text
stringlengths
3
39.1k
resource_name
stringclasses
8 values
verses_keys
stringlengths
3
77
القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وبشّر، يا محمد، الصابرين الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمنّي, فيُقرون بعبوديتي, ويوحِّدونني بالربوبية, &; 3-222 &; ويصدقون بالمعاد والرجوع إليّ فيستسلمون لقضائي, ويرجون ثَوابي، ويخافون عقابي, ويقولون -عند امتحاني إياهم ببعض مِحَني, وابتلائي إياهم بما وعدتهم أنْ أبتليهم به من الخوف والجوع ونَقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي أنا مُمتحنهم بها-: إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياءً، ونحن عبيده وإنا إليه بعد مَماتنا صائرون = تسليمًا لقضائي ورضًا بأحكامي.
الطبري
2:156
قوله تعالى : الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعونفيه ست مسائل :الأولى : قوله تعالى : مصيبة المصيبة : كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه ، يقال : أصابه إصابة ومصابة ومصابا . والمصيبة واحدة المصائب . والمصوبة ( بضم الصاد ) مثل المصيبة . [ ص: 164 ] وأجمعت العرب على همز المصائب ، وأصله الواو ، كأنهم شبهوا الأصلي بالزائد ، ويجمع على مصاوب ، وهو الأصل . والمصاب الإصابة ، قال الشاعر :أسليم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلموصاب السهم القرطاس يصيب صيبا ، لغة في أصابه . والمصيبة : النكبة ينكبها الإنسان وإن صغرت ، وتستعمل في الشر ، روى عكرمة أن مصباح رسول الله صلى الله عليه وسلم انطفأ ذات ليلة فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون فقيل : أمصيبة هي يا رسول الله ؟ قال : نعم كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة .قلت : هذا ثابت معناه في الصحيح ، خرج مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته .الثانية : خرج ابن ماجه في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن هشام بن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب .الثالثة : من أعظم المصائب المصيبة في الدين ، ذكر أبو عمر عن الفريابي قال حدثنا فطر بن خليفة حدثنا عطاء بن أبي رباح قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها من أعظم المصائب . أخرجه السمرقندي أبو محمد في مسنده ، أخبرنا أبو نعيم قال : أنبأنا فطر . . . ، فذكر مثله سواء . وأسند مثله عن مكحول مرسلا . قال أبو عمر : وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة ، انقطع الوحي وماتت النبوة . وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك ، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه . قال أبو سعيد : ما نفضنا أيدينا من التراب من قبر [ ص: 165 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا . ولقد أحسن أبو العتاهية في نظمه معنى هذا الحديث حيث يقول :اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلدأوما ترى أن المصائب جمة وترى المنية للعباد بمرصدمن لم يصب ممن ترى بمصيبة ؟ هذا سبيل لست فيه بأوحدفإذا ذكرت محمدا ومصابه فاذكر مصابك بالنبي محمدالرابعة : قوله تعالى : قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب ، وعصمة للممتحنين : لما جمعت من المعاني المباركة ، فإن قوله : إنا لله توحيد وإقرار بالعبودية والملك . وقوله : وإنا إليه راجعون إقرار بالهلك ، على أنفسنا والبعث من قبورنا ، واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له . قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى : لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا ، ولو عرفها يعقوب لما قال : يا أسفى على يوسف .الخامسة : قال أبو سنان : دفنت ابني سنانا وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر ، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأنشطني وقال : ألا أبشرك يا أبا سنان حدثني الضحاك عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته أقبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول أقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول فماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد . وروى مسلم عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها . فهذا تنبيه على قوله تعالى : وبشر الصابرين إما بالخلف كما أخلف الله لأم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه تزوجها لما مات أبو سلمة زوجها . وإما بالثواب الجزيل ، كما في حديث أبي موسى ، وقد يكون بهما .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:156
فالصابرين, هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة, والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ } وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره. { قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ } أي: مملوكون لله, مدبرون تحت أمره وتصريفه, فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها, فقد تصرف أرحم الراحمين, بمماليكه وأموالهم, فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد, علمه, بأن وقوع البلية من المالك الحكيم, الذي أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك, الرضا عن الله, والشكر له على تدبيره, لما هو خير لعبده, وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله, فإنا إليه راجعون يوم المعاد, فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورا عنده، وإن جزعنا وسخطنا, لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله, وراجع إليه, من أقوى أسباب الصبر.
Arabic Saddi Tafseer
2:156
{الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله} عبيداً وملكاً.{وإنا إليه راجعون} في الآخرة.أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا محاضر بن المورع أخبرنا سعد بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح أخبرنا مولى أم سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مصيبة تصيب عبداً فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها"، قالت أم سلمة: "لما توفي أبو سلمة عزم الله لي فقلت: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم".وقال سعيد بن جبير: "ما أعطي أحد في المصيبة ما أعطي هذه الأمة يعني الاسترجاع ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام ألا تسمع لقوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام {يا أسفى على يوسف}[84-يوسف]".
Arabic Baghawy Tafseer
2:156
لهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال" أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة" أي ثناء من الله عليهم قال سعيد بن جبير: أي أمنة من العذاب "وأولئك هم المهتدون" قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نعم العدلان ونعمت العلاوة "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة" فهذان العدلان "وأولئك هم المهتدون" فهذه العلاوة وهي ما توضع بين العدلين وهي زيادة في الحمل فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضا. وقد ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول "إنا لله وأنا إليه راجعون" عند المصائب أحاديث كثيرة فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا يونس بن محمد حدثنا ليث يعني ابن سعد عن يزيد بن عبدالله حدثنا أسامة بن الهاد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به قال: "لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا فعل ذلك به" قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت اللهم أجرني فى مصيبتي وأخلف لي خيرا منها ثم رجعت إلى نفسي فقلت من أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما أنقضت عدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهابا لي فغسلت يدي من القرظ وأذنت له فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها فخطبني إلى نفسي فلما فرغ من مقالته قلت يا رسول الله ما بي أن لا يكون بك الرغبة ولكني امرأة في غيرة شديدة فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به وأنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال فقال "أما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عز وجل عنك وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي" قالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم سلمة بعد: أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحيح مسلم عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول "إنا لله وإنا إليه راجعون" اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لى خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها" قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد وعباد بن عباد قالا حدثنا هشام بن أبي هشام حدثنا عباد بن زياد عن أمه عن فاطمة ابنة الحسين عن أبيها الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها - وقال عباد قدم عهدها - فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب" ورواه ابن ماجه في سننه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها وقد رواه إسماعيل بن علية ويزيد بن هرون عن هشام بن زياد عن أبيه "كذا" عن فاطمة عن أبيها وقال الإمام أحمد أنا يحيى بن إسحاق السيلحيني أنا حماد بن سلمة عن أبي سنان قال: دفنت ابنا لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة يعني الخولاني فأخرجني وقال لي: ألا أبشرك قلت بلى قال: حدثني الضحاك بن عبدالرحمن بن عازب عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله: يا ملك الموت قبضت ولد عبدي; قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال نعم قال فما قال؟ قال: حمدك واسترجع قال: ابنو له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد" ثم رواه عن علي بن إسحاق عن عبدالله بن المبارك فذكره وهكذا رواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به وقال حسن غريب واسم أبي سنان عيسى بن سنان.
ابن كثير
2:157
أولئك الصابرون لهم ثناء من ربهم ورحمة عظيمة منه سبحانه، وأولئك هم المهتدون إلى الرشاد.
المیسر
2:157
والإتيان باسم الإشارة في قوله : { أولئك عليهم صلوات من ربهم } للتنبيه على أن المشار إليه هو ذلك الموصوف بجميع الصفات السابقة على اسم الإشارة ، وأن الحكم الذي يرد بعد اسم الإشارة مترتب على تلك الأوصاف مثل : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] وهذا بيان لجزاء صبرهم .والصلوات هنا مجاز في التزكيات والمغفرات ولذلك عطفت عليها الرحمة التي هي من معاني الصلاة مجازاً في مثل قوله تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } [ الأحزاب : 56 ] .وحقيقة الصلاة في كلام العرب أنها أقوال تنبىء عن محبة الخير لأحد ، ولذلك كان أشهر معانيها هو الدعاء وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } [ البقرة : 3 ] ولأجل ذلك كان إسناد هذا الفعل لمن لا يُطلب الخير إلاّ منه متعيناً للمجاز في لازم المعنى وهو حصول الخير ، فكانت الصلاة إذا أسندت إلى الله أو أضيفت إليه دالةً على الرحمة وإيصال ما به النفع من رحمة أو مغفرة أو تزكية .وقوله : { وأولئك هم المهتدون } بيان لفضيلة صفتهم إذا اهتدوا لِمَا هو حقُّ كل عبْد عارف فلم تزعجهم المصائب ولم تكن لهم حاجباً عن التحقق في مقام الصبر ، لعلمهم أن الحياة لا تخلو من الأكدار ، وأما الذين لم يهتدوا فهم يجعلون المصائب سبباً في اعتراضهم على الله أو كفرهم به أو قول ما لا يليق أو شكهم في صحة ما هم عليه من الإسلام ، يقولون لو كان هذا هو الدين المرضيَّ للَّه لما لَحِقَنا عذاب ومصيبة ، وهذا شأن أهل الضلال الذين حذَّرنا الله أمْرَهم بقوله : { وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] وقال في المنافقين : { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } [ النساء : 78 ] ، والقول الفصل أن جزاء الأعمال يظهر في الآخرة ، وأما مصائب الدنيا فمسببة عن أسباب دنيوية ، تعرض لعروض سببها ، وقد يجعل الله سبب المصيبة عقوبة لعبده في الدنيا على سوء أدب أو نحوه للتخفيف عنه من عذاب الآخرة ، وقد تكون لرفع درجات النفس ، ولها أحوال ودقائق لا يعلمها إلاّ الله تعالى وقد يطلع عليها العبد إذا راقب نفسه وحاسبها ، ولله تعالى في الحالين لُطف ونكاية يظهر أثر أحدهما للعارفين .
Arabic Tanweer Tafseer
2:157
ثم بين - سبحانه - ما أعده للصابرين من أجر جزيل فقال : ( أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون ) .( أولئك ) اسم إشارة أتى به - سبحانه - للتنبيه على أن المشار إليه هم الموصوفون بجميع الصفات السابقة على اسم الإِشارة ، وأن الحكم الذي ورد بعد مترتب على هذه الأوصاف .و ( صَلَوَاتٌ ) جمع صلاة . وصلاة الله على عباده إقباله عليهم . بالثناء والعطف والمغفرة . وجمعت مراعاة لكثرة ما يترتب عليها من أنواع الخيرات في الدنيا والآخرة .( وَرَحْمَةٌ ) - كما هو مذهب السلف - صفة قائمة بذانه - تعالى - لا نعرف حقيقتها وإنما نعرف أثرها الذي هو الإِحسان .وعطف - سبحانه - الرحمة على الصلوات ليدل على أن بعد ذلك الإِقبال منه على عباده إنعاماً واسعاً ، وعطاء جزيلاً في الدنيا والآخرة .وجاءت الرحمة مفردة على أصل المصادر وهو الإِفراد ، والمقام في الآية يذهب بذهن السامع إلى كثرة الإِنعام المترتب على الصبر الجميل .والجملة ( أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) استثنافية جواب عن سؤال تقديره : بماذا بشر الله الصابرين؟ فكان الجواب : أولئك عليهم صلوات . . . إلخ .والمعنى : أولئك الصابرون المحتسبون الموصوفون بتلك الصفات الكريمة ، عليهم مغفرة عظيمة من خالقهم ، وإحسان منه - سبحانه - يشملهم في دنياهم وآخرتهم ( وأولئك هُمُ المهتدون ) لطريق الصواب بالتسليم وقت صدمة المصيبة دون غيرهم ممن جزعوا عند صدمتها ، حتى صدر عنهم ما لم يأذن به الله .هذا ، وفي فضل الصبر والصابرين وردت آيات كثيرة ، وأحاديث متعددة أما الآيات فيزيد عددها في القرآن على سبعين آية منها قوله - تعالى - ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ ) وقوله ( وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) وقوله : ( أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ ) وقوله : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) إلى غير ذلك من الآيات .وأما الأحاديث فمنها ما جاء في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون . اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها "قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت : من خير من أبي سلمة : صاحب رسول الله؟ ثم عزم الله لي فقلتها : قالت : فتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم .ومنها ما رواه الإِمام أحمد بسنده عن أبي سنان قال : دفنت ابنا لي . وإني لفي القبر أخذ بيدي أبو طلحة " يعني الخولاني " فأخرجني وقال : ألا أبشرك؟ قال قلت : بلى . قال : حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عوزب عن أبي موسى الأشعري قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله - تعالى - : يا ملك الموت ، قبضت ولد عبدي ، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال : نعم . قال فماذا قال؟ قال حمدك واسترجع . قال الله - تعالى - : ابنوا لي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد " .ومنها ما رواه الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه " .إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي وردت في ثواب الاسترجاع وفي أجر الصابرين وفضلهم .
Arabic Waseet Tafseer
2:157
القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " أولئك "، هؤلاء الصابرون، الذين وصفهم ونَعتهم -" عليهم ", يعني: لَهم،" صلوات "، يعني: مغفرة." وصلوات الله " على عباده، غُفرانه لعباده, كالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:2328-" اللهم صَلِّ على آل أبي أوْفى ". (12)* * *يعني: اغفر لَهم. وقد بينا " الصلاة " وما أصلها في غير هذا الموضع. (13)وقوله: " ورحمة "، يعني: ولهُم مع المغفرة، التي بها صَفح عن ذنوبهم وتغمَّدها، رحمة من الله ورأفة.ثم أخبر تعالى ذكره -مع الذي ذكر أنه مُعطيهم على اصطبارهم على محنه، تسليمًا منهم لقضائه، من المغفرة والرحمة- أنهم هم المهتدون، المصيبون طريق الحقّ، والقائلون مَا يُرْضى عنهم والفاعلون ما استوجبوا به من الله الجزيل من الثواب.وقد بينا معنى " الاهتداء "، فيما مضى، فإنه بمعنى الرشد للصواب. (14)* * *وبمعنى ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:2329- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: " الذين إذا أصابتهم مُصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه رَاجعون أولئكَ عليهم صَلوات من ربهم وَرحمة وأولئك هم المهتدون " قال، أخبر الله أنّ المؤمن إذا سَلّم الأمرَ إلى الله، ورَجع واسترْجع عند المصيبة, كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاةُ من الله, والرحمة, وتحقيق سَبيل الهدى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن استرْجع عند المصيبة، جبر الله مُصيبته, وأحسن عُقباه, وَجعل له خَلفًا صالحًا يرضاه. (15)2330- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: " أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمة "، يقول: الصلوات والرحمة على الذين صبروا واسترجعوا.2331- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان العُصفُريّ, عن سعيد بن جبير قال: مَا أعطِيَ أحدٌ ما أعطيت هذه الأمة: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ، ولو أعطيها أحدٌ لأعطيها يعقوب عليه السلام, ألم تسمعْ إلى قوله: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ [سورة يوسف: 84]. (16)-----------------------الهوامش :(12) الحديث : 2328- هو جزء من حديث صحيح . رواه البخاري 3 : 286 (من الفتح) . ومسلم 1 : 297- كلاهما من طريق شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال ، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم صل عليهم ، فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته ، فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى" .قال الحافظ : "يريد أبا أوفى نفسه ، لأن الآل يطلق على ذات الشيء . . . وقيل لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر" .وهذه فائدة نفيسة ، من الحافظ ابن حجر ، رحمه الله .(13) انظر ما سلف 1 : 242 / ثم 2 : 505 / ثم 2 : 37 ، 213 ، 214 .(14) انظر ما سلف 1 : 166-170 ، 230 ، 249 ، 549-551 / ثم 2 : 211/ ثم هذا الجزء 3 : 101 ، 140 ، 141 .(15) الحديث : 2329- ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2 : 330-331 ، وقال : "رواه الطبراني في الكبير ، وفيه علي بن أبي طلحة ، وهو ضعيف" .وذكره السيوطي في الدر المنثور 1 : 156 ، وزاد نسبته لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان .وعلي بن أبي طلحة : سبق في : 1833 أنه ثقة ، وأن علة هذا الإسناد -وهو كثير الدوران في تفسير الطبري- : انقطاعه ، لأن ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس ، ولم يره .(16) الخبر : 2331- سفيان العصفري : هو سفيان بن زياد العصفري ، وهو ثقة ، وثقه ابن معين ، وأبو حاتم ، وأبو زرعة . مترجم في التهذيب 4 : 111 ، برقم : 198 . وابن أبي حاتم 2/1/221 ، برقم : 966 . والكبير للبخاري 2/2/93 ، برقم : 2076 ، لكن لم يذكر نسبته"العصفري" . وهو يشتبه على كثير من العلماء بآخر ، هو"سفيان بن دينار ، أبو الورقاء الأحمري" . فقد ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/220-221 ، برقم : 695 ، وثبت في بعض نسخه زيادة"العصفري" في نسبته . والبخاري ترجم"الأحمري" 2/2/92 ، برقم : 2073 . ولم يذكر فيه"العصفري" أيضًا . وترجم في التهذيب 4 : 109 ، برقم : 193- مع شيء من التخليط في الترجمتين ، يظهر بالتأمل . ومع هذا التخليط فقد رجح الحافظ أنهما اثنان ، وقال في ترجمة"سفيان بن دينار"- : "والتحقيق فيه : أن سفيان بن دينار التمار هذا ، يقال له : العصفري ، أيضًا ، وأن سفيان بن زياد العصفري : آخر ، بينه الباحي" . وقال في ترجمة الآخر : "والصحيح أنهما اثنان ، كما قال ابن معين وغيره" . وأيا ما كان فالاثنان قتان .
الطبري
2:157
السادسة : قوله تعالى : أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة هذه نعم من الله عز [ ص: 166 ] وجل على الصابرين المسترجعين . وصلاة الله على عبده : عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة . وقال الزجاج : الصلاة من الله عز وجل الغفران والثناء الحسن . ومن هذا الصلاة على الميت إنما هو الثناء عليه والدعاء له ، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا وإشباعا للمعنى ، كما قال : من البينات والهدى ، وقوله أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم . وقال الشاعر :صلى على يحيى وأشياعه رب كريم وشفيع مطاعوقيل : أراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة . وفي البخاري وقال عمر رضي الله عنه : نعم العدلان ونعم العلاوة : الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون . أراد بالعدلين الصلاة والرحمة ، وبالعلاوة الاهتداء . قيل : إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر ، وقيل : إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:157
{ أُولَئِكَ } الموصوفون بالصبر المذكور { عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ } أي: ثناء وتنويه بحالهم { وَرَحْمَةٌ } عظيمة، ومن رحمته إياهم, أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } الذين عرفوا الحق, وهو في هذا الموضع, علمهم بأنهم لله, وأنهم إليه راجعون, وعملوا به وهو هنا صبرهم لله. ودلت هذه الآية, على أن من لم يصبر, فله ضد ما لهم, فحصل له الذم من الله, والعقوبة, والضلال والخسار، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين, وأعظم عناء الجازعين، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها, لتخف وتسهل, إذا وقعت، وبيان ما تقابل به, إذا وقعت, وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر, وما للصابر من الأجر، ويعلم حال غير الصابر, بضد حال الصابر. وأن هذا الابتلاء والامتحان, سنة الله التي قد خلت, ولن تجد لسنة الله تبديلا، وبيان أنواع المصائب.
Arabic Saddi Tafseer
2:157
{أولئك} أهل هذه الصفة.{عليهم صلوات من ربهم ورحمة} صلوات: أي رحمة فإن الصلاة من الله الرحمة، ورحمة: ذكرها الله تأكيداً وجميع الصلوات، أي: رحمة بعد رحمة.{وأولئك هم المهتدون} إلى الاسترجاع، وقيل إلى الحق والصواب، وقيل إلى الجنة والثواب، قال عمر رضي الله عنه: "نعم العدلان ونعمت العلاوة، فالعدلان الصلاة والرحمة، والعلاوة الهداية".وقد وردت أخبار في ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين منها ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه قال: سمعت أبا الحباب سعيد بن يسار يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيراً يصب منه".أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن محمد أخبرنا عبد الملك بن عمرو أخبرنا زهير بن محمد عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه".أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أنا محمد بن عبيد أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: ادع الله لي أن يشفيني قال: "إن شئت دعوت الله أن يشفيك وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك" قالت: بل أصبر ولا حساب علي".أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو سعيد خلف بن عبد الرحمن بن أبي نزار أخبرنا أبو منصور العباس بن الفضل النضروي أخبرنا أحمد بن نجدة أخبرنا يحيى بن عبد الحميد الحماني أخبرنا حماد بن زيد عن عاصم هو ابن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن سعد قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشد الناس بلاءً قال: الأنبياء والأمثل فالأمثل يبتلي الله الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا ابتلي على قدر ذلك وإن كان في دينه رقة هون عليه فما يزال كذلك حتى يمشي على الأرض وما له من ذنب".أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن عظم الجزاء عند الله مع عظم البلاء فإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط".أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا حاجب ابن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن يحيى أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة".أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد عبد الله بن بشران أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تستحصد".أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أبي إسحق عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجب للمؤمن إن أصابه خير حمد الله وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر، فالمؤمن يؤجر في كل أمره حتى يؤجر في اللقمة يرفعها إلى في امرأته".
Arabic Baghawy Tafseer
2:157
قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي أحبرنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة قال: قلت أرأيت قول الله تعالى "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" قلت فوالله ما على أحد جناح أن لا يتطوف بهما فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أولتها عليه كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ولكنها إنما أنزلت إن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل; وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله عز وجل "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" قالت عائشة: ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما أخرجاه في الصحيحين وفي رواية عن الزهري أنه قال فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام فقال إن هذا العلم ما كنت سمعته ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون إن الناس - إلا من ذكرت عائشة - كانوا يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية وقال آخرون من الأنصار إنما أمرك بالطواف بالبيت ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة فأنزل الله تعالى "إن الصفا والمروة من شعائر الله" قال أبو بكر بن عبدالرحمن فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء ورواه البخاري من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحو ما تقدم ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنسا عن الصفا والمروة؟ قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل "إن الصفا والمروة من شعائر الله" وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس قال: كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله وكانت بينهما آلهة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطواف بينهما فنزلت هذه الآية وقال الشعبي: كان إساف على الصفا وكانت نائلة على المروة وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية "قلت" ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن إسافا ونائلة كانا بشرين فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس فلما طال عهدهما عبدا ثم حولا إلى الصفا والمروة فنصبا هنالك فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة: حيث ينيخ الأشعرون ركابهـم لمفضى السيول من أساف ونائل وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه ثم خرج من باب الصفا وهو يقول "إن الصفا والمروة من شعائر الله" ثم قال "ابدأ بما بدأ الله به" وفي رواية النسائي "ابدءوا بما بدأ الله به" وقال الإمام أحمد حدثنا شريح حدثنا عبدالله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجزئة قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" ثم رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول "كتب عليكم السعي فاسعوا" وقد استدل بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك وقيل إنه واجب وليس بركن فإن تركه عمدا وسهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة وقيل بل مستحب وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين وروي عن أنس وبن عمر وابن عباس وحكي عن مالك في "العتبية" قال القرطبي واحتجوا بقوله تعالى "فمن تطوع خيرا" والقول الأول أرجح لأنه عليه السلام طاف بينهما وقال "لتأخذوا عني مناسككم" فكل ما فعله في حجته تلك واجب لابد من فعله في الحج إلا ما خرج بدليل والله أعلم وقد تقدم قوله عليه السلام "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" فقد بين الله تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة فى طلب الماء لولدها لما نفد ماؤهما وزادهما حين تركهما إبراهيم عليه السلام هنالك وليس عندهما أحد من الناس فلما خافت على ولدها الضيعة هنالك ونفد ما عندهما قامت تطلب الغوث من الله عز وجل فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله عز وجل حتى كشف الله كربتها وآنس غربتها وفرج شدتها وأنبع لها زمزم التي ماؤها "طعام طعم وشفاء سقم" فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه وأن يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب وأن يهديه إلى الصراط المستقيم وأن يثبته عليه إلى مماته وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة كما فعل بهاجر عليها السلام. وقوله "فمن تطوع خيرا" قيل زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة ونحو ذلك وقيل يطوف بينهما في حجة تطوع أو عمرة تطوع وقيل المراد تطوع خيرا في سائر العبادات حكى ذلك الرازى وعزى الثالث إلى الحسن البصري والله أعلم وقوله "فإن الله شاكر عليم" أي يثيب على القليل بالكثير عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه "لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما".
ابن كثير
2:158
إن الصفا والمروة- وهما جبلان صغيران قرب الكعبة من جهة الشرق- من معالم دين الله الظاهرة التي تعبَّد الله عباده بالسعي بينهما. فمَن قصد الكعبة حاجًّا أو معتمرًا، فلا إثم عليه ولا حرج في أن يسعى بينهما، بل يجب عليه ذلك، ومن فعل الطاعات طواعية من نفسه مخلصًا بها لله تعالى، فإن الله تعالى شاكر يثيب على القليل بالكثير، عليم بأعمال عباده فلا يضعها، ولا يبخس أحدًا مثقال ذرة.
المیسر
2:158
هذا كلام وقع معترضاً بين محاجة أهل الكتاب والمشركين في أمر القبلة ، نزل هذا بسبب تردد واضطراب بين المسلمين في أمر السعي بين الصفا والمروة وذلك عام حجة الوداع ، كما جاء في حديث عائشة الآتي ، فهذه الآية نزلت بعد الآيات التي قبلها وبعد الآيات التي نقرؤها بعدَها ، لأن الحج لم يكن قد فُرِض ، وهي من الآيات التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاقها ببعض السُّوَر التي نزلت قبل نزولها بمدة ، والمناسبةُ بينها وبين ما قبلها هو أن العدول عن السعي بين الصفا والمروة يشبه فعل من عبر عنهم بالسفهاء من القبلة وإنكار العدول عن استقبال بيت المقدس ، فموقع هذه الآية بعد إلحاقها بهذا المكان موقعُ الاعتراض في أثناء الاعتراض ، فقد كان السعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج من زمن إبراهيم عليه السلام تذكيراً بنعمة الله على هاجر وابنها إسماعيل إذ أنقذه الله من العطش كما في حديث البخاري في كتاب بدء الخلق عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هاجر أم إسماعيل لما تركها إبراهيم بموضع مكة ومعها ابنها وهو رضيع وترك لها جِراباً من تمر وسِقاءً فيه ماء ، فلما نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظُر إليه يَتَلَوَّى فانطلقتْ كراهيةَ أن تنظُرَ إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً فهبطت من الصفا وأتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس فقال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سَعَى الناسُ بينهما ، فسَمِعَت صوتاً فقالت في نفسها صه ثم تسمَّعَتْ فسَمِعَتْ أيضاً فقالت قد أَسْمَعْتَ إن كان عندَكَ غُواث ، فإذا هي بالمَلك عند موضع زمزم فبحثَ بعقبه حتى ظهر الماء فشربت وأرضعَتْ ولَدَها» ، فيحتمل أن إبراهيم سَعَى بين الصفا والمروة تذكُّراً لشكر النعمة وأمَرَ به إسماعيل ، ويحتمل أن إسماعيل ألحقهُ بأفعال الحج ، أو أن من جاء من أبنائه فَعَل ذلك فتقرر في الشعائر عند قريش لا محالة .وقد كان حوالي الكعبة في الجاهلية حجران كانا من جملة الأصنام التي جاء بها عَمْرو ابن لُحَيَ إلى مكة فعبدها العرب إحداهما يسمى إِسَافاً والآخر يُسمى نَائِلَةَ ، كان أحدهما موضوعاً قرب جدارِ الكعبة والآخر موضوعاً قرب زمزم ، ثم نقلوا الذي قرب الكعبة إلى جهة زمزم ، وكان العرب يذبحون لهما ، فلما جَدَّد عبد المطلب احتفار زمزم بعد أن دثَرَتْها جُرْهُمُ حين خروجِهم من مكة وبنَى سقاية زمزم نقل ذينك الصنمين فوضع إِسافاً على الصفا ونائلةَ على المروة ، وجعل المشركون بعد ذلك أصناماً صغيرة وتماثيل بين الجبلين في طريق المسعى ، فتوهم العرب الذين جاءوا من بعد ذلك أن السعي بين الصفا والمروة طواف بالصنمين ، وكانت الأوس والخزرج وغسان يعبدون مناة وهو صنم بالمُشَلَّللِ قُرْب قُدَيْد فكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تحرجاً من أن يطوفوا بغير صنمهم ، في البخاري فيما علَّقه عن معمر إلى عائشة قالت «كان رجال من الأنصار مِمَّن كان يُهل لمناة قالوا يا نبيء الله كُنا لا نطوف بين الصفا والمروة «تعظيماً لمناة» .فلما فتحت مكة وأزيلت الأصنام وأبيح الطواف بالبيت وحج المسلمون مع أبي بكر وسعت قريش بين الصفا والمروة تحرج الأنصار من السعي بين الصفا والمروة وسأل جمع منهم النبي صلى الله عليه وسلم هل علينا من حرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله هذه الآية .وقد روى مالك رحمهُ الله في «الموطأ» عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال قلت لعائشة وأنا يومئذٍ حديث السن أرأيتتِ قولَ الله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } ، فما على الرجُل شيء أن لا يَطَّوَّف بهما فقالت عائشة كَلاَّ لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، إنما أنزلت هاته الآية في الأنصار كانوا يُهلون لمناة وكانت مناةُ حذوَ قُديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله : { إن الصفا والمروة } » الآية .وفي البخاري عن أنس كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكْنا عنهما فأنزل الله { إن الصفا والمروة } ، وفيه كلام معمر المتقدم أنهم كانوا في الجاهلية لا يطوفون بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة .فتأكيد الجملة بإنَّ لأن المخاطبين مترددون في كونهما من شعائر الله وهم أَمْيَلُ إلى اعتقاد أن السعي بينهما من أحوال الجاهلية ، وفي «أسباب النزول» للواحدي أن سؤالهم كان عام حجة الوداع ، وبذلك كله يظهر أن هذه الآية نزلت بعد نزول آية تحويل القبلة بسنين فوضعها في هذا الموضع لمراعاة المناسبة مع الآيات الواردة في اضطراب الفرق في أمر القبلة والمناسك .والصفا والمروة اسمان لجُبَيْلَين متقابلين فأما الصفا فهو رأس نهاية جبل أبي قبيس ، وأما المَرْوَة فرأس هو منتهى جبلُ قعَيقِعَان . وسُمي الصفا لأن حجارته من الصَّفا وهو الحجر الأملس الصُّلْب ، وسميت المَروةُ مَروةً لأن حجارها من المَرْو وهي الحجارة البيضاء اللينة التي توري النار ويذبح بها لأن شَذْرها يخرج قطعاً محددة الأطراف وهي تضرب بحجارة من الصفا فتتشقق قال أبو ذؤيب: ... حتى كأنِّي للحَوَادِث مَرْوَةبِصَفَا المُشقَّرِ ( ) كلَّ يوم تفرع ... وكأن الله تعالى لطف بأهل بمكة فجعل لهم جبلاً من المروة للانتفاع به في اقتداحهم وفي ذبائحهم ، وجعل قبالته الصفا للانتفاع به في بنائهم .والصفا والمروة بقرب المسجد الحرام وبينهما مسافة سبعمائة وسبعين ذراعاً وطريق السعي بينهما يمر حذو جدار المسجد الحرام ، والصفا قريب من باب يسمى باب الصفا من أبواب المسجد الحرام ويصعد الساعي إلى الصفا والمروة بمثل المدرجة .والشعائر جمع شعيرة بفتح الشين وشعارة بكسر الشين بمعنى العلامة مشتق من شعر إذا علم وفطن ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة أي معلم بها ومنه قولهم أشعر البعير إذا جعل له سمة في سنامه بأنه معد للهدي . فالشعائر ما جعل علامة على أداء عمل من عمل الحج والعمرة وهي المواضع المعظمة مثل المواقيت التي يقع عندها الإحرام ، ومنها الكعبة والمسجد الحرام والمقام والصفا والمروة وعرفة والمشعر الحرام بمزدلفة ومنى والجمار .ومعنى وصف الصفا والمروة بأنهما من شعائر الله أن الله جعلهما علامتين على مكان عبادة كتسمية مواقيت الحج مواقيت فوصفهما بذلك تصريح بأن السعي بينهما عبادة إذ لا تتعلق بهما عبادة جعلا علامة عليها غير السعي بينهما ، وإضافتهما إلى الله لأنهما علامتان على عبادته أو لأنه جعلهما كذلك .وقوله : { فمن حج البيت } تفريع على كونهما من شعائر الله ، وأن السعي بينهما في الحج والعمرة من المناسك فلا يريبه ما حصل فيهما من صُنع الجاهلية لأن الشيء المقدس لا يزيل تقديسه ما يحف به من سيء العوارض ، ولذلك نبه بقوله { فلا جناح } على نفي ما اختلج في نفوسهم بعد الإسلام كما في حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها .والجناح بضم الجيم الإثم مشتق من جنح إذا مال لأن الإثم يميل به المرء عن طريق الخير ، فاعتبروا فيه المَيل عن الخير عكس اعتبارهم في حنف أنه ميل عن الشر إلى الخير .والحج اسم في اللغة للقصد وفي العرف غلب على قصد البيت الحرام الذي بمكة لعبادة الله تعالى فيه بالطواف والوقوف بعرفة والإحراممِ ولذلك صار بالإطلاق حقيقة عرفية في هذا المعنى جِنْساً بالغلبة كالعَلَم بالغلبة ولذلك قال في «الكشاف» «وهما ( أي الحج والعُمرة ) في المعاني كالنجْم والبيت في الذَّوات» ، فلا يحتاج إلى ذكر مضاف إليه إلاّ في مقام الاعتناء بالتنصيص ولذلك ورد في القرآن مقطوعاً عن الإضافة نحو { الحجُّ أَشْهُرٌ معلومات } إلى قوله : { ولا جدال في الحج } [ البقرة : 197 ] ، وورد مضافاً في قوله : { ولله على الناس حج البيت } [ آل عمران : 97 ] لأنه مقام ابتداء تشريع فهو مقام بيان وإطناب . وفِعْل حَج بمعنى قصد لم ينقطع عن الإطلاق على القصد في كلام العرب فلذلك كان ذكر المفعول لزيادة البيان . وأما صحة قولك حج فلان وقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب عليكم الحج فحُجُّوا " بدون ذكر المفعول فذلك حذفٌ للتعويل على القرينة فغلبة إطلاق الفعل على قصد البيت أقل من غلبة إطلاق اسم الحج على ذلك القصد .والعمرة اسم لزيارة البيت الحرام في غير وقت الحج أو في وقته بدون حضور عرفة فالعمرة بالنسبة إلى الحج مثل صلاة الفذ بالنسبة لصلاة الجماعة ، وهي بصيغة الاسم علم الغلبة على زيارة الكعبة ، وفعلُها غلب على تلك الزيارة تبعاً لغلبة الاسم فساواه فيها ولذلك لم يذكر المفعول هنا ولم يسمع . والغلبة على كل حال لا تمنع من الإطلاق الآخر نادراً .ونفي الجناح عن الذي يطوف بين الصفا والمروة لا يدل على أكثر من كونه غير منهي عنه فيصدق بالمباح والمندوب ، والواجب والرُّكننِ ، لأن المأذون فيه يصدق بجميع المذكورات فيُحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر ولذلك قالت عائشة لعروة «لو كان كما تقول لقال فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما» ، قال ابن العربي في «أحكام القرآن» إن قول القائل لا جناج عليك أن تفعل إباحة للفعل وقوله لا جناح عليك أن لا تفعل إباحة لترك الفعل فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف ولا فيه دليل عليه وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان تحرج منه في الجاهلية أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصداً للأصنام التي كانت فيه اه .ومراده أَنَّ لا جناح عليك أن تفعل نص في نفي الإثم عن الفاعل وهو صادق بالإباحة والندب والوجوب فهو في واحد منها مجمل ، بخلاف لا جناح عليك أن لا تفعل فهو نص في نفي الإثم التالي وهو صادق بحرمة الفعل وكراهيته فهو في أحدهما مجمل ، نعم إن التصدي للإِخبار بنفي الإثم عن فاعل شيء يبدو منه أن ذلك الفعل مظنة لأن يكون ممنوعاً هذا عرف استعمال الكلام فقولك لا جناح عليك في فعل كذا ظاهر في الإباحة بمعنى استواء الوجهين دون الندب والوجوب إذ لا يعمد أحد إلى واجب أو فرض أو مندوب فيقول فيه إنه لا جناح عليكم في فعله ، فمن أجْل ذلك فهم عروة بن الزبير من الآية عدم فرضية السعي ، ولقد أصاب فهماً من حيث استعمال اللغة لأنه من أهل اللسان ، غير أن هنا سبباً دعا للتعبير بنفي الإثم عن الساعي وهو ظن كثير من المسلمين أن في ذلك إثماً ، فصار الداعي لنفي الإثم عن الساعي هو مقابلة الظن بما يدل على نقيضه مع العلم بانتفاء احتمال قصد الإباحة بمعنى استواء الطرفين بما هو معلوم من أوامر الشريعة اللاحقة بنزول الآية أو السابقة لها ، ولهذا قال عروة فيما رواه " وأنا يومئذٍ حديثُ السن " يريد أنه لا علم له بالسنن وأسبابا النزول ، وليس مراده من حداثة سنه جهلَه باللغة لأن اللغة يستوي في إدراك مفاداتها الحديث والكبير ، ولهذا أيضاً قالت له عائشة «بئسما قلتَ يا ابنَ أختي» تريد ذَم كلامه من جهة ما أداه إليه من سوء فهم مقصد القرآن لو دام على فهمه ذلك ، على عادتهم في الصراحة في قول الحق ، فصار ظاهر الآية بحسب المتعارف مؤولاً بمعرفة سبب التصدي لنفي الإثم عن الطائف بين الصفا والمروة .فالجناح المنفي في الآية جُناح عَرَض للسعي بين الصفا والمروة في وقت نصب إساف ونائلةَ عليهما وليس لذات السعي ، فلما زال سببه زال الجناح كما في قوله تعالى : { فلا جناح عليهما أن يُصلحا بينهما صلحاً والصلح خير } [ النساء : 128 ] فنفى الجناح عن التصالح وأثبت له أنه خير فالجناح المنفي عن الصلح ما عَرَض قبله من أسباب النشوز والإعراضضِ ، ومثله قوله : { فمن خاف من موس جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه } [ البقرة : 182 ] مع أن الإصلاح بينهم مرغب فيه وإنما المراد لا إثم عليه فيما نقصَ من حق أحد الجانبين وهو إثم عارض .والآية تدل على وجوب السعي بين الصفا والمروة بالإخبار عنهما بأنهما من شعائر الله فلأجل هذا اختلفت المذاهب في حكم السعي فذهب مالك رحمه الله في أَشْهَر الروايتين عنه إلى أنه فرض من أركان الحج وهو قول الشافعي وأحمد والجمهور ، ووجهه أنه من أفعال الحج وقد اهتم به النبي صلى الله عليه وسلم وبادر إليه كما في حديث «الصحيحين» و«الموطأ» فلما تردد فعله بين السنية والفرضية قال مالك بأنه فرض قضاء لحق الاحتياط ولأنه فعل بسائر البدن من خصائص الحج ليس له مثيل مفروض فيُقاس على الوقوف وطواف الإفاضة والإحراممِ ، بخلاف ركعتي الطواف فإنهما فعل ليس من خصائص الحج لأنه صلاة ، وبخلاف ترك لبس المخيط فإنه تَرْك ، وبخلاف رَمي الجمار فإنه فعل بعضو وهو اليد . وقولي ليس له مثيل مفروض لإخراج طواف القودم فإنه وإن كان فعلاً بجميع البدن إلا أنه به مثيل مفروض وهو الإفاضة فأغنى عن جعله فرضاً ، ولقوله في الحديث : " اسْعَوْا فإن الله كتب عليكم السعي " والأمرُ ظاهر في الوجوب ، والأصل أن الفرض والواجب مترادفان عندنا في الحج ، فالواجب دون الفرض لكن الوجوب الذي هو مدلول الأمر مساوٍ للفرض .وذهب أبو حنيفة إلى أنه واجب ينجبر بالنسك واحتج الحنفية لذلك بأنه لم يثبت بدليل قطعي في الدلالة فلا يكون فرضاً بل واجباً لأن الآية قطعية المتن فقط والحديث ظني فيهما ، والجواب أن مجموع الظواهر من القول والفعل يدل على الفرضية وإلاّ فالوقوف بعرفة لا دليل على فرضيته وكذلك الإحرام فمتى يثبت هذا النوع المسمى عندهم بالفرض؟ وذهب جماعة من السلف إلى أنه سنة .وقوله : { ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم } تذييل لما أفادته الآية من الحث على السعي بين الصفا والمروة بمفاد قوله : { من شعائر الله } ، والمقصد من هذا التذييل الإتيان بحكم كلي في أفعال الخيرات كلها من فرائض ونوافل أو نوافل فقط فليس المقصود من { خيراً } خصوص السعي لأن خيراً نكرة في سياق الشرط فهي عامة ولهذا عطفت الجملة بالواو دون الفاء لئلا يكون الخير قاصراً على الطواف بين الصفا والمروة بخلاف قوله تعالى في آية الصيام في قوله :{ وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خيرٌ له } [ البقرة : 184 ] لأنه أريد هنالك بيان أن الصوم مع وجود الرخصة في الفطر أفضلُ من تركه أو أن الزيادة على إطعام مسكين أفضل من الاقتصار عليه كما سيأتي .وتطوَّع يطلق بمعنى فعل طاعة وتكلفها ، ويطلق مطاوعَ طوَّعه أي جعله مطيعاً فيدل على معنى التبرع غالباً لأن التبرع زائد في الطاعة . وعلى الوجهين فانتصاب { خيراً } على نزع الخافض أي تطوع بخير أو بتضمين { تطوع } معنى فَعَل أو أتى . ولما كانت الجملة تذييلاً فليس فيها دلالة على أن السعي من التطوع أي من المندوبات لأنها لإفادة حكم كلي بعد ذكر تشريع عظيم ، على أن { تطوع } لا يتعين لكونه بمعنى تبرع بل يحتمل معنى أتى بطاعة أو تكلف طاعة .وقرأ الجمهور : { ومن تطوع } بصيغة الماضي ، وقرأه حمزة والكسائي ويعقوب وخلَف { يَطَّوَّع } بصيغة المضارع وياء الغيبة وجزم العين .و { مَنْ } هنا شرطية بدليل الفاء في جوابها . وقوله : { فإن الله شاكر عليم } دليل الجواب إذ التقدير ومن تطوع خيراً جوزي به لأن الله شاكر أي لا يضيع أجر محسن ، عليم لا يخفى عنه إحسانه ، وذكر الوصفين لأن ترك الثواب عن الإحسان لا يكون إلاّ عن جحود للفضيلة أو جهل بها فلذلك نفيا بقوله : { شاكر عليم } والأظهر عندي أن { شاكر } هنا استعارة تمثيلية شبه شأن الله في جزاء العبد على الطاعة بحال الشاكر لمن أسدي إليه نعمة ، وفائدة هذا التشبيه تمثيل تعجيل الثواب وتحقيقه لأن حال المحسن إليه أن يبادر بشكر المحسن .
Arabic Tanweer Tafseer
2:158
ثم تحدث - سبحانه - عن شعيرة من شعائر الحج فقال :( إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ . . . )قال الآلوسي : بعد أن أشار - سبحانه - فيما تقدم إلى الجهاد عقب ذلك ببيان معالج الحج ، فكأنه جمع بين الحج والغزو ، وفيهما شق الأنفس وتلف الأموال ، وقيل لما ذكر الصبر عقبة ببحث الحج لما فثيه من الأمور إليه .و ( الصفا ) في اللغة : الحجر الأملس ، مأخوذ من صفا يصفو إذا خلص ، واحده صفاة فهو مثل حصى وحصاة ونوى ونواة .و ( المروة ) في أصل اللغة : الحجر الأبيض اللين ، وقيل : الحصاة الصغيرة . وهما - أي الصفا والمروة - قد جعلا علمين لجبلين معروفين بمكة كانا على بعد ما يقرب من ألف ذراع من المسجد الحرام . والألف واللام فيهما للتعريف لا للجنس . ومع توسعة المسجد الحرام صارا متصلين به .و ( شَعَآئِرِ ) جمع شعيرة ، من الإِشعار بمعنى الإِعلام ، ومنه قولك شعرت بكذا ، أي : علمت به .وكون الصفا والمروة من شعائر الله ، ي : أعلام دينه ومتعبداته . تعبدنا الله بالسعي بينهما في الحج والعمرة .وشعائر الحج : معالمه الظاهرة للحواس ، التي جعلها الله أعلاما لطاعته ، ومواضع نسكه وعباداته ، كالمطاف والمسعى والموقف والمرمى والمنحر .وتطلق الشعائر على العبادات التي تعبدنا الله بها في هذه المواضع ، لكونها علامات على الخضوع والطاعة والتسليم لله - تعالى - .وأكدت الجملة الكريمة بأن لأن بعض المسلمين كانوا مترددين في كون السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله ، وكانوا يظنون أن السعي بينهما من أحوال الجاهلية ، كما سنبين بعد قليل .وقوله : ( فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) تفريع على كونهما من شعائر الله وأن السعي بينهما في الحج والعمرة من المناسك . والحج لغة : القصد مطلقاً أو إلى معظم . وشرعا : القصد إلى البيت الحرام في زمان معين بأعمال مخصوصة .و ( اعتمر ) أي : زار . والعمرة الزيارة مأخوذة من العمارة كأن الزائر يعمر البيت الحرام بزيارته . وشرعا الزيارة لبيت الله المعظم بأعمال مخصوصة وهي : الإِحرام والطواف والسعي بين الصفا والمروة .و ( جُنَاحَ ) - بضم الجيم - الإِثم والحرج مشتق من جنح إذا مال عن القصد ، وسمى الإِثم به للميل فيه من الحق إلى الباطل .و ( يَطَّوَّفَ ) أصلها يتطوف ، فأبدلت التاء طاء ، وأدغمت في الطاء فصارت " يطوف والتطوف بالشيء كالطواف به ، ومعناه : الإِلمام بالشيء والمشي حوله .وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الطواف بالنسبة للكعبة بالدوران حولها سبعة أشواط . وفسره بالنسبة للصفا والمروة بالسعي بينهما سبعة أشواط كذلك .و " من " في قوله : ( فَمَنْ حَجَّ ) شرطية ، " وحج " في محل جزم بالشرط ، و ( البيت ) منصوب على المفعولية ، وجملة " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " جواب الشرط .والمعنى : إن الصفا والمروة من شعائر الله ، أي : من المواضع التي يقام فيهما أمر من أمور دينه وهو السعي بينهما ( فَمَنْ حَجَّ البيت ) أي : قصده بالأفعال المعينة التي شرعها الله ( أَوِ اعتمر ) أي : أتى بالعمرة كما بينتها تعاليم الإِسلام " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " أي : فلا إثم ولا حرج ولا مؤاخذة عليه في الطواف بهما ، لأنهما مطلوبان للشارع ، ومعدودان من الطاعات .وهنا قد يقول قائل : إن بعض الذين يقرءون هذه الآية قد يشكل عليهم فهمها وذلك لأن قوله - تعالى - : ( إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله ) يدل على أن الطواف بهما مطلوب شرعاً طلبا أقل درجاته الندب ، وقوله - تعالى - ( فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) يقتضي رفع الأثم عن المتطوف بهما ، والتعبير برفع الإِثم عن الشيء يأتي في مقام الدالة على إباحته ، وإذن فما الأمر الداعي إلى أن يقال في هذه الشعيرة : لا إثم على من يفعلها بعد التصريح بأنها من شعائر الله؟ وللإِجابة على هذا القول نقول . إن الوقوف على سبب نزول الآية الكريمة يرفع هذا الاستشكال . وقد روى العلماء في سبب نزولها عدة روايات منها : ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير قال : سألت عائشة - رضي الله عنها - قلت لها : أرأيت قوله - تعالى - : ( إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا . . . ) فوالله ، ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ قالت بئس ما قلت يا ابن أختي!! إن هذه الآية لو كانت كما أولتها لكانت : لا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، ولكن الآية أنزلت في الأنصار . كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية ، التي كانوا يعبدونها عند المشلل . فكان من أهل يتحرج أن يتطوف بالصفا والمروة . فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقالوا : يا رسول الله : إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .قالت عائشة : وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما .وهناك رواية لمسلم عن عروة عن عائشة تشبه ما جاء في رواية البخاري ، وهناك رواية للنسائي عن زيد بن حارثة قال : كان على الصفا والمروة صتمان من نحاس يقال لهما " إساف ونائلة " كان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما .وهناك رواية للطبراني وابن أبي حاتم بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال : قالت الأنصار : إن السعي بن الصفا والمروة من أمر الجاهلية فأنزل الله هذه الآية .فيؤخذ من هذه الروايات أن بعض المسلمين كانوا يتحرجون من السعي بين الصفا والمروة لأسباب من أهمها أن هذا السعي كان من شعائرهم في الجاهلية فقد كانوا يهلون - أي يحرمون - لمناة ، ثم يسعون بينهما ليتمسحوا بصنمين عليهما ، وهم لا يريدون أن يعملوا في الإِسلام شيئا مما كان من أمر الجاهلية لأن دين الإِسلام الذي خالط أعماق قلوبهم هز أرواحهم هزاً قوياً وجعلهم ينظرون بجفوة وازدراء واحتراس إلى كل ما كانوا عليه في الجاهلية من أعمال تتنافى مع تعاليم دينهم الجديد ، فنزلة هذه الآية الكريمة لتزيل التحرج الذي كان يتردد في صدورهم من السعي بين الصفا والمروة .وهذا يدل على قوة إيمانهم ، وصفاء يقينهم ، وتحرزهم من كل قول أو عمل يشم منه رائحة التعارض مع العقيدة التي جعلتهم يخلصون عبادتهم لله الواحد القهار .وقوله ( وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) تذييل قصد منه الإِتيان بحكم كلي في أفعال الخيرات كلها ، وقيل إنه تذييل لما أفادته الآية من الحث على السعي بين الصفا والمروة .و ( تَطَوَّعَ ) من التطوع وهو فعل الطاعة فريضة كانت أو نافلة ، وقيل هو التطوع بالنفل خاصة .( شَاكِرٌ ) من الشكر ، والشاكر في اللغة هو المظهر للإِنعام عليه ، وذلك محال في حق الله - تعالى - ، إذ هو المنعم على خلقه ، فوجب حمل شكر الله لعباده على معنى مجازاتهم على ما يعملون من خيرات ، وإثابتهم على ذلك بالثواب الجزيل .قال الإِمام الرازي : وإنما سمي - سبحانه - المجازاة على الطاعة شكراً لوجوه :الأول : أن اللفظ خرج مخرج التلطف مع العباد مبالغة في الإِحسان إليهم ، كما في قوله - تعالى - : ( مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً ) وهو - سبحانه - لا يستقرض من عوز ، ولكنه تلطف في الاستدعاء كأنه قيل : من ذا الذي يعمل عمل المقرض . بأن يقدم فياخذ أضعاف ما قدم .الثاني : أن الشكر لما كان مقابلا للإِنعام أو الجزاء عليه ، سمي كل ما كان جزاء شكراً على سبيل التشبيه .الثالث : كأنه يقول : أنا وإن كنت غنياً عن طاعتك ، إلا أني أجعل لها من الموقع بحيث لو صح على أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل .وبالجملة فالمقصود أن طاعة العبد مقبولة عند الله ، وواقعة موقع القبول في أقصى الدرجات .و ( وَمَن ) شرطية .و ( تَطَوَّعَ ) فعل الشرط ، و ( خَيْراً ) منصوب على نزل الخافض ، وأصله بخير؛ لأن تطوع يتعدى بالباء ولا يتعدى بنفسه ثم حذفت الباء في نظم الكلام نحو : تمرون الديار فلم تعوجوا . أو هو منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أي : تطوعاًَ خيراً ، وجملة ( فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) دليل على جواب الشرط ، إذ التقدير ، ومن تطوع خيراً جوزي فإن الله شاكر عليم .والمعنى : ومن تطوع بالخيرات وأنواع الطاعات ، أو من أتى بالحج أو العمرة طاعة لله ، أو من أتى بهما مرة بعد مرة زيادة على المقروض أو الواجب عليه ، فاز بالثواب الجزيل ، والنعيم المقيم؛ لأن من صفاته - سبحانه - مجازاة من يحسنون العمل ، وهو عليم بكل ما يصدر عن عباده ، ولن يضيع أجر من أحسن عملا .هذا ، وقد اختلفت أقوال الفقهاء في حكم السعي بين الصفا والمروة .فمنهم من يرى أنه من أركان الحج كالإِحرام والطواف والوقوف بعرفة . وإلى هذا الرأي ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك في أشهر الروايتين عنه ومن حججهم أنه من أفعال الحج ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اهتم به وبادر إليه ، فقد روى الشيخان عن عمرو بن دينار قال : سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت العمرة ، ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته؟ فقال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين ، وطاف بين الصفا والمروة . وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة .ومنهم من يرى أنه واجب يجبر بالدم ، وإلى هذا الرأي ذهب الحنفية ومن حججهم أنه لم يثبت بدليل قطعى فلا يكون ركنا .ومنهم من يرى غير ذلك كما هو موضح في كتب الفقه .
Arabic Waseet Tafseer
2:158
إن الصفا والمروة من شعائر اللهالقول في تأويل قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } والصفا : جمع صفاة , وهي الصخرة الملساء , ومنه قول الطرماح : أبى لي ذو القوى والطول ألا يؤبس حافر أبدا صفاتي وقد قالوا إن الصفا واحد , وأنه يثنى صفوان ويجمع أصفاء وصفيا وصفيا ; واستشهدوا على ذلك بقول الراجز : كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي وقالوا : هو نظير عصا وعصي ورحا ورحي وأرحاء . وأما المروة فإنها الحصاة الصغيرة يجمع قليلها مروات , وكثيرها المرو مثل تمرة وتمرات وتمر . قال الأعشى ميمون بن قيس : وترى بالأرض خفا زائلا فإذا ما صادف المرو رضح يعني بالمرو : الصخر الصغار . ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي : حتى كأن للحوادث مروة بصفا المشرق كل يوم تقرع ويقال " المشقر " . وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله : { إن الصفا والمروة } في هذا الموضع : الجبلين المسميين بهذين الاسمين اللذين في حرمه دون سائر الصفا والمرو ; ولذلك أدخل فيهما الألف واللام , ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين دون سائر الصفا والمرو . وأما قوله : { من شعائر الله } فإنه يعني من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده معلما ومشعرا يعبدونه عندها , إما بالدعاء وإما بالذكر وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها ; ومنه قول الكميت : نقتلهم جيلا فجيلا تراهم شعائر قربان بهم يتقرب وكان مجاهد يقول في الشعائر بما : 1935 - حدثني به محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } قال : من الخبر الذي أخبركم عنه * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله . فكأن مجاهدا كان يرى أن الشعائر إنما هو جمع شعيرة من إشعار الله عباده أمر الصفا والمروة وما عليهم في الطواف بهما , فمعناه إعلامهم ذلك ; وذلك تأويل من المفهوم بعيد . وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } عباده المؤمنين أن السعي بينهما من مشاعر الحج التي سنها لهم , وأمر بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم , إذ سأله أن يريه مناسك الحج . وذلك وإن كان مخرجه مخرج الخبر , فإنه مراد به الأمر لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام فقال له : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } 16 123 وجعل تعالى ذكره إبراهيم إماما لمن بعده . فإذا كان صحيحا أن الطواف والسعي بين الصفا والمروة من شعائر الله ومن مناسك الحج , فمعلوم أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد عمل به وسنه لمن بعده , وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أمته باتباعه فعليهم العمل بذلك على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم .فمن حج البيت أو اعتمرالقول في تأويل قوله تعالى : { فمن حج البيت أو اعتمر } يعني تعالى ذكره : { فمن حج البيت } فمن أتاه عائدا إليه بعد بدء , وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو حاج إليه ; ومنه قول الشاعر : وأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون بيت الزبرقان المزعفرا يعني بقوله يحجون : يكثرون التردد إليه لسؤدده ورياسته . وإنما قيل للحاج حاج لأنه يأتي البيت قبل التعريف ثم يعود إليه لطواف يوم النحر بعد التعريف , ثم ينصرف عنه إلى منى , ثم يعود إليه لطواف الصدر , فلتكراره العود إليه مرة بعد أخرى قيل له حاج . وأما المعتمر فإنما قيل له معتمر لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه . وإنما يعني تعالى ذكره بقوله : { أو اعتمر } أو اعتمر البيت , ويعني بالاعتمار الزيارة , فكل قاصد لشيء فهو له معتمر ومنه قول العجاج : لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد وضبر يعني بقوله " حين اعتمر " : حين قصده وأمه .فلا جناح عليه أن يطوف بهماالقول في تأويل قوله تعالى : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } . يعني تعالى ذكره بقوله : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } يقول : فلا حرج عليه ولا مأثم في طوافه بهما . فإن قال قائل : وما وجه هذا الكلام , وقد قلت لنا إن قوله : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } وإن كان ظاهره ظاهر الخبر فإنه في معنى الأمر بالطواف بهما ؟ فكيف يكون أمرا بالطواف , ثم يقال : لا جناح على من حج البيت أو اعتمر في الطواف بهما ؟ وإنما يوضع الجناح عمن أتى ما عليه بإتيانه الجناح والحرج والأمر بالطواف بهما , والترخيص في الطواف بهما غير جائز اجتماعهما في حال واحدة ؟ قيل : إن ذلك بخلاف ما إليه ذهب , وإنما معنى ذلك عند أقوام أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر عمرة القضية تخوف أقوام كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيما منهم لهما فقالوا : وكيف نطوف بهما , وقد علمنا أن تعظيم الأصنام وجميع ما كان يعبد من ذلك من دون الله شرك ؟ ففي طوافنا بهذين الحجرين أحد ذلك , لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما , وقد جاء الله بالإسلام اليوم ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له . فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } يعني أن الطواف بهما , فترك ذكر الطواف بهما اكتفاء بذكرهما عنه . وإذ كان معلوما عند المخاطبين به أن معناه : من معالم الله التي جعلها علما لعباده يعبدونه عندهما بالطواف بينهما ويذكرونه عليهما وعندهما بما هو له أهل من الذكر , فمن حج البيت أو اعتمر فلا يتخوفن الطواف بهما , من أجل ما كان أهل الجاهلية يطوفون بهما , من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما , فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرا , وأنتم تطوفون بهما إيمانا وتصديقا لرسولي وطاعة لأمري , فلا جناح عليكم في الطواف بهما . والجناح : الإثم . كما : 1936 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } يقول : ليس عليه إثم ولكن له أجر . وبمثل الذي قلنا في ذلك تظاهرت الرواية عن السلف من الصحابة والتابعين . ذكر الأخبار التي رويت بذلك : 1937 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : ثنا يزيد بن زريع , قال : ثنا داود , عن الشعبي : أن وثنا كان في الجاهلية على الصفا يسمى إسافا , ووثنا على المروة يسمى نائلة ; فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوثنين ; فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان , قال المسلمون : إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين , وليس الطواف بهما من الشعائر . قال : فأنزل الله : إنهما من الشعائر { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } 1938 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا عبد الوهاب , قال : ثنا داود , عن عامر , قال : كان صنم بالصفا يدعى إسافا , ووثن بالمروة يدعى نائلة . ثم ذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب وزاد فيه , قال : فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه , وأنث المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثا . 1939 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا ابن علية , عن داود بن أبي هند , عن الشعبي , وذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب , عن يزيد , وزاد فيه قال : فجعله الله تطوع خير . 1940 - حدثني يعقوب , قال : ثنا ابن أبي زائدة , قال : أخبرني عاصم الأحول , قال : قلت لأنس بن مالك : أكنتم تكرهون الطواف بين الصفا والمروة حتى نزلت هذه الآية ؟ فقال : نعم كنا نكره الطواف بينهما لأنهما من شعائر الجاهلية حتى نزلت هذه الآية : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } * - حدثني علي بن سهل الرملي , قال : ثنا مؤمل بن إسماعيل , قال : ثنا سفيان , عن عاصم , قال : سألت أنسا عن الصفا والمروة , فقال : كانتا من مشاعر الجاهلية , فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما , فنزلت : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } 1941 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث , قال : حدثني أبو الحسين المعلم , قال : ثنا سنان أبو معاوية , عن جابر الجعفي , عن عمرو بن حبشي , قال : قلت لابن عمر : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } قال : انطلق إلى ابن عباس فاسأله , فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ! فأتيته فسألته , فقال : إنه كان عندهما أصنام , فلما حرمن أمسكوا عن الطواف بينهما حتى أنزلت : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } 1942 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : حدثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } وذلك أن ناسا كانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة , فأخبر الله أنهما من شعائره , والطواف بينهما أحب إليه , فمضت السنة بالطواف بينهما . 1943 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } قال : زعم أبو مالك عن ابن عباس أنه كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل أجمع بين الصفا والمروة , وكانت بينهما آلهة , فلما جاء الإسلام وظهر قال المسلمون : يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة , فإنه شرك كنا نفعله في الجاهلية ! فأنزل الله : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } 1944 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا ابن علية , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قوله : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } قال : قالت الأنصار : إن السعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية . فأنزل الله تعالى ذكره : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } * - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد نحوه . 1945 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } قال : كان أهل الجاهلية قد وضعوا على كل واحد منهما صنما يعظمونهما ; فلما أسلم المسلمون كرهوا الطواف بالصفا والمروة لمكان الصنمين , فقال الله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } وقرأ : { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } 22 32 وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما . * - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا جرير , عن عاصم , قال قلت لأنس : الصفا والمروة أكنتم تكرهون أن تطوفوا بهما مع الأصنام التي نهيتم عنها ؟ قال : نعم حتى نزلت : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } * - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا جرير , قال : أخبرنا عاصم , قال : سمعت أنس بن مالك يقول : إن الصفا والمروة من مشاعر قريش في الجاهلية , فلما كان الإسلام تركناهما . وقال آخرون : بل أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية في سبب قوم كانوا في الجاهلية لا يسعون بينهما فلما جاء الإسلام تخوفوا السعي بينهما كما كانوا يتخوفونه في الجاهلية . ذكر من قال ذلك : 1946 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , عن سعيد , عن قتادة قوله : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } الآية , فكان حي من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما , فأخبرهم الله أن الصفا والمروة من شعائر الله , وكان من سنة إبراهيم وإسماعيل الطواف بينهما . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة , قال : كان ناس من أهل تهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة , فأنزل الله : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } 1947 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث , قال : حدثني عقيل , عن ابن شهاب , قال : حدثني عروة بن الزبير , قال : سألت عائشة فقلت لها : أرأيت قول الله : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } ؟ وقلت لعائشة : والله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة ! فقالت عائشة : بئس ما قلت يا ابن أختي , إن هذه الآية لو كانت كما أولتها كانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما , ولكنها إنما أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدون بالمشلل وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة , فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا : يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة ; أنزل الله تعالى ذكره : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } . قالت عائشة : ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما , فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما 1948 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر , عن الزهري , عن عروة , عن عائشة , قالت : كان رجال من الأنصار ممن يهل لمناة في الجاهلية ومناة صنم بين مكة والمدينة , قالوا : يا نبي الله إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة , فهل علينا من حرج أن نطوف بهما ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } قال عروة : فقلت لعائشة : ما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة , قال الله : { فلا جناح عليه } قالت : يا ابن أختي ألا ترى أنه يقول : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ؟ قال الزهري : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام , فقال : هذا العلم ! قال أبو بكر : ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون : لما أنزل الله الطواف بالبيت ولم ينزل الطواف بين الصفا والمروة , قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة , وإن الله قد ذكر الطواف بالبيت , ولم يذكر الطواف بين الصفا والمروة فهل علينا من حرج أن لا نطوف بهما ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } الآية كلها . قال أبو بكر : فأسمع أن هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما فيمن طاف وفيمن لم يطف . 1949 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا معمر عن قتادة , قال : كان ناس من أهل تهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة , فأنزل الله : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره قد جعل الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله , كما جعل الطواف بالبيت من شعائره . فأما قوله : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } فجائز أن يكون قيل لكلا الفريقين اللذين تخوف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنمين اللذين ذكرهما الشعبي , وبعضهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما في الجاهلية على ما روي عن عائشة . وأي الأمرين كان من ذلك فليس في قول الله تعالى ذكره : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } الآية , دلالة على أنه عنى به وضع الحرج عمن طاف بهما , من أجل أن الطواف بهما كان غير جائز بحظر الله ذلك ثم جعل الطواف بهما رخصة لإجماع الجميع , على أن الله تعالى ذكره لم يحظر ذلك في وقت , ثم رخص فيه بقوله : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } . وإنما الاختلاف في ذلك بين أهل العلم على أوجه ; فرأى بعضهم أن تارك الطواف بينهما تارك من مناسك حجه ما لا يجزيه منه غير قضائه بعينه , كما لا يجزي تارك الطواف الذي هو طواف الإفاضة إلا قضاؤه بعينه , وقالوا : هما طوافان أمر الله بأحدهما بالبيت , والآخر بين الصفا والمروة . ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يجزيه من تركه فدية , ورأوا أن حكم الطواف بهما حكم رمي بعض الجمرات , والوقوف بالمشعر , وطواف الصدر , وما أشبه ذلك مما يجزي تاركه من تركه فدية ولا يلزمه العود لقضائه بعينه . ورأى آخرون أن الطواف بهما تطوع , إن فعله صاحبه كان محسنا , وإن تركه تارك لم يلزمه بتركه شيء . والله تعالى أعلم . ذكر من قال : إن السعي بين الصفا والمروة واجب ولا يجزي منه فدية ومن تركه فعليه العودة . 1950 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا وكيع , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن عائشة قالت : لعمري ما حج من لم يسع بين الصفا والمروة , لأن الله قال : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } 1951 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال مالك بن أنس : من نسي السعي بين الصفا والمروة حتى يستبعد من مكة فليرجع فليسع , وإن كان قد أصاب النساء فعليه العمرة والهدي . وكان الشافعي يقول : على من ترك السعي بين الصفا والمروة حتى رجع إلى بلده العود إلى مكة حتى يطوف بينهما لا يجزيه غير ذلك . حدثنا بذلك عنه الربيع . ذكر من قال : يجزي منه دم وليس عليه عود لقضائه : قال الثوري بما : 1952 - حدثني به علي بن سهل , عن زيد بن أبي الزرقاء عنه , وأبو حنيفة , وأبو يوسف , ومحمد : إن عاد تارك الطواف بينهما لقضائه فحسن , وإن لم يعد فعليه دم . ذكر من قال : الطواف بينهما تطوع ولا شيء على من تركه , ومن كان يقرأ : { فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما } 1953 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا ابن جريج , قال : قال عطاء : لو أن حاجا أفاض بعدما رمى جمرة العقبة فطاف بالبيت ولم يسع , فأصابها - يعني امرأته - لم يكن عليه شيء , لا حج ولا عمرة ; من أجل قول الله في مصحف ابن مسعود : " فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " فعاودته بعد ذلك , فقلت : إنه قد ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم , قال : ألا تسمعه يقول : فمن تطوع خيرا فأبى أن يجعل عليه شيئا ؟ 1954 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا عبد الملك , عن عطاء , عن ابن عباس أنه كان يقرأ : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } الآية , { فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما } 1955 - حدثني علي بن سهل , قال : ثنا مؤمل , قال : ثنا سفيان , عن عاصم , قال سمعت أنسا يقول : الطواف بينهما تطوع . * - حدثني المثنى , قال : ثنا حجاج , قال : ثنا حماد , قال : أخبرنا عاصم الأحول , قال : قال أنس بن مالك : هما تطوع . 1956 - حدثني محمد بن عمرو : قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد نحوه . 1957 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } قال : فلم يحرج من لم يطف بهما . 1958 - حدثنا المثنى , قال : ثنا حجاج قال : ثنا أحمد , عن عيسى بن قيس , عن عطاء , عن عبد الله بن الزبير , قال : هما تطوع * - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا جرير , عن عاصم , قال : قلت لأنس بن مالك : السعي بين الصفا والمروة تطوع ؟ قال : تطوع . والصواب من القول في ذلك عندنا أن الطواف بهما فرض واجب , وأن على من تركه العود لقضائه ناسيا كان أو عامدا لأنه لا يجزيه غير ذلك , لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج بالناس فكان مما علمهم من مناسك حجهم الطواف بهما . ذكر الرواية عنه بذلك : 1959 - حدثني يوسف بن سلمان , قال : ثنا حاتم بن إسماعيل , قال : ثنا جعفر بن محمد , عن أبيه , عن جابر قال : لما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفا في حجه , قال : " { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ابدءوا بما بدأ الله بذكره " فبدأ بالصفا فرقي عليه . 1960 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا محمود بن ميمون أبو الحسن , عن أبي بكر بن عياش , عن ابن عطاء عن أبيه , عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } , فأتى الصفا فبدأ بها , فقام عليها ثم أتى المروة فقام عليها وطاف وسعى . فإذا كان صحيحا بإجماع الجميع من الأمة أن الطواف بهما على تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في مناسكهم وعمله في حجه وعمرته , وكان بيانه صلى الله عليه وسلم لأمته جمل ما نص الله في كتابه وفرضه في تنزيله , وأمر به مما لم يدرك علمه إلا ببيانه لازما العمل به أمته كما قد بينا في كتابنا " كتاب البيان عن أصول الأحكام " إذا اختلفت الأمة في وجوبه , ثم كان مختلفا في الطواف بينهما هل هو واجب أو غير واجب ; كان بينا وجوب فرضه على من حج أو اعتمر لما وصفنا , وكذلك وجوب العود لقضاء الطواف بين الصفا والمروة , لما كان مختلفا فيما على من تركه مع إجماع جميعهم , على أن ذلك مما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه أمته في حجهم وعمرتهم إذ علمهم مناسك حجهم , كما طاف بالبيت وعلمه أمته في حجهم وعمرتهم , إذ علمهم مناسك حجهم وعمرتهم , وأجمع الجميع على أن الطواف بالبيت لا تجزي منه فدية ولا بدل , ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه ; كان نظيرا له الطواف بالصفا والمروة , ولا تجزي منه فدية ولا جزاء , ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه , إذ كانا كلاهما طوافين أحدهما بالبيت والآخر بالصفا والمروة . ومن فرق بين حكمهما عكس عليه القول فيه , ثم سئل البرهان على التفرقة بينهما , فإن اعتل بقراءة من قرأ : " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " قيل : ذلك خلاف ما في مصاحف المسلمين غير جائز لأحد أن يزيد في مصاحفهم ما ليس فيها . وسواء قرأ ذلك كذلك قارئ , أو قرأ قارئ : { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق } 22 29 فلا جناح عليهم أن لا يطوفوا به . فإن جاءت إحدى الزيادتين اللتين ليستا في المصحف كانت الأخرى نظيرتها وإلا كان مجيز إحداهما إذا منع الأخرى متحكما , والتحكم لا يعجز عنه أحد . وقد روي إنكار هذه القراءة وأن يكون التنزيل بها عن عائشة . 1961 - حدثني يونس بن عبد الأعلى , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : أخبرني مالك بن أنس , عن هشام بن عروة , عن أبيه قال : قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ حديث السن : أرأيت قول الله عز وجل : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } فما نرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما ؟ فقالت عائشة : كلا لو كانت كما تقول كانت وفلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " , إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد , وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة ; فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك , فأنزل الله : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } وقد يحتمل قراءة من قرأ : { فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما } أن تكون " لا " التي مع " أن " صلة في الكلام , إذ كان قد تقدمها جحد في الكلام قبلها , وهو قوله : { فلا جناح عليه } فيكون نظير قول الله تعالى ذكره : { قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } 7 12 بمعنى ما منعك أن تسجد , وكما قال الشاعر : ما كان يرضى رسول الله فعلهما والطيبان أبو بكر ولا عمر ولو كان رسم المصحف كذلك لم يكن فيه لمحتج حجة مع احتمال الكلام ما وصفنا لما بينا أن ذلك مما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في مناسكهم على ما ذكرنا , ولدلالة القياس على صحته , فكيف وهو خلاف رسوم مصاحف المسلمين , ومما لو قرأه اليوم قارئ كان مستحقا العقوبة لزيادته في كتاب الله عز وجل ما ليس منه ؟ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليمالقول في تأويل قوله تعالى : { ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم } اختلف القراء في قراءة ذلك , فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة : { ومن تطوع خيرا } على لفظ المضي بالتاء وفتح العين . وقرأته عامة قراء الكوفيين : { ومن يطوع خيرا } بالياء وجزم العين وتشديد الطاء , بمعنى : ومن يتطوع . وذكر أنها في قراءة عبد الله : " ومن يتطوع " . فقرأ ذلك قراء أهل الكوفة على ما وصفنا اعتبارا بالذي ذكرنا من قراءة عبد الله سوى عاصم فإنه وافق المدنيين , فشددوا الطاء طلبا لإدغام التاء في الطاء . وكلتا القراءتين معروفة صحيحة متفق معنياهما غير مختلفين , لأن الماضي من الفعل مع حروف الجزاء بمعنى المستقبل , فبأي القراءتين قرأ ذلك قارئ فمصيب . ومعنى ذلك : ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه , فإن الله شاكر له على تطوعه له بما تطوع به من ذلك ابتغاء وجهه فمجازيه به , عليم بما قصد وأراد بتطوعي بما تطوع به وإنما قلنا إن الصواب في معنى قوله : { فمن تطوع خيرا } هو ما وصفنا دون قول من زعم أنه معني به : فمن تطوع بالسعي والطواف بين الصفا والمروة ; لأن الساعي بينهما لا يكون متطوعا بالسعي بينهما إلا في حج تطوع أو عمرة تطوع لما وصفنا قبل ; وإذ كان ذلك كذلك كان معلوما أنه إنما عنى بالتطوع بذلك التطوع بما يعمل ذلك فيه من حج أو عمرة . وأما الذين زعموا أن الطواف بهما تطوع لا واجب , فإن الصواب أن يكون تأويل ذلك على قولهم : فمن تطوع بالطواف بهما فإن الله شاكر ; لأن للحاج والمعتمر على قولهم الطواف بهما إن شاء وترك الطواف , فيكون معنى الكلام على تأويلهم : فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة , فإن الله شاكر تطوعه ذلك , عليم بما أراد ونوى الطائف بهما كذلك . كما : 1962 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : { ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم } قال : من تطوع خيرا فهو خير له , تطوع رسول الله فكانت من السنن . وقال آخرون : معنى ذلك : ومن تطوع خيرا فاعتمر . ذكر من قال ذلك : 1963 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم } من تطوع خيرا فاعتمر فإن الله شاكر عليم ; قال : فالحج فريضة , والعمرة تطوع , ليست العمرة واجبة على أحد من الناس .
الطبري
2:158
قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم فيه تسع مسائل :الأولى : روى البخاري عن عاصم بن سليمان قال : سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما وخرج الترمذي عن عروة قال : قلت لعائشة ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا ، وما أبالي ألا أطوف بينهما . فقالت : بئس ما قلت يا ابن أختي ! طاف [ ص: 167 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون ، وإنما كان من أهل لمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ولو كانت كما تقول لكانت : " فلا جناح عليه ألا يطوف بهما " قال الزهري : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك وقال : إن هذا لعلم ، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون : إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية . وقال آخرون من الأنصار : إنما أمرنا بالطواف [ بالبيت ] ولم نؤمر به بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله قال أبو بكر بن عبد الرحمن : فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء . قال : " هذا حديث حسن صحيح " . أخرجه البخاري بمعناه ، وفيه بعد قوله فأنزل الله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله : قالت عائشة وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال : إن هذا لعلم ما كنت سمعته ، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس - إلا من ذكرت عائشة - ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة ، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا : يا رسول الله ، كنا نطوف بالصفا والمروة ، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا ، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة ؟ فأنزل الله عز وجل : إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية . قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما : في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة ، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام ، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ، ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت " . وروى الترمذي عن عاصم بن سليمان الأحول قال : سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال : كانا من شعائر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله عز وجل : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ ص: 168 ] قال : هما تطوع ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم قال : هذا حديث حسن صحيح . خرجه البخاري أيضا . وعن ابن عباس قال كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل كله بين الصفا والمروة وكان بينهما آلهة ، فلما ظهر الإسلام قال المسلمون : يا رسول الله ، لا نطوف بين الصفا والمروة فإنهما شرك ، فنزلت . وقال الشعبي : كان على الصفا في الجاهلية صنم يسمى " إسافا " وعلى المروة صنم يسمى " نائلة " فكانوا يمسحونهما إذا طافوا ، فامتنع المسلمون من الطواف بينهما من أجل ذلك ، فنزلت الآية .الثانية : أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس ، وهو هنا جبل بمكة معروف ، وكذلك المروة جبل أيضا ، ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف . وذكر الصفا لأن آدم المصطفى صلى الله عليه وسلم وقف عليه فسمي به ، ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة ، فأنث لذلك ، والله أعلم . وقال الشعبي : كان على الصفا صنم يسمى [ إسافا ] وعلى المروة صنم يدعى [ نائلة ] فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر ، وهذا حسن ; لأن الأحاديث المذكورة تدل على هذا المعنى . وما كان كراهة من كره الطواف بينهما إلا من أجل هذا ، حتى رفع الله الحرج في ذلك . وزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين فوضعهما على الصفا والمروة ليعتبر بهما ، فلما طالت المدة عبدا من دون الله ، والله تعالى أعلم . والصفا ( مقصور ) : جمع صفاة ، وهي الحجارة الملس . وقيل : الصفا اسم مفرد ، وجمعه صفي ( بضم الصاد ) وأصفاء على مثل أرحاء . قال الراجز [ هو الأخيل ] :كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفيوقيل : من شروط الصفا البياض والصلابة ، واشتقاقه من صفا يصفو ، أي خلص من التراب والطين . والمروة ( واحدة المرو ) وهي الحجارة الصغار التي فيها لين . وقد قيل إنها الصلاب . والصحيح أن المرو الحجارة صليبها ورخوها الذي يتشظى وترق حاشيته ، وفي هذا يقال : المرو أكثر ويقال في الصليب . قال الشاعر :وتولى الأرض خفا ذابلا فإذا ما صادف المرو رضخ[ ص: 169 ] وقال أبو ذؤيب :حتى كأن للحوادث مروة بصفا المشقر كل يوم تقرعوقد قيل : إنها الحجارة السود . وقيل : حجارة بيض براقة تكون فيها النار .الثالثة : من شعائر الله أي من معالمه ومواضع عباداته ، وهي جمع شعيرة . والشعائر : المتعبدات التي أشعرها الله تعالى ، أي جعلها أعلاما للناس ، من الموقف والسعي والنحر . والشعار : العلامة ، يقال : أشعر الهدي أعلمه بغرز حديدة في سنامه ، من قولك : أشعرت أي أعلمت ، وقال الكميت :نقتلهم جيلا فجيلا تراهم شعائر قربان بهم يتقربالرابعة : قوله تعالى : فمن حج البيت أي قصد . وأصل الحج القصد ، قال الشاعر :فأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفراالسب : لفظ مشترك . قال أبو عبيدة : السب ( بالكسر ) الكثير السباب . وسبك أيضا الذي يسابك ، قال الشاعر [ هو عبد الرحمن بن حسان ] :لا تسبنني فلست بسبي إن سبي من الرجال الكريموالسب أيضا الخمار ، وكذلك العمامة ، قال المخبل السعدي :يحجون سب الزبرقان المزعفراوالسب أيضا الحبل في لغة هذيل ، قال أبو ذؤيب :تدلى عليها بين سب وخيطة بجرداء مثل الوكف يكبو غرابهاوالسبوب : الحبال . والسب : شقة كتان رقيقة ، والسبيبة مثله ، والجمع السبوب والسبائب ، قاله الجوهري . وحج الطبيب الشجة إذا سبرها بالميل ، قال الشاعر [ هو عذار بن درة الطائي ] :يحج مأمومة في قعرها لجف[ ص: 170 ] اللجف : الخسف . تلجفت البئر : انخسف أسفلها . ثم اختص هذا الاسم بالقصد إلى البيت الحرام لأفعال مخصوصة .الخامسة : قوله تعالى : أو اعتمر أي زار والعمرة : الزيارة ، قال الشاعر [ هو العجاج ] :لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد وضبرالسادسة : قوله تعالى : فلا جناح عليه أي لا إثم . وأصله من الجنوح وهو الميل ، ومنه الجوانح للأعضاء لاعوجاجها . وقد تقدم تأويل عائشة لهذه الآية . قال ابن العربي : " وتحقيق القول فيه أن قول القائل : لا جناح عليك أن تفعل ، إباحة الفعل . وقوله : لا جناح عليك ألا تفعل ، إباحة لترك الفعل ، فلما سمع عروة قول الله تعالى : فلا جناح عليه أن يطوف بهما قال : هذا دليل على أن ترك الطواف جائز ، ثم رأى الشريعة مطبقة على أن الطواف لا رخصة في تركه فطلب الجمع بين هذين المتعارضين . فقالت له عائشة : ليس قوله : فلا جناح عليه أن يطوف بهما دليلا على ترك الطواف ، إنما كان يكون دليلا على تركه لو كان " فلا جناح عليه ألا يطوف بهما " فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف ، ولا فيه دليل عليه ، وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرج منه في الجاهلية ، أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه ، فأعلمهم الله سبحانه أن الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصدا باطلا " .فإن قيل : فقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ " فلا جناح عليه ألا يطوف بهما " وهي قراءة ابن مسعود ، ويروى أنها في مصحف أبي كذلك ، ويروى عن أنس مثل هذا . والجواب أن ذلك خلاف ما في المصحف ، ولا يترك ما قد ثبت في المصحف إلى قراءة لا يدرى أصحت أم لا ، وكان عطاء يكثر الإرسال عن ابن عباس من غير سماع . والرواية في هذا عن أنس قد قيل إنها ليست بالمضبوطة ، أو تكون " لا " زائدة للتوكيد ، كما قال :وما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندراالسابعة : روى الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة فطاف بالبيت سبعا فقرأ : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وصلى خلف المقام ، ثم أتى الحجر فاستلمه ثم قال : ( نبدأ بما بدأ الله به ) فبدأ بالصفا وقال إن الصفا والمروة من شعائر الله قال : هذا [ ص: 171 ] حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يبدأ بالصفا قبل المروة ، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يجزه ويبدأ بالصفا .الثامنة : واختلف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة ، فقال الشافعي وابن حنبل : هو ركن ، وهو المشهور من مذهب مالك ، لقوله عليه السلام : اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي . خرجه الدارقطني . وكتب بمعنى أوجب ، لقوله تعالى : كتب عليكم الصيام وقوله عليه السلام : خمس صلوات كتبهن الله على العباد . وخرج ابن ماجه عن أم ولد لشيبة قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول : لا يقطع الأبطح إلا شدا فمن تركه أو شوطا منه ناسيا أو عامدا رجع من بلده أو من حيث ذكر إلى مكة فيطوف ويسعى ، لأن السعي لا يكون إلا متصلا بالطواف . وسواء عند مالك كان ذلك في حج أو عمرة وإن لم يكن في العمرة فرضا ، فإن كان قد أصاب النساء فعليه عمرة وهدي عند مالك مع تمام مناسكه . وقال الشافعي : عليه هدي ، ولا معنى للعمرة إذا رجع وطاف وسعى . وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشعبي : ليس بواجب ، فإن تركه أحد من الحاج حتى يرجع إلى بلاده جبره بالدم ; لأنه سنة من سنن الحج . وهو قول مالك في العتبية . وروي عن ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين أنه تطوع ، لقوله تعالى : ومن تطوع خيرا . وقرأ حمزة والكسائي " يطوع " مضارع مجزوم ، وكذلك فمن تطوع خيرا فهو خير له الباقون تطوع ماض ، وهو ما يأتيه المؤمن من قبل نفسه فمن أتى بشيء من النوافل فإن الله يشكره . وشكر الله للعبد إثابته على الطاعة . والصحيح ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى لما ذكرنا ، وقوله عليه السلام : خذوا عني مناسككم فصار بيانا لمجمل الحج ، فالواجب أن يكون فرضا ، كبيانه لعدد الركعات ، وما كان مثل ذلك إذا لم يتفق على أنه سنة أو تطوع .[ ص: 172 ] وقال طليب : رأى ابن عباس قوما يطوفون بين الصفا والمروة فقال : هذا ما أورثتكم أمكم أم إسماعيل .قلت : وهذا ثابت في صحيح البخاري على ما يأتي بيانه في سورة " إبراهيم " .التاسعة : ولا يجوز أن يطوف أحد بالبيت ولا بين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر ، فإن طاف معذورا فعليه دم ، وإن طاف غير معذور أعاد إن كان بحضرة البيت ، وإن غاب عنه أهدى . إنما قلنا ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بنفسه وقال : خذوا عني مناسككم . وإنما جوزنا ذلك من العذر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره واستلم الركن بمحجنه وقال لعائشة وقد قالت له : إني أشتكي ، فقال : طوفي من وراء الناس وأنت راكبة . وفرق أصحابنا بين أن يطوف على بعير أو يطوف على ظهر إنسان ، فإن طاف على ظهر إنسان لم يجزه ; لأنه حينئذ لا يكون طائفا ، وإنما الطائف الحامل . وإذا طاف على بعير يكون هو الطائف . قال ابن خويز منداد : وهذه تفرقة اختيار ، وأما الإجزاء فيجزئ ، ألا ترى أنه لو أغمي عليه فطيف به محمولا ، أو وقف به بعرفات محمولا كان مجزئا عنه .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:158
يخبر تعالى أن الصفا والمروة وهما معروفان { مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } أي أعلام دينه الظاهرة, التي تعبد الله بها عباده, وإذا كانا من شعائر الله, فقد أمر الله بتعظيم شعائره فقال: { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } فدل مجموع النصين أنهما من شعائر الله, وأن تعظيم شعائره, من تقوى القلوب. والتقوى واجبة على كل مكلف, وذلك يدل على أن السعي بهما فرض لازم للحج والعمرة, كما عليه الجمهور, ودلت عليه الأحاديث النبوية وفعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: \" خذوا عني مناسككم \" { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } هذا دفع لوهم من توهم وتحرج من المسلمين عن الطواف بينهما, لكونهما في الجاهلية تعبد عندهما الأصنام، فنفى تعالى الجناح لدفع هذا الوهم, لا لأنه غير لازم. ودل تقييد نفي الجناح فيمن تطوف بهما في الحج والعمرة, أنه لا يتطوع بالسعي مفردا إلا مع انضمامه لحج أو عمرة، بخلاف الطواف بالبيت, فإنه يشرع مع العمرة والحج, وهو عبادة مفردة. فأما السعي والوقوف بعرفة ومزدلفة, ورمي الجمار فإنها تتبع النسك، فلو فعلت غير تابعة للنسك, كانت بدعة, لأن البدعة نوعان: نوع يتعبد لله بعبادة, لم يشرعها أصلا، ونوع يتعبد له بعبادة قد شرعها على صفة مخصوصة, فتفعل على غير تلك الصفة, وهذا منه. وقوله: { وَمَنْ تَطَوَّعَ } أي: فعل طاعة مخلصا بها لله تعالى { خَيْرًا } من حج وعمرة, وطواف, وصلاة, وصوم وغير ذلك { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ } فدل هذا, على أنه كلما ازداد العبد من طاعة الله, ازداد خيره وكماله, ودرجته عند الله, لزيادة إيمانه. ودل تقييد التطوع بالخير, أن من تطوع بالبدع, التي لم يشرعها الله ولا رسوله, أنه لا يحصل له إلا العناء, وليس بخير له, بل قد يكون شرا له إن كان متعمدا عالما بعدم مشروعية العمل. { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } الشاكر والشكور, من أسماء الله تعالى, الذي يقبل من عباده اليسير من العمل, ويجازيهم عليه, العظيم من الأجر, الذي إذا قام عبده بأوامره, وامتثل طاعته, أعانه على ذلك, وأثنى عليه ومدحه, وجازاه في قلبه نورا وإيمانا, وسعة, وفي بدنه قوة ونشاطا, وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء, وفي أعماله زيادة توفيق. ثم بعد ذلك, يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملا موفرا, لم تنقصه هذه الأمور. ومن شكره لعبده, أن من ترك شيئا لله, أعاضه الله خيرا منه، ومن تقرب منه شبرا, تقرب منه ذراعا, ومن تقرب منه ذراعا, تقرب منه باعا, ومن أتاه يمشي, أتاه هرولة, ومن عامله, ربح عليه أضعافا مضاعفة. ومع أنه شاكر, فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل, بحسب نيته وإيمانه وتقواه, ممن ليس كذلك، عليم بأعمال العباد, فلا يضيعها, بل يجدونها أوفر ما كانت, على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم الحكيم.
Arabic Saddi Tafseer
2:158
قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} الصفا: جمع صفاة وهي الصخور الصلبة الملساء، يقال: صفاة وصفا، مثل: حصاة وحصى ونواة ونوى، والمروة: الحجر الرخو، وجمعها مروات، وجمع الكثير مرو، مثل: تمرة وتمرات وتمر.وإنما عنى الله بهما الجبلين المعروفين بمكة في طرفي المسعى، ولذلك أدخل فيهما الألف واللام، وشعائر الله أعلام دينه، أصلها من الإشعار وهو الإعلام واحدتها شعيرة وكل ما كان معلماً لقربان يتقرب به إلى الله تعالى من صلاة ودعاء وذبيحة فهو شعيرة فالمطاف والموقف والنحر كلها شعائر الله ومثلها المشاعر، والمراد بالشعائر ها هنا: المناسك التي جعلها الله أعلاماً لطاعته؛ فالصفا والمروة منها حتى يطاف بهما جميعاً.{فمن حج البيت أو اعتمر} فالحج في اللغة: القصد، والعمرة: الزيارة، وفي الحج والعمرة المشروعين قصد وزيارة.{فلا جناح عليه} أي لا إثم عليه، وأصله من جنح أي مال عن القصد.{أن يطوف بهما} أي يدور بهما، وأصله يتطوف أدغمت التاء في الطاء.وسبب نزول هذه الآية أنه كان على الصفا والمروة صنمان أساف ونائلة، وكان أساف على الصفا ونائلة على المروة، وكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة تعظيماً للصنمين ويتمسحون بهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كان المسلمون يتحرجون عن السعي بين الصفا والمروة لأجل الصنمين فأذن الله فيه وأخبر أنه من شعائر الله.واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية ووجوب السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة: فذهب جماعة إلى وجوبه وهو قول ابن عامر وجابر وعائشة وبه قال الحسن وإليه ذهب مالك والشافعي، وذهب قوم إلى أنه تطوع وهو قول ابن عباس وبه قال ابن سيرين ومجاهد وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي، وقال الثوري وأصحاب الرأي على من تركه دم.واحتج من أوجبه بما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أخبرنا الربيع عن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الله بن مؤمل العائذي عن عمرو بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني بنت أبي تجراة - اسمها حبيبة إحدى نساء بني عبد الدار - قالت: "دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى لأقول إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي"".أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن هشان بن عروة عن أبيه أنه قال: "قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت قول الله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فما أرى على أحد شيئاً ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا لو كانت كما تقول كانت {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد فأنزل الله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله} الآية".قال عاصم: "قلت لأنس بن مالك أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم، لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل الله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله}".أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المسجد وهو يريد الصفا يقول: "نبدأ بما بدأ الله تعالى به، فبدأ بالصفا""..وقال كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثاً ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وله الملك وله الحمد وهوعلى كل شيء قدير. يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعو ويصنع على المروة مثل ذلك. كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي يسعى حتى يخرج منه. قال مجاهد رحمه الله: "حج موسى عليه السلام على جمل أحمر وعليه عباءتان قطوانيتان، فطاف البيت ثم صعد الصفا ودعا ثم هبط إلى السعي وهو يلبي فيقول لبيك اللهم لبيك، فقال الله تعالى لبيك عبدي وأنا معك فخر موسى عليه السلام ساجداً".قوله تعالى: {ومن تطوع خيراً} قرأ حمزة والكسائي بالياء وتشديد الطاء وجزم العين وكذلك الثانية {فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا} [184-البقرة] بمعنى يتطوع، ووافق يعقوب في الأولى وقرأ الباقون بالتاء وفتح العين على الماضيوقال مجاهد: "معناه فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة"، وقال مقاتل والكلبي: "فمن تطوع: أي زاد في الطواف بعد الواجب".وقيل: من تطوع بالحج والعمرة بعد أداء الحجة الواجبة عليه، وقال الحسن وغيره: "أراد سائر الأعمال يعني فعل غير المفترض عليه من زكاة وصلاة وطواف وغيرها من أنواع الطاعات".{فإن الله شاكر} مجاز لعبده بعمله.والشكر من الله تعالى أن يعطي لعبده فوق ما يستحق. يشكر اليسير ويعطي الكثير.{عليم} بنيته.
Arabic Baghawy Tafseer
2:158
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه التي أنزلها على رسله قال أبو العالية نزلت في أهل الكتاب كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنهم يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء فهؤلاء بخلاف العلماء فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضا عن أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا شيئا "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" الآية وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمار بن محمد عن ليث بن أبي سليم عن المنهال بن عمرو عن زاذان بن عمرو عن البراء بن عازب قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال "إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه يسمعها كل دابة غير الثقلين فتلعنه كل دابة سمعت صوته فذلك قول الله تعالى "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" يعنى دواب الأرض" ورواه ابن ماجه عن محمد بن الصباح عن عامر بن محمد به وقال عطاء بن أربي رباح: كل دابة والجن والإنس وقال مجاهد إذا أجدبت الأرض قال البهائم هذا من أجل عصاة بني آدم لعن الله عصاة بني آدم وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة "ويلعنهم اللاعنون" يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون وقد جاء في الحديث "إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر" وجاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون واللاعنون أيضا وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال أو الحال أن لو كان له عقل ويوم القيامة والله أعلم.
ابن كثير
2:159
إن الذين يُخْفون ما أنزلنا من الآيات الواضحات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وهم أحبار اليهود وعلماء النصارى وغيرهم ممن يكتم ما أنزل الله من بعد ما أظهرناه للناس في التوراة والإنجيل، أولئك يطردهم الله من رحمته، ويدعو عليهم باللعنة جميع الخليقة.
المیسر
2:159
عود بالكلام إلى مهيعه الذي فصل عنه بما اعترض من شرع السعي بين الصفا والمروة كما علمته آنفاً .قال المفسرون إن هاته الآية نزلت في علماء اليهود في كتمهم دلائل صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته وصفات دينه الموجودة في التوراة وفي كتمهم آية الرجم ، وهو يقتضي أن اسم الموصول للعهد فإن الموصول يأتي لما يأتي له المعرف باللام وعليه فلا عموم هنا ، وأنا أرى أن يكون اسم الموصول هنا للجنس فهو كالمعرف بلام الاستغراق فيعم ويكون من العام الوارد على سبب خاص ولا يخصص بسببه ولكنه يتناول أفراد سببه تناولاً أولياً أقوى من دلالته على بقية الأفراد الصالح هو للدلالة عليها لأن دلالة العام على صورة السبب قطعية ودلالته على غيرها مما يشمله مفهوم العام دلالة ظنية ، فمناسبة وقع هاته الآية بعد التي قبلها أن ما قبلها كان من الأفانين القرآنية المتفننة على ذكر ما قابل به اليهود دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتشبيههم فيها بحال سلفهم في مقابلة دعوة أنبيائهم من قبل إلى مبلغ قوله تعالى : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله } [ البقرة : 75 ] إلى قوله : { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب } [ البقرة : 101 ] الآية وما قابل به أشباههم من النصارى ومن المشركين الدعوة الإسلامية ، ثم أفضى ذلك إلى الإنحاء على المشركين قلة وفائهم بوصايا إبراهيم الذي يفتخرون بأنهم من ذريته وأنهم سدنة بيته فقال : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } [ البقرة : 114 ] الآيات ، فنوه بإبراهيم وبالكعبة واستقبالها وشعائرها وتخلل ذلك رد ما صدر عن اليهود من إنكار استقبال الكعبة إلى قوله : { وإن فريقاً منهم ايكتمون الحق وهم يعلمون } [ البقرة : 146 ] ( يريد علماءهم ) ثم عقب ذلك بتكملة فضائل الكعبة وشعائرها ، فلما تم جميع ذلك عطف الكلام إلى تفصيل ما رماهم به إجمالاً في قوله تعالى : { إن فريقاً منهم } فقال : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا } الخ ، وهذه طريقة في الخطابة هي إيفاء الغرض المقصود حقه وتقصير الاستطراد والاعتراض الواقعين في أثنائه ثم الرجوع إلى ما يهم الرجوع إليه من تفصيل استطراد أو اعتراض تخلل الغرض المقصود .فجملة : { إن الذين يكتمون } الخ استئنافُ كلام يعرف منه السامع تفصيل ما تقدم له إجماله ، والتوكيد بإنَّ لمجرد الاهتمام بهذا الخبر .والكتم والكتمان عدم الإخبار بما من شأنه أن يُخْبَر به من حادثثٍ مسموع أو مرئي ومنه كتم السر وهو الخبر الذي تخبر به غيرك وتأمره بأن يكتمه فلا يخبره غيره .وعبر في : { يكتمون } بالفعل المضارع للدلالة على أنهم في الحال كاتمون للبينات والهدى ، ولو وقع بلفظ الماضي لتوهم السامع أن المعني به قوم مضوا مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين .ويعلم حكم الماضين والآتين بدلالة لحن الخطاب لمساواتهم في ذلك .والمراد بما أنزلنا ما اشتملت عليه التوراة من الدلائل والإرشاد ، والمراد بالكتاب التوراة .والبينات جمع بينة وهي الحجة وشمل ذلك ما هو من أصول الشريعة مما يكون دليلاً على أحكام كثيرة ، ويشمل الأدلة المرشدة إلى الصفات الإلهية وأحوال الرسل وأخذ العهد عليهم في اتباع كل رسول جاء بدلائل صدق لا سيما الرسول المبعوث في إخوة إسرائيل وهم العرب الذين ظهرت بعثته بينهم وانتشرت منهم ، والهدى هو ما به الهدى أي الإرشاد إلى طريق الخير فيشمل آيات الأحكام التي بها صلاح الناس في أنفسهم وصلاحهم في مجتمعهم .والكتمان يكون بإلغاء الحفظ والتدريس والتعليم ، ويكون بإزالته من الكتاب أصلاً وهو ظاهره قال تعالى : { وتخفون كثيراً } [ الأنعام : 91 ] ، يكون بالتأويلات البعيدة عن مراد الشارع لأن إخفاء المعنى كتمان له ، وحذف متعلق { يكتمون } الدال على المكتوم عنه للتعميم أي يكتمون ذلك عن كل أحد ليتأتى نسيانه وإضاعته .وقوله : { من بعد } متعلق ب ( يكتمون ) وذكر هذا الظرف لزيادة التفظيع لحال الكتمان وذلك أنهم كتموا البينات والهدى مع انتفاء العذر في ذلك لأنهم لو كتموا ما لم يبين لهم لكان لهم بعض العذر أن يقولوا كتمناه لعدم اتضاح معناه فكيف وهو قد بين ووضح في التوراة .واللام في قوله : { للناس } لام التعليل أي بيناه في الكتاب لأجل الناس أي أردنا إعلانه وإشاعته أي جعلناه بيناً ، وفي هذا زيادة تشنيع عليهم فيما أتوه من الكتمان وهو أنه مع كونه كتماناً للحق وحرماناً منه هو اعتداء على مستحقه الذي جعل لأجله ففعلهم هذا تضليل وظلم .والتعريف في ( الناس ) للاستغراق لأن الله أنزل الشرائع لهدي الناس كلهم وهو استغراق عرفي أي الناس المشرع لهم .وقوله : { أولئك } إشارة إلى { الذين يكتمون } وسط اسم الإشارة بين اسم { إنَّ } وخبرها للتنبيه على أن الحكم الوارد بعد ذلك قد صاروا أحرياء به لأجل تلك الصفات التي ذكرت قبله بحيث إن تلك الصفات جعلتهم كالمشاهدين للسامع فأشير إليهم وهو في الحقيقة إشارة إلى أوصافهم ، فمن أجل ذلك أفادت الإشارة التنبيه على أن تلك الأوصاف هي سبب الحكم وهو إيماء للعلة على حد : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .واختير اسم إشارة البعيد ليكون أبعث للسامع على التأمل منهم والالتفات إليهم أو لأن اسم الإشارة بهذه الصيغة هو الأكثر استعمالاً في كلامهم .وقد اجتمع في الآية إيماآن إلى وجه ترتب اللعن على الكتمان وهما الإيماء بالموصول إلى وجه بناء الخبر أي علته وسببه ، والإيماء باسم الإشارة للتنبيه على أحرويتهم بذلك ، فكان تأكيد الإيماء إلى التعليل قائماً مقام التنصيص على العلة .واللعن الإبعاد عن الرحمة مع إذلال وغضب ، وأثره يظهر في الآخرة بالحرمان من الجنة وبالعذاب في جهنم ، وأما لعن الناس إياهم فهو الدعاء منهم بأن يبعدهم الله عن رحمته على الوجه المذكور ، واختير الفعل المضارع للدلالة على التجدد مع العلم بأنه لعنهم أيضاً فيما مضى إذ كل سامع يعلم أنه لا وجه لتخصيص لعنهم بالزمن المستقبل . وكذلك القول في قوله : { ويلعنهم اللاعنون } ، وكرر فعل { يلعنهم } مع إغناء حرف العطف عن تكريره لاختلاف معنى اللعنين فإن اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة واللعن من البشر الدعاء عليهم عكس ما وقع في { إن الله وملائكته يصلون } [ الأحزاب : 56 ] لأن التحقيق أن صلاة الله والملائكة واحدة وهي الذكر الحسن .والتعريف في : { اللاعنون } للاستغراق وهو استغراق عرفي أي يلعنهم كل لاعن ، والمراد باللاعنين المتدينون الذين ينكرون المنكر وأصحابَه ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان هؤلاء فهم يلعنونهم بالتعيين وإن لم يطلعوا على تعيينهم فهم يلعنونهم بالعنوان العام أي حين يلعنون كل من كتم آيات الكتاب حين يتلون التوراة . 6 ولقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يبينوا التوراة ولا يخفوها كما قال : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } [ آل عمران : 187 ] .وقد جاء ذكر اللعنة على إضاعة عهد الله في التوراة مرات وأشهرها العهد الذي أخذه موسى على بني إسرائيل في ( حوريب ) حسبما جاء في سفر الخروج في الإصحاح الرابع والعشرين ، والعهد الذي أخذه عليهم في ( مؤاب ) وهو الذي فيه اللعنة على من تركه وهو في سفر التثنية في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين ومنه : «أنتم واقفون اليوم جميعكم أما الرب إلهكم . . . لكي تدخلوا في عهد الرب وقسمه لئلا يكون فيكم اليوم منصرف عن الرب . . . فيكون متى يسمع كلام هذه اللعنة يتبرك في قلبه . . . حينئذٍ يحل غضب الرب وغيرته على ذلك الرجل فتحل عليه كل اللعنات المكتوبة في هذا الكتاب ويمحو الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب للشر من جميع أسباط إسرائيل حسب جميع لعنات العهد المكتوبة في كتاب الشريعة هذا . . . لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة» . وفي الإصحاح الثلاثين : «ومتى أتت عليك هذه الأمور البركة واللعنة جعلتهما قدامك» وفيه : «أشهد عليكم اليوم السماء والأرض قد جعلت قدامك الحياة والموت ، البركة واللعنة» .فقوله تعالى : { ويلعنهم اللاعنون } تذكير لهم باللعنة المسطورة في التوراة فإن التوراة متلوة دائماً بينهم فكلما قرأ القارئون هذا الكلام تجددت لعنة المقصودين به ، والذين كتموا ما أنزل من البينات والهدى هم أيضاً يقرأون التوراة فإذا قرأوا لعنة الكاتمين فقد لعنوا أنفسهم بألسنتهم فأما الذين يلعنون المجرمين والظالمين غير الكاتمين ما أنزل من البينات والهدى فهم غير مشمولين في هذا العموم وبذلك كان الاستغراق المستفاد من تعريف اللاعنون باللام استغراقاً عرفياً .واعلم أن لام الاستغراق العرفي واسطة بين لام الحقيقة ولام الاستغراق الحقيقي . وإنما عدل إلى التعريف مع أنه كالنكرة مبالغة في تحققه حتى كأنه صار معروفاً لأن المنكَّر مجهول ، أو يكون التعريف للعهد أي يلعنهم الذين لعنوهم من الأنبياء الذين أوصوا بإعلان العهد وأن لا يكتموه .ولما كان في صلة { الذين يكتمون } إيماء كما قدمناه فكل من يفعل فعلاً من قبيل مضمون الصلة من غير أولئك يكون حقيقاً بما تضمنه اسم الإشارة وخبره فإن من مقاصد القرآن في ذكر القصص الماضية أن يعتبر بها المسلمون في الخير والشر ، وعن ابن عباس أن كل ما ذمّ الله أهلَ الكتاب عليه فالمسلمون محذَّرون من مثله ، ولذا قال أبو هريرة لما قال الناسُ أكثر أبو هريرة من الرواية عن رسول الله فقال : لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثاً بعد أن قال الناس أكثر أبو هريرة : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } الآية وساق الحديث .فالعالم يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هُدى للناس لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة سواء في ذلك العلم الذي بلغ إليه بطريق الخبر كالقرآن والسنة الصحيحة والعلم الذي يحصل عن نظر كالاجتهادات إذا بلغت مبلغ غلبة الظن بأن فيها خيراً للمسلمين ، ويحرم عليه بطريق القياس الذي تومىء إليه العلة أن يبث في الناس ما يوقعهم في أوهام بأن يُلقنها وهو لا يحسن تنزيلها ولا تأويلها ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حدثوا الناس بما يفْهمون أتحبُّون أنْ يكذَّب اللَّهُ ورسولهُ " وكذلك كل ما يعلم أن الناس لا يحسنون وضعَه . وفي «صحيح البخاري» أن الحجَّاج قال لأنس بن مالك حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الراعي واستاقوا الذود فقطع النبي صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا ، فلما بلغ ذلك الحسن البصري قال وددت أنه لم يحدثه ، أو يتلفقون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه معذرة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم ، قال ابن عرفة في «التفسير» : لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلاً أو رخصة يتمادى منها إلى المفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في «الإحياء» من أن بيت المال إذا ضعف واضطر السلطان إلى ما يجهز به جيوش المسلمين لدفع الضرر عنهم فلا بأس أن يوظف على الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة ، قال ابن عرفة وذكر هذه المظلمة مما يحدث ضرراً فادحاً في الناس . وقد سأل سلطان قرطبة عبد الرحمن بن معاوية الداخل يحيى بن يحيى الليثي عن يوم أفطره في رمضان عامداً غلبته الشهوة على قربان بعض جواريه فيه فأفتاه بأنه يصوم ستين يوماً والفقهاء حاضرون ما اجترأوا على مخالفة يحيى فلما خرجوا سألوه لِمَ خصصته بأحد المخيرات فقال لو فتحنا له هذا الباب لوطىء كل يوم وأعتق أو أطعم فحملته على الأصعب لئلا يعود اه .قلت فهو في كتمه عنه الكفارتين المخير فيهما قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حُرمة فريضة الصوم .فالعالم إذا عين بشخصه لأن يبلغ علماً أو يبين شرعاً وجب عليه بيانه مثل الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبلاغ كتبه أو لدعوة قومهم ، وإن لم يكن معيناً بشخصه فهو لا يخلو إما أن يكون ما يعلمه قد احتاجت الأمة إلى معرفته منه خاصة بحيث يتفرد بعلمه في صقع أو بلد حتى يتعذر على أناس طلب ذلك من غيره أو يتعسر بحيث إن لم يعلمها إياه ضلت مثل التوحيد وأصول الاعتقاد ، فهذا يجب عليه بيانه وجوباً متعيناً عليه إن انفرد به في عصر أو بلد ، أو كان هو أتقن للعلم فقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : «إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم يتفهمون أو يتعلمون فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيراً» . وإن شاركه فيه غيره من أمثاله كان وجوبه على جميع الذين يعلمون ذلك على الكفاية ، وإما أن يكون ما يعلمه من تفاصيل الأحكام وفوائدها التي تنفع الناس أو طائفة منهم ، فإنما يجب عليه عيناً أو كفاية على الوجهين المتقدمين أن يبين ما دعت الحاجة إلى بيانه ، ومما يعد قد دعت الحاجة إلى بيانه أن تعين له طائفة من الناس ليعلمهم فحينئذٍ يجب عليه أن يعلمهم ما يرى أن في علمهم به منفعة لهم وقدرة على فهمه وحسن وضعه ، ولذلك وجب على العالم إذا جلس إليه الناس للتعلم أن يلقي إليهم من العلم ما لهم مقدرة على تلقيه وإدراكه ، فظهر بهذا أن الكتمان مراتب كثيرة وأن أعلاها ما تضمنته هذه الآية ، وبقية المراتب تؤخذ بالمقايسة ، وهذا يجيء أيضاً في جواب العالم عما يلقى إليه من المسائل فإن كان قد انفرد بذلك أو كان قد عين للجواب مثل من يعين للفتوى في بعض الأقطار فعليه بيانه إذا علم احتياج السائل ويجيء في انفراده بالعلم أو تعيينه للجواب وفي عدم انفراده الوجهان السابقان في الوجوب العيني والوجوب الكفائي . وفي غير هذا فهو في خيرة أو يجيب أو يترك . وبهذا يكون تأويل الحديث الذي رواه أصحاب «السنن الأربعة» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " فخصص عمومه في الأشخاص والأحوال بتخصيصات دلت عليها الأدلة قد أشرنا إلى جماعها .وذكر القرطبي عن سحنون أن الحديث وارد في كتمان الشاهد بحق شهادته .والعهدة في وضع العالم نفسه في المنزلة اللائقة به من هذه المنازل المذكورة على ما يأنسه من نفسه في ذلك وما يستبرىء به لدينه وعرضه .والعهدة في معرفة أحوال الطالبين والسائلين عليه ليجريها على ما يتعين إجراؤها عليه من الصور على ما يتوسمه من أحوالهم والأحوال المحيطة بهم ، فإن أشكل عليه الأمر في حال نفسه أو حال سائله فليستشر أهل العلم والرأي في الدين .ويجب أن لا يغفل عن حكمة العطف في قوله تعالى : { والهدى } حتى يكون ذلك ضابطاً لما يفضي إليه كتمان ما يكتم .
Arabic Tanweer Tafseer
2:159
ثم حض - سبحانه - على إظهار الحق وبيانه ، وتوعد بالعقاب الشديد من يعمل على إخفائه وكتمانه .فقال - تعالى :( إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات . . . )قال الآلوسي : أخرج جماعة عن ابن عباس قال : سأل معاذ بن جبل ، وسعد بن معاذ ، وخارجه بن زيد نفراً من أحبار يهود عما في التوراة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعض الأحكام فكتموا ، فأنزل الله - تعالى - فيهم هذه الآية ( إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ ) . . . إلخ .والكتم والكتمان : إخفاء الشيء قصداً مع مسيس الحاجة إليه وتحقق الداعي إلى إظهاره . وكتم ما أنزل الله يتناول إخفاء ما أنزله ، وعدم ذكره للناس وإزالته عن موضعه ووضع شيء آخر موضعه ، كما يتناول تحريفه بالتأويل الفاسد عن معناه الصحيح جرياً مع الأهواء ، وقد فعل أهل الكتاب ولا سيما اليهود - كل ذلك . فقد كانوا يعرفون مما بين أيديهم من آيات أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حق ، ولكنهم كتموا هذه المعرفة حسداً له على ما آتاه الله من فضله ، كما أنهم حرفوا كلام الله وأولوه تأويلا فاسداً تبعاً لأهوائهم .والمراد " بما أنزلنا " ما اشتملت عليه الكتب السماوية السابقة على القرآن من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ومن هداية وأحكام .والمراد بالكتاب جنس الكتب ، فيصح حمله على جميع الكتب التي أنزلت على الرسل - عليهم السلام - وقيل : المراد به التوراة .و ( البينات ) جمع بينه ، والمراد بها الآيات الدالة على المقاصد الصحيحة بوضوح ، وهي ما نزل على الأنبياء من طريق الوحي .والمراد ب ( والهدى ) ما يهدي إلى الرشد مطلقاً فهو أعم من البينات ، إذ يشمل المعاني المستمدة من الآيات البينات عن طريق الاستنباط ، والاجتهاد القائم على الأصول المحكمة .و " اللعن " الطرد والإِبعاد من الرحمة . يقال : لعنه ، أي " طرده وأبعده ساخطاً عليه ، فهو لعين وملعون .والمعنى : إن الذين يخفون عن قصد وتعمد وسوء نية ما أنزل الله على رسله من آيات واضحة دالة على الحق ، ومن علم نافع يهدي إلى الرشد ، من بعد ما شرحناه وأظهرناه للناس في كتاب يتلى ، أولئك الذين فعلوا ذلك ( يَلعَنُهُمُ الله ) بأن يبعدهم عن رحمته ( وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون ) أي ويلعنهم كل من تتأتى منه اللعنة - كالملائكة والمؤمنين - بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله لكتمانهم لما أمر الله بإظهاره .وجملة ( إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ . . . ) إلخ ، مستأنفة لبيان سوء عاقبة الكاتمين لما أمر اله بإظهاره ، وأكدت " بإن " للاهتمام بهذا الخبر الذي ألقى على مسامع الناس .وعبر في ( يَكْتُمُونَ ) بالفعل المضارع ، للدلالة على أنهم في الحال كاتمون للبينات والهدى ، ولو وقع بلفظ الماضي لتوهم السامع أن المقصود به قوم مضوا ، مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين .وقوله : ( مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب ) متعلق بيكتمون ، وقد دلت هذه الجملة الكريمة على أن معصيتهم بالكتمان في أحط الدركات وأقبحها؛ لأنهم عمدوا إلى ما أنزل الله من هدى ، وجعله بينا للناس في كتاب يقرأ ، فكتموه قصداً مع تحقق المقتضى لإِظهاره ، وإنما يفعل ذلك من بلغ الغاية في سفاهة الرأي ، وخبث الطوية .واللام في قوله : ( لِلنَّاسِ ) للتعليل ، أي : بيناه في الكتاب لأجل أن ينتفع به الناس ، وفي هذا زياد تشنيع عليهم فيما أتوه من كتمان ، لأن فعلهم هذا مع أنه كتمان للحق ، فهو في الوقت نفسه اعتداء على مستحقه الذي هو في أشد الحاجة إليه .وقوله : ( أولئك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون ) يفيد نهاية الغضب عليهم ، حتى لكأنهم تحولوا إلى ملعنة ينصب عليها اللعن من كل مصدر ، ويتوجه إليها من كل من يستطيع اللعن ويؤديه .والآية الكريمة وإن كانت نزلت في أهل الكتاب بسبب كتمانهم للحق ، إلا أن وعيدها يتناول كل من كتم علماً نافعاً ، أو غير ذلك من الأمور التي يقضي الدين بإظهارها ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومن شواهد هذا العموم ما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب ما حدثت حديثاً ثم تلا قوله - تعالى - : ( إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات ) إلى قوله : ( الرَّحِيمُ ) .قال ابن كثير : وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضاً عن أبي هريرة وغيره ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " .هذا ، وينبغي أن يعلم أن الإِسلام وإن كان ينهى نهياً قاطعاً عن كتم العلم الذي فيه منفعة للناس ، إلا أنه يوجب على أتباعه - وخصوصاً العلماء - أن يحسنوا ما ينشرونه على الناس من علم ، ففي الحديث الشريف : " حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله " .كما أنه يوجب عليهم أن يضعوا العلم في موضعه المناسب لمقتضى حال المخاطبين ، فليس كل ما يعلم يقال ، بل أحياناً يكون إخفاء بعض الأحكام مناسباً لأن إظهاره قد يستعمله الطغاة والسفهاء فيما يؤذي الناس ، وفي صحيح البخاري أن الحجاج قال لأنس بن مالك حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الرعاة واستاقوا الإِبل ، حيث قطع النبي صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا . فلما بلغ الحسن البصري ذلك قال : وددت أنه لم يحدثه؟؟ أنهم يتلقفون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه ذريعة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم .ومما يشهد بفقه بعض العلماء وحسن إدراكهم ، ووضعهم العلم في موضعه المناسب : ما جاء في بعض الكتب أن سلطان قرطبة سأل يحيى بن يحيى الليثي عن حكم يوم أفطره في رمضان عامداً لأن شهوته غلبته على وطء بعض جواريه ، فأفتاه بأن من الواجب عليه أن يصوم ستين يوماً ، وكان بعض الفقهاء جالساً فلم يجترئ على مخالفة يحيى .فلما انفض المجلس قيل له : لم خصصت الحكم بأحد المخيرات وكتمت العتق والإِطعام؟ فقال - رحمه الله - لو فتحنا هذا الباب لو طئ كل يوم وأعتق أو أطعم ، فحملته على الأصعب لئلا يعود .فالإِمام يحيى عند ما كتم عن السلطان الكفارتين الأخريين - وهما الأعتاق والإِطعام - لا يعتبر مسيئاً؛ لأنه قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حرمة فريضة الصوم .وهكذا نرى أن إظهار العلم عند تحقق المقتضى لإِظهاره ، ووضعه في موضعه اللائق به بدون خشية أو تحريف يدل على قوة الإِيمان ، وحسن الصلة بالله - تعالى - : ( ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ) وبعد هذا الوعيد الشديد لأولئك الكاتمين لما أمر الله بإظهاره ، أورد القرآن في أعقاب ذلك آية تفتح لهم نافذة الأمل ، وتبين لهم أنهم إذا تابوا وأنابوا قبل الله توبتهم ورحمهم ،
Arabic Waseet Tafseer
2:159
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِقال أبو جعفر: يعني بقوله: (58) " إنّ الذين يَكتمون مَا أنـزلنا منَ البينات ", علماءَ اليهود وأحبارَها، وعلماءَ النصارى, لكتمانهم الناسَ أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم, وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.* * *و " البينات " التي أنـزلها الله: (59) ما بيّن من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته، في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره أنّ أهلهما يجدون صفته فيهما.* * *ويعني تعالى ذكره ب " الهدى " ما أوضح لَهم من أمره في الكتب التي أنـزلها على أنبيائهم, فقال تعالى ذكره: إنّ الذين يكتمون الناسَ الذي أنـزلنا في كتبهم من البيان من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وصحة الملة التي أرسلته بها وحقِّيَّتها، فلا يخبرونهم به، ولا يعلنون من تبييني ذلك للناس وإيضاحِيه لهم، (60) في الكتاب الذي أنـزلته إلى أنبيائهم أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا الآية. كما:-2370- حدثنا أبو كريب قال، وحدثنا يونس بن بكير -وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير, أو عكرمة, عن ابن عباس قال: سألَ مُعاذ بن جبل أخو بنى سَلِمة، وسعد بن مُعاذ أخو بني عبد الأشهل، وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج, نفرًا من أحبار يَهود - قال أبو كريب: عما في التوراة, وقال ابن حميد: عن بَعض مَا في التوراة - فكتموهم إياه, وأبوْا أن يُخبروهم عنه, فأنـزل الله تعالى ذكره فيهم: " إنّ الذين يَكتمون مَا أنـزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم الله وَيَلعنهم اللاعنون ". (61)2371- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: " إنّ الذين يَكتمونَ مَا أنـزلنا من البينات والهدى " قال، هم أهل الكتاب.2372- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.2373- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه عن الربيع في قوله: " إنّ الذين يكتمون ما أنـزلنا من البينات والهدى " قال، كتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم, فكتموه حسدًا وبغيًا.2374- حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " إنّ الذين يَكتمون مَا أنـزلنا من البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب "، أولئكَ أهلُ الكتاب، كتموا الإسلام وهو دين الله, وكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم, وهم يَجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.2374م- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " إنّ الذين يَكتمونَ ما أنـزلنا من البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب "، زعموا أن رجلا من اليهود كان له صديقٌ من الأنصار يُقال له ثَعلبة بن غَنَمة، (62) قال له: هل تجدون محمدًا عندكم؟ قال: لا! = قال: مُحمد: " البينات ". (63)* * *القول في تأويل قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ[قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " من بعد ما بيناه للناس "]، (64) بعضَ الناس، لأن العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ومَبعثه لم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم, وإياهم عَنى تعالى ذكره بقوله: " للناس في الكتاب "، ويعني بذلك: التوراة والإنجيل.* * *وهذه الآية وإن كانت نـزلت في خاصٍّ من الناس, فإنها معنيٌّ بها كل كاتمٍ علمًا فرضَ الله تعالى بيانه للناس.وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال2375- من سُئل عَن علم يَعلمهُ فكتمه, ألجِمَ يوم القيامة بلجام من نار." (65)* * *وكان أبو هريرة يقول ما:-2376- حدثنا به نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا حاتم بن وردان قال، حدثنا أيوب السختياني, عن أبي هريرة قال، لولا آيةٌ من كتاب الله ما حدَّثتكم! وتلا " إنّ الذين يكتمونَ مَا أنـزلنا من البينات والهدى من بَعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون "، (66)2377- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة وَهْب الله بن راشد، عن يونس قال، قال ابن شهاب, قال ابن المسيب: قال أبو هريرة: لولا آيتان أنـزلهما الله في كتابه ما حدَّثت شيئًا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ إلى آخر الآية، والآية الأخرى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ إلى آخر الآية [سورة آل عمران: 187]. (67)* * *القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " أولئك يَلعنهم الله "، هؤلاء الذين يكتمون ما أنـزلهُ الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفَته وأمر دينه، أنه الحق -من بعد ما بيَّنه الله لهم في كتبهم- يلعنهم بكتمانهم ذلك، وتركهم تَبيينه للناس.* * *و " اللعنة "" الفَعْلة ", من " لعنه الله " بمعنى أقصاه وأبعده وأسْحَقه. وأصل " اللعن ": الطرْد، (68) كما قال الشماخ بن ضرار, وذكر ماءً ورَد عليه:ذَعَــرْتُ بِـهِ القَطَـا وَنَفَيْـتُ عَنْـهُمَقَــامَ الـذِّئْبِ كَـــالرَّجُلِ الَّلعِيـــنِ (69)يعني: مقامَ الذئب الطريد. و " اللعين " من نعت " الذئب ", وإنما أراد: مقام الذئب الطريد واللعين كالرَّجل. (70)* * *فمعنى الآية إذًا: أولئك يُبعدهم الله منه ومن رحمته, ويسألُ ربَّهم اللاعنون أنْ يلعنهم، لأن لعنةَ بني آدم وسائر خَلق الله مَا لَعنوا أن يقولوا: " اللهم العنه " إذْ كان معنى " اللعن " هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد.وإنما قلنا إن لعنة اللاعنين هي ما وصفنا: من مسألتهم رَبَّهم أن يَلعَنهم, وقولهم: " لعنه الله " أو " عليه لعنة الله "، لأن:-2378- محمد بن خالد بن خِداش ويعقوب بن إبراهيم حدثاني قالا حدثنا إسماعيل بن علية, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون "، البهائم, قال: إذا أسنَتَتِ السَّنة، (71) قالت البهائم: هذا من أجل عُصَاة بني آدم, لعنَ الله عُصَاة بني آدم!* * *ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره ب " اللاعنين ". فقال بعضهم: عنى بذلك دوابَّ الأرض وهَوامَّها.* ذكر من قال ذلك:2379- حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد قال: تلعنهم دوابُّ الأرض، وما شاءَ الله من الخنافس والعقارب تقول: نُمْنَعَ القطرَ بذنوبهم.2380- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد: " أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون " قال، دواب الأرض، العقاربُ والخنافس، يقولون: مُنِعنا القطرَ بخطايا بني آدم.2381- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عمرو، عن منصور, عن مجاهد: " ويلعنهم اللاعنون " قال، تلعنهم الهوامّ ودواب الأرض، تقول: أمسك القطرُ عنا بخطايا بني آدم.2382- حدثنا مُشرف بن أبان الحطاب البغدادي قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن خصيف, عن عكرمة في قوله: " أولئك يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون " قال، يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقاربُ، يقولون: مُنعنا القطرَ بذنوب بني آدم. (72)2383- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " ويلعنهم اللاعنون " قال، اللاعنون: البهائم.2383م- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " ويلعنهم اللاعنون "، البهائمُ، تلعن عُصاةَ بَني آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بني آدم المطر، فتخرج البهائم فتلعنهم.2384- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " أولئك يَلعنهم الله &;ويَلعنهم اللاعنون "، البهائم: الإبل والبقرُ والغنم, فتلعن عُصاةَ بني آدم إذا أجدبت الأرض.* * *فإن قال لنا قائل: ومَا وَجْهُ الذين وجَّهوا تأويلَ قوله: " ويلعنهم اللاعنون "، إلى أن اللاعنين هم الخنافسُ والعقارب ونحو ذلك من هَوامِّ الأرض, وقد علمتَ أنّها إذا جَمعتْ مَا كان من نَوع البهائم وغير بني آدم، (73) فإنما تجمعه بغير " الياء والنون " وغير " الواو والنون ", وإنما تجمعه ب " التاء ", وما خالفَ ما ذكرنا, فتقول: " اللاعنات " ونحو ذلك؟قيل: الأمر وإن كان كذلك, فإنّ من شأن العرَب إذا وصفت شيئًا من البهائم أو غيرها - مما حُكم جَمعه أن يكون ب " التاء " وبغير صورة جمع ذُكْرَانِ بني آدم - بما هُو منْ صفة الآدميين، أن يجمعوه جمع ذكورهم, كما قال تعالى ذكره: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا [سورة فصلت: 21]، فأخرج خطابهم على مثال خطاب بني آدم، إذ كلَّمتهم وكلَّموها, وكما قال: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [سورة النمل: 18]، وكما قال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف: 4].* * *وقال آخرون: عنى الله تعالى ذكره بقوله: " ويَلعنهم اللاعنون "، الملائكة والمؤمنين.* ذكر من قال ذلك:2385- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " ويَلعنهم اللاعنون "، قال، يَقول: اللاعنون من ملائكة الله ومن المؤمنين. (74)2386- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " ويلعنهم اللاعنون "، الملائكة.2387- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس قال: " اللاعنون "، من ملائكة الله والمؤمنين.* * *وقال آخرون: يعني ب " اللاعنين "، كل ما عدا بني آدم والجنّ.* ذكر من قال ذلك:2388- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " ويلعنهم اللاعنون " قال، قال البراء بن عازب: إنّ الكافر إذا وُضع في قبره أتته دَابة كأن عينيها قِدْران من نُحاس، معها عمود من حديد, فتضربه ضربة بين كتفيه، فيصيح، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه, ولا يبقى شَيء إلا سمع صوته, إلا الثقلين الجن والإنس.2389- حدثنا المثنى قال, حدثنا إسحاق قال, حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: " أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " قال، الكافر إذا وضع في حفرته، ضُرب ضربة بمطرق (75) فيصيح صيحةً، يسمع صَوْته كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس، فلا يسمع صيحته شَيء إلا لعنه.* * *قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال: " اللاعنون "، الملائكةُ والمؤمنون. لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحلّ بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين, فقال تعالى ذكره: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، (76) فكذلك &; 3-258 &; اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها حَالَّة بالفريق الآخر: الذين يكتمونَ ما أنـزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس، (77) هي لعنة الله، ولعنة الذين أخبر أن لعنتهم حالّة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار، (78) وهم " اللاعنون ", لأن الفريقين جميعًا أهلُ كفر.* * *وأما قول من قال إن " اللاعنين " هم الخنافس والعقارب وما أشبه ذلك من دبيب الأرض وهَوامِّها، (79) فإنه قول لا تدرك حَقيقته إلا بخبر عن الله أن ذلك من فعلها تَقوم به الحجة, ولا خبرَ بذلك عن نبي الله صلى الله عليه وسلم, فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك.وإذْ كان ذلك كذلك, فالصواب من القول فيما قالوه أن يقال: إن الدليل من ظاهر كتاب الله موجودٌ بخلاف [قول] أهل التأويل، (80) وهو ما وصفنا. فإنْ كان جائزًا أن تكون البهائم وسائرُ خلق الله، تَلعن الذين يَكتمون ما أنـزل الله في كتابه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوّته, بعد علمهم به, وتلعن معهم جميع الظَّلمة - فغير جائز قطعُ الشهادة في أن الله عنى ب " اللاعنين " البهائمَ والهوامَّ ودَبيب الأرض, إلا بخبر للعذر قاطع. ولا خبرَ بذلك، وظاهر كتابا لله الذي ذكرناه دالٌّ على خلافه. (81)-------------الهوامش :(58) في المطبوعة : يقول : "إن الذين يكتمون . . . " ، وهو خطأ ناسخ ، صوابه ما أثبت .(59) في المطبوعة : "من البينات" ، كأنه متصل بالكلام قبله ، وهو لا يستقيم ، وكأن الصواب ما أثبت .(60) كان في المطبوعة"ولا يعلمون من تبييني ذلك للناس وإيضاحي لهم" ، وهي عبارة لا تستقيم وسياق معنى الآية يقتضي ما أثبت ، من جعل"يعلمون""يعلنونه" ، وزيادة"بعد" ، وجعل"إيضاحي""إيضاحيه" .(61) الأثر رقم : 2370- في سيرة ابن هشام 2 : 200 كما في رواية ابن حميد .(62) في سيرة ابن هشام ، وغيرها بالغين المعجمة غير مضبوط باللفظ ، ولكن ابن حجر ضبطه في الإصابة ، وقال : "بفتح المهملة والنون" ، ولم يذكر شكًا ولا اختلافًا في ضبطه بالغين المعجمة .(63) قوله : "قال : محمد البينات" من تفسير السدي ، ليس من الخطاب بين ثعلبة بن غنمة واليهودي . ويعني أن البينات التي يكتمونها هي محمد صلى الله عليه وسلم ، أي صفته ونعته في كتابهم .(64) الزيادة بين القوسين لا بد منها ، وقد استظهرتها من نهج أبي جعفر في جميع تفسيره . وهذا سقط من الناسخ بلا ريب .(65) الحديث : 2375- هذا حديث صحيح . ذكره الطبري هنا معلقًا دون إسناد . وقد رواه أحمد في المسند : 7561 ، من حديث أبي هريرة . وخرجناه في شرح المسند ، وفي صحيح ابن حبان بتحقيقنا ، رقم : 95 .(66) الحديث : 2376- نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي : ثقة ، من شيوخ أصحاب الكتب الستة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/106 ، وابن أبي حاتم 4/1/471 .حاتم بن وردان السعدي : ثقة ، روى له الشيخان . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/72 ، وابن أبي حاتم 1/2/260 .أيوب السختياني : مضى في : 2039 . ولكن روايته هنا عن أبي هريرة منقطعة ، فإنه ولد سنة 66 ، وأبو هريرة مات سنة 59 أو نحوها . ومعنى الحديث صحيح ثابت عن أبي هريرة ، بروايات أخر متصلة ، كما سنذكر في الحديث بعده .(67) الحديث : 2377- محمد بن عبد الله بن عبد الحكم : الإمام الحافظ المصري ، فقيه عصره ، قال ابن خزيمة : "ما رأيت في فقهاء الإسلام أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين - منه" . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/2/300-301 ، وتذكرة الحفاظ 2 : 115-116 .أبو زرعة وهب الله بن راشد المصري ، مؤذن الفسطاط : ثقة ، قال أبو حاتم : "محله الصدق" . ترجمه ابن أبي حاتم 4/2/27 ، وقال : "روى عنه عبد الرحمن ، ومحمد ، وسعد ، بنو عبد الله بن عبد الحكم" . وترجم أيضًا في لسان الميزان 6 : 235 ، ونقل عن ابن يونس ، أنه مات في ربيع الأول سنة 211"وكانت القضاة تقبله" ، وروى عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم . في فتوح مصر مرارًا ، منها في ص : 182 س 3-4 : "حدثنا وهب الله بن راشد ، أخبرنا يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب . . . " . وهذا الإسناد ثابت في تاريخ ولاة مصر للكندي ، ص 33 ، عن علي بن قديد ، عن عبد الرحمن : "حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد" . وذكره الدولابي في الكنى والأسماء 1 : 182 ، وروى : "حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، والربيع بن سليمان الجيزى ، قالا : حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد ، إلخ" . ورواية الربيع الجيزى عنه ، ثابتة في كتاب الولاة ، ص 313 ، أيضًا .وهذا الاسم"وهب الله" : من نادر الأسماء ، لم أره -فيما رأيت- إلا لهذا الشيخ ، ولم يذكره أصحاب المشتبه ، بل لم يذكره الزبيدي في شرح القاموس ، على سعة اطلاعه . واشتبه أمره على ناسخي الطبري أو طابعيه ، فثبت في المطبوعة هكذا : "ثنا أبو زرعة وعبد الله بن راشد"؛ فحرفوا"وهب الله" إلى"وعبد الله" - فجعلوه راويين!يونس : هو ابن يزيد الأيلي ، وهو ثقة ، عرف بالراوية عن الزهري وملازمته . قال أحمد بن صالح : "نحن لا نقدم في الزهري أحدًا على يونس" ، وقال : "كان الزهري إذا قدم أيلة نزل على يونس ، وإذا سار إلى المدينة زامله يونس" . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/406 ، وابن أبي حاتم 4/2/247-249 ، وابن سعد 7/2/206 .وهذا الحديث جزء من حديث مطول ، رواه مسلم 2 : 261-262 ، من طريق ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب -فذكر حديثًا عن عائشة- ثم : "قال ابن شهاب : وقال ابن المسيب : إن أبا هريرة قال . . . " .ورواه عبد الرزاق في تفسيره ، ص 14-15 ، عن معمر ، عن الزهري ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، بنحوه مطولا . ورواه أحمد في المسند : 7691 ، عن عبد الرزاق .ورواه البخاري 5 : 21 (فتح) ، بنحوه ، من رواية إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، عن الأعرج . ورواه البخاري أيضًا 1 : 190-191 (فتح) من رواية مالك ، عن الزهري ، عن الأعرج وكذلك رواه ابن سعد 2/2/118 ، وأحمد في المسند : 7274- كلاهما من طريق مالك .وروى الحاكم في المستدرك 2 : 271 ، نحوه مختصرًا ، من طريق أبي أسامة ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة ، وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه" . ووافقه الذهبي .(68) انظر ما سلف 2 : 328 .(69) سلف تخريجه وشرحه في 2 : 328 . وفي التعليق هناك خطأ صوابه"مجاز القرآن : 46" .(70) كان في المطبوعة : "الطريد واللعين" ، والصواب طرح الواو .(71) أسنتت الأرض والسنة : أجدبت ، وعام مسنت مجدب . والسنة : القحط والجدب . وكان في المطبوعة : "أسنت" ، والصواب ما أثبت . وفي الدر المنثور 1 : 162 : "إذا اشتدت السنة" .(72) الخبر : 2382- مشرف بن أبان الحطاب البغدادي : ثبت هنا على الصواب ، كما ظهر في : 1951 . وقد مضى ذلك مغلوطًا"بشر بن أبان" : 1383 .(73) الضمير في قوله : "أنها إذا جمعت" ، للعرب ، وإن لم يجر لها ذكر في الكلام .(74) في المطبوعة : "يزيد بن زريع عن قتادة" بإسقاط"قال حدثنا سعيد" ، والصواب ما أثبته ، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه رقم : 2374 .(75) المطرق والمطرقة : وهي أداة الحداد التي يضرب بها الحديد .(76) هي الآية رقم : 161 ، تأتي بعد قليل .(77) في المطبوعة : "من بعد ما بيناه للناس" ، وهو سهو ناسخ .(78) في المطبوعة : "هي لعنة الله التي أخبر أن لعنتهم حالة . . . " ، والصواب ما أثبت .(79) كل ماش على وجه الأرض يقال له : دابة ودبيب .(80) ما بين القوسين زيادة ، أخشى أن تكون سقطت من ناسخ .(81) في المطبوعة : "وكتاب الله الذي ذكرناه" ، وهو كلام لا يقال . والصواب ما أثبت . والذي ذكره آنفًا : "إن الدليل من ظاهر كتاب الله . . . " .هذا ، ورد قول هؤلاء القائلين بما قالوه ، مبين لك عن نهج الطبري وتفسيره ، وكاشف لك عن طريقته في رد الأخبار التي رواها عن التابعين ، في كل ما يحتاج إلى خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاطع بالبيان عما ذكروه . والطبري قد يذكر مثل هذه الأخبار ، ثم لا يذكر حجته في ردها ، لأنه كره إعادة القول وتريده فيما جعله أصلا في التفسير ، كما بين ذلك في"رسالة التفسير" ، ثم في تفسيره بعد ، ورد أشباهه في مواضع متفرقة منه . أما إذا كان في شيء من ذلك خبر قاطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا يدع ذكره ، فإذا لم يذكر -فيما أشبه ذلك- خبرًا عن رسول الله ، فاعلم أنه يدع لقارئ كتابه علم الوجه الذي يرد به هذا القول .
الطبري
2:159
قوله تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنونوفيه سبع مسائل :الأولى : أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى ملعون . واختلفوا من المراد بذلك ، فقيل : أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد كتم اليهود أمر الرجم . وقيل : المراد كل من كتم الحق ، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه ، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم : من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار . رواه أبو هريرة وعمرو بن العاص أخرجه ابن ماجه . ويعارضه قول عبد الله بن [ ص: 173 ] مسعود : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة . وقال عليه السلام : حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله . وهذا محمول على بعض العلوم ، كعلم الكلام أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام ، فحكم العالم أن يحدث بما يفهم عنه ، وينزل كل إنسان منزلته ، والله تعالى أعلم .الثانية : هذه الآية هي التي أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله : لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثا . وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق ، وتبيان العلم على الجملة ، دون أخذ الأجرة عليه ، إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله ، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام ، وقد مضى القول في هذا .وتحقيق الآية هو : أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى ، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره . وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث . أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم ، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق ، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله ، ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية ، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات ، وترك الواجبات ونحو ذلك . يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير ، يريد تعليم الفقه من ليس من أهله . وقد قال سحنون : [ ص: 174 ] إن حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة . قال ابن العربي : والصحيح خلافه ; لأن في الحديث ( من سئل عن علم ) ولم يقل عن شهادة ، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله ، والله أعلم .الثالثة : قوله تعالى : من البينات والهدى يعم المنصوص عليه والمستنبط ، لشمول اسم الهدى للجميع . وفيه دليل على وجوب العمل بقول الواحد ; لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله ، وقال : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فحكم بوقوع البيان بخبرهم .فإن قيل : إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر . قلنا : هذا غلط ; لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه ، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجبا للعلم ، والله تعالى أعلم .الرابعة : لما قال : من البينات والهدى دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه ، لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان . وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم . أخرجه البخاري . قال أبو عبد الله : البلعوم مجرى الطعام . قال علماؤنا : وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين ، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى ، والله تعالى أعلم .الخامسة : قوله تعالى : من بعد ما بيناه الكناية في بيناه ترجع إلى ما أنزل من البينات والهدى . والكتاب : اسم جنس ، فالمراد جميع الكتب المنزلة .السادسة : قوله تعالى : أولئك يلعنهم الله أي يتبرأ منهم ويبعدهم من ثوابه ويقول لهم : عليكم لعنتي ، كما قال للعين : وإن عليك لعنتي . وأصل اللعن في اللغة الإبعاد والطرد ، وقد تقدم .[ ص: 175 ] السابعة : قوله تعالى : ويلعنهم اللاعنون قال قتادة والربيع : المراد ب اللاعنون الملائكة والمؤمنون . قال ابن عطية : وهذا واضح جار على مقتضى الكلام . وقال مجاهد وعكرمة : هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم . قال الزجاج : والصواب قول من قال : اللاعنون الملائكة والمؤمنون ، فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازم ولم نجد من ذينك شيئا .قلت : قد جاء بذلك خبر رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون قال : ( دواب الأرض ) . أخرجه ابن ماجه عن محمد بن الصباح أنبأنا عمار بن محمد عن ليث عن أبي المنهال عن زاذان عن البراء إسناد حسن .فإن قيل : كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل ؟ قيل : لأنه أسند إليهم فعل من يعقل ، كما قال : رأيتهم لي ساجدين ولم يقل ساجدات ، وقد قال : لم شهدتم علينا ، وقال : وتراهم ينظرون إليك ، ومثله كثير ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . وقال البراء بن عازب وابن عباس : اللاعنون كل المخلوقات ما عدا الثقلين : الجن والإنس ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين ولعنه كل سامع . وقال ابن مسعود والسدي : ( هو الرجل يلعن صاحبه فترتفع اللعنة إلى السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت فيه أهلا لذلك ، فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده [ ص: 176 ] أهلا فتنطلق فتقع على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تعالى ، فهو قوله : ويلعنهم اللاعنون فمن مات منهم ارتفعت اللعنة عنه فكانت فيمن بقي من اليهود ) .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:159
هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب, وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته, فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله { مِنَ الْبَيِّنَاتِ } الدالات على الحق المظهرات له، { وَالْهُدَى } وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم, ويتبين به طريق أهل النعيم, من طريق أهل الجحيم، فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم, بأن يبينوا الناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين, كتم ما أنزل الله, والغش لعباد الله، فأولئك { يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ } أي: يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته. { وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } وهم جميع الخليقة, فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة, لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم, وإبعادهم من رحمة الله, فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير, يصلي الله عليه وملائكته, حتى الحوت في جوف الماء, لسعيه في مصلحة الخلق, وإصلاح أديانهم, وقربهم من رحمة الله, فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله, مضاد لأمر الله, مشاق لله, يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها فهذا عليه هذا الوعيد الشديد.
Arabic Saddi Tafseer
2:159
قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب} نزلت في علماء اليهود كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغيرهما من الأحكام التي كانت في التوراة.{أولئك يلعنهم الله} وأصل اللعن الطرد والبعد.{ويلعنهم اللاعنون} أي يسألون الله أن يلعنهم ويقولون: اللهم العنهم.واختلفوا في هؤلاء اللاعنين، قال ابن عباس: "جميع الخلائق إلا الجن والإنس"، وقال قتادة: "هم الملائكة". وقال عطاء: "الجن والإنس"، وقال الحسن: "جميع عباد الله".قال ابن مسعود: "ما تلاعن اثنان من المسلمين إلا رجعت تلك اللعنة على اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته".وقال مجاهد: "اللاعنون البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر وقالت هذا من شؤم ذنوب بني آدم".ثم استثنى:
Arabic Baghawy Tafseer
2:159
استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال "إلا الذين تابوا واصلحوا وبينوا" أي رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه "فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم" وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل من مثل هؤلاء منهم ولكن هذا من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه ثم أخبر تعالى عمن كفر به وأستمر به الحال إلى مماته بأن "عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها" أي في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة ثم المصاحبة لهم فى نار جهنم التي "لا يخفف عنهم العذاب" فيها أى لا ينقص عماهم فيه "ولا هم ينظرون" أي لا يغير عنهم ساعة واحدة ولا يفتر بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك قال أبو العالية وقتادة إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون.
ابن كثير
2:160
إلا الذين رجعوا مستغفرين الله من خطاياهم، وأصلحوا ما أفسدوه، وبَيَّنوا ما كتموه، فأولئك أقبل توبتهم وأجازيهم بالمغفرة، وأنا التواب على من تاب من عبادي، الرحيم بهم؛ إذ وفقتُهم للتوبة وقبلتها منهم.
المیسر
2:160
وقوله : { إلا الذين تابوا } استثناء من { الذين يكتمون } أي فهم لا تلحقهم اللعنة ، وهو استثناء حقيقي منصوب على تمام الكلام من { الذين يكتمون ما أنزلنا } الخ .وشُرط للتوبة أن يصلحوا ما كانوا أفسدوا وهو بإظهار ما كتموه وأن يبينوه للناس فلا يكفي اعترافهم وحدهم أو في خلواتهم ، فالتوبة هنا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه رجوع عن كتمانهم الشهادة له الواردة في كتبهم وإطلاق التوبة على الإيمان بعد الكفر وارد كثيراً لأن الإيمان هو توبة الكافر من كفره ، وإنما زاد بعده { وأصلحوا وبينوا } لأن شرط كل توبة أن يتدارك التائب ما يمكن تداركه مما أضاعه بفعله الذي تاب عنه . ولعل عطف { وبينوا } على { أصلحوا } عطف تفسير .وقوله : { فأولئك أتوب عليهم } جملة مستأنفة لغير بيان بل لفائدة جديدة لأنه لما استثنى { الذين تابوا } فقد تم الكلام وعلم السامع أن من تابوا من الكاتمين لا يلعنهم الله ولا يلعنهم اللاعنون ، وجيء باسم الإشارة مسند إليه يمثل النكتة التي تقدمت .وقرنت الجملة بالفاء للدلالة على شيء زائد على مفاد الاستثناء وهو أن توبتهم يعقبها رضى الله عنهم .وفي «صحيح البحاري» عن ابن مسعود قال رسول الله : " للَّهُ أَفْرَحُ بتوبة عبده من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله ، قال أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده " .فجاء في الآية نظم بديع تقديره إلاّ الذين تابوا انقطعت عنهم اللعنة فأتوب عليهم ، أي أرضى ، وزاد توسط اسم الإشارة للدلالة على التعليل وهو إيجاز بديع .
Arabic Tanweer Tafseer
2:160
فقال - تعالى - : ( إِلاَّ الذين تَابُواْ ) أي : رجعوا عن الكتمان وعن سائر ما يجب أن يتاب عنه ، وندموا على ما صدر عنهم ( وَأَصْلَحُواْ ) ما أفسده بالكتمان بكل وسيلة ممكنة ( وَبَيَّنُواْ ) للناس حقيقة ما كتموه ( فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) أي : أقبل توبتهم ، وأفيض عليهم من رحمتي ومغفرتي ، ( وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) أي : المبالغ في قبول التوبة ونشر الرحمة .
Arabic Waseet Tafseer
2:160
القول في تأويل قوله تعالى : إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله واللاعنين يَلعنون الكاتمين الناس ما علموا من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته في الكتاب الذي أنـزله الله وبَيَّنه للناس, إلا من أناب من كتمانه ذلك منهم؛ ورَاجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم, والإقرار به وبنبوّته, وتصديقه فيما جاء به من عند الله، وبيان ما أنـزل الله في كتبه التي أنـزل إلى أنبيائه، من الأمر باتباعه؛ وأصلح حالَ نفسه بالتقرب إلى الله من صَالح الأعمال بما يُرضيه عنه؛ وبيَّن الذي عَلم من وَحي الله الذي أنـزله إلى أنبيائه وعهد إليهم في كتبه فلم يكتمه، وأظهرَه فلم يُخفِه =" فأولئك ", يعني: هؤلاء الذين فَعلوا هذا الذي وصفت منهم, هم الذين أتوب عليهم, فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي، والإنابة إلى مَرضَاتي.ثم قال تعالى ذكره: " وَأنا التواب الرحيم "، يقول: وأنا الذي أرجع بقلوب عبيدي المنصرفة عنّى إليَّ, والرادُّها بعد إدبارها عَن طاعتي إلى طلب محبتي, والرحيم بالمقبلين بعد إقبالهم إليَّ، أتغمدهم مني بعفو، وأصفح عن عظيم ما كانوا اجترموا فيما بيني وبينهم، بفضل رحمتي لهم.* * *فإن قال قائل: وكيف يُتاب على من تاب؟ وما وَجه قوله: " إلا الذينَ تابوا فأولئك أتوب عليهم "؟ وهل يكون تائبٌ إلا وهو مَتُوب عليه، أو متوب عليه إلا وهو تائب؟قيل: ذلك مما لا يكون أحدُهما إلا والآخر معه, فسواء قيل: إلا الذين تِيبَ عليهم فتابوا - أو قيل: إلا الذين تابوا فإني أتوب عليهم. وقد بيَّنا وَجه ذلك &; 3-260 &; فيما جاء من الكلام هذا المجيء، في نظيره فيما مضى من كتابنا هذا, فكرهنا إعادته في هذا الموضع. (82)* * *وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:2390- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: " إلا الذين تابوا وأصلحوا وبَيَّنوا "، يقول: أصلحوا فيما بينهم وبين الله, وبيَّنوا الذي جاءهم من الله, فلم يكتموه ولم يجحدوا به: أولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم.2391- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " إلا الذين تَابوا وأصلحوا وبَينوا " قال، بيّنوا ما في كتاب الله للمؤمنين, وما سألوهم عنه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كله في يهود.* * *قال أبو جعفر: وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: " وبيَّنوا "، إنما هو: وبينوا التوبة بإخلاص العمل. ودليل ظاهر الكتاب والتنـزيل بخلافه. لأن القوم إنما عوتبوا قبل هذه الآية، (83) على كتمانهم ما أنـزلَ الله تعالى ذكره وبينه في كتابه، في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، ثم استثنى منهم تعالى ذكره الذين يبينون أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، فيتوبون مما كانوا عليه من الجحود والكتمان, فأخرجهم من عِداد مَنْ يَلعنه الله ويَلعنه اللاعنون (84) = ولم يكن العتاب على تركهم تبيين التوبة بإخلاص العمل.والذين استثنى اللهُ من الذين يكتمون ما أنـزل الله من البينات والهدى من بعد &; 3-261 &; ما بيَّنه للناس في الكتاب، (85) عبدُ الله بن سلام وذَووه من أهل الكتاب، (86) الذين أسلموا فحسن إسلامهم، واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.-----------الهوامش :(82) انظر ما سلف 2 : 549 .(83) في المطبوعة : "في مثل هذه الآية" ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبت .(84) في المطبوعة : "فأخرجهم من عذاب من يلعنه الله" ، وهو تصحيف ، صوابه ما أثبت .(85) في المطبوعة : "من بعد ما بيناه للناس" ، وهو خطأ وسهو .(86) قوله : "وذووه" ، أي أصحابه وأهل ملته ، بإضافة"ذو" إلى الضمير ، وللنحاة فيه قول كثير ، وزعموا أن ذلك يكون في ضرورة الشعر ، وليس كذلك ، بل هو آت في النثر قديمًا ، بمثل ما استعمله الطبري .
الطبري
2:160
قوله تعالى : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيمقوله تعالى : إلا الذين تابوا استثنى تعالى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم . ولا يكفي في التوبة عند علمائنا قول القائل : قد تبت ، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول ، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه ، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح ، وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها ، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام ، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه . وسيأتي بيان التوبة وأحكامها في " النساء " إن شاء الله تعالى .وقال بعض العلماء في قوله : وبينوا أي بكسر الخمر وإراقتها . وقيل : بينوا يعني ما في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه . والعموم أولى على ما بيناه ، أي بينوا خلاف ما كانوا عليه ، والله تعالى أعلم . فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم تقدم والحمد لله .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:160
{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } أي رجعوا عما هم عليه من الذنوب, ندما وإقلاعا, وعزما على عدم المعاودة { وَأَصْلَحُوا } ما فسد من أعمالهم، فلا يكفي ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن. ولا يكفي ذلك في الكاتم أيضا, حتى يبين ما كتمه, ويبدي ضد ما أخفى، فهذا يتوب الله عليه, لأن توبة الله غير محجوب عنها، فمن أتى بسبب التوبة, تاب الله عليه, لأنه { التَّوَّابُ } أي: الرجاع على عباده بالعفو والصفح, بعد الذنب إذا تابوا, وبالإحسان والنعم بعد المنع, إذا رجعوا، { الرَّحِيمُ } الذي اتصف بالرحمة العظيمة, التي وسعت كل شيء ومن رحمته أن وفقهم للتوبة والإنابة فتابوا وأنابوا, ثم رحمهم بأن قبل ذلك منهم, لطفا وكرما, هذا حكم التائب من الذنب.
Arabic Saddi Tafseer
2:160
فقال: {إلا الذين تابوا} من الكفر.{وأصلحوا} أسلموا وأصلحوا الأعمال فيما بينهم وبين ربهم.{وبينوا} ما كتموا.{فأولئك أتوب عليهم } أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم.{وأنا التواب} الرجاع بقلوب عبادي المنصرفة عني إلي.{الرحيم} بهم بعد إقبالهم علي.
Arabic Baghawy Tafseer
2:160
"فصل" لا خلاف في جواز لعن الكفار وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له وأستدل بعضهم بالآية "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين أختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف وأستدل غيره بقوله عليه السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن والله أعلم.
ابن كثير
2:161 + 2:162
إن الذين جحدوا الإيمان وكتموا الحق، واستمروا على ذلك حتى ماتوا، أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين بالطرد من رحمته.
المیسر
2:161
استئناف كلام لإفادة حال فريق آخر مشارك للذي قبله في استحقاق لعنة الله واللاعنين وهي لعنة أخرى .وهذا الفريق هم المشركون فإن الكفر يطلق كثيراً في القرآن مراداً به الشرك قال تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } [ الممتحنة : 10 ] ، وذلك أن المشركين قد قُرنوا سابقاً مع أهل الكتاب قال تعالى : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } [ البقرة : 105 ] الآية { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } [ البقرة : 118 ] فلما استؤنف الكلام ببيان لعنة أهل الكتاب الذين يكتمون عُقّب ذلك ببيان عقوبة المشركين أيضاً فالقول في الاستئناف هنا كالقول في الاستئناف في قوله : { إن الذين يكتمون } [ البقرة : 159 ] من كونه بيانياً أو مجرداً .وقال الفخر { الذين كفروا } عام وهو شامل للذين يكتمون وغيرهم والجملة تذييل أي لما فيها من تعميم الحكم بعد إِناطته ببعض الأفراد ، وجعل في «الكشاف» المراد من { الذين كفروا } خصوص الذين يكتمون وماتوا على ذلك وأنه ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً ، وهو بعيد عن معنى الآية لأن إعادة وكفروا لا نكتة لها للاستغناء بأن يقال والذين ماتوا وهم كفار ، على أنه مستغنى عن ذلك أيضاً بأنه مفاد الجملة السابقة مع استثنائها ، واللعنة لا يظهر أثرها إلاّ بعد الموت فلا معنى لجعلهما لعنتين ، ولأن تعقيبه بقوله : { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 163 ] يؤذن بأن المراد هنا المشركون لتظهر مناسبة الانتقال .وإنما قال هنا { والناس أجمعين } لأن المشركين يلعنهم أهل الكتاب وسائر المتدينين الموحدين للخالق بخلاف الذين يكتمون ما أنزل من البينات فإنما يلعنهم الله والصالحون من أهل دينهم كما تقدم وتلعنهم الملائكة ، وعموم ( الناس ) عرفي أي الذين هم من أهل التوحيد .
Arabic Tanweer Tafseer
2:161
فالآية الكريمة قد فتحت للكاتمين لما يجب إظهاره باب التوبة وأمرتهم بولوجه ، وأفهمتهم أنهم إذا فعلوا ما ينبغي وتركوا ما لا ينبغي وأخلصوا لله نياتهم ، فإنه - سبحانه - يقبل توبتهم ، ويغسل حويتهم ، أما إذا استمروا في ضلالهم وكفرهم ، ومضوا في هذا الطريق المظلم حتى النهاية بدون أن يحدثوا توبة ، فقد بين القرآن مصيرهم بعد ذلك فقال : ( إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ) أي : إن الذين كفروا وكتموا ما من شأنه أن يظهر ، كإخفائهم النصوص المشتملة على البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم واستمورا على هذا الكفر والإِخفاء حتى ماتوا .( أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ ) أي : أولئك الذين وصفوا بما ذكر عليهم اللعنة المستمرة من الله والطرد من رحمته ، وعليهم كذلك اللعنة الدائمة من الملائكة والناس أجمعين عن طريق الدعاء عليهم بالإِبعاد من رحمة الله .وعبر عن أصحاب ذلك الكتمان بالذين كفروا ، ليحضرهم في الأذهان بأشنع وصف وهو الكفر ، وليتناول الوعيد الذي اشتملت عليه الآية الكريمة كل كافر ولو بغير معصية الكتمان .وجملة ( وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ) حالية ، ( أَجْمَعِينَ ) تأكيد بالنسبة إلى الكل لا للناس فقط .والمراد بالناس جميعهم مؤمنهم وكافرهم ، إذ الكفار يلعن بعضهم بعضاً يوم القيامة كما جاء في قوله - تعالى - :( يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) وقيل المراد بهم المؤمنون خاصة لأنهم هم الذين يعتد بلعنهم .
Arabic Waseet Tafseer
2:161
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " إنّ الذين كفروا "، إن الذين جَحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به = من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل، والمشركين من عَبدة الأوثان =" وماتوا وهم كفار "، يعني: وماتوا وهم على جُحودهم ذلك وتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم،" أولئك عَليهم لَعنةُ الله والملائكة ", يعني: فأولئك الذين كفروا وماتوا وهم كفار عليهم لعنة الله، يقول: أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته," والملائكة "، يعني ولَعنهم الملائكةُ والناس أجمعون. ولعنة الملائكة والناس إياهم قولهم: " عليهم لعنة الله ".* * *وقد بينا معنى " اللعنة " فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. (87)* * *فإن قال قائل: وكيف تَكونُ على الذي يموت كافرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم [لعنةُ الناس أجمعين] من أصناف الأمم، (88) وأكثرهم ممن لا يؤمن به ويصدقه؟&; 3-262 &;قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: عنى الله بقوله: " والناس أجمعين "، أهلَ الإيمان به وبرسوله خاصة، دون سائر البشر.* ذكر من قال ذلك:2392- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " والناس أجمعين "، يعني: ب " الناس أجمعين "، المؤمنين.2393- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع: " والناس أجمعين "، يعني بـ " الناس أجمعين "، المؤمنين.* * *وقال آخرون: بل ذلك يومَ القيامة، يُوقَفُ على رءوس الأشهاد الكافرُ فيلعنه الناس كلهم.* ذكر من قال ذلك:2394- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية: أن الكافر يُوقَف يوم القيامة فيلعنه الله, ثم تلعنه الملائكة, ثم يلعنه الناس أجمعون.* * *وقال آخرون: بل ذلك قول القائل كائنًا من كان: " لَعنَ الله الظالم ", فيلحق ذلك كل كافر، لأنه من الظَّلمة.* ذكر من قال ذلك:2395- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: " أولئك عليهم لَعنة الله والملائكة والناس أجمعين "، فإنه لا يتلاعن اثنان مُؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما: " لعن الله الظالم "، إلا وجبت تلك اللعنة على الكافر، لأنه ظالم, فكل أحد من الخلق يلعنه.* * *&; 3-263 &;قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا قولُ من قال: عنى الله بذلك جَميعَ الناس، بمعنى لعنهم إياهم بقولهم: " لعن الله الظالم - أو الظالمين ".فإن كلّ أحد من بني آدم لا يمتنع من قيل ذلك كائنًا من كان، (89) ومن أي أهل ملة كان, فيدخل بذلك في لعنته كلّ كافرٍ كائنًا من كان. وذلك بمعنى ما قاله أبو العالية. لأن الله تعالى ذكره أخبر عمن شَهدهم يوم القيامة أنهم يلعنونهم فقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18]وأما ما قاله قتادة، من أنه عنى به بعضَ الناس, فقولٌ ظاهرُ التنـزيل بخلافه, ولا برهان على حقيقته من خبر ولا نظر. فإن كان ظن أن المعنيَّ به المؤمنون، من أجل أن الكفار لا يَلعنون أنفسهم ولا أولياءهم, فإن الله تعالى ذكره قد أخبر أنهم يَلعنونهم في الآخرة. ومعلومٌ منهم أنّهم يَلعنون الظَّلمة, وداخلٌ في الظَّلمة كل كافر، بظلمه نفسه, وجحوده نعمةَ ربه, ومخالفته أمرَه.----------------الهوامش :(87) انظر ما سلف في هذا الجزء 3 : 254 ، والتعليق : 1 ، ومراجعه .(88) الزيادة التي بين القوسين لا بد منها ، وإلا اختل الكلام والسؤال ، ولم يكن لهما معنى محدود مفهوم ، واستظهرت الزيادة من جواب هذا السؤال .(89) في المطبوعة : "لا يمنع من قيل ذلك" ، والصواب ما أثبت .
الطبري
2:161
قوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعينفيه ثلاث مسائل :الأولى : قوله تعالى : وهم كفار الواو واو الحال . قال ابن العربي : قال لي كثير من أشياخي إن الكافر المعين لا يجوز لعنه ; لأن حاله عند الموافاة لا تعلم ، وقد شرط الله تعالى [ ص: 177 ] في هذه الآية في إطلاق اللعنة : الموافاة على الكفر ، وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن أقواما بأعيانهم من الكفار فإنما كان ذلك لعلمه بمآلهم . قال ابن العربي : والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ولجواز قتله وقتاله ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أني لست بشاعر فالعنه واهجه عدد ما هجاني . فلعنه ، وإن كان الإيمان والدين والإسلام مآله . وانتصف بقوله : ( عدد ما هجاني ) ولم يزد ليعلم العدل والإنصاف . وأضاف الهجو إلى الله تعالى في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف بذلك ، كما يضاف إليه المكر والاستهزاء والخديعة ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .قلت : أما لعن الكفار جملة من غير تعيين فلا خلاف في ذلك ، لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول : ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان . قال علماؤنا : وسواء كانت لهم ذمة أم لم تكن ، وليس ذلك بواجب ، ولكنه مباح لمن فعله ، لجحدهم الحق وعداوتهم للدين وأهله ، وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كشراب الخمر وأكلة الربا ، ومن تشبه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء ، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه .الثانية : ليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر ، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره ، كان الكافر ميتا أو مجنونا . وقال قوم من السلف : إنه لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم ، لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر ، فإنه لا يتأثر به .والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر ويتألم قلبه ، فيكون ذلك جزاء على كفره ، كما قال تعالى : ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ، ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله تعالى بلعنهم ، لا على الأمر . وذكر ابن العربي أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقا ، لما روي عن النبي أنه أتي بشارب خمر مرارا ، فقال بعض من حضره : لعنه الله ، ما أكثر ما يؤتى به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم فجعل له حرمة الأخوة ، وهذا يوجب الشفقة ، وهذا حديث صحيح .[ ص: 178 ] قلت : خرجه البخاري ومسلم ، وقد ذكر بعض العلماء خلافا في لعن العاصي المعين ، قال : وإنما قال عليه السلام : لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم في حق نعيمان بعد إقامة الحد عليه ، ومن أقيم عليه حد الله تعالى فلا ينبغي لعنه ، ومن لم يقم عليه الحد فلعنته جائزة سواء سمي أو عين أم لا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن ، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة تتوجه عليه . وبين هذا قوله صلى الله عليه وسلم : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب . فدل هذا الحديث مع صحته على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد وقبل التوبة ، والله تعالى أعلم .قال ابن العربي : وأما لعن العاصي مطلقا فيجوز إجماعا ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده .الثالثة : قوله تعالى : أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين أي إبعادهم من رحمته . وأصل اللعن الطرد والإبعاد ، وقد تقدم . فاللعنة من العباد الطرد . ومن الله العذاب . وقرأ الحسن البصري : ( والملائكة والناس أجمعون ) بالرفع . وتأويلها : أولئك جزاؤهم أن يلعنهم الله ويلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون ، كما تقول : كرهت قيام زيد [ ص: 179 ] وعمرو وخالد ; لأن المعنى : كرهت أن قام زيد . وقراءة الحسن هذه مخالفة للمصاحف .فإن قيل : ليس يلعنهم جميع الناس لأن قومهم لا يلعنونهم ; قيل عن هذا ثلاثة أجوبة ; أحدها : أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة الناس تغليبا لحكم الأكثر على الأقل . الثاني : قال السدي : كل أحد يلعن الظالم ، وإذا لعن الكافر الظالم فقد لعن نفسه . الثالث : قال أبو العالية : المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس ; كما قال تعالى : ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا
Arabic Qurtubi Tafseer
2:161
وأما من كفر واستمر على كفره حتى مات ولم يرجع إلى ربه, ولم ينب إليه, ولم يتب عن قريب فأولئك { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } لأنه لما صار كفرهم وصفا ثابتا, صارت اللعنة عليهم وصفا ثابتا لا تزول, لأن الحكم يدور مع علته, وجودا وعدما. و { خَالِدِينَ فِيهَا } أي: في اللعنة, أو في العذاب والمعنيان { لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } بل عذابهم دائم شديد مستمر { وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي: يمهلون, لأن وقت الإمهال وهو الدنيا قد مضى, ولم يبق لهم عذر فيعتذرون.
Arabic Saddi Tafseer
2:161
{إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة} أي لعنة الملائكة.{والناس أجمعين} قال أبو العالية: "هذا يوم القيامة يوقف الكافر فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس".فإن قيل فقد قال {والناس أجمعين} والملعون هو من جملة الناس فكيف يلعن نفسه؟ قيل: يلعن نفسه في القيامة قال الله تعالى: {ويلعن بعضكم بعضاً} [25-العنكبوت]. وقيل: إنهم يلعنون الظالمين والكافرين ومن يلعن الظالمين والكافرين وهو منهم فقد لعن نفسه.
Arabic Baghawy Tafseer
2:161
"فصل" لا خلاف في جواز لعن الكفار وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له وأستدل بعضهم بالآية "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين أختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف وأستدل غيره بقوله عليه السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن والله أعلم.
ابن كثير
2:161 + 2:162
دائمين في اللعنة والنار، لا يخفف عنهم العذاب، ولا هم يمهلون بمعذرة يعتذرون بها.
المیسر
2:162
وقوله : { خالدين فيها } تصريح بلازم اللعنة الدائمة فالضمير عائد لجهنم لأنها معروفة من المقام مثل { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] ، { كلا إذا بلغت التراقي } [ القيامة : 26 ] ، ويجوز أن يعود إلى اللعنة ويراد أثرها ولازمها .وقوله : { لا يخفف عنهم العذاب } أي لأن كفرهم عظيم يصدهم عن خيرات كثيرة بخلاف كفر أهل الكتاب .والإنظار الإمهال ، نطره نظرة أمهله ، والظاهر أن المراد ولا هم يمهلون في نزول العذاب بهم في الدنيا وهو عذاب القتل إذ لا يقبل منهم إلاّ الإسلام دون الجزية بخلاف أهل الكتاب وهذا كقوله تعالى : { إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون ، يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } [ الدخان : 15 ، 16 ] وهي بطشة يوم بدر . وقيل : { ينظرون } هنا من نظر العين وهو يتعدى بنفسه كما يتعدى بإلى أي لا ينظر الله إليهم يوم القيامة وهو كناية عن الغضب والتحقير .وجيء بالجملة الاسمية لدلالتها على الثبات والاستقرار بخلاف قوله : { أولئك عليهم لعنة الله } فالمقصود التجدد ليكونوا غير آيسين من التوبة .
Arabic Tanweer Tafseer
2:162
وقوله : ( خَالِدِينَ فِيهَا ) الخلود البقاء إلى غير نهاية ، ويستعمل بمعنى البقاء مدة طويلة . وإذا وصف به عذاب الكافر أريد به المعنى الأول ، أي : البقاء إلى غير نهاية والظاهر أن الضمير في قوله ( فِيهَا ) يعود إلى اللعنة لأنها هي المذكورة في الجملة . وقيل إنه يعود إلى النار لأن اللعن إبعاد من الرحمة وإيجاب للعقاب والعقاب يكون في النار . وقوله ( لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب ) أي : أن المقدار الذي استحقوه من العذاب لا يتفاوت بحسب الأوقات شدة وضعفاً ، وإنما هم في عذاب سرمدي أليم ، كما قال - تعالى - ( إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ . لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) والزيادة في قوله - تعالى - : ( فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ) حملها بعض العلماء على معنى استمرار العذاب ، فهي إشارة إلى الخلود فيه لا إلى الزيادة في شدته . وقوله : ( خَالِدِينَ فِيهَا ) إشارة إلى دوام العذاب وعدم انقطاعه . وقوله : ( لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ) إشارة إلى كيفية وشدته .وقوله : ( وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ) أي : لا يمهلون ولا يؤخرون من العذاب كما كانوا يمهلون في الدنيا . من الإِنظار بمعنى التأخير والإِمهال . أو من النظر بمعنى الانتظار يقال : نظرته وانتظرته ، أي : أخرته وأمهلته ومنه قوله - تعالى - : ( وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ ) أو من النظر بمعنى الرؤية ، أي : لا ينظر الله إليهم نظر رحمة ورضا ولطف كما ينظر إلى عباده الصالحين ، لأنهم بكتمانهم للحق ، وكفرهم بالله ، استحقوا ما استحقوا من العذاب المهين . ( وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) وبذلك تكون الآيات الكريمة قد حذرت الناس بأسلوب تأديبي حكيم من كتمان الحق ، ومن الكفر بالله ، وفتحت أمامهم باب التوبة ليدخلوه بصادق النية ، وصالح العمل ، وتوعدت من يستمر في ضلاله وطغيانه بأقسى أنواع العذاب ، وأغلظ ألوانه .وبعد أن حذر - سبحانه - من كتمان الحق ، عقب ذلك ببيان ما يدل على وحدانيته ، وعلى أنه هو المستحق للعبادة والخضوع فقال - تعالى - :( وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن . . . )
Arabic Waseet Tafseer
2:162
القول في تأويل قوله تعالى : خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)* * *قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما الذي نصب " خالدين فيها "؟قيل: نُصب على الحال من " الهاء والميم " اللتين في" عليهم ". وذلك أنّ معنى قوله: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ ، أولئك يلعنهم الله والملائكةُ والناس أجمعون خالدين فيها. ولذلك قرأ ذلك: " أولئك عَليهم لعنة الله والملائكةُ والناس أجمعون " &; 3-264 &; مَنْ قرأَهُ كذلك، (90) توجيهًا منه إلى المعنى الذي وصفتُ. وذلك وإن كان جائزًا في العربية, فغيرُ جائزةٍ القراءةُ به، لأنه خلافٌ لمصاحف المسلمين، وما جاء به المسلمون من القراءة مستفيضًا فيهم. فغير جائز الاعتراضُ بالشاذّ من القول، على ما قد ثبتت حُجته بالنقل المستفيض.* * *وأما " الهاء والألف " اللتان في قوله: " فيها "، فإنهما عائدتان على " اللعنة ", والمرادُ بالكلام: ما صار إليه الكافر باللعنة من الله ومن ملائكته ومن الناس. والذي صار إليه بها، نارُ جهنم. وأجرى الكلام على " اللعنة "، والمراد بها ما صار إليه الكافر، كما قد بينا من نظائر ذلك فيما مضى قبل، كما:-2396- حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية: " خالدين فيها "، يقول: خالدين في جهنم، في اللعنة.* * *وأما قوله: " لا يخفّف عنهم العذاب "، فإنه خبرٌ من الله تعالى ذكره عن دَوَام العذاب أبدًا من غير توقيت ولا تخفيف, كما قال تعالى ذكره: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [سورة فاطر: 36]، وكما قال: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا [سورة النساء: 56]* * *وأما قوله: " ولا هم يُنظرون "، فإنه يعني: ولا هُم يُنظرون بمعذرة يَعتذرون، كما:-2397- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية: " ولا هم ينظرون "، يقول: لا يُنظرون فيعتذرون, &; 3-265 &; كقوله: هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ . [سورة المرسلات: 35-36]-----------------------الهوامش :(90) في المطبوعة : "والناس أجميعن" ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبت ، برفع"الملائكة والناس أجمعون" ، وهي قراءة الحسن . وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 96-97 ، وتفسير هذه الآية في سائر كتب التفسير .
الطبري
2:162
ثم قال جل وعز : خالدين فيها يعني في اللعنة ، أي في جزائها . وقيل : خلودهم في اللعنة أنها مؤبدة عليهم خالدين نصب على الحال من الهاء والميم في عليهم ، والعامل فيه الظرف من قوله : عليهم لأن فيها معنى استقرار اللعنة .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:162
وأما من كفر واستمر على كفره حتى مات ولم يرجع إلى ربه, ولم ينب إليه, ولم يتب عن قريب فأولئك { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } لأنه لما صار كفرهم وصفا ثابتا, صارت اللعنة عليهم وصفا ثابتا لا تزول, لأن الحكم يدور مع علته, وجودا وعدما. و { خَالِدِينَ فِيهَا } أي: في اللعنة, أو في العذاب والمعنيان { لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } بل عذابهم دائم شديد مستمر { وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي: يمهلون, لأن وقت الإمهال وهو الدنيا قد مضى, ولم يبق لهم عذر فيعتذرون.
Arabic Saddi Tafseer
2:162
{خالدين فيها} مقيمين في اللعنة، وقيل: في النار.{لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} لا يمهلون ولا يؤجلون، وقال أبو العالية : "لا يُنْظرون فيعتذروا كقوله تعالى {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [36-المرسلات]".
Arabic Baghawy Tafseer
2:162
يخبر تعالى عن تفرده بالإلهية وإنه لا شريك له ولا عديل له بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. وقد تقدم تفسير هذين الاسمين في أول الفاتحة وفي الحديث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد السكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال اسم الله الأعظم في هذين الآيتين"وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" و"الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم" ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية بخلق السموات والأرض وما فيها وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته.
ابن كثير
2:163
وإلهكم -أيها الناس- إله واحد متفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وعبودية خلقه له، لا معبود بحق إلا هو، الرحمن المتصف بالرحمة في ذاته وأفعاله لجميع الخلق، الرحيم بالمؤمنين.
المیسر
2:163
معطوف على جملة : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار } [ البقرة : 161 ] . والمناسبة أنه لما ذكر ما ينالهم على الشرك من اللعنة والخلود في النار بين أن الذي كفروا به وأشركوا هو إله واحد وفى هذا العطف زيادة ترجيح لما انتميناه من كون المراد من { الذين كفروا } المشركين لأن أهل الكتاب يؤمنون بإله واحد .والخطاب بكاف الجمع لكل من يتأتى خطابه وقت نزول الآية أو بعده من كل قارىء للقرآن وسامع فالضمير عام ، والمقصود به ابتداء المشركون لأنهم جهلوا أن الإله لا يكون إلاّ واحداً .والإله في كلام العرب هو المعبود ولذلك تعددت الآلهة عندهم وأطلق لفظ الإله على كل صنم عبدوه وهو إطلاق ناشىء عن الضلال في حقيقة الإله لأن عبادة من لا يغني عن نفسه ولا عن عابده شيئاً عبث وغلط ، فوصف الإله هنا بالواحد لأنه في نفس الأمر هو المعبود بحق فليس إطلاق الإله على المعبود بحق نقلاً في لغة الإسلام ولكنه تحقيق للحق .وما ورد في القرآن من إطلاق جمع الآلهة على أصنامهم فهو في مقام التغليط لزعمهم نحو { فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون } [ الأحقاف : 28 ] ، والقرينة هي الجمع ، ولذلك لم يطلق في القرآن الإله بالإفراد على المعبود بغير حق ، وبهذا تستغنى عن إكداد عقلك في تكلفات تكلفها بعض المفسرين في معنى { وإلهكم إله واحد } .والإخبار عن إلهكم بإله تكرير ليجري عليه الوصف بواحد والمقصود وإلهكم واحد لكنه وسط لفظ { إله } بين المبتدأ والخبر لتقرير معنى الألوهية في المخبر عنه كما تقول عالم المدينة عالم فائق وليجيء ما كان أصله مجيء النعت فيفيد أنه وصف ثابت للموصوف لأنه صار نعتاً إذ أصل النعت أن يكون وصفاً ثابتاً وأصل الخبر أن يكون وصفاً حادثاً ، وهذا استعمال متبع في فصيح الكلام أن يعاد الاسم أو الفعل بعد ذكره ليبنى على وصف أو متعلق كقوله { إلها واحداً } [ البقرة : 133 ] . وقوله : { وإذا باللغو مروا كراماً } [ الفرقان : 27 ] وقد تقدم عند قوله تعالى : . . . والتنكير في { إله } للنوعية لأن المقصود منه تقرير معنى الألوهية ، وليس للإفراد لأن الإفراد استفيد من قوله { واحد } خلافاً لصاحب «المفتاح» في قوله تعالى : { إنما هو إله واحد } [ الأنعام : 19 ] إذ جعل التنكير في { إله } للإفراد وجعل تفسيره بالواحد بياناً للوحدة لأن المصير إلى الإفراد في القصد من التنكير مصير لا يختاره البليغ ما وجد عنه مندوحة .وقوله : { لا إله إلا هو } تأكيد لمعنى الوحدة وتنصيص عليها لرفع احتمال أن يكون المراد الكمال كقولهم في المبالغة هو نسيج وحده ، أو أن يكون المراد إله المسلمين خاصة كما يتوهمه المشركون ألا ترى إلى قول أبي سفيان : «لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم» .وقد أفادت جملة { لا إله إلا هو } التوحيد لأنها نفت حقيقة الألوهية عن غير الله تعالى . وخبر { لا } محذوف دل عليه ما في { لا } من معنى النفي لأن كل سامع يعلم أن المراد نفي هذه الحقيقة فالتقدير لا إله موجود إلاّ هو . وقد عرضت حيرة للنحاة في تقدير الخبر في هاته الكلمة لأن تقدير موجود يوهم أنه قد يوجد إله ليس هو موجوداً في وقت التكلم بهاته الجملة ، وأنا أجيب بأن المقصود إبطال وجود إله غير الله رداً على الذين ادعوا آلهة موجودة الآن وأما انتفاء وجود إله في المستقبل فمعلوم لأن الأجناس التي لم توجد لا يترقب وجودها من بعد لأن مثبتي الآلهة يثبتون لها القدم فلا يتوهم تزايدها ، ونسب إلى الزمخشري أنه لا تقدير لخبر هنا وأن أصل لا إله إلا هو هو إله فقدم { إله } وأخر ( هو ) لأجل الحصر بإلاّ وذكروا أنه ألف في ذلك «رسالة» ، وهذا تكلف والحق عندي أن المقدرات لا مفاهيم لها فليس تقدير لا إله موجود بمنزلة النطق بقولك لا إله موجود بل إن التقدير لإظهار معاني الكلام وتقريب الفهم وإلاّ فإن لا النافية إذا نفت النكرة فقد دلت على نفي الجنس أي نفي تحقق الحقيقة فمعنى { لا إله } انتفاء الألوهية { إلاّ الله } أي إلاّ لله .وقوله : { الرحمن الرحيم } وصفان للضمير ، أي المنعم بجلائل النعم ودقائقها وهما وصفان للمدح وفيهما تلميح لدليل الألوهية والانفراد بها لأنه منعم ، وغيره ليس بمنعم وليس في الصفتين دلالة على الحصر ولكنهما تعريض به هنا لأن الكلام مسوق لإبطال ألوهية غيره فكان ما يذكر من الأوصاف المقتضية للألوهية هو في معنى قصرها عليه تعالى ، وفي الجمع بين وصفي { الرحمن الرحيم } ما تقدم ذكره في سورة الفاتحة على أن في ذكر صفة الرحمن إغاظة للمشركين فإنهم أبوا وصف الله بالرحمن كما حكى الله عنهم بقوله : { قالوا وما الرحمن } [ الفرقان : 60 ] .واعلم أن قوله : { إلا هو } استثناء من الإله المنفي أي إن جنس الإله منفي إلاّ هذا الفرد ، وخبر ( لا ) في مثل هاته المواضع يكثر حذفه لأن لا التبرئة مفيدة لنفي الجنس فالفائدة حاصلة منها ولا تحتاج للخبر إلاّ إذا أريد تقييد النفي بحالة نحو لا رجل في الدار غير أنهم لما كرهوا بقاء صورة اسم وحرف بلا خبر ذكروا مع اسم لا خبراً ألا ترى أنهم إذا وجدوا شيئاً يسد مسد الخبر في الصورة حذفوا الخبر مع لا نحو الاستثناء في لا إله إلاّ الله ، ونحو التكرير في قوله لا نسب اليوم ولا خُلة . ولأبي حيان هنا تكلفات .
Arabic Tanweer Tafseer
2:163
قوله : ( وإلهكم إله وَاحِدٌ ) معطوف على قوله : ( إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا ) عطف الققصة على القصة ، والجامع - كما قال الآلوسي - أن الأولى - وهي قوله : ( إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ ) مسوقة لإِثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وجملة ( وإلهكم إله وَاحِدٌ ) لإثبات وحدانية الله - تعالى - .والإِله في كلام العرب هو المعبود مطلقاً ولذلك تعددت الآله عندهم . والمراد به في الآية الكريمة المعبود بحق بدليل الإِخبار عنه بأنه واحد .والمعنى : وإلهكم الذي يستحق العبادة والخضوع إله واحد فرد صمد ، فمن عبد شيئاً دونه ، أو عبد شيئاً معه ، فعبادته باطلة فاسدة ، لأن العبادة الصحيحة هي ما يتجه بها العابد إلى المعبود بحق الذي قامت البراهين الساطعة على وحدانيته وهو الله رب العالمين .قال بعضهم : " والإِخبار عن إلهكم بإله تكرير ليجري عليه الوصف بواحد ، والمقصود وإلهكم واحد لكنه وسط إله بين المبتدأ والخبر لتقرير معنى الألوهية في المخبر عنه ، كما تقول : عالم المدينة عالم فائق ، وليجيئ ما كان أصله خيراً مجيئ النعت فيفيد أنه وصف ثابت للموصوف لأنه صار نعتاً ، إذ أصل النعت أن يكون وصفاً ثابتاً ، وأصل الخبر أن يكون وصفاً حادثاً ، وهذا استعمال متبع في فصيح الكلام أن يعاد الاسم أو الفعل بعد ذكره ليبني عليه وصف أو متعلق كقوله : ( وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) وجملة ( إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ ) مقررة لما تضمنته الجملة السابقة من أن الله واحد لا شريك له ، ونافية عن الله - تعالى - الشريك صراحه ، ومثبته له مع ذلك الإِلهية الحقة ، ومزيحة لما عسى أن يتوهم من أن في الوجود إلهاً سوى الله - تعالى - لكنه لا يستحق العبادة .ومعناها : إن الله إله ، وليس شيء مما سواه بإله .وهذه الجملة الكريمة خبر ثاني للمبتدأ وهو ( إلهكم ) أو صفة أخرى للخبر وه ( إله ) وخبر ( لا ) محذوف أي لا إله موجود إلا هو ، والضمير ( هو ) في موضع رفع بدل من موضع لامع اسمها .وقوله : ( الرحمن الرحيم ) خبر متبدأ محذوف ، وقيل غير ذلك من وجوه الإِعراب .والمعنى : وإلهكم الذي يستحق العبادة إله واحد ، لا إله مستحق لها إلا هو ، هو الرحمن الرحيم .أي : المنعم بجلائل النعم ودقائقها ، وهو مصدر الرحمة ، ودائم الإِحسان .وأتى - سبحانه - بهذين اللفظين في ختام الآية ، لأن ذكر الإِلهية والوحدانية يحضر في ذهن السامع معنى القهر والغلبة وسعة المقدرة وعزة السلطان ، وذلك مما يجعل القلب في هيبة وخشية ، فناسب أن يورد عقب ذلك ما يدل على أنه مع هذه العظمة والسلطان ، مصدر الإِحسان ومولى النعم ، فقال : ( الرحمن الرحيم ) وهذه طريقة القرآن في الترويح على القلوب بالتبشير بعد ما يثير الخشية ، حتى لا يعتريها اليأس أو القنوط .وبعد أن أخبر - سبحانه - بأنه هو الإِله الذي لا يستحق العبادة أحد سواه ، عقب ذلك بإيراد ثمانية أدلة تشهد بوحدانيته وقدته ، وتشتمل على آيات ساطعات ، وبينات واضحات ، تهدي أصحاب العقول السليمة إلى عبادة الله وحده ، وإلى بطلان ما يفعله كثير من الناس من عبادة مخلوقاته .
Arabic Waseet Tafseer
2:163
القول في تأويل قوله عز وجل : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى معنى " الألوهية "، وأنها اعتباد الخلق. (91)فمعنى قوله: " وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إلهَ إلا هو الرحمن الرحيم ": والذي يستحق عَليكم أيها الناس الطاعةَ له, ويستوجب منكم العبادة، معبودٌ واحدٌ وربٌّ واحد, فلا تعبدوا غيرَه، ولا تشركوا معه سواه، فإنّ من تُشركونه معه في عبادتكم إياه، هو خَلقٌ من خلق إلهكم مثلكم, وإلهكم إله واحد، لا مثلَ لهُ وَلا نَظير.* * *واختُلِف في معنى وَحدانيته تعالى ذكره,فقال بعضهم: معنى وحدانية الله، معنى نَفي الأشباه والأمثال عنه، كما يقال: " فلان واحدُ الناس - وهو وَاحد قومه ", يعني بذلك أنه ليسَ له في الناس مثل, ولا له في قومه شبيه ولا نظيرٌ. فكذلك معنى قول: " اللهُ واحد ", يعني به: الله لا مثل له ولا نظير.فزعموا أن الذي دلَّهم على صحة تأويلهم ذلك، أنّ قول القائل: " واحد " يفهم لمعان أربعة. أحدها: أن يكون " واحدًا " من جنس، كالإنسان " الواحد " من الإنس. والآخر: أن يكون غير متفرِّق، كالجزء الذي لا ينقسم. (92) والثالث: &; 3-266 &; أن يكون معنيًّا به: المِثلُ والاتفاق، كقول القائل: " هذان الشيئان واحد ", يراد بذلك: أنهما متشابهان، حتى صارَا لاشتباههما في المعاني كالشيء الواحد.والرابع: أن يكون مرادًا به نفي النظير عنه والشبيه.قالوا: فلما كانت المعاني الثلاثةُ من معاني" الواحد " منتفيةً عنه، صح المعنى الرابع الذي وَصَفناه.* * *وقال آخرون: معنى " وحدانيته " تعالى ذكره، معنى انفراده من الأشياء، وانفراد الأشياء منه. قالوا: وإنما كان منفردًا وحده, لأنه غير داخل في شيء ولا داخلٌ فيه شيء. قالوا: ولا صحة لقول القائل: " واحد "، من جميع الأشياء إلا ذلك. وأنكر قائلو هذه المقالة المعاني الأربعةَ التي قالها الآخرون.* * *وأما قوله: " لا إله إلا هو "، فإنه خبرٌ منه تعالى ذكره أنه لا رب للعالمين غيرُه, ولا يستوجبُ على العبادِ العبادةَ سواه, وأنّ كلّ ما سواه فهُم خَلقه, والواجبُ على جميعهم طاعته والانقيادُ لأمره، وتركُ عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، وهجْر الأوثان والأصنام. لأنّ جميع ذلك خلقُه، وعلى جميعهم الدينونة له بالوحدانية والألوهة, ولا تَنبغي الألوهة إلا له, إذ كان ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه، دون ما يعبدونه من الأوثان ويشركون معه من الأشراك؛ (93) وما يصيرون إليه من نعمة في الآخرة فمنه, وأن ما أشركوا معه من الأشراك لا يضر ولا ينفعُ في عاجل ولا في آجل, ولا في دنيا ولا في آخرة.وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره أهلَ الشرك به على ضلالهم, ودعاءٌ منه لهم إلى الأوبة من كفرهم, والإنابة من شركهم.&; 3-267 &;ثم عرَّفهم تعالى ذكره بالآية التي تتلوها، موضعَ استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبَّههم عليه من توحيده وحُججه الواضحة القاطعة عُذرَهم, فقال تعالى ذكره: أيها المشركون، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر: من أنّ إلهكم إله واحد، دونَ ما تدَّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان, فتدبروا حُججي وفكروا فيها, فإن من حُججي خَلق السموات والأرض, واختلاف الليل والنهار, والفلكُ التي تجري في البحر بما يَنفعُ الناس, وما أنـزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها, وما بثثتُ فيها من كل دابة, والسحاب الذي سَخرته بين السماء والأرض. فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به، إذا اجتمع جميعه فتظاهرَ أو انفرد بعضُه دون بعض، يقدر على أن يخلق نظيرَ شيء من خَلقي الذي سميتُ لكم, فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذرٌ, وإلا فلا عُذر لكم في اتخاذ إله سواي, ولا إله لكم ولما تعبدون غَيري. فليتدبر أولو الألباب إيجازَ الله احتجاجَه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده، في هذه الآية وفي التي بعدها، بأوْجز كلام، وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على مَعرفة فضْل حكمة الله وبَيانه.* * *--------------------الهوامش :(91) انظر ما سلف 1 : 122-126 .(92) في المطبوعة : "غير متصرف" ، وهو تصحيف ، والصواب ما أثبت .(93) الأشراك جمع شريك ، كما يقال : شريف وأشراف ، ونصير وأنصار ، ويجمع أيضًا على"شركاء" .
الطبري
2:163
قوله تعالى : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم فيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : وإلهكم إله واحد لما حذر تعالى من كتمان الحق بين أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه أمر التوحيد ، ووصل ذلك بذكر البرهان ، وعلم طريق النظر ، وهو الفكر في عجائب الصنع ، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شيء . قال ابن عباس رضي الله عنهما : قالت كفار قريش : يا محمد انسب لنا ربك ، فأنزل الله تعالى سورة " الإخلاص " وهذه الآية . وكان للمشركين ثلاثمائة وستون صنما ، فبين الله أنه واحد .الثانية : قوله تعالى : لا إله إلا هو نفي وإثبات . أولها كفر وآخرها إيمان ، ومعناه لا معبود إلا الله . وحكي عن الشبلي رحمه الله أنه كان يقول : الله ، ولا يقول : لا إله ، فسئل عن ذلك فقال أخشى أن آخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار .قلت : وهذا من علومهم الدقيقة ، التي ليست لها حقيقة ، فإن الله جل اسمه ذكر هذا المعنى في كتابه نفيا وإثباتا وكرره ، ووعد بالثواب الجزيل لقائله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، خرجه الموطأ والبخاري ومسلم وغيرهم . وقال صلى الله عليه وسلم : من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل [ ص: 180 ] الجنة خرجه مسلم . والمقصود القلب لا اللسان ، فلو قال : لا إله ومات ومعتقده وضميره الوحدانية وما يجب له من الصفات لكان من أهل الجنة باتفاق أهل السنة . وقد أتينا على معنى اسمه الواحد ، ولا إله إلا هو والرحمن الرحيم في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى . والحمد لله .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:163
يخبر تعالى - وهو أصدق القائلين - أنه { إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي: متوحد منفرد في ذاته, وأسمائه, وصفاته, وأفعاله، فليس له شريك في ذاته, ولا سمي له ولا كفو له, ولا مثل, ولا نظير, ولا خالق, ولا مدبر غيره، فإذا كان كذلك, فهو المستحق لأن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة, ولا يشرك به أحد من خلقه, لأنه { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } المتصف بالرحمة العظيمة, التي لا يماثلها رحمة أحد, فقد وسعت كل شيء وعمت كل حي، فبرحمته وجدت المخلوقات, وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالات، وبرحمته اندفع عنها كل نقمة، وبرحمته عرّف عباده نفسه بصفاته وآلائه, وبيَّن لهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم, بإرسال الرسل, وإنزال الكتب. فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة, فمن الله, وأن أحدا من المخلوقين, لا ينفع أحدا، علم أن الله هو المستحق لجميع أنواع العبادة, وأن يفرد بالمحبة والخوف, والرجاء, والتعظيم, والتوكل, وغير ذلك من أنواع الطاعات. وأن من أظلم الظلم, وأقبح القبيح, أن يعدل عن عبادته إلى عبادة العبيد, وأن يشرك المخلوق من تراب, برب الأرباب, أو يعبد المخلوق المدبر العاجز من جميع الوجوه, مع الخالق المدبر القادر القوي، الذي قد قهر كل شيء ودان له كل شيء. ففي هذه الآية, إثبات وحدانية الباري وإلهيته، وتقريرها بنفيها عن غيره من المخلوقين وبيان أصل الدليل على ذلك وهو إثبات رحمته التي من آثارها وجود جميع النعم, واندفاع [جميع] النقم، فهذا دليل إجمالي على وحدانيته تعالى.
Arabic Saddi Tafseer
2:163
قوله تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا يا محمد صف لنا ربك وانسبه فأنزل الله تعالى هذه الآية وسورة الإخلاص.والواحد الذي لا نظير له ولا شريك له.أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا بكر بن إبراهيم وأبو عاصم عن عبيد الله بن أبي زياد عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أنها قالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم {إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} و{الله لا إله إلا هو الحي القيوم}"".قال أبو الضحى: "لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن محمداً يقول إن إلهكم إله واحد فليأتنا بآية إن كان من الصادقين".
Arabic Baghawy Tafseer
2:163
يقول تعالى "إن في خلق السموات والأرض" تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها - وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع واختلاف الليل والنهار هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه لا يتأخر عنه لحظة كما قال تعالى "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون" وتارة يطول هذا ويقصر هذا وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتعاوضان كما قال تعالى "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" أي يزيد من هذا في هذا ومن هذا في هذا "والفلك التي تجري فى البحر بما ينفع الناس" أي في تسخير البحر بحمل السفن من.جانب إلى جانب لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم ونقل هذا إلى هؤلاء وما عند أولئك إلى هؤلاء "وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها" كما قال تعالى "وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون" - إلى قوله - "ومما لا يعلمون" "وبث فيها من كل دابة" أي على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها وهو يعلم ذلك كله ويرزقه لا يخفى عليه شي من ذلك كما قال تعالى "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين" "وتصريف الرياح" أي فتارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي بالعذاب وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب وتارة تسوقه وتارة تجمعه وتارة تفرقه وتارة تصرفه ثم تارة تأتى من الجنوب وهي الشامية وتارة تأتي من ناحية اليمن وتارة صبا وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة وتارة دبورا وهي غربية تنفذ من ناحية دبر الكعبة. وقد صنف الناس في الرياح والمطر والأنواء كتبا كثيرة فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها وبسط ذلك يطول ههنا والله أعلم والسحاب المسخر بين السماء والأرض أي سائر بين السماء والأرض مسخر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن كما يصرفه تعالى "لآيات لقوم يعقلون" أي في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم يتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار" وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا أبو سعيد الدشتكي حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد إنا نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا فنشتري به الخيل والسلاح فنؤمن بك ونقاتل معك قال "أوثقوا لي لئن دعوت ربي فجعل لكم الصفا ذهبا لتؤمنن بي" فأوثقوا له فدعا ربه فأتاه جبريل فقال إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهبا على أنهم إن لم يؤمنوا بك عذبهم عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين قال محمد صلى الله عليه وسلم "رب لا بل دعني وقومي فلأدعهم يوما بيوم" فأنزل الله هذه الآية "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" الآية ورواه ابن أبي حاتم من وجه أخر عن جعفر بن أبي المغيرة به وزاد في آخره: "وكيف يسألونك الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصفا" وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" فقال كفار قريش بمكة كيف يسع الناس إله واحد فأنزل الله تعالى "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهـار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" إلى قوله" لآيات لقوم يعقلون" فبهذا يعلمون أنه إله واحد وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء وقال وكيع بن الجراح: حدثنا سفيان عن أبيه عن أبي الضحى قال: لما نزلت "وإلهكم إله واحد" إلى آخر الآية قال المشركون إن كان هكذا فليأتنا بأية فأنزل الله عز وجل "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار" إلى قوله "يعقلون" ورواه آدم بن أبي إياس عن أبي جعفر هو الرازي عن سعيد بن مسروق والد سفيان عن أبي الضحى به.
ابن كثير
2:164
إن في خلق السماوات بارتفاعها واتساعها، والأرض بجبالها وسهولها وبحارها، وفي اختلاف الليل والنهار من الطول والقصر، والظلمة والنور، وتعاقبهما بأن يخلف كل منهما الآخر، وفي السفن الجارية في البحار، التي تحمل ما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء المطر، فأحيا به الأرض، فصارت مخضرَّة ذات بهجة بعد أن كانت يابسة لا نبات فيها، وما نشره الله فيها من كل ما دبَّ على وجه الأرض، وما أنعم به عليكم من تقليب الرياح وتوجيهها، والسحاب المسيَّر بين السماء والأرض -إن في كل الدلائل السابقة لآياتٍ على وحدانية الله، وجليل نعمه، لقوم يعقلون مواضع الحجج، ويفهمون أدلته سبحانه على وحدانيته، واستحقاقه وحده للعبادة.
المیسر
2:164
موقع هاته الآية عقب سابقتها موقع الحجة من الدعوى ، ذلك أن الله تعالى أعلن أن الإله إله واحد لا إله غيره وهي قضية من شأنها أن تُتلقى بالإنكار من كثير من الناس فناسب إقامة الحجة لمن لا يقتنع فجاء بهذه الدلائل الواضحة التي لا يسع الناظر إلاّ التسليم إليها .فإن هنا لمجرد الاهتمام بالخبر لِلَفْت الأنظار إليه ، ويحتمل أنهم نُزلوا منزلة من ينكر أن يكون في ذلك آيات ( لقوم يعقلون ) لأنهم لم يجروا على ما تدل عليه تلك الآيات .وليست { إن } هنا بمؤذنة بتعليل للجملة التي قبلها لأن شرط ذلك أن يكون مضمون الجملة التي بعدها صالحاً لتعليل مضمون التي قبلها بحيث يكون الموقع لفاء العطف فحينئذٍ يغني وقوع ( إن ) عن الإتيان بفاء العطف كما ذكره الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» وقد بسطنا فيه عند قوله تعالى : { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم } [ البقرة : 61 ] .والمقصود من هاته الآية إثبات دلائل وجود الله تعالى ووحدانيته ولذلك ذكرت إثر ذكر الوحدانية لأنها إذا أثبتت بها الوحدانية ثبت الوجود بالضرورة . فالآية صالحة للرد على كفار قريش دُهريهم ومشركهم والمشركون هم المقصود ابتداء ، وقد قرر الله في هاته الآية دلائل كلها واضحة من أصناف المخلوقات وهي مع وضوحها تشتمل على أسرار يتفاوت الناس في دركها حتى يتناول كل صنف من العقلاء مقدار الأدلة منها على قدر قرائحهم وعلومهم .والخلق هنا بمعنى المصدر واختير هنا لأنه جامع لكل ما فيه عبرة من مخلوقات السماوات والأرض ، وللعبرة أيضاً في نفس الهيئة الاجتماعية من تكوين السماوات والأرض والنظام الجامع بينها فكما كل مخلوق منها أو فيها هو آية وعبرة فكذلك مجموع خلقها ، ولعل الآية تشير إلى ما يعبر عنه في علم الهيئة بالنظام الشمسي وهو النظام المنضبط في أحوال الأرض مع الكواكب السيارة المعبر عنها بالسماوات .و { السموات } جمع سماء والسماء إذا أطلقت مفردة فالمراد بها الجو المرتفع فوقنا الذي يبدو كأنه قبة زرقاء وهو الفضاء العظيم الذي تسبح فيه الكواكب وذلك المراد في نحو قوله تعالى : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } [ الملك : 5 ] ، { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب } [ الصافات : 6 ] ، { وأنزل من السماء ماء } [ البقرة : 22 ] . وإذا جمعت فالمراد بها أجرام عظيمة ذات نظام خاص مثل الأرض وهي السيارات العظيمة المعروفة والتي عرفت من بعد والتي ستعرف : عطارد والزهرة والمريخ والشمس والمشتري وزحل وأرانوس ونبتون . ولعلها هي السموات السبع والعرش العظيم ، وهذا السر في جمع ( السموات ) هنا وإفراد ( الأرض ) لأن الأرض عالم واحد وأما جمعها في بعض الآيات فهو على معنى طبقاتها أو أقسام سطحها .والمعنى إن في خلق مجموع السموات مع الأرض آيات ، فلذلك أفرد الخلق وجعلت الأرض معطوفاً على السموات ليتسلط المضاف عليهما .والآية في هذا الخلق { لقوم يعقلون } آية عظيمة لمن عرف أسرار هذا النظام وقواعد الجاذبية التي أودعها الله تعالى في سير مجموع هاته السيارات على وجه لا يعتريه خلل ولا خرق { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } [ يس : 40 ] ، وأعظم تلك الأسرار تكوينها على هيئة كرية قال الفخر كان عمر بن الحسام يقرأ «كتاب المجسطي» على عمر الأبهري فقال لهما بعض الفقهاء يوماً ما الذي تقرءونه فقال الأبهري أفسِّر قوله تعالى : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها } [ ق : 6 ] فأنا أفسر كيفية بنائها ولقد صدق الأبهري فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلاً في بحار المخلوقات كان أكثر علماً بجلال الله تعالى وعظمته اه .قلت ومن بديع هذا الخلق أن جعله الله تعالى يمد بعضه بعضاً بما يحتاجه كل فلا ينقص من الممدِّ شيء ، لأنه يُمده غيرهُ يما يُخلف له ما نقص ، وهكذا نجد الموجودات متفاعلة ، فالبحر يمد الجو بالرطوبة فتكون منه المياه النازلة ثم هو لا ينقص مع طول الآباد لأنه يمده كل نهر وواد .وهي آية لمن كان في العقل دون هاته المرتبة فأدرك من مجموع هذا الخلق مشهداً بديعاً في طلوع الشمس وغروبها وظهور الكواكب في الجو وغروبها .وأما الاعتبار بما فيها من المخلوقات وما يحف بها من الموجودات كالنجوم الثوابت والشهب وما في الأرض من جبال وبحار وأنهار وحيوان فذلك من تفاريع تلك الهيئة الاجتماعية .وقوله : { واختلاف الليل والنهار } تذكير بآية أخرى عظيمة لا تخفى على أحد من العقلاء وهي اختلاف الليل والنهار أعني اختلاف حالتي الأرض في ضياء وظلمة ، وما في الضياء من الفوائد للناس وما في الظلمة من الفوائد لهم لحصول سكونهم واسترجاع قواهم المنهوكة بالعمل .وفي ذلك آية لخاصة العقلاء إذ يعلمون أسباب اختلاف الليل والنهار على الأرض وأنه من آثار دوران الأرض حول الشمس في كل يوم ولهذا جعلت الآية في اختلافهما وذلك يقتضي أن كلاً منهما آية .والاختلاف افتعال من الخلف وهو أن يجيىء شيء عوضاً عن شيء آخر يخلفه في مكانه والخلفة بكسر الخاء الخلف قال زهير :«بها العين والآرام يمشين خلفة» ... وقد أضيف الاختلاف لكل من الليل والنهار لأن كل واحد منهما يخلف الآخر فتحصل منه فوائد تعاكس فوائد الآخر بحيث لو دام أحدهما لانقلب النفع ضرراً { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة مَنْ إله غير اللَّه يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ( ) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة مَنْ إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تُبْصرون } [ القصص : 71 ، 72 ] .وللاختلاف معنى آخر هو مراد أيضاً وهو تفاوتهما في الطول والقصر فمرة يعتدلان ومرة يزيد أحدهما على الآخر وذلك بحسب أزمنة الفصول وبحسب أمكنة الأرض في أطوال البلاد وأعراضها كما هو مقرر في علم الهيئة ، وهذا أيضاً من مواضع العبرة لأنه آثار الصنع البديع في شكل الأرض ومساحتها للشمس قرباً وبعداً . ففي اختيار التعبير بالاختلاف هنا سر بديع لتكون العبارة صالحة للعبرتين .والليل اسم لعرض الظلمة والسواد الذي يعم مقدار نصف من كرة الأرض الذي يكون غير مقابل للشمس فإذا حجب قرص الشمس عن مقدار نصف الكرة الأرضية بسبب التقابل الكروي تقلص شعاع الشمس عن ذلك المقدار من الكرة الأرضية فأخذ النور في الضعف وعادت إليه الظلمة الأصلية التي ما أزالها إلاّ شعاع الشمس ويكون تقلص النور مدرجاً من وقت مغيب قرص الشمس عن مقابلة الأفق ابتداء من وقت الغروب ثم وقت الشفق الأحمر ثم الشفق الأبيض إلى أن يحلك السواد في وقت العشاء حين بعد قرص الشمس عن الأفق الذي ابتدأ منه المغيب ، وكلما اقترب قرص الشمس من الأفق الآخر أكسبه ضياء من شعاعها ابتداء من وقت الفجر إلى الإسفار إلى الشروق إلى الضحى ، حيث يتم نور أشعة الشمس المتجهة إلى نصف الكرة تدريجاً . وذلك الضياء هو المسمى بالنهار وهو النور التام المنتظم على سطح الكرة الأرضية وإن كان قد يستنير سطح الكرة بالقمر في معظم لياليه استنارة غير تامة ، وبضوء بعض النجوم استنارة ضعيفة لا تكاد تعتبر .فهذا هو المراد باختلاف الليل والنهار أي تعاقبهما وخلف أحدهما الآخر ، ومن بلاغة علم القرآن أن سمى ذلك اختلافاً تسمية مناسبة لتعاقب الأعراض على الجوهر لأنه شيء غير ذاتي فإن ما بالذات لا يختلف فأومأ إلى أن الليل والنهار ليسا ذاتين ولكنهما عرضان خلاف معتقد الأمم الجاهلة أن الليل جسم أسود كما صوره المصريون القدماء على بعض الهياكل وكما قال امرؤ القيس في الليل :فقلتُ له لما تمطى بصُلبه ... وأردفَ أعجازاً ونَاءَ بكلكلوقال تعالى في سورة الشمس : { والنهار إذا جلاها ، والليل إذا يغشاها } [ الشمس : 3 4 ] .وقوله : { والفلك } عطف على { خلق } و { اختلاف } فهو معمول لفي أي وفي الفلك ، ووصفها بالتي تجري الموصول لتعليل العطف أي إن عطفها على خلق السماوات والأرض في كونها آية من حيث إنها تجري في البحر ، وفي كونها نعمة من حيث إنها تجري بما ينفع الناس ، فأما جريها في البحر فهو يتضمن آيتين ، إحداهما آية خلق البحر الذي تجري فيه الفلك خلقاً عجيباً عظيماً إذ كان ماء غامراً لأكثر الكرة الأرضية وما فيه من مخلوقات وما ركب في مائه من الأملاح والعقاقير الكيمياوية ليكون غير متعفن بل بالعكس يخرج للهواء أجزاء نافعة للأحياء على الأرض ، والثانية آية سير السفن فيه وهو ماء من شأنه أن يتعذر المشي عليه فجري السفن آية من آيات إلهام الله تعالى الإنسان للتفطن لهذا التسخير العجيب الذي استطاع به أن يسلك البحر كما يمشي في الأرض ، وصنع الفلك من أقدم مخترعات البشر ألهمه الله تعالى نوحاً عليه السلام في أقدم عصور البشر .ثم إن الله تعالى سخر للفلك الرياح الدورية وهي رياح تهب في الصباح إلى جهة وفي المساء إلى جهة في السواحل تنشأ عن إحياء أشعة الشمس في رابعة النهار الهواء الذي في البر حتى يخف الهواء فيأتي هواء من جهة البحر ليخلف ذلك الهواء البري الذي تصاعد فتحدث ريح رخاء من جهة البحر ويقع عكس ذلك بعد الغروب فتأتي ريح من جهة البر إلى البحر ، وهذه الريح ينتفع بها الصيادون والتجار وهي تكون أكثر انتظاماً في مواقع منها في مواقع أخرى .وسخر للفلك رياحاً موسمية وهي تهب إلى جهة واحدة في أشهر من السنة وإلى عكسها في أشهر أخرى تحدث من اتجاه حرارة أشعة الشمس على الأماكن الواقعة بين مدار السرطان ومدار الجدي ، من الكرة الأرضية عند انتقال الشمس من خط الاستواء إلى جهة مدار الشرطان وإلى جهة مدار الجدي ، فتحدث هاته الريح مرتين في السنة وهي كثيرة في شطوط اليمن وحضرموت والبحر الهندي وتسمى الريح التجارية .وأما كونها نعمة فلأن في هذا التسخير نفعاً للتجارة والزيارة والغزو وغير ذلك ولذلك قال بما ينفع الناس لقصد التعميم مع الاختصار .والفلك هنا جمع لا محالة لأن العبرة في كثرتها ، وهو ومفرده سواء في الوزن فالتكسير فيه اعتباري وذلك أن أصل مفرده فلك بضمتين كعنق وكسر على فلك مثل عرب وعجم وأسد وخفف المفرد بتسكين عينه لأن ساكن العين في مضموم الفاء فرع مضموم العين ما قصد منه التخفيف على مت بينه الرضي فاستوى في اللفظ المفرد والجمع ، وقيل المفرد بفتح الفاء وسكون اللام والجمع بضم الفاء وضم اللام قيل أسد وأسد وخَشَب وخُشَبُ ثم سكنت اللام تخفيفاً ، والاستعمال الفصيح في المفرد والجمع ضم الفاء وسكون اللام قال تعالى : { واصنع الفلك } [ هود : 37 ] . و { الفلك المشحون } [ الشعراء : 119 ] وقال { والفلك التي تجري في البحر } وقال { والفلك تجري في البحر بأمره } [ إبراهيم : 32 ] ، { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين } [ يونس : 22 ] ، ثم إن أصل مفرده التذكير قال تعالى : { والفلك المشحون } ويجوز تأنيثه على تأويله بمعنى السفينة قال تعالى : { وقال اركبوا فيها } [ هود : 41 ] { وهي تجري بهم } [ هود : 42 ] كل ذلك بعد قوله : { ويصنع الفلك } [ هود : 38 ] .وكأن هذا هو الذي اعتمده ابن الحاجب إذ عد لفظ الفلك مما أنث بدون تاء ولا ألف فقال في قصيدته «والفلك تجري وهي في القرآن» لأن العبرة باستعماله مؤنثاً وإن كان تأنيثه بتأويل ، وقد قيل إنه يجوز في مفرده فقط ضم اللام مع ضم الفاء وقرىء به شاذاً والقول به ضعيف ، وقال الكواشي هو بضم اللام أيضاً للمفرد والجمع وهو مردود إذ لم ينص عليه أهل اللغة ولا داعي إليه وكأنه قاله بالقياس على الساكن .وفي امتنان الله تعالى بجريان الفلك في البحر دليل على جواز ركوب البحر من غير ضرورة مثل ركوبه للغزو والحج والتجارة ، وقد أخرج مالك في «الموطأ» وتبعه أهل «الصحيح» حديث أم حرام بنت مِلحان في باب الترغيب في الجهاد الثاني من «الموطأ» عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وكانت تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم . . فنام يوماً ثم استيقظ وهو يضحك قالت فقلت ما يضحكك قال ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة قالت فقلت ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها» الحديث . وفي حديث أبي هريرة " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء " الحديث .وعليه فما روي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى عمرو بن العاص أن لا يحمل جيش المسلمين في البحر مؤول على الاحتياط وترك التغرير وأنا أحسبه قد قصد منه خشية تأخر نجدات المسلمين في غزواتهم لأن السفن قد يتأخر وصولها إذا لم تساعفها الرياح التي تجري بما لا تشتهي السفن ولأن ركوب العدد الكثير في سفن ذلك العصر مظنة وقوع الغرق ، ولأن عدد المسلمين يومئذٍ قليل بالنسبة للعدو فلا ينبغي تعريضه للخطر فذلك من النظر في المصلحة العامة في أحوال معينة فلا يحتج به في أحكام خاصة للناس . ولما مات عمر استأذن معاوية عثمان فأذن له في ركوبه فركبه لغزو ( قبرص ) ثم لغزو القسطنطينية وفي غزوة ( قبرص ) ظهر تأويل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم حرام ، وقد قيل إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة نهى عن ركوبه ثم ركبه الناس بعده .وروي عن مالك كراهة سفر المرأة في البحر للحج والجهاد ، قال ابن عبد البر وحديث أم حرام يرد هذه الرواية ولكن تأولها أصحابه بأنه كره ذلك لخشية اطّلاعهن على عورات الرجال لعسر الاحتراز من ذلك فخصه أصحابه بسفن أهل الحجاز لصغرها وضيقها وتزاحم الناس فيها مع كون الطريق من المدينة إلى مكة من البر ممكناً سهلاً وأما السفن الكبار كسفن أهل البصرة التي يمكن فيها الاستتار وقلة التزاحم فليس بالسفر فيها للمرأة بأس عند مالك .{ وما أنزل الله من السماء من ماء } معطوف على الأسماء التي قبله جيء به اسم موصول ليأتي عطف صلة على صلة فتبقى الجملة بمقصد العبرة والنعمة ، فالصلة الأولى وهي { أنزل الله من السماء من ماء } تذكير بالعبرة لأن في الصلة من استحضار الحالة ما ليس في نحو كلمة المطر والغيث ، وإسناد الإنزال إلى الله لأنه الذي أوجد أسباب نزول الماء بتكوينه الأشياء عند خلق هذا العالم على نظام محكم .والسماء المفرد هو الجو والهواء المحيط بالأرض كما تقدم آنفاً ، وهو الذي يشاهده جميع السامعين .ووجه العبرة فيه أن شأن الماء الذي يسقي الأرض أن ينبع منها فجعل الماء نازلاً عليها من ضدها وهو السماء عبرة عجيبة .وفي الآية عبرة علمية لمن يجيء من أهل العلم الطبيعي وذلك أن جعل الماء نازلاً من السماء يشير إلى أن بخار الماء يصير ماء في الكرة الهوائية عند ما يلامس الطبقة الزمهريرية وهذه الطبقة تصير زمهريراً عندما تقل حرارة أشعة الشمس ، ولعل في بعض الأجرام العلوية وخاصة القمر أهوية باردة يحصل بها الزمهرير في ارتفاع الجو فيكون لها أثر في تكوين البرودة في أعلى الجو فأسند إليها بإنزال الماء مجازاً عقلياً وربما يستروح لهذا بحديث مروي وهو أن المطر ينزل من بحر تحت العرش أي إن عنصر المائية يتكون هنالك ويصل بالمجاورة حتى يبلغ إلى جونا قليل منه فإذا صادفته الأرض تكون من ازدواجهما الماء وقد قال تعالى : { وينزل من السماء من جبال فيها من برد } [ النور : 43 ] ، ولعلها جبال كرة القمر وقد ثبت في الهيئة أن نهار القمر يكون خمسة عشر يوماً ، وليله كذلك ، فيحصل فيه تغيير عظيم من شدة الحر إلى شدة البرد فإذا كانت مدة شدة البرد هي مدة استقباله الأرض أحدث في جو الأرض عنصر البرودة .وقوله : { فأحيا به الأرض } معطوف على الصلة بالفاء لسرعة حياة الأرض إثر نزول الماء وكلا الأمرين الفعل والفاء موضع عبرة وموضع منة . وأطلقت الحياة على تحرك القوى النامية من الأرض وهي قوة النبات استعارة لأن الحياة حقيقة هي ظهور القوى النامية في الحيوان فشبهت الأرض به . وإذا جعلنا الحياة حقيقة في ظهور قوى النماء وجعلنا النبات يوصف بالحياة حقيقة وبالموت فقوله : { فأحيا به الأرض } مجاز عقلي والمراد إحياء ما تراد له الأرض وهو النبات .وفي الجمع بين السماء والأرض وبين أحيا وموت طباقان .وقوله : { وبث فيها من كل دابة } عطف إما على { أنزل } فيكون صلة ثانية وباعتبار ما عطف قبله على الصلة صلة ثالثة ، وإما عطف على { أحيا } فيكون معطوفاً ثانياً على الصلة ، وأيّاً ما كان فهو آية ومنة مستقلة ، فإن جعلته عطفاً على الصلة فمن في قوله : { من كل دابة } بيانية وهي في موضع الحال ظرف مستقر ، وإن جعلته عطفاً على المعطوف على الصلة وهو { أحيا } فمن في قوله : { من كل دابة } تبعيضية وهي ظرف لغو ، أي أكثر فيها عدداً من كل نوع من أنواع الدواب بمعنى أن كل نوع من أنواع الدواب ينبث بعض كثير من كل أنواعه ، فالتنكير في دابة للتنويع أي أكثر الله من كل الأنواع لا يختص ذلك بنوع دون آخر .والبث في الأصل نشر ما كان خفياً ومنه بث الشكوى وبث السر أي أظهره . قالت الأعرابية «لقد أبثثتك مكتومي وأطعمتك مأدومي» وفي حديث أم زرع قالت السادسة " ولا يولج الكف ليعلم البث " أي لا يبحث عن سر زوحته لتفشوه له ، فمثلت البحث بإدخال الكف لإخراج المخبوء ، ثم استعمل البث مجازاً في انتشار الشيء بعد أن كان كامناً كما في هاته الآية واستعمل أيضاً في مطلق الانتشار ، قال الحماسي :وهلاّ أعَدُّوني لِمِثلي تفاقدوا ... وفي الأرض مثبوتٌ شجاعٌ وعقربوبث الدواب على وجه عطفه على فعل { أنزل } هو خلق أنواع الدواب على الأرض فعبر عنه بالبث لتصوير ذلك الخلق العجيب المتكاثر فالمعنى وخلق فبث فيها من كل دابة .وعلى وجه عطف { وبث } على { فأحيا } فبث الدواب انتشارها في المراعي بعد أن كانت هازلة جاثمة وانتشار نسلها بالولادة وكل ذلك انتشار وبث وصفه لبيد بقوله :رُزقت مرابيعَ النجوم وصَابَهَا ... وَدْق الرواعدِ جَوْدُها فرِهامُهافعلا فروعُ الأيْهقان وأطفَلَتْ ... بالجَلْهتيننِ ظِباؤها ونعامهاوالآية أوجز من بيتي لبيد وأوفر معنى فإن قوله تعالى : { وما أنزل الله من السماء من ماء } أوجز من البيت الأول ، وقوله : { فأحيا به الأرض بعد موتها } أوجز من قوله فعلا فروع الأيهقان وأعم وأبرع بما فيه من استعارة الحياة ، وقوله : { وبث فيها من كل دابة } أوجز من قوله وأطفلت البيت مع كونه أعم لعدم اقتصاره على الظباء والنعام .والدابة ما دب على وجه الأرض وقد أذنت كلمة { كل } بأن المراد جميع الأنواع فانتفى احتمال أن يراد من الدابة خصوص ذوات الأربع .وقد جمع قوله تعالى : { فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة } أصول علم التاريخ الطبيعي وهو المواليد الثلاثة المعدن والنبات والحيوان ، زيادة على ما في بقية الآية سابقاً ولاحقاً من الإشارات العلمية الراجعة لعلم الهيئة وعلم الطبيعة وعلم الجغرافيا الطبيعية وعلم حوادث الجو .وقوله : { وتصريف الرياح } عطف على مدخول { في } وهو من آيات وجود الخالق وعظيم قدرته لأن هبوب الريح وركودها آية ، واختلاف مهابِّها آية ، فلولا الصانع الحكيم الذي أودع أسرار الكائنات لما هبت الريح أو لما ركدت ، ولما اختلفت مهابُّها بل دامت من جهة واحدة وهذا موضع العبرة ، ومن تصريف الرياح أيضاً موضع نعمة وهو أن هبوبها قد يحتاج إليه أهل موضع للتنفيس من الحرارة أو لجلب الأسحبة أو لطرد حشراتتٍ كالجراد ونحوه أو لجلب منافع مثل الطير .وقد يحتاج أهل مكان إلى اختلاف مهابها لتجيء ريح باردة بعد ريح حارة أو ريح رطبة بعد ريح يابسة ، أو لتهب إلى جهة الساحل فيرجعَ أهل السفن من الأسفار أو من الصيد ، فكل هذا موضع نعمة ، وهذا هو المشاهد للناس كلهم ، ولأهل العلم في ذلك أيضاً موضع عبرة أعجب وموضع نعمة ، وذلك أن سبب تصريف الرياح أن الله أحاط الكرة الأرضية بهواء خلقه معها ، به يتنفس الحيوان وهو محيط بجميع الكرة بَحْرِها وبرها متصل بسطحها ويشغل من فوق سطحها ارتفاعاً لا يعيش الحيوان لو صعد إلى أعلاه ، وقد خلقه الله تعالى مؤلفاً من غازين هما ( النيتروجين والأكسجين ) وفيه جزء آخر عارض فيه وهو جانب من البخار المائي المتصاعد له من تبخر البُحار ورطوبة الأرض بأشعة الشمس وهذا البخار هو غاز دقيق لا يشاهد ، وهذا الهواء قابل للحرارة والبرودة بسبب مجاورة حارَ أو بارد ، وحرارته تأتي من أشعة الشمس ومن صعود حرارة الأرض حين تسخنها الشمس وبرودته تجيء من قلة حرارة الشمس ومن برودة الثلوج الصاعدة من الأرض ومن الزمهرير الذي يتزايد بارتفاع الجو كما تقدم .ولما كانت الحرارة من طبعها أن تُمَدِّد أجزاء الأشياء فتتلطف بذلك التمدد كما تقرر في الكيمياء ، والبرودة بالعكس ، كان هواء في جهة حارة كالصحراء وهواء في جهة باردة كالمنجمد وقع اختلاف بين الهواءين في الكثافة فصَعِد الخفيف وهو الحار إلى الأعلى وانحدر الكثيف إلى الأسفل وبصعود الخفيف يترك فراغاً يخلفه فيه الكثيف طلباً للموازنة فتحدث حركة تسمى ريحاً ، فإذا كانت الحركة خفيفة لقرب التفاوت بين الهواءين سميت الحركة نسيماً وإذا اشتدت الحركة وأسرعت فهي الزوبعة . فالريح جنس لهاته الحركة والنسيم والزوبعة والزعزع أنواع له .ومن فوائد هاته الرياح الإعانة على تكوين السحاب ونقله من موضع إلى موضع وتنقية الكرة الهوائية مما يحل بها من الجراثيم المضرة ، وهذان الأمران موضع عبرة ونعمة لأهل العلم .وقد اختير التعبير بلفظ التصريف هنا دون نحو لفظ التبديل أو الاختلاف لأنه اللفظ الذي يصلح معناه لحكاية ما في نفس الأمر من حال الرياح لأن التصريف تفعيل من الصرف للمبالغة وقد علمت أن منشأ الريح هو صرف بعض الهواء إلى مكان وصرف غيره إلى مكانه الذي كان فيه فيجوز أن تقدر : وتصريف الله تعالى الرياح ، وجعل التصريف للريح مع أن الريح تكوَّنت بذلك التصريف لأنها تحصل مع التصريف فهو من إطلاق الاسم على الحاصل في وقت الإطلاق كما في قوله تعالى : { ويلعنهم اللاعنون } [ البقرة : 159 ] وهو ضرب من مجاز الأوْل ، وأن تجعل التصريف بمعنى التغيير أي تبديل ريح من جهة إلى جهة فتبقى الحقيقة ويفوت الإعجاز العِلمي ويكون اختيار لفظ التصريف دون التغيير لأنه أخف .وجُمع الرياح هنا لأن التصريف اقتضى العدد لأنها كلما تغير مهبها فقد صارت ريحاً غيرَ التي سبقت .وقرأه الجمهور ( الرياح ) بالجمع وقرأه حمزة والكسائي ( الريح ) بالإفراد على إرادة الجنس ، واستفادة العموم من اسم الجنس المعرف سواء كان مفرداً أو جمعاً سَواءٌ ، وقد قيل إن الرياح بصيغة الجمع يكثر استعماله في ريح الخير وإن الريح بالإفراد يكثر استعماله في ريح الشر واعتضدوا في ذلك بما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا رأى الريح : « اللهم اجعلها رياحاً لا ريحاً » وهي تفرقة أغلبية وإلاّ فقد غير بالإفراد في موضع الجمع ، والعكس في قراءة كثير من القراء . والحديثُ لم يَصح ، وعلى القول بالتفرقة فأحسن ما يعلل به أن الريح النافعة للناس تجيء خفيفة وتتخلل موجاتها فجَوات فلا تحصل منها مضرة فباعتبار تخلل الفجوات لهبوبها جُمعت ، وأما الريح العاصف فإنه لا يترك للناس فجوة فلذلك جعل ريحاً واحدة وهذا مأخوذ من كلام القرطبي .والرياح جمع ريح والريح بوزن فِعْل بكسر الفاء وعينها واو انقلبت ياء لأجل الكسرة بدليل قولهم في الجمع أرواح وأما قولهم في الجمع رياح فانقلاب الواو فيه ياء كانقلابها في المفرد لسبب الكسرة كما قالوا دِيمَة ودِيَمَ وحِيلة وحِيَل وهما من الواوي .وقوله : { والسحاب المسخر } عطف على { وتصريف الرياح } أو على { الرياح } ويكون التقدير : وتصريف السحاب المسخر أي نقله من موضع إلى موضع . وهو عبرة ومنة أما العبرة ففي تكوينه بعد أن لم يكن وتسخيره وكونِه في الفضاء ، وأما المنة ففي جميع ذلك فتكوينه منة وتسخيره من موضع إلى موضع منة وكونه بين السماء والأرض منة لأنه ينزل منه المطر على الأرض من ارتفاع فيفيد اختراق الماء في الأرض ، ولأنه لو كان على سطح الأرض لاختنق الناس فهذا ما يبدو لكل أحد ، وفي ذلك أيضاً عبرة ومنة لأهل العلم فتكوينه عبرة لهم وذلك أنه يتكون من تصاعد أبْخرة البحار ورطوبة الأرض التي تبخِّرها أشعة الشمس ولذا لم يخْلُ الهواء من بُخار الماء كما قدمناه إلاّ أن بخار الماء شفاف غازي فإذا جاور سطحاً بارداً ثقل وتكاثف فصار ضباباً أو ندى أو سحاباً ، وإنما تكاثف لأن أجزاء البخار تجتمع فتقل قدرة الهواء على حمله ، ثم إذا تكامل اجتماعه نزل مطراً ، ولكون البخار الصاعد إلى الجو أكثر بخار البحر؛ لأن البحر أكثر سطح الكرة الأرضية كانت السحب أكثر ما تتكون من جهة البحار ، وكانوا يظنون أن المطر كله من ماء البحر وأن خراطيم السحاب تتدلى إلى أمواج البحر فتمتص منه الماء ثم ينزل مطراً . قال أبو ذؤيب الهذلي :سقى أم عمرو كلَّ آخر ليلة ... حناتمُ سودٌ ماؤهن ثجيجشربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجُججٍ خُضرٍ لهن نئيجوقال البديع الإصطرلابي :أهْدِي لمجلسك الشريف وإنما ... أهْدِي له ما حُزتُ من نعمائهكالبحر يُمطره السحابُ ومالَه ... فضلٌ عليه لأنه من مائهفلولا الرياح تسخره من موضع إلى موضع لكان المطر لا ينزل إلاّ في البحار . وموضع المنة في هذا في تكوينه حتى يحمل الماء ليحيى الأرض ، وفي تسخيره لينتقل ، وفي كونه بين السماء والأرض فهو مسخر بين السماء والأرض حتى يتكامل ما في الجو من الماء فيثقل السحاب فينزل ماء إذا لم تبق في الهواء مقدرة على حمله قال تعالى : { وينشيء السحاب الثقال } [ الرعد : 12 ] وقوله تعالى : { لأيات لقوم يعقلون } أي دلائل وقد تقدم الكلام على الآية والآيات ، وجمع الآيات لأن في كل ما ذكر من خلق السماوات والأرض وما عطف عليه آيات .فإن أريد الاستدلال بها على وجود الله تعالى فقد كانت دلائل واضحة وكان رداً على الدُّهريين من العرب وكان ذكرهم بعد الذين كفروا وماتوا وهم كفار المراد بهم المشركون تكميلاً لأهل النحل في العرب ، ويكون قوله بعد ذلك : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } [ البقرة : 165 ] رجوعاً إلى المشركين وهذا الوجه يرجع إلى الاستدلال بالعالم على الصانع وهو دليل مشهور في كتب الكلام .وإن أريد الاستدلال بهاته الدلائل على وحدانية الله تعالى المستلزمة لوجوده وهو الظاهر من قوله : { لقوم يعقلون } ، لأن الاستدلال بهاته الدلائل وأمثالها على وجود الصانع لا يدل على كمال عقل بخلاف الاحتجاج بها على الوحدانية ، ولأنه ذكره بعد قوله : { وإلهاكم إله واحد لا إله إلا هو } ، ولأن دهماء العرب كانوا من المشركين لا من المعطلين الدهريين . وكفاية هذه الدلائل في الرد على المشركين من حيث إنهم لم يكونوا يدعون للأصنام قدرة على الخلق كما أشار إليه قوله تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [ النحل : 17 ] .وإن أريد الاستدلال بهذه الآثار لوحدانية الله على الأمم التي تثبت الاشتراك للآلهة في الإيجاد مثل مجوس الفرس ومشركي اليونان . فوجه دلالة هاته الآيات على الوحدانية أن هذا النظام البديع في الأشياء المذكورة وذلك التدبير في تكوينها وتفاعلها وذهابها وعودها ومواقيتها كل ذلك دليل على أن لها صانعاً حكيماً متصفاً بتمام العلم والقدرة والحكمة وهي الصفات التي تقتضيها الأُلْهانية ، ولا جرم أن يكون الإله الموصوف بهاته الصفات واحداً لاعتراف المشركين بأن نواميس الخلق وتسيير العالم من فعل الله تعالى ، إذا لم يدعوا لشركائهم الخلق ولذلك قال تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [ النحل : 17 ] ، وذكر في سورة النمل الاستدلال ببعض ما هنا على أن لا إله مع الله ، فالمقصود التذكير بانتفاء حقيقة الإلهية عن شركائهم ، وأما طريقة الاستدلال العلمية فهي بالبرهان الملقب في علم الكلام ببرهان التمانع وسيأتي عند قوله : { لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] في سورة الأنبياء .والقوم : الجماعة من الرجال ويطلق على قبيلة الرجل كما قال عمرو بن معدي كرب :فلو أن قومي أنقطتني رماحهم ... ويطلق على الأمة .وذكر لفظ { لقوم يعقلون } دون أن يقال للذين يعقلون أو للعاقلين لأن إجراء الوصف على لفظ قوم يومىء إلى أن ذلك الوصف سجية فيهم ، ومن مكملات قوميتهم ، فإن للقبائل والأمم خصائص تميزها وتشتهر بها كما قال تعالى : { وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون } [ التوبة : 56 ] ، وقد تكرر هذا في مواضع كثيرة من القرآن ومن كلام العرب ، فالمعنى إن في ذلك آيات للذين سجيتهم العقل ، وهو تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بآيات ذلك ليست عقولهم براسخة ولا هي ملكات لهم وقد تكرر هذا في سورة يونس .
Arabic Tanweer Tafseer
2:164
ويشتمل الدليل الأول والثاني على أنه - سبحانه - هو المستحق للعبادة في قوله - تعالى - : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض ) .الخلق : هو الإِحداث للشيء على غير مثال سابق . وهو هنا بمعنى المخلوق . إذ الآيات التي تشاهد إنما هي في المخلوق الذي هو السموات والأرض .والسموات : جمع سماء ، وهي كل ما علا كالسقف وغيره ، إلا أنها إذا أطلقت لم يفهم منها سوى الأجرام المقابلة للأرض ، وهي سبع كما ورد ذلك صريحاً في بعض الآيات التي منها قوله - تعالى - : ( الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ) وجمعت السموات لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية ، كما يدل عليه قوله - تعالى - ( فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ) ولأن إفرادها قد يوهم بأنها واحدة مع أن القرآن صريح في كونها سبعاً .وجاءت الأرض مفردة - وهي لم تجئ في القرآن إلا كذلك - لأن المشاهدة لا تقع إلى على أرض واحدة ، ومن هنا حمل بعض أهل العلم تعددها الذي يتبادر من ظاهر قوله - تعالى - : ( الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ ) على معنى أنها طبقات لا ينفصل بعضها عن بعض .ومن الآيات الدالة على وحدانية الله وقدرته في خلق السموات وارتفاعها بغير عمد كما يرى ذلك بالمشاهدة ، وتزيينها بالمصابيح التي جعلها الله زينة للسماء ورجوماً للشياطين ، ووجودها بتلك الصورة العجيبة الباهرة التي لا ترى فيها أي تفاوت أو اضطراب ومن الآيات الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته في خلق الأرض ، فرشها بتلك الطريقة الرائعة التي يتيسر معها للإِنسان أن يتقلب في أرجائها ، ويمشي في مناكبها ، وينتفع بما يحتاج إليه منها أينما كان ، وتفجيرها بالأنهار ، وعمارتها بحدائق ذات ثمار تختلف ألوانها ويتفاضل أكلها .وفي القرآن الكريم عشرات الآيات التي تتحدث عن نعم الله على عبادة في خلق السموات والأرض ، وعن مظاهر قدرته ووحدانيته في إيجادهما على تلك الصورة ، ومن ذلك قوله - تعالى - : ( يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ ) وقوله - تعالى - : ( الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ استوى عَلَى العرش وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ )وقوله - تعالى - ( أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً . وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً . والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً . ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً . والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً . لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً ) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة الدالة على وجود الله وقدرته ووحدانيته .ويتمثل الدليل الثالث على قدرته - سبحانه - ووحدانيته في قوله تعالى : ( واختلاف الليل والنهار ) والاختلاف : افتعال من الخلف ، وهو أن يجئ شيء عوضاً عن شيء آخر يخلفه على وجه التعاقب . والمراد أن كلا من الليل والنهار يأتي خلفا من الآخر وفي أعقابه ، ويجوز أن يكون المراد باختلافهما ، في أنفسهما بالطول والقصر ، واختلافهما في جنسيهما بالسواد والبياض .و ( الليل ) : هو الظلام المعاقب للنهار ، واحدته ليلة كتمر وتمرة .و ( والنهار ) : هو الضياء المتسع ، وأصله الاتساع ، ومنه قول الشاعر :ملكت بها كفى فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءهاأي : أوسعت فتقها .وقد جعل الله الليل للسكون والراحة والعبادة لمن وفقه الله لقضاء جانب منه في مناجاته - سبحانه - وجعل النهار للعمل وابتغاء الرزق .قال - تعالى - : ( وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً . وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً ) وقد أضيف الاختلاف لكل من الليل والنهار ، لأن كل واحد منهما يخلف الآخر فتحصل منه فوائد سوى فوائد الآخر ، بحيث لو دام أحدهما لانقلب النفع ضراً .قال - تعالى - : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ . قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ . وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ومن العظات التي تؤخذ من هذا الاختلاف أن مدد الليل والنهار تختلف فلكل منهما مدة يستوفيها من السنة بمقتضى نظام دقيق مطرد .قال - تعالى - : ( لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) وكون الليل والنهار يسيران على هذا النظام الدقيق المطرد الذي لا ينخرم دليل على أن الاختلاف تدبير من إله قادر حكيم لا يدخل أفعاله تفاوت ولا اختلال .وإذا اكن لهذا الاطراد أسباب تحدث عنها العلماء ، فإن الذي خلق الأسباب وجعل بينها وبين هذا الاختلاف تلازماً إنما هو الإِله الواحد القهار .أما المظهر الرابع من المظاهر الدالة في هذا الكون على قدرته - سبحانه - ووحدانيته وألوهيته ، فقد تحدثت عنه الآية في قوله - تعالى - : ( والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس ) .( الفلك ) : ما عظم من السفن ، ويستعمل لفظ الفلك للواحد والجمع . والظاهر أن المراد به هنا الجمع بدليل قوله - تعالى - : ( التي تَجْرِي فِي البحر ) ولو كان هذا اللفظ للمفرد لقال : الذي يجري ، كما جاء في قوله - تعالى - :( وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون ) والجملة الكريمة معطوفة على خلق السموات والأرض .قال صاحب المنار : وكان الظاهر أن تأتي هذه الجملة في آخر الآية ليكون ما للإِنسان فيه صنع على حدة وما ليس له فيه صنع على حدة . والنكتة في ذكرها عقيب آية الليل والنهار ، هي أن المسافرين في البر والبحر هم أشد الناس حاجة إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به ، والمسافرون في البحر أحوج إلى معرفة الأوقات وتحديد الجهات ، لأن خطر الجهل عليهم أشد ، وفائدة المعرفة لهم أعظم ، ولذلك كان من ضروريات رباني السفن معرفة علم النجوم ، وعلم الليل والنهار من فروع هذا العلم . قال - تعالى - : ( وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر ) فهذا وجه العلاقة بين ذكر الفلك وما قبله .و " ما " في قوله : ( بِمَا يَنفَعُ الناس ) مصدرية ، والباء للسببية أي : تجري بسبب نفع الناس ولأجله في التجارة وغيرها . أو موصولة والباء للحال ، أي تجري مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس . وخص - سبحانه - النفع بالذكر وإن كانت السفن تحمل ما ينفعت وما يضر؛ لأن المراد هنا عد النعم ، ولأن الذي يحمل فيها ما يضر غيره هو في الوقت نفسه يقصد منفعة نفسه .ومن وجوه الاستدلال بالفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس على وجود الله وقدرته ، أن هذه الفلك وإن كانت من صنع الناس إلا أن الله - تعالى - هو الذي خلق الآلات والأجزاء التي صارت بها سفناً ، وهو الذي سخر لبحر لتجري فيه منقلبة ومدبرة مع شدة أهواله إذا هاج ، وهو الذي جعلها تشق أمواجه شقاً حتى تصل إلى بر الأمان ، وهو الذي رعاها برعايته وهي كنقطة صغيرة في ذلك الماء الواسع ، ووسط تلك الأمواج المتلاطمة حتى وصلت إلى ساحل السلامة وهي حاملة الكثير مما ينفع الناس من الأطعمة والأشربة والأمتعة المختلفة ، فسبحانه من إله قادر حكيم .الدليل الخامس والسادس على أنه - سبحانه - هو المستحق للعبادة يتمثل في قوله - تعالى - في هذه الآية : ( وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ ) .والمراد بالسماء : جهة العلو ، أي : وما أنزل من جهة السماء من ماء ، و " من " في قوله : ( مِنَ السمآء ) ابتدائية ، وفي قوله : ( مِن مَّآءٍ ) بيانية ، وهما ومجرورهما متعلقان بأنزل .والمراد بإحياء الأرض : تحرك القوى النامية فيها ، وإظهار ما أودع الله فيها من نبات وزهور وثمار وغير ذلك .والمراد بموتها : خلوها من ذلك باستيلاء اليبوسة والقحط عليها .قال - تعالى - : ( وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) ( والبث ) : التفريق والنشر لما كان خافيا ، ومنه بث الشكوى أي : نشرها وإظهارها ، وكل شيء بثثته فقد فرقته ونشرته ، والضمير في قوله : " فيها " يعود إلى الأرض .( والدابة ) : اسم من الدبيب والمشي ببطء ، كل ما يمشي فوق الأرض فهو بحسب الوضع اللغوي يطلق عليه دابة . والظاهر أن المراد بالدابة هنا هذا المعنى العام ، لا ما جيري به العرف الخاص باستعماله في نوع خاص من الحيوان كذوات الأربع .وجملة ( وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ . . . ) معطوفة على ما قبلها ، وجملة ( وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ ) معطوفة على قوله : ( فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا ) .والمعنى : وإن فيما أنزله الله من جهة السماء من ماء مبارك ، عمرت به الأرض بعد خرابها ، وانتشرت فيها أنواع الدواب كلها ، لدلييل ساطع على قدرة الله ووحدانيتهذلك لأنه هو وحده الذي أنزل المطر من السماء ولو شاء لأمسكه مع أن لماء من طبعه الانحدار ، وهو وحده الذي جعل الأرض التي نعيش عليها تنبت من كل زوج بهيج بسبب طبيعتها وأحجامها ، وأشكالها وألوانها ، وأصواتها ، ومآكلها ، وحملها ، وتناسلها ، ووجوه الانتفاع بها ، وغير ذلك من وجوه الاختلاف الكثيرة ، مما يشاهد بأن خالق هذه الكائنات إله واحد قادر حكيم .أما الدليل السابع والثامن في هذه الآية على قدرته - سبحانه - ووحدانيته واستحقاقه للعبادة فهما قوله - تعالى - : ( وَتَصْرِيفِ الرياح والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض ) .الرياح جمع ريح وهي نسيم الهواء .وتصريفها : تقليبها في الجهت المختلفة ، ونقلها من حال إلى حال ، وتوجيهها على حسب إرادته - سبحانه - ووفق حكمته . فتهب تارة صباً ، أي من مطلع الشمس ، وتارة دبوراً ، أي : من جهة الغرب ، وأحياناً من جهة الشمال أو الجنوب وقد يرسلها - سبحانه - عاصفة ولينة ، حارة أو باردة ، لواقح بالرحمة حيناً وبالعذاب آخر ( وَتَصْرِيفِ ) مصدر صرف مضاف للمفعول والفاعل هو الله ، أي : وتصريف الله الرياح . أو مضاف للفاعل هو الله ، أي : وتصريف الله الرياح . أو مضاف للفاعل والمفعول الحساب ، أي : وتصريف الرايح السحاب .وجاءت هذه الجملة الكريمة بعد إحياء الأرض بالمطر وبث الدواب فيها للتناسب بينهما ، وتذكيراً بالسبب إذ بالرياح تكون حياة النبات والحيوان وكل دابة على الأرض ، ولو أمسك - سبحانه - الرياح عن التصريف لما عشا كانئن على ظهر الأرض .( والسحاب ) : عطف على ما قبله ، وهو اسم جنس واحد سحابة ، سمي بذلك لانسحابه في الجو أو لجر الرياح له .و ( المسخر ) : من التسخير وهو التذليل والتيسير ، ومعنى تسخيره - كما قال الآلوسي - أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضي صعوده إن كان لطيفاً وهبوطه إن كان كثيفا - و ( المسخر ) صفة للسحاب باعتبار لفظه ، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كما في قوله :( سَحَاباً ثِقَالاً ) والظرف " بين " يجوز أن يكون منصوباً بقوله المسخر فيكون ظرفاً للتسخير ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير المستتر في اسم المفعول فيتعلق بمحذوف أي : كائناً بين السماء والأرض .وجاء ذكر السحاب بعد تصريف الرياح لأنها هي التي تثيره وتجمعه ، وهي التي تسوقه إلى حيث ينزل مطراً في الأماكن التي تريد الله إحياءها .قال - تعالى - : ( الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السمآء كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ) ولا شك أن هذا التصريف للرياح مع أنها جسم لطيف لا يمسك ولا يرى ، وهي مع ذلك في غاية القوة بحيث تقلع الأشجار وتخرب الديار ، وهذا التسخير للحساب بحيث يبقى معلقاً بين السماء والأرض مع حملة للمياه العظيمة التي تسيل بها الأودية المتسعة . . . لا شك أن كل ذلك من أعظم الأدلة على أن لهذا الكون مدبراً قادراً حكيماً هو الله رب العالمين .وقوله : ( لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) اسم ( إِنَّ ) لقوله - تعالى - في أول الآية : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض ) ودخلت اللام على الاسم وهو ( لآيَاتٍ ) لتأخره عن الخبر والتنكير للتعظيم والتفخيم كما وكيفاً .أي : إن فيما ذكره الله من مخلوقاته العجيبة ، وكائناته الباهرة ، لدلائل ساطعة ، وآيات واضحة ترشد من يعقلون ويتدبرون فيها ، إلى أن لهذا الكون إلهاً واحداً قادراً حكيماً مستحقاً للعبادة والخضوع والطاعة .وموقع هذه الآية الكريمة من سابقتها كموقع الحجة من الدعوى ، ذلك أن الله - تعالى - أخبر في الآية السابقة أن الإِلهه واحد لا إله غيره ، وهي قضية قد تلفاها كثير من الناس بالإِنكار ، فناسب أن يأتي في هذه الآية الكريمة بالحجج والبراهين التي لا يسع الناظر فيها بتدبر وتفكير إلا التسليم عن اقتناع بوحدانية الله - تعالى - قدرته .قال الإِمام الرازي : واعلم أن النعم على قسمين : نعم دنيوية ونعم دينية وهذه الأمور الثمانية ، اليت عدها الله - تعالى - نعم دنيوية في الظاهر ، فإذا تفكر العقال فيها ، واستدل بها على معرفة الصانع ، صارت نعما دينية ، لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن ، فلذلك قال : ( لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .وقال الآلوسي : أخرج ابن أبي الدنيا وابن مردوية عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال : " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " .ثم قال الآلوسي : ومن تأمل في تلك المخلوقات التي وردت في هذه الآية وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده - تعالى - ووحدانيته وسائر صفاته الموجبة لتخصيص العبادة له ، ومجمل القول فيث ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاصس من الوجوه الممكنة دون ما عداه ، مستنبعا لآثار معينة ، وأحكام مخصوصة .. . وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية ، وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله ، وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة .والحق أن هذه الآية الكريمة قد اتجهت في تثبيت عقيدة وحدانية الله وقدرته وألوهيته إلى تنبيه الحواس والمدارك والمشاعر إلى ما في هذا الكون المشاهد المنظور من آيات ودلائل على حقية الخالق - عز وجل - بالعبادة .وهذه الطريقة من تنبيه الحواس والمدارك جديرة بأن تفتح الأبصار والبصائر على عجائب هذا الكون ، تلك العجائب التي أصبحت عند كثير من الناس شيئاً مألوفاً بسبب عدم تدبرهم لما فيها من عظات وعبر وصدق الله إذ يقول ( وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) ورحم الله القائل : ألا إن لله كتابين : كتاباً مخلوقاً وهو الكون ، وكتاباً منزلا وهو القرآن .وإنما يرشدنا هذا إلى طريق بذاك بما أوتينا من العقل . فمن أطاع فهو من الفائزين ، ومن أعرض فأولئك هم الخاسرون .
Arabic Waseet Tafseer
2:164
القول في المعنى الذي من أجله أنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ* * *قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية على نَبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.* * *فقال بعضهم: أنـزلها عليه احتجاجًا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان. وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنـزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ فتلا ذلك عَلى أصحابه, وسمع به المشركون مِنْ عبدة الأوثان، قال المشركون: وما الحجة والبرهان على أنّ ذلك كذلك؟ ونحن نُنكر ذلك, ونحن نـزعم أنّ لنا آلهة كثيرة؟ فأنـزل الله عند ذلك: " إن في خَلق السموات والأرض "، احتجاجًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا مَا ذَكرنَا عَنهم.* ذكر من قال ذلك:2398- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, قال: نـزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، فقال كفار قريش بمكة: كيف يَسعُ الناسَ إله واحد؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: " إنّ في خَلق السموَات والأرض واختلاف الليل والنهار "، إلى قوله: لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، فبهذا تعلمُون أنه إله واحدٌ, وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء.* * *وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، من أجل أنّ أهلَ الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم [آية]، (1) فأنـزل الله هذه الآية، يعلمهم فيها أنّ لهم في خَلق السموات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك، آيةً بينةً على وحدانية الله, وأنه لا شريك له في ملكه، لمن عَقل وتدبَّر ذلك بفهم صحيح.* ذكر من قال ذلك:2399- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبيه, &; 3-269 &; عن أبي الضحى قال: لما نـزلت وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية! فأنـزل الله تعالى ذكره: " إن في خلق السموات والأرض وَاختلاف الليل والنهار "، الآية.2400- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, قال حدثني سعيد بن مسروق, عن أبي الضحى قال: لما نـزلت: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية، فأنـزل الله تعالى ذكره: " إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار "، الآية.2401- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, قال، حدثني سعيد بن مسروق, عن أبي الضحى قال: لما نـزلت هذه الآية، جعل المشركون يعجبون ويقولون: تقول إلهكم إله واحدٌ‍, فلتأتنا بآية إن كنتَ من الصادقين! فأنـزل الله: " إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار "، الآية.2402- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج عن عطاء بن أبى رباح أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أرِنا آية! فنـزلت هذه الآية: " إنّ في خلق السموات والأرض ".2403- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر, عن سعيد قال: سألت قريش اليهودَ فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات! فحدثوهم بالعصَا وبيده البيضاء للناظرين. وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الآيات, فأخبروهم أنه كان يُبرئ الأكمهَ والأبرصَ ويُحيي الموتى بإذن الله. فقالت قريش عند ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ الله أن يجعل لَنا الصفا ذَهبًا، فنـزداد يقينًا, ونتقوَّى به على عدوّنا. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه, فأوحى إليه: &; 3-270 &; إنّي مُعطيهم, فأجعلُ لهم الصفا ذهبًا, ولكن إن كذَّبوا عذّبتهم عذابًا لم أعذبه أحدًا من العالمين.فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذَرني وقَومي فأدعوهم يومًا بيوم. فأنـزل الله عليه: " إنّ في خَلق السموات والأرض "، الآية: إن في ذَلك لآية لهم, إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبًا, فخلق الله السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، أعظمُ من أن أجعل لهم الصفا ذهبًا ليزدادوا يقينًا.2404- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار "، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: (2) غيِّر لنا الصفا ذهبًا إن كنت صادقًا أنه منه! فقال الله: إنّ في هذه الآيات لآياتٍ لقوم يعقلون. وقال: قد سأل الآيات قومٌ قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين.* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك, أنّ الله تعالى ذكره نَبَّه عباده = على الدلالة على وَحدانيته وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء = بهذه الآية. وجائزٌ أن تكون نـزلت فيما قاله عطاء, وجائزٌ أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو الضحى, ولا خبرَ عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذرَ، فيجوز أن يقضيَ أحدٌ لأحد الفريقين بصحة قولٍ على الآخر. وأيُّ القولين كان صحيحًا، فالمراد من الآية ما قلت.* * *&; 3-271 &;القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " إنّ في خَلق السموات والأرض "، إن في إنشاء السموات والأرض وابتداعهما.* * *ومعنى " خلق " الله الأشياء: ابتداعه وإيجاده إياها، بعد أن لم تكن موجودة.وقد دللنا فيما مضى على المعنى الذي من أجله قيل: " الأرض "، ولم تجمع كما جُمعت السموات, فأغنى ذلك عن إعادته (3)* * *فإن قال لنا قائل: وهل للسموات والأرض خلقٌ هو غيرُها فيقال: " إنّ في خلق السموات والأرض "؟قيل: قد اختلف في ذلك. فقال بعض الناس: لها خَلقٌ هو غيرها. واعتلُّوا في ذلك بهذه الآية, وبالتي في سورة: الكهف: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [سورة الكهف: 51] وقالوا: لم يخلق الله شيئًا إلا والله له مريدٌ. قالوا: فالأشياء كانت بإرادة الله, والإرادة خلق لها.* * *&; 3-272 &;وقال آخرون: خلق الشيء صفة له, لا هي هو، ولا غيرُه. قالوا: لو كان غيرُه لوجب أن يكون مثله موصوفًا. قالوا: ولو جاز أن يكون خَلقُه غيرَه، وأن يكون موصوفًا، لوجب أن تكون له صفة هي له خَلق. ولو وجب ذلك كذلك، لم يكن لذلك نهاية. قالوا: فكان معلومًا بذلك أنه صفة للشيء. قالوا: فخلق السموات والأرض صفة لهما، على ما وصفنا. واعتلُّوا أيضًا -بأن للشيء خلقًا ليس هو به- من كتاب الله بنحو الذي اعتلّ به الأولون.* * *وقال آخرون: خَلق السموات والأرض، وخلق كل مخلوق, هو ذلك الشيء بعينه لا غيره.فمعنى قوله: " إن في خلق السموات والأرض ": إنّ في السموات والأرض. (4)* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " واختلاف الليل والنهار "، وتعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس.* * *وإنما " الاختلاف " في هذا الموضع " الافتعال " من " خُلوف " كل واحد منهما الآخر، (5) كما قال تعالى ذكره: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [سورة الفرقان: 62].بمعنى: أن كل واحد منهما يخلف مَكان صاحبه، إذا ذهب الليل جَاء النهارُ بعده, وإذا ذهب النهارُ جاء الليل خلفه. ومن ذلك قيل: " خلف فلانٌ فلانًا في أهله بسوء ", ومنه قول زهير:بِهَــا العِيـنُ وَالآرَامُ يَمْشِـينَ خِلْفَـةًوَأَطْلاؤُهَــا يَنْهَضْــنَ مِــنْ كُــلِّ مَجْـثَم (6)* * *&; 3-273 &;وأما " الليل ". فإنه جَمْع " ليلة ", نظيرُ" التمر " الذي هو جمع " تمرة ". وقد يجمع " ليالٍ"، فيزيدون في جَمعها ما لم يكن في واحدتها. وزيادتهم " الياء " في ذلك نظير زيادتهم إياها في" ربَاعية وثَمانية وكرَاهية ".* * *وأما " النهار "، فإنّ العرب لا تكاد تجمعه، لأنه بمنـزلة الضوء. وقد سمع في جَمعه " النُّهُر "، قال الشاعر:لَــوْلا الــثّرِيدانِ هَلَكْنَـا بِـالضُّمُرْثَرِيــدُ لَيْـــلٍ وثَرِيــدٌ بِـــالنُّهُرْ (7)ولو قيل في جمع قليله " أنهِرَة " كان قياسًا.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: إنّ في الفلك التي تجري في البحر.* * *و " الفلك " هو السُّفن, واحدُه وجمعه بلفظ واحد, ويذكَّر ويؤنث، كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [سورة يس: 41]، فذكَّره.* * *وقد قال في هذه الآية: " والفلك التي تجري في البحر "، وهي مُجْراة، لأنها &; 3-274 &; إذا أجريت فهي" الجارية ", فأضيف إليها من الصفة ما هو لها. (8)* * *وأما قوله: " بما ينفع الناس "، فإن معناه: ينفعُ الناسَ في البحر.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وما أنـزل اللهُ من السماء من مَاء "، وفيما أنـزلهُ الله من السماء من ماء, وهو المطر الذي يُنـزله الله من السماء.وقوله: " فأحيا به الأرضَ بَعدَ موتها "، وإحياؤها: عمارَتُها، وإخراج نباتها. و " الهاء " التي في" به " عائدة على " الماء " و " الهاء والألف " في قوله: " بعد موتها " على الأرض.و " موت الأرض "، خرابها، ودُثور عمارتها, وانقطاعُ نباتها، الذي هو للعباد أقواتٌ، وللأنام أرزاقٌ.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍقال أبو جعفر: بعني تعالى ذكره بقوله: " وبث فيها منْ كلّ دَابة "، وإن فيما بثّ في الأرض من دابة.* * *&; 3-275 &;ومعنى قوله: " وبَث فيها "، وفرَّقَ فيها, من قول القائل: " بث الأميرُ سراياه "، يعنى: فرَّق.و " الهاء والألف " في قوله: " فيها "، عائدتان على الأَرْضَ .* * *" والدابة "" الفاعلة "، من قول القائل: " دبَّت الدابة تدبُّ دبيبًا فهي دابة "." والدابة "، اسم لكل ذي رُوح كان غير طائر بجناحيه، لدبيبه على الأرض.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وتصريف الرياح "، وفي تصريفه الرياح, فأسقط ذكر الفاعل وأضاف الفعل إلى المفعول, كما تقول: (9) " يعجبني إكرام أخيك ", تريد: إكرامُك أخَاك.* * *" وتصريف " الله إياها، أنْ يُرسلها مَرَّة لَواقحَ, ومرة يجعلها عَقيما, ويبعثها عذابًا تُدمِّر كل شيء بأمر ربها، كما:-2405- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " وتصريف الرياح والسحاب المسخر " قال، قادرٌ والله ربُّنا على ذلك, إذا شَاء [جعلها رَحمةً لواقح للسحاب ونشرًا بين يدي رحمته، وإذا شاء] جَعلها عذابًا ريحًا عقيمًا لا تُلقح, إنما هي عَذابٌ على من أرسِلتْ عليه. (10)* * *&; 3-276 &;وزعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله: " وتصريف الرياح "، أنها تأتي مَرّة جنوبًا وشمالا وقبولا ودَبورًا. ثم قال: وذلك تصريفها. (11) وهذه الصفة التي وَصَفَ الرياح بها، صفة تصرُّفها لا صفة تصريفها, لأن " تصريفها " تصريفُ الله لها," وتصرفها " اختلافُ هُبوبها.وقد يجوز أن يكون معنى قوله: " وتصريف الرياح "، تصريفُ الله تعالى ذكره هبوب الريح باختلاف مَهابِّها.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " والسحاب المسخر "، وفي السحاب، جمع " سحابة ". يدل على ذلك قوله تعالى ذكره: وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [سورة الرعد: 12] فوحّد المسخر وذكره, كما قالوا: " هذه تَمرة وهذا تمر كثير ". في جمعه," وهذه نخلة وهذا نخل ". (12)وإنما قيل للسحاب " سحاب " إن شاء الله، لجر بعضه بعضًا وسَحبه إياه, من قول القائل: " مرّ فلان يَجر ذَيله "، يعني: " يسحبه ".* * *فأما معنى قوله: " لآيات "، فإنه عَلامات ودلالاتٌ على أن خالق ذلك كلِّه ومنشئه، إله واحدٌ. (13)* * *&; 3-277 &;" لقوم يعقلون "، لمن عَقل مَوَاضع الحجج، وفهم عن الله أدلته على وحدانيته. فأعلم تعالى ذكره عبادَه، بأنّ الأدلة والحجج إنما وُضعت مُعتبَرًا لذوي العقول والتمييز، دون غيرهم من الخلق, إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي, والمكلفين بالطاعة والعبادة, ولهم الثواب، وعليهم العقاب.* * *فإن قال قائل: وكيف احتج على أهل الكفر بقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الآية، في توحيد الله؟ وقد علمت أنّ أصنافًا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقةً؟قيل: إنّ إنكار من أنكر ذلك غيرُ دافع أن يكون جميعُ ما ذكرَ تعالى ذكره في هذه الآية، دليلا على خالقه وصانعه, وأنّ له مدبرًا لا يشبهه [شيء], وبارئًا لا مِثْل له. (14) وذلك وإن كان كذلك, فإن الله إنما حَاجَّ بذلك قومًا كانوا مُقرِّين بأنّ الله خالقهم, غير أنهم يُشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان. (15) فحاجَّهم تعالى ذكره فقال -إذ أنكروا قوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ، وزعموا أن له شُركاء من الآلهة-: [إن إلهكم الذي خلق السموات وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما. وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر] (16) وذلك هو معنى قوله: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا &; 3-278 &; يَنْفَعُ النَّاسَ - وأنـزل إليكم الغيثَ من السماء, فأخصب به جنابكم بعد جُدوبه, وأمرعه بعد دُثوره, فَنَعَشكم به بعد قُنوطكم (17) -، وذلك هو معنى قوله: وَمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا - وسخَّر لكم الأنعام فيها لكمْ مطاعمُ ومَآكل, ومنها جمالٌ ومراكبُ, ومنها أثاث وملابس - وذلك هو معنى قوله: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ - وأرْسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم، وسيَّر لكم السحاب الذي بَودْقِه حَياتكم وحياة نعمكم ومواشيكم - وذلك هو معنى قوله: " وتصريف الرياح والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض ".فأخبرهم أنّ إلههم هو الله الذي أنعمَ عليهم بهذه النعم, وتفرَّد لهم بها. ثم قال: هل من شُركائكم مَن يفعل مِنْ ذلكم من شيء، فتشركوه في عبادتكم إياي, وتجعلوه لي نِدًّا وعِدلا؟ فإن لم يكن من شُركائكم مَنْ يفعل مِنْ ذلكم مِن شيء, ففي الذي عَددت عليكم من نعمتي، وتفردت لكم بأياديّ، دلالاتٌ لكم إن كنتم تَعقلون مواقعَ الحق والباطل، والجور والإنصاف. وذلك أنّى لكم بالإحسان إليكم متفرِّد دون غيري, وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أندادًا. فهذا هو معنى الآية.* * *والذين ذُكِّروا بهذه الآية واحتج عليهم بها، هم القوم الذين وصفتُ صفتهم، دون المعطِّلة والدُّهْرية، وإن كان في أصغر ما عدَّ الله في هذه الآية، من الحجج البالغة, المَقْنَعُ لجميع الأنام، تركنا البيان عنه، كراهة إطالة الكتاب بذكره.-----------------الهوامش :(1) الزيادة بين القوسين لا يتم الكلام إلا بها ، ويدل عليها ما سيأتي في الآثار بعد .(2) في المطبوعة : "فقال المشركون للنبي . . . " ، والصواب طرح هذه الفاء .(3) انظر ما سلف 1 : 431-437 .(4) لم يتبع أبو جعفر في هذا الموضع ما درج عليه من ترجيح القول الذي يختاره . وهذا مما يدل على ما ذهبنا إليه ، أنه كان يختصر كلامه أحيانًا ، مخافة الإطالة . هذا إذا لم يكن في المخطوطات خرم أو اختصار من ناسخ أو كاتب .(5) "خلوف" مصدر"خلف" ، ولم أجده في كتب اللغة ، ولكنه عربي معرق في قياسه .(6) ديوانه : من معلقته العتيقة . والهاء في"بها" إلى"ديار أم أوفى" صاحبته . والعين جمع عيناء : وهي بقر الوحش ، واسعة العيون جميلتها . والآرام جمع رئم : وهي الظباء الخوالص البياض ، تسكن الرمل . "خلفة" إذا جاء منها فوج ذهب آخر يخلفه مكانه . يصف مجيئها وذهوبها في براح هذه الرملة . والأطلاء جمع طلا : وهو ولد البقرة والظبية الصغير . ويصف الصغار من أولاد البقر والظباء في هذه الرملة ، وقد نهض هذا وذاك منها من موضع جثومه . يصف اختلاف الحركة في هذه الفقرة المهجورة التي فارقتها أم أوفى ، وقد وقف بها من بعد عشرين حجة - ، كما ذكر .(7) تهذيب الألفاظ : 422 ، والمخصص 9 : 51 ، واللسان (نهر) ، والأزمنة والأمكنة 1 : 77 ، 155 وغيرها . ورواية اللسان والمخصص"لمتنا بالضمر" . والضمر (بضم الميم وسكونها) مثل العسر والعسر : الهزال ولحاق البطن من الجوع وغيره . والثريد : خبز يهشم ويبل بماء القدر ويغمس فيه حتى يلين .(8) انظر ما سلف 1 : 196 .(9) في المطبوعة : "كما قال : يعجبني . . يريد" ، والصواب ما أثبت .(10) الزيادة بين القوسين من نص الدر المنثور 1 : 164 ، من نص تفسير قتادة الذي أخرجه الطبري .(11) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 97 .(12) في المطبوعة : "كما قال : هذه ثمرة . . . " ، والصواب ما أثبته .(13) انظر معنى"آية" فيما سلف 1 : 106 ، وفهارس اللغة . وقد ترك الطبري تفسيره"المسخر" ، وكأن في الأصول اختصارًا من ناسخ أو كاتب ، إن لم يكن من الطبري نفسه ، كما أشرت إليه فيما مضى .(14) الزيادة بين القوسين لا بد منها هنا .(15) انظر ما سلف في 1 : 371 ، والرد على من ظن أن العرب كانت غير مقرة بالوحدانية .(16) هذه الجملة قد سقط منها شيء كثير ، فاختلت واضطربت ، وكأن صوابها ما يأتي : [إنّ إلهكم الذي خلق لَكم السَّموَات والأرض ، فخلق الأرض وقَدّر لكم فيها أرزاقكم وأقواتكم ، وخلق السَّمَوات وأجرى فيها الشمس والقمر دائبين في سيرهما - وذلك هو معنى : (واختلاف الليل والنهار) -وخلق الرياح التي تسوق السفن التي تحملكم فتجريها في البحر لتبتغوا من فضله] -(17) أمرع الأرض : صيرها خصبة بعد الجدب . والدثور : الدروس ، يريد خرابها وانمحاء آثار عمارتها من النبات وغيره . وكان في المطبوعة : "فينعثكم" ، والصواب ما أثبت . ونعشه الله ينعشه : رفعه وتداركه برحمته .
الطبري
2:164
قوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون فيه أربع عشرة مسألة :الأولى : قال عطاء : لما نزلت وإلهكم إله واحد قالت كفار قريش : كيف يسع الناس إله واحد ، فنزلت إن في خلق السماوات والأرض . ورواه سفيان عن أبيه عن أبي الضحى قال : لما نزلت وإلهكم إله واحد قالوا هل من دليل على ذلك ؟ فأنزل الله تعالى إن في خلق السماوات والأرض فكأنهم طلبوا آية فبين لهم دليل التوحيد ، وأن هذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع . وجمع السماوات لأنها أجناس مختلفة ، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى . ووحد الأرض لأنها كلها تراب ، والله تعالى أعلم .فآية السماوات : ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها ، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة . ولو جاء نبي فتحدي بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا . ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة آية ثانية .وآية الأرض : بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها .[ ص: 181 ] الثانية : قوله تعالى : واختلاف الليل والنهار قيل : اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر من حيث لا يعلم . وقيل : اختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر . والليل جمع ليلة ، مثل تمرة وتمر ونخلة ونخل . ويجمع أيضا ليالي وليال بمعنى ، وهو مما شذ عن قياس الجموع ، كشبه ومشابه وحاجة وحوائج وذكر ومذاكر ، وكأن ليالي في القياس جمع ليلاة . وقد استعملوا ذلك في الشعر قال :في كل يوم [ وما ] وكل ليلاةوقال آخر :في كل يوم ما وكل ليلاه حتى يقول كل راء إذ رآهيا ويحه من جمل ما أشقاهقال ابن فارس في المجمل : ويقال إن بعض الطير يسمى ليلا ، ولا أعرفه والنهار يجمع نهر وأنهرة . قال أحمد بن يحيى ثعلب : نهر جمع نهر وهو جمع الجمع للنهار ، وقيل النهار اسم مفرد لم يجمع لأنه بمعنى المصدر ، كقولك الضياء ، يقع على القليل والكثير . والأول أكثر ، قال الشاعر :لولا الثريدان هلكنا بالضمر ثريد ليل وثريد بالنهرقال ابن فارس : النهار معروف ، والجمع نهر وأنهار . ويقال : إن النهار يجمع على النهر . والنهار : ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس . ورجل نهر : صاحب نهار . ويقال إن النهار فرخ الحبارى . قال النضر بن شميل : أول النهار طلوع الشمس ، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار . وقال ثعلب : أوله عند العرب طلوع الشمس ، واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت .والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتوردوأنشد قول عدي بن زيد :وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلاوأنشد الكسائي :إذا طلعت شمس النهار فإنها أمارة تسليمي عليك فسلميقال الزجاج في كتاب الأنواء : أول النهار ذرور الشمس . وقسم ابن الأنباري الزمن ثلاثة [ ص: 182 ] أقسام : قسما جعله ليلا محضا ، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر . وقسما جعله نهارا محضا ، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها . وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار .قلت : والصحيح أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، كما رواه ابن فارس في المجمل ، يدل عليه ما ثبت في صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال له عدي : يا رسول الله ، إني أجعل تحت وسادتي عقالين : عقالا أبيض وعقالا أسود ، أعرف بهما الليل من النهار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار . فهذا الحديث يقضي أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وهو مقتضى الفقه في الأيمان ، وبه ترتبط الأحكام . فمن حلف ألا يكلم فلانا نهارا فكلمه قبل طلوع الشمس حنث ، وعلى الأول لا يحنث . وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الفيصل في ذلك والحكم . وأما على ظاهر اللغة وأخذه من السنة فهو من وقت الإسفار إذا اتسع وقت النهار ، كما قال [ هو قيس بن الخطيم ] :ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءهاوقد جاء عن حذيفة ما يدل على هذا القول ، خرجه النسائي . وسيأتي في آي الصيام إن شاء الله تعالى .الثالثة : قوله تعالى : والفلك التي تجري في البحر الفلك : السفن ، وإفراده وجمعه بلفظ واحد ، ويذكر ويؤنث . وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع ، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر ، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم : فلكان . والفلك المفرد مذكر ، قال تعالى : في الفلك المشحون فجاء به مذكرا ، وقال : والفلك التي تجري في البحر فأنث . ويحتمل واحدا وجمعا ، وقال : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة فجمع ، فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر ، وإلى السفينة فيؤنث .[ ص: 183 ] وقيل : واحده فلك ، مثل أسد وأسد ، وخشب وخشب ، وأصله من الدوران ، ومنه : فلك السماء التي تدور عليه النجوم . وفلكت الجارية استدار ثديها ، ومنه فلكة المغزل . وسميت السفينة فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دور .ووجه الآية في الفلك : تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها . وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى ، وقال له جبريل : اصنعها على جؤجؤ الطائر ، فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين بما أراه جبريل . فالسفينة طائر مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها ، قاله ابن العربي .الرابعة : هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا لتجارة كان أو عبادة ، كالحج والجهاد . ومن السنة حديث أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء . الحديث . وحديث أنس بن مالك في قصة أم حرام ، أخرجهما الأئمة : مالك وغيره . روى حديث أنس عنه جماعة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس ، ورواه بشر بن عمر عن مالك عن إسحاق عن أنس عن أم حرام جعله من مسند أم حرام لا من مسند أنس . هكذا حدث عنه به بندار محمد بن بشار ، ففيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء ، وإذا جاز ركوبه للجهاد فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب . وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما المنع من ركوبه . والقرآن والسنة يرد هذا القول ، ولو كان ركوبه يكره أو لا يجوز لنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا له : إنا نركب البحر . وهذه الآية وما كان مثلها نص في الغرض وإليها المفزع . وقد تؤول ما روي عن العمرين في ذلك بأن ذلك محمول على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار منها ، وأما في أداء الفرائض فلا . ومما يدل على جواز ركوبه من جهة المعنى أن الله تعالى ضرب البحر وسط الأرض وجعل الخلق في العدوتين ، وقسم المنافع بين الجهتين فلا يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر لها ، فسهل الله سبيله بالفلك ، قاله ابن العربي . قال أبو عمر : وقد كان مالك يكره للمرأة الركوب [ ص: 184 ] للحج في البحر ، وهو للجهاد لذلك أكره . والقرآن والسنة يرد قوله ، إلا أن بعض أصحابنا من أهل البصرة قال : إنما كره ذلك مالك لأن السفن بالحجاز صغار ، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها لضيقها وتزاحم الناس فيها ، وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكنا ، فلذلك كره مالك ذلك . وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس . قال : والأصل أن الحج على كل من استطاع إليه سبيلا من الأحرار البالغين ، نساء كانوا أو رجالا ، إذا كان الأغلب من الطريق الأمن ، ولم يخص بحرا من بر .قلت : فدل الكتاب والسنة والمعنى على إباحة ركوبه للمعنيين جميعا : العبادة والتجارة ، فهي الحجة وفيها الأسوة . إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم ، فرب راكب يسهل عليه ذلك ولا يشق ، وآخر يشق عليه ويضعف به ، كالمائد المفرط الميد ، ومن لم يقدر معه على أداء فرض الصلاة ونحوها من الفرائض ، فالأول ذلك له جائز ، والثاني يحرم عليه ويمنع منه . ولا خلاف بين أهل العلم وهي :الخامسة : إن البحر إذا ارتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة ، وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن تكون السلامة فيه الأغلب ، فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم ، والذين يهلكون فيه محصورون .السادسة : قوله تعالى : بما ينفع الناس أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب التي تصلح بها أحوالهم . وبركوب البحر تكتسب الأرباح ، وينتفع من يحمل إليه المتاع أيضا . وقد قال بعض من طعن في الدين : إن الله تعالى يقول في كتابكم : ما فرطنا في الكتاب من شيء فأين ذكر التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك ؟ فقيل له في قوله : بما ينفع الناس .السابعة : قوله تعالى : وما أنزل الله من السماء من ماء يعني بها الأمطار التي بها [ ص: 185 ] إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق ، وجعل منه المخزون عدة للانتفاع في غير وقت نزوله ، كما قال تعالى : فأسكناه في الأرض .الثامنة : قوله تعالى : وبث فيها من كل دابة أي فرق ونشر ، ومنه كالفراش المبثوث ودابة تجمع الحيوان كله ، وقد أخرج بعض الناس الطير ، وهو مردود ، قال الله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فإن الطير يدب على رجليه في بعض حالاته ، قال الأعشى :دبيب قطا البطحاء في كل منهلوقال علقمة بن عبدة :صواعقها لطيرهن دبيبالتاسعة : قوله تعالى : وتصريف الرياح تصريفها : إرسالها عقيما وملقحة ، وصرا ونصرا وهلاكا ، وحارة وباردة ، ولينة وعاصفة . وقيل : تصريفها إرسالها جنوبا وشمالا ، ودبورا وصبا ، ونكباء ، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين . وقيل : تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها ، والصغار كذلك ، ويصرف عنهما ما يضر بهما ، ولا اعتبار بكبر القلاع ولا صغرها ، فإن الريح لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلاع وأغرقت . والرياح جمع ريح سميت به لأنها تأتي بالروح غالبا . روى أبو داود عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها . وأخرجه أيضا ابن ماجه في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن سعيد عن الأوزاعي عن الزهري حدثنا ثابت الزرقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا الريح فإنها من روح الله تأتي بالرحمة والعذاب ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن . المعنى : أن الله تعالى جعل فيها التفريج والتنفيس والترويح ، والإضافة من [ ص: 186 ] طريق الفعل . والمعنى : أن الله تعالى جعلها كذلك . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور . وهذا معنى ما جاء في الخبر أن الله سبحانه وتعالى فرج عن نبيه صلى الله عليه وسلم بالريح يوم الأحزاب ، فقال تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها . ويقال : نفس الله عن فلان كربة من كرب الدنيا ، أي فرج عنه . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة . أي فرج عنه . وقال الشاعر :كأن الصبا ريح إذا ما تنسمت على كبد مهموم تجلت همومهاقال ابن الأعرابي : النسيم أول هبوب الريح . وأصل الريح روح ، ولهذا قيل في جمع القلة أرواح ، ولا يقال : أرياح ; لأنها من ذوات الواو ، وإنما قيل : رياح من جهة الكثرة وطلب تناسب الياء معها . وفي مصحف حفصة " وتصريف الأرواح " .العاشرة : وتصريف الرياح قرأ حمزة والكسائي " الريح " على الإفراد ، وكذا في الأعراف والكهف وإبراهيم والنمل والروم وفاطر والشورى والجاثية ، لا خلاف بينهما في ذلك . ووافقهما ابن كثير في الأعراف والنمل والروم وفاطر والشورى . وأفرد حمزة " الريح لواقح " . وأفرد ابن كثير " وهو الذي أرسل الريح " في الفرقان وقرأ الباقون بالجمع في جميعها سوى الذي في إبراهيم والشورى فلم يقرأهما بالجمع سوى نافع ولم يختلف السبعة فيما سوى هذه المواضع . والذي ذكرناه في الروم هو الثاني الله الذي يرسل الرياح . ولا خلاف بينهم في الرياح مبشرات . وكان أبو جعفر يزيد بن القعقاع يجمع الرياح إذا [ ص: 187 ] كان فيها ألف ولام في جميع القرآن ، سوى تهوي به الريح والريح العقيم فإن لم يكن فيه ألف ولام أفرد . فمن وحد الريح فلأنه اسم للجنس يدل على القليل والكثير . ومن جمع فلاختلاف الجهات التي تهب منها الرياح . ومن جمع مع الرحمة ووحد مع العذاب فإنه فعل ذلك اعتبارا بالأغلب في القرآن ، نحو : الرياح مبشرات والريح العقيم فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله : وجرين بهم بريح طيبة . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا هبت الريح : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا . وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح . فأفردت مع الفلك في " يونس " ; لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب .الحادية عشرة : قال العلماء : الريح تحرك الهواء ، وقد يشتد ويضعف . فإذا بدت حركة الهواء من تجاه القبلة ذاهبة إلى سمت القبلة قيل لتلك الريح : " الصبا " . وإذا بدت حركة الهواء من وراء القبلة وكانت ذاهبة إلى تجاه القبلة قيل لتلك الريح : " الدبور " . وإذا بدت حركة الهواء عن يمين القبلة ذاهبة إلى يسارها قيل لها : " ريح الجنوب " . وإذا بدت حركة الهواء عن يسار القبلة ذاهبة إلى يمينها قيل لها : " ريح الشمال " . ولكل واحدة من هذه الرياح طبع ، فتكون منفعتها بحسب طبعها ، فالصبا حارة يابسة ، والدبور باردة رطبة ، والجنوب حارة رطبة ، والشمال باردة يابسة . واختلاف طباعها كاختلاف طبائع فصول السنة . وذلك أن الله تعالى وضع للزمان أربعة فصول مرجعها إلى تغيير أحوال الهواء ، فجعل الربيع الذي هو أول الفصول حارا رطبا ، ورتب فيه النشء والنمو فتنزل فيه المياه ، وتخرج الأرض زهرتها وتظهر نباتها ، ويأخذ الناس في غرس الأشجار وكثير من الزرع ، وتتوالد فيه الحيوانات وتكثر الألبان . فإذا انقضى الربيع تلاه الصيف الذي هو مشاكل للربيع في إحدى طبيعتيه وهي الحرارة ، ومباين له في الأخرى وهي الرطوبة ; لأن الهواء في الصيف حار يابس ، فتنضج فيه الثمار وتيبس فيه الحبوب المزروعة في الربيع . فإذا انقضى الصيف تبعه الخريف الذي هو مشاكل للصيف في إحدى طبيعتيه وهي اليبس ، ومباين له في الأخرى وهي الحرارة ; لأن الهواء في الخريف بارد يابس ، فيتناهى فيه صلاح الثمار وتيبس وتجف فتصير إلى حال الادخار ، فتقطف الثمار [ ص: 188 ] وتحصد الأعناب وتفرغ من جمعها الأشجار . فإذا انقضى الخريف تلاه الشتاء وهو ملائم للخريف في إحدى طبيعتيه وهي البرودة ، ومباين له في الأخرى وهو اليبس ; لأن الهواء في الشتاء بارد رطب ، فتكثر الأمطار والثلوج وتهمد الأرض كالجسد المستريح ، فلا تتحرك إلا أن يعيد الله تبارك وتعالى إليها حرارة الربيع ، فإذا اجتمعت مع الرطوبة كان عند ذلك النشء والنمو بإذن الله سبحانه وتعالى . وقد تهب رياح كثيرة سوى ما ذكرناه ، إلا أن الأصول هذه الأربع . فكل ريح تهب بين ريحين فحكمها حكم الريح التي تكون في هبوبها أقرب إلى مكانها وتسمى " النكباء " .الثانية عشرة : قوله تعالى : والسحاب المسخر بين السماء والأرض سمي السحاب سحابا لانسحابه في الهواء . وسحبت ذيلي سحبا . وتسحب فلان على فلان : اجترأ . والسحب : شدة الأكل والشرب . والمسخر : المذلل ، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر . وقيل : تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق ، والأول أظهر . وقد يكون بماء وبعذاب ، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له يا عبد الله ما اسمك قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال له يا عبد الله لم تسألني عن اسمي فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها ؟ قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه . وفي رواية وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل . وفي التنزيل : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت ، وقال : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت وهو في التنزيل كثير . وخرج ابن ماجه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق ترك ما هو فيه وإن كان في صلاة حتى يستقبله فيقول : اللهم إنا نعوذ بك من شر ما أرسل به فإن أمطر قال : اللهم سيبا نافعا مرتين أو ثلاثا ، وإن كشفه الله ولم يمطر حمد الله [ ص: 189 ] على ذلك . أخرجه مسلم بمعناه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك . قالت عائشة : فسألته فقال : إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي . ويقول إذا رأى المطر : ( رحمة ) . في رواية فقال : لعله يا عائشة كما قال قوم عاد : فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا . فهذه الأحاديث والآي تدل على صحة القول الأول وأن تسخيرها ليس ثبوتها ، والله تعالى أعلم . فإن الثبوت يدل على عدم الانتقال ، فإن أريد بالثبوت كونها في الهواء ليست في السماء ولا في الأرض فصحيح ، لقوله بين وهي مع ذلك مسخرة محمولة ، وذلك أعظم في القدرة ، كالطير في الهواء ، قال الله تعالى : ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله وقال : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن .الثالثة عشرة : قال كعب الأحبار : السحاب غربال المطر ، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض ، رواه عنه ابن عباس . ذكره الخطيب أبو بكر أحمد بن علي عن معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني قال : رأيت ابن عباس مر على بغلة وأنا في بني سلمة فمر به تبيع ابن امرأة كعب فسلم على ابن عباس فسأله ابن عباس : هل سمعت كعب الأحبار يقول في السحاب شيئا ؟ قال : نعم ، قال : السحاب غربال المطر ، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض . قال : سمعت كعبا يقول في الأرض تنبت العام نباتا ، وتنبت عاما قابلا غيره ؟ قال نعم ، سمعته يقول : إن البذر ينزل من السماء . قال ابن عباس : وقد سمعت ذلك من كعب .الرابعة عشرة : لآيات أي دلالات تدل على وحدانيته وقدرته ، ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله : وإلهكم إله واحد ليدل على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه ، وذكر رحمته ورأفته بخلقه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها أي لم يتفكر فيها ولم يعتبرها .[ ص: 190 ] فإن قيل : فما أنكرت أنها أحدثت أنفسها . قيل له : هذا محال ; لأنها لو أحدثت أنفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو هي معدومة ، فإن أحدثتها وهي معدومة كان محالا ، لأن الإحداث لا يتأتى إلا من حي عالم قادر مريد ، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك ، وإن كانت موجودة فوجودها يغني عن إحداث أنفسها . وأيضا فلو جاز ما قالوه لجاز أن يحدث البناء نفسه وكذلك النجارة والنسج ، وذلك محال ، وما أدى إلى المحال محال . ثم إن الله تعالى لم يقتصر بها في وحدانيته على مجرد الأخبار حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي من القرآن ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض والخطاب للكفار ، لقوله تعالى : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ، وقال : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض يعني بالملكوت الآيات . وقال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون . يقول : أولم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات ، وأن المحدث لا يستغني عن صانع يصنعه ، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم ، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات لكان الإنسان أكمل منه وذلك محال . وقال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين المؤمنون : 12 ] يعني آدم عليه السلام ، ثم جعلناه أي جعلنا نسله وذريته نطفة في قرار مكين إلى قوله تبعثون . فالإنسان إذا تفكر بهذا التنبيه بما جعل له من العقل في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة . كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما ، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال ; لأنه لا يقدر على أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل التي هي كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من الأعضاء ، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة ، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز . وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم ، ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب ، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل تلك الأفعال بنفسه ، وأن له صانعا صنعه وناقلا نقله من حال إلى حال ، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله [ ص: 191 ] بلا ناقل ولا مدبر . وقال بعض الحكماء : إن كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير ، الذي هو بدن الإنسان ، ولذلك قال تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وقال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون . فحواس الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة ، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها ، وأعضاؤه تصير عند البلى ترابا من جنس الأرض ، وفيه من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن ، ومن جنس الهواء فيه الروح والنفس ، ومن جنس النار فيه المرة الصفراء . وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض ، وكبده بمنزلة العيون التي تستمد منها الأنهار ; لأن العروق تستمد من الكبد . ومثانته بمنزلة البحر ، لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر . وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض . وأعضاؤه كالأشجار ، فكما أن لكل شجر ورقا وثمرا فكذلك لكل عضو فعل أو أثر . والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض ثم إن الإنسان يحكي بلسانه كل صوت حيوان ، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان ، فهو العالم الصغير مع العالم الكبير مخلوق محدث لصانع واحد ، لا إله إلا هو .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:164
أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة, آيات أي: أدلة على وحدانية الباري وإلهيته، وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته، ولكنها { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي: لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له، فعلى حسب ما منّ الله على عبده من العقل, ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبُّره، ففي { خَلْقِ السَّمَاوَاتِ } في ارتفاعها واتساعها, وإحكامها, وإتقانها, وما جعل الله فيها من الشمس والقمر, والنجوم, وتنظيمها لمصالح العباد. وفي خلق { الْأَرْضِ } مهادا للخلق, يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها, والاعتبار. ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير, وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها, وحكمته التي بها أتقنها, وأحسنها ونظمها, وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع, من منافع الخلق ومصالحهم, وضروراتهم وحاجاتهم. وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله, واستحقاقه أن يفرد بالعبادة, لانفراده بالخلق والتدبير, والقيام بشئون عباده { و } في { اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } وهو تعاقبهما على الدوام, إذا ذهب أحدهما, خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر, والبرد, والتوسط, وفي الطول, والقصر, والتوسط, وما ينشأ عن ذلك من الفصول, التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم, وجميع ما على وجه الأرض, من أشجار ونوابت، كل ذلك بانتظام وتدبير, وتسخير, تنبهر له العقول, وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول, ما يدل ذلك على قدرة مصرفها, وعلمه وحكمته, ورحمته الواسعة, ولطفه الشامل, وتصريفه وتدبيره, الذي تفرد به, وعظمته, وعظمة ملكه وسلطانه, مما يوجب أن يؤله ويعبد, ويفرد بالمحبة والتعظيم, والخوف والرجاء, وبذل الجهد في محابه ومراضيه. { و } في { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } وهي السفن والمراكب ونحوها, مما ألهم الله عباده صنعتها, وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها. ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح, التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال, والبضائع التي هي من منافع الناس, وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم. فمن الذي ألهمهم صنعتها, وأقدرهم عليها, وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها؟ أم من الذي سخر لها البحر, تجري فيه بإذنه وتسخيره, والرياح؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية, النار والمعادن المعينة على حملها, وحمل ما فيها من الأموال؟ فهل هذه الأمور, حصلت اتفاقا, أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز, الذي خرج من بطن أمه, لا علم له ولا قدرة، ثم خلق له ربه القدرة, وعلمه ما يشاء تعليمه، أم المسخر لذلك رب واحد, حكيم عليم, لا يعجزه شيء, ولا يمتنع عليه شيء؟ بل الأشياء قد دانت لربوبيته, واستكانت لعظمته, وخضعت لجبروته. وغاية العبد الضعيف, أن جعله الله جزءا من أجزاء الأسباب, التي بها وجدت هذه الأمور العظام, فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه, وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له, والخوف والرجاء, وجميع الطاعة, والذل والتعظيم. { وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ } وهو المطر النازل من السحاب. { فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فأظهرت من أنواع الأقوات, وأصناف النبات, ما هو من ضرورات الخلائق, التي لا يعيشون بدونها. أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله, وأخرج به ما أخرج ورحمته, ولطفه بعباده, وقيامه بمصالحهم, وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟ { وَبَثَّ فِيهَا } أي: في الأرض { مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ } أي: نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة, ما هو دليل على قدرته وعظمته, ووحدانيته وسلطانه العظيم، وسخرها للناس, ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع. فمنها: ما يأكلون من لحمه, ويشربون من دره، ومنها: ما يركبون، ومنها: ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم, ومنها: ما يعتبر به، ومع أنه بث فيها من كل دابة، فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم, المتكفل بأقواتهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها, ويعلم مستقرها ومستودعها. وفي { تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } باردة وحارة, وجنوبا وشمالا, وشرقا ودبورا وبين ذلك، وتارة تثير السحاب, وتارة تؤلف بينه, وتارة تلقحه, وتارة تدره, وتارة تمزقه وتزيل ضرره, وتارة تكون رحمة, وتارة ترسل بالعذاب. فمن الذي صرفها هذا التصريف, وأودع فيها من منافع العباد, ما لا يستغنون عنه؟ وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات, وتصلح الأبدان والأشجار, والحبوب والنوابت, إلا العزيز الحكيم الرحيم, اللطيف بعباده المستحق لكل ذل وخضوع, ومحبة وإنابة وعبادة؟. وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير, فيسوقه الله إلى حيث شاء، فيحيي به البلاد والعباد, ويروي التلول والوهاد, وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه، فإذا كان يضرهم كثرته, أمسكه عنهم, فينزله رحمة ولطفا, ويصرفه عناية وعطفا، فما أعظم سلطانه, وأغزر إحسانه, وألطف امتنانه\" أليس من القبيح بالعباد, أن يتمتعوا برزقه, ويعيشوا ببره وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه؟ أليس ذلك دليلا على حلمه وصبره, وعفوه وصفحه, وعميم لطفه؟ فله الحمد أولا وآخرا, وباطنا وظاهرا. والحاصل, أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات, وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات, وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة, علم بذلك, أنها خلقت للحق وبالحق, وأنها صحائف آيات, وكتب دلالات, على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته, وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر, وأنها مسخرات, ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها. فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون, وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا الله, ولا رب سواه.
Arabic Saddi Tafseer
2:164
فأنزل الله عز وجل {إن في خلق السموات والأرض} ذكر السماوات بلفظ الجمع والأرض بلفظ الواحد لأن كل سماء ليست من جنس واحد بل من جنس آخر، والأرضون كلها من جنس واحد وهو التراب، فالآية في السماوات سمكها وارتفاعها من غير عمد ولا علاقة وما ترى فيها من الشمس والقمر والنجوم، والآية في الأرض مدها وبسطها وسعتها وماترى فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر والنبات.قوله تعالى: {واختلاف الليل والنهار} أي تعاقبهما في الذهاب والمجيء يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلفه أي بعده نظيره قوله تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} [62-الفرقان].قال عطاء: "أراد اختلافهما في النور والظلمة والزيادة والنقصان".والليل جمع ليلة، والليالي جمع الجمع، والنهار جمعه نهر وقدم الليل على النهار في الذكر لأنه أقدم منه قال الله تعالى {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} [37-يس].{والفلك التي تجري في البحر} يعني السفن واحده وجمعه سواء فإذا أريد به الجمع يؤنث وفي الواحد يذكر قال الله تعالى: في الواحد والتذكير {إذ أبق إلى الفلك المشحون} [140-الصافات] وقال في الجمع والتأنيث {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة} [22-يونس].{والفلك التي تجري في البحر} الآية في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقرة لا ترسب تحت الماء.{بما ينفع الناس} يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وأنواع المطالب.{وما أنزل الله من السماء من ماء} يعني المطر قيل: أراد بالسماء السحاب، يخلق الله في السحاب ثم من السحاب ينزل وقيل أراد به السماء المعروفة يخلق الله تعالى الماء في السماء ثم ينزل من السماء إلى السحاب ثم من السحاب ينزل إلى الأرض.{فأحيا به} أي الماء.{الأرض بعد موتها} أي بعد يبوستها وجدوبتها.{وبث فيها} أي فرق فيها{من كل دابة وتصريف الرياح} قرأ حمزة والكسائي (الريح) بغير ألف وقرأ الباقون بالألف وكل (ريح) في القرآن ليس فيها ألف ولا لام اختلفوا في جمعها وتوحيدها إلا في الذاريات {الريح العقيم} [41-الذاريات] اتفقوا على توحيدها وفي الحرف الأول من سورة الروم {الرياح مبشرات} [456-الروم] اتفقوا على جمعها، وقرأ أبو جعفر سائرها على الجمع، والقراء مختلفون فيها، والريح يذكر ويؤنث.وتصريفها أنها تتصرف إلى الجنوب والشمال والقبول والدبور والنكباء، وقيل: تصريفها أنها تارة تكون ليناً وتارة تكون عاصفاً وتارة تكون حارة وتارة تكون باردة.قال ابن عباس: "أعظم جنود الله الريح والماء وسميت الريح ريحاً لأنها تريح النفوس"، قال شريح القاضي: "ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم صحيح والبشارة في ثلاث من الرياح في الصبا والشمال والجنوب أما الدبور فهي الريح العقيم لا بشارة فيها".وقيل الرياح ثمانية: أربعة للرحمة وأربعة للعذاب، فأما التي للرحمة المبشرات والناشرات والذاريات والمرسلات وأما التي للعذاب فالعقيم والصرصر في البر والعاصف والقاصف في البحر.{والسحاب المسخر} أي الغيم المذلل سمي سحاباً لأنه ينسحب أي يسير في سرعة كأنه يسحب أي يجر.{بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقاً وصانعاً.قال وهب بن منبه: "ثلاثة لا يدرى من أين تجيء الرعد والبرق والسحاب".
Arabic Baghawy Tafseer
2:164
يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة حيث جعلوا له أندادا أي أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه هو الله لا إله إلا هو ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه. وفي الصحيحين عن عبدالله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" وقوله "والذين آمنوا أشد حبا لله" ولحبهم لله وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم له لا يشركون به شيئا بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ويلجئون في جميع أمورهم إليه. ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك فقال "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا" قال بعضهم تقدير الكلام لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا أي أن الحكم له وحده لا شريك له وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه "وأن الله شديد العذاب" كما قال "فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد" يقول لو يعلمون ما يعاينونه هنالك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وترى المتبوعين من التابعين فقال "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا فتقول الملائكة "تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون" ويقولون "سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون" والجن أيضا تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم كما قال تعالى "ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين" وقال تعالى "واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا" وقال الخليل لقومه "إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين" وقال تعالى "ولو نرى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون" وقال تعالى "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلومونى ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم" وقوله "ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب" أي عاينوا عذاب الله وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلا ولا مصرفا. قال عطاء عن ابن عباس "وتقطعت بهم الأسباب" قال المودة: وكذا قال مجاهد فى رواية ابن أبي نجيح.
ابن كثير
2:165
ومع هذه البراهين القاطعة يتخذ فريق من الناس من دون الله أصنامًا وأوثانًا وأولياء يجعلونهم نظراء لله تعالى، ويعطونهم من المحبة والتعظيم والطاعة، ما لا يليق إلا بالله وحده. والمؤمنون أعظم حبا لله من حب هؤلاء الكفار لله ولآلهتهم؛ لأن المؤمنين أخلصوا المحبة كلها لله، وأولئك أشركوا في المحبة. ولو يعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك في الحياة الدنيا، حين يشاهدون عذاب الآخرة، أن الله هو المتفرد بالقوة جميعًا، وأن الله شديد العذاب، لما اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونهم من دونه، ويتقربون بهم إليه.
المیسر
2:165
عطف على إن في خلق السموات والأرض { وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله والذين ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 164 ] الخ لأن تلك الجملة تضمنت أن قوماً يعقلون استدلوا بخلق السموات والأرض وما عطف عليه على أن الله واحد فوحدوه ، فناسب أن يعطف عليه شأن الذين لم يهتدوا لذلك فاتخذوا لأنفسهم شركاء مع قيام تلك الدلائل الواضحة ، فهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله هم المتحدث عنهم آنفاً بقوله تعالى : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار } [ البقرة : 161 ] الآيات .وقوله : { ومن الناس } خبر مقدم وقد ذكرنا وجه الإخبار به وفائدة تقديمه عند قوله تعالى : { ومن الناس من يقول أمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } [ البقرة : 8 ] وعطفُه على ذكر دلائل الوحدانية وتقديمُ الخبر وكونُ الخبر { من الناس } مؤذن بأنه تعجبٌ من شأنهم .و { مَنْ } في قوله : { من يتخذ } ما صدْقُها فريق لا فرد بدليل عود الضمير في قوله : { يحبونهم كحب الله } .والمراد بالأنداد الأمثال في الألوهية والعبادة ، وقد مضى الكلام على النِّد بكسر النون عند قوله تعالى : { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } [ البقرة : 22 ] .وقوله : { من دون الله } معناه مع الله لأن كلمة دون تؤذن بالحيلولة لأنها بمعنى وراء فإذا قالوا اتخذه دون الله فالمعنى أنه أفرده وأعرض عن الله وإذا قالوا اتخذه من دون الله فالمعنى أنه جعله بعض حائل عن الله أي أشركه مع الله لأن الإشراك يستلزم الإعراض عن الله في أوقات الشغل بعبادة ذلك الشريك .وقوله : { من دون الله } خال من ضمير { يتخذ } ، وقوله : { يحبونهم } بدل من { يتخذ } بدل اشتمال ، لأن الاتخاذ يشتمل على المحبة والعبادة ، ويجوز كونه صفة لمَن ، وجوِّز أن يكون صفة لأنداداً لكنه ضعيف لأن فيه إيهام الضمائر لاحتمال أن يفهم أن المحب هم الأنداد يحبون الذين اتخذوهم ، والأظهر أن يكون حالاً من ( مَن ) تفظيعاً لحالهم في هذا الاتخاذ وهو اتخاذ أنداد سووها بالله تعالى في محبتها والاعتقاد فيها .والمراد بالأنداد هنا وفي مواقعه من القرآن ، الأصنام لا الرؤساء كما قيل ، وعاد عليهم ضمير جماعة العقلاء المنصوب في قوله : { يحبونهم } لأن الأصنام لما اعتقدوا ألوهيتها فقد صارت جديرة بضمير العقلاء على أن ذلك مستعمل في العربية ولو بدون هذا التأويل ، والمحبة هنا مستعملة في معناها الحقيقي وهو مَيل النفس إلى الحَسن عندها بمعاينة أو سماع أو حصول نفع محقق أو موهوم لعدم انحصار المحبة في ميل النفس إلى المرئيات خلافاً لبعض أهل اللغة فإن الميل إلى الخُلُق ( بضم الخاء ) الحسن وإلى الفعل الحسن والكمال ، محبة أشد من محبة محاسن الذات فتشترك هذه المعاني في إطلاق اسم المحبة عليها باعتبار الحاصل في النفس وقطع النظر عن سبب حصوله .فالتحقيق أن الحب يتعلق بذِكر المرء وحصول النفععِ منه وحُسْن السمعة وإن لم يره فنحن نحب الله لما نعلمه من صفات كماله ولما يصلنا من نعمته وفضله ورحمته ، ونحب رسوله لما نعلم من كماله ولِما وصل إلينا على يديه ولما نعلم من حرصه على هدينا ونجاتنا ، ونحب أجدادنا ، ونحب أسلافنا من علماء الإسلام ، ونحب الحكماء والمصلحين من الأولين والآخرين ، ولله در أبي مدين في هذا المعنى :وكم من محب قد أحب وما رأى ... وعشق الفتى بالسمع مرتبة أخرىوبضد ذلك كله تكون الكراهية .ومن الناس من زعم أن تعلق المحبة بالله مجاز مرسل في الطاعة والتعظيم بعلاقة اللزوم لأن طاعة المحب للمحبوب لازم عرفي لها قال الجَعْدي :لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيعأو مجاز بالحذف ، والتقدير : يحبون ثواب الله أو نعمته لأن المحبة لا تتعلق بذات الله ، إما لأنها من أنواع الإرادة ، والإرادة لا تتعلق إلا بالجائزات وهو رأى بعض المتكلمين ، وإما لأنها طلب الملائم . واللذة لا تحصل بغير المحسوسات وكلا الدليلين ظاهر الوهن كما بينه الفخر ، وعلى هذا التفصيل بين إطلاقي المحبة هنا يكون التشبيه راجعاً إلى التسوية في القوةومنهم من جعل محبة الله تعالى مجازاً وجعلها في قوله : { يحبونهم } أيضاً مجازاً وعلى ذلك درج في «الكشاف» وكان وجهه أن الأصل في تشبيه اسم بمثله أن يكون تشبيه فرد من الحقيقة بآخر منها . وقد علمت أنه غير متعين . وقوله : { كحب الله } مفيد لمساواة الحبين؛ لأن أصل التشبيه المساواة وإضافة حب إلى اسم الجلالة من الإضافة إلى المفعول فهو بمنزلة الفعل المبني إلى المجهول . فالفاعل المحذوف حذف هنا لقصد التعميم أي كيفما قدرت حب محب لله فحب هؤلاء أندادهم مساو لذلك الحب ، ووجه هذا التعميم أن أحوال المشركين مختلفة ، فمنهم من يعبد الأنداد من الأصنام أو الجن أو الكواكب ويعترف بوجود الله ويسوي بين الأنداد وبينه ، ويسميهم شركاء أو أبناء لله تعالى ، ومنهم من يجعل لله تعالى الإلهية الكبرى ويجعل الأنداد شفعاء إليه ، ومنهم من يقتصر على عبادة الأنداد وينسى الله تعالى قال تعالى : { نسوا فأنساهم أنفسهم } [ الحشر : 19 ] ، ومن هؤلاء صابئة العرب الذين عبدوا الكواكب ، ولله تعالى محبون من غير هؤلاء ومن بعض هؤلاء ، فمحبة هؤلاء أندادهم مساوية لمحبة محبي الله إياه أي مساوية في التفكير في نفوس المحبين من الفريقين فيصح أن تقدر يحبونهم كما يحب أن يحب الله أو يحبونهم كحب الموحدين لله إياه أو يحبونهم كحبهم الله ، وقد سلك كل صورة من هذه التقادير طائفة من المفسرين ، والتحقيق أن المقدر هو القدر المشترك وهو ما قدرناه في أول الكلام .واعلم أن المراد إنكار محبتهم الأنداد من أصلها لا إنكار تسويتها بحب الله تعالى وإنما قيدت بمماثلة محبة الله لتشويهها وللنداء على انحطاط عقول أصحابها وفيه إيقاظ لعيون معظم المشركين وهم الذين زعموا أن الأصنام شفعاء لهم كما كثرت حكاية ذلك عنهم في القرآن فنبهوا إلى أنهم سووا بين محبة التابع ومحبة المتبوع ومحبة المخلوق ومحبة الخالق لعلهم يستفيقون فإذا ذهبوا يبحثون عما تستحقه الأصنام من المحبة وتطلبوا أسباب المحبة وجدوها مفقودة كما قال إبراهيم عليه السلام :{ بَأَبَتتِ لم تعبد ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يغني عنك شيئاً } [ مريم : 42 ] مع ما في هذه الحال من زيادة موجب الإنكار .وقوله : { والذين أمنوا أشد حباً لله } أي أشد حبّاً لله من محبة أصحاب الأنداد أندادهم ، على ما بلغوا من التصلب فيها ، ومن محبة بعضهم لله ممن يعترف بالله مع الأنداد ، لأن محبة جميع هؤلاء المحبين وإن بلغوا ما بلغوا من التصلب في محبوبيهم لمَّا كانت محبة مجردة عن الحجة لا تبلغ مبلغ أصحاب الاعتقاد الصميم المعضود بالبرهان ، ولأن إيمانهم بهم لأغراض عاجلة كقضاء الحاجات ودفع الملمات بخلاف حب المؤمنين لله فإنه حب لذاته وكونِه أهلاً للحب ثم يتبع ذلك أغراض أعظمها الأغراض الآجلة لرفع الدرجات وتزكية النفس .والمقصود تنقيص المشركين حتى في إيمانهم بآلهتهم فكثيراً ما كانوا يُعرضون عنها إذا لم يجدوا منها ما أمَّلوه . فمورد التسوية بين المحبتين التي دل عليها التشبيه مخالف لمورد التفضيل الذي دل عليه اسم التفضيل هنا ، لأن التسوية ناظرة إلى فرط المحبة وقت خطورها ، والتفضيل ناظر إلى رسوخ المحبة وعدم تزلزلها ، وهذا مأخوذ من كلام «الكشاف» ومصرح به في كلام البيضاوي مع زيادة تحريره ، وهذا يغنيك عن احتمالات وتمحلات عرضت هنا لبعض المفسرين وبعض شراح «الكشاف» .روي أن امرأَ القيس لما أراد قتال بني أسد حين قتلوا أباه حُجْراً ملكَهم مر على ذي الخُلَصة الصَّنم الذي كان بتَبَالَة بين مكة واليَمننِ فاستقسم بالأزلام التي كانت عند الصَّنم فخرج له القدح الناهي ثلاث مرات ( ) فكَسَر تلك القِداح ورمى بها وجه الصَّنم وشتمه وأنشد :لو كنتَ ياذَا الخلص المَوْتُورا ... مِثلي وكانَ شيخك المقبورالم تَنْه عن قتل العُداة زورَا ... ثم قصد بني أسد فظفِر بهم .ورُوي أن رجلاً من بني مَلْكَان جاء إلى سَعْد الصَّنم بساحل جُدَّةَ وكان معه إبل فنفرت إبله لما رأت الصَّنم ( ) فغضب المَلْكاني على الصَّنم ورماه بحجَر وقال :أتينَا إلى سَعْد ليَجْمَع شملنا ... فشتَّتنَا سَعْد فما نَحْنُ من سَعْدوهلْ سَعْدٌ إلاَّ صَخْرَةٌ بتَنَوفَة ... من الأرض لا تدعو لِغيَ ولا رُشدوإنما جيء بأفعل التفضيل بواسطة كلمة { أشد } قال التفتزاني : آثر { أشدُّ حباً } على أحَبُّ لأن أحب شاع في تفضيل المحبوب على محبوب آخر تقول : هو أحب إلي ، وفي القرآن : { قل إن كان أباءكم وأبناءكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله }[ التوبة : 24 ] الخ . يعني أن فعل أحب هو الشائع وفعل حب قليل فلذلك خصوا في الاستعمال كلاً بمواقع نفياً للبس فقالوا : أحب وهو محب وأشد حباً وقالوا حبيب من حب وأحب إلى من حب أيضاً .عطف على قوله : { ومن الناس من يتخذ } وذلك أن قوله ذلك لما كان شرحاً لحال ضلالهم الفظيع في الدنيا من اتخاذ الأنداد لله مع ظهور أدلة وحدانيته حتى كان قوله : { ومن الناس } مؤذناً بالتعجيب من حالهم كما قدمنا ، وزيد في شناعته أنهم اتخذوا لله أنداداً وأحبوها كحبه ، ناسب أن ينتقل من ذلك أي ذكر عاقبتهم من هذا الصنيع ووصف فظاعة حالهم في الآخرة كما فظع حالهم في الدنيا .قرأ نافع وابن عامر ويعقوب { ولو يرى } بتاء فوقية وهو خطاب لغير معين يعم كل من يسمع هذا الخطاب ، وذلك لتناهي حالهم في الفظاعة والسوء ، حتى لو حضرها الناس لظهرت لجميعهم ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ( فالذين ظلموا ) مفعول ( ترى ) على المعنيين ، و ( إذ ) ظرف زمان ، والرؤية بصرية في الأول والثاني لتعلقها في الموضعين بالمرئيات ، ولأن ذلك مورد المعنى ، إلاّ أن وقت الرؤيتين مختلف ، إذ المعنى لو تراهم الآن حين يرون العذاب يوم القيامة ، أي لو ترى الآن حالهم ، وقرأه الجمهور { يرى الذين ظلموا بالتحتية فيكون الذين ظلموا } فاعل { يرى } والمعنى أيضاً لو يرون الآن ، وحذف مفعول { يرى } لدلالة المقام ، تقديره لو يرون عذابهم أو لو يرون أنفسهم أو يكون ( إذ ) اسماً غير ظرف أي لو ينظرون الآن ذلك الوقت فيكون بدل اشتمال من { الذين ظلموا } .و { الذين ظلموا } هم الذين اتخذوا من دون الله أنداداً فهو من الإظهار في مقام الإضمار ليكون شاملاً لهؤلاء المشركين وغيرهم ، وجعل اتخاذهم الأنداد ظلماً لأنه اعتداء على عدة حقوق فقد اعتدوا على حق الله تعالى من وجوب توحيده ، واعتدوا على من جعلوهم أنداداً لله على العقلاء منهم مثل الملائكة وعيسى ، ومثل ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، فقد ورد في «الصحيح» عن ابن عباس أنهم كانوا رجالاً صالحين من قوم نوح فلما ماتوا اتخذ قومهم لهم تماثيل ثم عبدوها ، ومثل ( اللات ) يزعم العرب أنه رجل كان يلت السويق للحجيج وأن أصله اللات بتشديد التاء ، فبذلك ظلموهم إذ كانوا سبباً لهول يحصل لهم من السؤال يوم القيامة كما قال الله تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } [ المائدة : 116 ] وقال : { ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهوؤلاء إياكم كانوا يعبدون } [ سبأ : 40 ] الآية وقال : { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هئلاء أم هم ضلوا السبيل }[ الفرقان : 17 ] الآية ، وظلموا أنفسهم في ذلك بتعريضها للسخرية في الدنيا وللعذاب في الآخرة وظلموا أعقابهم وقومهم الذين يتبعونهم في هذا الضلال فتمضي عليه العصور والأجيال ، ولذلك حذف مفعول { ظلموا } لقصد التعميم ، ولك أن تجعل { ظلموا } بمعنى أشركوا كما هو الشائع في القرآن قال تعالى عن لقمان : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] وعليه فالفعل منزَّل منزلة اللازم لأنه صار كاللقب .وجملة : { والذين أمنوا أشد حباً لله } معترضة والغرض منها التنويه بشأن الذين آمنوا بأن حبهم لله صار أشد من حبهم الأنداد التي كانوا يعبدونها وهذا كقول عُمر بن الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم " لأنت أَحب إليّ من نفسي التي بين جنبيّ " .وتركيب { لو ترى } وما أشبهه نحو لو رأيتَ من التراكيب التي جرت مجرى المثل فبنيت على الاختصار وقد تكرر وقوعها في القرآن .وجواب { لو } محذوف لقصد التفخيم وتهويل الأمر لتذهب النفس في تصويره كل مذهب ممكن ونظيره { ولو ترى إذ الظالمون في غمَرَات الموت } [ الأنعام : 93 ] { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [ الأنعام : 27 ] { ولو أن قرءاناً سيرت به الجبال } [ الرعد : 31 ] ، قال المرزوقي عند قول الشَّمَيْذَرِ الحارثي :وقد ساءني ما جرَّتتِ الحرب بيننا ... بنِي عَمِّنا لو كان أمراً مُدَانِيا«حَذْفُ الجواب في مثل هاته المواضع أبلغ وأدل على المراد بدليل أن السيد إذا قال لعبده لئن قمتُ إليك ثم سكتَ تزاحم على العبد من الظنون المعترضة للتوعد ما لا يتزاحم لو نص على ضرببٍ من العذاب» ، والتقدير على قراءة نافع وابن عامر لرأيتَ أمراًعظيماً وعلى قراءة الجمهور لرأوا أمراً عظيماً .وقوله : { أن القوة } قرأَه الجمهور بفتح همزة أَنَّ وهو بدل اشتمال من { العذاب } أو من { الذين ظلموا } فإن ذلك العذاب من أحوالهم ، ولا يضر الفصل بين المبدل منه والبدل لطول البدل ، ويجوز أن يكون على حذف لام التعليل والتقدير لأن القوة لله جميعاً والتعليل بمضمون الجواب المقدر أي لرأيت ما هو هائل لأنه عذاب الله ولله القوة جميعاً .{ وجميعاً } استعمل في الكثرة والشدة فقوة غيره كالعدم وهذا كاستعمال ألفاظ الكثرة في معنى القوة وألفاظ القلة في معنى الوهن كما في قول تأبط شراً :قليلُ التشكي للمُلِمِّ يصيبُه ... كثيرُ الهوى شتَّى النَّوى والمسالكأراد شديد الغرام .وقرأه أبو جعفر ويعقوب { إِن القوة } بكسر الهمزة على الاستئناف البياني كأن سائلاً قال : ماذا أرى وما هذا التهويل؟ فقيل : إن القوة ولا يصح كونها حينئذٍ للتعليل التي تغني غناء الفاء كما هي في قول بشار :إن ذاك النجاح في التبْكير ... لأن ذلك يكون في مواقع احتياج ما قبلها للتعليل حتى تكون صريحة فيه .وقرأ ابن عامر وحده { إذ يرون العذاب } بضم الياء أي إذ يريهم الله العذاب في معنى قوله : { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات } [ البقرة : 167 ] .وانتصب ( جميعاً ) على التوكيد لِقوله ( القوة ) أي جميع جنس القوة ثابت لله ، وهو مبالغة لعدم الاعتداد بقوة غيره فمفاد جميع هنا مفاد لام الاستغراق في قوله{ الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] .وقد جاء ( لو ) في مثل هذا التركيب بشرط مضارع ووقع في كلام الجمهور من النحاة أن لو للشرط في الماضي وأن المضارع إذا وقع شرطاً لها يُصرف إلى معنى الماضي إذا أريد استحضار حالة ماضية وأما إذا كان المضارع بعدها متعيناً للمستقبل فأوَّلَه الجمهور بالماضي في جميع مواقعه وتكلفوا في كثير منها كما وقع لصاحب «المفتاح» ، وذهب المبرد وبعض الكوفيين إلى أن لو حْرف بالمعنى إِنْ لمجرد التعليق لا للامتناع ، وذهب ابن مالك في «التسهيل» و«الخلاصة» إلى أن ذلك جائز لكنه قليل وهو يريد القلة النسبية بالنسبة لوقوع الماضي وإلاّ فهو وارد في القرآن وفصيح العربية .والتحقيق أن الامتناع الذي تفيده ( لو ) متفاوت المعنى ومرجعه إلى أن شرطها وجوابها مفروضان فرضاً وغير مقصود حصول الشرط فقد يكون ممكن الحصول وقد يكون متعذراً ولذلك كان الأولى أن يعبر بالانتفاء دون الامتناع لأن الامتناع يوهم أنه غير ممكن الحصول فأما الانتفاء فأعم ، وأن كون الفعل بعدها ماضياً أو مضارعاً ليس لمراعاة مقدار الامتناع ولكن ذلك لمقاصد أخرى مختلفة بالاختلاف مفاد الفعلين في مواقعها في الشروط وغيرها ، إذ كثيراً ما يراد تعليق الشرط بلو في المستقبل نحو قول توبة :ولو تلتقِي أصداؤنا بعد موتنا ... ومِنْ بين رَمْسينا من الأرض سَبسبُلظل صدَى صوتي وإن كنتُ رِمَّةً ... لصوت صدى ليلى يهشُّ ويَطْرَبُفإنه صريح في المستقبل ومثله هذه الآية .
Arabic Tanweer Tafseer
2:165
وبعد أن ذكر - سبحانه - جانباً من الآيات الدالة على ألوهيته ووحدانيته أردف ذلك ببيان حال المشركين ، وما يكون منهم يوم القيامة من تدابر وتقاطع وتحسر على ما فرط منهم فقال - تعالى - :( وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً . . . )( أَندَاداً ) : جمع ند ، وهو مثل الشيء الذي يضاده وينافره ويتباعد عنه . وأصله من ند البعير يند نداً ونداداً وندوداً ، أي : نفر وذهب على وجهه شارداً . ويرى بعض العلماء أن المراد بالأنداد هنا الأصنام التي اتخذها المشركون آلهة للتقرب بها إلى الله ، وقيل : المراد بها الرؤساء الذين كانوا يطيعونهم فيما يحلونه لهم ويحرمونه عليهم . والأولى أن يكون المراد بهذه الأنداد كل مخلوق أسند إليه أمر اختص به الله - تعالى - من نحو التحليل ، والتحريم وإيصال النفع وغير ذلك من الأمور التي انفرد بها الخالق - عز وجل - .والمعنى : أن من الناس من لا يعقل تلك الآيات التي دلت على وحدانية الله وقدرته ، وبلغفت بهم الجهالة أنهم يخضعون لبع المخلوقات خضوعهم لله بزعم أنها مشابهة ومماثلة ومناظرة له - سبحانه - في النفع والضر ، ويحبون تعظيم تلك المخلوقات وطاعتها والتقرب إليها والانقياد لها حبا يشابه الحب اللازم عليهم نحو الله - تعالى - أو يشابه حب المؤمنين لله ، و ( مِنَ ) في قوله : ( وَمِنَ الناس ) للتبعيض ، والجار والمجرور خبر مقدم و ( مِنَ ) في قوله : ( مَن يَتَّخِذُ ) في محل رفع مبتدأ مؤخر ، و " من دون الله ، حال من ضمير يتخذ و ( أَندَاداً ) مفعول به ليتخذ .قال الجمل : وجملة ( يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله ) فيها ثلاثة أوجه :أحدها : أن تكون في محل رفع صفة لمن في أحد وجهيها ، والضمير المرفوع يعود عليها باعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ في يتخذ .والثاني : أن تكون في محل نصب صفة لأنداداً والضمير المنصوب يعود عليهم والمراد بهم الأصنام ، وإنما جمعوا جمع العقلاء لمعاملتهم معالمة العقلاء . أو أن يكون المراد بهم من عبد من دون الله عقلاء وغيرهم ثم غلب العقلاء على غيرهم .الثالث : أن تكون في محل نصب على الحال من الضمير في يتخذ ، والضمير المرفوع عائد على ما عاد عليه الضمير في يتخذ وجمع حملا على المعنى .ثم مدح - سبحانه - عبادة المؤمنين فقالك ( والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ ) .أي : والذين آمنوا وأخلصوا لله العبادة أشد حباً له - سبحانه - من كل ما سواه ، ومن حب المشركين للأنداد ، ذلك لأن حب المؤمنين لله متولد عن أدلة يقينية ، وعن علم تام ، ببديع حكمته - سبحانه - وبالغ حجته ، وسعة رحمته ، وعدالة أحكامه ، وعزة سلطانه ، وتفرده بالكمال المطلق ، والحب المتولد عن هذا الطريق يكون أشد من حب المشركين لمعبوداتهم لأن حب المشركين لمعبوداتهم متولد عن طريق الظنون والأوهام والتقاليد الباطلة .والتصريح بالأشدية في قوله : ( أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ ) أبلغ من أن يقال أحب لله؟ إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل - كما يقول الآلوسي - بل المراد الرسوخ والثبات .وقيل : عدل عن أحب إلى أشد حباً ، لأن " حب " شاع في الأشد محبوبية فعدل عنه احترازاً عن اللبس .ولقد ضرب المؤمنون الصادقون أروع الأمثال في حبهم لله - تعالى - لأنهم ضحوا في سبيله بأرواحهم وأموالهم وأبنائهم وأغلى شيء لديهم ، ولأنهنم لم يعرفوا عملا يرضيه إلا فعلوه ، ولم يعرفوا عملا يغضبه إلا اجتبوه .ثم أخبر - سبحانه - عما ينتظر الظالمين من سوء المصير فقال : ( وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب أَنَّ القوة للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب ) ( لَوْ ) شرطية ، وجوابها محذول لقصد التهويل ولتذهب النفس في تصويرها كل مذهب و ( القوة ) القدرة والسلطان .والمعنى : ولو يرى أولئك المشركون حين يشاهدون العذاب المعدلهم يوم القيامة أن القدرة كلها لله وحده ، وأن عذابه الذي يصيب به المتخطبين في ظلمات الشرك شديد ، لو يعلمون ذلك ، لرأوا ما لا يوصف من الهول والفظاعة ، ولوقعوا فيما لا يكاد يوصف من الحسرة والندامة .وكان الظاهر بمقتضى تقدم ذكرهم أن يقال : ولو يرون إذ يرون . ولكن وضع الموصول وصلته موضع الضمير ، ليحضر في ذهن السامع أنهم صاروا باتخاذهم الأنداد من الظالمين ، وليشعر بأن سبب رؤيتهم العذاب الشديد هو ذلك الظلم العظيم .وعبر بالماضي في قوله : ( إِذْ يَرَوْنَ العذاب ) لتحقق الوقوع ، ولك ما كان كذلك فإنه يجري مجري ما وقع وحصل .وجملة ( أَنَّ القوة للَّهِ جَمِيعاً ) سدت مسد مفعولي يرى ، وانتصب لفظ ( جَمِيعاً ) على التوكيد للقوة . أي . جميع جنس القوة ثابت لله ، وهو مبالغة في عدم الاعتداد بقوة غيره ، فمفاد جميع هنا مفاد لام الاستغراق في قوله : ( الحمد للَّهِ ) وجملة ( وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب ) معطوفة على ما قبلها ، وفائدتها المبالغة في تفظيع الخطب ، وتهويل الأمر ، فإن اختصاص القوة به - تعالى - لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفواً مع القدرة عليه .هذا ، وقد قرأ نافع وابن عمر " ولو ترى " بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى له الخطاب .أي : لو ترى ذلك أيها الرسول الكريم أو أيها المخاطب لرأيت أمراً عظمياً في الفظاعة والهول .
Arabic Waseet Tafseer
2:165
القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنّ من الناس من يتخذ من دون الله أندادًا له =وقد بينا فيما مضى أن " الندّ"، العدل، بما يدل على ذلك من الشواهد، فكرهنا إعادته. (18)* * *= وأن الذين اتخذوا هذه " الأنداد " من دُون الله، يحبون أندادهم كحب المؤمنين الله. ثم أخبرَهم أن المؤمنين أشد حبًا لله، من متخذي هذه الأنداد لأندادهم.* * *واختلف أهل التأويل في" الأنداد " التي كان القوم اتخذوها. وما هي؟* * *فقال بعضهم: هي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.* ذكر من قال ذلك.2406- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: " ومن الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله "، من الكفار لأوثانهم.2407- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله تعالى ذكره: " يحبونهم كحب الله "، مباهاةً ومُضاهاةً للحقّ بالأنداد،" والذين آمنوا أشد حبًا لله "، من الكفار لأوثانهم.2408- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.&; 3-280 &;2409- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: " ومن الناس من يتخذُ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله " قال، هي الآلهة التي تُعبد من دون الله، يقول: يحبون أوثانهم كحب الله،" والذين آمنوا أشد حبًا لله ", أي من الكفار لأوثانهم.2410- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " ومنَ الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله " قال، هؤلاء المشركون. أندادُهم: آلهتهم التي عَبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله من حبهم هم آلهتَهم.* * *وقال آخرون: بل " الأنداد " في هذا الموضع، إنما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى ذكره.* ذكر من قال ذلك:2411- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " ومنَ الناس من يَتخذ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله " قال، الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعَصَوا الله. (19)* * *فإن قال قائل: وكيف قيل: " كحب الله "؟ وهل يحب الله الأنداد؟ وهل كان مُتخذو الأنداد يحبون الله، فيقال: " يُحبونهم كحب الله "؟قيل: إنّ معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه, وإنما ذلك نظير قول القائل: (20) " بعت غُلامي كبيع غلامِك ", بمعنى: بعته كما بيع غلامك، وكبيْعك &; 3-281 &; غُلامَك," واستوفيتُ حَقي منه استيفاء حَقك ", بمعنى: استيفائك حقك، فتحذف من الثاني كناية اسم المخاطَب، اكتفاء بكنايته في" الغلام " و " الحق ", كما قال الشاعر:فَلَسْــتُ مُسَــلِّمًا مَـا دُمْـتُ حَيَّـاعَـــلَى زَيْــدٍ بِتَسْــلِيم الأمِــيرِ (21)يعنى بذلك: كما يُسلَّم على الأمير.* * *فمعنى الكلام إذًا: ومنَ الناس من يتخذ، أيها المؤمنون، من دون الله أندادًا يحبونهم كحبكُم الله. (22)* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة أهل المدينة والشأم: " ولوْ ترى الذين ظَلموا " بالتاء " إذ يَرون العذابَ" بالياء " أن القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب " بفتح " أنّ" و " أنّ" كلتيهما - بمعنى: ولو ترى يا محمد &; 3-282 &; الذين كفروا وَظَلموا أنفسهم، حينَ يَرون عذابَ الله ويعاينونه " أنّ القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب ".ثم في نصَبْ" أنّ" و " أنّ" في هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تُفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه, فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولو ترى يَا محمد الذين ظلموا إذ يرون عذاب الله، لأقروا -ومعنى ترى: تبصر- أن القوة لله جميعًا, وأنّ الله شديد العذاب. ويكون الجواب حينئذ -إذا فتحت " أن " على هذا الوجه- متروكًا، قد اكتفى بدلالة الكلام عليه، ويكون المعنى ما وصفت. فهذا أحد وجهي فتح " أن "، على قراءة من قرأ: " ولو ترى " ب " التاء ".والوجهُ الآخر في الفتح: أن يكون معناه: ولو ترى، يا محمد، إذ &; 3-283 &; يَرى الذين ظلموا عذابَ الله, لأن القوة لله جميعًا, وأن الله شديد العذاب, لعلمت مبلغ عذاب الله. ثم تحذف " اللام "، فتفتح بذلك المعنى، لدلالة الكلام عليها.* * *وقرأ ذلك آخرون من سَلف القراء: " ولو تَرى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب إن القوة لله جميعًا وإن الله شديدُ العذاب ". بمعنى: ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا حين يعاينون عذابَ الله، لعلمت الحال التي يصيرون إليها. ثم أخبر تعالى ذكره خبرًا مبتدأ عن قدرته وسلطانه، بعد تمام الخبر الأول فقال: " إن القوة لله جميعًا " في الدنيا والآخرة، دون من سواه من الأنداد والآلهة," وإن الله شديد العذاب " لمن أشرك به، وادعى معه شُركاء، وجعل له ندًا.* * *وقد يحتمل وجهًا آخر في قراءة من كسر " إن " في" ترى " بالتاء. وهو أن يكون معناه: ولو ترَى، يا محمد الذين ظلموا إذ يرون العذابَ يقولون: إنّ القوة لله جميعًا وإنّ الله شديد العذاب. ثمّ تحذفُ" القول " وتَكتفي منه بالمقول.* * *وقرأ ذلك آخرون: " ولو يَرَى الذين ظلموا " بالياء " إذ يَرَون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شَديدُ العذاب " بفتح " الألف " من " أنّ"" وأنّ", بمعنى: ولو يرى الذين ظلموا عذابَ الله الذي أعد لهم في جهنم، لعلموا حين يَرونه فيعاينونه أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب, إذ يرون العذاب. فتكون " أن " الأولى منصوبة لتعلقها بجواب " لو " المحذوف، ويكون الجواب متروكًا, وتكون الثانية معطوفة على الأولى. وهذه قراءة عامة القرّاء الكوفيين والبصريين وأهل مكة.* * *وقد زعم بعض نحويي البصرة أنّ تأويل قراءة من قرأ: " ولو يَرَى الذين ظلموا إذ يرون العذابَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب " بالياء في" يرى " وفتح " الألفين " في" أن "" وأن "-: ولو يعلمون، (23) لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عَلم, فإذا قال: " ولو ترى ", فإنما يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم.ولو كسر " إنّ" على الابتداء، إذا قال: " ولو يرى " جاز, لأن " لو يرى "، لو يعلم.وقد تكون " لو " في معنى لا يَحتاج معها إلى شيء. (24) تقول للرجل: " أمَا وَالله لو يعلم، ولو تعلم " (25) كما قال الشاعر: (26)إنْ يكُــنْ طِبَّـكِ الـدّلالُ, فلَـوْ فِـيسَـالِفِ الدَّهْــرِ والسِّـنِينَ الخَــوَالِي! (27)&; 3-284 &;هذا ليس له جواب إلا في المعنى, وقال الشاعر (28)وَبِحَـــــظٍّ مِمَّــــا نَعِيشُ, وَلاتَــذْهَبْ بِـكَ التُّرَّهَـاتُ فِــي الأهْـوَالِ (29)فأضمر: فعيشي. (30)قال: وقرأ بعضهم: " ولو تَرى "، وفتح " أن " على " ترى ". وليس بذلك، (31) لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم, ولكن أراد أن يعلم ذلك الناسُ، كما قال تعالى ذكره: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [سورة السجدة: 3]، ليخبر الناس عن جهلهم, وكما قال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة: 107]. (32)* * *قال أبو جعفر: وأنكر قوم أن تكون " أنّ" عاملا فيها قوله: " ولو يرى ". وقالوا: إنّ الذين ظلموا قَد علموا حين يَرون العذاب أن القوة لله جميعًا, فلا وجه لمن تأوَّل ذلك: ولو يَرى الذين ظلموا أنّ القوة لله. وقالوا: إنما عمل في" أن " جواب " لو " الذي هو بمعنى " العلم ", لتقدم " العلم " الأول. (33)* * *&; 3-285 &;وقال بعض نحويي الكوفة: مَنْ نصب: " أن القوة لله وأن الله شديد العذاب " ممن قرأ: " ولو يَرَى " بالياء، فإنما نصبها بإعمال " الرؤية " فيها, وجعل " الرؤية " واقعةً عليها. وأما مَنْ نصبها ممن قرأ: " ولو ترى " بالتاء, فإنه نَصبَها على تأويل: لأنّ القوة لله جميعًا, ولأن الله شديد العذاب. قال: ومن كسرهما ممن قرأ بالتاء، فإنه يكسرهما على الخبر.* * *وقال آخرون منهم: فتح " أنّ" في قراءة من قرأ: " ولو يَرَى الذين ظلموا " بالياء، بإعمال " يرى ", وجوابُ الكلام حينئذ متروك, كما ترك جواب: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ [سورة الرعد: 31]، لأن معنى الجنة والنار مكررٌ معروف. (34) وقالوا: جائز كسر " إن "، في قراءة من قرأ ب " الياء ", وإيقاع " الرؤية " على " إذ " في المعنى, وأجازوا نصب " أن " على قراءة من قرأ ذلك ب " التاء "، لمعنى نية فعل آخر, وأن يكون تأويل الكلام: " ولو ترى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب "، [يرَون] أنّ القوة لله جميعا، (35) وزعموا أن كسر " إنّ" الوجهُ، إذا قرئت: " ولو تَرَى " ب " التاء " على الاستئناف, لأن قوله: " ولو ترى " قد وَقع على " الذين ظلموا ". (36)* * *قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك: " ولو تَرَى الذين ظلموا " -بالتاء من " ترى "-" إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب " بمعنى: لرأيتَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب. فيكون قوله: " لرأيت " الثانية، محذوفةً مستغنى بدلالة قوله: " ولو ترى الذين ظلموا "، عن ذكره, وإن &; 3-286 &; كان جوابًا ل " لو ". (37)ويكون الكلام، وإن كان مخرجه مَخرجَ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - معنيًّا به غيره. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا شك عالمًا بأن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب. ويكون ذلك نظيرَ قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة: 107] وقد بيناه في موضعه. (38)وإنما اخترنا ذلك على قراءة " الياء "، لأن القوم إذا رَأوا العذاب، قَد أيقنوا أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب, فلا وجه أن يُقال: لو يرون أنّ القوة لله جميعًا - حينئذ. لأنه إنما يقال: " لو رأيت "، لمن لم يرَ, فأما من قد رآه، فلا معنى لأن يقال له: " لو رأيت ".* * *ومعنى قوله: " إذ يَرون العذاب "، إذ يُعاينون العذاب، كما:-2412- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: " ولو يرى الذين ظَلموا إذ يَرون العذابَ أن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب "، يقول: لو عاينوا العذاب.* * *وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: " ولو تَرَى الذين ظلموا "، ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا أنفسهم، فاتخذوا من دوني أندادًا يحبونهم كحبكم إياي, حين يُعاينون عَذابي يومَ القيامة الذي أعددتُ لهم, لعلمتم أن القوة كلها لي دُون الأنداد والآلهة, وأنّ الأنداد والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئًا, ولا تدفع عنهم عذابًا أحللتُ بهم, وأيقنتم أنِّي شديدٌ عذابي لمن كفر بي، وادَّعى مَعي إلهًا غيري.----------------الهوامش :(18) انظر ما سلف 1 : 368-370 .(19) الأثر : 2411- في المطبوعة : "حدثني موسى قال حدثنا أسباط" ، أسقط منه"قال حدثنا عمرو" ، وهو إسناد دائر في التفسير ، أقر به رقم : 2404 . ثم انظر ص : 288 س : 11 فسيأتي تأويله وبيانه عن قول السدي .(20) في المطبوعة : "وإنما نظير ذلك" ، وأثبت أولى العبارتين بالسياق والمعنى .(21) لم أعرف قائله . وسيأتي في هذا الجزء 3 : 311 ، وهو من أبيات أربعة في البيان والتبيين 4 : 51 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 100 ، وأمالي الشريف 1 : 215 . وبعد البيت :أَمـــيرٌ يــأكُلُ الفَــالُوذَ سِــرًّاويُطْعِــمُ ضيفَــهُ خُـبْزَ الشَّـعِير!أتذكُــرُ إذْ قَبَــاؤك جــلْدُ شــاةٍوَإِذْ نَعْــلاَكَ مــن جِــلْدِ البَعِـيرِ?فسُــبْحان الــذي أعطــاك مُلْكًـاوعَلَّمـك الجـلوسَ عـلى السَّـرِير!!(22) في المطبوعة : "كحب الله" ، وليس هذا تفسيرًا على سياق كلامه وتفسيره ، بل هو نص الآية ، والصواب ما أثبت .(23) يريد أن"يرى" بمعنى : يعلم . وقاله أبو عبيدة في مجاز القرآن : 62 .(24) في المطبوعة : "وقد تكون"لو يعلم" في معنى لا يحتاج . . . " ، والصواب حذف"يعلم" فإنه أراد"لو" وحدها ، وذلك ظاهر في استدلاله بعد .(25) في المطبوعة : "لو يعلم" في الموضعين ، والصواب جعل إحداهما بالياء . والأخرى بالتاء .(26) هو عبيد بن الأبرص .(27) ديوانه : 37 ، من قصيدة جيدة يعاتب امرأته وقد عزمت على فراقه ، وقبله :تلـكَ عِرْسِـي تَـرُومُ قِدْمًـا زِيَـالِيأَلِبَيْــــنٍ تُرِيـــد أَمْ لِـــدَلاَلِ?والزيال : المفارقة . وقوله : "طبك" ، أي شهوتك وإرادتك وبغيتك . يقول لها : إن كنت الدلال على تبغين وترومين ، فقد مضى حين ذلك ، أيام كنا شبابًا في سالف دهرنا وليالينا الخوالي! إذ- :أنْـــت بَيْضَــاءُ كالمهــاة, وإِذْاآتِيــكِ نَشْــوَانَ مُرْخِيًــا أَذْيـالِي(28) هو عبيد بن الأبرص أيضًا من قصيدته السالفة .(29) ديوانه : 37 ، وسيأتي في التفسير 7 : 117 ، وهو في الموضعين مصحف . كان هنا"وبحظ ما تعيش" . قال لها ذلك بعد أن ذكر أنها زعمت أنه كبر وقل ماله ، وضن عنه إخوانه وأنصاره . ثم أمرها أن ترفض مقالة العاذلين ، ويعظها أن تعيش معه بما يعيش به . والترهات جمع ترهة : وهي أباطيل الأمور . والأهوال جمع هول : وهو الأمر المخيف . ثم ذكر لها أمر أهلها إذا فارقته إليهم وما تلقاه من أهوال ، فقال :مِنْهُــمُ مُمْسِــكٌ, ومِنْهــم عَـدِيمٌ,وبَخِـــيلُ عَلَيْــكِ فِــي بُخّــالِ(30) في المطبوعة : "فأضمر : عش" ، والصواب ما أثبت ، وستأتي على الصواب في الجزء السابع .(31) قوله : "ليس بذلك" ، أي قول ضعيف ليس بذلك القوي .(32) انظر ما سلف 2 : 484-488 .(33) يعني بالعلم الأول"لو يرى" بمعنى"لو يعلم" ، والآخر الجواب المحذوف : "لعلموا" .(34) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 97 ، وفيه"معاني الجنة . . . " ، والصواب ما في الطبري وإحدى نسخ معاني القرآن .(35) الذي بين القوسين زيادة لا بد منها ، وإلا اختل الكلام ، واستدركتها من معاني القرآن للفراء 1 : 98 .(36) هذا قول الفراء في معاني القراء 1 : 97-98 ، مع بعض التصرف في اللفظ . وقوله : "وقع" ، و"الوقوع" يعني به تعدي الفعل إليه . وانظر فهرس المصطلحات .(37) في المطبوعة : "وإن كان جوابًا . . . " ، والصواب ما أثبت .(38) انظر ما سلف 2 : 484-488 .
الطبري
2:165
قوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذابلما أخبر الله سبحانه وتعالى في الآية قبل ما دل على وحدانيته وقدرته وعظم سلطانه أخبر أن مع هذه الآيات القاهرة لذوي العقول من يتخذ معه أندادا ، وواحدها ند ، وقد تقدم . والمراد الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها كعبادة الله مع عجزها ، قاله مجاهد .قوله تعالى : يحبونهم كحب الله أي يحبون أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق ، قاله المبرد ، وقال معناه الزجاج . أي أنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته . وقال ابن عباس والسدي : المراد بالأنداد الرؤساء المتبعون ، يطيعونهم في معاصي الله . وجاء الضمير في يحبونهم على هذا على الأصل ، وعلى الأول جاء ضمير [ ص: 192 ] الأصنام ضمير من يعقل على غير الأصل . وقال ابن كيسان والزجاج أيضا : معنى يحبونهم كحب الله أي يسوون بين الأصنام وبين الله تعالى في المحبة . قال أبو إسحاق : وهذا القول الصحيح ، والدليل على صحته : والذين آمنوا أشد حبا لله وقرأ أبو رجاء يحبونهم بفتح الياء . وكذلك ما كان منه في القرآن ، وهي لغة ، يقال : حببت الرجل فهو محبوب . قال الفراء : أنشدني أبو تراب :أحب لحبها السودان حتى حببت لحبها سود الكلابومن في قوله من يتخذ في موضع رفع بالابتداء ويتخذ على اللفظ ، ويجوز في غير القرآن " يتخذون " على المعنى ويحبونهم على المعنى و " يحبهم " على اللفظ ، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في يتخذ أي محبين ، وإن شئت كان نعتا للأنداد ، أي محبوبة . والكاف من كحب نعت لمصدر محذوف ، أي يحبونهم حبا كحب الله . والذين آمنوا أشد حبا لله أي أشد من حب أهل الأوثان لأوثانهم والتابعين لمتبوعهم . وقيل : إنما قال والذين آمنوا أشد حبا لله لأن الله تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه . ومن شهد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتم ، قال الله تعالى : يحبهم ويحبونه . وسيأتي بيان حب المؤمنين لله تعالى وحبه لهم في سورة " آل عمران " إن شاء الله تعالى .قوله تعالى : ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب قراءة أهل المدينة وأهل الشام بالتاء ، وأهل مكة وأهل الكوفة وأبو عمرو بالياء ، وهو اختيار أبي عبيد . وفي الآية إشكال وحذف ، فقال أبو عبيد : المعنى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعا . ويرى على هذا من رؤية البصر . قال النحاس في كتاب " معاني القرآن " له : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير . وقال في كتاب " إعراب القرآن " له : وروي عن محمد بن يزيد أنه قال : هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد ، وليست عبارته فيه بالجيدة ; لأنه يقدر : ولو يرى الذين ظلموا العذاب ، فكأنه يجعله مشكوكا فيه وقد أوجبه الله تعالى ، ولكن التقدير وهو قول الأخفش : ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله . ويرى بمعنى يعلم ، أي لو يعلمون حقيقة قوة الله عز وجل وشدة عذابه ، ف يرى واقعة على أن القوة لله ، وسدت مسد المفعولين . والذين فاعل يرى ، وجواب لو محذوف ، أي لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة ، كما قال عز وجل . ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ، [ ص: 193 ] ولو ترى إذ وقفوا على النار ولم يأت ل لو جواب . قال الزهري وقتادة : الإضمار أشد للوعيد ، ومثله قول القائل : لو رأيت فلانا والسياط تأخذه ومن قرأ بالتاء فالتقدير : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له لأقروا أن القوة لله ، فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى وهو العامل في أن . وتقدير آخر : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعا . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك ، ولكن خوطب والمراد أمته ، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا . ويجوز أن يكون المعنى : قل يا محمد للظالم هذا . وقيل : أن في موضع نصب مفعول من أجله ، أي لأن القوة لله جميعا . وأنشد سيبويه :وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرماأي لادخاره ، والمعنى : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لأن القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حل بهم . ودخلت " إذ " وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه . وقرأ ابن عامر وحده " يرون " بضم الياء ، والباقون بفتحها . وقرأ الحسن ويعقوب وشيبة وسلام وأبو جعفر " إن القوة ، و " إن الله " بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف أو على تقدير القول ، أي ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون إن القوة لله . وثبت بنص هذه الآية القوة لله ، بخلاف قول المعتزلة في نفيهم معاني الصفات القديمة ، تعالى الله عن قولهم .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:165
ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها، فإنه تعالى, لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة, وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين, المزيلة لكل شك، ذكر هنا أن { مِنَ النَّاسِ } مع هذا البيان التام من يتخذ من المخلوقين أندادا لله أي: نظراء ومثلاء, يساويهم في الله بالعبادة والمحبة, والتعظيم والطاعة. ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة, وبيان التوحيد - علم أنه معاند لله, مشاق له, أو معرض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته, فليس له أدنى عذر في ذلك, بل قد حقت عليه كلمة العذاب. وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله, لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير, وإنما يسوونهم به في العبادة, فيعبدونهم، ليقربوهم إليه، وفي قوله: { اتخذوا } دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له, تسمية مجردة, ولفظا فارغا من المعنى، كما قال تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ } { إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } فالمخلوق ليس ندا لله لأن الله هو الخالق, وغيره مخلوق, والرب الرازق ومن عداه مرزوق, والله هو الغني وأنتم الفقراء، وهو الكامل من كل الوجوه, والعبيد ناقصون من جميع الوجوه، والله هو النافع الضار, والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء، فعلم علما يقينا, بطلان قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا، سواء كان ملكا أو نبيا, أو صالحا, صنما, أو غير ذلك، وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة, والذل التام، فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } أي: من أهل الأنداد لأندادهم, لأنهم أخلصوا محبتهم له, وهؤلاء أشركوا بها، ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة, الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه، والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا, ومحبته عين شقاء العبد وفساده, وتشتت أمره. فلهذا توعدهم الله بقوله: { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله, وسعيهم فيما يضرهم. { إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ } أي: يوم القيامة عيانا بأبصارهم، { أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } أي: لعلموا علما جازما, أن القوة والقدرة لله كلها, وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء، فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها, لا كما اشتبه عليهم في الدنيا, وظنوا أن لها من الأمر شيئا, وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه، فخاب ظنهم, وبطل سعيهم, وحق عليهم شدة العذاب, ولم تدفع عنهم أندادهم شيئا, ولم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع، بل يحصل لهم الضرر منها, من حيث ظنوا نفعها. وتبرأ المتبوعون من التابعين, وتقطعت بينهم الوصل, التي كانت في الدنيا, لأنها كانت لغير الله, وعلى غير أمر الله, ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له, فاضمحلت أعمالهم, وتلاشت أحوالهم، وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين, وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها, انقلبت عليهم حسرة وندامة, وأنهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا، فهل بعد هذا الخسران خسران؟ ذلك بأنهم اتبعوا الباطل، فعملوا العمل الباطل ورجوا غير مرجو, وتعلقوا بغير متعلق, فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها، ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من الأمل فيها, فضرتهم غاية الضرر، وهذا بخلاف من تعلق بالله الملك الحق المبين, وأخلص العمل لوجهه, ورجا نفعه، فهذا قد وضع الحق في موضعه, فكانت أعماله حقا, لتعلقها بالحق, ففاز بنتيجة عمله, ووجد جزاءه عند ربه, غير منقطع كما قال تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرأوا من متبوعيهم, بأن يتركوا الشرك بالله, ويقبلوا على إخلاص العمل لله، وهيهات, فات الأمر, وليس الوقت وقت إمهال وإنظار، ومع هذا, فهم كذبة, فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنما هو قول يقولونه, وأماني يتمنونها, حنقا وغيظا على المتبوعين لما تبرأوا منهم والذنب ذنبهم، فرأس المتبوعين على الشر, إبليس, ومع هذا يقول لأتباعه لما قضي الأمر { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ }
Arabic Saddi Tafseer
2:165
قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً} أي أصناماً يعبدونها.{يحبونهم كحب الله} أي يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله، وقال الزجاج: "يحبون الأصنام كما يحبون الله لأنهم أشركوها مع الله فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة".{والذين آمنوا أشد حباً لله} أي أثبت وأدوم على حبه لأنهم لا يختارون على الله ما سواه والمشركون إذا اتخذوا صنماً ثم رأوا أحسن منه طرحوا الأول واختاروا الثاني، قال قتادة: "إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على الله تعالى كما أخبر الله عز وجل عنهم فقال: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} [65-العنكبوت] والمؤمن لا يعرض عن الله في السراء والضراء والشدة والرخاء".قال سعيد بن جبير: "إن الله عز وجل يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه في الدنيا على رؤية الأصنام أن يدخلوا جهنم مع أصنامهم فلا يدخلون لعلمهم أن عذاب جهنم على الدوام، ثم يقول للمؤمنين وهم بين أيدي الكفار: (( إن كنتم أحبائي فادخلوا جهنم )) فيقتحمون فيها فينادي مناد من تحت العرش".{والذين آمنوا أشد حباً لله} وقيل إنما قال {والذين آمنوا أشد حباً لله} لأن الله تعالى أحبهم أولاً ثم أحبوه ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتم، قال الله تعالى:{يحبهم ويحبونه} [54-المائدة].قوله تعالى: {ولو يرى الذين ظلموا} قرأ نافع وابن عامر ويعقوب (ولو ترى) بالتاء وقرأ الآخرون بالياء وجواب لو هاهنا محذوف ومثله كثير في القرآن كقوله تعالى {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به}[الرعد-31] يعني لكان هذا القرآن، فمن قرأ بالتاء: معناه ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم من شدة العذاب لرأيت أمرأً عظيماً، وقيل: معناه قل يا محمد: أيها الظالم لو ترى الذين ظلموا أو أشركوا في شدة العقاب لرأيت أمراً فظيعاً، ومن قرأ بالياء: معناه ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم عند رؤية العذاب أو لو رأوا شدة عذاب الله وعقوبته حين يرون العذاب لعرفوا مضرة الكفر وأن ما اتخذوا من الأصنام لا ينفعهم.قوله تعالى: {إذ يرون} قرأ ابن عامر بضم الياء والباقون بفتحها.{العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب} أي بأن القوة لله جميعاً معناه لرأوا وأيقنوا أن القوة لله جميعاً.وقرأ أبو جعفر ويعقوب (إن القوة) و(إن الله) بكسر الألف على الاستئناف والكلام تام عند قوله {إذ يرون العذاب} مع إضمار الجواب.
Arabic Baghawy Tafseer
2:165
يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة حيث جعلوا له أندادا أي أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه هو الله لا إله إلا هو ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه. وفي الصحيحين عن عبدالله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" وقوله "والذين آمنوا أشد حبا لله" ولحبهم لله وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم له لا يشركون به شيئا بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ويلجئون في جميع أمورهم إليه. ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك فقال "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا" قال بعضهم تقدير الكلام لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا أي أن الحكم له وحده لا شريك له وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه "وأن الله شديد العذاب" كما قال "فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد" يقول لو يعلمون ما يعاينونه هنالك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وترى المتبوعين من التابعين فقال "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا فتقول الملائكة "تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون" ويقولون "سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون" والجن أيضا تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم كما قال تعالى "ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين" وقال تعالى "واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا" وقال الخليل لقومه "إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين" وقال تعالى "ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون" وقال تعالى "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم" وقوله "ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب" أي عاينوا عذاب الله وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلا ولا مصرفا. قال عطاء عن ابن عباس "وتقطعت بهم الأسباب" قال المودة: وكذا قال مجاهد فى رواية ابن أبي نجيح.
ابن كثير
2:166
عند معاينتهم عذاب الآخرة يتبرأ الرؤساء المتبوعون ممن اتبعهم على الشرك، وتنقطع بينهم كل الصلات التي ارتبطوا بها في الدنيا: من القرابة، والاتِّباع، والدين، وغير ذلك.
المیسر
2:166
إذ ظرف وقع بدل اشتمال من ظرف { إذ يرون العذاب } [ البقرة : 165 ] أي لو تراهم في هذين الحالين حال رؤيتهم العذاب وهي حالة فظيعة وتشتمل على حال اتخاذ لهم وتبرىء بعضهم من بعض وهي حالة شنيعة وهما حاصلان في زمن واحد .وجيء بالفعل بعد ( إذ ) هنا ماضياً مع أنه مستقبل في المعنى لأنه إنما يحصل في الآخرة تنبيهاً على تحقق وقوعه فإن درجتَ على أن إذ لا تخرج عن كونها ظرفاً للماضي على رأي جمهور النحاة فهي واقعة موقع التحقيق مثل الفعل الماضي الذي معها فتكون ترشيحاً للتبعية ، وإن درجت على أنها ترد ظرفاً للمستقبل وهو الأصح ونسبه في «التسهيل» إلى بعض النحاة ، وله شواهد كثيرة في القرآن قال تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } [ آل عمران : 152 ] على أن يكون { إذ تحسونهم } هو الموعود به وقال : { فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم } [ غافر : 71 ] فيكون المجاز في فعل { تَبرَّأ } خاصة .والتبرؤ تكلف البراءة وهي التباعد من الأمر الذي من شأن قُرْبه أن يكون مضراً ولذلك يقال تبارآ إذا أبعد كلٌ الآخر من تبعةٍ محققة أو متوقعة .و { الذين اتبعوا } بالبناء إلى المجهول هم الذين ضللوا المشركين ونصبوا لهم الأنصاب مثل عمرو بن لُحَيَ ، فقد أشعر قوله { اتُّبِعُوا } أنهم كانوا يَدْعُون إلى متابعتهم ، وأيدَّ ذلك قوله بعده { فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا } أي نجازيهم على إِخلافهم .ومعنى براءتهم منهم تنصلهم من مواعيد نفعهم في الآخرة الذي وعدوهم في الدنيا والشفاعة فيهم ، وصَرْفُهم عن الالتحاق بهم حين هَرَعُوا إليهم .وجملة { ورأوا العذاب } حاليَّة أي تبرءوا في حال رؤيتهم العذاب ، ومعنى رؤيتهم إياه أنهم رأوا أسبابه وعلموا أنه أُعِد لمن أضلَّ الناسَ فجعلوا يتباعدون من أَتباعهم لئلا يحق عليهم عذاب المضللين ، ويجوز أن تكون رؤية العذاب مجازاً في إحساس التعذيب كالمجاز في قوله : { يمسهم العذاب } [ الأنعام : 49 ] فموقع الحال هنا حسن جداً وهي مغنية عن الاستئناف الذي يقتضيه المقام لأن السامع يتساءل عن موجب هذا التبرؤ فإنه غريب فيقال رأوا العذاب فلما أريد تصويرالحال وتهويل الاستفظاع عدل عن الاستئناف إلى الحال قضاء لحق التهويل واكتفاءً بالحال عن الاستئناف لأن موقعهما متقارب ، ولا تكون معطوفة على جملة { تبرأ } لأن معناها حينئذٍ يصير إعادةً لمعنى جملة : { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب } فتصير مجردَ تأكيد لها ويفوت ما ذكرناه من الخصوصيات .وضمير { رَأوا } ضميرٌ مبهم عائد إلى فريقي الذين اتُّبعوا والذين اتَّبعوا .وجملة { وتقطعت بهم الأسباب } معطوفة على جملة { تبرأ } أي وإذْ تقطعت بهم الأسباب ، والضمير المجرور عائد إلى كلا الفريقين .والتقطع الانقطاع الشديد لأن أصله مطاوع قطَّعهُ بالتشديد مضاعف قَطع بالتخفيف .والأسباب جمع سبب وهو الحَبْل الذي يُمد ليُرتقى عليه في النخلة أو السطح ، وقوله { وتقطعت بهم الأسباب } تمثيلية شبهت هيئتهم عند خيبة أملهم حين لم يجدوا النعيم الذي تعبوا لأجله مدةَ حياتهم وقد جاءَ إبانه في ظنهم فوجدوا عوضه العذاب ، بحال المرتقى إلى النخلة ليجتنى الثمر الذي كد لأجله طول السنة فتقطع به السبب عند ارتقائه فسقط هالكاً ، فكذلك هؤلاء قد علم كلهم حينئذٍ أن لا نجاة لهم فحالهم كحال الساقط من علو لا ترجى له سلامة ، وهي تمثيلية بديعة لأنها الهيئة المشبهة تشتمل على سبْعة أشياء كل واحد منها يصلح لأن يكون مشَّبهاً بواحد من الأشياء التي تشتمل عليها الهيئة المشبه بها وهي : تشبيه المشرك في عبادته الأصنام واتباع دينها بالمرتقى بجامع السعي ، وتشبيه العبادة وقبول الآلهة منه بالحبل الموصل ، وتشبيه النعيم والثواب بالثمرة في أعلى النخلة لأنها لا يصل لها المرء إلا بعد طول وهو مدة العمر ، وتشبيه العمر بالنخلة في الطول ، وتشبيه الحرمان من الموصول للنعيم بتقطع الحبل ، وتشبيه الخيبة بالبعد عن الثمرة ، وتشبيه الوقوع في العذاب بالسقوط المهلك . وقلما تأتي في التمثيلية صلوحية أجزاء التشبيه المركب فيها لأن تكون تشبيهات مستقلة ، والوارد في ذلك يكون في أشياء قليلة كقول بشار الذي يُعد مثالاً في الحُسن: ... كأنَّ مُثار النَّقْع فوقَ رؤسِناوأسيافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَواكِبُهْ ... فليس في البيت أكثر من تشبيهات ثلاثة .فالباء في ( بهم ) للملابسة أي تقطعت الأسباب ملتبسة بهم أي فسقطوا ، وهذا المعنى هو محل التشبيه لأن الحبل لو تقطع غير ملابس للمرتقى عليه لما كان في ذلك ضر إذ يمسك بالنخلة ويتطلب سبباً آخر ينزل فيه ، ولذلك لم يقل وتقطعت أسبابُهم أو نحوه ، فمن قال إن الباء بمعنى عَن أو للسببية أو التعدية فقد بَعد عن البلاغة ، وبهذه الباء تقوَّم معنى التمثيلية بالصاعد إلى النخلة بحبل وهذا المعنى فائت في قول امرىء القيس: ... تقطَّعَ أسبابُ اللُّبانة والهَوىعَشِيَّةَ جاوَزْنا حَمَاةَ وشَيْزَرَا ...
Arabic Tanweer Tafseer
2:166
وقوله - تعالى - : ( إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا . . . ) بدل من قوله : ( إِذْ يَرَوْنَ العذاب ) . أو مفعولا به بتقدير اذكر .و ( تَبَرَّأَ ) من التبرؤ وهو التخلص والتنصل والتباعد ، ومنه برئت من الدين أي : تخلصت منه ، وبرأ المريض من مرضه ، أي : تخلص من مرضه .والمراد بالذين اتبعوا : أئمة الكفر الذين يحلون ويحرمون ما لم يأذن به الله .والمراد بالذين اتبعوا : أتباعهم وأشياعهم الذين يتلقون جميع أقوالهم بالطاعة والخوضع بدون تدبر أو تعقل .وجملة ( وَرَأَوُاْ العذاب ) حال من الأتباع والمتبوعين ، والضمير يعود على الفريقين : أي : تبرؤا جميعاً من بعض في حال رؤيتهم للعذاب .وجملة ( وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب ) معطوفة على تبرأ ، أورأوا .والباء في ( بِهِمُ ) للسبيبة أي : وتقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون من ورائها النجاة ، وقيل للملابسة أي : تقطعت الأسباب ملتبسة بهم فخابت آمالهم وسقطوا صرعى .و ( الأسباب ) جمع سبب ، وهو في الأصل الحبل الذي يرتقى به الشجر ونحوه ، ثم سمى به كل ما يتوصل به إلى غيره ، عيناً كان أو معنى . فيقال للطريق سبب ، لأنك بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تربده ، ويقال للمودة سبب لأنك تتواصل بها إلى غيرك ، والمراد بالأسباب هنا : الوشانج والصلات التي كانت بين الأتباع والمتبوعين في الدنيا ، من القرابات والمودات والأحلاف والاتفاق في الدين . . . إلخ .والمعنى : واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ يوم القيامة ، ذلك اليوم الهائل الشديد الذي يتنصل فيه الرؤساء من مرءوسيهم ، والاتباع من متبوعيهم حال رؤيتهم جميعاً للعذاب وأسبابه ومقدماته وما أعدلهم من شقاء وآلام ، وقد ترتب على كل ذلك أن تقطع ما بين الرؤساء والأذناب من روابط كانوا يتواصلون بها في الدنيا ، وصار كل فريق منهم يلعن الآخر ويتبرؤ منه .قال بعض العلماء : وفي قوله : ( وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب ) استعارة تمثيلية إذ شبهت هيئتهم عند خيبة أملهم حين لم يجدوا النعيم الذي تعبوا لأجله مدة حياتهم وقد جاء إبانه في ظنهم فوجدوا عوضه العذاب ، بحال المرتقى إلى النخلة ليجتني الثمر الذي كد لأجله طول السنة فتقطع به السبب - أي الحبل - عند ارتقائه فسقط هالكا ، فكذلك هؤلاء قد علموا جميعاً حينئذ أن لانجاة لهم ، فحالهم كحال الساقط من علو لا ترجى له سلامة . وهي تمثيلية بديعة تشتمل على سبعة أشياء كل واحد منهما يصلح لأن يكون مشبها بواحد من الأشياء التي تشتمل عليها الهيئة المشبهة بها وهي :تشبيه المشرك في عبادته الأصنام بالمرتقى بجامع السعي ، وتشبيه العبادة وقبول الآلهة منه بالحبل الموصل ، وتشبيه النعيم والثواب بالثمرة في أعلى النخلة لأنها لا يصل إليها المرء إلا بعد طول وهو مدة العمر ، وتشبيه العمر بالنخلة في الطول ، وتشبيه الحرمان من الوصول للنعيم بتقطع الحبل ، وتشبيه الخيبة بالبعد عن الثمرة ، وتشبيه الوقوع في العذاب بالسقوط المهلك . . . "
Arabic Waseet Tafseer
2:166
القول في تأويل قوله تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " إذْ تبرَأ الذين اتُّبعوا منَ الذين اتبعوا ورَأوا العذاب "، إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعواهم. (39)* * *ثم اختلف أهل التأويل في الذين عَنى الله تعالى ذكره بقوله: " إذ تَبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا "، فقال بعضهم بما:-2413- حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " إذ تبرأ الذين اتُّبعوا "، وهم الجبابرة والقادةُ والرؤوس في الشرك," من الذين اتَّبعوا "، وهم الأتباع الضعفاء," ورأوا العذاب ".2414- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا " قال، تبرأت القادةُ من الأتباع يوم القيامة.2415- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، ابن جريج: قلت لعطاء: " إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا " قال، تبرأ رؤساؤهم وقادَتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم.* * *وقال آخرون بما:-2416- حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " إذ تبرأ الذين اتُّبعُوا من الذين اتُّبعوا "، أما " الذين اتُّبعوا "، فهم الشياطين تبرأوا من الإنس.* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ المتَّبَعين على الشرك بالله يتبرأون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله. ولم يخصص بذلك منهم بعضًا دون بعض, بل عَمّ جميعهم. فداخلٌ في ذلك كل متبوع على الكفر بالله والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتَّبعونه على الضلال في الدنيا، إذا عاينوا عَذابَ الله في الآخرة.* * *وأما دِلالة الآية فيمن عنى بقوله: " إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتَّبعوا "، فإنها إنما تدل على أنّ الأنداد الذين اتخذهم مِن دون الله مَنْ وَصَف تعالى ذكره صفتَه بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، هم الذين يتبرأون من أتباعهم.وإذ كانت الآيةُ على ذلك دَالّةً، صحّ التأويل الذي تأوله السدي في قوله: (40) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، أن " الأنداد " في هذا الموضع، إنما أريد بها الأندادُ من الرجال الذين يُطيعونهم فيما أمرُوهم به من أمر, ويَعصُون الله في طاعتهم إياهم, كما يُطيع اللهَ المؤمنون ويَعصون غيره = وفسد تأويل قول من قال: (41) " إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا "، إنهم الشياطين تَبرءوا من أوليائهم من الإنس. لأن هذه الآية إنما هي في سياق الخبر عن مُتخذي الأنداد.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله شديد العذاب، إذ تبرأ الذين اتبعوا, وإذ تَقطعت بهم الأسباب.* * *ثم اختلف أهل التأويل في معنى " الأسباب ". فقال بعضهم بما:-2417- حدثني به يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض -وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير,- عن عبيد المكتب, عن مجاهد: " وتَقطعت بهمُ الأسباب " قال، الوصال الذي كان بينهم في الدنيا. (42)2418- حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن عبيد المكتب, عن مجاهد: " وتقطَّعت بهم الأسباب " قال، تواصلهم في الدنيا. (43)2419 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن -وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد - جميعًا قالا حدثنا سفيان, عن عبيد المكتب, عن مجاهد بمثله.2420- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نحيح, عن مجاهد: " وتقطعت بهم الأسباب " قال، المودّة.2421- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.2422- حدثني القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: تواصلٌ كان بينهم بالمودة في الدنيا.2423- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى قال، أخبرني قيس بن سعد, عن عطاء, عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره: " وتقطّعت بهم الأسباب " قال، المودة.2424- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " وتقطعت بهم الأسباب "، أسبابُ الندامة يوم القيامة, وأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها، ويتحابُّون بها, فصارت عليهم عداوةً يوم القيامة، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ويتبرأ بعضُكم من بعض. وقال الله تعالى ذكره: الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ [سورة الزخرف: 67]، فصارت كل خُلَّة عداوة على أهلها إلا خُلة المتقين.2425- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " وتقطعت بهم الأسباب " قال، هو الوصْل الذي كان بينهم في الدنيا.2426- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " وتقطعت بهم الأسباب "، يقول: الأسبابُ، الندامة.* * *وقال بعضهم: بل معنى " الأسباب "، المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا.* ذكر من قال ذلك:2427- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: " وتقطعت بهم الأسباب "، يقول: تقطّعت بهم المنازلُ.2428- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس: " وتقطعت بهم الأسباب " قال، الأسباب المنازل.* * *وقال آخرون: " الأسباب "، الأرحام.* ذكر من قال ذلك:2429- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, وقال ابن عباس: " وتقطعت بهم الأسباب " قال، الأرحام.* * *وقال آخرون : " الأسباب "، الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا.* ذكر من قال ذلك:2430- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أمّا " وتقطعت بهم الأسباب "، فالأعمال.2431- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وتقطعت بهم الأسباب " قال، أسباب أعمالهم, فأهل التقوى أعطوا أسبابَ أعمالهم وَثيقةً، فيأخذون بها فينجُون, والآخرون أعطوا أسبابَ أعمالهم الخبيثة، فتقطَّعُ بهم فيذهبون في النار.* * *قال أبو جعفر: (44) " والأسباب "، الشيء يُتعلَّقُ به. قال: و " السبب " الحبل." والأسباب " جمع " سَبب ", وهو كل ما تسبب به الرجل إلى طَلبِته وحاجته. فيقال للحبل " سبب "، لأنه يُتسبب بالتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا بالتعلق به. ويقال للطريق " سبب "، للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه. وللمصاهرة " سبب "، لأنها سَببٌ للحرمة. وللوسيلة " سَبب "، للوصول بها إلى الحاجة, وكذلك كل ما كان به إدراك الطلبة، فهو " سبب " لإدراكها.فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول في تأويل قوله: " وتقطعت بهم الأسباب " أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أن الذين ظلموا أنفسهم -من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفار- يتبرأ = عند معاينتهم عذابَ الله = المتبوعُ من التابع, وتتقطع بهم الأسباب.وقد أخبر تعالى ذكره في كتابه أن بَعضهم يلعنُ بعضًا, وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأوليائه: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [سورة إبراهيم: 22]، وأخبر تعالى ذكره أنّ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين, وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضًا, فقال تعالى ذكره: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ [سورة الصافات:24-25] وأنّ الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه, وإن كان نسيبه لله وليًّا, فقال تعالى ذكره في ذلك: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [سورة التوبة: 114] وأخبر تعالى ذكره أنّ أعمالهم تَصيرُ عليهم حسرات.وكل هذه المعاني أسباب يتسبب في الدنيا بها إلى مطالب, فقطع الله منافعها في الآخرة عن الكافرين به، لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه، فهي منقطعة بأهلها. فلا خِلالُ بعضهم بعضًا نَفعهم عند ورُودهم على ربهم، (45)ولا عبادتُهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم؛ ولا دافعت عنهم أرحامٌ فنصرتهم من انتقام الله منهم, ولا أغنت عنهم أعمالهم، بل صارت عليهم حسرات. فكل أسباب الكفار منقطعة.فلا مَعْنِىَّ أبلغُ -في تأويل قوله: " وتقطعت بهم الأسباب "- من صفة الله [ذلك] وذلك ما بيَّنا من [تقطّع] جَميع أسبابهم دون بَعضها، (46) على ما قلنا في ذلك. ومن ادعى أن المعنيَّ بذلك خاص من الأسباب، سُئل عن البيان على دعواه من أصلٍ لا منازع فيه, وعورض بقول مخالفه فيه. فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.-------------------الهوامش :(39) في المطبوعة : "من الذين اتبعوا" مرة أخرى ، والصواب"اتبعوهم" كما أثبت ، وإلا لم يكن ذلك إلا تكرارًا بلا معنى .(40) انظر الأثر رقم : 2411 .(41) قوله : "وفسد" معطوف على قوله : "صح" .(42) الخبر : 2417- فضيل بن عياض بن مسعود التميمي الزاهد الخراساني : ثقة ، قال ابن سعد : "كان ثقة ثبتًا فاضلا عابدًا ورعًا كثير الحديث" . مات في أول المحرم سنة 187 بمكة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/123 ، والصغير : 209 ، وابن سعد 5 : 366 ، وابن أبي حاتم 3/2/73 .وهذا الخبر يرويه أبو جعفر بإسنادين : من طريقي الفضيل بن عياض ، ثم من طريقي جرير ، وهو ابن عبد الحميد الضبي - كلاهما عن عبيد المكتب . ثم سيرويه عقب ذلك ، بإسنادين آخرين : 2418 ، 2419 ، من رواية سفيان ، وهو الثوري ، عن عبيد المكتب .و"عبيد المكتب" ، بضم الميم وسكون الكاف وكسر التاء المثناة ، من"الإكتاب" ، أي تعليم الكتابة : هو عبيد بن مهران الكوفي ، وهو ثقة ، أخرج له مسلم في صحيحه . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 6 : 237 ، وابن أبي حاتم 3/1/2 .(43) الخبر : 2418- إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، شيخ الطبري : ثقة مأمون . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1/1/211 ، وتاريخ بغداد 6 : 370 .(44) من أول هذه الفقرة ، كلام أبي جعفر ، وأخشى أن يكون سقط شيء قبله . وهذا الابتداء على كل حال ، جار على غير النهج الذي سار عليه كتابه من قبل ومن بعد .(45) في المطبوعة : "ينفعهم" ، والصواب ما أثبت ، فالأفعال قبله وبعده كلها ماضية . والخلال مصدر خاله (بشديد اللام) يخاله مخالة وخلالا : وهي الصداقة والمودة ، يقول امرؤ القيس :صَـرَفتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدَىفَلَسْــتُ بِمَقْـلِيِّ الخِـلالِ وَلاَ قَـالي(46) الزيادة التي بين الأقواس ، لا بد منها حتى يستقم صدر الكلام وآخره ، في الجملة التالية . ويعني بقوله"صفة الله" : ما وصف الله سبحانه من تقطع أسباب الكافرين يوم القيامة ، كالذي عدده آنفًا في الفقرة السالفة .
الطبري
2:166
قوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسبابقوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا يعني السادة والرؤساء تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر . عن قتادة وعطاء والربيع . وقال قتادة أيضا والسدي : هم الشياطين المضلون تبرءوا من الإنس . وقيل : هو عام في كل متبوع . ورأوا العذاب يعني التابعين والمتبوعين ، قيل : بتيقنهم له عند المعاينة في الدنيا . وقيل : عند العرض والمساءلة في الآخرة .قلت : كلاهما حاصل ، فهم يعاينون عند الموت ما يصيرون إليه من الهوان ، وفي الآخرة يذوقون أليم العذاب والنكال .[ ص: 194 ] قوله تعالى : وتقطعت بهم الأسباب أي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره ، عن مجاهد وغيره . الواحد سبب ووصلة . وأصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه ، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا . وقال السدي وابن زيد : إن الأسباب أعمالهم . والسبب الناحية ، ومنه قول زهير :ومن هاب أسباب المنايا ينلنه وإن يرق أسباب السماء بسلم
Arabic Qurtubi Tafseer
2:166
وتبرأ المتبوعون من التابعين, وتقطعت بينهم الوصل, التي كانت في الدنيا, لأنها كانت لغير الله, وعلى غير أمر الله, ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له, فاضمحلت أعمالهم, وتلاشت أحوالهم، وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين, وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها, انقلبت عليهم حسرة وندامة, وأنهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا، فهل بعد هذا الخسران خسران؟ ذلك بأنهم اتبعوا الباطل، فعملوا العمل الباطل ورجوا غير مرجو, وتعلقوا بغير متعلق, فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها، ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من الأمل فيها, فضرتهم غاية الضرر، وهذا بخلاف من تعلق بالله الملك الحق المبين, وأخلص العمل لوجهه, ورجا نفعه، فهذا قد وضع الحق في موضعه, فكانت أعماله حقا, لتعلقها بالحق, ففاز بنتيجة عمله, ووجد جزاءه عند ربه, غير منقطع كما قال تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ }
Arabic Saddi Tafseer
2:166
{إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب} هذا في يوم القيامة حين يجمع الله القادة والأتباع فيتبرأ بعضهم من بعض، هذا قول أكثر المفسرين، وقال السدي: "هم الشياطين يتبرأون من الإنس".{وتقطعت بهم} أي عنهم.{الأسباب} أي الوصلات التي كانت بينهم في الدنيا من القرابات والصداقات وصارت مخالتهم عداوة، وقال ابن جريج: "الأرحام كما قال الله تعالى:{فلا أنساب بينهم يومئذ} [101-المؤمنون]"، وقال السدي: "يعني الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا كما قال الله تعالى {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} [23-الفرقان]".وأصل السبب ما يوصل به إلى الشيء من ذريعة أو قرابة أو مودة ومنه يقال للحبل سبب وللطريق سبب.
Arabic Baghawy Tafseer
2:166
الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار وقوله "وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا" أي لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم فلا نلتفت إليهم بل نوحد الله وحده بالعبادة: وهم كاذبون في هذا بل لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك ولهذا قال "كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم" أي تذهب وتضمحل كما قال تعالى "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا" وقال تعالى "مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف" الآية. وقال تعالى "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء" الآية ولهذا قال تعالى "وما هم بخارجين من النار".
ابن كثير
2:167
وقال التابعون: يا ليت لنا عودة إلى الدنيا، فنعلن براءتنا من هؤلاء الرؤساء، كما أعلنوا براءتهم مِنَّا. وكما أراهم الله شدة عذابه يوم القيامة يريهم أعمالهم الباطلة ندامات عليهم، وليسوا بخارجين من النار أبدًا.
المیسر
2:167
وقوله : { وقال الذين اتبعوا } أظهر في مقام الإضمار لأن ضميري الغيبة اللذيْن قبله عائدان إلى مجموع الفريقين ، على أن في صلة { الذين اتبعوا } تنبيهاً على إغاظة المتبوعين وإثارة حسرتهم وذلك عذاب نفساني يضاعِفُ العذاب الجثماني وقد نبه عليه قوله : { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } .و ( لو ) في قوله : { لو أن لنا كرة } مستعملة في التمني وهو استعمال كثير لحرف ( لو ) وأصلها الشرطية حُذف شرطها وجوابُها واستعيرت للتمني بعلاقة اللزوم لأن الشيء العسير المَنال يكثر تمنيه ، وسَدَّ المصدر مسد الشرط والجواب ، وتقدير الكلام لو ثبتت لنا كرة لتبرأنا منهم وانتصب ما كان جواباً على أنه جواب التمني وشاع هذا الاستعمال حتى صار من معاني لو وهو استعمال شائع وأصله مجاز مرسل مركب وهو في الآية مرشح بنصب الجواب .والكَرَّة الرَّجعة إلى محل كان فيه الراجع وهي مرة من الكر ولذلك تطلق في القرآن على الرجوع إلى الدنيا لأنه رجوع لمكان سابق ، وحذف متعلِّق ( الكرة ) هنا لظهوره .والكاف في كما تبرءوا للتشبيه استعملت في المجازاة لأن شأن الجزاء أن يماثل الفعل المجازي قال تعالى : { وجزاؤا سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] ، وهذه الكاف قريبة من كاف التعليل أو هي أصلها وأحسن ما يظهر فيه معنى المجازاة في غير القرآن قول أبي كبير الهذلي: ... أهُزُّ بهِ في ندوة الحي عطفهكما هَزَّ عِطفي بالهِجان الأوارك ... ويمكن الفرق بين هذه الكاف وبين كاف التعليل أن المذكور بعدها إن كان من نوع المشبه كما في الآية وبيت أبي كبير جُعلت للمجازاة ، وإن كان من غير نوعه وما بعد الكاف باعثٌ على المشبه كانت للتعليل كما في قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] .والمعنى أنهم تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا بعدما علموا الحقيقة وانكشف لهم سوء صنيعهم فيدعوهم الرؤساء إلى دينهم فلا يجيبونهم ليَشفوا غيظهم من رؤسائهم الذين خذلوهم ولتحصل للرؤساء خيبة وانكسار كما خيبوهم في الآخرة .فإن قلت هم إذا رجعوا رجعوا جميعاً عالمين بالحق فلا يدعوهم الرؤساء إلى عبادة الأوثان حتى يمتنعوا من إجابتهم ، قلتُ باب التمني واسع فالأتباع تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا عالمين بالحق ويعود المتبوعون في ضلالهم السابق وقد يقال اتهم الأتباع متبوعيهم بأنهم أضلوهم على بصيرة لعلمهم غالباً والأتباع مغرورون لجهلهم فهم إذا رجعوا جميعاً إلى الدنيا رجع المتبوعون على ما كانوا عليه من التضليل على علم بناء على أن ما رأوه يوم القيامة لم يزعهم لأنهم كانوا من قبل موقنين بالمصير إليه ورجع الأتباع عالمين بمكر المتبوعين فلا يطيعونهم .وجملة { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } تذييل وفذلكة لقصة تبَري المتبوعين من أتباعهم .والإشارة في قوله : { كذلك يريهم الله } للإراءة المأخوذة من { يريهم } على أسلوب { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } [ البقرة : 143 ] .والمعنى أن الله يريهم عواقب أعمالهم إراءً مثل هذا الإراءِ إذ لا يكون إراءٌ لأعمالهم أوقعَ منه فهو تشبيه الشيء بنفسه باختلاف الاعتبار كأنه يُرام أن يريهم أعمالهم في كيفية شنيعة فلم يوجد أشنعُ من هذه الحالة ، وهذا مثل الإخبار عن المبتدأ بلفظه في نحو شِعْرِي شِعْرى ، أو بمرادفه نحو والسفاهة كاسمها ، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } .والإراءة هنا بصرية ولذلك فقوله : { حسرات عليهم } حال من { أعمالهم } ومعنى { يريهم الله أعمالهم } يريهم ما هو عواقب أعمالهم لأن الأعمال لا تدرك بالبصر لأنها انقضت فلا يحسُّون بها .والحسرة حزن في ندامة وتلهف وفعله كفرِح واشتقاقها من الحَسْر وهو الكشف لأن الكشف عن الواقع هو سبب الندامة على ما فات من عدم الحيطة له .وقوله : { وما هم بخارجين نت النار } حال أو اعتراض في آخر الكلام لقصد التذييل لمضمون { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } لأنهم إذا كانوا لا يخرجون من النار تعيَّن أن تمنيهم الرجوع إلى الدنيا وحدوثَ الخيبة لهم من صنع رؤسائهم لا فائدة فيه إلاّ إدخالُ ألم الحسرات عليهم وإلاّ فهم باقون في النار على كل حال .وعُدل عن الجملة الفعلية بأن يقال «وما يخرجون» إلى الاسمية للدلالة على أن هذا الحكم ثابت أنه من صفاتهم ، وليس لتقديم المسند إليه هنا نكتة ، إلاّ أنه الأصل في التعبير بالجملة الإسمية في مثل هذا إذ لا تتأتَّى بسوى هذا التقديم ، فليس في التقديم دلالة على اختصاص لما علمت ولأن التقديم على المسند المشتق لا يفيد الاختصاص عند جمهور أئمة المعاني ، بل الاختصاص مفروض في تقديمه على المسند الفعلي خاصة ، ولأجل ذلك صرح صاحب «الكشاف» تبعاً للشيخ عبد القاهر بأن موقع الضمير هنا كموقعه في قول المعذَّل البكري: ... هْم يَفْرِشُون اللِّبْد كُلَّ طِمِرَّةٍوأجرَدَ سَبَّاققٍ يَبُذ المُغَالِيا ... في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص اه .وادعى صاحب «المفتاح» أن تقديم المستند إليه على المسند المشتق قد يفيد الاختصاص كقوله تعالى : { وما عابنا لعزيز } [ هود : 91 ] { وما بطارد الذين أمنوا } [ هود : 29 ] { وما أنت عليهم بوكيل } [ الأنعام : 107 ] فالوجه أن تقديم المسند إليه على المسند المشتق لا يفيد بذاته التخصيص وقد يستفاد من بعض مواقعه مَعنى التخصيص بالقرائن ، وليس في قوله تعالى : { وما هم بخارجين من النار } . ما يفيد التخصيص ولا يدعو إليه .
Arabic Tanweer Tafseer
2:167
ثم بين - سبحانه - ما قاله الأتباع على سبيل الحسرة والندم فقال : ( وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا ) .الكرة : الرجعة والعودة . يقال : كر يكر كراً : أي : رجع . و ( لو ) للتمني . وقوله : ( فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ) منصوب بعد الفاء بأن مضمرة في جواب التمني الذي أشربته لو ، والكاف في قوله ( كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا ) في محل نصب نعت لمصدر محذوف أي تبرأ مثل تبرئهم .والمعنى : وقال الذين كانوا تابعين لغيرهم في الباطل بدون تعقل أو تدبر ليت لنا رجعة إلى الحياة الدنيا فنتبرأ من هؤلاء الذين اتبعناهم وأضلونا السبيل كما تبرءوا منا في هذا اليوم العصيب ، ولنشفي غيظنا منهم لأنهم خذلونا وأوردونا موارد التهلكة والعذاب الأليم .وقوله - تعالى - : ( كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ) تذبيل لتأكيد الوعيد ، وبيان لحال المشركين في الآخرة .قال الآلوسي : وقوله : ( كَذَلِكَ ) في موضع المفعول المطلق لما بعده ، والمشار إليه الإِراء المفهوم من قوله : ( إِذْ يَرَوْنَ ) أي : كإراء العذاب المتلبس بظهور أن القوة لله والتبري وتقطع الأسباب وتمنى الرجعة ، يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم . وجوز أن يكون المشار إليه المصدر المفهوم مما بعد والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإِشارة من الضخامة . أي : مثل ذلك الإِراء الفظيع يريهم على حد ما قيل في قوله - تعالى - : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) والمراد بأعمالهم : المعاصي التي ارتكبوها وفي مقدمتها اتباعهم لمن أضلوهم .و ( حَسَرَاتٍ ) جمع حسرة ، وهي أشد درجات الندم والغم على ما فات . يقال : حسر يحسر حسراً فهو حسير ، إذا اشتدت ندامته على أمر فاته .قال الرازي : وأصل الحسر الكشف . يقال حسر ذراعيه أي : كشف والحسرة انكشاف عن حال الندامة . والحسور الإِعياء لأنه انكشاف الحال عما أوجبه طول السفر . قال - تعالى - :( وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ) بينهم ، يريهم - سبحانه - أعمالهم السيئة يوم القيامة فتكون حسرات تتردد في صدورهم كأنها شرر الجحيم .ثم ختم - سبحانه - الآية ببيان عاقبة أمرهم فقال : ( وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار ) .أي : وما هم بخارجين من تلك النار التي عوقبوا بها بسبب شركهم ، بل هم مستقرون فيها استقراراً أبدياً ، وقد جاءت الجملة اسمية لتأكيد نفي خروجهم من النار ، وبيان أنهم مخلدون فيها كما قال - تعالى - في آية أخرى : ( كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا ) وهكذا يسوق لنا القرآن ما يدور بين التابعين والمتبوعين يوم القيامة من تنصل وتحسر وتخاصم بتلك الطريقة المؤثرة ، حتى لكأنك أمام مشهد مجسم ، ترى فيه الصور الشاخصة حاضرة . وذلك لون من ألوان بلاغه القرآن في عرضه للحقائق ، حتى تأخذ سبيلها إلى النفوس الكريمة ، وتؤتى ثمارها الطيبة في القلوب السليمة .
Arabic Waseet Tafseer
2:167
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّاقال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: " وقَال الذين اتَّبعوا "، وقال أتباع الرجال -الذين كانوا اتخذوهم أندادًا من دون الله يطيعونهم في معصية الله, ويَعصُون ربَّهم في طاعتهم, إذ يرون عَذابَ الله في الآخرة-: " لو أن لنا كرة ".* * *يعني" بالكرة "، الرجعةَ إلى الدنيا, من قول القائل: " كررَت على القوم أكُرَّ كرًّا ", و " الكرَّة " المرة الواحدة, وذلك إذا حمل عليهم راجعًا عليهم بعد الانصراف عنهم، كما قال الأخطل:وَلَقَـدْ عَطَفْـنَ عَـلَى فَـزَارَةَ عَطْفَـةًكَـرَّ الْمَنِيـحِ, وَجُـلْنَ ثَــمَّ مَجَــالا (47)وكما:-2432- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا "، أي: لنا رجعةً إلى الدنيا.2433- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " وقال الذين اتبعوا لو أنّ لنا كرة " قال، قالت الأتباع: لو أن لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا.* * *وقوله: " فنتبرأ منهم " منصوبٌ، لأنه جواب للتمني ب " الفاء ". لأن القوم تمنوا رجعةً إلى الدنيا ليتبرأوا من الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله، كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا في الدنيا، المتبوعون فيها على الكفر بالله، إذْ عاينوا عَظيم النازل بهم من عذاب الله، (48) فقالوا: يا ليت لنا كرّة إلى الدنيا فنتبرأ منهم, و يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام: 27]* * *القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْقال أبو جعفر: ومعنى قوله: " كذلك يُريهمُ الله أعمالهم "، يقول: كما أراهم العذابَ الذي ذكره في قوله: وَرَأَوُا الْعَذَابَ ، الذي كانوا يكذبون به في الدنيا, فكذلك يُريهم أيضًا أعمالهم الخبيثة التي استحقوا بها العقوبة من الله " حسرات عليهم " يعني: نَدامات.* * *" والحسرات " جَمع " حَسْرة ". وكذلك كل اسم كان واحده على " فَعْلة " مفتوح الأول ساكن الثاني, فإن جمعه على " فَعَلات " مثل " شَهوة وتَمرة " تجمع " شَهوات وتَمرات " مثقَّلة الثواني من حروفها. فأما إذا كان نَعتًا فإنك تَدع ثانيَه ساكنًا مثل " ضخمة "، تجمعها " ضخْمات " و " عَبْلة " تجمعها " عَبْلات ", وربما سُكّن الثاني في الأسماء، كما قال الشاعر: (49)عَــلَّ صُـرُوفَ الدَّهْـرِ أوْ دُولاتِهَـايُدِلْنَنَـــا اللَّمَّــة مِــنْ لَمَّاتِهَــافَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِهَا (50)فسكنّ الثاني من " الزفرات "، وهي اسم. وقيل: إن " الحسرة " أشد الندامة.* * *فإن قال لنا قائل: فكيف يَرَون أعمالهم حَسرات عليهم, وإنما يتندم المتندم عَلى تَرْك الخيرات وفوتها إياه؟ وقد علمت أنّ الكفار لم يكن لهم من الأعمال ما يتندّمون على تركهم الازديادَ منه, فيريهم الله قليلَه! (51) بل كانت أعمالهم كلها معاصيَ لله, ولا حسرةَ عليهم في ذلك, وإنما الحسرة فيما لم يَعملوا من طاعة الله؟قيل: إن أهل التأويل في تأويل ذلك مختلفون, فنذكر في ذلك ما قالوا, ثم نخبر بالذي هو أولى بتأويله إن شاء الله.فقال بعضهم: معنى ذلك: كذلك يريهم الله أعمالهم التي فرضها عليهم في الدنيا فضيَّعوها ولم يعملوا بها، حتى استوجب =ما كان الله أعدَّ لهم، لو كانوا عملوا بها في حياتهم، من المساكن والنِّعم= غيرُهمْ بطاعته ربَّه. (52) فصار ما فاتهم من الثواب -الذي كان الله أعدَّه لهم عنده لو كانوا أطاعوه في الدنيا، إذ عاينوه (53) عند دخول النار أو قبل ذلك- أسًى وندامةً وحسرةً عليهم.* ذكر من قال ذلك:2434- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " كذلك يُريهم الله أعمالهم حَسرات عليهم "، زعم أنه يرفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها، لو أنهم أطاعوا الله, فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تُقسَّم بين المؤمنين, فيرثونهم. فذلك حين يندمون.2435- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل قال، حدثنا أبو الزعراء, عن عبد الله -في قصة ذكرها- فقال: فليس نَفْسٌ إلا وهي تنظر إلى بَيتٍ في الجنة وبَيتٍ في النار, وهو يومُ الحسرة. قال: فيرى أهلُ النار الذين في الجنة, فيقال لهم: لو عَملتم! فتأخذهم الحسرة. قال: فيرى أهلُ الجنة البيتَ الذي في النار, فيقال: لولا أن منَّ الله عليكم! (54)* * *فإن قال قائل: وكيف يكون مضافًا إليهم من العمل ما لم يَعملوه على هذا التأويل؟قيل: كما يُعرض على الرجل العملُ فيقال [له] قبل أن يعمله: (55) هذا عملك. يعني: هذا الذي يجب عليك أن تَعمله, كما يقال للرجل يَحضُر غَداؤه قبل أن يَتغدى به: (56) هذا غَداؤك اليوم. يعني به: هذا ما تَتغدى به اليوم. فكذلك قوله: " كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم "، يعني: كذلك يُريهم الله أعمالهم التي كان لازمًا لهم العمل بها في الدنيا، حسرات عليهم.* * *وقال آخرون: كذلك يُريهم الله أعمالهم السيئة حسرات عليهم، لم عَملوها؟ وهلا عملوا بغيرها مما يُرضي الله تعالى ذكره؟* ذكر من قال ذلك:2436- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم "، فصَارت أعمالهم الخبيثة حَسرةً عليهم يوم القيامة.2437- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " أعمالهم حسرات عليهم " قال، أوليس أعمالهم الخبيثةُ التي أدخلهم الله بها النار؟ [فجعلها] حسرات عليهم. (57) قال: وجعل أعمالَ أهل الجنة لهم, وقرأ قول الله: بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [سورة الحاقة: 24]* * *قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: معنى قوله: " كذلك يُريهم الله أعمالهمْ حَسرات عليهم "، كذلك يُرِي الله الكافرين أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم، لم عملوا بها؟ وهلا عملوا بغيرها؟ فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة، إذ رأوا جزاءها من الله وعقابها، (58) لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندمًا عليهم.فالذي هو أولى بتأويل الآية، ما دلّ عليه الظاهرُ دون ما احتمله الباطن الذي لا دلالة له على أنه المعنيُّ بها. (59) والذي قال السدي في ذلك، وإن كان مَذهبًا تحتمله الآية, فإنه مَنـزع بعيد. ولا أثر -بأنّ ذلك كما ذكر- تقوم به حُجة فيسلم لها، (60) ولا دلالة في ظاهر الآية أنه المراد بها. فإذْ كان الأمر كذلك، لم يُحَلْ ظاهر التنـزيل إلى باطن تأويل. (61)* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وما هؤلاء الذين وصَفتهم من الكفار =وإنْ نَدموا بعد معاينتهم مَا عاينوا من عذاب الله, فاشتدت ندامتهم على ما سلف منهم من أعمالهم الخبيثة, وتمنَّوا إلى الدنيا كرةً ليُنيبوا فيها, ويتبرأوا من مُضليهم وسادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله فيها = بخارجين من النار التي أصلاهُموها الله بكفرهم به في الدنيا, ولا ندمُهم فيها بمنجيهم من عذاب الله حينئذ, ولكنهم فيها مخلدون.* * *وفي هذه الآية الدلالةُ على تكذيب الله الزاعمين أن عَذابَ الله أهلَ النار من أهل الكفر مُنقضٍ, وأنه إلى نهاية, ثم هو بعدَ ذلك فانٍ. لأن الله تعالى ذكره أخبرَ عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية, ثم ختم الخبر عنهم بأنهم غيرُ خارجين من النار، بغير استثناء منه وَقتًا دون وقت. فذلك إلى غير حدّ ولا نهاية.-------------------الهوامش :(47) ديوانه 48 ، ونقائض جرير والأخطل : 79 . وفي المطبوعة : "كر المشيح" ، وهو خطأ وفي الديوان"على قدارة" ، وهو خطأ . وفزارة بن ذبيان بن بغيض . والمنيح : قدح لاحظ له في الميسر ، وأقداح الميسر سبعة دوات أنصباء ، وأربعة لا نصيب لها مع السبعة ، ولكنها تعاد معها في كل ضربة . وقوله : "عطفن" يعني الخيل ، ذكرها في بيت قبله . وقد مضى من هذه القصيدة أبيات في 2 : 38 ، 39 ، 492 ، 496 .(48) في المطبوعة : "إذا عاينوا" ، وهو خطأ .(49) لم أعرف قائله .(50) سيأتي في التفسير 24 : 43 / 30 : 34 (بولاق) بزيادة بيت . والعيني 4 : 396 واللسان (لمم) (زفر) (علل) وغيرها . والدولة (بفتح فسكون) والدولة (بضم الدال) : العقبة في المال والحرب وغيرهما ، وهو الانتقال من حال إلى حال ، هذا مرة وهذا مرة . ودالت الأيام : دارت بأصحابها . ويروي : "تديلنا" وأداله : جعل له العقبة في الأمر الذي يطلبه أو يتمناه ، بتغيره وانتقاله عنه إلى حال أخرى . واللمة : النازلة من نوازل الدهر ، كالملمة . والبيت الرابع الذي زاده الطبري :وَتَنْقَـــعُ الغُلّــة مــن غُلاّتِهــاوالغلة : شدة العطش وحرارته . ونقع الغلة : سكنها وأطفأها وأذهب ظمأها .(51) قوله : "فيريهم الله قليله" ، يعني به : فيريهم الله أنه قليل ، فيتمنون أن لو كانوا ازدادوا من فعله حتى يكثر .(52) سياق هذه الجملة : حتى استوجب غيرهم بطاعته ربه ، ما كان الله أعد لهم . . . " فقدم وأخر وفصل ، كعادته .(53) في المطبوعة : "إذا عاينوه" ، والصواب ما أثبت .(54) الحديث : 2435- سفيان : هو الثوري . سلمة بن كهيل الحضرمي . سبق توثيقه : 439 ، ونزيد هنا أن الثوري قال : "كان ركنًا من الأركان" . وقال أحمد : "سلمة متقن الحديث" . وقال أبو زرعة : "كوفي ثقة مأمون ذكي" . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/75 ، وابن سعد 6 : 221 ، وابن أبي حاتم 2/1/170-171 ، وتاريخ الإسلام 5 : 81-82 .أبو الزعراء - بفتح الزاي والراء بينهما عين مهملة ساكنة؛ هو عبد الله بن هانئ أبو الزعراء الكبير ، وهو خال سلمة بن كهيل . وهو ثقة من كبار التابعين . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 6 : 119 ، وابن أبي حاتم 2/2/195 .وهذا الحديث قطعة من حديث طويل - كما قال الطبري هنا : "في قصة ذكرها" وستأتي قطعة أخرى منه في الطبري 15 : 97 (بولاق) . وهو حديث موقوف من كلام ابن مسعود ولكنه -عندنا- وإن كان موقوفًا لفظًا ، فإنه مرفوع حكمًا ، لأنه في صفة آخر الزمان ، وما يأتي من الفتن ، ثم فناء الدنيا ، ثم البعث والنشور والشفاعة ، وما إلى ذلك ، مما لا يعلم بالرأي .وقد رواه -بطوله كاملا- الