للدلالة على تجدد الاستهزاء من الله بهم، حتى لا يغتر أحد بما يراهم فيه من نعمة ظاهرة، فإن البلاء بهم متلاحق، والجزاء فيهم متنوع، والمحن عليهم مسترسلة،**{ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ }** [التوبة: 126]، وكان الخوف يساورهم، يحذرون دائما من تهتك أستارهم، وانتشار أسرارهم، وبدوِّ أمرهم، وكانوا وجلين من كل ما ينزل من الآيات**{ يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ }** [التوبة: 64]. وقد سبق معنى الاستهزاء وهو في حقيقته لا ينشأ إلا عن الجهل، ولذلك أجاب موسى - عليه السلام - عندما قيل له: { أتتخذنا هزوا } بقوله**{ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ }** [البقرة: 67]، وبهذا تعلم أن حقيقته مستحيلة على الله عز وجل، ولذا اختلف المفسرون فيما يراد به هنا، فمن قائل هو بمعنى الانتقام، وقد ورد نحوه في كلام العرب ومنه قوله: | **قد استهزأوا منهم بألفي مدجج** | | **سراتهم وسط الصحاصح جُثَّم** | | --- | --- | --- | وهو معنى ما أخرجه ابن جرير وابن حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في معنى ذلك: يسخر بهم للنقمة منهم. ومن قائل: أُطلق الاستهزاء على جزائه لما عُرف من إطلاق اسم الشيء على ما يترتب عليه، نحو قوله تعالى:**{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }** [الشورى: 40]، وقوله:**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ }** [البقرة: 194]، وقوله:**{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142]، وقوله:**{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ }** [آل عمران: 54]، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: **" اللهم إن فلانا هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فاهجه اللهم، والعنه عدد ما هجاني "** ، أي اجزه جزاء هجائه، وهذا من باب ما يسمى بالمشاكلة اللفظية، وهي أسلوب من أساليب كلام العرب، كما قال عمرو بن كلثوم: | **ألا لا يجهلن أحد علينا** | | **فنجهل فوق جهل الجاهلينا** | | --- | --- | --- | وعزا ابن عطية هذا القول إلى جمهور العلماء. وأرى أنه لا يختلف عما قبله، فإن إطلاق الاستهزاء على الانتقام لا يعني إلا العقوبة على ما صدر من المنتقَم منه من الاستهزاء والاستخفاف. وذهب آخرون إلى أن إسناد الاستهزاء هنا إلى الله إنما هو من حيث كونه سبحانه يصرف عن عباده المؤمنين ضرر استهزاء خصومهم، وينزله بالمستهزئين، وفي هذا ما يشبه الاستهزاء بهم، فلذلك استعير له اسمه، وقيل: لما كان الاستهزاء من لازمه حقارة المستهزأ به وهوانه، والمنافقون من الحقارة والهوان بمكان، أطلق اسم الملزوم على اللازم على طريقة المجاز الإِرسالي، وقيل: إن الاستهزاء هنا عبارة عما شرعه الله من أحكام في الدنيا تجعل المنافقين يطمئنون إلى أنهم لا يختلفون عن الذين آمنوا، مع أنه تعالى أعد لهم في الآخرة عذاب الهون، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أمرا يبطنون ضده. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وضعّف الفخر الرازي هذا القول؛ لأنه تعالى عندما شرع لهم هذه الأحكام في الدنيا لم يكتم عنهم مصيرهم في الآخرة. وقيل: إن الله سبحانه عاملهم معاملة المستهزئ في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فمن حيث أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يخفونه، وأما في الآخرة فقد رُوي أنه يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيقال هلم هلم، فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاء أُغلق دونه، ثم يُفتح له باب آخر فيقال هلم هلم، فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أُغلق دونه، فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له باب فيقال هلم هلم فما يأتيه، عُزي ذلك إلى ابن عباس والحسن، وقال قوم: إن النار تجمد كما تجمد الإِهالة، فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم، وحمل ابن جرير هذا الاستهزاء على ما أخبر الله تعالى به في قوله:**{ يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ }** [الحديد: 13]. ومهما يكن فإن حقيقة الاستهزاء منتفية عن الله سبحانه، ولا معنى لما يقوله البعض من امتناع التأويل وحمل هذا اللفظ على حقيقته مع مراعاة التنزيه في جانب الله تعالى، فإن من لازم الحمل على الحقيقة التشبيه، وهو لا يمكن أن يجامع التنزيه، على أن المتأولين هم أرسخ قدما في العربية، كما أنهم أعمق فهما لمقاصد القرآن، وإن أطال ابن جرير في الانتصار للفريق الآخر، ولم يبعد الألوسي رأيهم عن الصواب. والمد الزيادة مأخوذ من مده، وفي معناه أمده، وفرّق بينهما بعضهم بأن المجرد يستخدم في معنى زيادة الشر، والمزيد في زيادة الخير، وهي في الحقيقة قاعدة أغلبية كما أفاد القطب رحمه الله وغيره، ويدل على عدم التفرقة قراءة ابن محيصن وشبل بضم الياء من أمد الرباعي، ونُسبت هذه القراءة إلى ابن كثير، كما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى:**{ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ }** [لقمان: 27]، ويطلق المد على زيادة العمر غير أنه يتعدى باللام، وادعى بعض المفسرين أنه هو المراد هنا، وأن انتصاب الضمير إنما هو باب الانتصاب بنزع الخافض، ويرده أن نزع الخافض ليس قياسيا، ولا يكون إلا مع أمن اللبس، واللبس هنا حاصل. والطغيان مصدر كالشكران والكفران، وهو دال على المبالغة في الطغي وأصله من طغى الماء إذا جاوز حده المألوف، واستعمل عرفا في مجاوزة الحد في العصيان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولا إشكال في إسناد المد في الطغيان إلى الله تعالى لما علمته من أن العقيدة الحقة أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى، وأن كل ما يحدث إنما هو بإرادته. ومن حيث إن المعتزلة ينفون عن الله سبحانه خلق أفعال العباد حملوا المد هنا على خذلانهم، ومنعهم الألطاف التي يهبها تعالى عباده المؤمنين، أو على عدم قسرهم وإلجائهم إلى الطاعة، أو على أنه سبحانه خلى بينهم وبين الشيطان فتمكن من إغوائهم. وذهب العلامة ابن عاشور إلى أن إسناد المد إلى الله عز وجل هنا هو من باب إسناد ما خفي فاعله إليه تعالى لأنه الموجد للأسباب الأصلية والمرتب لنواميسها بكيفية لا يعلم الناس سرها، من غير مشاهدة من تُسند إليه على الحقيقة غيره، وذلك أن النفاق إذا دخل القلوب كان من آثاره عدم انقطاعه عنها، ولما كان من شأنه أن تنمى عنه الرذائل المتنوعة، كان تكونه في نفوسهم ناشئا عن شتى الأسباب في طباعهم، متسلسلا بحسب ارتباط المسببات بأسبابها، وهي أسباب شتى، وقد حرمهم الله توفيقه الذي يباعدهم عن تلك الجبلة بمحاربة نفوسهم، فكان هذا الحرمان مقتضيا استمرار طغيانهم وتزايده بالرسوخ، ومن حيث إن الله سبحانه هو الذي خلق النظم التي هي أسباب ازدياده أسند هذا المد إليه، وهذا الاسناد معدود من الحقيقة العقلية، هذا ما ذهب إليه، وهو في جوهره يتفق مع مذهب المعتزلة وإن اختلف المذهبان من حيث إن المعتزلة يعدون هذا الاسناد من باب المجاز العقلي كما هو واضح من كلام الزمخشري. وتعريف الطغيان بالاضافة إلى الضمير العائد إليهم، إما للاشعار بأنه حاصل بسبب إخلادهم إلى النفاق من تلقاء أنفسهم من غير أن يُجبروا عليه، وإما للاشعار بأنه نوع غريب من الطغيان اختصوا به ولم يشاركهم فيه غيرهم. وفسر ابن عباس الطغيان هنا بالكفر، أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي، وأخرج مثله ابن جرير عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه -، وروي عنه تفسير مدهم بالاملاء لهم، وروي عن أبي العالية وقتادة، والربيع ابن أنس، ومجاهد، وأبي مالك وعبدالرحمن بن زيد نحو ما تقدم في تفسير الطغيان. والعمه فُسّر بالتردد والتحير، وروى ابن جرير عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أنه فسر يعمهون بيتمادون، وروى ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - مثله، وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، أنه فسره بيلعبون ويترددون. وأصله انطماس البصيرة، فهو كالعمى، إلا أن بعضهم قال بأن العمى مختص بالبصر، والعمه بالبصيرة، وذهب الزمخشري إلى أن العمى عام، والعمه خاص بالقلب، وهذا أولى لقوله تعالى:**{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ }** [الحج: 46]، وهو نص صريح في إطلاق العمى على انطماس البصيرة. وإذا تأملت مفهوم الكلمة اللغوي أدركت أن المأثور من تفسيرها إنما هو تفسير باللازم، فإن من تعمق في الطغيان لا بد أن يبقى حائرا مترددا متماديا في ضلالته، نسأل الله تعالى العافية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ)
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا } بيان لدأب المنافقين وأنهم إذا استقبلوا المؤمنين دفعوهم عن أنفسهم بقولهم آمنا استهزاءً فلا يتوهم أنه مكرر مع أول القصة لأنه إبداء لخبثهم ومكرهم وكشف عن إفراطهم في الدعارة وادعاء أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وأنهم أحاطوه من جانبيه على أنه لو لم يكن هذا لا ينبغي أن يتوهم تكرار أيضاً لأن المعنى ومن الناس من يتفوه بالإيمان نفاقاً للخداع وذلك التفوه عند لقاء المؤمنين وليس هذا من التكرار بشيء لما فيه من التقييد وزيادة البيان وأنهم ضموا إلى الخداع الاستهزاء، وأنهم لا يتفوهون بذلك إلا عند الحاجة، والقول بأن المراد بـ { آمَنَّا } أولاً الإخبار عن إحداث الإيمان وهنا عن إحداث إخلاص الإيمان مما ارتضاه الإمام ولا أقتدي به وتأييده له بأن الإقرار اللساني كان معلوماً منهم غير محتاج للبيان وإنما المشكوك الإخلاص القلبـي فيجب إرادته يدفعه النظر من ذي ذوق فيما حررناه، واللقاء استقبال الشخص قريباً منه وهو أحد أربعة عشر مصدراً للقي، وقرأ أبو حنيفة وابن السميقع (لاقوا)، وجعله في «البحر» بمعنى الفعل المجرد، وحذف المفعول في (آمنا) قيل اكتفاءً بالتقييد قبل**{ بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ }** [البقرة: 8] وقيل: المراد آمنا بما آمنتم به، وأبعد من قال أرادوا الإيمان بموسى عليه السلام دون غيره وحذفوا تورية منهم وإيهاماً. هذا ولم يصح عندي في سبب نزول هذه الآية شيء، وأما ما ذكره الزمخشري والبيضاوي ومولانا مفتي الديار الرومية وغيرهم فهو من طريق السدي الصغير وهو كذاب، وتلك السلسلة سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب، وآثار الوجه لائحة على ما ذكروه فلا يعول عليه ولا يلتفت بوجه إليه. { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ } من خلوت به وإليه إذا انفردت معه أو من قولهم في المثل: اطلب الأمر وخلاك ذم أي عداك ومضى عنك ومنه**{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ }** [آل عمران: 137] وعلى الثاني المفعول الأول هٰهنا محذوف لعدم تعلق الغرض به أي إذا خلوهم، وتعديته إلى المفعول الثاني بـ { إِلَىٰ } لما في المضي عن الشيء معنى الوصول إلى الآخر واحتمال أن يكون من خلوت به أي سخرت منه، فمعنى الآية إذا أنهوا السخرية معهم/ وحدثوهم كما يقال أحمد إليك فلاناً وأذمه إليك مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام رب العزة وإن ذكره الزمخشري والبيضاوي وغيرهما إذ لم يقع صريحاً خلا بمعنى سخر في كلام من يوثق به، وقولهم: خلا فلان بعرض فلان يعبث به ليس بالصريح إذ يجوز أن يكون خلا على حقيقته أو بمعنى تمكن منه على ما قيل، والدال على السخرية يعبث به، وزعم النضر بن شميل أن { إِلَىٰ } هنا بمعنى مع ولا دليل عليه كالقول بأنها بمعنى الباء على أن سيبويه والخليل لا يقولان بنيابة الحرف عن الحرف، نعم إن الخلوة كما في «التاج» تستعمل بـ (إلى، والباء، ومع) بمعنى واحد ويفهم من كلام الراغب أن أصل معنى الخلو فراغ المكان والحيز عن شاغل وكذا الزمان وليس بمعنى المضي، وإذا أريد به ذلك كان مجازاً وظاهر كلام غيره أنه حقيقة وضعيفان يغلبان قوياً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | والمراد بـ { شَيَـٰطِينِهِمْ } من كانوا يأمرونهم بالتكذيب من اليهود - كما قاله ابن عباس - أو كهنتهم كما قاله الضحاك وجماعة - وسموا بذلك لتمردهم وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن أو لأن قرناءهم الشياطين إن فسروا بالكهنة - وكان على عهده صلى الله عليه وسلم كثير منهم ككعب بن الأشرف من بني قريظة، وأبـي بردة من بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وابن السوداء في الشام. وحمله على شياطين الجن - كما قاله الكلبـي - مما لا يختلج بقلبـي، والشياطين جمع تكسير وإجراؤه مجرى الصحيح كما في بعض الشواذ - (تنزلت به الشياطون) لغة غريبة جداً والمفرد شيطان وهو فيعال عند البصريين فنونه أصلية من شطن أي بعد لبعده عن امتثال الأمر ويدل عليه تشيطن وإلا لسقطت، واحتمال أخذه من الشيطان لا من أصله على أن المعنى فعل فعله خلاف الظاهر، وعند الكوفيين وزنه فعلان فنونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك أو بطل أو احترق غضباً والأنثى شيطانة وأنشد في «البحر»: | **هي البازل الكوماء لا شيء غيرها** | | **وشيطانة قد جن منها جفونها** | | --- | --- | --- | وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب. { قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ } أي معية معنوية وهي مساواتهم لهم في اعتقاد اليهودية وهو أم الخبائث، وأتى بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث مع ترك التأكيد فيما ألقى على المؤمنين المنكرين لما هم عليه أو المتمردين، وبالجملة الثبوتية مع التأكيد فيما ألقى إلى شياطينهم الذين ليسوا كذلك لأنهم في الأول بصدد دعوى إحداث الإيمان ولم ينظروا هنا لإنكار أحد وتردده إيهاماً منهم أنهم بمرتبة لا ينبغي أن يتردد في إيمانهم ليؤكدوا لعله أن يتم لهم مرامهم بذلك في زعمهم وفي الثاني بصدد إفادة الثبات دفعاً لما يختلج بخواطر شياطينهم من مخالطة المؤمنين ومخاطبتهم بالإيمان، وقيل: إن التأكيد كما يكون لإزالة الإنكار والشك يكون لصدق الرغبة وتركه كما يكون لعدم ذلك يكون لعدم اعتناء المتكلم فللرغبة أكدوا ولعدمها تركوا، أو لأنهم لو قالوا إنا مؤمنون كان ادعاء لكمال الإيمان وثباته، وهو لا يروج عند المؤمنين مع ما هم عليه من الرزانة وحدة الذكاء ولا كذلك شياطينهم، وعندي أن الوجه هو الأول إذ يرد على الأخيرين قوله تعالى فيما حكى عنهم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ }** [المنافقون: 1] إلا أن يقال إنهم أظهروا الرغبة هناك وتبالهوا عن عدم الرواج لغرض ما من الأغراض والأحوال شتى، والعوارض كثيرة ولهذا قيل: إنهم للتقية والخداع، ودعوى أنهم مثل المؤمنين في الإيمان ليجروا عليهم أحكامهم ويعفوهم عن المحاربة أكدوا بالباء فيما تقدم حيث قالوا:**{ بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ }** [البقرة: 8]. والقول بأن الفرق بين آية الشهادة وآية الإيمان هنا ظاهر لأنهم لو قالوا إنا لمؤمنون لكانوا ملتزمين أمرين، رسالته صلى الله عليه وسلم ووجوب إيمانهم به بخلاف آية الشهادة فإن فيها التزام الأول ولا يلزم من عدم الرغبة في أمرين عدمها في أحدهما ظاهر الركاكة للمنصفين كما لا يخفى، وقرأ/ الجمهور { مَّعَكُمْ } بتحريك العين وقرىء شاذاً بسكونها وهي لغة ربيعة وغنم. { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } الاستهزاء الاستخفاف والسخرية، واستفعل بمعنى فعل تقول هزأت به واستهزأت بمعنى كاستعجب وعجب، وذكر حجة الإسلام الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وبالإشارة والإيماء، وأرادوا مستخفون بالمؤمنين. وأصل هذه المادة الخفة يقال: ناقته تهزأ به أي تسرع وتخف وقول الرازي: إنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطال ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية غير موافق للغة والعرف. والجملة إما استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم لما قالوا: { إِنَّا مَعَكُمْ } إن صح ذلك - فما بالكم توافقون المؤمنين - فأجابوا بذلك. أو بدل من { إِنَّا مَعَكُمْ }؛ وهل هو بدل اشتمال، أو كل، أو بعض؟ خلاف، أما الأول: فلأن هذه الجملة تفيد ما تفيده الأولى وهو الثبات على اليهودية لأن المستهزىء بالشيء مصر على خلافه وزيادة وهو تعظيم الكفر المفيد لدفع شبهة المخالطة وتصلبهم في الكفر فيكون بدل اشتمال. وأما الثاني: وبه قال السعد: فللتساوي من حيث الصدق ولا يقتضي التساوي من حيث المدلول، وأما الثالث فلأن كونهم معهم عام في المعية الشاملة للاستهزاء والسخرية وغير ذلك، أو تأكيد لما قبله بأن يقال إن مدعاهم بـِ { إِنَّا مَعَكُمْ } الثبات على الكفر وإنما نحن مستهزؤن لاستلزامه رد الإسلام ونفيه يكون مقرراً للثبات عليه إذ رفع نقيض الشيء تأكيد لثباته لئلا يلزم ارتفاع النقيضين، أو يقال يلزم: { إِنَّا مَعَكُمْ } إنا نوهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الإيمان فيكون الاستخفاف بهم وبدينهم تأكيداً باعتبار ذلك اللازم، وأولى الأوجه - عند المحققين - الاستئناف لولا ما ذكره الشيخ «في دلائل الإعجاز» من أن موضوع (إنما) أن تجىء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته فإنه يقتضي أن تقدير السؤال هنا أمر مرجوح ولعل الأمر فيه سهل، وقرىء { مُسْتَهْزِءونَ } بتخفيف الهمزة وبقلبها ياء مضمومة، ومنهم من يحذف الياء فتضم الزاي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
عطف { وإذا لقوا } على ما عطف عليه**{ وإذا قيل لهم لا تفسدوا }** البقرة 12**{ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس }** البقرة 13. والكلام في الظرفية والزمان سواء. والتقييد بقوله { وإذ لقوا الذين آمنوا } تمهيد لقوله { وإذا خلوا } فبذلك كان مفيداً فائدة زائدة على ما في قوله**{ ومن الناس من يقول آمنا بالله }** البقرة 8 الآية فليس ما هنا تكراراً مع ما هناك، لأن المقصود هنا وصف ما كانوا يعملون مع المؤمنين وإيهامهم أنهم منهم ولقائهم بوجوه الصادقين، فإذا فارقوهم وخلصوا إلى قومهم وقادتهم خلعوا ثوب التستر وصرحوا بما يبطنون. ونكتة تقديم الظرف تقدمت في قوله { وإذا قيل لهم لا تفسدوا }. ومعنى قولهم { آمنا } أي كنا مؤمنين فالمراد من الإيمان في قولهم { آمنا } الإيمان الشرعي الذي هو مجموع الأوصاف الاعتقادية والعلمية التي تلقب بها المؤمنون وعُرفوا بها على حد قوله تعالى**{ إنا هدنا إليك }** الأعراف 156 أي كنا على دين اليهودية فلا متعلق بقوله { آمنا } حتى يحتاج لتوجيه حذفه أو تقديره، أو أريد آمنا بما آمنتم به، والأول أظهر، ولقاؤهم الذين آمنوا هو حضورهم مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ومجالس المؤمنين. ومعنى { قالوا آمنا } أظهروا أنهم مؤمنون بمجرد القول لا بعقد القلب، أي نطقوا بكلمة الإسلام وغيرها مما يترجم عن الإيمان. وقوله { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } معطوف على قوله { وإذا لقوا } والمقصود هو هذا المعطوف وأما قوله { وإذا لقوا الذين آمنوا } فتمهيد له كما علمت، وذلك ظاهر من السياق لأن كل أحد يعلم أن المقصود أنهم يقولون آمنا في حال استهزاء يصرِّحون بقصده إذا خلوا بدليل أنه قد تقدم أنهم يأبون من الإيمان ويقولون**{ أنؤمن كما آمن السفهاء }** البقرة 13 إنكاراً لذلك، وواو العطف صالحة للدلالة على المعية وغيرها بحسب السياق وذلك أن السياق في بيان ما لهم من وجهين وجه مع المؤمنين ووجه مع قادتهم، وإنما لم يُجعل مضمون الجملة الثانية في صورة الحال كأن يقال قائلين لشياطينهم إذا خلوا ولم نحمل الواو في قوله { وإذا خلوا } على الحال، أما الأول فلأن مضمون كلتا الجملتين لما كان صالحاً لأن يعتبر صفة مستقلة دالة على النفاق قصد بالعطف استقلال كلتيهما لأن الغرض تعداد مساويهم فإن مضمون { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } منادٍ وحده بنفاقهم في هاته الحالة كما يفصح عنه قوله { وإذا لقوا } الدال على أن ذلك في وقت مخصوص، وأما الثاني فلأن الأصل اتحاد موقع الجملتين المتماثلتين لفظاً. ولما تقدم إيضاحه في وجه العدول عن الإتيان بالحال. والشياطين جمع شيطان، - جمع تكسير -، وحقيقة الشيطان أنه نوع من المخلوقات المجردة، طبيعتها الحرارة النارية وهم من جنس الجن قال تعالى في إبليس | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ كان من الجن }** الكهف 50 وقد اشتهر ذكره في كلام الأنبياء والحكماء، ويطلق الشيطان على المفسد ومثير الشر، تقول العرب فلان من الشياطين ومن شياطين العرب وذلك استعارة، وكذلك أطلق هنا على قادة المنافقين في النفاق، قال تعالى**{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين }** الأنعام 112 الخ. ووزن شيطان اختلف فيه البصريون والكوفيون من علماء العربية فقال البصريون هو فيعال من شطن بمعنى بعد لأنه أبعد عن رحمة الله وعن الجنة فنونه أصلية وقال الكوفيون هو فعلان من شاط بمعنى هاج أو احترق أو بطل ووجه التسمية ظاهر. ولا أحسب هذا الخلاف إلا أنه بحث عن صيغة اشتقاقه فحسب أي البحث عن حروفه الأصول وهل إن نونه أصل أو زائد وإلا فإنه لا يظن بنحاة الكوفة أن يدَّعوا أنه يعامل معاملة الوصف الذي فيه زيادة الألف والنون مثل غضبان، كيف وهو متفق على عدم منعه من الصرف في قوله تعالى**{ وحفظناها من كل شيطان رجيم }** الحجر 17. وقال ابن عطية ويرد على قول الكوفيين أن سيبويه حكى أن العرب تقول تشيطن إذا فعل الشيطان فهذا يبين أنه من شطن وإلا لقالوا تشيط ا هـ. وفي «الكشاف» جعل سيبويه نون شيطان في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة ا هـ. والوجه أن تشيطن لما كان وصفاً مشتقاً من الاسم كقولهم تنمر أثبتوا فيه حروف الاسم على ما هي عليه لأنهم عاملوه معاملة الجامد دون المشتق لأنه ليس مشتقاً مما اشتق منه الاسم بل من حروف الاسم فهو اشتقاق حصل بعد تحقيق الاستعمال وقطع النظر عن مادة الاشتقاق الأول فلا يكون قولهم ذلك مرجحاً لأحد القولين. وعندي أنه اسم جامد شابه في حروفه مادة مشتقة ودخل في العربية من لغة سابقة لأن هذا الاسم من الأسماء المتعلقة بالعقائد والأديان، وقد كان لعرب العراق فيها السبق قبل انتقالهم إلى الحجاز واليمن، ويدل لذلك تقارب الألفاظ الدالة على هذا المعنى في أكثر اللغات القديمة. وكنت رأيت قول من قال إن اسمه في الفارسية سَيْطان. وخلوا بمعنى انفردوا فهو فعل قاصر ويعدى بالباء وباللام ومن ومع بلا تضمين ويعدى بإلى على تضمين معنى آب أو خلص ويعدى بنفسه على تضمين تجاوز وباعد ومنه ما شاع من قولهم «افعل كذا وخلاك ذم» أي إن تبعة الأمر أو ضره لا تعود عليك. وقد عدي هنا بإلى ليشير إلى أن الخلوة كانت في مواضع هي مآبهم ومرجعهم وأنّ لقاءهم للمؤمنين إنما هو صدفة ولمحات قليلة، أفاد ذلك كله قوله { لقوا } و { خلوا }. وهذا من بديع فصاحة الكلمات وصراحتها. واعلم أنه حكى خطابهم للذين آمنوا بما يقتضي أنهم لم يأتوا فيه بما يحقق الخبر من تأكيد، وخطابهم موهم بما يقتضي أنهم حققوا لهم بقاءهم على دينهم بتأكيد الخبر بما دل عليه حرف التأكيد في قوله { إنا معكم } مع أن مقتضى الظاهر أن يكون كلامهم بعكس ذلك لأن المؤمنين يشكون في إيمان المنافقين، وقومهم لا يشكون في بقائهم على دينهم، فجاءت حكاية كلامهم الموافقة لمدلولاته على خلاف مقتضى الظاهر لمراعاة ما هو أجدر بعناية البليغ من مقتضى الظاهر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فخلو خطابهم مع المؤمنين عما يفيد تأكيد الخبر لأنهم لا يريدون أن يعرضوا أنفسهم في معرض من يتطرق ساحته الشك في صدقه لأنهم إذا فعلوا ذلك فقد أيقظوهم إلى الشك وذلك من إتقان نفاقهم على أنه قد يكون المؤمنون أخلياء الذهن من الشك في المنافقين لعدم تعينهم عندهم فيكون تجريد الخبر من المؤكدات مقتضى الظاهر. وأما قولهم لقومهم { إنا معكم } بالتأكيد فذلك لأنه لما بدا من إبداعهم في النفاق عند لقاء المسلمين ما يوجب شك كبرائهم في البقاء على الكفر وتطرق به التهمة أبواب قلوبهم احتاجوا إلى تأكيد ما يدل على أنهم باقون على دينهم. وكذلك قولهم { إنما نحن مستهزئون } فقد أبدوا به وجه ما أظهروه للمؤمنين وجاءوا فيه بصيغة قصر القلب لرد اعتقاد شياطينهم فيهم أن ما أظهروه للمؤمنين حقيقة وإيمان صادق. وقد وجه صاحب «الكشاف» العدول عن التأكيد في قولهم { آمنا } والتأكيد في قولهم { إنا معكم } بأن مخاطبتهم المؤمنين انتفى عنها ما يقتضي تأكيد الخبر لأن المخبرين لم يتعلق غرضهم بأكثر من ادعاء حدوث إيمانهم لأن نفوسهم لا تساعدهم على أن يتلفظوا بأقوى من ذلك ولأنهم علموا أن ذلك لا يروج على المسلمين أي فاقتصروا على اللازم من الكلام فإن عدم التأكيد في الكلام قد يكون لعدم اعتناء المتكلم بتحقيقه، ولعلمه أن تأكيده عبث لعدم رواجه عند السامع، وهذه نكتة غريبة مرجعها قطع النظر عن إنكار السامع والإعراض عن الاهتمام بالخبر. وأما مخاطبتهم شياطينهم فإنما أتوا بالخبر فيها مؤكداً لإفادة اهتمامهم بذلك الخبر وصدق رغبتهم في النطق به ولعلمهم أن ذلك رائج عند المخاطبين فإن التأكيد قد يكون لاعتناء المتكلم بالخبر ورواجه عند السامع أي فهو تأكيد للاهتمام لا لرد الإنكار. وقولهم { إنما نحن مستهزئون } قصروا أنفسهم على الاستهزاء قصراً إضافياً للقلب أي مؤمنون مخلصون، وجملة { إنما نحن مستهزئون } تقرير لقوله { إنا معكم } لأنهم إذا كانوا معهم كان ما أظهروه من مفارقة دينهم استهزاء أو نحوه فأما أن تكون الجملة الثانية استئنافاً واقعة في جواب سؤال مقدر كأن سائلاً يعجب من دعوى بقائهم على دينهم لما أتقنوه من مظاهر النفاق في معاملة المسلمين، وينكر أن يكونوا باقين على دينهم ويسأل كيف أمكن الجمع بين البقاء على الدين وإظهار المودة للمؤمنين فأجابوا { إنما نحن مستهزئون، } وبه يتضح وجه الإتيان بأداة القصر لأن المنكر السائل يعتقد كذبهم في قولهم { إنا معكم } ويدعي عكس ذلك، وإما أن تكون الجملة بدلاً من { إنا معكم } بدل اشتمال لأن من دام على الكفر وتغالى فيه ـــ وهو مقتضى { معكم } أي في تصلبكم ـــ فقد حقر الإسلام وأهله واستخف بهم، والوجه الأول أولى الوجوه لأنه يجمع ما تفيده البدلية والتأكيد من تقرير مضمون الجملة الأولى مع ما فيه من الإشارة إلى رد التحير الذي ينشأ عنه السؤال وهذا يفوت على تقديري التأكيد والبدلية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والاستهزاء السخرية يقال هزأ به واستهزأ به فالسين والتاء للتأكيد مثل استجاب، أي عاملَه فعلاً أو قولاً يحصل به احتقاره أو والتطرية به، سواءٌ أَشعره بذلك أم أخفاه عنه. والباء فيه للسببية قيل لا يتعدى بغير الباء وقيل يتعدى بمن، وهو مرادف سخر في المعنى دون المادة كما سيأتي في سورة الأنعام. وقرأ أبو جعفر مستهزون بدون همزة وبضم الزاي تخفيفاً وهو لغة فصيحة في المهموز. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ)
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته وصادفته وكان قريباً منك. والمصدر اللقاء واللقى واللقية. والمقصود استقبلوهم وكانوا فى مواجهتهم وقريبا منهم. ومرادهم بقولهم " آمناً " أخلصنا الإِيمان بقلوبنا لأن الإِقرار باللسان معلوم منهم. وإذا خلوا إلى شياطينهم، أى انفردوا مع رؤسائهم وقادتهم المشبهين الشياطين فى تمردهم وعنوهم وصدهم عن سبيل الحق. يقال خلابه وإليه ومعه، خلوا وخلاء وخلوة سأله أن يجتمع به فى خلوة ففعل وأخلاه معه. أو المعنى وإذا مضوا وذهبوا إلى شياطينهم، يقال خلا بمعنى مضى وذهب، ومنه قوله تعالى**{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ }** أى مضت. وعبر عن حالهم مع المؤمنين بالملاقاة، وعن حالهم مع الشياطين بالخلوة إيذانا بأن هؤلاء المنافقين لا أنس لهم بالمؤمنين، ولا طمأنينة منهم إليهم فهم لا يجالسونهم ولا يسامرونهم، وإنما كل ما هنالك أن يلقوهم فى عرض طريق، أما شأنهم مع شياطينهم فهم إليهم يركنون، وإليهم يتسامرون ويتحادثون، لذلك هم بهم يخلون. والمعية فى قولهم { إِنَّا مَعَكُمْ } ، المراد منها موافقتهم فى دينهم، وأكدوا ما خاطبوا به شياطينهم بحرف التأكيد، إذ قالوا { إِنَّا مَعَكُمْ } ليزيلوا ما قد يجرى فى خراطرهم من أنهم فارقوا دينهم وانقلبوا إلى دين الإِسلام بقلوبهم. ولم يؤكدوا ما خاطبوا به المؤمنين، إذ قالوا لهم { آمَنَّا } ولم يقولوا " إنا آمنا " ليوهموهم أنهم بمرتبة لا ينبغى أن يترددوا فى إيمانهم حتى يحتاجوا إلى تأكيد. وقوله - تعالى - حكاية عنهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }. وارد مورد الجواب عما قد يعترض به عليهم شياطينهم إذا قالوا لهم كيف تدعون أنكم معنا مع أنكم توافقون المؤمنين فى عقيدتهم وتشاركونهم فى مظاهر دينهم؟ فكان جوابهم عليهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } والاستهزاء السخرية والاستخفاف بالغير، يقال هزأ منه وبه - كمنع وسمع - واستهزأ به، أى سخر. والمعنى إننا نظهر للمؤمنين الموافقة على دينهم استخفافاً بهم وسخرية منهم، لا أن ذلك صادر منا عن صدق وإخلاص. ثم بين - سبحانه - موقفه منهم فقال { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }. حمل بعض العلماء استهزاء الله بهم على الحقيقة وإن لم يكن من أسمائه المستهزئ، لأن معناه يحتقرهم على وجه شأنه أن يتعجب منه، وهذا المعنى غير مستحيل على الله، فيصح إسناده إليه - تعالى - على وجه الحقيقة. ويرى جمهور العلماء أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس كأن يظهر المستهزئ استحسان الشىء وهو فى الواقع غير حسن، أو يقر المستهزأ به على أمر غير صواب، وهذا المعنى لا يليق بجلال الله، فيجب حمل الاستهزاء المسند إليه تعالى على معنى يليق بجلاله، فيحمل على ما يلزم على الاستهزاء من الانتقام والعقوبة والجزاء المقابل لاستهزائهم، وسمى ذلك استهزاء على سبيل المشاكلة كما فى قوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }** وهذا دليل على غيرة الله على عباده المؤمنين، وانتقامه من كل من يستهزئ بهم أو يؤذيهم. وعبر بالمضارع فى قوله { يَسْتَهْزِىءُ } للإِيذان بأن احتقاره لهم، أو مجازاتهم على استهزائهم يتجدد ويقع المرة بعد الأخرى ثم بين - سبحانه - لونا آخر من ألوان غضبه عليهم فقال { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }. المد الإِمهال والمطاولة والزيادة، من المد بمعنى الإِمهال، يقال مده فى غيه - من باب رد - أمهله وطول له، ويقال مد الجيش وأمده إذا ألحق به ما يقويه ويكثره ويزيده، وقيل أكثر ما يستعمل المد فى المكروه، والإِمداد فى المحبوب، والطغيان مجاوزة الحد، ومنه طغا الماء، أى ارتفع. ويعمهون يعمون عن الرشد، أو يتحيرون ويترددون بين الإِظهار والإِخفاء، أو بين البقاء على الكفر وتركه إلى الإِيمان. يقال عمه - كفرح ومنع - عمها، إذا تردد وتحير، فهو عمه وعامه، وهم عمهون وعمه كركع والمعنى أن الله تعالى يجازى هؤلاء المنافقين على استهزائهم وخداعهم، ويمكنهم من المعاصى أو يملى لهم ليزدادوا إثماً. حال كونهم يعمون عن الرشد، فلا يبصرون الحق حقاً ولا الباطل باطلا. ثم بين - سبحانه - لونا من ألوان غبائهم وبلادتهم فقال { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }. الاشتراء أخذ السلعة بالثمن. والمراد أنهم استبدلوا ماكره الله من الضلالة بما أحبه من الهدى قال ابن عباس أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. والمشار إليه بـ " أولئك " هم المنافقون الموصوفون فى الآيات السابقة بالكذب والمخادعة، والإِفساد فى الأرض، ورمى المؤمنين بالسفاهة واستهزائهم بهم. والسر فى الإِشارة اليهم والتعبير عنهم بأولئك تمييزهم وتوضيحهم بأكمل صورة وأجلى بيان. إذ من المعروف عند علماء البلاغة أن اسم الإِشارة إذا أشير به إلى أشخاص وصفوا بصفات يلاحظ فيه تلك الصفات، فهو بمنزلة إعادة ذكرها وإحضارها فى أذهان المخاطبين. فتكون تلك الصفات، وهى هنا الكذب والمخادعة وما عطف عليها، كأنها ذكرت فى هذه الآية مرة أخرى ليعرف بها علة الحكم الوارد بعد اسم الإِشارة، وهو هنا اشتراء الضلالة بالهدى. أى اختيارها. واستبدالها به. وعبرت الآية بالاشتراء على سبيل الاستعارة ليتحدد مقدار رغبتهم فى الضلالة، وزهدهم فى الهدى، فإن المشترى فى العادة يكون شديد الرغبة فيما يشترى، رغبة تجعله شديد الزهد فيما يبذله من ثمن. فهم راغبون فى الضلالة، زاهدون فى الهدى. وقوله تعالى { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } لا يقتضى أنهم كانوا على هدى من ربهم فتركوه، بل يكفى فيه أن يجعل تمكنهم من الهدى لقيام أدلته. بمنزلة الهدى الحاصل بالفعل. ثم بين سبحانه نتيجة أخذهم الضلالة وتركهم الهدى فقال { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } أى أنهم لم يحصلوا من اشترائهم الضلالة بالهدى على الربح، وإذا كانت التجارة الحقيقة قد يفوت صاحبها الربح، ولكنه لا يقع فى خسارة بأن يبقى له رأس ماله محفوظاً، فإن التجارة المقصودة من الآية هى استبدال الضلالة بالهدى، لا يقابل الربح فيها إلا الخسران، فإذا نفى عنها الربح فذلك يعنى أنها تجارة خاسرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | ثم قال - تعالى - { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أى وما كانوا مهتدين إلى سبيل الرشاد وما تتجه إليه العقول الراجحة من الدين الحق، وما كانوا مهتدين إلى طرق التجارة الرابحة، فهم أولا لم يربحوا فى تجارتهم بل خسروها، وهم ثانياً ذهب نور الهدى من حولهم فبقوا فى ظلمة الضلال. وما أوجع أن يجتمع على التاجر خسارته وتورطه، وما أوجع أن يجتمع عليه أن ينقطع عن غايته، وأن يكون فى ظلمة تعوقه عن التبصر. وبعد أن وصف الله تعالى حال المنافقين فى الآيات السابقة، ساق مثلين لتوضيح سوء تصرفهم، وشدة حيرتهم واضطرابهم. فقال تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً...يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير/ أبو بكر الجزائري (مـ 1921م)
شرح الكلمات لَقُوا: اللقاء: والملاقاة: المواجهة وجهاً لوجه. آمنوا: الإيمان الشرعي: التصديق بالله وبكل ما جاء به رسول الله عن الله، وأهله هم المؤمنون بحق. خلوا: الخلُو بالشيء: الإنفراد به. شياطينهم: الشيطان كل بعيد عن الخير قريب من الشر يفسد ولا يصلح من إنسان أو جان والمراد بهم هنا رؤساؤهم في الشر والفساد. مستهزئون: الاستهزاء: الاستخفاف والاستسخار بالمرء. الطغيان: مجاوزة الحد في الأمر والإسراف فيه. الْعَمَه: للقلب كالعمى للبصر: عدم الرؤية وما ينتج عنه من الحيرة والضلال. اشتروا: استبدلوا بالهدى الضلالة أي تركوا الإيمان وأخذوا الكفر. تجارتهم: التجارة: دفع رأس مال لشراء ما يربح إذا باعه، والمنافقون هنا دفعوا رأس مالهم وهو الإِيمان لشراء الكفر آملين أن يربحوا عزاً وغنى في الدنيا فخسروا ولم يربحوا إذ ذُلوا وعذبوا وافتقروا بكفرهم. المهتدي: السالك سبيلاً قاصدة تصل به إلى ما يريده في أقرب وقت وبلا عناء والضال خلاف المهتدي وهو السالك سبيلا غير قاصدة فلا تصل به إلى مراده حتى يهلك قبل الوصول. معنى الآيات: ما زالت الآيات تخبرُ عن المنافقين وتصف أحوالهم إذ أخبر تعالى عنهم في الآية الأولى أنهم لنفاقهم وخبثهم إذا لقوا الذين آمنوا في مكان ما أخبروهم بأنهم مؤمنون بالله والرسول وما جاء به من الدين، وإذا انفردوا برؤسائهم في الفتنة والضلالة فلاموهم، عما ادّعوه من الإِيمان قالوا لهم إنا معكم على دينكم وَمَا آمنا أبداً. وإنما أظهرنا الإِيمان استهزاءً وسخرية بمحمد وأصحابه. كما أخبر في الآية الثانية [15] أنه تعالى يستهزىء بهم معاملة لهم بالمثل جزاء وفاقاً ويزيدهم حسب سنته في أن السيئة تلد سيئة في طغيانهم لتزداد حيرتهم واضطراب نفوسهم وضلال عقولهم. كما أخبر في الآية [16] أن أولئك البعداء في الضلال قد استبدلوا الإيمان بالكفر والإِخلاص بالنفاق فلذلك لا تربح تجارتهم ولا يهتدون الى سبيل ربح أو نُجْح محال. هداية الآيات من هداية الآيات: 1- التنديد بالمنافقين والتحذير من سلوكهم في مُلاَقَاتِهِمْ هذا بوجه وهذا بوجه آخر وفي الحديث: شراركم ذو الوجهين. 2- إن من الناس شياطين يدعون الى الكفر والمعاصي، ويأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. 3- بيان نقم الله، وإنزالها بأعدائه عز وجل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير مقاتل بن سليمان/ مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ)
ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } ، يعنى صدقوا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، { قَالُوۤا } لهم: { آمَنَّا } صدقنا بمحمد، { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } ، يعنى رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف وأصحابه، { قَالُوۤا } لهم: { إِنَّا مَعَكْمْ } على دينكم، { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [آية: 14] بمحمد وأصحابه، فقال الله سبحانه: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } فى الآخرة إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب على الصراط، فيبقون فى الظلمة حتى يقال لهم:**{ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً }** [الحديد: 13]، فهذا من الاستهزاء بهم، ثم قال سبحانه: { وَيَمُدُّهُمْ } ويلجهم { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [آية: 15]، يعنى فى ضلالتهم يترددون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
{ آمَنَّا } { شَيَاطِينِهِمْ } { مُسْتَهْزِئُونَ } { آمَنُواْ } (14) - كَانَ المُنَافِقُونَ إِذا التَقَوْا بِالمُؤمِنينَ أَظْهَرُوا لَهُمُ الإِيمَانَ نِفَاقاً وَمُصَانَعَةً وَتَقِيَّةً، وَلكِنَّهُمْ حِينَما كَانُوا يَذْهَبُونَ إِلى شَيَاطِينِهِمْ - أَيْ سَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ مِنْ أَحْبَارِ اليَهُودِ، وَرُؤُوسِ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ -، وَيَخْتَلُونَ بِهِمْ بَعِيداً عَنْ سَمْعِ المُؤْمِنينَ وَأَبْصَارِهِمْ، كَانُوا يَقُولُونَ لَهُمْ إِنَّهُمْ كَفَرَةٌ، وَإِنَّهُمْ مَا زَالُوا مُقِيمِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، وَلكِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الإِيمَانَ لِلْمُؤمِنينَ نِفَاقاً وَتَقِيَّةً وَمُصَانَعَةً، واسْتِهْزَاءً بِالمُؤْمِنينَ وَدِينِهِمْ. الاستِهْزَاءُ - السُّخْرِيَةُ. خَلَوْا إِلى شَيَاطِينِهِمْ - انْصَرَفُوا إِلَيهِمْ، وَانْفَرَدُوا بِهِمْ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ)
وهكذا يرينا الحق سبحانه، أن كل منافق له أكثر من حياة يحرص عليها، والحياة لكي تستقيم يجب أن تكون حياة واحدة منسجمة مع بعضها البعض، ولكن انظر إلى هؤلاء.. مع المؤمنين يقولون آمنا، ويتخذون حياة الإيمان ظاهراً، أي أنهم يمثلون حياة الإيمان، كما يقوم الممثل على المسرح بتمثيل دور شخصية غير شخصيته تماماً.. حياتهم كلها افتعال وتناقض، فإذا بعدوا عن الذين آمنوا، يقول الحق تبارك وتعالى: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } [البقرة: 14]. وانظر إلى دقة الأداء القرآني، فالشيطان هو الدس الخفي، الحق ظاهر وواضح أما منهج الشيطان وتآمره فيحدث في الخفاء لأنه باطل. والنفس لا تخجل من حق أبداً، ولكنها تخشى وتخاف وتحاول أن تخفي الباطل. ولنضرب لذلك مثلا بسيطاً، رجل يجلس مع زوجته في منزله، وطرق الباب طارقُ، ماذا يحدث؟ يقوم الرجل بكل اطمئنان، ويفتح الباب ليرى مَنْ الطارق، فإن وجده صديقاً أو قريباً أكرمه ورحب به وأصرَّ على أن يدخل ليضيفه. وتقوم الزوجة بإعداد الطعام أو الشراب الذي سيقدم للضيف، نأخذ هذه الحالة نفسها إذا كان الإنسان مع زوجة غيره في شقته وطرق الباب طارق، يحدث ارتباك عنيف، ويبحث الرجل عن مكان يخفي فيه المرأة التي معه، أو يبحث عن باب خفي ليخرجها منه، أو يحاول أن يطفئ الأنوار ويمنع الأصوات لعل الطارق يحس بأنه لا يوجد أحد في المكان فينصرف، وقبل أن يُخْرِجَ تلك المرأة المحرمة عليه، فإنه يفتح الباب بحرص، وينظر يميناً ويساراً ليتأكد هل يراه أحد، وعندما لا يجد أحداً يسرع بدفع المرأة إلى الخارج، لأنها إثم يريد أن يتخلص منه، وإذا نزل ليوصلها يمشي بعيداً عنها، ويظل يرقب الطريق، ليتأكد من أن أحداً لم يره، وعندما يركبان السيارة ينطلقان بأقصى سرعة. هذا هو الفرق بين منهج الإيمان، ومنهج الشيطان، الحادثة واحدة، ولكن الذي اختلف هو الحلال والحرام. انظر كيف يتصرف الناس في الحلال.. في النور.. في الأمان، وكيف يتصرفون في الحرام ومنهج الشيطان في الظلام وفي الخفية ويحرصون على ألا يراهم أحد، ومن هنا تأتي دقة التعبير القرآني.. { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } [البقرة: 14]. إن منهج الشيطان يحتاج إلى خلوة، إلى مكان لا يراك فيه أحد، ولا يسمعك فيه أحد، لأن العلن في منهج الشيطان يكون فضيحة، ولذلك تجد غير المستقيم يحاول جاهداً أن يستر حركته في عدم الاستقامة، ومحاولته أن يستتر هي شهادة منه بأن ما يفعله جريمة وقبح، ولا يصح أن يعلمه أحد عنه، وما دام لا يصح أن يراه أحد في مكان ما، فاعلم أنه يحس بأن ما يفعله في هذا المكان هو من عمل الشيطان الذي لا يقره الله، ولا يرضى عنه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | ولابد أن نعلم أن القيم، هي القيم حتى عند المنحرف، وقوله تعالى: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } [البقرة: 14] معناها أنهم عندما يتظاهرون بالإيمان يأخذون جانب العلن، بل ربما افتعلوه، وكان المفروض أن يكون المقابل عندما يخلون إلى شياطينهم أن يقولوا: لم نؤمن. وهناك في اللغة جملة اسمية وجملة فعلية، الجملة الفعلية، تدل على التجدد، والجملة الاسمية تدل على الثبات، فالمنافقون مع المؤمنين يقولون: آمنا، فإيمانهم غير ثابت، متذبذب، وعندما يلقون الكافرين، لو قالوا لم نؤمن، لأخذت صفة الثبات، ولكنهم في الفترة بين لقائهم بالمؤمنين، ولقائهم بالكافرين، الكفر متجدد، لذلك قالوا: { إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [البقرة: 14]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ)
قوله تعالى: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا }: " إذا " منصوب بقالوا الذي هو جوابٌ لها، وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك، و " لَقُوا " فعلٌ وفاعل، والجملةُ في محلِّ خفض بإضافةِ الظرفِ إليها. وأصل لَقُوا: لَقِيُوا بوزن شَرِبوا، فاسْتُثْقِلتِ الضمةُ على الياء التي هي لام الكلمة، فحُذِفَتِ الضمةُ فالتقى ساكنان: لامُ الكلمة وواوُ الجمع، ولا يمكن تحريكُ أحدهما، فَحُذِف الأول وهو الياء، وقُلِبت الكسرةُ التي على القاف ضمةً لتجانِسَ واوَ الضمير، فوزن " لَقُوا ": فَعُوا، وهذه قاعدةٌ مطردةٌ نحو: خَشُوا وحَيُوا. وقد سُمع في مصدر " لَقي " أربعة عشر وزناً: لُقْياً ولِقْيَةً بكسر الفاء وسكون العين، ولِقاء ولِقاءة [ولَقاءة] بفتحها أيضاً مع المدِّ في الثلاثة، ولَقَى ولُقَى بفتح القافِ وضمها، ولُقْيا بضم الفاء وسكون العين ولِقِيَّا بكسرهما والتشديد، ولُقِيَّا بضم الفاء وكسر العين مع التشديد، ولُقْياناً ولِقْيانا بضم الفاء وكسرها، ولِقْيانة بكسر الفاء خاصةً، وتِلْقاء. و " الذين آمنوا " مفعولٌ به، و " قالوا " جوابُ " إذا " ، و " آمنَّا " في محلِّ نَصْبٍ بالقول. قوله تعالى: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ } تقدَّم نظيرُه، والأكثرُ في " خلا " أن يتعدَّى بالباء، وقد يتعدَّى بإلى، وإنما تعدَّى في هذه الآية بإلى لمعنى بديعٍ، وهو أنه إذا تعدَّى بالباء احتمل معنيين أحدهما: الانفرادُ، والثاني: السخرية والاستهزاءُ، تقول: " خَلَوْتُ به " أي سَخِرْتُ منه، وإذا تعدَّى بإلى كان نَصَّاً في الانفرادِ فقط، أو تقول: ضُمِّن خَلا معنى صَرَف فتعدَّى بإلى، والمعنى: صَرفوا خَلاهم إلى شياطينهم، أو تضمَّن معنى ذهبوا وانصرفوا فيكون كقول الفرزدق: | **196ـ ألم تراني قالِباً مِجنِّي** | | **قد قَتَل اللهُ زياداً عنِّي** | | --- | --- | --- | أي: صرفه بالقتل، وقيل: هي هنا بمعنى مع، كقوله:**{ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ }** [النساء: 2]. وقيل: هي بمعنى الباء، وهذان القولان إنما يجوزان عند الكوفيين، وأمَّا البصريون فلا يجيزون التَجوُّز في الحروف لضَعْفِها. وقيل: المعنى وإذا خَلَوا من المؤمنين إلى شياطينهم، فـ " إلى " على بابِها، قلت: وتقديرُ " مِن المؤمنين " لا يجعلُها على بابِها إلاَّ بالتضمينِ المتقدِّم. والأصل في خَلَوْا: خَلَوُوْا، فَقُلِبَتِ الواوُ الأولى التي هي لامُ الكلمة ألفاً لتحركِها وانفتاحِ ما قبلها، فبقيَتْ ساكنةً، وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةٌ، فالتقَى ساكنان، فحُذِف أوَّلُهما وهو الألفُ، وبَقِيَتِ الفتحةُ دالَّةً عليهَا. و " شياطينهم " جمعُ شيطان جمعَ تكسيرٍ، وقد تقدَّم القولُ في اشتقاقه فوزن شياطين: إمَّا فعاليل أو فعالين على حَسَب القَوْلينِ المتقدِّمَيْنِ في الاستعاذة. والفصيح في " شياطين " وبابِه أن يُعْرَبَ بالحركاتِ لأنه جمعُ تكسيرٍ، وفيه لُغَيَّةٌ رديئةٌ، وهي إجراؤُه إجراءَ الجمعِ المذكر السالم، سُمع منهم: " لفلانٍ بستانٌ حولَه بساتون " ، وقُرئ شاذاً: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَاطونُ } [الشعراء: 210]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | قوله تعالى: { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } إنَّ واسمُها و " معكم " خبرُها، والأصل في إنَّا: إنَّنا، كقوله تعالى:**{ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً }** [آل عمران: 93]، وإنما حُذِفَتْ إحدى نوني " إنَّ " لَمَّا اتصلت بنونِ نا، تخفيفاً، وقال أبو البقاء: " حُذِفَتِ النونُ الوسطى على القول الصحيح كما حُذِفَتْ في " إنَّ " إذا خُفِّفَتْ. و " مع " ظرفٌ والضميرُ بعده في محلِّ خفض بإضافتِه إليه وهو الخبرُ كما تقدَّم، فيتعلَّقُ بمحذوف، وهو ظرفُ مكانٍ، وفَهْمُ الظرفيةِ منه قَلِقٌ. قالوا: لأنه يَدُلُّ على الصحبةِ، ومِنْ لازمِ الصحبةِ/ الظرفيةُ، وأمَّا كونُه ظرفَ مكانٍ فلأنه مُخْبِرٌ به عن الجثث نحو: " زيدٌ معك " ، ولو كان ظرف زمانٍ لم يَجُزْ فيه ذلك. واعلَم أنَّ " مع " لا يجوزُ تسكينُ عينِها إلا في شعر كقوله: | **197ـ وريشي مِنْكُمُ وهَوايَ مَعَكُمْ** | | **وإنْ كانَتْ زيارتُكم لِماما** | | --- | --- | --- | وهي حينئذٍ على ظرفِيتها خلافاً لمَنْ زَعَم أنَّها حينئذٍ حرفُ جرٍّ، وإنْ كان النحاس ادَّعَى الإِجماع في ذلك، وهي من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ، وقد تُقْطَعُ لفظاً فتنتصب حالاً غالِباً، تقولُ: جاء الزيدان معاً أي مصطحِبَيْنِ، وقد تقع خبراً، قال الشاعر: | **198ـ حَنَنَْتَ إلى رَيَّا ونفسُك باعَدَتْ** | | **مَزارَكَ مِنْ رَيَّا وشَعْبَاكُما مَعَا** | | --- | --- | --- | فَشْعباكما مبتدأ، و " معاً " خبرُه، على أنه يُحتمل أن يكونَ الخبرُ محذوفاً، و " معا " حالاً. واختلفوا في " مع " حالَ قَطْعِها عن الإِضافة: هل هي من باب المقصور نحو: عصا ورحا، أو المنقوص نحو: يد ودم؟ قولان، الأولُ قولُ يونسَ والأخفشِ، والثاني قولُ الخليل وسيبويه، وتظهر فائدة ذلك إذا سَمَّيْنا به فعلى الأول تقول: جاءني معاً ورأيت معاً ومررت بمعاً، وعلى الثاني: جاءني معٌ ورأيت معاً ومررت بمعٍ كيَدٍ، ولا دليلَ على القولِ الأولِ في قوله: " وشَعْباكما معاً لأنَّ معاً منصوبٌ على الظرفِ النائبِ عن الخَبر، نحو: " زيدٌ عندَك " وفيها كلامٌ أطولُ من هذا، تَرَكْتُه إيثاراً للاختصارِ. قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } كقوله:**{ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }** [البقرة: 11]، وهذه الجملةُ الظاهرُ أنها لا محلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافِها إذ هي جوابٌ لرؤسائِهم، كأنهم لمَّا قالوا لهم: " إنَّا معكم " توجَّه عليهم سؤالٌ منهم، وهو فما بالُكم مع المؤمنين تُظاهِرونهم على دينهم؟ فأجابوهم بِهذه الجملةِ، وقيل: محلُّها النصب، لأنها بدلٌ من قولِه تعالى: " إنَّا معكم ". وقياسُ تخفيفِ همزةِ " مستهزئون " ونحوِه أن تُجْعَلَ بينَ بينَ، أي بين الهمزةِ والحرفِ الذي منه حركتُها وهو الواو، وهو رأيُ سيبويه، ومذهبُ الأخفش قَلْبُها ياءً محضةً. وقد وَقَف حمزةُ على " مستهزئون " و**{ فَمَالِئُونَ }** [الصافات: 66] ونحوهِما بحَذْفِ صورة الهمزة إتْباعاً لرسمِ المصحفِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -)
أي، وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا آمنا، وأظهروا لهم الإيمان والموالاة، غروراً منهم للمؤمنين ونفاقاً ومصانعه وتقية، وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم. { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } يعني إذا انصرفوا وخلصوا إلى شياطينهم، فضمّن " خلوا " معنى انصرفوا لتعديته بإلى ليدل على الفعل المضمر، وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم، ورؤساؤهم من أحبار اليهود، ورؤوس المشركين والمنافقين، قال السُّدي عن ابن مسعود { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } يعني رؤساءهم في الكفر، وقال ابن عباس: هم أصحابهم من اليهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد: أصحابهم من المنافقين والمشركين، وقال قتادة: رؤوسهم وقادتهم في الشرك والشر، قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مردته، ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تعالى:**{ شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً }** [الأنعام: 112]، وقوله تعالى: { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } أي إنا على مثل ما أنتم عليه { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أي إنما نستهزىء بالقوم ونلعب بهم، وقال ابن عباس: { مُسْتَهْزِئُونَ } ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى جواباً لهم ومقابلة على صنيعهم: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } ، قال ابن عباس: يسخر بهم للنقمة منهم { وَيَمُدُّهُمْ } يملي لهم، وقال مجاهد: يزيدهم كقوله تعالى:**{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ \* نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ }** [المؤمنون: 55-56]، قال ابن جرير: أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى:**{ يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ }** [الحديد: 13] الآية، وفي قوله:**{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً }** [آل عمران: 178] الآية، قال: فهذا وما أشبهه من استهزاء الله تعالى ومكره وخديعته بالمنافقين وأهل الشرك، وقال آخرون: استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ارتكبوا من معاصيه، وقال آخرون: قوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } ، وقوله:**{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142]، وقوله:**{ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ }** [التوبة: 67] وما أشبه ذلك إخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر عن الجزاء مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف كما قال تعالى:**{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }** [الشورى: 40]، وقوله:**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ }** [البقرة: 194] فالأول ظلم والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما، وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك. والعمه: الضلال، يقال: عمه عمهاً إذا ضل، وقوله: { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي في ضلالتهم وكفرهم يترددون حيارى، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً لأن الله قد طبع على قلوبهم، وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً، وقال بعضهم: العمه في القلب، والعمى في العين، وقد يستعمل العمى في القلب أيضاً كما قال تعالى:**{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ }** [الحج: 46]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ)
{ قَالُوۤا آمَنَّا } كذبوا خوفاً من المؤمنين { خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ } هم رؤساء الكفر، وقيل: شياطن الجن، وهو بعيد. وتعدّي خلا بإلى ضمن معنى مشوا وذهبوا أو ركنوا، وقيل: إلى بمعنى مع، أو بمعنى الباء وجه قولهم { إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } بجملة اسمية مبالغة وتأكيد، بخلاف قولهم: آمنا، فإنه جاء بالفعل لضعف إيمانهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير غريب القرآن / زيد بن علي (ت 120 هـ)
وقولهُ تعالى: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } وهو كلُّ غاوٍ، ومُتردٍ من الجِّنِ والإِنسِ، والدَوابِّ. واحدُهُمْ: شَيْطَانٌ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ)
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا }؛ قال جُويبرُ عن الضحَّاك عنِ ابنِ عبَّاس: (كَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ الْخَزْرَجِيّ عَظِيْمَ الْمُنَافِقِيْنَ مِنْ رَهْطِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَكَانَ إذا لَقِيَ سَعْداً قَالَ: نِعْمَ الدِّيْنُ دِيْنُ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ إذَا رَجَعَ إلَى رُؤَسَاءِ قَوْمِهِ مِنْ أهْلِ الْكُفْرِ قَالَ: شُدُّواْ أيْدِيَكُمْ بدِيْنِ آبَائِكُمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). وقال الكلبيُّ عن أبي صالح عن ابنِ عبَّاس؛ قال: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَبْدِاللهِ ابْنِ أُبَيٍّ وَأصْحَابهِ، وَذَلِكَ أنَّهُمْ خَرَجُواْ ذَاتَ يَوْمٍ فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ عَبْدُاللهِ لأَصْحَابِهِ: أنْظُرُوا كَيْفَ أرُدُّ هَؤُلاَءِ السُّفَهَاءَ عَنْكُمْ؟ فَذَهَبَ فَأَخَذَ بيَدِ أبي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: مَرْحَباً بالصِّدِّيْقِ وَسََيِّدِ بَنِي تَميْم وَشَيْخِ الإسْلاَمِ وَثَانِي رَسُولِ اللهِ فِي الْغَار الْبَاذِلِ نَفْسَهُ وَمَالَهُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ أخَذَ بيَدِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَقَالَ: مَرْحَباً بسَيِّدِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ الصَّادِقُ الْقَوِيُّ فِي دِيْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الْبَاذِلُ نَفْسَهُ وَمَالَهُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ أخَذَ بيَدِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ؛ فَقَالَ: مَرْحَباً يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَخَتَنَهُ وَسَيِّدَ بَنِي هَاشِمٍ مَا خَلاَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: اتَّقِ اللهَ وَلاَ تُنَافِقْ؛ فَإِنَّ الْمُنَافِقِيْنَ شَرُّ خَلِيْقَةِ اللهِ. فَقَالَ: مَهْلاً يَا أبَا الْحَسَنِ، وَاللهِ إنَّ إيْمَانَنَا كَإِيْمَانِكُمْ وَتَصْدِيْقَنَا كَتَصْدِيْقِكُمْ. وَفِي روَايَةٍ: وَاللهِ إنِّي مُؤْمِنٌ باللهِ وَرَسُولِهِ. ثُمَّ افْتَرَقُواْ، فَقَالَ عَبْدُاللهِ لأَصْحَابهِ: كَيْفَ رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ، فَإِذَا رَأيْتُمُوهُمْ فَافْعَلُوا كَمَا فَعَلْتُ. فَأَثْنَواْ عَلَيْهِ؛ وَقَالُواْ: لاَ نَزَالُ بخَيْرٍ مَا عِشْتَ. فَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها: وإذا لَقُوا الذين آمنوا، أبا بكرٍ وأصحابَهُ؛ قالوا: آمَنَّا كإيْمانِكم. وقرأ محمدُ بنُ السُّمَيقِعِ: (وإذا لاَقُوا) وهما بمعنى واحد، وأصلُ { لَقُوا }: لَقِيُواْ؛ فاستُثقِلَتِ الضمَّةُ على الياء فنُقلت إلى القافِ وسُكِّنت الواوُ والياء، فحذفتِ الياء لالتقاءِ السَّاكِنين. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ }؛ أي مع شياطينِهم؛ وهم رؤسَاؤُهم في الضَّلالةِ. قال الأخفشُ: (كُلُّ عَاقٍّ مُتَمَرِّدٍ فَهُوَ شَيْطَانٌ). ومعنى { خَلَوْاْ } أي جمعوا. ويجوزُ أن يكون من الْخُلْوَةِ؛ يقال: خَلَوْتُ بهِ وَخَلَوْتُ مَعَهُ وَخَلَوْتُ إلَيْهِ؛ كلُّها بمعنى واحدٍ. قال ابنُ عبَّاس: ((شَيَاطِينِهِمْ) رَؤُسَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ وَكَهَنَتُهُمْ وَهُمْ خَمْسَةُ نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ). ولا يكون كاهنٌ إلاَّ ومعه شيطانٌ، منهم كعبُ بن الأشرفِ بالمدينةِ؛ وأبو بُرْدَةَ في بني أسْلَمَ؛ وعبدُ الدار في جُهينة؛ وعوفُ بن عامرٍ في بني أسَدٍ؛ وعبدُالله بن السَّوداءِ في الشامِ. والشيطانُ المتمرِّدُ العاتِي من كلِّ شيءٍ؛ ومنهُ قِيْلَ للحيَّة النَّصْنَاصِ: شيطانُ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى:**{ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ }** [الصافات: 65] أي الحيَّاتِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ }؛ أي على دِينِكم وأنصاركم، قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }؛ أي بمُحَمَّدٍ وأصحابهِ بإظهار قولِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ)
قوله: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } الآية. أصل " لَقُوا ": " لقيُوا " ، فألقيت حركة الياء على القاف، وحذفت الياء لسكونها وسكون الواو بعدها. [وهذه] صفة المنافقين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر. قوله: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ }. يعني أصحابهم، وقيل: رؤساؤهم في الكفر قال الله:**{ شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ }** [الأنعام: 112] فسمى أهل الفسق من الإنس شياطين. وقيل: الشياطين هنا الكهان. وقيل: هم الكفار والمنافقون إذا لقوهم قالوا: { إِنَّا مَعَكُمْ } أي على دينكم. و " إلى " بمعنى " مع " ، كما قال:**{ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ }** [النساء: 2]، أي مع أموالكم. وقيل: إلى على بابها. [والعرب] تقول: " خلوت به " ، و " خلوت إليه ومعه " ، لكن الباء يجوز أن تدل على أن معنى " خلوت به " من السخرية و " إلى " لا تدل إلا على " خلوت إليه " في أمر ما. والآية ليست / على معنى السخرية، فلذلك لم يأت بالباء لما فيها من الإشكال إذ هي تحتمل معنى " إلى " ، وتحتمل السخرية. وأيضاً فإن معنى " إلى " أنه على معنى: [وإذا صرفوا] إلى شياطينهم / قالوا: إنا معكم، أي على دينكم [فالجالب لِـ إلى " ] الانصراف الذي دل عليه الكلام، والباء لا تدخل مع الانصراف الذي دل عليه الكلام، فلذلك أيضاً لم تدخل مع " خلوا ". وفي اشتقاق " شيطان " قولان: - قيل: هو فعلان من " شيط " فلا ينصرف إذا سميت به في المعرفة للتعريف والزيادتين كعثمان، وينصرف في النكرة، وذلك المستعمل فيه في الكلام والقرآن. أعني النكرة على أنه واحد من جنسه كَسِرْحَان اسم واحد " الذِّئَاب ". - وقيل: هو (فَيْعَال) من الشطن وهو الحبل، فيكون معناه أنه ممتد في الشر، ومنه " بِئْر شَطُونٌ " ، إذا كانت بعيدة الاستقاء. وهو عند القتبي فَيْعال " من شطن " أي بَعُدَ من الخير يقال: " شطنت داره " ، أي بعدت. فهو ينصرف على هذين القولين في المعرفة والنكرة. وتصغيره على القول الأول في المعرفة شيطان، ولا يجمع على شياطين إلا أن تجعله نكرة فيجمع على شياطين. " كسرحان، وسراحين، ووزنه فعالين على مذهب من جعله مِنْ " شَيَّطَ " ووزنه (فياعيل) على مذهب من جعله من " شطن " وتصغيره على القولين الآخرين " شييطين " في المعرفة والنكرة. قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }. أي نستهزئ بالمؤمنين في قولنا / لهم: " آمنا ". وهمزة " مستهزئون " يجوز في تخفيفها وجهان: أحدهما: أن تجعلها بين الهمزة المضمومة والواو الساكنة، وهو قول سيبويه. والوجه الثاني: أن تجعلها بين الهمزة المضمومة والياء الساكنة لأجل انكسار ما قبلها وهو قول الأخفش. وحكى بدلها بياء مضمومة وليس بقياس. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ)
هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، و[ذلك] أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين أظهروا أنهم على طريقتهم وأنهم معهم، فإذا خلوا إلى شياطينهم - أي: رؤسائهم وكبرائهم في الشر - قالوا: إنا معكم في الحقيقة، وإنما نحن مستهزؤون بالمؤمنين بإظهارنا لهم، أنَّا على طريقتهم، فهذه حالهم الباطنة والظاهرة، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. قال تعالى: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وهذا جزاء لهم على استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زيَّن لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة، حتى ظنُّوا أنهم مع المؤمنين، لما لم يُسلِّط الله المؤمنين عليهم، ومن استهزائه بهم يوم القيامة، أنه يعطيهم مع المؤمنين نوراً ظاهراً، فإذا مشى المؤمنون بنورهم طفئ نور المنافقين، وبَقُوا في الظلمة بعد النور متحيرين، فما أعظم اليأس بعد الطمع،**{ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ }** الآية [الحديد: 14]. قوله: { وَيَمُدُّهُمْ } أي: يزيدهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } أي: فجورهم وكفرهم، { يَعْمَهُونَ } أي: حائرون مترددون، وهذا من استهزائه تعالى بهم. ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ... }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } أي: أظهروا لهم الإيمان، والموالاة، والمصافاة - نفاقاً، ومصانعةً، وتقيةً وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم. واعلم أن مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أول قصة المنافقين، فليس بتكرير. لأن تلك في بيان مذهبهم، والترجمة عن نفاقهم؛ وهذه لبيان تباين أحوالهم، وتناقض أقوالهم - في أثناء المعاملة والمخاطبة - حسب تباين المخاطبين! { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } يقال: خلوت بفلان وإليه أي: انفردت معه؛ ويجوز أن يكون من خلا بمعنى: مضى، ومنه: القرون الخالية. والمراد بـ { شَيَاطِينِهِمْ }: أصحابهم أولو التمرد والعناد؛ والشيطان يكون من الإنس والجن، كما قال تعالى:**{ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً }** [الأنعام: 112]. وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر، واشتقاق شيطان من شطن، إذا بعد، لبعده من الصلاح والخير. ومعنى: { إِنَّا مَعَكُمْ } أي: في الاعتقاد على مثل ما أنتم عليه، إنما نحن في إظهار الإيمان عند المؤمنين مستهزئون ساخرون بهم. والاستهزاء بالشيء السخرية منه. يقال: هزأت واستهزأت بمعنى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ)
الآيات التي تقدّمت في وصف هذا الصنف من الناس - الذي قلنا إنّه يوجد في كلّ أمّة وملّة وفي كلّ عصر - كانت عامّة تصوِّر حال أفراده في كلِّ زمان ومكان، وكان أسلوبها ظاهراً في العموم كقوله: { يُخَادِعُونَ } إلخ، وقوله: وإذا قيل لهم كذا، قالوا كيت وكيت. وأمّا قوله تعالى: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } الآية، فهو وصف قد يختصّ ببعض أفراد هذا الصنف ممّن كان في عصر التنزيل، جاء بعد الأوصاف العامة، وحُكي بصيغة الماضي، ليكون كالتصريح بتوبيخ تلك الفئة من هذا الصنف، التي بلغت من التهتّك في النفاق، والفساد في الأخلاق؛ أن تظهر بوجهين، وتتكلّم بلسانين، وما بلغ كلّ أفراد الصنف هذا المبلغ من الفساد والضعف. ولهذه الخصوصيّة في الآية قال بعض الواهمين: إنّ جميع تلك الآيات في منافقي ذلك العصر - وقد مرّ تفنيده فلا نُعيده. على أنّ هذه الفئة أيضاً توجد في كلِّ عصر وزمان يكون فيه لأهل الحقّ قوّة وسلطان، والحكاية عنها بصيغة الماضي والواقع لا تنافي ذلك؛ لأنّ " إذا " تدلّ على المستقبل، فمعنى الفعل مستقبل، وإنّما اختيرت صيغة الماضي لتوبيخ أولئك الأفراد، وإيذانهم بأنّ بضاعة النفاق والمداجاة، لا تروج في سوق المؤمنين لأنّها مزجاة، وأنّ إستهزاءهم مردود إليهم، ووباله عائد عليهم. كان أولئك النفر يُدهنون في دينهم، فإذا لقوا المؤمنين قالوا آمنّا بما أنتم به مؤمنون، { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } من دعاة الفتنة وعمّال الإفساد وأنصار الباطل، الذين يصدّون عن سبيل الحقّ بما يقيمون أمامه من عقبات الوساوس والأوهام، وما يلقون فيه من أشواك المعايب وتضاريس المذامّ، وقال مفسّرنا (الجلال): إنّهم الرؤساء، والصواب ما قلنا، وكم من رئيس مغمول، لما في نفسه من الضعف والخمول، لا ينصر اعتقاده، وإن كان معترفاً بأنّ فيه رشاده، وفي عزّته عزّه وإسعاده. وكم من مرؤوس شديد العزيمة؛ قويّ الشكيمة، يكون له في نصر ملّته، والمدافعة عن أمّته، ما يعجز عنه الرؤساء، ولا يأتي على أيدي الأمراء. | **وللذبابة في الجرح الممدّ يدٌ** | | **تنال ما قصّرت عنهُ يد الأسد** | | --- | --- | --- | { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [البقرة: 14] أي إنّا معكم على عقيدتكم وعملكم، وإنّما نستهزئ بالمسلمين ودينهم، فكشف القرآن عن هذا التلوّن وهذه الذبذبة، وقابلهم عليها بما هدم بنيانهم، وفضح بهتانهم، فقال: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ... } أصل الإستهزاء: الإستخفاف وعدم العناية بالشيء في النفس، وإن أظهر المستخفّ الإستحسان والرضا تهكّماً. وهذا المعنى محالٌ على الله تعالى، والمحال بذاته يصحّ إطلاق لازمه، والمستهزئ بإنسان في نحو مدح لعلمه واستحسان لعمله مع اعتقاد قبحه، غير مبال به ولا معتن بعلمه ولا بعمله، حيث لم يرجعه عنه ولم يكرهه عليه، ويلزمه استرسال المستهزَأ به في عمله القبيح. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فمعنى: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ }: [أنّه يمهلهم فتطول عليهم نعمته، وتبطئ عنهم نقمته] ثمّ يسقط من أقدارهم ويستدرجهم بما كانوا يعملون { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } والعمه: عمى القلب وظلمة البصيرة، وأثره الحيرة والإضطراب، وعدم الإهتداء للصواب. أقول: هذا ملخّص سياق الدرس. وقال الراغب: العمه، التردّد في الأمر من التحيّر: يقال: عمه فهو عمه وعامه وجمعه عمّه (بالتشديد). اهـ. والإستهزاء: فعل الهزء - بسكون الزاي وضمها - وقصده بالعمل. وهو اسم من هزئت به ومنه، وفي لغة هزأت - فهو من بابي تعب ونفع - واستهزأت به أي إستخفت به وسخرت منه. وقال البيضاويّ: والإستهزاء: السخريّة والإستخفاف، يقال: هزأت به واستهزأت بمعنى - كأجبت واستجبت - وأصله الخفّة، من الهزؤ وهو القتل السريع، يقال: هزأ فلان إذا مات، وناقته تهزأ به، أي تسرع وتخفّ، وقال الراغب: الهزء مزح في خفية، وقد يقال لما هو كالمزح. ثمّ قال: والإستهزاء ارتياد الهزؤ، وإن كان قد يعبّر به عن تعاطي الهزؤ كالإستجابة في كونها ارتياداً للإجابة، وإن كان يجري مجرى الإجابة. ثمّ قال بعد ذكر آيات من الشواهد: والإستهزاء من الله في الحقيقة لا يصحّ كما لا يصحّ من الله اللهو واللعب تعالى الله عنه. وقوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي يجازيهم جزاء الهزؤ، ومعناه: أنّه أمهلهم مدّة، ثمّ أخذهم مغافصة (أي مفاجأة على غرّة) فسمّى إمهاله إيّاهم إستهزاءً من حيث إنّهم إغترّوا به إغترارهم بالهزؤ، فيكون ذلك كالإستدراج من حيث لا يعلمون. اهـ. وأشهر الأقوال: أنّ معناه يجازيهم بالعقاب على استهزائهم أو يعاملهم معاملة المستهزئ بهم**{ يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً }** [الحديد: 13] الآية وقال تعالى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ \* وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ }** [المطففين: 29-30] إلى قوله:**{ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ \* عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ }** [المطففين: 34-35] وقيل: إنّ إستهزاءه تعالى بهم إجراؤه أحكام المسلمين عليهم في الدنيا كما مرّ في خداعه لهم. والطغيان: مجاوزة الحدّ في العصيان. مأخوذ من طغيان الماء وهو تجاوز فيضانه الحدّ المألوف. والمدّ: الزيادة في الشيء متّصلة به، يقال: مدّ البحر زاد وارتفع ماؤه وأنبسط ومدّه الله قال تعالى:**{ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ }** [لقمان: 27] ومدّ البحر يقابله الجزر، وهو انحسار مائه عن الساحل ونقصان إمتداده. ويسمّى السيل مدّاً من قبيل التسمية بالمصدر، ومنه المدّة من الزمان، والمدد - بالتحريك - للجيش. يقال مدّه وأمدّه. قال تعالى:**{ قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [مريم: 75] وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى في تفسير قوله تعالى من سورة الأنعام**{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }** [الأنعام: 110]. والمعنى: إنّ سنة الله تعالى في الذين وصلوا إلى هذه الغاية من فساد الفطرة هو ما بيّنه بقوله فيهم: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة: 16] المشار إليهم بأولئك: هم الذين بيّنت حالهم الآيات السابقة بأنّهم يقولون: آمنّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين إلخ، وهو صريح في أنّ طغيانهم وعمههم من كسبهم، ولم يجبروا عليه بخلق ربّهم. قال الأستاذ: وقد فسّروا " اشتروا " باستبدلوا وهو غير سديد؛ لأنّ بين اللفظين فُصلاً في المعنى، وكلّنا نعتقد - والحقّ ما نعتقد - أنّ القرآن في أعلى درج البلاغة، لا يختار لفظاً على لفظ من شأنه أن يقوم مقامه، ولا يرجّح أسلوباً على أسلوب يمكن تأدية المراد به، إلاّ لحكمة في ذلك، وخصوصيّة لا توجد في غير ما اختاره ورجّحه. ووجه اختياره " اشتروا " على استبدلوا، أنّ الأوّل أخصّ من وجهين. أحدهما: إنّ الإستبدال لا يكون شراءً، إلاّ إذا كان فيه فائدة يقصدها المستبدل منه، سواء كانت الفائدة حقيقيّةً أو وهمية. ثانيهما: إنّ الشراء يكون بين متبايعين بخلاف الإستبدال، فإذا أخذت ثوباً من ثيابك بدل آخر، يقال: إنّك استبدلت ثوباً بثوب. فالمعنى الذي تؤدّيه الآية: إنّ أولئك القوم إختاروا الضلالة على الهدى لفائدة لهم بإزائها يعتقدون الحصول عليها من الناس، فهو معاوضة بين طرفين يقصد بها الربح، وهذا هو معنى الإشتراء والشراء، ومثلهما البيع والإبتياع، ولا يؤدّيه مطلق الإستبدال. ذلك بأنّه كان عندهم كتب سماويّة فيها مواعظ وأحكام، وفيها بشارة بأنّ الله يرسل إليهم نبيّاً، يحلّ لهم الطيبات، ويحرّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصر التقاليد، وأغلال التقيّد بإرادة العبيد، ويرعى جميع الأمم بقضيب من حديد، فيرجع للعقول نعمة الإستقلال، ويجعل إرادة الأفراد هي المصرِّفة للأعمال فكان عندهم بذلك حظّ من هداية العقل والمشاعر وهداية الدين والكتاب، ولكن نجمت فيهم الأحداث والبدع، وتحكّمت فيهم العادات والتقاليد، وعلا سلطان ذلك كلّه على سلطان الدين؛ فضلّ الرؤساء في فهمه، بتحكيم تقاليدهم في أحكامه وعقائده، بضروب من التحريف والتأويل، وأهمل المرءوسون العقل والنظر في الكتاب بحظر الرؤساء وأثرتهم، فكان الجميع على ضلالة في استعمال العقل وفي فهم الكتاب، بعد أن كانا هدايتين ممنوحتين لهم لإسعادهم. وكانت المعاوضة عند الفريقين في ذلك بالمنافع الدنيويّة: للرؤساء المال والجاه والتعظيم والتكريم باسم الدين، وللمرءوسين الإستعانة بجاه رؤساء الدين على مصالحهم ومنافعهم، ورفع أثقال التكاليف، بفتاوى التأويل والتحريف. هكذا استحبّوا العمى على الهدى - وهو العقل والدين - رغبةً في الحطام، وطمعاً في الجاه الكاذب { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } في الدنيا، إذ لم تثمر لهم ثمرة حقيقيةً، بل خسروا وخابوا بإهمالهم النظر الصحيح، الذي لا تقوم المصالح ولا تحفظ المنافع إلاّ به. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإسناد الربح إلى التجارة، عربيّ في غاية الفصاحة؛ لأنّ الربح هو النماء في التجر، وهذه المعاوضة هي التي من شأنها أن تثمر الربح، فإسناده إليها - نفياً أو إثباتاً - إسناد صحيح لا يحتاج إلى التأويل [كأنّه قيل: فلم يكن نماء في تجارتهم. على أنّ ذلك التأويل المعروف من أنّ إسناد الربح إلى التجارة؛ لأنّها سببه والوسيلة إليه، وأنّ العبارة من المجاز العقليّ - تأويل يتّفق مع البلاغة ولا ينافيها، ولا زال المجاز العقليّ من أفضل ما يزيّن البُلغاء به كلامهم. ويبلغون به ما يشاءون من تفخيم معانيهم]. { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } في دينهم؛ لأنّهم لم يأخذوه على وجهه ولم يفهموه حق فهمه أو ما كانوا مهتدين في هذه التجارة لأنهم باعوا فيها ما وهبهم الله من الهدى والنور بظلمات التقاليد وضلالات الأهواء والبدع التي زجّوا أنفسهم فيها. أو ما كانوا مهتدين في طور من الأطوار، ولا مسّ الرشد قلوبهم في وقت من الأوقات؛ لأنّهم نشؤوا على التقليد الأعمى من أوّل وهلة، ولم يستعملوا عقولهم قطّ في فهم أسراره، واقتباس أنواره. ولا يذهبنّ الوهم إلى أنّ اشتراء الضلالة بالهدى يفيد أنّهم كانوا مهتدين، ثمّ تركوا الهدى للضلالة، فيتناقض أوّل الآية مع آخرها، إذ ليس كل مَنْ مُنح الهدى يأخذ به فيكون مهتدياً، وهؤلاء حملوه، فباعوه ولم يحملوه. وينظر إلى هذا الإشتراء، ويشبهه الإستحباب في قوله تعالى:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصّلت: 17] والله أعلم. ومن مباحث الأداء: قراءة حمزة والكسائي (الهدى) بالإمالة، أي جعل مدّها بين الألف والياء، وهي لغة بني تميم، وعدم الإمالة لغة قريش وهي الفصحى، ولمّا كان يعسر على لسان من اعتادها تركها، أذن الله تعالى بها فيما. أقرأ جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ... }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير تذكرة الاريب في تفسير الغريب/ الامام ابي الفرج ابن الجوزي (ت 597 هـ)
قوله تعالى الى شياطينهم رؤوسهم فى الكفر | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
* تفسير البرهان في تفسير القرآن/ هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ)
336/ [1]- قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): " و إذا لقى هؤلاء الناكثون البيعة، المواطئون على مخالفة علي (عليه السلام) و دفع الأمر عنه { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } كإيمانكم، إذا لقوا سلمان و المقداد و أبا ذر و عمار قالوا لهم: آمنا بمحمد و سلمنا له بيعة علي (عليه السلام) و فضله، و انقدنا لأمره كما آمنتم. إن أولهم، و ثانيهم، و ثالثهم، إلى تاسعهم ربما كانوا يلتقون في بعض طرقهم مع سلمان و أصحابه، فإذا لقوهم اشمأزوا منهم، و قالوا: هؤلاء أصحاب الساحر و الأهوج- يعنون محمدا و عليا (عليهما السلام)- ثم يقول بعضهم لبعض: احترزوا منهم لا يقفون من فلتات كلامكم على كفر محمد فيما قاله في علي فينموا عليكم فيكون فيه هلاككم. فيقول أولهم: انظروا إلي كيف أسخر منهم، و أكف عاديتهم عنكم، فإذا التقوا، قال أولهم: مرحبا بسلمان ابن الإسلام، الذي قال فيه محمد سيد الأنام: لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس، هذا أفضلهم- يعنيك- و قال فيه: سلمان منا أهل البيت فقرنه بجبرئيل (عليه السلام) الذي قال له يوم العباء- لما قال لرسول الله (صلى الله عليه و آله): و أنا منكم؟ قال-: و أنت منا، حتى ارتقى جبرئيل إلى الملكوت الأعلى، يفتخر على أهله و يقول: بخ، بخ، و أنا من أهل بيت محمد رسول الله (صلى الله عليه و آله). ثم يقول للمقداد: و مرحبا بك- يا مقداد- أنت الذي قال فيك رسول الله (صلى الله عليه و آله) لعلي (عليه السلام): يا علي، المقداد أخوك في الدين و قد قد منك، فكأنه بعضك حبا لك، و بغضا لأعدائك، و موالاة لأوليائك، لكن ملائكة السماوات و الحجب أشد حبا لك منك لعلي (عليه السلام)، و أشد بغضا على أعدائك منك على أعداء علي (عليه السلام) فطوباك ثم طوباك. ثم يقول لأبي ذر: مرحبا بك- يا أبا ذر- أنت الذي قال فيك رسول الله (صلى الله عليه و آله): ما أقلت الغبراء و لا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر. قيل: بما ذا فضله الله تعالى بهذا و شرفه؟ قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): لأنه كان يفضل عليا أخي، و له في كل الأحوال مداحا، و لشانئيه و أعاديه شانئا و لأوليائه و أحبائه مواليا، سوف يجعله الله عز و جل في الجنان من أفضل سكانها، و يخدمه من لا يعرف عدده إلا الله من وصائفها و غلمانها و ولدانها. ثم يقول لعمار بن ياسر: أهلا و سهلا- يا عمار- نلت بموالاة أخي رسول الله (صلى الله عليه و آله)- مع أنك وادع رافه، لا تزيد على المكتوبات و المسنونات من سائر العبادات- ما لا يناله الكاد بدنه ليله و نهاره- يعني الليل قياما، و النهار صياما- و الباذل أمواله و إن كانت جميع أموال الدنيا له. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | مرحبا بك، فقد رضيك رسول الله (صلى الله عليه و آله) لعلي أخيه مصافيا، و عنه مناوئا، حتى أخبر أنك ستقتل في محبته، و تحشر يوم القيامة في خيار زمرته، وفقني الله لمثل عملك و عمل أصحابك، ممن توفر على خدمة رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و أخي محمد علي ولي الله، و معاداة أعدائهما بالعداوة، و مصافاة أوليائهما بالموالاة و المشايعة، سوف يسعدنا الله يومنا هذا إذا التقينا بكم، فيقبل سلمان و أصحابه ظاهرهم كما أمر الله تعالى، و يجوزون عنهم. فيقول الأول لأصحابه: كيف رأيتم سخريتي بهؤلاء، و كفي عاديتهم عني و عنكم؟ فيقولون له: لا نزال بخير ما عشت لنا. فيقول لهم: فهكذا فلتكن معاملتكم لهم، إلى أن تنتهزوا الفرصة فيهم مثل هذه، فإن اللبيب العاقل من تجرع على الغصة حتى ينال الفرصة. ثم يعودون إلى أخدانهم المنافقين المتمردين المشاركين لهم في تكذيب رسول الله (صلى الله عليه و آله) فيما أداه إليهم عن الله عز و جل من ذكر و تفضيل أمير المؤمنين (عليه السلام) و نصبه إماما على كافة المكلفين قالُوا- لهم- إِنَّا مَعَكُمْ فيما واطأتكم عليه أنفسكم، من دفع علي عن هذا الأمر، إن كانت لمحمد كائنة، فلا يغرنكم و لا يهولنكم ما تسمعونه مني من تقريظهم، و تروني أجترئ عليهم من مداراتهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } بهم. فقال الله عز و جل: يا محمد { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } يجازيهم جزاء استهزائهم في الدنيا و الآخرة { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } يمهلهم فيتأنى بهم برفقه، و يدعوهم إلى التوبة، و يعدهم إذا تابوا المغفرة و هم يَعْمَهُونَ لا يرعوون عن قبيح، و لا يتركون أذى لمحمد و علي (صلوات الله عليهما) يمكنهم إيصاله إليهما إلا بلغوه. قال العالم (عليه السلام): فأما استهزاء الله تعالى بهم في الدنيا فهو أنه- مع إجرائه إياهم على ظاهر أحكام المسلمين، لإظهارهم ما يظهرونه من السمع و الطاعة، و الموافقة- يأمر رسول الله (صلى الله عليه و آله) بالتعريض لهم حتى لا يخفي على المخلصين من المراد بذلك التعريض، و يأمر بلعنهم. و أما استهزاؤه بهم في الآخرة فهو أن الله عز و جل إذا أقرهم في دار اللعنة و الهوان و عذبهم بتلك الألوان العجيبة من العذاب، و أقر هؤلاء المؤمنين في الجنان بحضرة محمد (صلى الله عليه و آله) صفي الملك الديان أطلعهم على هؤلاء المستهزئين الذين كانوا يستهزءون بهم في الدنيا، حتى يروا ما هم فيه من عجائب اللعائن و بدائع النقمات، فتكون لذتهم و سرورهم بشماتتهم بهم، كما لذتهم و سرورهم بنعيمهم في جنات ربهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فالمؤمنون يعرفون أولئك الكافرين و المنافقين بأسمائهم و صفاتهم، و هم على أصناف: منهم من هو بين أنياب أفاعيها تمضغه و تفترسه، و منهم من هو تحت سياط زبانيتها و أعمدتها و مرزباتها، تقع من أيديها عليه ما يشدد في عذابه، و يعظم حزنه و نكاله، و منهم من هو في بحار حميمها يغرق، و يسحب فيها، و منهم من هو في غسلينها و غساقها، تزجره فيها زبانيتها. و منهم من هو في سائر أصناف عذابها. و الكافرون و المنافقون ينظرون، فيرون هؤلاء المؤمنين الذين كانوا بهم في الدنيا [يسخرون]- لما كانوا من موالاة محمد و علي و آلهما (صلوات الله عليهم) يعتقدون- فيرونهم، و منهم من هو على فرشها يتقلب، و منهم من هو في فواكهها يرتع، و منهم من هو في غرفها، أو بساتينها و متنزهاتها يتبحبح، و الحور العين و الوصفاء و الولدان و الجواري و الغلمان قائمون بحضرتهم، و طائفون بالخدمة حواليهم، و ملائكة الله عز و جل يأتونهم من عند ربهم بالحباء و الكرامات، و عجائب التحف و الهدايا و المبرات يقولون لهم:**{ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ }** [الرعد: 24.] فيقول هؤلاء المؤمنون المشرفون على هؤلاء الكافرين و المنافقين: يا فلان، و يا فلان، و يا فلان- حتى ينادونهم بأسمائهم- ما بالكم في مواقف خزيكم ماكثون؟! هلموا إلينا نفتح لكم أبواب الجنان لتخلصوا من عذابكم، و تلحقوا بنا في نعيمها. فيقولون: يا ويلنا أنى لنا هذا؟ فيقول المؤمنون: انظروا إلى الأبواب، فينظرون إلى أبواب من الجنان مفتحة يخيل إليهم أنها إلى جهنم التي فيها يعذبون، و يقدرون أنهم يتمكنون أن يتخلصوا إليها، فيأخذون في السباحة في بحار حميمها، و عدوا من بين أيدي زبانيتها و هم يلحقونهم و يضربونهم بأعمدتهم و مرزباتهم و سياطهم، فلا يزالون كذلك يسيرون هناك، و هذه الأصناف من العذاب تمسهم، حتى إذا قدروا أن يبلغوا تلك الأبواب وجدوها مردومة عنهم، و تدهدههم الزبانية بأعمدتها فتنكسهم إلى سواء الجحيم. و يستلقي أولئك المنعمون على فرشهم في مجالسهم يضحكون منهم مستهزئين بهم، فذلك قول الله عز و جل: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } و قوله عز و جل:**{ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ \* عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ }** [المطففين: 34-35]. 337/ [2]- ابن شهر آشوب: عن الباقر (عليه السلام): " أنها نزلت في ثلاثة- لما قام النبي (صلى الله عليه و آله) بالولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام)- أظهروا الإيمان و الرضا بذلك، فلما خلوا بأعداء أمير المؤمنين (عليه السلام) { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | 338/ [3]- و عن (تفسير الهذيل و مقاتل) عن محمد بن الحنفية- في خبر طويل- { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } بعلي بن أبي طالب، فقال الله تعالى: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } يعني يجازيهم في الآخرة جزاء استهزائهم بأمير المؤمنين (عليه السلام). 339/ [4]- قال ابن عباس: و ذلك أنه إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى الخلق بالجواز على الصراط فيجوز المؤمنون إلى الجنة، و يسقط المنافقون في جهنم، فيقول الله: يا مالك، استهزئ بالمنافقين في جهنم فيفتح مالك بابا من جهنم إلى الجنة، و يناديهم: معاشر المنافقين، ها هنا، ها هنا، فاصعدوا من جهنم إلى الجنة فيسبح المنافقون في بحار جهنم سبعين خريفا، حتى إذا بلغوا إلى ذلك الباب و هموا بالخروج أغلقه دونهم، و فتح لهم بابا إلى الجنة من موضع آخر، فيناديهم: من هذا الباب فاخرجوا إلى الجنة فيسبحون مثل الأول، فإذا وصلوا إليه أغلق دونهم، و يفتح من موضع آخر، و هكذا أبد الآبدين. 340/ [5]- ابن بابويه، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن أحمد بن يونس المعاذي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي الهمداني، قال: حدثنا علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه، عن الرضا (عليه السلام)، قال: سألته عن قول الله عز و جل: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ }. فقال: " إن الله تبارك و تعالى لا يستهزئ، و لكن يجازيهم جزاء الاستهزاء ". 341/ [6]- قال علي بن إبراهيم: { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي يدعهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
قال أبو جعفر: اختلف فـي صفة استهزاء الله جل جلاله الذي ذكر أنه فـاعله بـالـمنافقـين الذين وصف صفتهم. فقال بعضهم: استهزاؤه بهم كالذي أخبرنا تبـارك اسمه أنه فـاعل بهم يوم القـيامة فـي قوله تعالـى:**{ يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ }** [الحديد: 13] قـيل**{ ٱرْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَـٰهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ يُنَـٰدُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ }** [الحديد: 13-14] الآية، وكالذي أخبرنا أنه فعل بـالكفـار بقوله:**{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً }** [آل عمران: 178] فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جل وعز وسخريته ومكره وخديعته للـمنافقـين وأهل الشرك به، عند قائلـي هذا القول ومتأوّلـي هذا التأويـل. وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم: توبـيخه إياهم ولومه لهم علـى ما ركبوا من معاصي الله والكفر به، كما يقال: إن فلاناً لـيهزأ منه الـيوم ويسخر منه يراد به توبـيخ الناس إياه ولومهم له، أو إهلاكه إياهم وتدميره بهم، كما قال عَبِـيد بن الأبرص: | **سائِلْ بِنا حُجْرَ ابْنَ أُمّ قَطامِ إذْ** | | **ظَلَّتْ بهِ السُّمْرُ النَّوَاهلُ تَلْعَبُ** | | --- | --- | --- | فزعموا أن السمر وهي القنا لا لعب منها، ولكنها لـما قتلتهم وشردتهم جعل ذلك من فعلها لعبـاً بـمن فعلت ذلك به قالوا: فكذلك استهزاء الله جل ثناؤه بـمن استهزأ به من أهل النفـاق والكفر به، إما إهلاكه إياهم وتدميره بهم، وإما إملاؤه لهم لـيأخذهم فـي حال أمنهم عند أنفسهم بغتة، أو توبـيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى الـمكر منه والـخديعة والسخرية. وقال آخرون: قوله:**{ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ }** [البقرة: 9] علـى الـجواب، كقول الرجل لـمن كان يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك ولـم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذْ صار الأمر إلـيه. قالوا: وكذلك قوله:**{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ }** [آل عمران: 54] والله يستهزىء بهم علـى الـجواب، والله لا يكون منه الـمكر ولا الهزء. والـمعنى: أن الـمكر والهزء حاق بهم. وقال آخرون: قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } وقوله:**{ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142] وقوله:**{ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ وَنَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ }** [التوبة: 79] وما أشبه ذلك، إخبـار من الله أنه مـجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الـخداع. فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي علـيه استـحقوا العقاب فـي اللفظ وإن اختلف الـمعنـيان، كما قال جل ثناؤه:**{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها }** [الشورى: 40] ومعلوم أن الأولـى من صاحبها سيئة إذ كانت منه لله تبـارك وتعالـى معصية، وأن الأخرى عدل لأنها من الله جزاء للعاصي علـى الـمعصية. فهما وإن اتفق لفظاهما مختلفـا الـمعنى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكذلك قوله:**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ }** [البقرة: 194] فـالعدوان الأول ظلـم، والثانـي جزاء لا ظلـم، بل هو عدل لأنه عقوبة للظالـم علـى ظلـمه وإن وافق لفظه لفظ الأول. وإلـى هذا الـمعنى وجهوا كل ما فـي القرآن من نظائر ذلك مـما هو خبر عن مكر الله جلّ وعزّ بقوم، وما أشبه ذلك. وقال آخرون: إن معنى ذلك أن الله جل وعز أخبر عن الـمنافقـين أنهم إذا خـلوا إلـى مردتهم قالوا: إنا معكم علـى دينكم فـي تكذيب مـحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنـما نـحن بـما نظهر لهم من قولنا لهم صدّقنا بـمـحمد علـيه الصلاة والسلام وما جاء به مستهزءون. يعنون: إنّا نظهر لهم ما هو عندنا بـاطل لا حقٌّ ولا هُدًى. قالوا: وذلك هو معنى من معانـي الاستهزاء. فأخبر الله أنه يستهزىء بهم فـيظهر لهم من أحكامه فـي الدنـيا خلاف الذي لهم عنده فـي الآخرة، كما أظهروا للنبـي صلى الله عليه وسلم والـمؤمنـين فـي الدين ما هم علـى خلافه فـي سرائرهم. والصواب فـي ذلك من القول والتأويـل عندنا، أن معنى الاستهزاء فـي كلام العرب: إظهار الـمستهزىء للـمستهزإ به من القول والفعل ما يرضيه ويوافقه ظاهراً، وهو بذلك من قـيـله وفعله به مورثه مساءة بـاطناً، وكذلك معنى الـخداع والسخرية والـمكر. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفـاق فـي الدنـيا من الأحكام بـما أظهروا بألسنتهم من الإقرار بـالله وبرسوله وبـما جاء به من عند الله الـمُدْخِـل لهم فـي عداد من يشمله اسم الإسلام وإن كانوا لغير ذلك مستبطنـين من أحكام الـمسلـمين الـمصدقـين إقرارهم بألسنتهم بذلك بضمائر قلوبهم وصحائح عزائمهم وحميد أفعالهم الـمـحققة لهم صحة إيـمانهم، مع علـم الله عز وجل بكذبهم، واطلاعه علـى خبث اعتقادهم وشكهم فـيـما ادعوا بألسنتهم أنهم مصدقون حتـى ظنوا فـي الآخرة إذ حشروا فـي عداد من كانوا فـي عدادهم فـي الدنـيا أنهم واردون موردهم وداخـلون مدخـلهم، والله جلّ جلاله مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام لـملـحقهم فـي عاجل الدنـيا وآجل الآخرة إلـى حال تـميـيزه بـينهم وبـين أولـيائه وتفريقه بـينهم وبـينهم معدّ لهم من ألـيـم عقابه ونكال عذابه ما أعدّ منه لأعدى أعدائه وأشرّ عبـاده، حتـى ميز بـينهم وبـين أولـيائه فألـحقهم من طبقات جحيـمه بـالدرك الأسفل. كان معلوماً أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم، وإن كان جزاء لهم علـى أفعالهم وعدلاً ما فعل من ذلك بهم لاستـحقاقهم إياه منه بعصيانهم له كان بهم بـما أظهر لهم من الأمور التـي أظهرها لهم من إلـحاقه أحكامهم فـي الدنـيا بأحكام أولـيائه وهم له أعداء، وحشره إياهم فـي الآخرة مع الـمؤمنـين وهم به من الـمكذّبـين إلـى أن ميز بـينهم وبـينهم، مستهزئاً وساخراً ولهم خادعاً وبهم ماكراً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والـمكر والـخديعة ما وصفنا قبل، دون أن يكون ذلك معناه فـي حال فـيها الـمستهزىء بصاحبه له ظالـم أو علـيه فـيها غير عادل، بل ذلك معناه فـي كل أحواله إذا وجدت الصفـات التـي قدمنا ذكرها فـي معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره. وبنـحو ما قلنا فـيه رُوي الـخبر عن ابن عبـاس. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس فـي قوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } قال: يسخر بهم للنقمة منهم. وأما الذين زعموا أن قول الله تعالـى ذكره: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } إنـما هو علـى وجه الـجواب، وأنه لـم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة فنافون علـى الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه وأوجبه لها. وسواء قال قائل: لـم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بـمن أخبر أنه يستهزىء ويسخر ويـمكر به، أو قال: لـم يخسف الله بـمن أخبر أنه خسف به من الأمـم، ولـم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم. ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لـم نرهم، وأخبر عن آخرين أنه خسف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدقنا الله تعالـى ذكره فـيـما أخبرنا به من ذلك، ولـم نفرّق بـين شيء منه، فما برهانك علـى تفريقك ما فرقت بـينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف بـمن أخبر أنه أغرق وخسف به، ولـم يـمكر به أخبر أنه قد مكر به؟ ثم نعكس القول علـيه فـي ذلك فلن يقول فـي أحدهما شيئاً إلا ألزم فـي الآخر مثله. فإن لـجأ إلـى أن يقول إن الاستهزاء عبث ولعب، وذلك عن الله عزّ وجلّ منفـيّ. قـيـل له: إن كان الأمر عندك علـى ما وصفت من معنى الاستهزاء، أفلست تقول: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } وسخر الله منهم مكر الله بهم، وإن لـم يكن من الله عندك هزء ولا سخرية؟ فإن قال: «لا» كذَّب بـالقرآن وخرج عن ملة الإسلام، وإن قال: «بلـى»، قـيـل له: أفتقول من الوجه الذي قلت: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } وسخر الله منهم يـلعب الله بهم ويعبث، ولا لعب من الله ولا عبث؟ فإن قال: «نعم»، وصف الله بـما قد أجمع الـمسلـمون علـى نفـيه عنه وعلـى تـخطئة واصفه به، وأضاف إلـيه ما قد قامت الـحجة من العقول علـى ضلال مضيفه إلـيه. وإن قال: لا أقول يـلعب الله به ولا يعبث، وقد أقول يستهزىء بهم ويسخر منهم قـيـل: فقد فرقت بـين معنى اللعب، والعبث، والهزء، والسخرية، والـمكر، والـخديعة. ومن الوجه الذي جازَ قِـيـلُ هذا ولـم يَجُزْ قِـيـلُ هذا افترق معنـياهما، فعلـم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وللكلام فـي هذا النوع موضع غير هذا كرهنا إطالة الكتاب بـاستقصائه، وفـيـما ذكرنا كفـاية لـمن وفق لفهمه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَيَمُدُّهُمْ }. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله { وَيَمُدُّهُمْ } فقال بعضهم بـما: حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: { يَمُدُّهُمْ }: يُـملـي لهم. وقال آخرون بـما: حدثنـي به الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا سويد بن نصر، عن ابن الـمبـارك، عن ابن جريج، قراءة عن مـجاهد: { يَمُدُّهُمْ } قال: يزيدهم. وكان بعض نـحويـي البصرة يتأوّل ذلك أنه بـمعنى: يـمدّ لهم، ويزعم أن ذلك نظير قول العرب: الغلام يـلعب الكعاب، يراد به يـلعب بـالكعاب. قال: وذلك أنهم قد يقولون قد مددت له وأمددت له فـي غير هذا الـمعنى، وهو قول الله:**{ وَأَمْدَدْنَاهُم }** [الطور: 22] وهذا من أمددناهم، قال: ويقال قد مدَّ البحر فهو مادّ، وأمدّ الـجرح فهو مُـمِدّ. وحكي عن يونس الـجرمي أنه كان يقول: ما كان من الشرّ فهو «مددت»، وما كان من الـخير فهو «أمددت». ثم قال: وهو كما فسرت لك إذا أردت أنك تركته فهو مددت له، وإذا أردت أنك أعطيته قلت: أمددت. وأما بعض نـحويـي الكوفة فإنه كان يقول: كل زيادة حدثت فـي الشيء من نفسه فهو «مددت» بغير ألف، كما تقول: مدّ النهر، ومدّه نهر آخر غيره: إذا اتصل به فصار منه. وكل زيادة أحدثت فـي الشيء من غيره فهو بألف، كقولك: «أمدّ الـجرح»، لأن الـمدة من غير الـجرح، وأمددت الـجيش بـمدد. وأولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي قوله: { وَيَمُدُّهُمْ } أن يكون بـمعنى يزيدهم، علـى وجه الإملاء والترك لهم فـي عتوّهم وتـمرّدهم، كما وصف ربنا أنه فعل بنظرائهم فـي قوله:**{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }** [الأنعام: 110] يعنـي نذرهم ونتركهم فـيه ونـملـي لهم لـيزدادوا إثماً إلـى إثمهم. ولا وجه لقول من قال ذلك بـمعنى «يـمدّ لهم» لأنه لا تَدَافُع بـين العرب وأهل الـمعرفة بلغتها أن يستـجيزوا قول القائل: مدّ النهر نهر آخر، بـمعنى: اتصل به فصار زائداً ماء الـمتصل به بـماء الـمتصل من غير تأوّل منهم، ذلك أن معناه مدّ النهر نهر آخر، فكذلك ذلك فـي قول الله: { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فِي طُغْيَانِهِمْ }. قال أبو جعفر: والطغيان الفُعْلان، من قولك: طغى فلان يَطْغَى طغياناً إذا تـجاوز فـي الأمر حده فبغى. ومنه قوله الله:**{ كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ \* أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ }** [العلق: 6-7] أي يتـجاوز حدّه. ومنه قول أمية بن أبـي الصلت: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **ودعا اللَّهَ دَعْوَةً لاتَ هَنَّا** | | **بَعْدَ طُغْيانِهِ فَظَلَّ مُشِيرا** | | --- | --- | --- | وإنـما عنى الله جل ثناؤه بقوله: { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ } أنه يـملـي لهم ويذرهم يبغون فـي ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون. كما: حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس فـي قوله: { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال: فـي كفرهم يترددون. وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { فِي طُغْيَانِهِمْ }: فـي كفرهم. وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: فـي { طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي فـي ضلالتهم يعمهون. وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { فِي طُغْيَانِهِمْ } فـي ضلالتهم. وحدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { فـي طُغْيانِهِمْ } قال: طغيانهم، كفرهم وضلالتهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { يَعْمَهُونَ }. قال أبو جعفر: والعَمَهُ نفسه: الضلال، يقال منه: عَمِهَ فلانٌ يَعْمَهُ عَمَهاناً وعُمُوهاً: إذا ضل. ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مَضَلّةً من الـمهامة: | **ومُخْفِقٍ مِنْ لُهْلُهٍ ولُهْلُهِ** | | **مِنْ مَهْمَه يُجْتَبْنَهُ فـي مَهْمَهِ** | | --- | --- | --- | | **أعمَى الهدى بـالـجاهلـينَ العُمَّهِ** | | | والعُمَّهُ: جمع عامِهِ، وهم الذين يضلون فـيه فـيتـحيرون. فمعنى قوله جل ثناؤه: { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } فـي ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسه، وعلاهم رجسه، يترددون حيارى ضُلاّلاً لا يجدون إلـى الـمخرج منه سبـيلاً لأن الله قد طبع علـى قلوبهم وختـم علـيها، فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبـيلاً. وبنـحو ما قلنا فـي «العَمَه» جاء تأويـل الـمتأولـين. حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: { يَعْمَهُونَ }: يتـمادون فـي كفرهم. وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا عبد الله بن صالـح، عن معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس: { يَعْمَهُونَ } قال: يتـمادون. وحدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس فـي قوله { يَعْمَهُونَ } قال: يترددون. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس: { يَعْمَهُونَ }: الـمتلدد. وحدثنا مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، قال: حدثنا ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله: { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال: يترددون. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. وحدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد مثله. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر عن ابن الـمبـارك، عن ابن جريج قراءة عن مـجاهد مثله. وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { يَعْمَهُونَ } قال: يترددون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
اللغة: المدّ أصله الزيادة في الشيءِ والمد:الجذب لأنه سبب الزيادة في الطول والمادة كل شيء يكون مدداً لغيره وقال بعضهم كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو مددت بغير ألف كما تقول مدّ النهر ومدّه نهر آخر وكل زيادة أحدثت في الشيء من غيره فهو أمددت بالألف كما يقال أمدّ الجرحُ لأن المدَّة من غير الجرح وأمددت الجيش والطغيان من قولك طغى الماء يطغى إذا تجاوز الحد والطاغية الجبار العنيد وألمه التحيّر يقال عمه يعمه فهو عمه وعامه قال رؤبة: | **ومَهْمَهٍ أَطْرَافُهُ في مَهْمَةِ** | | **أَعْمَى الهُدَى بِالحَائِرِينَ العُمَّهِ** | | --- | --- | --- | الإعراب: يعمهون جملة في موضع الحال. والمعنى: قيل في معنى الآية وتأويلها وجوه أحدها أن يكون معنى الله يستهزئ بهم ويجازيهم على استهزائهم والعرب تسمي الجزاء على الفعل باسمه وفي التنزيل**{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }** [الشورى: 40]**{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ }** [النحل: 126] وقال عمرو بن كلثوم: | **أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا** | | **فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا** | | --- | --- | --- | وإنما جاز ذلك لأن حكم الجزاء أن يكون على المساواة وثانيها: أن يكون معنى استهزاء الله تعالى بهم تخطئته إياهم وتجهيله لهم في إقامتهم على الكفر وإصرارهم على الضلال والعرب تقيم الشيء مقام ما يقاربه في معناه قال الشاعر: | **إِنَّ دَهراً يَلُفُّ شَمْلِي بِجُملٍ** | | **لَزَمانٌ يَهُمُّ بِالإِحسَانِ** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **كَمْ أُنَاسٍ في نَعِيمٍ عُمِرُوا** | | **في ذَرَى مُلْكٍ تَعَالى فَبَسَقْ** | | --- | --- | --- | | **سَكَتَ الدَّهرُ زَماناً عَنْهُمُ** | | **ثُمَّ أَبْكَاهُمْ دَماً حِينَ نَطَقْ** | والدهر لا يوصف بالسكوت والنطق والهم وإنما ذكر ذلك على الاستعارة والتشبيه وثالثها: أن يكون معنى الاستهزاء المضاف إليه تعالى أن يستدرجهم ويهلكهم من حيث لا يعلمون وقد روي عن ابن عباس أنه قال في معنى الاستدراج: أنهم كلما أحدثوا خطيئة جدد الله لهم نعمة وإنما سمي هذا الفعل استهزاء لأن ذلك في الظاهر نعمة والمراد به استدراجهم إلى الهلاك والعقاب الذي استحقوه بما تقدم من كفرهم ورابعها: أن معنى استهزائه بهم أنه جعَلَ لهم بما أظهروه من موافقة أهل الإيمان ظاهر أحكامهم من الموارثة والمناكحة والمدافنة وغير ذلك من الأحكام وإن كان قد أعدَّ لهم في الآخرة أليم العقاب بما أبطنوه من النفاق فهو سبحانه كالمستهزئ بهم من حيث جعل لهم أحكام المؤمنين ظاهراً ثم ميّزهم منهم في الآخرة وخامسها: ما روي عن ابن عباس أنه قال: يفتح لهم وهم في النار باب من الجنة فيقبلون من النار إليه مسرعين حتى إذا انتهوا إليه سُدَّ عليهم وفتح لهم باب آخر في موضع آخر فيقبلون من النار إليه مسرعين حتى إذا انتهوا إليه سد عليهم فيضحك المؤمنون منهم فلذلك قال الله عز وجل:**{ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }** [المطففين: 34] وهذه الوجوه الذي ذكرناها يمكن أن تذكر في قولـه تعالى:**{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ }** [الأنفال: 30] و**{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142] وأما قولـه و { يمدهم في طغيانهم يعمهون } ففيه وجهان: أحدهما: أن يريد أن يملي لهم ليؤمنوا وهم مع ذلك متمسكون بطغيانهم وعمههم والآخر: أنه يريد أن يتركهم من فوائده ومنحه التي يؤتيها المؤمنين ثواباً لهم ويمنعها الكافرين عقاباً لهم كشرح الصدر وتنوير القلب فهم في طغيانهم أي كفرهم وضلالهم يعمهون أي يتحيرون لأنهم قد أعرضوا عن الحق فتحيروا وترددوا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)
قوله تعالى: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } أي ينتقم منهم ويعاقبهم، ويسخر بهم ويجازيهم على ٱستهزائهم فسمى العقوبة بٱسم الذنب. هذا قول الجمهور من العلماء والعرب تستعمل ذلك كثيراً في كلامهم من ذلك قول عمرو بن كُلثوم: | **ألاَ لا يَجهلَنْ أحدٌ علينا** | | **فنَجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا** | | --- | --- | --- | فسمى ٱنتصاره جهلاً، والجهل لا يفتخر به ذو عقل وإنما قاله ليَزْدَوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما. وكانت العرب إذا وضعوا لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفاً له في معناه وعلى ذلك جاء القرآن والسنة. وقال الله عزّ وجلّ:**{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }** [الشورى:40]. وقال:**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ }** [البقرة:194]. والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون ٱعتداء لأنه حق وجب ومثله:**{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ }** [آل عمران:54]. و**{ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً }** [الطارق:15-16] و { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } وليس منه سبحانه مَكْرٌ ولا هزء ولا كَيْد، إنما هو جزاء لمكرهم وٱستهزائهم وجزاء كيدهم وكذلك**{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء:142]**{ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ }** [التوبة:79]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إن الله لا يَمَلّ حتى تَمَلّوا ولا يسأم حتى تسأموا "** قيل: حتى بمعنى الواو أي وتملوا. وقيل المعنى وأنتم تملون. وقيل: المعنى لا يقطع عنكم ثواب أعمالكم حتى تقطعوا العمل. وقال قوم: إن الله تعالى يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هُزْءٌ وخَدْعٌ ومَكْرٌ، حسب ما روي: «إن النار تجمد كما تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم». وروى الكلبي عن أبي صالح عن ٱبن عباس في قوله تعالى: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } هم منافقو أهل الكتاب فذكرهم وذكر ٱستهزاءهم، وأنهم إذا خلْوا إلى شياطينهم يعني رؤساءهم في الكفر ـ على ما تقدّم ـ قالوا: إنَّا معكم على دينكم «إنما نحن مستهزئون» بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. «الله يستهزىء بهم» في الآخرة، يفتح لهم باب جهنم من الجنة، ثم يقال لهم: تعالوا، فيقبلون يَسْبَحون في النار، والمؤمنون على الأرائك ـ وهي السرر ـ في الحِجال ينظرون إليهم، فإذا ٱنتهوا إلى الباب سُدّ عنهم، فيضحك المؤمنون منهم فذلك قول الله عزّ وجلّ: «ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ» أي في الآخرة، ويضحك المؤمنون منهم حين غُلِّقت دونهم الأبواب فذلك قوله تعالى:**{ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. عَلَى ٱلأَرَائِكِ يَنظُرُونَ }** [المطففين:34-35] إلى أهل النار**{ هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }** [المطففين:36]. وقال قوم: الخداع من الله والاستهزاء هو ٱستدراجهم بدرور النعم الدنيوية عليهم فالله سبحانه وتعالى يظهر لهم من الإحسان في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم، ويستر عنهم من عذاب الآخرة، فيظنون أنه راضٍ عنهم، وهو تعالى قد حتّم عذابهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | فهذا على تأمل البشر كأنه ٱستهزاء ومكر وخداع ودلّ على هذا التأويل قولُه صلى الله عليه وسلم: **" إذا رأيتم الله عزّ وجلّ يعطي العبد ما يحبّ وهو مقِيم على معاصيه فإنما ذلك منه ٱستدراج "** ثم نزع بهذه الآية:**{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [الأنعام:44-45]. وقال بعض العلماء في قوله تعالى:**{ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ }** [القلم:44]: كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة. قوله تعالى: { وَيَمُدُّهُمْ } أي يطيل لهم المدّة ويمهلهم ويُمْلِي لهم كما قال:**{ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً }** [آل عمران:178] وأصله الزيادة. قال يونس بن حبيب: يقال مدّ لهم في الشر، وأمدّ في الخير قال الله تعالى:**{ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ }** [الإسراء:6]. وقال:**{ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ }** [الطور:22]. وحكي عن الأخفش: مددت له إذا تركته، وأمددته إذا أعطيته. وعن الفَرّاء واللَّحْياني: مددت، فيما كانت زيادته من مثله، يقال: مدّ النَّهْرُ النهرَ وفي التنزيل:**{ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ }** [لقمان:27]. وأمددت، فيما كانت زيادته من غيره كقولك: أمددت الجيش بمَدَد ومنه:**{ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ }** [آل عمران:125]. وأمدّ الجُرْحُ لأن المدّة من غيره، أي صارت فيه مِدّة. قوله تعالى: { فِي طُغْيَانِهِمْ } كفرهم وضلالهم. وأصل الطغيان مجاوزة الحدّ ومنه قوله تعالى:**{ إِنَّا لَمَّا طَغَى ٱلْمَآءُ }** [الحاقة:11] أي ٱرتفع وعلا وتجاوز المقدار الذي قدرته الخُزّان. وقوله في فرعون:**{ إِنَّهُ طَغَىٰ }** [النازعات:17] أي أسرف في الدعوى حيث قال:**{ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ }** [النازعات:24]. والمعنى في الآية: يمدّهم بطول العمر حتى يزيدوا في الطغيان فيزيدهم في عذابهم. قوله تعالى: { يَعْمَهُونَ } يعمون. وقال مجاهد: أي يتردّدون متحيّرين في الكفر. وحكى أهل اللغة: عَمِه الرجلُ يَعْمَه عُموهاً وعَمَهاً فهو عَمِه وعامِه إذا حار، ويقال رجل عامِه وعَمه: حائر متردّد، وجمعه عُمْه. وذهبت إبِلُه العُمَّهَى إذا لم يدر أين ذهبت. والعَمَى في العين، والعَمَه في القلب وفي التنزيل:**{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ }** [الحج:46]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } يجازيهم على استهزائهم، سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة، إما لمقابلة اللفظ باللفظ، أو لكونه مماثلاً له في القدر، أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزىء بهم، أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء، أو الغرض منه، أو يعاملهم معاملة المستهزىء: أما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم، واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان، وأما في الآخرة: فبأن يفتح لهم وهم في النار باباً إلى الجنة فيسرعون نحوه، فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب، وذلك قوله تعالى:**{ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }** [المطففين: 34] وإنما استؤنف به ولم يعطف ليدل على أن الله تعالى تولى مجازاتهم، ولم يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم، وأنَّ استهزاءهم لا يؤبه به في مقابلة ما يفعل الله تعالى بهم ولعله لم يقل: الله مستهزىء بهم ليطابق قولهم، إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالاً فحالاً ويتجدد حيناً بعد حين، وهكذا كانت نكايات الله فيهم كما قال تعالى:**{ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ }** [التوبة: 126] { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ } من مد الجيش وأمده إذا زاده وقواه، ومنه مددت السراج والأرض إذا استصلحتهما بالزيت والسماد، لا من المد في العمر فإنه يعدى باللام كأملى له. ويدل عليه قراءة ابن كثير (ويمدهم). والمعتزلة لما تعذر عليهم إجراء الكلام على ظاهره قالوا: لما منعهم الله تعالى ألطافة التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم، وسدهم طرق التوفيق على أنفسهم فتزايدت بسببه قلوبهم ريناً وظلمة، تزايد قلوب المؤمنين انشراحاً ونوراً، وأمكن الشيطان من إغوائهم فزادهم طغياناً، أُسْنِدَ ذلك إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى المسبب مجازاً، وأضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهم أن إسناد الفعل إليه على الحقيقة، ومصداق ذلك أنه لما أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي وقال**{ وَإِخْوٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ }** [الأعراف: 202] أو أصله يمد لهم بمعنى يملي لهم ويمد في أعمارهم كي يتنبهوا ويطيعوا، فما زادوا إلا طغياناً وعمهاً، فحذفت اللام وعدى الفعل بنفسه كما في قوله تعالى:**{ وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ }** [الأعراف: 155] أو التقدير يمدهم استصلاحاً، وهم مع ذلك يعمهون في طغيانهم. والطغيان بالضم والكسر كلقيان، والطغيان: تجاوز الحد في العتو، والغلو في الكفر، وأصله تجاوز الشيء عن مكانه قال تعالى:**{ إِنَّا لَمَّا طَغَىٰ ٱلْمَاء حَمَلْنَـٰكُمْ }** [الحاقة: 11] والعمه في البصيرة كالعمى في البصر، وهو: التحير في الأمر يقال رجل عامه وعمه، وأرض عمهاء لا منار بها، قال: | **أَعْمَى الهُدَى بالجاهِلين العمهْ** | | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } يجازيهم باستهزائهم { وَيَمُدُّهُمْ } يُمهلهم { فِي طُغْيَٰنِهِمْ } بتجاوزهم الحد بالكفر { يَعْمَهُونَ } يترددون تحيُّراً حال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ)
قال الله تعالى { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } أي يجازيهم جزاء الاستهزاء. وذكر في رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما الاستهزاء أن يفتح لهم وهم في جهنم، باب من الجنة فيهللون ويصيحون في النار (فيهلكون)، والمؤمنون على الأرائك ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى الباب سد عليهم، وفتح لهم باب آخر في مكان آخر والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون كما قال في آية أخرى**{ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }** [المطففين: 34] الآية وقال مقاتل: الاستهزاء ما ذكره الله تعالى في سورة الحديد**{ يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً }** [الحديد: 13] فهذا استهزاء بهم، ثم قال تعالى { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ } يعني يتركهم في ضلالتهم يتحيرون ويترددون عقوبة لهم لاستهزائهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ)
اختلف المفسرون في هذا الاستهزاء فقال جمهور العلماء: " هي تسمية العقوبة باسم الذنب ". والعرب تستعمل ذلك كثيراً، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم]: [الوافر]. | **ألا لا يجهلنْ أحد علينا** | | **فنجهل فوق جهل الجاهلينا** | | --- | --- | --- | وقال قوم: إن الله تعالى يفعل بهم أفعالاً هي في تأمل البشر هزو حسبما يروى أن النار تجمدت كما تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم، وما يروى أن أبواب النار تفتح لهم فيذهبون إلى الخروج، نحا هذا المنحى ابن عباس والحسن، وقال قوم: استهزاؤه بهم هو استدارجهم من حيث لا يعلمون، وذلك أنهم بدرور نعم الله الدنيوية عليهم يظنون أنه راض عنهم وهو تعالى قد حتم عذابهم، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء. { ويمدهم } معناه يزيدهم في الطغيان. وقال مجاهد: " معناه يملي لهم " ، قال يونس بن حبيب: " يقال مد في الشر وأمد في الخير " وقال غيره: " مد الشيء ومده ما كان مثله ومن جنسه، وأمدّه ما كان مغايراً له، تقول: مدّ النهر ومدّه نهر آخر، ويقال أمدّه ". قال اللحياني: " يقال لكل شيء دخل فيه مثله فكثره مده يمده مدّاً، وفي التنزيل:**{ والبحر يمده من بعده سبعة أبحر }** [لقمان: 27]. ومادة الشيء ما يمده دخلت فيه الهاء للمبالغة ". قال ابن قتيبة وغيره: " مَدَدْت الدواة وأمَددْتُها بمعنى ". قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: يشبه أن يكون " مددتها " جعلت إلى مدادها آخر، و " أمددتها " جعلتها ذات مداد، مثل " قبر، وأقبر، وحصر، وأحصر " ، ومددنا القوم صرنا لهم أنصاراً، وأمددناهم بغيرنا. وحكى اللحياني أيضاً أمدّ الأمير جنده بالخيل، وفي التنزيل:**{ وأمددناكم بأموال وبنين }** [الإسراء: 6]. قال بعض اللغويين: { ويمدهم في طغيانهم } يمهلهم ويلجهم. قال القاضي أبو محمد: فتحتمل اللفظة أن تكون من المد الذي هو المطل والتطويل، كما فسر في:**{ عمد ممددة }** [الهمزة: 9]. ويحتمل أن تكون من معنى الزيادة في نفس الطغيان، والطغيان الغلو وتعدي الحد كما يقال: " طغا الماء وطغت النار ". وروي عن الكسائي إمالة طغيانهم. و { يعمهون } يترددون، حيرة، والعمه الحيرة من جهة النظر، والعامه الذي كأنه لا يبصر من التحير في ظلام أو فلاة أو هم. وقوله: { أولئك } إشارة إلى المتقدم ذكرهم، وهو رفع بالابتداء و { الذين } خبره، و { اشتروا } صلة لـ { الذين } ، وأصله اشتريوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً فحذفت لالتقاء الساكنين، وقيل استثقلت الضمة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء وحركت الواو بعد ذلك للالتقاء بالساكن بعدها، وخصت بالضم لوجوه منها أن الضمة أخت الواو وأخف الحركات عليها، ومنها أنه لما كانت واو جماعة ضمت كما فعل بالنون في " نحنُ ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | ومنها أنها ضمت إتباعاً لحركة الياء المحذوفة قبلها. قال أبو علي: " صار الضم فيها أولى ليفصل بينها وبين واو " أو " و " لو " إذ هذان يحركان بالكسر ". وقرأ أبو السمال قعنب العدوي بفتح الواو في: " اشتروَا الضلالة ". وقرأها يحيى بن يعمر بكسر الواو. والضلالة والضلال: التلف نقيض الهدى الذي هو الرشاد إلى المقصد. واختلفت عبارة المفسرين عن معنى قوله: { اشتروا الضلالة بالهدى } فقال قوم: " أخذوا الضلالة وتركوا الهدى ". وقال آخرون: استحبوا الضلالة وتجنبوا الهدى كما قال تعالى:**{ فاستحبوا العمى على الهدى }** [فصلت: 17]. وقال آخرون: الشراء هنا استعارة وتشبيه، لما تركوا الهدى وهو معرض لهم ووقعوا بدله في الضلالة واختاروها شبهوا بمن اشترى فكأنهم دفعوا في الضلالة هداهم إذ كان لهم أخذه. وبهذا المعنى تعلق مالك رحمه الله في منع أن يشتري الرجل على أن يتخير في كل ما تختلف آحاد جنسه ولا يجوز فيه التفاضل. وقال قوم: الآية فيمن كان آمن من المنافقين ثم ارتد في باطنه وعقده ويقرب الشراء من الحقيقة على هذا. وقوله تعالى: { فما ربحت تجارتهم } ختم للمثل بما يشبه مبدأه في لفظة الشراء، وأسند الربح إلى التجارة كما قالوا: " ليل قائم ونهار صائم ". والمعنى فما ربحوا في تجارتهم. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة " فما ربحت تجاراتهم " بالجمع. وقوله تعالى: { وما كانوا مهتدين } قيل المعنى في شرائهم هذا، وقيل على الإطلاق، وقيل في سابق علم الله، وكل هذا يحتمله اللفظ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ)
قوله تعالى: { الله يستهزىء بهم } اختلف العلماء في المراد، باستهزاء الله بهم على تسعة أقوال. أحدها: أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار، فيسرعون إليه فيغلق، ثم يفتح لهم باب آخر، فيسرعون فيغلق، فيضحك منهم المؤمنون. روي عن ابن عباس. والثاني: أنه إذا كان يوم القيامة جمدت النَّار لهم كما تجمد الإِهالة في القدر، فيمشون فتنخسف بهم. روي عن الحسن البصري. والثالث: أن الاستهزاء بهم: إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب، فيبقون في الظلمة، فيقال لهم:**{ ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً }** [الحديد: 13] قاله مقاتل. والرابع: أن المراد به: يجازيهم على استهزائهم، فقوبل اللفظ بمثله لفظاً وإن خالفه معنى، فهو كقوله تعالى:**{ وجزاء سيئة سيئة مثلها }** [الشورى:40] وقوله:**{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }** [البقرة:194] وقال عمرو بن كلثوم: | **ألا لا يجهلن أحدٌ علينا** | | **فنجهلَ فوق جهل الجاهلينَا** | | --- | --- | --- | أراد: فنعاقبه بأغلط من عقوبته. والخامس: أن الاستهزاء من الله التخطئة لهم، والتجهيل، فمعناه: الله يخطىء فعلهم، ويجهلهم في الإقامة على كفرهم. والسادس: أن استهزاءه: استدراجه إياهم. والسابع: أنه إيقاع استهزائهم بهم، وردّ خداعهم ومكرهم عليهم. ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم الأنباري. والثامن: أن الاستهزاء بهم أن يقال لأحدهم في النار وهو في غاية الذل:**{ ذق إِنك أنت العزيز الكريم }** [الدخان:49] ذكره شيخنا في كتابه. والتاسع: أنه لما أظهروا من أحكام إسلامهم في الدنيا خلاف ما أبطن لهم في الآخرة، كان كالاستهزاء بهم. قوله تعالى: { ويَمدُّهُمْ في طغيانهم يعمهون } فيه أربعة أقوال. أحدها: يمكِّن لهم، قاله ابن مسعود. والثاني: يملي لهم، قاله ابن عباس. والثالث: يزيدهم، قاله مجاهد. والرابع: يمهلهم قاله الزجاج. والطغيان: الزيادة على القدر، والخروج عن حيز الاعتدال في الكثرة، يقال: طغى البحر: إذا هاجت أمواجه، وطغى السيل: إذا جاء بماء كثير. وفي المراد بطغيانهم قولان. أحدهما: أنه كفرهم، قاله الجمهور. والثاني: أنه عتوهم وتكبرهم، قاله ابن قتيبة و «يعمهون» بمعنى: يتحيرون، يقال: رجل عمه وعامه، أي: متحير. قال الراجز: | **ومَخْفَقٍ من لُهلُهٍ ولُهْلُهِ** | | **من مهمهٍ يجتبنه في مهمه** | | --- | --- | --- | | **أعمى الهدى بالجاهلين العُمَّه** | | | وقال ابن قتيبة: يعمهون: يركبون رؤوسهم، فلا يبصرون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ)
{ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } يجزيهم على استهزائهم، سمى الجزاء باسم الذنب**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ }** [البقرة: 194]. | **........................** | | **فنجهل فوق جهل الجاهلينا** | | --- | --- | --- | أو نجزيهم جزاء المستهزئين، أو إظهاره عليهم أحكام الإسلام مع ما أوجبه لهم من العقاب فاغتروا به كالاستهزاء بهم، أو هو كقوله تعالى:**{ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ }** [الدخان: 49] للاستهزاء به، أو يُفتح لهم باب جهنم فيريدون الخروج على رجاء فيزدحمون فإذا انتهوا إلى الباب ضُربوا بمقامع الحديد حتى يرجعوا فهذا نوع من العذاب على صورة الاستهزاء. { وَيَمُدُّهُمْ } يملي لهم، أو يزيدهم، مددت وأمددت أو مددت في الشر وأمددت في الخير، أو مددت فيما زيادته منه، وأمددت فيما زيادته من غيره. { طُغْيَانِهِمْ } غلوهم في الكفر، الطغيان: مجاوزة القدر. { يَعْمَهُونَ } يترددون أو يتحيرون، أو يعمون عن الرشد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير لباب التأويل في معاني التنزيل/ الخازن (ت 725 هـ)
{ الله يستهزئ بهم } أي يجازيهم جزاء استهزائهم بالمؤمنين فسمي الجزاء باسمه لأنه في مقابلته قال ابن عباس يفتح لهم باب الجنة فإذا انتهوا إليه سدّ عنهم وردوا إلى النار { ويمدهم } أي يتركهم ويمهلهم. والمد والإمداد واحد وأصله الزيادة وأكثر ما يأتي المد في الشر والإمداد في الخير { في طغيانهم } أي في ضلالهم وأصل الطغيان مجاوزة الحد { يعمهون } أي يترددون في الضلالة متحيرين { أولئك } يعني المنافقين { الذين اشتروا الضلالة بالهدى } أي استبدلوا الكفر بالإيمان وإنّما أخرجه بلفظ الشراء والتجارة توسعاً على سبيل الاستعارة لأن الشراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر. فإن قلت كيف قال اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى. قلت جعلوا لتمكنهم منه كأنه في أيديهم فإذا تركوه إلي الضلالة فقد عطلوه واستبدلوه بها. والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء { فما ربحت تجارتهم } أي ما ربحوا في تجارتهم والربح الفضل عن رأس المال وأضاف الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فيها { وما كانوا مهتدين } أي مصيبين في تجارتهم، لأن رأس المال هو الإيمان فلما أضاعوه واعتقدوا الضلالة فقد ضلوا عن الهدى. وقيل وما كانوا مهتدين في ضلالتهم. قوله عزّ وجلّ { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } المثل عبارة عن قول يشبه ذلك القول قولاً آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره، ولهذا ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه، وهو أحد أقسام القرآن السبعة ولما ذكر الله تعالى حقيقة وصف المنافقين عقبه بضرب المثل زيادة في الكشف والبيان، لأنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، ولأن المثل تشبيه الخفي بالجلي، فيتأكد الوقوف على ماهيته وذلك هو النهاية في الإيضاح، وشرطه أن يكون قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه كمثل الذي استوقد ناراً لينتفع بها { فلما أضاءت } يعني النار { ما حوله } يعني حول المستوقد { ذهب الله بنورهم } فإن قلت كيف وحد أولاً ثم جمع ثانياً. قلت يجوز وضع الذي يوضع الذين كقوله:**{ وخضتم كالذي خاضوا }** [التوبة: 69] وقيل إنما شبه قصتهم بقصة المستوقد، وقيل معناه مثل الواحد منهم كمثل الذي استوقد ناراً { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } قال ابن عباس: نزلت في المنافقين يقول مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مفازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة حائراً مختوفاً، فكذلك حال المنافقين أظهروا كلمة الإيمان فأمنوا بها على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وناكحوا المسلمين وقاسموهم في الغنائم فذلك نورهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف. وقيل: ذهاب نورهم عقيدتهم للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل ذهاب نورهم في القبر أو على الصراط. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قلت ما وجه تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة؟ قلت: وجه تشبيه الإيمان بالنور أن النور أبلغ الأشياء في الهداية إلى المحجة القصوى وإلى الطريق المستقيم وإزالة الحيرة وكذلك الإيمان هو الطريق الواضح إلى الله تعالى وإلى جنانه، وشبه الكفر بالظلمة لأن الضال عن الطريق المسلوكة في الظلمة لا يزداد إلاّ حيرة وكذلك الكفر لا يزداد صاحبه في الآخرة إلاّ حيرة. وفي ضرب المثل للمنافقين بالنار ثلاث حكم: إحداها أن المستضيء بالنار مستضيء بنور غيره فإذا ذهب ذلك بقي هو في ظلمته فكأنهم لما أقروا بالإيمان من غير اعتقاد قلوبهم كان إيمانهم كالمستعار. الثانية أن النار تحتاج في دوامها إلى مادة الحطب لتدوم فكذلك الإيمان يحتاج إلى مادة الاعتقاد ليدوم الثالثة أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد قبلها ضياء فشبه حالهم بذلك. ثم وصفهم الله تعالى فقال { صم } أي عن سماع الحق لأنهم لا يقبلونه وإذا لم يقبلوه فكأنهم لم يسمعوه { بكم } أي خرس عن النطق بالحق فهم لا يقولونه { عمي } أي لا بصائر لهم يميزون بها بين الحق والباطل ومن لا بصيره له كمن لا بصر له فهو أعمى، كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن سماع الحق آذانهم وأبوا أن تنطق به ألسنتهم وأن ينظروا إليه بعيونهم جعلوا كمن تعطلت حواسه وذهب إدراكه قال الشاعر: | **صمٌّ إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بسوء كلهم أذن** | | | | --- | --- | --- | { فهم لا يرجعون } أي عن ضلالتهم ونفاقهم. قوله تعالى: { أو كصِّيب } أي كأصحاب صيِّب وهو المطر، وكل ما أنزل من الأعلى إلى الأسفل فهو صيب { من السماء } أي من السحاب لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء ومنه قيل لسقف البيت سماء وقيل من السماء بعينها، وإنما ذكر الله تعالى السماء وإن كان المطر لا ينزل إلاّ منها ليرد على من زعم أن المطر ينعقد من أبخرة الأرض فأبطل مذهب الحكماء بقوله من السماء ليعلم أن المطر ليس من أبخرة الأرض كما زعم الحكماء { فيه } أي الصِّيب { ظلمات } جمع ظلمة { ورعد } هو الصوت الذي يسمع من السحاب { وبرق } يعني النار التي تخرج منه. قال ابن عباس: الرعد اسم ملك يسوق السحاب والبرق لمعان سوط من نور يزجر به السحاب. وقيل الرعد اسم ملك يزجر السحاب إذا تبددت جمعها وضمها فإذا اشتد غضبه يخرج من فيه النار فهي البرق والصواعق، وقيل الرعد تسبيح الملك. وقيل اسمه { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق } جمع صاعقة وهي الصيحة التي يموت كل من يسمعها أو يغشى عليه، وقيل الصاعقة قطعة من العذاب ينزلها الله على من يشاء. عن ابن عمر **" أن رسول لله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | أخرجه الترمذي وقال حديث غريب { حذر الموت } أي مخافة الهلاك { والله محيط بالكافرين } أي عالم بحالهم وقيل يجمعهم ويعذبهم. { يكاد البرق } أي يقرب، يقال كاد يفعل ولم يفعل { يخطف أبصارهم } أي يختلسها. والخطف استلاب الشيء بسرعة { كلما } أي متى ما جاء { أضاء لهم } يعني البرق { مشوا فيه } أي في إضاءته ونوره { وإذا أظلم عليهم قاموا } أي وقفوا متحيرين، وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى للمنافقين، ووجه التمثيل أن الله عزّ وجلّ شبههم في كفرهم ونفاقهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة أصابهم مطر فيه ظلمات وهي ظلمة الليل وظلمة المطر وظلمة السحاب من صفة تلك الظلمات أن الساري لا يمكنه المشي فيها، ورعد من صفته أن يضم سامعوه أصابعهم إلى آذانهم من هوله، وبرق من صفته أن يخطف أبصارهم ويعميها من شدته فهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه، فالمطر هو القرآن لأنه حياة القلوب كما أن المطر حياة الأرض، والظلمات ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك والنفاق. والرعد ما خوفوا به من الوعيد وذكر النار والبرق ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة فالكافرون والمنافقون يسدون آذانهم عند قراءة القرآن وسماعه مخافة أن تميل قلوبهم إليه لأن الإيمان به عندهم كفر والكفر موت، وقيل هذا مثل ضربه الله تعالى للإسلام، فالمطر هو الإسلام، والظلمات ما فيه من البلاء والمحن، والرعد ما فيه من ذكر الوعيد والمخاوف في الآخرة، والبرق ما فيه من الوعد، { يجعلون أصابعم في آذانهم } يعني المنافقين إذا رأوا في الإسلام بلاء وشدة هربوا حذراً من الهلاك { والله محيط بالكافرين } يعني لا ينفعهم الهرب لأن الله من ورائهم يجمعهم ويعذبهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
قوله تعالى: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ... } قال ابن عرفة: هذا تشريف واعتناء بمقام النبي صلى الله عليه وسلم حيث (تولى) الله عقوبتهم (بنفسه) ولم يقل: ملائكة الله يستهزئون بهم. قال (ابن عرفة) (وأوردوا) هنا سؤالا في إسناد الاستهزاء إلى الله (فقدّره) المعتزلة (بأنّه) قبيح، وصدور القبح من الله تعالى محال، (وقدّره) أهل السنة/ بأنّ الاستهزاء ملزوم بالجهل لقوله تعالى:**{ قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ }** والجهل على الله تعالى محال فالاستهزاء في حقه محال. وأجاب ابن عطية بثلاثة أوجه: إما أنه مجاز (المقابلة) كقولك: | **قَالُوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه** | | **قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا** | | --- | --- | --- | وقول لبيد: | **أَلا لا يَجهلن أحد علينا** | | **فنجهل فوق جهل الجاهلينا** | | --- | --- | --- | وإما بأنه يفعل بهم من الإملاء بالنعم كفعل المستهزئ، أو يفعل بهم في الآخرة ما هو في (تأويل) البشر كفعل المستهزئ، حسبما روي أن النار تجمد كما تجمد الأهالة وهي الشحم (فيمشون) عليها يظنونها منجاة فتخسف بهم. قال الزمخشري: هلا قيل: الله مستهزئ بهم كما قالوا هم: إنما نحن مستهزؤون؟ وأجاب بأن الفعل يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتا بعد وقت. (فرده) ابن عرفة بأن دوامه عليهم أشد وأشنع. قال: ويجاب عليه بأن التجدّد يقتضي تنويعه واختلافه عليهم شيئا بعد شيء فلا يستهزئ بهم بنوع واحد. وأجاب الطيبي بأن دوام العذاب فيه توطين لهم، فقد تألفه نفوسهم وتدرّب عليه بخلاف تجدّده فإنه إذا ارتفع عنهم يرجون انقطاعه (وإذا) عاد إليهم كان أشد عليهم. قيل لابن عرفة: نقل بعض الشيوخ عن الأستاذ ابن نزار أنه كان ينهى عن الوقف على**{ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }** لأن قوله { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } مقابل لما قبله فالصواب إيصاله (به)؟ فقال ابن عرفة: كان غيره يختار في مثل هذا الوقف في الفصل بين كلام الله وكلامهم كما ينهى عن الوقف على " إنَّا مَعَكُمْ ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ)
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } أي يجازيهم على استهزائهم، سمِّي جزاؤه باسمه كما سُمي جزاءُ السيئة سيئةً إما للمشاكلة في اللفظ، أو المقارنة في الوجود، أو يرجِعُ وبالُ الاستهزاء عليهم، فيكون كالمستهزىء بهم، أو يُنزل بهم الحقارةَ والهوانَ الذي هو لازمُ الاستهزاءِ أو يعاملهم معاملةَ المستهزىءِ بهم. أما في الدنيا فبإجراء أحكامِ المسلمين عليهم، واستدراجِهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان، وأما في الآخرة فبما يُروىٰ أنه يفتح لهم بابٌ إلى الجنة فيُسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سُدَّ عليهم الباب، وذلك قوله تعالى:**{ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }** [المطففين، الآية 34] وإنما استؤنف للإيذان بأنهم قد بلغوا في المبالغة في استهزاء المؤمنين إلى غاية ظهرت شناعاتها عند السامعين، وتعاظَمَ ذلك عليهم حتى اضْطَرَّهم إلى أن يقولوا ما مصيرُ أمرِ هؤلاء وما عاقبةُ حالهم، وفيه أنه تعالى هو الذي يتولىٰ أمرَهم ولا يُحوجهم إلى المعارضة بالمثل، ويستهزىء بهم الاستهزاءَ الأبلغَ الذي ليس استهزاؤهم عنده من باب الاستهزاء، حيث ينزلُ بهم من النَكال ويحِلُّ عليهم من الذل والهوان ما لا يوصف، وإيثارُ صيغةِ الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار، كما يعرب عنه قوله عز قائلاً:**{ أَوَ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ }** [التوبة، الآية 126] وما كانوا خالين في أكثر الأوقات من تهتكِ أستارٍ وتكشفِ أسرارٍ، ونزولِ (آيةٍ) في شأنهم، واستشعارِ حذَرٍ من ذلك، كما أنبأ عنه قوله عز وجل:**{ يَحْذَرُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءواْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون }** [التوبة، الآية 64] { وَيَمُدُّهُمْ } أي يزيدهم ويقويهم مِنْ مدَّ الجيش وأمده إذا زاده، ومنه مددتُ الدواةَ والسِراج إذا أصلحتهما بالحِبْر والزيت وإيثارُه على يزيدهم للرمز إلى أن ذلك منوطٌ بسوء اختيارهم لما أنه إنما يتحقق عند الاستمداد وما يجري مَجراه من الحاجة الداعية إليه، كما في الأمثلة المذكورة، وقرىء يُمِدُّهم من الإمداد وهو صريح في أن القراءة المشهورة ليست من المد في العمر، على أنه يستعمل باللام كالإملاء، قال تعالى:**{ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً }** [مريم، الآية 79] وحذفُ الجار وإيصالُ الفعل إلى الضمير خلافُ الأصل لا يصار إليه إلا بدليل { فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } متعلق بـيمُدُّهم، والطغيانُ مجاوزة الحد في كل أمر، والمراد إفراطُهم في العتو، وغلوُّهم في الكفر، وقرىء بكسر الطاء، وهي لغة فيه كلِقْيانٍ لغةٌ في لُقيانٍ، وفي إضافته إليهم إيذانٌ باختصاصه بهم، وتأيـيدٌ لما أشير إليه من ترتب المدِّ على سوء اختيارِهم { يَعْمَهُونَ } حال من الضمير المنصوب أو المجرور، لكون المضاف مصدراً فهو مرفوع حكماً، والعَمَهُ في البصيرة كالعمىٰ في البصر، وهو التحيرُ والتردد، بحيث لا يدري أين يتوجه، وإسنادُ هذا المد إلى الله تعالى مع إسناده في قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ وَإِخْوٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ }** [الأعراف، الآية 202] محققٌ لقاعدة أهلِ الحقِ من أن جميعَ الأشياء مستندةٌ من حيث الخلقُ إليه سبحانه، وإن كانت أفعالُ العباد من حيث الكسبُ مستندةً إليهم. والمعتزلةُ لمّا تعذر عليهم إجراءُ النظم الكريم على مسلكه نكَبوا إلى شعاب التأويل، فأجابوا أولاً بأنهم لما أصرّوا على كفرهم خذلهم الله تعالى ومنعهم ألطافَه، فتزايد الرَّيْنُ في قلوبهم فسُمِّي ذلك مدداً في الطغيان، فأُسند إيلاؤه إليه تعالى، ففي المسند مجازٌ لغوي، وفي الإسناد عقلي، لأنه إسناد للفعل إلى المسبِّب له، وفاعله الحقيقي هم الكفرة، وثانياً بأنه أريد بالمد في الطغيان تركُ القسر والإلجاء إلى الإيمان كما في قوله تعالى:**{ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }** [الأنعام، الآية 110] فالمجاز في المسند فقط، وثالثاً بأن المراد به معناه الحقيقي وهو فعل الشيطان، لكنه أُسند إليه سبحانه مجازاً، لأنه بتمكينه تعالى وإقداره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ)
قوله تعالى: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } أى: يُحَسِّن فى أعينهم قبائح أفعالهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ)
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } اي يتركهم على ما هم عليه ولا يهديهم اليه وايضاً يريهم الاعمال ويحرم عليهم الاحوال وقيل يُحَسِّنُ في أعينهم قبائح افعالهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ)
{ الله يستهزِئُ بِهِم } أي: يستخفهم، لأن الجهة التي هم بها ناسبوا الحضرة الإلهية فيهم خفيفة، ضعيفة. فبقدر ما فنيت فيهم الجهة الإلهية ثبتوا عند أنفسهم، كما أنّ المؤمنين بقدر ما فنيت فيهم أينيتهم النفسانية وجدوا عند الله شتان بين المرتبتين. { ويمدهُم } في ظلماتهم البهيمية والسبعية التي هي الصفات الشيطانية والنفسانية بتهيئة موادّها وأسبابها التي هي مشتهياتهم ومستلذاتهم وأموالهم ومعايشهم من الدنيا التي اختاروها بهواهم في حالة كونهم متحيرين. { في طغيانهم يعمَهُونَ } والعمه: عمى القلب. وطغيانهم: التعدّي عن حدّهم الذي كان ينبغي أن يكونوا عليه، وذلك الحدّ هو المصدر، أي وجه القلب الذي يلي النفس كما أن الفؤاد وجهه الذي يلي الروح، فإنه متوسط بينهما ذو وجهين إليهما. والوقوف على ذلك الحدّ هو التعبد بأوامر الله تعالى ونواهيه، مع التوجه إليه طلباً للتنوّر ليستنير ذلك الوجه فتتنوّر به النفس. كما أنّ الوقوف على الحدّ الآخر هو تلقي المعارف والعلوم والحقائق والحِكَم والشرائع الإلهية ليتنقش بها الصدر، فتتزين به النفس. فالطغيان هو الانهماك في الصفات النفسانية البهيمية والسبعية والشيطانية واستيلاؤها على القلب ليسودّ ويعمى، فتتكدّر الروح. { أولئكَ الذين اشْتَروا الضلالةَ بالهُدى } أي: الظلمة، والاحتجاب عن طريق الحق الذي هو الدين، أو عن الحق. فإنّ الضلالة تنقسم بإزاء الهداية بالنور الاستعداديّ الأصليّ. { فما ربِحت تجارتُهُم } إذ كان رأس مالهم من عالم النور والبقاء ليكتسبوا به ما يجانسه من النور الفيضيّ الكماليّ، بالعلوم والأعمال والحكم والمعارف والأخلاق والملكات الفاضلة، فيصيرون أغنياء في الحقيقة، مستحقين للقرب والكرامة والتعظيم والوجاهة عند الله، فما ربحوا بكسبها وضاعت الهداية الأصلية التي كانت بضاعتهم ورأس مالهم بإزالة استعدادهم وتكدير قلوبهم بالرين الموجب للحجاب والحرمان الأبديّ، فخسروا بالخسران السرمديّ، أعاذنا الله من ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
الاعراب: الله: رفع بالابتداء وخبره: يستهزىء بهم المعنى: والله تعالى لا يجوز عليه حقيقة الاستهزاء لأنها السخرية على ما بيناه ومعناها من الله هو الجزاء عليها وقد يسمى الشيء باسم جزائه كما يسمى الجزاء باسم ما يستحق به كما قال تعالى:**{ وجزاء سيئة سيئة مثلها }** وقال:**{ ومكروا ومكر الله }** وقال:**{ وإن عاقبتم فعاقبوا }** والأول ليس بعقوبة والعرب تقول: الجزاء بالجزاء. والأول ليس بجزاء (والبيت الاول شاهد بذلك) (؟) وقيل إن استهزاءهم لما رجع عليهم جاز أن يقول عقيب ذلك: { الله يستهزىء بهم } يراد به ان استهزاءهم لم يضر سواهم وانه (دبر) عليهم واهلكهم. يقول القائل: أراد فلان أن يخدعني فخدعته: أي دبر علي امراً فرجع ضرره عليه. وحكي عن بعض من تقدم أنه قال اذا تخادع لك انسان ليخدعك فقد خدعته وقيل ايضاً: إن الاستهزاء من الله: الاملاء الذي يظنونه إغفالا وقيل: إنه لما كان ما اظهره من اجراء حكم الاسلام عليهم في الدنيا بخلاف ما أجراه عليهم في الآخرة من العقاب وكانوا فيه على اغترار به كان كالاستهزاء وروي في الاخبار أنه يفتح لهم باب جهنم، فيظنون أنهم يخرجون منها، فيزدحمون للخروج، فاذا انتهوا إلى الباب، ردتهم الملائكة حتى يرجعوا، فهذا نوع من العقاب، وكان الاستهزاء، كما قال الله تعالى:**{ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها }** وقوله { يمدهم } حكي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قالا: معناه يملي لهم بأن يطوّل أعمارهم، وقال مجاهد: يزيدهم وقال بعض النحويين يمدهم كما يقولون نلعب الكعاب: أي بالكعاب وحكي أن مد وأمدَّ لغتان، وقيل مددت له وأمددت له يقال مد البحر فهو ماد، وأمد الجرح فهو ممد قال الجرمى: ما كان من الشر فهو مددت وما كان من الخير فهو أمددت، فعلى هذا، إن اراد تركهم، فهو من مددت واذا أراد اعطاءهم يقال أمدهم، وقرىء في الشواذ: ويمدهم ـ بضم الياء. وقال بعض الكوفيين كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو مددت ـ بغير ألف ـ كما يقولون مد النهر ومده نهر آخر، فصار منه اذا اتصل به، وكل زيادة حدثت في الشيء من غيره فهو أمددت ـ بألف ـ كما يقال أمد الجرح لأن المدة من غير الجرح، وأمددت الجيش. واقوى الاقوال أن يكون المراد به نمدهم على وجه الاملاء والترك لهم في خيرهم، كما قال:**{ إنما نملي لهم ليزدادوا إثما }** وكما قال: { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } يعني يتركهم فيه. والطغيان: الفعلان من قولك طغى فلان يطغى طغياناً، اذا تجاوز حده، ومنه قوله:**{ كلا إن الإنسان ليطغى }** أي يتجاوز حده، والطاغية: الجبار العنيد، وقال أمية بن أبي الصلت: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | **ودعا الله دعوة لات هنا** | | **بعد طغيانه فظل مشيرا** | | --- | --- | --- | يعني لاهنا. ومعناه في الآية: في كفرهم يترددون. والعمه: التحير. يقال: عمه يعمه عمها فهو عمه وعامه: أي حائر عن الحق، قال رؤبة: | **ومهمه اطرافه في مهمه** | | **أعمى الهدى بالحائرين العُمه** | | --- | --- | --- | جمع عامه، فان قيل: كيف يخبر الله أنه يمدهم في طغيانهم يعمهون، وانتم تقولون: إنما أبقاهم ليؤمنوا لا ليكفروا، وانه أراد منهم الايمان دون الكفر؟ قيل معناه: أنه يتركهم وما هم فيه لا يحول بينهم وبين ما يفعلونه، ولا يفعل بهم من الألطاف التي يؤتيها المؤمنين، فيكون ذلك عقوبة لهم واستصلاحاً. ونظير ذلك قول القائل لأخيه، اذا هجره أخوه متجنياً عليه، اذا استعتبه فلم يراجعه: سأمد لك في الهجران مداً يريد سأتركك وما صرت اليه تركا ينبهك على قبح فعلك لا أنه يريد بذلك أن يهجره أخوه، ولكن على وجه الغضب والاستصلاح والتنبيه | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
قوله تعالى: ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ذكروا في تأويل نسبة الاستهزاء إليه تعالى حيث لا ينفك معناه عن التلبيس - وهو على الله محال - وعن الجهل لقوله تعالى:**{ قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ }** [البقرة:67]. والجهل على الله محالٌ، وجوهاً خمسة: أحدها: إنّه من باب صنعة المشاكلة. فسمّي ما يفعله الله جزاءً لاستهزائهم، استهزاءً، كما في قوله:**{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }** [الشورى:40]. وقوله:**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ }** [البقرة:194]. وفي الحديث عنه (عليه السلام) أنه قال: تكلّفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يملّ حتى تملّوا وأنه قال (عليه السلام) ايضاً اللهم إنّ فلاناً هو يعلم أنّي لست بشاعرٍ فاهجه اللهم والعنه عددَ ما هجاني. وثانيها: إنّ ضرر استهزائهم راجعٌ اليهم غير ضائر بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم. وثالثها: إن آثار الاستهزاء من الهوان والحقارة لحقت بهم من الله، فذكر اللازم وأُريد به الملزوم تجوّزاً. ورابعها: إن الله ينعّمهم في الدنيا بأنواع النعم، ويظهر عليهم منه تعالى خلاف ما يفعل بهم في الآخرة، كما انهم أظهروا للنبي (صلّى الله عليه وآله) أمراً كان الحاصل معهم في السر خلافه، وفيه نظر. وخامسها: إنه تعالى يعاملهم معاملة المستهزئ، أما في الدنيا فلأنه يطلع الرسول (صلّى الله عليه وآله) على أسرارهم، مع أنهم بالَغوا في كتمانها عنه، ويُجري عليهم أحكام المسلمين، ويستدرجهم من حيث لا يشعرون، ويُمهلهم مدة في النعمة والتمادي على الطغيان. وأما في الآخرة، فقال ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنَّة والكافرون النارَ، فتح الله تعالى من الجنة باباً الى الجحيم الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب المفتوح، أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجّهون الى الجنة، وأهل الجنة ينظرون إليهم، فإذا وصَلوا الى باب الجنة، فهناك يغلق دونهم الباب، فذاك قوله تعالى:**{ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }** [المطففين:34]. وهذا هو الاستهزاء. وإنما استؤنف الكلام ولم يعطف، ليدل على أن الله تعالى هو الذي يتولّى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين الى أن يعارضوهم باستهزاء مثله، وللإشعار بأن استهزاءهم بالمؤمنين لا يعبأ به في مقابلة ما يفعل الله بهم. وإنما لم يقل: " الله مستهزئ بهم " ليطابق قولهم، لأن المضارع يفيد الحدوث وقتاً فوقتاً، والتجدد حيناً بعد حين، وهكذا كانت نكايات الله فيمن سلك النفاق وباع آخرته بالدنيا، كما قال:**{ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ }** [التوبة:126]. وأيضاً، فما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتّك أستارهم، وتكشّف أسرارهم، واستشعار خوف وحذر من أن يرد عليهم عذاب، أو تنزل فيهم آية تفضحهم كما قال:**{ يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [التوبة:64]. بصيرة إعلم أن للإيمان مراتب متفاوتة في الكمال والنقص، فَرُبّ مؤمن يكون له من المعرفة بالله وباليوم الآخر، ما لا يمكن له إظهاره وكشفه للمؤمنين؛ كما لا يمكن للكافرين، فهو يُداري مع الطرفين، ويعمل على التقيّة في الجانبين، فيتكلّم مع كل منهما على قدْر عقولهم، وهو مع الله لا يبرح ناظراً في عباده بعين الرضا، وهذا ضربٌ من النفاق، لكنّه غير مذموم، بل واجب كما دلّ عليه قوله (صلّى الله عليه وآله): **" كَلّموا الناسَ عَلى قدْرِ عُقولِهم ".** قال بعض العرفاء: إعلم أنّ الإنسان ذو وجهين: وجهٌ الى ذاته، ووجهٌ الى ربّه، ومع أي وجه توجّه غابَ عنه وجهُه الآخر، وكلّ منهما غير وجه ربِّك ذِي الجَلالِ والاكْرامِ، فكل مِن وجهيه هالكٌ داثرٌ إذا لم يستحكم علاقته مع وجه ربّه، فإذا انقلب إليه، فني عنه وجهُه فصار غريباً في الحضرة، يستوحش فيها، ويطلب وجهَه الذي كان يأنسه به فلا يجده، فيبقى في عذاب وحسرة. وأما إذا استحكمت علاقتُه مع الحق تعالى، فإذا توجّه الى وجه ربه؛ أقبل عليه ولم يكن له مؤنسٌ سواه، ولا مشهودٌ إلا إيّاه، فصار الحق له وجهاً وسمعاً وبصراً، ففرِح لبقائه وعاد الأنس الأعظم، ويتذكّر الأنس الماضي به، فيزيد أنسا الى أنس، ويرى عنده وجهَ ذاته ولا يفقده، لأنه أصله، فيجمع بين الوجهين في صورة واحدة، فيجد الأنس لاتّحاد الوجهين فيعظم السرور والابتهاج، وهذه حالة جمعية برزخيّة، لكونها جمعت بين الطرفين، فمن جمَع بينهما في الدنيا، حرم ذلك في الآخرة كالمنافق، فإنه يريد أن يكون برزخاً جامعاً بين المؤمن والكافر، فإذا انقلب، تخلّص الى أحد الطرفين وهو طرفُ الكفر، إذ لم يستحكم علاقَته بالإيمان، ولم يتخلص له؛ فلو تخلّص هنا الى الإيمان ولم يكن برزخاً، كان إذا انقلب، انقلب الى الله كما ذكرناه من جمعه بين الطرفين، فاحذر ها هنا من صفة النفاق فإنها مهلكةٌ، ولها في سوق الآخرة نفاق اقتضى ذلك الموطن، وما أُخذ المنافق ها هنا إلا لأمر دقيق لا يشعر به كثير من العلماء، وقد نبّه الله لمن ألقى السمع وهو شهيد، وذلك انّ المنافقين ها هنا:**{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا }** [البقرة:14]، لو قالوا ذلك حقيقة لسعدوا. لكنهم قالوا لا عن حقيقة واعتقاد.**{ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ }** [البقرة:14]، لو قالوا ذلك وسكتوا ما أثّر فيهم الذمّ الواقع. وانما زادوا:**{ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }** [البقرة:14] فشهدوا على أنفسهم انهم كانوا كافرين. فما أُخذوا إلاّ بما أقرّوا به، إذ بناء المؤاخذة والعذاب على ضَرْب من الاستعداد والشعور به، وبه تتمّ الحجة لله. وإلا لو أنّهم بقّوا على صورة النفاق من غير زيادة في البغي وتمادٍ في العصيان، لسعدوا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ألاَ ترى الله لما أخبَر عن نفسه في مؤاخذته إيّاهم كيف قال: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } ، فما أخذهم بقولهم:**{ إِنَّا مَعَكُمْ }** [البقرة:14]، وانما أخذهم بما زادوا على النفاق. وهو قوله:**{ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }** [البقرة:14]. وما عرّفك الله بالجزاء الذي جازىٰ به المنافق، إلا لتعلم من أين أُخذ حتى تجتنب موارد الهلاك. وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): إنّ مداراة الناس صدقةٌ، فالمؤمن يداري الطرفين مداراة حقيقية ولا يزيد على المداراة، بخلاف المنافق، فإنّه يجني ثمرة الزائد - كان ما كان - فتفطّن. فقد نبهّتك على سرّ عظيم من أسرار القرآن وهو واضح ووضوحه أخفاه، وانظر في صورة كل منافق تجده ما أُخذ إلا بما زاد على النفاق، وبذلك قامت عليه الحجة، ولو لم يكن كذلك، لحُشر على الأعراف مع أصحاب الأعراف. والمؤمن المداري منافقٌ، وهو ناجٍ، وهو فاعلُ خيرٍ، فإنه إذا انفرد مع أحد الوجهين أظهر له الاتحاد ولم يتعرّض لذكر الوجه الآخر الذي ليس بحاضر معه، فإذا انقلب الى الوجه الآخر كان معه أيضاً بهذه المثابة، والباطن في الحالتين مع الله، فإن المقام الإلٰهي هذه صورته، فإنه لعباده بالصورتين، فنزّه نفسه وشبّه، فالمؤمن الكامل بهذه المثابة، وهذا عين الكمال، فاحذر من الزيادة، وكن متخلّقاً بأخلاق الله. وقد قال تعالى مُمْتناً على رسوله (صلّى الله عليه وآله):**{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ }** [آل عمران:159]. واللّين: خَفْضُ الجناح والمداراة ألا ترى الى الحق تعالى يرزق الكافر على كُفره ويمهل له في المؤاخذة عليه؟ وقال عزّ وجلّ لموسى وهارون في حقّ فرعون:**{ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً }** [طه:44]. وهذا عين المداراة. ومن هذا المقام: قوله جل اسمه: { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (15) في الكشّاف: من مدّ الجيش وأمدّه: إذا زاده، وألحقَ به ما يقوّيه ويكثّره، وكذلك مدّ الدواة وأمدها: زادها ما يصلحها، ومددت السراج والأرض، اذا استصلحتهما بالزيت والسماد. ومدّة الشيطان في الغيّ وأمدّه: إذا واصَله بالوسواس حتى يتلاحق غيّه ويزداد انهماكاً فيه وقال بعضهم: مدّ يستعمل في الشر، وأمدّ في الخير، قال الله تعالى:**{ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً }** [مريم:79]. وقال في النعمة:**{ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ }** [الإسراء:6]. وقال:**{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ }** [المؤمنون:55]. ومن الناس من زعم انه من المدّ في العمر والإملاء والإمهال ويخدشه أمران: قراءة ابن كثير وابن محيص: وَيُمِدُّهم، وقراءة نافع:**{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ }** [الأعراف:202] فإنه يدل على أنّه من المدد دون المدّ، وكون الذي بمعنى " أمهله " إنما هو " مَدّ له " كـ " أملى له ". والطغيان، هو الغلوّ في الكفر وتجاوُز الحد في العتوّ، قال تعالى:**{ إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ }** [الحاقة:11]. أي: جاوز قدره. وقال:**{ ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ }** [طه:24]. أي أسرف. وقُرئ: طِغيانهم " بالكسر ". والعَمهُ: كالعمى، لكنه عامّ في البصر والرأي والعمَه في الرأي خاصّة، وهو التردد والتحيّر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وعند المعتزلة لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها لوجوه: أحدها: انّه اضيف مثل هذا الفعل الى الشيطان في قوله:**{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ }** [الأعراف:202]. فكيف يضاف الى الله؟ وثانيها: أن الله ذمّهم على هذا الطغيان، فكيف يذمهم الله على ما هو فِعلٌ له بالحقيقة؟ وثالثها: أنه لو كان فِعلاً له، لبطلت النبوة والإنذار، وبطلت فائدة نزول القرآن، فكان الاشتغال بتفسيره عبثاً. ورابعها: أنه أضاف إليهم الطغيان بقوله: { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } ، فدلّ على أنه ليس مخلوقاً لله، ومصداقه انّه حين اسند المدّ الى الشياطين، اطلقَ " الغيّ " ولم يقيده بالإضافة اليهم في قوله:**{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ }** [الأعراف:202] فذكروا للآية تأويلات اعتزالية: الأول: لما منحهم الله تعالى الطاقة التي يمنحها المؤمنين، وخذَلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه، وسدّ على أنفسهم طرق التوفيق، فتزايدت بسببه قلوبهم رَيناً وظلمة، كما تزايدت قلوب المؤمنين انشراحاً ونوراً، وهذا تأويل الكعبي وأبي مسلم الإصفهاني. الثاني: انّه لما مكّن الشيطان من إغوائهم وخلّى بينه وبين إغواء عباده، فزادهُم طغياناً، اسند ذلك إليه تعالى إسناد الفعل الى المسبب، وأضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهّم أنّ إسناد الفعل إليه على الحقيقة. والثالث: أن يحمل على منع القسر والإلجاء، كما قيل: السفيه متى لم يُنه فهو مأمور. والرابع: أن يكون يمدّهم معناه: يمد عمرَهم وهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون. أقول: جميع ما ذكروه في الاشكال والتأويل ضعيف قاصر عن الصواب، أما الوجوه المذكورة في الإشكال، فالجواب عن الأول منها: أنّ نسبة كل فعلٍ الى مصدَره المباشِر، غير نسبته الى المبدإ الفيّاض، والله خالق كلّ شيء ومع هذا ينسب البعض الى غيره، كالإحراق الى النار، والتبريد الى الماء، والإضاءة الى الشمس، والمطَر الى السماء، أوَلاَ ترى انّه نَسب الإضلال الى الشيطان في مواضع من القرآن، ثمّ قال:**{ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ }** [الجاثية:23]. وقوله:**{ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }** [الزمر:23]. وكذا نسب الوسواس الى الشيطان في قوله:**{ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ }** [الناس:5]. وكذلك الهداية منسوبة اليه في آيات كثيرة مثل قوله:**{ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [البقرة:213]. وقد ينسب الى غيره كما في مثلِ قوله:**{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ }** [الأعراف:181]. وكذا نسب التوفّي تارةً الى مَلَك الموت كما في قوله:**{ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ }** [السجدة:11]. وتارة الى نفسه مثل قوله:**{ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا }** [الزمر:42]. وكذا في كثير من النظائر. فليكن ها هنا من هذا القبيل. والوجه في الجميع واحدٌ كما سنذكره. وعن الثاني: أنّ الذم في الفعل القبيح يرجع الى المباشِر: لانفعاله به وتأثّره عنه، ولا يرجع الى فاعل الكل، لتقدّسه وبراءته عن الانفعال والتغيّر، ولكونه يفعل الأشياء لأجل الخير والحكمة والرحمة الواسعة، من غير أن يعود إليه خيرها أو شرّها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومما يبيّن ويحقّق هذا، أنّ نسبة السواد مثلاً الى الفاعل الموجِد له، آكد وأشدّ من نسبته الى القابل لأن نسبته الى الفاعل بالإيجاب والإقتضاء، ونسبته الى القابل بالإمكان والصحّة، ومع ذلك لا يقال لموجِد السواد: إنه أسود، كما يقال لقابله، وذلك لوجود التأثر والانحصار ها هنا دون هناك، وكذا لا يطلق على موجِد اللون والطعم الصابغ والطاعم بالمعنى الذي يطلق على المباشِر. فلا يقال للباري: إنه صبّاغ مع أنه موجِد جميع الأصباغ والألوان على أحسن الوجوه، كما في قوله:**{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً }** [البقرة:138]. وكذا لا يقال للباري جل اسمه: إنه نجّار أو بنّاء بالمعنى الذي يقال للإنسان، وذلك لأنه يفعل النجر والبناء على وجه أعلى وأشرف مما يفعله النجّار والبنّاء، لأن الفعل وقع منهما على سبيل المباشرة، ومنه تعالى على وجه الابداع والعناية. ومثال ما ذكرناه النفس الإنسانية، فإنّها على بيّنة من ربّها، من عرفها فقد عرف ربه، أوَلاَ ترى انّ النفس مع تجرّدها ووحدتها، وكونها من عالَم علوي، تفعل في البدن جميع الأفاعيل المنسوبة في غيره من الأجساد النباتية والجماديّة الى القوى الجسمانية، مثل الهضم والطبح والنضج، ودفع الفضلات وسائر الاستحالات، وسائر الأفاعيل الجمادية والنباتية، ومع ذلك ليست بجماد ولا نبات؟ وكذلك تلمس وتشمّ وتذوق وليست لامسة ولا شامّة ولا ذائقة، بل هي خارجة عن عالَم البصر والسمْع، بل عن عالم التخيّل والوهم، ولا يخلو عنها عضو من الأعضاء وقوة من القُوى. وهناك يظهر معنى قوله (صلّى الله عليه وآله): **" إنه فوق كل شيء وتحت كل شيء، قد ملأ كل شيء عظمتُه، فلم يخلُ منه أرض ولا سماء، ولا بَرّ ولا بحر ولا هواء، هو الأول ليس قبله شيء وهو الآخر ليس بعده شيء؛ وهو الظاهر ليس فوقه شيء وهو الباطن ليس دونه شيء، فلو دلى على الأرض السُّفلى لهبط على الله ".** وسر قول أمير المؤمنين (عليه السلام): هو عين كل شيء لا بمزاولة وغير كل شيء لا بمزايلة. وعن الثالث: ما مر أن فائدة البعثة والإنزال ترجع الى اهل الإيمان بالتنوير والتكميل لقلوبهم الصحيحة، والى المنافقين بتنقية قلوبهم المريضة والتبعيد والطرد لهم، وتبليغ الحجة عليهم، كما أنَّ فائدة ضوء الشمس إنما ترجع الى العيون السليمة، ولا تزيد الخفافيش إلا فراراً ووحشة ونفوراً، ثم تكون عليهم حسرة وعلى نفورهم حجة. وعن الرابع: بمثل ما مرّ. وأما الوجوه التي ذكروها في التأويل، فالجواب عن أولها: أنه إذا اعيد السؤال بأنه ما السبب المرجّح في تخصيص اللطف منه تعالى للمؤمنين والمنع له عن المنافقين، مع أن اللطف واجبٌ عليه تعالى على اصولهم بالنسبة الى الجميع؟ فإن أجابوا عنه بأن سبق الكفر والإصرار أوجب ذلك من الله عليهم، فلقائل أن يقول: ما الباعث لهؤلاء على الكفر والإصرار دون المسلمين، مع تساوي غرائزهم وفِطَرهم، وتساوي نسبة اللطف والإنذار والتخويف والإرشاد والنصيحة وجميع ما هو من قِبَل الله وآياته وكُتبه ورُسله لهم ولغيرهم؟ فلم يبقَ لهم مهربٌ إلا الرجوع الى الأمور الإلٰهية، من اختلاف الغرائز بسحب الفطرة الأولى، وأن الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة، وأن الشقيَّ منهم شقيٌّ في الأزل، والسعيد منهم سعيد لم يزل، كما قال تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ... خَالِدِينَ }** [هود:105 - 107]. الآية. وعن ثانيها: أنَّ تمكين الشيطان من إغوائهم، والتخلية بينه وبينهم دون غيرهم، مع أن الكل عباد الله محتاجون الى رحمته في الدنيا والآخرة، ينافي أصولَهم، كوجوب الألطاف، واستحالة الترجيح من غير مرجّح، وفيه من النظر والجواب ما مرّ. وعن ثالثها: أن تفسير الإمداد في العمىٰ والطغيان بعدم القسر والإلجاء على فعل الخير والطاعة، في غاية البُعد، فلا يُصار إليه من غير ضرورة، ولا ضرورة ها هنا كما علمت. وعن رابعها: انه بعيد من وجهين: الأول: عدم مساعدة اللغة كما مر من أن تفسير يمدهم بالمد في العمر، خطأ. والثاني: انه على تقدير صحته من جهة اللغة يفيد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في طغيانهم يعمهون، فيعود الإشكال.. وأجاب بعضهم - كالقاضي - عن ذلك بأنه ليس المراد ذلك، بل المراد أنه يُبقيهم ويلطف لهم في الطاعة فيأبَون إلا أن يعمهوا. وقد علمت أنّ مثل هذا الكلام في اختلاف صُنع الله مع عباده مع تساوي الكل في الغرائز والفِطَر في قبول اللطف من الله، لا يفي بدفع الإشكال على من التزم المحافظة على قضايا العقل التي عليها، يعني إثبات الواجب تعالى، وإثبات الشريعة فلا بد للعاقل في دفع هذا ونظائره إما الى الرجوع الى مسلك أهل الله والراسخين في العلم، حتى ينكشف عليه سر المقال وحقيقة الحال، وإما الى صريح مخالفة العقل وإنكار الحكمة، والقول بالسبب والعلة والغاية، وأنه سبحانه بحيث لا يُسئل عما يفعل - تعالى عن فعل المجانين والسفَه والتعطيل كما زعموا علواً كبيراً-. إضاءة واشراق قال الشيخ العارف في الفتوحات: " اعلم أن الكل من عند الله، ولكن لما تعلّق ببعض الأفعال لسان ذمّ، فما كان في الأفعال من باب شرّ وقبح فدَينا بنفوسِنا ما ينسب الى الحق من ذلك، وقايةً وأدباً مع الله. وما كان من خير وحُسن رفعنا نفوسَنا من البين وأضفنا ذلك الى الله، حتى يكون هو المحمود بكل ثناء. أدباً مع الله وايقاعاً لحقوقه. فإنه لله بلا شك مع ما فيه من الاشتراك، كما دل عليه قوله:**{ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }** [الصافات:96]. وقوله:**{ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [النساء:79]. مع قوله:**{ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ }** [النساء:78]. فأضاف العمل وقتاً إلينا، ووقتاً إليه، فلهذا قلنا: فيه رائحة اشتراك. قال تعالى:**{ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ }** [البقرة:286]. فأضاف خيرَنا وشرنا إلينا. وقال:**{ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }** [الشمس:8]. فله الإلهام وقد خلق العمل. فهذه مسألة لا يتخلّص فيها توحيد أصلاً، لا من جهة الكشف ولا من جهة الخبر، فالأمر الصحيح من ذلك، انّه مربوطٌ بين حقّ وخلق، غير مخلص لأحد الجانبين، فإنه على ما يكون من النسب الإلٰهية أن يكون الحق عين الوجود الذي استفادته الممكنات، فما ثمَّ إلا وجود عين الحق، والتغيّرات الظاهرة في هذه العين، أحكام أعيان الممكنات، فلولا العين ما ظهر الحكم، ولولا الممكن ما ظهر التغيير، فلا بد في الأفعال من حق وخلق ". انتهى كلامه. أقول: ليس مراده " قدس سره " من قوله: " فلهذا قلنا فيه رائحة اشتراك " انه يعتقد أن فاعل أفاعيل العباد مركّب من أمرين: حق وخلْق، وكذا قوله: " فهذه مسألة لا يتخلّص فيها توحيد أصلاً " الى قوله: " غير مخلص لأحد الجانبين " ، ليس المراد ما تُوهِمه ظاهرُ العبارة، وكذا ما ورد في أحاديث أئمتنا الأطهار (عليهم السلام) " إنّه أمرٌ بين أمرين " ليس المعنى ما توهَّمه المحجوبون: أنّ الفعل واقعٌ بين الرب والعبد غير مخلَص لأحدهما، كيف وهذا شِرك محض، وظلمٌ عظم يخالِف البرهان والكشفَ والنقلَ عن أئمتنا (عليهم السلام)، بل مقصوده " قدس سره " ممّا ذكره، ومرادهم (عليهم السلام)، من قولهم بأنه أمرٌ بين أمرين: ان الأفعال كلها مخلوقةٌ لله تعالى من غير اشتراك أصلاً؛ وكذا الفعل الصادر عن العبد، هو بعينه صادرٌ عن الحق من غير اشتراك، بل لأن وجود العبد بعينه شأن من شؤون الله، وقد ذكرنا فيما مرّ أن للفعل نسبةً الى الفاعل المزاول، وله بعينه نسبةً الى الفاعل المفارق، والذمائم والنقائص في الأفعال، راجعة الى نسبة المزاول لا نسبة المفارق، والمذكور ها هنا أدق وأعلى في التحقيق، وأغمض وأدق في المسلك، لا يفهمه إلا ذو بصيرة ثاقبة، وكشف تام، ويدٍ باسطة في الغيب. فالفعل، من حيث هو واقع بقدرة العبد، واقع بعينه بقدرة الله بلا اشتراك، تعالى الله عنه علواً كبيراً، وهذا هو مراده " قدس سره " من الاشتراك لا غير، حاشاه عن ذاك وسائر الأولياء الموحدين، ناهيك به قوله: فإنه أعلى ما يكون من النسب الإلٰهية أن يكون الحق هو عين الوجود الذي استفادته الممكنات، ثمّ قال: وفي مذهب بعض العامة، أن العبد محل ظهور أفعال الله وموضع جريانها، فلا يشهدها الحسّ إلا من الأكوان ولا يشهدها ببصيرتهم إلا من الله من وراء حجاب، هذا الذي ظهرت على يدي المريد لها، المختار فيها، فهو لها يكتسب باختياره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهذا هو مذهب الأشاعرة. ومذهب بعض العامة؛ أنّ الفعل للعبد حقيقة، ومع هذا فربط الفعل عندهم بين الحق والخلق لا يزول، وإنّ هؤلاء يقولون: القدرة الحادثة في العبد التي يكون بها هذا الفعل من الفاعل، أنّ الله خلَق له القدرة عليها، فما يخلص الفعل للعبد إلا بما خلَق الله فيه من القدرة عليه، فما زال الاشتراك، وهذا مذهب أهل الاعتزال، فهؤلاء ثلاثة: أصحابنا والأشاعرة والمعتزلة ما زال منهم وقوع الاشتراك، وهكذا أيضاً حكم مثبتي العلل، لا يتخلّص لهم اثبات المعلول الذي لعلّته التي هي معلولة لعلة اخرى فوقها الى أن تنتهي الى الحق في ذلك الذي هو عندهم علة العلل، فلولا علة العلل، ما كان معلول عن علة، إذ كل علة دونه معلولة، والاشتراك ما ارتفع على مذهب هؤلاء وما عدا هؤلاء الأصناف من الطبيعيين والدهريين، فغاية ما يؤل اليه أمرهم، أنّ الذي نقول نحن فيه إنه الإلٰه، يقول الدهرية: إنه الدهر، والطبيعية إنه الطبيعة، وهم لا يُخلصون الفعل الظاهر منّا دون أن يضيفوا الى الدهر أو الطبيعة، فما زال وجود الاشتراك في كل نِحْلة ومذهب، وما ثَمَّ عقلٌ يدل على خلاف هذا، ولا خبر إلٰهي في شريعة يُخلص الفعل من جميع الجهات الى أحد الجانبين فلنقرّه كما أقره الله على علم الله فيه، وما ثمَّ الا كشفٌ وعقلٌ وشرع، وهذه الثلاثة ما خلصت ولا تخلص أبداً دنيا وآخرة جزاءً بما كنتم تعملون، فالأمر في نفسه - والله أعلم - ما هو إلا كما وقع ما يقع فيه تخليص، لأنه في نفسه غير مخلص، إذ لو كان في نفسه ملخصاً لا بد أن كان يظهر على بعض الطوائف، ولا يتمكّن لنا أن نقول: الكل على خطأ. فإن في الكل الشرائعُ الإلٰهية، ونسبة الخطأ اليها محال، وما يخبر الأشياء على ما هي عليه الا الله، وقد أخبر، فما الأمر إلا كما أخبر، فاتّفق الحق والعالَم في هذه المسألة على الاشتراك، فهذا هو الشرك الخفي والجلي وموضع الحيرة، انتهى كلامه. أقول: حاشا الجناب الإلٰهي عن الشرك في الأفعال، كما حاشاه عن الشرك في الذات والصفات، بل الأمر ما قررناه وذكرناه مراراً، وما نقله من اولئك الطوائف، فصادقٌ أنّ فيها دلالة على الاشتراك، لكن قوله: " فما زال وجود الاشتراك في كل نِحْلة ومذهب وما ثمَّ عقل يدل على خلاف هذا ولا خبر إلٰهي في شريعة " الى آخره، غير موجه بظاهره ولا مسلّم، فها هنا مذهب أولياء الله الموحدين، الذين لم يروا في الوجود إلا الله وأسماءه وأفعاله. وأما الخبر الإلٰهي، وهو المشار اليه في مثل قوله:**{ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ }** [البقرة:286] وما جرى مجراه، فالمراد منه ما يوافق مسألة التوحيد الخاصي، لا ما هو الظاهر، على ما يستفاد من مثل قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ }** [الأنفال:17] وقوله:**{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ }** [التوبة:14] وليس المراد أنّ الحق والعبد متشاركان في الفعل، ولا أنّ العبد بمنزلة الآلة كالسيف القاطع للحق، أو اليد الضاربة له، لاستغنائه عن الآلة في فعله، ولا أنّ العبد علة متوسطة بين الباري وفعل العبد، كما زعمه الظاهريون من الفلاسفة، وما يجري مجراهم في إثبات الوسائط في الإيجاد، ولا ما زعمه الخاصون منهم، كأتباع الرواقيين، من أن الوسائط شروط مُعِدّة لا دخل لها في الإيجاد بل في الإعداد، بل الحق في هذه المسألة مما لا يُدرَك إلا بنور البصيرة المستفاد من عالَم الملكوت لمن انفتحت كِلا عينيه، عينه اليُمنى لمشاهدة فعل الحق، وعينه اليُسرى لمشاهدة الخلْق، فيشاهد فعلَ الحق في عين يشاهد فعل الخلق فيتحقق له سر قوله:**{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ }** [الأنفال:17]. وسر قوله:**{ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ }** [النساء:80]. ومعنى قوله:**{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }** [الأنفال:21]. مع كونهم سمعوا. فانظر الى هذا الذم كيف أشبه غاية الحمد فيمن كان الحق سمعه وبصره، فمن كان الحق سمعه، فقد سمع ضرورة، إلا انه لم يسمع الا به، فهو سامع لا بنفسه بل به، ومن لم يكن كذلك، فهو سامع بنفسه لا بالحق، فوقع الذم عليه والمدح على الأول، مع أن الفعل في كل منهما لا يصدر إلا من شخص امكاني. وهذا التفاوت فيهما راجعٌ الى الشهود وعدمه دون الوجود، إذ الوجود في الواجب كما هو هو، كان لم يزل ولا يزال، وفي الممكن كما هو هو في التجدد والزوال، وكلمة " كنت " في الحديث الإلٰهي **" فإذا أحببتُه كنتُ سمعه "** الى آخره، تدل على أن الأمر كان على هذا وهو لا يشعر، وكانت الكرامة التي أعطاها هذا التعريف، الكشف والعلم، بأن الله كان سمعه، فهو كان يتخيل انه يسمع بسمعه، وهو يسمع بربه، كما كان يسمع الإنسان في حال حياته بروحه وهو يظن انه يسمع باذنه الغُضروفي لجهله؛ وفي نفس الأمر إنما يسمع بربه، فالحق يسمع كلامه بالسمع المعنوي دون غيره من غير تجدد ولا زوال في حقه، وإن كانت الحروف والأصوات متجددة زائلة، وكذا الكلام في البصر والكلام والقدرة وغير ذلك، ولنمسك عنان الكلام عن زيادة التجوال في هذا المقام، ولنرجع الى ملاحظة كلام الله المُفْضِل المُتَعال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ)
معنى قوله تعالى { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } يجازيهم جزاء استهزائهم او يهينهم او يفعل بهم ما يشابه الاستهزاء، او الاتيان بالاستهزاء من باب صنعة المشاكلة ولم يأت بأداة العطف لعدم المناسبة بينه وبين ما قبله فالجملة امّا مستأنفة جواباً عن سؤالٍ مقدّرٍ او دعاء عليهم ويحتمل ان تكون حالا عن فاعل قالوا ولم يقل: الله مستهزئ بهم، ليكون المقابلة اتمّ لانّ نشاطهم فى الاخبار بالاستهزاء كما يقتضى ان يبالغوا فى تأكيد الحكم يقتضى ان يخبروا انّ الاستهزاء بالمؤمنين صار سجيّة لهم او كالسجيّة فى الثّبات والاستمرار بخلاف اخبار الله بالاستهزاء بهم فانّه ليس فى اخباره نشاط له تعالى وليس استهزاؤه باىّ معنى كان من صفاته الثّابتة له بالذّات فضلاً عن ان يكون الّتى هى عين الذّات بل هو من شعب القهر الثّابت له بالعرض ولا يكون الاّ فى عالم الطبع وما دونه من عالم الارواح الخبيثة، والتجدّد ذاتىٌّ لعالم الطّبع وكلّما فيه فهو متجدّد بتجدّده وفى اخباره تعالى بتجديد الهوان اخبارٌ بتشديد الهوان { وَيَمُدُّهُمْ } من المدد او المدّاى يمدّ قواهم ويقوّيها ويزيد فيها، او يمدّ لهم فى عمرهم وامهالهم وهذا بيانٌ للاستهزاء بهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } ظرف لغو متعلّق بما قبله او بما بعده او مستقرّ حالاً او مستأنفاً بتقدير مبتدأ جواباً لسؤال مقدّر والطّغيان تجاوز الشيئ عن حدّه اىّ شيئ كان وحدّ الانسان انقياده تحت حكم العقل الّذى يبيّنه نبىّ وقته فمن تجاوز عن هذا الحدّ كان طاغياً { يَعْمَهُونَ } يتحيّرون، والعمه هو التحيّر فى الآراء فانّ نسبته الى البصيرة كنسبة العمى الى البصر وهو حال او مستأنف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ)
{ وَيَمُدُّهُمْ } يزيدهم كما يقال مد الجيش وأمده إذا زاده ما يقوى به من ناس أو طعام أو سلاح، وم الدواة وأمدها إذا زادها ما تصلح به من ماء أو مداد، ومد السراج وأمده زاده زيتاً، ومد الأرض وأمدها زادها سماداً أو خلطها به من قبل أن يكون فيها شىء منه، وأمده الشطيان ومده فى الغى إذا زاد فى وسوسته، كل ذلك الهمزة وتركها بمعنى واحد، وأكثر ما يأتى مد بلا همزة فى الشر، وأمد بهمزة فى الخير والمعنى يزيدهم. { فَى طُغْيَانِهِمْ } ما يقوى به طغيانهم، وليس من المدد الذى هو الزيادة فى العمر باللام، يقال مد له فى عمره لا بالهمزة، والذى فى الآية قد يقال فى الهمزة كما أقر ابن كثير وابن محيصن { وَيَمُدُّهُمْ فَى طُغْيَانِهِمْ } بضم الياء وكسر الميم، وقرأ نافع وإخوانهم يمدونهم بضم الياء وكسر الميم، وهما فى القراءتين من أمد بالهمزة وهى لموافقة المجرد، وإن قلت إذا كان من الزيادة فأين مفعوله الآخر؟ قلت محذوف تقديره ما يقوى به طغيانهم، وإن قلت كيف ساغ أن يقول زادهم الله ما يقوى به طغيانهم؟ قلت معناه خذلهم ولم يلطف بهم.وهذه قاعده أصحابنا رحمهم الله فى التفسير، وكذا الشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية خلافاً للمعتزلة، فإنهم لما تعذر عليهم إجراء الكلام على ظاهره كما تعذر علينا، لأن الزيادة فى الطغيان تقوية للكفر بحسب ظاهر الكلام، تأولوه بغير الوجه الذى تأولناه، وهو أنه لما كان خذلانه إياهم ومنع الإلطاف عنهم سبباً فى كفرهم وإصرارهم، وفى زيادة قلوبهم ريناً وظلمة، كما كان توفيقه المؤمنين سبباً فى الإسلام وثباته، وفى زيادة قلوبهم انشراحاً ونوراً، أسند الزيادة فى الطغيان إلى نفسه، إذ كان مسبب ذلك السبب، بكسر الباء، الأولى من مسبب. والحاصل أنه لما كان تزايد طغيانهم مسبباً، بفتح الباء الأولى، خذلانه لهم أسند الزيادة إلى نفسه ولا جبر هناك، أو لما كان إغواء الشيطان إياهم إنما هو بإقدار الله - عز وجل - إياه عليه، أسند الزيادة فى الطغيان إلى نفسه، وعلى كل حال فإنما أضاف الطغيان إليهم، ولم يأت به مجرداً عن الإضافة، لئلا يتوهم أن إسناد الزيادة إلى الله تعالى على الحقيقة، وإما أن يضاف الطغيان إلى الله ونحوه من الأفعال فحرام، لأن ذلك مخلوق له لا فعل له، إنما هو فعل الناس، ويدل على أن إضافة الطغيان إليهم لما ذكر أنه لما أسند الإمداد إلى الشياطين فى سورة الأعراف لم يحتج الكلام إلى الإضافة إليهم، إذ قال يمدونهم فى الغى، ولم يقل فى غيهم، وقال مجاهد المعنى يملى لهم فى طغيانهم، فأصل الكلام ويمد لهم حذفت اللام وانتصب محل الضمير على نزع الخافض، لأنه على تفسير مجاهد من المد فى العمر، والمد فيه يتعدى باللام كما مر، وأغنى قوله { فَى طُغْيَانِهِمْ } عن أن يقال فى أعمارهم، لأن المد فى أعمار المخذولين بسبب الطغيان، وإنما مد فى أعمارهم ليطيعوا وينتهوا، وما ازدادوا إلا طغياناً، توصلوا إلى الطغيان بما خلق وسيلة لهم إلى الشرك، وعلى الأوجه المذكورة يتعلق فى طيغانهم بمد ويجوز تعليقه بقوله { يَعْمَهُونَ } على وجه آخر وهو أن المعنى يمهل لهم فى أعمارهم أو يزيدهم نعماً ليؤمنوا ويشكروا، وهم فى ذلك يعمهون فى طغيانهم، وعلى كل وجه فيعمهون حال، والطغيان، بضم الطاء، فى قراءة السبعة، والجمهور، وبكسرها فى قراءة زيد بن على لغتان كلغيان وغينان، بضم أولهما وكسرة تجاوز الحد فى العصيان والغلو فى الكفر، وأصله تجاوز الشىء عن مكانه، وقوله سبحانه | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ إنا لما طغى الماء حملناكم فى الجارية }** يحتمل تجاوز الماء عادته، ويحتمل التشبيه بالعاصى وتخصيص الطغيان شرعاً بالمبالغة فى المعصية حقيقة شرعية، ويعمهون يترددون متجبرين، والعمه مثل العمى إلا أن العمى عام فى البصر والرأى، والعمه خاص بالرأى وهو التحير والتردد، لا يدرى أين يتوجه، يقال رجل أعمه وعمه، أى لا رأى له جازم قال رؤبة | **أعمى الهدى بالجاهلين العمه ومهمه أطرافه فى مهمه** | | | | --- | --- | --- | أى الجاهلين الذين يترددون ولا معرفة لهم، جمع عامه كراكع وركع، لا جمع عمه كما قيل، وأعمى الهدى خالف الهدى وجاوزه، أو هو صفة من عمه الأمر التبس، وأرض عمهاء لا منار بها يعتمد عليه الرائى فيهتدى به، وبين العمى والعمه عموم مطلق، لأنه خاص بالبصيرة، والعمى عام فيها وفى البصر، قاله الفخر كجار الله، وقال ابن عطية إنه خاص بالبصيرة، والعمى بالبصر، فهما متباينان، ولا منافاة، فإن مراده الاختصاص والمباينة باعتبار الحقيقة، ومراد غيره بإطلاق العمى فى البصر والبصيرة الحقيقة والمجاز فإنه مجاز فى البصيرة، ولم يستعمل العمه فى البصر وإن استعمل كان مجازاً، وقيل { يَعْمَهُونَ } يلعبون وقيل يتمادون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
{ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } يجازيهم على استهزائهم مرة بعد أخرى، فإن نكاية الله فيهم متعددة فى الدنيا، ولا تنقطع فى الأخرة فذلك استعارة تبعية، أو مجاز مرسل، لأن بين الفعل وجزأيه مشابهة فى القدر، ونوع تسبب مع وجود المشاكلة أو يراد إنزال الحقارة من إطلاق السبب على المسبب، ومن الاستهزاء بهم فى الآخرة، أنه يفتح باب إلى الجنة فيجىء فى قربه، حتى إذا وصله أغلق، أو يكرر ذلك حتى يفتح له، ولا يجئه كما ورد فى الحديث { وَيَمُدُّهُمْ } بطيل أعمارهم، أو يزيدهم طغيانا { فِي طُغْيَٰنِهِمْ } مجاوزتهم الحد بالكفر { يَعْمَهُونَ } يترددون، هل يبقون عليه أو يتركونه، أو هل يعكفون فيه ويلازمونه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ)
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } حمل أهل الحديث وطائفة من أهل التأويل الاستهزاء منه تعالى على حقيقته وإن لم يكن المستهزىء من أسمائه سبحانه، وقالوا: إنه التحقير على وجه من شأنه أن من اطلع عليه يتعجب منه ويضحك ولا استحالة في وقوع ذلك منه عز شأنه ومنعه من قياس الغائب على الشاهد، وذهب أكثر الناس إلى أنه لا يوصف به جل وعلا حقيقة لما فيه من تقرير المستهزأ به على الجهل الذي فيه، ومقتضى الحكمة والرحمة أن يريه الصواب فإن كان عنده أنه ليس متصفاً بالمستهزأ به فهو لعب لا يليق بكبريائه تعالى، فالآية على هذا مؤولة إما بأن يراد بالاستهزاء جزاؤه لما بين الفعل وجزائه من مشابهة في القدر وملابسة قوية ونوع سببية مع وجود المشاكلة المحسنة هٰهنا، ففي الكلام استعارة تبعية أو مجاز مرسل، وإما بأن يراد به إنزال الحقارة والهوان فهو مجاز عما هو بمنزلة الغاية له فيكون من إطلاق المسبب على السبب نظراً إلى التصور وبالعكس نظراً إلى الوجود، وإما بأن يجعل الله - تعالى وتقدس - كالمستهزىء بهم على سبيل الاستعارة المكنية وإثبات الاستهزاء له تخييلاً، ورب شيء يصح تبعاً ولا يصح قصداً وله سبحانه أن يطلق على ذاته المقدسة ما يشاء تفهيماً للعباد، وقد يقال: إن الآية جارية على سبيل التمثيل والمراد يعاملهم سبحانه معاملة المستهزىء؛ أما في الدنيا بإجراء أحكام الإسلام واستدراجهم من حيث لا يعلمون، وأما في الآخرة بأن يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيقال: - هلم هلم - فيجىء بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال: - هلم هلم - فيجىء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى إن الرجل ليفتح له باب فيقال: - هلم هلم - فما يأتيه، وقد روي ذلك بسند مرسل جيد الإسناد في/ المستهزئين بالناس، وأسند سبحانه الاستهزاء إليه مصدراً الجملة بذكره للتنبيه على أن الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جانب علمه وقدرته وأنه تعالى كفى عباده المؤمنين وانتقم لهم وما أحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيماً لشأنهم لأنهم ما استهزىء بهم إلا فيه ولا أحد أغير من الله سبحانه، وترك العطف لأنه الأصل وليس في الجملة السابقة ما يصح عطف هذا القول عليه إلا بتكلف وبعد، وقيل: ليكون إيراد الكلام على وجه يكون جواباً عن السؤال عن معاملة الله تعالى معهم في مقابلة معاملتهم هذه مع المؤمنين، وقولهم:**{ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ }** [البقرة: 14] إشعار بأن ما حكي من الشناعة بحيث يقتضي ظهور غيرة الله تعالى ويسأل كل أحد عن كيفية انتقامه منهم، ويشعر كلام بعض المحققين أنه لو ورد هذا القول بالعطف ولو على محذوف مناسب للمقام - كهم مستهزءون - بالمؤمنين لأفاد أن ذلك في مقابلة استهزائهم فلا يفيد أن الله تعالى أغنى المؤمنين عن معارضتهم مطلقاً وأنه تولى مجازاتهم مطلقاً بل يوهم تخصيص التولي بهذه المجازاة، وأيضاً لكون استهزاء الله تعالى - بمكان بعيد من استهزائهم إلى حيث لا مناسبة بينهما - يكون العطف كعطف أمرين غير متناسبين، وبعضهم رتب الفائدتين اللتين ذكرناهما في الإسناد إليه تعالى على الاستئناف مدعياً أنه لو عطف - ولو بحسب التوهم - على مقدر بأن يقال المؤمنون مستهزؤون بهم والله يستهزىء بهم لفاتت الفائدتان هذا، ولعل ما ذكرناه أسلم من القيل والقال وأبعد عن مظان الاستشكال فتدبر، وعدل سبحانه عن - الله مستهزىء بهم المطابق لقولهم - إلى قوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } لإفادته التجدد الاستمراري وهو أبلغ من الاستمرار الثبوتي الذي تفيده الاسمية لأن البلاء إذا استمر قد يهون وتألفه النفس كما قيل: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | **خلقت ألوفاً ولو رجعت إلى الصبا** | | **لفارقت شيبـي موجع القلب باكياً** | | --- | --- | --- | وقد كانت نكايات الله تعالى فيهم ونزول الآيات في شأنهم أمراً متجدداً مستمراً**{ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ }** [التوبة: 126]**{ يَحْذَرُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءواْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ }** [التوبة: 64] وهذا نوع من العذاب الأدنى**{ وَلَعَذَابُ ٱلأَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }** [الزمر: 26] وصرح بالمستهزأ به هنا ليكون الاستهزاء بهم نصاً وإنما تركه المنافقون فيما حكى عنهم خوفاً من وصوله للمؤمنين فأبقوا اللفظ محتملاً ليكون لهم مجال في الذب إذا حوققوا فجعل الله تعالى كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا -. { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ } معطوف على قوله سبحانه وتعالى: { يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } كالبيان له على رأي، والمدّ من مد الجيش وأمده بمعنى أي ألحق به ما يقويه ويكثره، وقيل: مد زاد من الجنس وأمد زاد من غير الجنس، وقيل: مد في الشر وأمد في الخير عكس وعد وأوعد، وإذا استعمل أمد في الشر فلعله من باب**{ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }** [آل عمران: 21]، وقد ورد استعمال هذه المادة بمعنيين، أحدهما: ما ذكرنا، وثانيهما: الإمهال، ومنه مد العمر، والواقع هنا من الأول دون الثاني لوجهين، الأول: أنه روي عن ابن كثير من غير السبعة { يَمُدُّهُمْ } بالضم من المزيد وهو لم يسمع في الثاني، والثاني: أنه متعد بنفسه والآخر متعد باللام والحذف والإيصال خلاف الأصل فلا يرتكب بغير داع، فمعنى { يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } يزيدهم ويقويهم فيه، وإلى ذلك ذهب البيضاوي وغيره، والحق أن الإمهال هنا محتمل وإليه ذهب الزجاج وابن كيسان والوجهان مخدوشان، فقد ورد - عند من يعول عليه من أهل اللغة ـ كل منهما ثلاثياً ومزيداً ومعدى بنفسه وباللام وكلاهما من أصل واحد ومعناهما يرجع إلى الزيادة كماً أو كيفاً، وفي «الصحاح» مد الله في عمره ومده في غيه أمهله وطول له، / وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن مد الله تعالى في طغيانهم التمكين من العصيان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وعن ابن عباس الإملاء ونسبة المد إلى الله تعالى بأي معنى كان عند أهل الحق - حقيقة إذ هو سبحانه وتعالى الموجد للأشياء المنفرد باختراعها على حسب ما اقتضته الحكمة ورفعت له أكفها الاستعدادات، ونسبته إلى غيره سبحانه وتعالى في قوله عز شأنه:**{ وَإِخْوٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ }** [الأعراف: 202] نسبة التوفي إلى الملك في قوله تعالى:**{ يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ }** [السجدة: 11] مع قوله جل وعلا:**{ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ }** [الزمر: 42] وذهبت المعتزلة أن الزيادة في الطغيان والتقوية فيه مما يستحيل نسبته إليه تعالى حقيقة وحملوا الآية على محامل أخر، وقد قدمنا ما يوهن مذهبهم - فلنطوه هنا - على ما فيه. والطغيان بضم الطاء على المشهور، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بكسرها وهما لغتان فيه، وقد سمعا في مصدر اللقاء، وقد أماله الكسائي، وأصله تجاوز المكان الذي وقفت فيه ومن أخل بما عين من المواقف الشرعية والمعارف العقلية فلم يرعها فقد طغى، ومنه طغى الماء أي تجاوز الحد المعروف فيه، وإضافته إليهم لأنه فعلهم الصادر منهم بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى فالاختصاص المشعرة به الإضافة إنما هو بهذا الاعتبار لا باعتبار المحلية والاتصاف فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة ولا باعتبار الإيجاد استقلالاً من غير توقف على إذن الفعال لما يريد فإنه اعتبار عليه غبار بل غبار ليس له اعتبار فلا تهولنك جعجعة الزمخشري وقعقعته، ويحتمل أن يكون الاختصاص للإشارة إلى أن طغيان غيرهم في جنبهم كلا شيء لادعاء اختصاصهم به وليس بالمنحرف عن سنن البلاغة. والـعمه التردد والتحير، ويستعمل في الرأي خاصة ـ والعمى فيه وفي البصر ـ فبينهما عموم وخصوص مطلق في الاستعمال وإن تغايرا في أصل الوضع، واختص العمى بالبصر على ما قيل، وأصله الأصيل عدم الأمارات في الطريق التي تنصب - لتدل من حجارة - وتراب ونحوهما وهي المنار ويقال عمه يعمه كتعب يتعب عمهاً وعمهاناً فهو عمه وعامه وعمهاء فمعنى يعمهون على هذا يترددون ويتحيرون، وإلى ذلك ذهب جمع من المفسرين، وقيل: العمه العمى عن الرشد، وقال ابن قتيبة: هو أن يركب رأسه فلا يبصر ما يأتي، فالمعنى يعمون عن رشدهم أو يكبون رؤوسهم فلا يبصرون وكأن هذا أقرب إلى الصواب لأن المنافقين لم يكونوا مترددين في الكفر بل كانوا مصرين عليه معتقدين أنه الحق وما سواه باطل إلا أن يقال التردد والتحير في أمر آخر لا في الكفر، وجملة { يَعْمَهُونَ } في موضع نصب على الحال إما من الضمير في { يَمُدُّهُمْ } وإما من الضمير في - { فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } - لأنه مصدر مضاف إلى الفاعل، وفي { طُغْيَـٰنِهِمْ } يحتمل أن يكون متعلقاً بيمدهم وأن يكون متعلقاً بيعمهون وجاز على خلاف كون { فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } و { يَعْمَهُونَ } حالين من الضمير في يمدهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }. لم تعطف هاته الجملة على ما قبلها لأنها جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال مقدر، وذلك أن السامع لحكاية قولهم للمؤمنين**{ آمنا }** البقرة 14 وقولهم لشياطينهم**{ إنا معكم }** البقرة 14 الخ. يقول لقد راجت حيلتهم على المسلمين الغافلين عن كيدهم وهل يتفطن متفطن في المسلمين لأحوالهم فيجازيهم على استهزائهم، أو هل يرد لهم ما راموا من المسلمين، ومَن الذي يتولى مقابلة صنعهم فكان للاستئناف بقوله { الله يستهزىء بهم } غاية الفخامة والجزالة، وهو أيضاً واقع موقع الاعتراض والأكثر في الاعتراض ترك العاطف. وذكر { يستهزىءُ } دليل على أن مضمون الجملة مجازاة على استهزائهم. ولأجل اعتبار الاستئناف قُدم اسم الله تعالى على الخبر الفعلي. ولم يقل يستهزىء اللَّهُ بهم لأن مما يجول في خاطر السائل أن يقول مَن الذي يتولى مقابلة سُوء صنيعهم فأُعلم أن الذي يتولى ذلك هو رب العزة تعالى، وفي ذلك تنويه بشأن المنتصَر لهم وهم المؤمنون كما قال تعالى**{ إن الله يدافع عن الذين آمنوا }** الحج 38 فتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوى الحكم لا محالة ثم يفيد مع ذلك قصر المسند على المسند إليه فإنه لما كان تقديم المسند إليه على المسند الفعلي في سياق الإيجاب يأتي لتقوي الحكم ويأتي للقصر على رأي الشيخ عبد القاهر وصاحب «الكشاف» كما صَرح به في قوله تعالى**{ والله يقدر الليل والنهار }** في سورة المزمل 20، كان الجمع بين قصد التقوي وقصد التخصيص جائزاً في مقاصد الكلام البليغ وقد جوزه في الكشاف عند قوله تعالى**{ فلا يخاف بخساً ولا رهقاً }** في سورة الجن 13، لأن ما يراعيه البليغ من الخصوصيات لا يترك حملُ الكلام البليغ عليه فكيف بأبلغ كلام، ولذلك يقال النكتُ لا تتزاحم. كان المنافقون يغرهم ما يرون من صفح النبي صلى الله عليه وسلم عنهم وإعراض المؤمنين عن التنازل لهم فيحسبون رواج حيلتهم ونفاقهم ولذلك قال عبد الله بن أبيّ**{ ليُخرجَن الأعزُّ منها الأَذَلَّ }** المنافقون 8 فقال الله تعالى**{ ولله العزة ولرسوله }** المنافقون 8 فتقديم اسم الجلالة لمجرد الاهتمام لا لقصد التقوى إذ لا مقتضي له. وفعل { يستهزىء } المسند إلى الله ليس مستعملاً في حقيقته لأن المراد هنا أنه يفعل بهم في الدنيا ما يُسمى بالاستهزاء بدليل قوله { ويمدهم في طغيانهم } ولم يقع استهزاء حقيقي في الدنيا فهو إما تمثيل لمعاملة الله إياهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين، بما يشبه فعل المستهزىء بهم وذلك بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على استهزائهم فيظنوا أن الله راضٍ عنهم أو أن أَصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا خلافَ ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والمضارع في قوله { يستهزىء } لزمن الحال. ولا يحمل على اتصاف الله بالاستهزاء حقيقة عند الأشاعرة لأنه لم يقع من الله معنى الاستهزاء في الدنيا، ويحسن هذا التمثيل ما فيه من المشاكلة. ويجوز أن يكون { يستهزىء بهم } حقيقة يوم القيامة بأن يأمر بالاستهزاء بهم في الموقف وهو نوع من العقاب فيكون المضارع في { يستهزىء } للاستقبال، وإلى هذا المعنى نَحَا ابن عباس والحسن في نقل ابن عطية، ويجوز أن يكون مراداً به جزاءُ استهزائهم من العذاب أو نحوه من الإذلال والتحقير والمعنى يذلهم وعبر عنه بالاستهزاء مجازاً ومشاكلة، أو مراداً به مآلُ الاستهزاء من رجوع الوبال عليهم. وهذا كله وإن جاز فقد عينه هنا جمهور العلماء من المفسرين كما نقل ابن عطية والقرطبي وعينه الفخر الرازي والبيضاوي وعينه المعتزلة أيضاً لأن الاستهزاء لا يليق إسناده إلى الله حقيقة لأنه فعلٌ قبيحٌ ينزه الله تعالى عنه كما في «الكشاف» وهو مبني على المتعارف بين الناس. وجيء في حكاية كلامهم بالمسند الاسمي في قولهم**{ إنما نحن مستهزئون }** البقرة 14 لإفادة كلامهم معنى دوام صدور الاستهزاء منهم وثباته بحيث لا يحولون عنه. وجيء في قوله { الله يستهزىء بهم } بإفادة التجدد من الفعل المضارع أي تجدد إملاء الله لهم زماناً إلى أن يأخذهم العذاب، ليعلم المسلمون أن ما عليه أهل النفاق من النعمة إنما هو إملاء وإن طال كما قال تعالى**{ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل }** آل عمران 196. { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ }. يتعين أنه معطوف على { الله يستهزىء بهم }. ويمد فعل مشتق من المَدَد وهو الزيادة، يقال مَدَّه إذا زاده وهو الأصل في الاشتقاق من غير حاجة إلى الهمزة لأنه متعد، ودليله أنهم ضموا العين في المضارع على قياس المضاعف المتعدي، وقد يقولون أمده بهمزة التعدية على تقدير جعله ذا مَدد ثم غلب استعمال مَد في الزيادة في ذات المفعول نحو مَدَّ له في عُمره ومَدَّ الأرض أي مططها وأطالها، وغلب استعمال أمد المهموز في الزيادة للمفعول من أشياء يحتاجها نحو أمده بجيش**{ أمدكم بأنعام وبنين }** الشعراء 133. وإنما استعمل هذا في موضع الآخر على الأصل فلذلك قيل لا فرق بينهما في الاستعمال وقيل يختص أمد المهموز بالخير نحو**{ أتُمِدُّونني بمالٍ }** النمل 36**{ أن ما نُمِدُّهم به من مال }** المؤمنون 55، ويختص مَد بغير الخير ونقل ذلك عن أبي علي الفارسي في كتاب «الحجة»، ونقله ابن عطية عن يونس بن حَبيب، إلا المعدَّى باللام فإنه خاص بالزيادة في العمر والإمهالِ فيه عند الزمخشري وغيره خلافاً لبعض اللغويين فاستغنوا بذكر اللام المؤذنة بأن ذلك للنفع وللأجْل بسكون الجيم عن التفرقة بالهمز رجوعاً للأصل لئلا يجمعوا بين ما يقتضي التعدية وهو الهمزة وبين ما يقتضي القصور وهو لام الجر، وكل هذا من تأثير الأمثلة على الناظرين وهي طريقة لهم في كثير من الأفعال التي يتفرع معناها الوضعي إلى معان جزئية له أو مقيدة أو مجازية أن يخصوا بعْض لغاته أو بعض أحواله ببعض تلك المعاني جرياً وراء التنصيص في الكلام ودفع اللبس بقدر الإمكان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهذا من دقائق استعمال اللغة العربية، فلا يقال إن دعوى اختصاص بعض الاستعمالات ببعض المعاني هي دعوى اشتراك أو دعوى مجاز وكلاهما خلاف الأصل كما أورد عبد الحكيم لأن ذلك التخصيص كما علمت اصطلاح في الاستعمال لا تعدد وضع ولا استعمالٌ في غير المعنى الموضوع له ونظير ذلك قولهم فَرقَ وفَرق ووعَد وأوْعد ونَشَد وأنشد ونَزَّل المضاعف وأنزل، وقولهم العِثار مصدر عثر إذ أريد بالفعل الحقيقة، والعُثور مصدر عثر إذ أريد بالفعل المجاز وهو الاطلاع، وقد فرقت العرب في مصادر الفعل الواحد وفي جموع الاسم الواحد لاختلاف القيود. وتعدية فعل يمد إلى ضميرهم الدال على أدب أو ذوق مع أن المد إنما يتعدى إلى الطغيان جاءت على طريقة الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليتمكن التفصيل في ذهن السامع مثل طريقة بدل الاشتمال وجعل الزجاج والواحدي أصله ويمد لهم في طغيانهم فحذف لام الجر واتصل الفعل بالمجرور على طريقة نزع الخافض وليس بذلك. والطغيان مصدر بوزن الغفران والشكران، وهو مبالغة في الطغْي وهو الإفراط في الشر والكِبْر وتعليق فعل { يمدهم } هنا بضمير الذوات تعليق إجمالي يفسره قوله { في طغيانهم } ويجوز أن يكون على تقدير لام محذوفة أي يمد لهم في طغيانهم أي يمهلهم فيكون نحو بعض ما فسر به قوله { الله يستهزىء بهم } وهذا قول الزجاج والواحدي وفيه بُعد. والعَمَهُ انطماس البصيرة وتحير الرأي وفعله عَمِهَ فهو عامه وأعمه. وإسناد المد في الطغيان إلى الله تعالى على الوجه الأول في تفسير قوله { ويمدهم } إسناد خلق وتكوين منوط بأسباب التكوين على سنة الله تعالى في حصول المسببات عند أسبابها. فالنفاق إذا دخل القلوب كان من آثاره أن لا ينقطع عنها، ولما كان من شأن وصف النفاق أن تنمي عنه الرذائل التي قدمنا بيانها كان تكونها في نفوسهم متولدا من أسباب شتى في طباعهم متسلسلاً من ارتباط المسببات بأسبابها وهي شتى ومتفرعة وذلك بخلق خاص بهم مباشرة ولكن الله حرمهم توفيقه الذي يقلعهم عن تلك الجبلة بمحاربة نفوسهم، فكان حرمانه إياهم التوفيق مقتضياً استمرار طغيانهم وتزايده بالرسوخ فإسناد ازدياده إلى الله لأنه خالق النظم التي هي أسباب ازدياده، وهذا يعد من الحقيقة العقلية الشائعة وليس من المجاز لعدم ملاحظة خلق الأسباب بحسب ما تعارفه الناس من إسناد ما خفي فاعله إلى الله تعالى لأنه الخالق للأسباب الأصلية والجاعل لنواميسها بكيفية لا يعلم الناس سرها ولا شاهدوا من تسند إليه على الحقيقة غيره وهذا بخلاف نحو بنى الأمير المدينة لا سيما بعد التصريح بالإسناد إليه في الكلام بحيث لم يبق للبناء على عرف الناس مجال وهذا بخلاف نحو " يزيدك وجهه حسناً " وسرتني رؤيتك لأن ذلك وإن كان في الواقع من فعل الله تعالى إلا أنه غير ملتفت إليه في العرف فلذلك قال الشيخ عبد القاهر إنه من المجاز الذي لا حقيقة له. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإنما أضاف الطغيان لضمير المنافقين ولم يقل في الطغيان بتعريف الجنس كما قال في سورة الأعراف 202**{ وإخوانُهم يَمُدُّونهم في الغيّ }** إشارة إلى تفظيع شأن هذا الطغيان وغرابته في بابه وإنهم اختصوا به حتى صار يعرف بإضافته إليهم. والظرف متعلق بيمدهم. و { يعمهون } جملة حالية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ)
قوله تعالى { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }. لم يبين هنا شيئاً من استهزائه بهم. وذكر بعضه في سورة الحديد في قوله**{ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً }** الحديد 13. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
{ طُغْيَانِهِمْ } (15) - وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَى هؤُلاءِ المُنَافِقِينَ وَيَقُولُ لهُمْ: إِنَّهُ عَالِمٌ بِسَرَائِرِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ، وَإِنَّهُ يَمُدُّ لَهُمْ فِي الغِوَايَةِ وَالضَّلاَلِ، وَيَزيدُهُمْ مِنهُما، وَهُوَ الذِي يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَتْرُكُهُمْ حَيَارَى فِي ضَلاَلِهِمْ لاَ يَجِدُونَ إِلى الخُرُوجِ مِمَّا هُمْ فِيهِ سَبِيلاً. العَمَهُ - هُوَ الضَّلاَلُ والاسْتِرْسَالُ فيهِ، وَهُوَ ظُلْمَةُ البَصِيرَةِ. مَدَّ الجَيْشَ، وَأَمَدَّهُ - زَادَهُ عَدَداًً وَقَوَّاهُ بَالمَدَدِ. طُغْيَانِهِمْ - مُجَاوَزَتِهِم الحَدَّ فِي الكُفْرِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ)
إن هؤلاء المنافقين قوم لا حول لهم ولا قوة، ولكن الله سبحانه وتعالى، وهو القادر القوي حينما يستهزىء بهم يكون الاستهزاء أليماً، وإذا كان المنافق، قد أظهر بلسانه ما ليس في قلبه، فإن الله سبحانه وتعالى يعامله بمثل فعله، فإذا كان له ظاهر وباطن، يعامله في ظاهر الدنيا معاملة المسلمين، وفي الآخرة يوم تبلى السرائر يجعله في الدرك الأسفل من النار، لا يُساويه بالكافر لأن ذنب المنافق أشد. { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [البقرة: 15] والاستهزاء هو السخرية، فهم يأتون يوم القيامة محاولين أن يتمسكوا بالظاهر، فيظهر الله سبحانه وتعالى لهم باطنهم. والحق سبحانه وتعالى يقول:**{ ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ }** [الهمزة: 1]. والهمزة هو الذي يسخر من الناس ولو بالإشارة. يرى إنساناً مصاباً بعاهة في قدمه، يمشي وهو يعرج فيحاول أن يقلده بطريقة تثير السخرية، إما بالإشارة وإما بالكلام، وهناك همز وهمزة.. الهمز الاستهزاء والسخرية من الناس، علامة عدم الإيمان، لأننا كلنا خَلَقنا إله واحد، فهذه الصفة التي سخرت فيها من إنسان أعرج مثلاً، لا عمل له فيها، ولا حول له ولا قوة.. والإنسان لم يصنع نفسه، والحقيقة أنك تسخر من صنع الله، والذي يسخر من خلق الله إنسان غبي لأنه سخر من خلق الله في عيب، ولم يقدِّر ما تفضل الله به عليه، كما أنه سخر من عيب ولم يفطن إلى أن الحق سبحانه وتعالى قد أعطى ذلك الإنسان خصالاً ومميزات ربما لم يعطها له، والله سبحانه وتعالى يقول:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ.. }** [الحجرات: 11]. إن مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان آخر، وذلك هو عدل الله، فإذا كنت أحسن من إنسان في شيء فابحث عن النقص فيك. فإن استهزأت بمؤمن في شيء، فالاستهزاء غير مفصول عن صنعة الله، إذن فمن المنطق عندما قالوا: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [البقرة: 15] أن يرد الله عليهم { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [البقرة: 15] أي: يزيدهم في هذا الطغيان، لأن المدَّ هو أن تزيد الشيء، ولكن مرة تزيد في الشيء من ذاته، ومرة تزيد عليه من غيره، قد تأتي بخيط وتفرده إلى آخره، وقد تصله بخيط آخر، فتكون مددته من غيره، فالله يزيدهم في طغيانهم. وقوله تعالى " يعمهون " العمه يختلف عن العمى، والخلاف في الحرف الأخير، العمى عمى البصر، والعمه عمى البصيرة، ويعمهون أي يتخبطون، لأن العمه ينشأ عنه التخبط سواء التخبط الحسي، من عمى البصر، أو التخبط في القيم ومنهج الحياة من عمى البصيرة. والله تعالى يقول:**{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ }** [الحج: 46] فكأنما العمى المادي، قد لا يكون، ولكن يكون هناك عمى البصيرة، واقرأ قوله تعالى:**{ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً \* قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ }** [طه: 125-126]. فكأن عمى البصيرة في الدنيا، يعمي بصر الإنسان، عن رؤية آيات الله في كونه، ويعميه عن الإيمان والمنهج. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير تفسير مجاهد / مجاهد بن جبر المخزومي (ت 104 هـ)
أَنا عبد الرحمن، قال: نا إِبراهيم، قال: نا آدم قال: نا ورقاءُ عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد [في قوله]: { ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [الآية: 16]. يقول: آمنوا ثم كفروا { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } [الآية: 17]. (قال: أَما) إِضاءَة النار، فإِقبالهم إِلى المؤمنين وإِلى الهدى، وأَما ذهاب (نورهم فإِقبا) لهم إِلى الكافرين وإِلى الضلالة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ)
قولُه تعالى: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }: " اللهُ " رفعٌ بالابتداء و " يَسْتَهْزىء " جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خبرِه، و " بهم " متعلقٌ به، ولا محلَّ لهذه الجملة لاستئنافِها، " وَيَمُدُّهم " في محلِّ رفع أيضاً لعطفِه على الخبر وهو يستهزىء، و " يَعْمَهُوْن " في محلِّ الحالِ مِن المفعولِ في " يَمُدُّهم " أو من الضميرِ في " طغيانهم " وجاءت الحالُ من المضافِ إليه لأنَّ المضاف مصدرٌ. و " في طغيانهم " يَحتمُل أن يتعلَّقَ بيَمُدُّهم أَو بيَعْمَهون، وقُدِّم عليه، إلا إذا جُعِل " يَعْمَهون " حالاً من الضميرِ في " طُغْيانهم " فلا يتعلَّق به حينئذ لفسادِ المعنى. وقد مَنَع أبو البقاء أن يكونَ " في طُغيانهم " و " يَعْمَهون " حالَيْن من الضميرِ في " يَمُدُّهُمْ " ، مُعَلِّلاً ذلك بأنَّ العاملَ الواحدَ لا يعملُ في حالين، وهذا على رأي مَنْ مَنَعَ مِنْ ذلك، وأمَّا مَنْ يُجيزُ تعدُّدَ الحالِ مع عدمِ تعدُّدِ صاحبِها فيُجيز ذلك؛ إلاَّ أنَّه في هذه الآية ينبغي أن يَمْنَعَ ذلك لا لِما ذكره أبو البقاء، بل لأنَّ المعنى يأبى جَعْلَ هذا الجارُّ والمجرورِ حالاً، إذ المعنى مُنْصَبٌّ على أنه متعلِّقٌ بأحدِ الفعلينِ، أعني يَمُدُّهُمْ أو يَعْمَهُونَ، لا بمحذوفٍ على أنه حالٌ. والمشهورُ فتحُ الياءِ من " يَمُدُّهم " ، وقُرئ شاذاً بِضمِّها، فقيل: الثلاثي والرباعي بِمعنى واحدٍ، تقول: مَدَّة وأَمَدَّه بكذا، وقيل: مَدَّه إذا زاده من جنسه، وأَمَدَّه إذا زادَه من غير جنسِه، وقيل: مَدَّه في الشرِّ، كقوله تعالى:**{ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً }** [مريم: 79]، وَأَمَدَّه في الخير، كقوله:**{ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ }** [نوح: 12]،**{ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ }** [الطور: 22]،**{ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ }** [آل عمران: 124]، إلا أنَّه يُعَكِّر على هذين الفرقين أنه قرئ:**{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ }** [الأعراف: 202] باللغتين، ويمكن أن يُجَاب عنه بما ذكره الفارسي في توجيهِ ضَمِّ الياء أنه بمنزلةِ قولِهِ تعالى:**{ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ }** [آل عمران: 21]**{ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ }** [الليل: 10]، يعني أبو علي ـ رحمه الله تعالى ـ بذلك أنه على سبيل التهكم. وقال الزمخشري: " فإنْ قُلْتَ: لِمَ زعمت أنه من المَدَدِ دون المَدِّ في العُمْرِ والإِملاءِ والإِمهالِ؟ قلت: كفاك دليلاً على ذلك قراءةُ ابنِ كثير وابنِ محيصن: " ويُمِدُّهم " وقراءةُ نافعِ " " وإخوانُهم يُمِدُّونهم " على أنَّ الذي بمعنى أمهله إنما هو " مَدَّ له " باللام كأَمْلى له ". والاستهزاءُ لغةً: السُّخْرِيةُ واللعبُ: يقال: هَزِئَ به، واستَهْزَأَ قال: | **199ـ قد هَزِئَتْ مني أمُّ طَيْسَلَهْ** | | **قالَتْ: أراه مُعْدِماً لا مالَ لَهْ** | | --- | --- | --- | وقيل: أصلُه الانتقامُ، وأنشدَ: | **200- قد استهْزَؤوا منا بألفَيْ مُدَجَّجٍ** | | **سَراتُهُمُ وَسْطَ الصَّحاصِحِ جُثَّمُ** | | --- | --- | --- | فعلى هذا القولِ الثاني نسبةُ الاستهزاءِ إليه تعالى على ظاهِرها، وأمَّا على القولِ الأولِ فلا بُدَّ من تأويل ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | فقيل: المعنى يُجازيهم على استهزائهم، فَسَمَّى العقوبةَ باسم الذنبِ/ ليزدوجَ الكلامُ، ومنه:**{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }** [الشورى: 40]،**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ }** [البقرة: 194]. وقال عمرو ابن كلثوم: | **201ـ ألا لا يَجْهَلَنْ أَحدٌ علينا** | | **فَنَجْهَلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا** | | --- | --- | --- | وأصلُ المَدَدِ: الزيادةُ. والطغيانُ: مصدر طَغَىٰ يَطْغَى طِغْياناً وطُغْياناً بكسر الطاء وضمِّها، ولامُ طغى قيل: ياءٌ وقيل: واو، يقال: طَغيْتُ وطغَوْتُ، وأصلُ المادة مجاوَزَةُ الحَدِّ ومنه: طَغَى الماءُ. والعَمَهُ: التردُّدُ والتحيُّرُ، وهو قريبٌ من العَمَى، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً، لأن العَمَى يُطلق على ذهاب ضوء العين وعلى الخطأ في الرأي، والعَمَهُ لا يُطلق إلا على الخطأ في الرأي، يقال: عَمِهَ يَعْمَهُ عَمَهاً وَعَمَهاناً فهو عَمِهٌ وعامِهٌ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ)
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } فيه ثلاثة أقوال: تسمية للعقوبة باسم الذنب: كقوله:**{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ }** [آل عمران: 54] وقيل: يملي لهم بدليل قوله: { وَيَمُدُّهُمْ } وقيل يفعل بهم في الآخرة ما يظهر لهم أنه استهزأ بهم كما جاء في سورة الحديد: [13]**{ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً }** الآية { وَيَمُدُّهُمْ } يزيدهم، وقيل يملي لهم، وقد ذكروا يعمهون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير غريب القرآن / زيد بن علي (ت 120 هـ)
وقولُه تعالى: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } أي يَجهَلهُمْ. { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي يُمْهِلُهُمْ. والطّغْيَانُ: الضَّلالَةُ. يَعْمَهُونَ: أَي يَتَردَّدُونَ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ)
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }؛ أي يجازيهم على استهزائهم فسمَّى الجزاءَ باسمِ الابتداءِ؛ إذ كان مثلَهُ في الصورة؛ كقولهِ تعالَى:**{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }** [الشورى: 40] فسمَّى جزاءَ السيئةِ سيئةً. وقالَ تعالى:**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ }** [البقرة: 194] والثانِي ليس باعتداءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَمُدُّهُمْ فِي } أي يُمْهِلُهُمْ ويتركهم في ضلالتِهم يتحيَّرون؛ يقال: مدَّ في الشَّرِّ؛ ويَمُدُّ في الخيرِ؛ وقال يونسُ: (الْمَدُّ التَّرْكُ؛ وَالإمْدَادُ فِي مَعْنَى الإعْطَاءِ). وقيل: مَدَّهُ وأمدَّه بمعنى واحد. وقال الأخفشُ: ( { وَيَمُدُّهُمْ } أي يَمُدُّ لَهُمْ؛ فَحَذَفَ اللاَّمَ). والطغيانُ: مجاوزة الحدِّ؛ يقال: طَغَى الماءُ إذا جاوزَ حدَّهُ؛ وقيل لفرعونَ:**{ إِنَّهُ طَغَىٰ }** [طه: 24] أي أسرفَ في الدعوى حيثُ قال:**{ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ }** [النازعات: 24]. وقرأ ابنُ محيصن: (وَيُمِدُّهُمْ) بضم الياءِ وكسرِ الميم؛ وهما لُغتان. إلا أن الْمَدَّ أكثرُ ما يجيئ في الشرِّ، قال اللهُ تعالى:**{ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً }** [مريم: 79]، والإمدادُ في الخيرِ قال اللهُ تعالى:**{ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ }** [نوح: 12]، وقالَ تعالى:**{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ }** [المؤمنون: 55]. وَقِيْلَ: معنى { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } أي يوبخهم ويغَبيهم ويُجهِّلُهم. وَقِيْلَ: معناه: الله يُظهِرُ المؤمنين على نفاقهم. وقال ابنُ عبَّاس: (هُوَ أنْ يُطْلِعَ اللهُ الْمُؤْمِنِيْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ عَلَى الْمُنَافِقِيْنَ وَهُمْ فِي النَّار، فَيَقُولُونَ لَهُمْ: أتُحِبُّونَ أنْ تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ وَيُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُواْ، فَيَأْتُونَ يَتَقَلَّبُونَ فِي النَّارِ، فَإِذَا انْتَهَواْ إلَى الْبَاب سُدَّ عَلَيْهِمْ وَرُدُّواْ إلَى النَّار؛ وَيَضْحَكُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ \* وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ \* وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ \* وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ \* وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ \* فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }** [المطففين: 29-34]. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" يُؤْمَرُ بنَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ إلَى الْجَنَّةِ حَتَّى إذَا دَنَواْ مِنْهَا وَوَجَدُواْ رَائِحَتَهَا وَنَظَرُواْ إلَى مَا أعَدَّ اللهُ لأَهْلِهَا مِنَ الْكَرَامَةِ، نُودُواْ أنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا؛ فَيَرْجِعُونَ بحَسْرَةٍ وَنَدَامَةٍ لَمْ تَرْجِعِ الْخَلاَئِقُ بِمثْلِهَا؛ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا لَوْ أدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أنْ تُرِيَنَا مَا أرَيْتَنَا كَانَ أهْوَنَ عَلَيْنَا؟ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: هَذَا الَّذِي أرَدْتُ بكُمْ؛ هِبْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي؛ أجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي؛ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ النَّاسَ بأَعْمَالِكُمْ خِلاَفَ مَا كُنْتُمْ تُرُونِي مِنْ قُلُوبكُمْ، فَالْيَوْمَ أُذِيْقُكُمْ مِنْ عَذَابي مَا حَرَمْتُكُمْ مِنْ ثَوَابي ".** فإن قِيْلَ: لِمَ أمرَ اللهُ تعالى بقتالِ الكفار المعلنين الكفرَ ولم يأمُرْ بقتالِ المنافقين وهم في الدَّرْكِ الأسفلِ من النار؛ وخالفَ بين أحكامهم وأحكامِ الكفار الْمُظْهِرِيْنَ الكفرَ وأجراهم مُجْرَى المسلمين في التوارث والأنْكِحَةِ وغيرها؟ قيل: عقوباتُ الدنيا ليست على قدر الإجرام؛ وإنَّما هي على ما يعلمُ الله من المصالح؛ ولِهذا أوجبَ رجمَ الزانِي الْمُحَصَنِ ولَم يُزِل عنهُ الرجمَ بالتوبةِ؛ والكفرُ أعظم من الزنا ولو تابَ منه قُبلت توبتهُ. وكذلك أوجبَ الله على القاذفِ بالزنا الجلدَ ولَم يوجبه على القاذفِ بالكفرِ؛ وأوجبَ على شارب الخمر الحدَّ ولَم يوجبه على شارب الدمِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ)
قوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }. معناه: الله يجازيهم على قولهم. والعرب تسمي جزاء الذنب باسمه. قال الله جل ذكره:**{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }** [الشورى: 40]. وقال:**{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ }** [البقرة: 194]. فالأول من هذا استهزاء وسيئة، وعدوان، والثاني: جزاء عليه، فسمي باسمه اتساعاً لأن المعنى قد علم. وقيل: معنى { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }: أي يقطع عنهم نورهم يوم القيامة إذا أخلوا على الصراط [ويديم نور] المؤمنين وهو قوله:**{ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ }** [الحديد: 13]، فهو يعطيهم يوم القيامة نوراً لا يتم لهم، ولا ينتفعون به / لانقطاعه عنهم. وقال الحسن: " إن جهنم تجمد كما تجمد الإهالة في القدر، فيقال لهم: هذا طريق، فيمضون فيه فيخسف بهم إلى الدرك الأسفل من النار. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: " يقال لأهل النار يوم القيامة: أخرجوا من النار. وتفتح لهم أبواب النار فإذا رأوا الأبواب قد فتحت أقبلوا إليها، يريدون الخروج منها، والمؤمنون ينظرون إليهم من الجنة - وهم على الأرائك - فإذا انتهى أهل النار إلى أبوابها يريدون الخروج منها غلقت [أبوابها دونهم]، فذلك قوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } ، قال: ويضحك المؤمنون عند ذلك، وهو قوله:**{ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }** [المطففين: 34]. وقيل: معنى: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } أي يظهر لهم من أحكامه في الدنيا في حقن دمائهم وسلامة أموالهم خلاف ما يظهر لهم من عذابه يوم القيامة جزاء على إظهارهم للمؤمنين في الدنيا خلاف ما يبطنون. وقيل: معناه: يُمْلي لهم، كما قال:**{ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ }** [القلم: 44]. / قوله: { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }. أي يطيل لهم في الأجل المكتوب لهم، وهم في طغيانهم يتحيرون. والطغيان والعتو والعلو بغير الحق، والعمه التحير. / وقيل: معنى { يَعْمَهُونَ } يركبون رؤوسهم، فلا يبصرون رشدهم كما قال:**{ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ }** [الملك: 22] وهذا كله من صفات المنافقين عند أكثر المفسرين. وقال الضحاك: " هو في اليهود ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } يسخر بهم للنقمة منهم - هكذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه الضحاك - { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } يزيدهم على وجه الإملاء، والترك لهم في عتوهم وتمردهم، كما قال تعالى:**{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }** [الأنعام: 110]. والطغيان: المراد به هنا: الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ. وأصل المادة هو المجاوزة في الشيء، كما قال تعالى:**{ إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ }** [الحاقة: 11]. والعمه مثل العمى - إلا أن العمى عامّ في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة - وهو التحير والتردد، لا يدري أين يتوجه. أي: في ضلالهم وكفرهم - الذي غمرهم دَنَسُهُ، وعلاهم رِجْسُهُ - يترددون حيارى، ضُلالاً، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً. والمشهور فتح الياء من { وَيَمُدُّهُمْ } ، وقرئ - شاذاً - بضمها، وهما بمعنى واحد. يقال: مد الجيش وأمده - إذا زاده، وألحق به ما يقوِّيه ويكثره - وكذلك مدّ الدواة وأمدها زادها ما يصلحها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
* تفسير تذكرة الاريب في تفسير الغريب/ الامام ابي الفرج ابن الجوزي (ت 597 هـ)
يستهزئ بهم اى يجازيهم على استهزائهم ويمدهم اى يملي لهم يعمهون يتحيرون | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بـالهدى، وإنـما كانوا منافقـين لـم يتقدم نفـاقهم إيـمان فـيقال فـيهم بـاعوا هداهم الذي كانوا علـيه بضلالتهم التـى استبدلوها منه؟ وقد علـمت أن معنى الشراء الـمفهوم اعتـياض شيء ببذل شيء مكانه عوضاً منه، والـمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة لـم يكونوا قط علـى هدى فـيتركوه ويعتاضوا منه كفراً ونفـاقاً؟ قـيـل: قد اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فنذكر ما قالوا فـيه، ثم نبـين الصحيح من التأويـل فـي ذلك إن شاء الله. حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَروا الضَّلالَةَ بـالهُدَى } أي الكفر بـالإيـمان. وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } يقول أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }: استـحبّوا الضلالة علـى الهدى. وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد فـي قوله: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } آمنوا ثم كفروا. وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا فـي تأويـل ذلك: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وجهوا معنى الشراء إلـى أنه أخذ الـمشتري مكان الثمن الـمشترى به، فقالوا: كذلك الـمنافق والكافر قد أخذا مكان الإيـمان الكفر، فكان ذلك منهما شراء للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضا من الضلالة التـي أخذاها. وأما الذين تأولوا أن معنى قوله: «اشتروا»: «استـحبوا»، فإنهم لـما وجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفـار فـي موضع آخر فنسبهم إلـى استـحبـابهم الكفر علـى الهدى، فقال:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصلت: 17] صرفوا قوله: { ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } إلـى ذلك وقالوا: قد تدخـل البـاء مكان «علـى»، و«علـى» مكان البـاء، كما يقال: مررت بفلان ومررت علـى فلان بـمعنى واحد، وكقول الله جل ثناؤه:**{ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ }** [آل عمران: 75] أي: علـى قنطار. فكان تأويـل الآية علـى معنى هؤلاء: أولئك الذين اختاروا الضلالة علـى الهدى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وأراهم وجهوا معنى قول الله جل ثناؤه: اشْتَروا إلـى معنى «اختاروا»، لأن العرب تقول: اشتريت كذا علـى كذا، و«اشتريته» يعنون اخترته علـيه. ومن الاشتراء قول أعشى بنـي ثعلبة: | **فقَدْ أُخْرِجُ الكاعبَ الـمُشْتَرا** | | **ةَ مِنْ خِدْرِها وأُشْيِعُ القِمَارا** | | --- | --- | --- | يعنـي بـالـمشتراة: الـمختارة. وقال ذو الرمة فـي الاشتراء بـمعنى الاختـيار: | **يَذُبُّ القَصَايا عَنْ شَراةٍ كأنَّها** | | **جماهيرُ تـحتَ الـمُدْجِنَاتِ الهَوَاضِبِ** | | --- | --- | --- | يعنـي بـالشَّراة: الـمختارة. وقال آخر فـي مثل ذلك: | **إنَّ الشَّرَاةَ رُوقَةُ الأمْوَالِ** | | **وحَزْرَةُ القَلْبِ خِيارُ الـمَالِ** | | --- | --- | --- | قال أبو جعفر: وهذا وإن كان وجها من التأويـل فلست له بـمختار، لأن الله جل ثَناؤه قال { فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ } فدل بذلك علـى أن معنى قوله { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } معنى الشراء الذي يتعارفه الناس من استبدال شيء مكان شيء وأخذ عوض علـى عوض. وأما الذين قالوا: إن القوم كانوا مؤمنـين وكفروا، فإنه لا مؤنة علـيهم لو كان الأمر علـى ما وصفوا به القوم لأن الأمر إذا كان كذلك فقد تركوا الإيـمان، واستبدلوا به الكفر عوضاً من الهدى. وذلك هو الـمعنى الـمفهوم من معانـي الشراء والبـيع، ولكن دلائل أول الآيات فـي نعوتهم إلـى آخرها دالة علـى أن القوم لـم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيـمان ولا دخـلوا فـي ملة الإسلام، أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه من لدن ابتدأ فـي نعتهم إلـى أن أتـى علـى صفتهم إنـما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم بدعواهم التصديق بنبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به، خداعاً لله ولرسوله وللـمؤمنـين عند أنفسهم واستهزاءً فـي نفوسهم بـالـمؤمنـين، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون، لقول الله جل جلاله:**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }** [البقرة: 8] ثم اقتصّ قصصهم إلـى قوله: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } فأين الدلالة علـى أنهم كانوا مؤمنـين فكفروا؟. فإن كان قائل هذه الـمقالة ظنّ أن قوله: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } هو الدلـيـل علـى أن القوم قد كانوا علـى الإيـمان فـانتقلوا عنه إلـى الكفر، فلذلك قـيـل لهم: اشتروا فإن ذلك تأويـل غير مسلـم له، إذ كان الاشتراء عند مخالفـيه قد يكون أخذ شيء بترك آخر غيره، وقد يكون بـمعنى الاختـيار وبغير ذلك من الـمعانـي. والكلـمة إذا احتـملت وجوهاً لـم يكن لأحد صرف معناها إلـى بعض وجوهها دون بعض إلا بحجة يجب التسلـيـم لها. قال أبو جعفر: والذي هو أولـى عندي بتأويـل الآية ما روينا عن ابن عبـاس وابن مسعود من تأويـلهما قوله: { ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك أن كل كافر بـالله فإنه مستبدل بـالإيـمان كفراً بـاكتسابه الكفر الذي وجد منه بدلاً من الإيـمان الذي أمر به. أَوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول فـيـمن اكتسب كفراً به مكان الإيـمان به وبرسوله:**{ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | [البقرة: 108] وذلك هو معنى الشراء، لأن كل مشترٍ شيئاً فإنـما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بدلاً منه، فكذلك الـمنافق والكافر استبدلا بـالهدى الضلالة والنفـاق، فأضلهما الله وسلبهما نور الهدى فترك جميعَهم فـي ظلـمات لا يبصرون. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ }. قال أبو جعفر: وتأويـل ذلك أن الـمنافقـين بشرائهم الضلالة بـالهدى خسروا ولـم يربحوا، لأن الرابح من التـجار الـمستبدل من سلعته الـمـملوكة علـيه بدلاً هو أنفس من سلعته أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به. فأما الـمستبدل من سلعته بدلاً دونها ودون الثمن الذي يبتاعها به فهو الـخاسر فـي تـجارته لا شك. فكذلك الكافر والـمنافق لأنهما اختارا الـحيرة والعمى علـى الرشاد والهدى والـخوف والرعب علـى الـحفظ والأمن، فـاستبدلا فـي العاجل بـالرشاد الـحيرة، وبـالهدى الضلالة، وبـالـحفظ الـخوف، وبـالأمن الرعب مع ما قد أعدّ لهما فـي الآجل من ألـيـم العقاب وشديد العذاب، فخابـا وخسرا، ذلك هو الـخسران الـمبـين. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك كان قتادة يقول. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } قد والله رأيتـموهم خرجوا من الهدى إلـى الضلالة، ومن الـجماعة إلـى الفرقة، ومن الأمن إلـى الـخوف، ومن السنة إلـى البدعة. قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله: { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } وهل التـجارة مـما تربح أو تنقص فـيقال ربحت أو وُضِعَتْ؟ قـيـل: إن وجه ذلك علـى غير ما ظننت وإنـما معنى ذلك: فما ربحوا فـي تـجارتهم لا فـيـما اشتروا ولا فـيـما شروا. ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عربـا فسلك فـي خطابه إياهم وبـيانه لهم مسلك خطاب بعضهم بعضا وبـيانهم الـمستعمل بـينهم. فلـما كان فصيحاً لديهم قول القائل لآخر: خاب سعيك، ونام لـيـلك، وخسر بـيعك، ونـحو ذلك من الكلام الذي لا يخفـى علـى سامعه ما يريد قائله خاطبهم بـالذي هو فـي منطقهم من الكلام فقال: { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } إذ كان معقولاً عندهم أن الربح إنـما هو فـي التـجارة كما النوم فـي اللـيـل، فـاكتفـى بفهم الـمخاطبـين بـمعنى ذلك عن أن يقال: فما ربحوا فـي تـجارتهم، وإن كان ذلك معناه، كما قال الشاعر: | **وَشَرُّ الـمَنايا مَيِّتٌ وَسْطَ أهْلِهِ** | | **كهُلْكِ الفَتاةِ أسْلَـم الـحَيَّ حاضِرُهْ** | | --- | --- | --- | يعنـي بذلك: وشرّ الـمنايا منـية ميت وسط أهله فـاكتفـى بفهم سامع قـيـله مراده من ذلك عن إظهار ما ترك إظهاره. وكما قال رؤبة بن العجاج: | **حارِثُ قَدْ فَرَّجْتَ عَنـي هَمِّي** | | **فَنامَ لَـيْـلِـي وَتَـجَلَّـى غَمِّي** | | --- | --- | --- | فوصف بـالنوم اللـيـل، ومعناه أنه هو الذي نام. وكما قال جرير بن الـخَطَفَـي: | **وأعْوَرَ مِن نَبَهانَ أما نَهارُهُ** | | **فأعْمَى وأمَّا لَـيْـلُهُ فَبَصِيرُ** | | --- | --- | --- | فأضاف العمى والإبصار إلـى اللـيـل والنهار، ومراده وصف النبهانـي بذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }. يعنـي بقوله جل ثناؤه: { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } ما كانوا رشداء فـي اختـيارهم الضلالة علـى الهدى، واستبدالهم الكفر بـالإيـمان، واشترائهم النفـاق بـالتصديق والإقرار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
القراءة: قرأ جميع القراء اشتروا الضلالة بضم الواو وفي الشواذ عن يحيى بن يعمر أنه كسرها تشبيهاً بواو لو في قولـه لو استطعنا وروي عن يحيى بن وثاب أنه ضم واو لو تشبيهاً بواو الجمع. الحجة: الواو في اشتروا ساكنة فإذا سقطت همزة الوصل التقت مع الساكن المبدل من لام المعرفة فالتقى ساكنان فحرك الأول منهما لالتقائهما وصار الضم أولى بها ليفصل بالضم بينها وبين واو " لو " و " أو " يدل على ذلك اتفاقهم على التحريك بالضم في نحو قولـه لتبلُونّ ولترونّ الجحيم ومصطفوّ الله للدلالة على الجمع ويدل على تقرير ذلك في هذه الواو أنهم شبهوا بها الواو التي في أول ولو فحركوها بالضم تشبيهاً بها فكما شبهوا الواو التي في أو بالتي تدل على الجمع كذلك شبهوا هذه بها فأجازوا فيها الكسر ألا ترى أنهم أجازوا الضم في لو استطعنا تشبيهاً بالتي للجمع ومثل هذا إجازتهم الجر في الضارب الرجل تشبيهاً بالحسن الوجه وإجازتهم النصب في الحسن الوجه تشبيهاً بالضارب الرجل. اللغة: حقيقة الاشتراء الاستبدال والعرب تقول لمن تمسك بشيء وترك غيره قد اشتراه وليس ثَمَّ شراء ولا بيع قال الشاعر: | **أَخَذْتُ بالجُمَّةِ رَأساً إِزْعَرَا** | | **وَبِالثَّنَايَا الواضِحَاتِ الدُّرْدُرَا** | | --- | --- | --- | | **وَبِالطَّوِيل العُمْرِ عِمراً جَيدَراً** | | **كَمَا اشْتَرى المُسْلِمُ إِذْ تَنَصرَّا** | والربح الزيادة على رأس المال ومنه: | **وَمَنْ نَجَا بِرَأْسِه فَقَدْ رَبَح** | | | | --- | --- | --- | والتجارة التعرض للربح في البيع وقولـه فما ربحت تجارتهم أي فما ربحوا في تجارتهم والعرب تقول ربح بيعك وخسر بيعك وخاب بيعك على معنى ربحت في بيعك وإنما أضافوا الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فيها. الإعراب: أولئك موضعه رفع بالابتداء وخبره الذين اشتروا الضلالة بالهدى وما حرف نفي وكان صورته صورة الفعل ويستعمل على نحوين أحدهما أن لا يدل على حدث بل يدل على زمان مجرد مثل كان زيد قائماً فإذا استعمل على هذا فلا بد له من خبر لأن الجملة غير مكتفية بنفسها فيزاد خبر حديثاً عن الاسم ويكون اسمه وخبره في الأصل مبتدأ وخبراً فيجب لذلك أن يكون خبره هو الاسم أو فيه ذكر منه كما أن في الآية الواو في موضع الرفع لأنه اسم كان ومهتدين منصوب بأنه خبره والياء فيه علامة النصب والجمع وحرف الإعراب والنون عوض من الحركة والتنوين في الواحد وكان في الأصل مهتديين سكنت الياء الاولى التي هي لام الفعل استثقالاً للحركة عليها ثم حذفت لالتقاء الساكنين وفتحت النون فرقاً بينها وبين نون التثنية والآخر من نَحْوَى كان ما هو فعل حقيقي يدل على زمان وحدث كقولـه تعالى:**{ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً }** [البقرة: 282] أي تحدث فإذا استعمل هكذا فهي جملة مستقلة لا تحتاج إلى خبر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | المعنى: أشار إلى من تقدم ذكرهم من المنافقين فقال: { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } قال ابن عباس أخذوا الضلالة وتركوا الهدى ومعناه استبدلوا الكفر بالإيمان ومتى قيل كيف قال ذلك وإنما كانوا منافقين ولم يتقدم نفاقهم إيماناً فنقول: للعلماء فيه وجوه: أحدها: أن المراد باشتروا استحبوا واختاروا لأن كل مشترٍ مختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه عن قتادة وثانيها: أنهم ولدوا على الفطرة كما جاء في الخبر فتركوا ذلك إلى الكفر فكأنهم استبدلوه به وثالثها: أنهم استبدلوا بالإيمان الذي كانوا عليه قبل البعثة كفراً لأنهم كانوا يبشرون بمحمد ويؤمنون به صلى الله عليه وسلم فلما بعث كفروا به فكأنهم استبدلوا الكفر بالإيمان عن الكلبي ومقاتل وقولـه { فما ربحت تجارتهم } أي خسروا في استبدالهم الكفر بالإيمان والعذاب بالثواب وقولـه: { وما كانوا مهتدين } أي مصيبين في تجارتهم كأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل أراد سبحانه أن ينفي عنهم الربح والهداية فإن التاجر قد يخسر ولا يربح ويكون على هدى فإن قيل كيف قال فما ربحت تجارتهم في موضع ذهبت فيه رؤوس أموالهم فالجواب أنه ذكر الضلالة والهدى فكأنه قال طلبوا الربح فلم يربحوا وهلكوا والمعنى فيه أنه ذهبت رؤوس أموالهم ويحتمل أن يكون ذكر ذلك على التقابل وهو أن الذين اشتروا الضلالة بالهدى لم يربحوا كما أن الذين اشتروا الهدى بالضلالة ربحوا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)
واعلم أن اشتراء الضلالة بالهدى اختيارها عليه واستبدالها به، فإن قيل كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى قلنا جعلوا لتمكنهم منه كأنه في أيديهم فإذا تركوه ومالوا إلى الضلالة فقد استبدلوها به، والضلالة الجور والخروج عن القصد وفقد الاهتداء، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين، أما قوله: { فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ } فالمعنى أنهم ما ربحوا في تجارتهم، وفيه سؤالان: السؤال الأول: كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها؟ الجواب: هو من الإسناد المجازي وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشتري. السؤال الثاني: هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال فما معنى ذكر الربح والتجارة وما كان ثم مبايعة على الحقيقة والجواب: هذا مما يقوي أمر المجاز ويحسنه كما قال الشاعر: | **ولما رأيت النسر عز ابن دأية** | | **وعشش في وكريه جاش له صدري** | | --- | --- | --- | لما شبه الشيب بالنسر، والشعر الفاحم بالغراب أتبعه بذكر التعشيش والوكر فكذا ههنا لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه، تمثيلاً لخسارتهم وتصويراً لحقيقته. أما قوله: { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } فالمعنى أن الذي تطلبه التجار في متصرفاتهم أمران: سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين لأن رأس مالهم هو العقل الخالي عن المانع، فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة الكسيبة مانعة من الاشتغال بطلب العقائد الحقة. وقال قتادة: انتقلوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الطاعة إلى المعصية، ومن الجماعة إلى التفرقة ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة، والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)
قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } قال سيبويه: ضُمّت الواو في «ٱشتروا» فرقاً بينها وبين الواو الأصلية نحو:**{ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ }** [الجن:16]. وقال ٱبن كَيْسان: الضمة في الواو أخف من غيرها لأنها من جنسها. وقال الزجاج: حُرّكت بالضم كما فعل في «نحن». وقرأ ٱبن أبي إسحٰق ويحيى بن يعمر بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وروى أبو زيد الأنصاري عن قَعْنَب أبي السَّمال العدويّ أنه قرأ بفتح الواو لخفة الفتحة وإن كان ما قبلها مفتوحاً. وأجاز الكسائي همز الواو وضمها كأدؤر. وٱشتروا: من الشراء. والشراء هنا مستعار. والمعنى استحبُّوا الكفر على الإيمان كما قال:**{ فآستحبوا العمى على الهدى }** [فصلت:17] فعبّر عنه بالشراء لأن الشراء إنما يكون فيما يحبه مشتريه. فأما أن يكون معنى شراء المعاوضة فلا لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعون إيمانهم. وقال ٱبن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. ومعناه ٱستبدلوا وٱختاروا الكفر على الإيمان. وإنما أخرجه بلفظ الشراء توسُّعاً لأن الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال والعرب تستعمل ذلك في كل من ٱستبدل شيئاً بشيء. قال أبو ذُؤيب: | **إن تَزْعُميني كنتُ أجهلُ فيكم** | | **فإني شَرَيتُ الحلمَ بعدِك بالجهل** | | --- | --- | --- | وأصل الضلالة: الحيرة. ويسمى النسيان ضلالة لما فيه من الحيرة قال جلّ وعزّ:**{ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ }** [الشعراء:20] أي الناسين. ويسمى الهلاك ضلالة كما قال عزّ وجلّ:**{ وَقَالُوۤاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ }** [السجدة:10] قوله تعالى: { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } أسند تعالى الربح إلى التجارة على عادة العرب في قولهم: رَبِحَ بَيْعُك، وخَسِرتْ صفقتك وقولهم: ليلٌ قائم، ونهارٌ صائم والمعنى: رَبِحتَ وخَسِرْتَ في بيعك، وقمت في ليلك وصُمت في نهارك أي فما ربحوا في تجارتهم. وقال الشاعر: | **نهارُك هائمٌ وليلُكَ نائمُ** | | **كذلك في الدنيا تَعيشُ البهائمُ** | | --- | --- | --- | ٱبن كَيسان: ويجوز تجارة وتجائر، وضلالة وضلائل. قوله تعالى: { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } في ٱشترائهم الضلالة. وقيل: في سابق علم الله. والاهتداء ضد الضلال وقد تقدّم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } اختاروها عليه واستبدلوها به، وأصله بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان، فإن كان أحد العوضين ناضاً تعين من حيث إنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمناً وبذله اشتراء، وإلا فأي العوضين تصورته بصورة الثمن فباذله مشترٍ وآخذه بائع، ولذلك عدت الكلمتان من الأضداد، ثم استعير للإعراض عما في يده محصلاً به غيره، سواء كان من المعاني أو الأعيان، ومنه قول الشاعر: | **أخذْتُ بالجُمْلةِ رأساً أَزْعَرا** | | **وبالثَّنايَا الواضِحَاتِ الدّرَرا** | | --- | --- | --- | | **وبالطَّويل العُمرِ عمراً جيذرا** | | **كما اشْتَرَى المُسْلمُ إذ تَنَصَّرا** | ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعاً في غيره، والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فُطِرَ الناسُ عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها. أو اختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى. { فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ }. ترشيح للمجاز، لَمَّا استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه ما يشاكله تمثيلاً لخسارتهم، ونحوه: | **وَلَّما رأيتُ النسرَ عزَّ بنَ دأية** | | **وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْري** | | --- | --- | --- | والتجارة: طلب الربح بالبيع والشراء. والربح: الفضل على رأس المال، ولذلك سمي شفا، وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على الاتساع لتلبسها بالفاعل، أو لمشابهتها إياه من حيث إنها سبب الربح والخسران. { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } لطرق التجارة، فإن المقصود منها سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين لأن رأس مَالِهم كان الفطرة السليمة، والعقل الصرف، فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم، واختل عقلهم ولم يبقَ لهم رأس مال يتوسلون به إلى درك الحق، ونيل الكمال، فبقوا خاسرين آيسين من الربح فاقدين للأصل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ)
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } البقرة 16 قال أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } أي الكفر بالإيمان، وقال مجاهد آمنوا ثم كفروا. وقال قتادة استحبوا الضلالة على الهدى، وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** فصلت 17 وحاصل قول المفسرين فيما تقدم أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } أي بذلوا الهدى ثمناً للضلالة، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الايمان ثم رجع عنه إلى الكفر كما قال تعالى فيهم**{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ }** المنافقون 3 أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى، كما يكون حال فريق آخر منهم، فإنهم أنواع وأقسام، ولهذا قال تعالى { فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وما كانوا مهتدين، أي راشدين في صنيعهم ذلك، وقال ابن جرير حدثنا بشير حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة { فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة بمثله سواء.قوله تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } يقال مَثَل ومِثْل ومثيل أيضاً، والجمع أمثال، قال الله تعالى**{ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَـٰلِمُونَ }** العنكبوت 43 وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى، بمن استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله، وانتفع بها، وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتأنس بها، فبينا هو كذلك، إذ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يُبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغي على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي، ثم قال والتشبيه ههنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نوراً، ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك، فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين. وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل ههنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }** البقرة 8 والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية ههنا، وهي قوله تعالى**{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ }** المنافقون 3 فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة. قال وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال**{ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِى يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوتِ }** الأحزاب 19 أي كدوران الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى**{ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَٰحِدَةٍ }** لقمان 28 وقال تعالى**{ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً }** الجمعة 5 وقال بعضهم تقدير الكلام مثل قصتهم كقصة الذين استوقدوا ناراً، وقال بعضهم المستوقد واحد لجماعة معه. وقال آخرون الذي ههنا بمعنى الذين كما قال الشاعر | **وإنَّ الذي حانَتْ بفَلْجٍ دِماؤهُمْ هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يا أُمَّ خالِدِ** | | | | --- | --- | --- | قلت وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النظام، وقوله تعالى { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } أي ذهب عنهم بما ينفعهم، وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم، وهو الإحراق والدخان { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ } وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق { لاَّ يُبْصِرُونَ } لا يهتدون إلى سبيل خير، ولا يعرفونها، وهم مع ذلك { صُمٌّ } لا يسمعون خيراً { بُكْمٌ } لا يتكلمون بما ينفعهم { عُمْىٌ } في ضلالة وعماية البصيرة كما قال تعالى**{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ }** الحج 46 فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } زعم أن ناساً دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة، فأوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله من قذى أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك، فأسلم، فعرف الحلال والحرام، والخير والشر، فبينما هو كذلك، إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية، قال أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به، وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدى، ثم نزع منهم، فعتوا بعد ذلك. وقال مجاهد { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى. وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } قال هذا مثل المنافق، يبصر أحياناً، ويعرف أحياناً، ثم يدركه عمى القلب. وقال ابن أبي حاتم وروي عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخراساني. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } قال هذا مثل المنافق يبصر أحياناً ويعرف أحياناً ثم يدركه عمى القلب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } إلى آخر الآية. قال هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً، ثم كفروا، فذهب الله بنورهم، فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون، وأما قول ابن جرير، فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } قال هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون، ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا، سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } فإنما ضوء النار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله، أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة. وقال الضحاك { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } أما نورهم، فهو إيمانهم الذي تكلموا به. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } فهي لا إله إلا الله، أضاءت لهم، فأكلوا بها وشربوا وآمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا، ذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلمات لا يبصرون. وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية إن المعنى أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكح بها المسلمين، وغازاهم بها، ووارثهم بها، وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت، سلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في عمله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } يقول في عذاب إذا ماتوا. وقال محمد بن إسحاق عن محمد ابن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ } أي يبصرون الحق، ويقولون به، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر، أطفؤوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق. وقال السدي في تفسيره بسنده { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ } فكانت الظلمة نفاقهم. وقال الحسن البصري وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السوء، فلا يجد له عملاً من خير عمل به يصدق به قوله لا إله إلا الله. { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } قال السدي بسنده صم بكم عمي فهم خرس عمي. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } يقول لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه، ولا يعقلونه. وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } قال ابن عباس أي لا يرجعون إلى هدى، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال السدي بسنده { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } إلى الإسلام. وقال قتادة فهم لا يرجعون، أي لا يتوبون، ولا هم يذكرون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
{ أُوْلَٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } أي استبدلوها به { فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمْ } أي: ما ربحوا فيها بل خَسروا لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } فيما فعلوا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ)
قال سيبويه صحت الواو في { ٱشْتَرَوُاْ } فرقاً بينها وبين الواو الأصلية في نحو**{ وألّوِ ٱسْتَقَـٰمُواْ }** الجن 16. وقال الزَّجَّاج حركت بالضم كما يفعل في نحن. وقرأ يحيى بن يَعْمُرُ بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أبو السماك العدوي بفتحها لخفة الفتحة. وأجاز الكسائي همز الواو. والشراء هنا مستعار للاستبدال أي استبدلوا الضلالة بالهدى كقوله تعالى**{ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** فصلت 17 فإما أن يكون معنى الشراء المعاوضة، كما هو أصله حقيقة فلا، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين، فيبيعوا إيمانهم، والعرب قد تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئاً بشيء. قال أبو ذؤيب | **فَإن تزعميني كُنتُ أجهَلُ فيِكمُو فَإنِي شَرِيْتُ الحِلْمَ بَعْدك بِالجَهْلِ** | | | | --- | --- | --- | وأصل الضلالة الحيرة، والجور عن القصد، وفقد الاهتداء، وتطلق على النسيان، ومنه قوله تعالى**{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالّينَ }** الشعراء 20، وعلى الهلاك كقوله**{ وَقَالُواْ أَءذَا ضَلَلْنَا فِى ٱلأرْضِ }** السجدة 10 وأصل الربح الفضل. والتجارة صناعة التاجر، وأسند الربح إليها على عادة العرب في قولهم ربح بيعك وخسرت صفقتك، وهو من الإسناد المجازي، وهو إسناد الفعل إلى ملابس للفاعل، كما هو مقرّر في علم المعاني. والمراد ربحوا وخسروا. والاهتداء قد سبق تحقيقه أي وما كانوا مهتدين في شرائهم الضلالة، وقيل في سابق علم الله. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال { ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } أي الكفر بالإيمان. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال آمنوا ثم كفروا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال استحبوا الضلالة على الهدى، قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير تفسير القرآن/ الفيروز آبادي (ت817 هـ)
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } اختاروا الكفر على الإيمان وباعوا الهدى بالضلالة. { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } لم يربحوا في تجارتهم بل خسروا { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } من الضلالة { مَثَلُهُمْ } مثل المنافقين مع محمد صلى الله عليه وسلم { كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } أوقد ناراً في ظلمة لكي يأمن بها على أهله وماله ونفسه { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } استضاءت ورأى ما حوله وأمن بها على نفسه وأهله وماله طفئت ناره فكذلك المنافقون آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام والقرآن فأمنوا به على أنفسهم وأموالهم وأهاليهم من السبي والقتل فلما ماتوا { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } بمنفعة إيمانهم { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } في شدائد القبر { لاَّ يُبْصِرُونَ } الرخاء بعد ذلك ويقال مثلهم أي مثل اليهود مع محمد صلى الله عليه وسلم كمثل رجل أقام علمًا في هزيمة فاجتمع إليه منهزمون فقلبوا علمهم فذهبت منفعتهم وأمنهم به كذلك اليهود كانوا يستنصرون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن قبل خروجه فلما خرج كفروا به فذهب الله بنورهم برغبة إيمانهم ومنفعة إيمانهم لأنهم أرادوا أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام فلم يؤمنوا وتركهم في ظلمات في ضلالة اليهودية لا يبصرون الهدى { صُمٌّ } يتصاممون { بُكْمٌ } يتباكمون { عُمْيٌ } يتعامون { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } عن كفرهم وضلالتهم { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } وهذا مثل آخر، يقول مثل المنافقين واليهود مع القرآن كصيب كمطر نزل من السماء ليلاً على قوم في مفازة { فِيهِ } في الليل { ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } كذلك القرآن نزل من الله فيه ظلمات بيان الفتن ورعد زجر وتخويف وبرق بيان وتبصرة ووعداً { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ } من صوت الرعد { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } مخافة البوائق والموت كذلك المنافقون واليهود كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق من بيان القرآن ووعده ووعيده حذر الموت مخافة ميل القلب إليه { وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَافِرِينَ } والمنافقين أي عالم بهم وجامعهم في النار { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ } النار { يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } يذهب بأبصار الكافرين كذلك البيان أراد أن يذهب بأبصار ضلالتهم { كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُمْ } البرق { مَّشَوْاْ فِيهِ } في ضوء البرق { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } بقوا في الظلمة كذلك المنافقون لما آمنوا مشوا فيما بين المؤمنين لأنهم تقبل إيمانهم فلما ماتوا بقوا في ظلمة القبر { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } بالرعد { وَأَبْصَارِهِمْ } بالبرق كذلك لو شاء الله لذهب بسمع المنافقين واليهود بزجر ما في القرآن ووعيد ما فيه وأبصارهم بالبيان { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } من ذهاب السمع والبصر { قَدِيرٌ يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ } يا أهل مكة ويقال هم اليهود { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } وحدوا ربكم { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } نسماً من النطفة { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } وخلق الذين من قبلكم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لكي تتقوا السخطة والعذاب وتطيعوا الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ)
قوله عز وجل: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } يعني اختاروا الكفر على الإيمان. وفي الآية دليل أن الشراء قد يكون بالمعنى دون اللفظ وهو المبادلة لأن الله تعالى سمى استبدالهم الضلالة بالهدى شراء، ولم يكن هنالك لفظ شراء. قوله تعالى { فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ } فقد أضاف الربح إلى التجارة على وجه المجاز. والعرب تقول: ربحت تجارة فلان، وخسرت تجارة فلان، وإنما يريدون به أنه ربح في تجارته، والله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب على ما يتعارفون فيما بينهم فلذلك قال { فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ } أي فما ربحوا في تجارتهم. قوله تعالى { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } قال بعضهم: معناه وما هم بمهتدين في الحال. كقوله تعالى:**{ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً }** [مريم: 29] أي من هو في المهد [صبي] في الحال. وقال بعضهم: معناه { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } من قبل لأنهم لو كانوا مهتدين من قبل لوفقهم الله تعالى في الحال ولكن لما لم يكونوا مهتدين من قبل خذلهم الله تعالى مجازاة لأفعالهم الخبيثة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ)
قوله عز وجل: { أُولَئِكَ الِّذِينَ اشْتَرَوا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ } الضلالة: الكفر، والهدى: الإيمان. وفي قوله: { اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ } ثلاثة أوجه: أحدها: أنه على حقيقة الشراء فكأنهم اشتروا الكفر بالإيمان. والثاني: أنه بمعنى استحبوا الكفر على الإيمان، فعبر عنه بالشراء، لأن الشراء يكون فيما يستحبه مشتريه، فإما أن يكون على معنى شراء المعاوضة فعلاً، لأن المنافقين لم يكونوا قد آمنوا، فيبيعوا إيمانهم. والثالث: أنه بمعنى أخذوا الكفر وتركوا الإيمان، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود. { فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وما كانوا مهتدين، في اشتراء الضلالة. والثاني: وما كانوا مهتدين إلى التجارة التي اهتدى إليها المؤمنون. والثالث: أنه لما كان التاجر قد لا يربح، ويكون على هدى في تجارته نفى الله عنهم الأمرين من الربح والاهتداء، مبالغة في ذمهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ)
قوله تعالى: { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى }. في نزولها ثلاثة أقوال. أحدها: أنها نزلت في جميع الكفار، قاله ابن مسعود، وابن عباس. والثاني: أنها في أهل الكتاب، قاله قتادة والسدي ومقاتل. والثالث: أنها في المنافقين، قاله مجاهد. واشتروا: بمعنى استبدلوا، والعرب تجعل من آثر شيئاً على شيء مشترياً له، وبائعاً للآخر، والضلالة والضلال بمعنى واحد. وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال. أحدها: ان المراد هاهنا الكفر، والمراد بالهدى: الإيمان، روي عن الحسن وقتادة والسدي. والثاني: أنها الشك، والهدى: اليقين. والثالث: أنها الجهل، والهدى: العلم. وفي كيفية استبدالهم الضلالة بالهدى ثلاثة أقوال. أحدها: أنهم آمنوا ثم كفروا، قاله مجاهد. والثاني: أن اليهود آمنوا بالنبي قبل مبعثه، فلما بعث كفروا به، قاله مقاتل. والثالث: أن الكفار لما بلغهم ما جاء به النبي من الهدى فردوه واختاروا الضلال، كانوا كمن أبدل شيئا بشيء، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله. قوله تعالى: { فما رَبحَتْ تِجارَتُهم }. من مجاز الكلام، لأن التجارة لا تربح، وإنما يربح فيها، ومثله قوله تعالى:**{ بل مكر الليل والنهار }** [سبأ: 33] يريد: بل مكرهم في الليل والنهار. ومثله**{ فاذا عزم الأمر }** [محمد:21] أي: عزم عليه. وأنشدوا: | **حارثُ قد فرَّجْتَ عني همي** | | **فنام ليلي وتجلى غمّي** | | --- | --- | --- | والليل لا ينام، بل ينام فيه، وإِنما يستعمل مثل هذا فيما يزول فيه الإِشكال، ويعلم مقصود قائله، فأما إذا أضيف إلى ما يصلح أن يوصف به، وأريد به ما سواه، لم يجز، مثل أن تقول: ربح عبدك، وتريد: ربحت في عبدك. وإلى هذا المعنى ذهب الفراء وابن قتيبة والزجاج. قوله تعالى: { ومَا كانوا مُهتَدين }. فيه خمسة أقوال. أحدها: وما كانوا في العلم بالله مهتدين. والثاني: وما كانوا مهتدين من الضلالة. والثالث: وما كانوا مهتدين إلى تجارة المؤمنين. والرابع: وما كانوا مهتدين في اشتراء الضلالة. والخامس: أنه قد لا يربح التاجر، ويكون على هدىً من تجارته، غير مستحق للذم فيما اعتمده، فنفى الله عز وجل عنهم الأمرين، مبالغة في ذمهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ)
{ اشْتَرَوُاْ } الكفر بالإيمان على حقيقة الشراء، أو استحبوا الكفر على الإيمان إذ المشتري محب لما يشتريه، إذ لم يكونوا قبل ذلك مؤمنين، أو أخذوا الكفر وتركوا الإيمان. { فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } في اشتراء الضلالة، أو ما اهتدوا إلى تجارة المؤمنين، أو نفى عنهم الربح والاهتداء جميعاً، لأن التاجر قد لا يربح مع أنه على هدى في تجارته، فذلك أبلغ في ذمهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ... } الإشارة بلفظ البعيد إلى القريب (للبعد) من جهة المعنى. وفسر ابن عطية الشراء بأوجه متقاربة، إنها عبارات مختلفة فالأولان في كلامه راجعان لنفس المعنى، والأخيران (لكيفية) (صدق) اللّفظ على ذلك المعنى. قال ابن عرفة: وأدخل الذين للحصر. قال أبو حيان: ودخول الفاء في خبر الموصول لا يجوز إلا إذا كان الموصول عاما. (ويشترط) أن يكون فيه معنى التعليل للخبر وعادتهم يردون عليه بقوله تعالى:**{ ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }** لأنه ليس بعام ولا (هو) علة في الخبر، إذ ليس (الخلق) علة في الهداية وإلا لزم عليه مذهب المعتزلة. قال: وهنا سؤال وهو لِمَ أثبت الضلالة دون الهدى والمناسب العكس أو كان يقال اشتروا (الضلال) بالهدى (فهو) أبلغ في الذّمّ لاقتضائه أنهم اشتروا الضلال الكثير بخلاف الضلالة الواحدة فإنها لا تفيد ذلك الذم؟ قال: والجواب بوجهين: أحدهما: أنهم إذا ذمّوا على أخذ الواحدة من الضلال (فأحرى) أن يذموا على كثيره. الثاني: أن هذا أشنع من حيث إنهم بدّلوا الهدى الكثير الشريف فأخذوا عوضه الشيء القليل من مقداره الحقير في ذاته. فإن قلت: الهدى الذين اشتروا الضلالة به لم يكن لهم بوجه؟ قلنا: إمّا أنه يعد حاصلا لأجل تمكنهم منه أو هو حاصل بالفعل لحديث: **" كل مولود يولد على الفطرة "** أو المراد المنافقون وقد حصل لهم الهدى (بالنطق) اللّساني فخالفوا بالفكر الاعتقادي (وبكفرهم) بلسانهم عند خلوّهم مع شياطينهم. قوله تعالى: { فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ... } فإن قلت: هلا قيل: فخسرت تجارتهم، فهو أصرح لأن عدم الربح لا يستلزم الخسران؟. قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأنّهم إذا ذمّوا على عدم الربح فأحرى أن يذموا على الخسران. قوله تعالى: { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } (قال ابن عطية: قيل: معناه في شرائهم هذا، وقيل معناه على الإطلاق، وقيل: في سابق علم الله). قال ابن عرفة: وتقدم لنا أن الصواب غير هذا كلّه وهو أن الخسارة في التجارة تارة تكون لأجل حوالة الأسواق برخص أو لأجل الجهل بمحاولة البيع والشراء أو لأجل الفساد وتبذير المال بإنفاقه في غير مصلحة أو فيما لا يحل، فلما أخبر عن هؤلاء بالخسارة في (تجارتهم) (بقي) أن يتوهم أنهم من القسم الأول الذين لهم عذر في الخسارة لأن ذلك أمر جبري (ليس من قبلهم ولا لهم فيه اختيار بوجه فاحترز عن ذلك بقوله: { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } حتى يتيقن أنهم من قسم من كانت خسارته في التجارة من قبل نفسه وسبب فساده وقبح تصرفه وهذا أصوب من قول الزمخشري: إذ المراد بذلك إضاعتهم رأس المال ونظره ابن عطية بمنع مالك الاشتراء على أن (يتخير) المبتاع فيما تختلف (آحاده) ويمتنع التفاضل فيه. ابن عرفة: الخيار والاختيار في آخر كتاب الخيار منع فيها أن يشتري الرجل عدد شجرة شجرة مثمرة يختاره اتّفق الجنس أو اختلف، وتدخله المفاضلة في الجنس الواحد وبيع الطعام قبل قبضه إن كان على الكيل، لأن من خير بين شيئين يعد متنقلا فيدع هذه وقد ملك اختيارها أو يأخذ هذه وبينهما فضل في الكيل، وكذلك منعه في الجنس الواحد المختلف الثمن من غير الطعام للفرد فإن اتفقت حاده أو استوت قيمته جاز الاختيار وان اختلف منع. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ)
" أولئك ": رفع بالابتداء و " الذين " وصلته خبره. وقوله تعالى: { فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ } هذه الجملة عطف على الجملة الواقعة صلة، وهي: " اشتروا ". وزعم بعضهم أنها خبر المُبْتَدَأ، وأنَّ الفاء دخلت في الخَبَرِ لما تضّمنه الموصول من معنى الشَّرْط، فيصير قوله تعالى:**{ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ }** [البقرة: 274]، ثم قال:**{ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ }** [البقرة: 274]. وهذا وهم؛ لأن " الذين " ليس مبتدأ حتى يدّعي دخول الفاء في خبره، بل هو خَبَرٌ عن " أولئك " كما تقدّم. فإن قيل: يكون الموصول مبتدأ ثانياً، فتكون الفاء دخلت في خبره. قلنا: يلزم من ذلك عدم الربط بين المبتدأ والجملة الواقعة خبراً عنه، وأيضاً فإنَّ الصّلة ماضية معنى. فإن قيل: يكون " الَّذين " بدلاً من " أولئك " فالجَوابَ يصير الموصول مخصوصاً لإبداله من مخصوص، والصّلة أيضاً ماضية. فإن قيل: " االذين " صفة لـ " أولئك " ، ويصير نظير قولك: " الرجل الذي يأتيني فله درهم ". قلنا: يرد بما رد به السؤال الثَّاني، وبأنه لا يجوز أن يكون وصفاً له؛ لأنه أعرف منه، ففسد هذا القَوْلُ. والمشهور ضمّ واو " اشتروا " لالتقاء الساكنين، وإنما ضمت تشبيهاً بتاء الفاعل. وقيل: للفرق بين واو الجَمْعِ والواو الأصلية نحو:**{ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا }** [التوبة: 42]. وقيل: لأن الضمة - هنا - أخفّ من الكسرة؛ لأنّها من جنس الواو. وقيل: حركت بحركة الياء المحذوفة، فإن الأصل: " اشتريوا " كما سيأتي. وقيل: هي للجمع فهي مثل: " نحن ". وقرىء بكسرها على أصل التقاء الساكنين، وبفتحها؛ لأنها أخف. وأجاز الكسائي همزها تشبيهاً لها بـ " أَدْؤُر " و " أَثْؤب " وهو ضعيف؛ لأن ضمها غير لازم. وقال أبو البَقَاءِ: " ومنهم من يَخْتَلِسُهَا، فيحذفها لالتقاء السَّاكنين؛ وهو ضعيف جدًّا، لأن قبلها فتحة، والفتحة لا تدلّ عليها ". وأصل اشتروا: اشتريوا: فتحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً، ثم حذفت لالتقاء السَّاكنين، وبقيت الفتحة دالّةً عليها. وقيل: بل حذفت الضَّمَّة من الياء فسكنت، فالتقى سَاكِنَانِ، فحذفت الياء لالتقائها ساكنةً مع " الواو ". فإن قيل: واو الجمع قد حركت، فينبغي أن يعود السَّاكن المحذوف؟ فالجواب: أنَّ هذه الحركة عارضةٌ فهي في حكم السَّاكن، ولم يجىء ذلك إلاَّ في ضرورة الشعر؛ وأنشد الكِسَائيُّ: | **215- يَا صَيَاحِ لَمْ تَنَامِ العَشِيَّا** | | **.......................................** | | --- | --- | --- | فأعاد الألف لما حركت الميم حركةً عارضةً. و " الضَّلالة " مفعولة، وهي: الجور عن القَصْدِ، وفقد الاهتداء، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين. و " بالهدى " متعلّق بـ " اشتروا " والباء هنا للعوض، وهي تدخل على المتروك أبداً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | فأما قوله تعالى:**{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَٰوةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ }** [النساء: 74]، فإنَّ ظاهره أن الآخرة هي المأخوذةُ لا المتروكة. فالجواب ما قاله الزَّمَخْشَرِيّ: " أن المراد بـ " المشترين " المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النِّفَاق، ويخلصوا الإيمان بالله - تعالى - ورسوله، ويجاهدوا في الله حَقّ الجهاد، فحينئذ دخلت " الباء " على المتروك ". والشِّراء - هاهنا - مَجَاز عن الاستبدال بمعنى أنهم لما تركوا الهدى، وآثروا الضلالة، جُعِلُوا بمنزلة المُشْترين لها بالهُدَى، ثم رشح هذا المجاز بقوله تعالى: { فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ } فأسند الرِّبْحَ إلى التِّجَارة، والمعنى: فما ربحوا في تِجَارتهم؛ ونظير هذا التَّرْشيح قول الآخر: [الطويل]. | **216- بَكَى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ** | | **وَعَجَّتْ عَجِيجاً مِنْ جُذَامَ المَطَارِفُ** | | --- | --- | --- | لما أسند البكاء إلى الخَزّ من أجل هذا الرجل - وهو رَوْح - وإنكاره لجلده مجازاً رَشّحه بقوله: " وَعَجّت المَطَارف من جُذَام " أي: استغاثت الثياب من هذه القبيلة. وقول الآخر: [الطويل]. | **217- وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنُ دَايةٍ** | | **وَعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْرِي** | | --- | --- | --- | لما جعل " النَّسْرَ " عبارة عن الشَّيب، و " ابن داية " وهو الغُرَاب عبارة عن الشباب، مجازاً رَشّحه بذكر التعشُّش في الوَكْرِ، وقول الآخر: [الوافر]. | **218- فَمَا أُمُّ الرُّدَيْنِ وَإنْ أَدَلَّتْ** | | **بِعَالِمَةٍ بأَخلاَقِ الكِرَامِ** | | --- | --- | --- | | **إِذَا الشَّيْطانُ قَصَّعَ في قَفَاهَا** | | **تَنَفَّقْنَاهُ بِالحَبْلِ التُّؤَامِ** | لما قال: " قَصّع في قفاها " أي: دخل من القاصعاء، وهي: جُحر من جِحَرَة اليَرْبُوعِ هنا لما ذكر سبحانه الشَّر، أتبعه بما يُشَاكله، وهو الربح تمثيلاً لخسارتهم. والربح: الزيادة على رأس المال. وقوله: { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } هذه الجملة معطوفةٌ على قوله: { فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ }. والمهتدي: اسم فاعل من اهتدى، و " افتعل " هنا للمُطَاوعة، ولا يكون " افتعل " للمطاوعة إلا من فعل متعدٍّ. وزعم بعضهم أنه يجيء من اللاَّزم، واستدل على ذلك بقول الشاعر: [الزجر]. | **219- حَتَّى إذَا اشْتَالَ سُهَيْلٌ في السَّحَرْ** | | **كَشُعْلَةِ القَابِسِ تَرْمِي بالشَّرَرْ** | | --- | --- | --- | قال: فـ " اشْتَال " افتعل لمُطَاوعة " شال " ، وهو لازم، وهذا وهم؛ لأن " افتعل " هنا ليس للمُطَاوعة، بل بمعنى " فَعَل " المجرد. ومعنى الآية أنهم ما كانوا مهتدين من الضلالة، وقيل: مُصِيبين في تِجَارتهم؛ لأنّ المقصود من التِّجَارة سلامةُ رأس المال، والربح، وهؤلاء أضاعوا الأمرين؛ لأنّ رأس مالهم هو العَقْل الخالي عن المانع، فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة مانعةً من الاشتغال بطلب العقائد الحقة. فهؤلاء مع أنهم لم يربحوا فقد أفسدوا رأس المال، وهو العقل الهادي إلى العقائد الحقّة. وقال قتادة: " انتقلوا من الهُدَى إلى الضَّلالة، ومن الطاعة إلى المعصية، ومن الجَمَاعة إلى الفُرْقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السُّنّة إلى البِدْعَةِ ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ)
أخرج ابن اسحق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } قال: الكفر بالإِيمان. واخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { اشتروا الضلالة بالهدى } قال: أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } قال: آمنوا ثم كفروا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } قال: استحبوا الضلال على الهدى { فما ربحت تجارتهم } قال: قد والله رأيتهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ)
{ أُوْلَـٰئِكَ } إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميِّزة لهم عمن عداهم أكملَ تميـيز، بحيث صاروا كأنهم حُضّارٌ مشاهِدون على ما هم عليه، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء الحال، ومحلُه الرفعُ على الابتداء، خبرُه قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } والجملة مَسوقةٌ لتقرير ما قبلها وبـيانٌ لكمال جهالتِهم فيما حُكيَ عنهم من الأقوال والأفعال بإظهار غايةِ سماجتها، وتصويرِها بصورةِ ما لا يكاد يتعاطاه مَنْ له أدنى تميـيزٍ فضلاً عن العقلاء. والضلالةُ الجَوْرُ عن القصد، والهدىٰ التوجهُ إليه، وقد استعير الأول للعدول عن الصواب في الدين، والثاني للاستقامة عليه، والاشتراء استبدال السلعة بالثمن، أي أخذُها به لا بذلُه لتحصيلها كما قيل، وإن كان مستلزِماً له، فإن المعتبرَ في عقد الشراء ومفهومِه هو الجلبُ دون السلب الذي هو المعتبرُ في عقد البـيع، ثم استعير لأخذ شيءٍ بإعطاء ما في يده عيناً كان كلٌّ منهما أو معنى، لا للإعراض عما في يده محصَّلاً به غيرُه كما قيل، وإن استلزمه لما مر سرُّه، ومنه قوله: [الرجز] | **أخذت بالجُمّة رأسا أزعرا** | | **وبالثنايا الواضحاتِ الدردرا** | | --- | --- | --- | | **وبالطويل العُمْرِ عُمْرا جيدرا** | | **كما اشترىٰ المسلمُ إذ تنصَّرا** | فاشتراءُ الضلالة بالهدى مستعارٌ لأخذها بدلاً منه أخذاً منوطاً بالرغبة فيها والإعراض عنه، ولمّا اقتضىٰ ذلك أن يكون ما يجري مَجرىٰ الثمن حاصلاً للكفرة قبل العقد وما يجري مَجرىٰ المبـيعِ غيرَ حاصلٍ لهم إذ ذاك حسبما هو في البـيت، ولا ريب في أنهم بمعزل من الهدى، مستمرون على الضلالة استدعى الحالُ تحقيقَ ما جرى مَجرى العِوضَيْن، فنقول وبالله التوفيق: ليس المرادُ بما تعلق به الاشتراءُ ههنا جنسَ الضلالة الشاملةِ لجميع أصناف الكفرة، حتى تكون حاصلةً لهم من قبل، بل هو فردُها الكاملُ الخاصُّ بهؤلاء، على أن اللام للعهد، وهو عَمَهُهم المقرونُ بالمد في الطغيان، المترتبُ على ما حُكي عنهم من القبائح. وذلك إنما يحصُل لهم عند اليأس عن اهتدائهم والختم على قلوبهم، وكذا ليس المرادُ بما في حيز الثمن نفسَ الهدى بل هو التمكنُ التام منه بتعاضد الأسباب، وتأخذ المقدماتُ المستتبِعةُ له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامعِ المشاركة في استتباعِ الجدوى، ولا مرية في أن هذه المرتبة من التمكن كانت حاصلةً لهم بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزاتِ القاهرةِ من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وبما سمعوه من نصائحِ المؤمنين التي من جُملتِها ما حكي من النهي عن الإفساد في الأرض، والأمرُ بالإيمان الصحيح، وقد نبذوها وراء ظهورهم، وأخذوا بدلها الضلالة الهائلةَ التي هي العمهُ في تيه الطغيان، وحملُ الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أَنَّ إضاعتَها غيرُ مختصة بهؤلاء، ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم على القلوب المختصة بهم فليس في إضاعتها فقط من الشناعة ما في إضاعتها مع ما يؤيدها من المؤيدات العقليةِ والنقلية، على أن ذلك يُفضي إلى كون ذكر ما فُصّل من أول السورة الكريمة إلى هنا ضائعاً، وأبعدُ منه حملُ اشتراء الضلالة بالهدى على مجرد اختيارها عليه من غير اعتبار كونه في أيديهم، بناءً على أنه يستعمل اتساعاً في إيثار أحدِ الشيئين الكائنين في شرَف الوقوع على الآخر، فإنه مع خلوِّه عن المزايا المذكورة بالمرة مُخِلٌّ برونق الترشيح الآتي، هذا على تقدير جعل الاشتراءِ المذكور عبارةً عن معاملتهم السابقة المحكية وهو الأنسبُ بتجاوب أطرافِ النظم الكريم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وأما إذا جُعل ترجمةً عن جناية أخرى من جناياتهم فالمراد بالهدى ما كانوا عليه من معرفة صحةِ نبوةِ النبـي صلى الله عليه وسلم وحقِّيةِ دينه، بما كانوا يشاهدونه من نعوته عليه الصلاة والسلام في التوراة وقد كانوا على يقين منه حتى كانوا يستفتحون به على المشركين ويقولون اللهم انصرنا بالنبـي المبعوثِ في آخر الزمان الذي نجد نعتَه في التوراة، ويقولون لهم قد أظل زمانُ نبـيٍّ يخرُجُ بتصديق ما قلنا فنقتلُكم معه قتلَ عاد وإِرَم، فلما جاءهم ما عَرَفوا كفروا به كما سيأتي ولا مَساغَ لحملِ الهدى على ما كانوا يُظهرونه عند لقاء المؤمنين فإنها ضلالة مضاعفة. { فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ } عطفٌ على الصلة داخلٌ في حيزها والفاء للدلالة على ترتب مضمونِه عليها، والتجارةُ صناعة التجار، وهو التصدي للبـيع والشراءِ لتحصيل الربح، وهو الفضلُ على رأس المال، يقال: ربِحَ فلان في تجارته أي استشفّ فيها وأصاب الربح، وإسناد عدمِه الذي هو عبارةٌ عن الخسران إليها، وهو لأربابها - بناءً على التوسع المبني على ما بـينهما من الملابسة، وفائدتُه المبالغةُ في تخسيرهم لما فيه من الإشعار بكثرة الخَسار وعمومِه المستتبع لسرايته إلى ما يُلابِسُهم، وإيرادُهما إثرَ الاشتراء المستعار للاستبدال المذكور ترشيحٌ للاستعارة، وتصويرٌ لما فاتهم من فوائدِ الهدى بصورة خسارةِ التجارة الذي يَتحاشىٰ عنه كلُّ أحد للإشباع في التخسير والتحسين، ولا ينافي ذلك أن التجارة في نفسها استعارةٌ لانهماكهم فيما هم عليه من إيثار الضلالة على الهدى وتمرّنُهم عليه معرفةٌ عن كون ذلك صناعةً لهم راسخة، إذ ليس من ضروريات الترشيح أن يكون باقياً على الحقيقة، تابعاً للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتُها، كما في قولك: رأيت أسداً وافيَ البراثن، فإنك لا تريد به إلا زيادة تصويرٍ للشجاع، وأنه أسد كاملٌ من غير أن تريد بلفظ البراثن معنىً آخرَ، بل قد يكون مستعاراً من ملائم المستعارِ منه لملائم المستعار له ومع ذلك يكون ترشيحاً لأصل الاستعارة كما في قوله: [الطويل] | **فلما رأيتُ النَّسرَ عَزَّ ابنَ دأْية** | | **وعششَّ في وَكْرَيه جاش له صدري** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | فإن لفظ الوَكرين - مع كونه مستعاراً من معناه الحقيقي - الذي هو موضعٌ يتخذه الطائر للتفريخ - للرأس واللحية أو للفَوْدين أعني جانبـي الرأس - ترشيحٌ باعتبار معناه الأصلي، لاستعارة لفظِ النسر للشيب، ولفظ ابن دأية للشعر الأسود، وكذا لفظُ التعشيش مع كونه مستعاراً للحلول والنزول المستمِرَّين ترشيحٌ لتينك الاستعارتين بالاعتبار المذكور، وقرىء تجاراتُهم، وتعدُّدها لتعدد المضاف إليهم { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أي إلى طرق التجارة، فإن المقصود منها سلامةُ رأس المال مع حصول الربح، ولئن فات الربح في صفقة فربما يُتدارَك في صفقة أخرى لبقاء الأصل، وأما إتلافُ الكل بالمرة فليس من باب التجارة قطعاً فهؤلاء الذين كان رأسُ مالهم الهدى قد استبدلوا بها الضلالة فأضاعوا كلتا الطِّلْبتين، فبقُوا خائبـين خاسرين نائين عن طريق التجارة بألف منزلٍ، فالجملة راجعة إلى الترشيح معطوفةٌ على ما قبلها مشاركةٌ له في الترتب على الاشتراء المذكور والأَوْلى عطفُها على اشتروا الخ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
الإشارة منها أن من بقي عن الحقوق بالبقاء في أوطان الحظوظ خسرت صفقتهم، وما ربحت تجارتهم. والذي رضي بالدنيا عن العقبى لفي خسران ظاهر. ومن آثر الدنيا أو العقبى على الحق تعالى لأشد خسرانا. وإذا كان المصاب بفوات النعيم مغبونا فالذي مُنِيَ بالبعاد عن المناجاة وانحاز بقلبه عن مولاه، وبقي في أسْرِ الشهوات، لا إلى قلبه رسول، ولا لروحه وصول، ولا معه مناجاة، ولا عليه إقبال، ولا في سرّه شهود - فهذا هو الْمُصَابُ والْمُمْتَحَن. وإن من فاته وقت فقد فاته ربه، فالأوقات لا خَلَفَ عنها ولا بَدَلَ منها، ولقد قال بعضهم: | **كنتَ السوادَ لمقلتي** | | **فبكى عليك الناظر** | | --- | --- | --- | | **من شاء بعدك فليمت** | | **فعليك كنت أحاذر** | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ)
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } لما احتجبوا عن رؤية حقيقة مشاهدة الاحوال ولم ينالوا عزة معانىِ القربة آثَروا حظوظهم على ما اوتُوا من الكرامات الظاهرة حين باعوها بلذائذ الشهوة وهذه صفة ابليس وبلعام وبَرْصيصا وامثالِهم من اهل الخدَاع وقال ابن عطاء القناعة بالحرص والاقبال على الله بالميل الى الدنيا { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } ما ربحَ من يُبَدّلُ بى سواى { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } في سابق علمي فَلأَجل ذلك مَالُوا عَنى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ أولئك } المنافقون المتصفون بما ذكر من الصفات الشنيعة المميزة لهم عمن عداهم اكمل تمييز بحيث صاروا كأنهم حضار مشاهدون على ما هم عيله وما فيه من معنى البعد للايذان ببعد منزلتهم فى الشر وسوء الحال ومحله الرفع على الابتداء وخبره قوله { الذين اشتروا الضلالة بالهدى } اصل الاشتراء بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الاشياء ثم استعير للاعراض عما فى يده محصلا به غيره ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشئ طمعا فى غيره وهو ههنا عبارة عن معاملتهم السابقة المحكية واشتروا الضلالة وهى الكفر والعدول عن الحق والصواب بالهدى وهو الايمان والسلوك فى الطريق المستقيم والاستقامة عليه مستعار لاخذها بدل منه اخذا متصفا بالرغبة فيها والاعراض عنه اى اختاروها عليه واستبدولها به واخذوها مكانه وجعل الهدى كأنه فى ايديهم لتمكنهم منه وهو الاستعداد به فبميلهم الى الضلالة عطلوه وتركوه. والباء تصحب المتورك فى باب المعاوضة وهذا دليل على ان الحكم يثبت بالتعاطى من غير تكلم بالايجاب والقبول فان هؤلاء سموا مشترين بترك الهدى واخذ الضلال من غير التكلم بهذه المبادلة كما فى التيسير { فما ربحت تجارتهم } ترشيح للمجاز اى ما ربحوا فيها فان الربح مسند الى ارباب التجارة فى الحقيقة فاسناده الى التجارة نفسها على الاتساع لتلبسها بالفاعل او لمشابهتها اياه من حيث انها سبب الربح والخسران ودخلت الفاء لتضمن الكلام معنى الشرط تقديره واذا اشتروا فما ربحوا كما فى الكواشى والتجارة صناعة التجار وهو التصدى بالبيع والشراء لتحصيل الربح وهو الفضل على رأس المال { وما كانوا مهتدين } اى الى طريق التجارة فان المقصد منها سلامة رأس المال مع حصول الربح ولئن فات الربح فى صفقة فربما يتدارك فى صفقة اخرى لبقاء الاصل واما اتلاف الكل بالمرة فليس من باب التجارة قطعا وهؤلاء قد اضاعوا الطلبتين لان رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم واختل عقلهم ولم يبق لهم رأس مال يتوسلون به الى درك الحق ونيل الكمال فبقوا خاسرين آيسين من الربح فاقدين الاصل نائين عن طريق التجارة بالف منزل. واعلم ان المهتدى هو الذى ترك الدنيا والعادة ثم اشتغل بوظائف الطاعة والعبادة لا من اتبع كل ما يهواه وخلط هواه بهداه – حكى – انه كان للشيخ الاستاذ ابى على الدقاق رضى الله عنه مريد تاجر متمول فمرض يوما فعاده الشيخ وسأل منه سبب علته فقال التاجر قمت هذه الليلة لمصلحة التهجد فلما اردت الوضوء بدالى من ظهرى حرارة فاشتد امرى حتى صرت محموما فقال الشيخ لا تفعل فعلاً فضوليا ولا ينفعك التهجد ما دمت لم تهجر دنياك وتخرج محبتها من قلبك فاللائق لك اولا هوذا ثم الاشتغال بوظائف النوافل فمن كان به اذى من رأسه من صداع لا يسكن ألمه بالطلاء على الرجل ومن تنجست يده لا يجد الطهارة بغسل ذيله وكمه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | قال بعض المشايخ من علامة اتباع الهوى المسارعة الى نوافل الخيرات والتكاسل عن القيام بحقوق الواجبات وهذا غالب فى الخلق الا من عصمه الله ترى الواحد منهم يقوم بالاوراد الكثيرة والنوافل العديدة الثقيلة ولا يقوم بفرض واحد على وجهه \* فعلى العاقل تحصيل رأس المال ثم تحصيل الربح المترتب عليه وذلك بالاختيار لا بالاضطرار وقد اوجب الله على العباد وجود طاعته لما علم من قلة نهوضهم الى معاملته اذ ليس لهم ما يردهم اليه بلا علة وهذا حال اكثر الخلق بخلاف اهل المروءة والصفاء. قال فى المثنوى | **اختيار آمد عبادت رانمك ورنه ميكردد بناخواه اين فلك كردس اورا نه اجرونه عقاب كاختيار آمد هنر وقت حساب ائتيا كرها مهار عاقلان ائتيا طوعا مهار بيدلان اين محب دايه ليك از بهر شير وان دكر دل داده بهر آن ستر** | | | | --- | --- | --- | فاوجب الله عليك وجود طاعته وما اوجب عليك بالحقيقة الا دخول جنته اذا لامر آيل اليها والاسباب عديمة فان تعللت النفس عن التشمير بما هى عليه من الاستغراق فى كل دنى وحقير فاعلم ان من استغرب ان ينقذه الله من شهوته التى اعتقلته عن الخيرات وان يخرجه من وجود غفلته التى شملته فى جميع الحالات فقد استعجز القدرة الالهية وقد قال الله تعالى**{ وكان الله على كل شيء مقتدرا }** الكهف 45. فابان سبحانه ان قدرته شاملة صالحة لكل شئ وهذا من الاشياء وان اردت الاستعانة على تقوية رجائك فى ذلك فانظر لحال من كان مثلك ثم انقذه الله وخصه بعنايته كابراهيم بن ادهم وفضيل بن عياض وابن المبارك وذى النون المصرى ومالك بن دينار وغيرهم من مجرمى البداية كذا فى شرح الحكم العطائية قال الحافظ قدس سره | **عاشق كه شد كه يار بحالش نظرنكرد اى خواجه درد نسيت وكرنه طبيب هست** | | | | --- | --- | --- | قال القاشانى فى تأويل الآية الهدى النور الثانى فى قوله تعالى**{ نور على نور }** النور 35. وهو النور الفطرى الازلى المراد من قول المحققين هو الاستعداد من فيضه الاقدس والضلالة ظلمة النشأة الحاجبة له بسلوك طريق المطالب الطبيعية الفاسدة والمقاصد الهيولانية الفاسقة بهوى النفس وتتبع خطوات الشيطان والربح هو النور الاول المقدس الكمالى المكتسب بالتوجه الى الحق والاتصال بعالم القدس والانقطاع والتبتل الى الله من الغير والتبرى بحوله وقوته من كل حول وقوة حتى يخلص روح المشاهدة من اعباء المكابدة بطلوع الوجه الباقى واحراق سبحاته كل ما فى بقعة الامكان من الرسم الفانى وخسرانهم باضاعة الامرين هو الحجاب الكلى عن الحق بالرين كما قال تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون }** المطففين 14-15. وفى التأويلات النجميةالاشارة فى الآية ان من نتيجة طغيانهم وعمههم ان رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وأشربوا فى قلوبهم الضلالة وتمكنت فكانت هذه الحال من نتيجة معاملتهم فلهذا اضاف الفعل اليهم وقال { اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } وانما قال بلفظ الاشتراء لانهم اخرجوا استعداد قبول الهداية عن قدرتهم وتصرفهم فلا يملكون الرجوع اليه { فما ربحت تجارتهم } لان خسران من رضى بالدنيا من العقبى ظاهر ومن آثر الدنيا والعقبى على المولى فهو اشد خسرانا واعظم حرمانا فاذا كان المصاب بفوات النعيم ممتحنا بنار الجحيم فما ظنك بالمصاب بفقد المطلوب وبعد المحبوب ضاعت منه الاوقات وبقى فى أسر الشهوات لا الى قلبه رسول ولا لروحه وصول لا من الحبيب اليه وفود ولا لسره معه شهود فهذا هو المصاب الحقيقى { وما كانوا مهتدين } لابطالهم حسن استعداد قبول الهداية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |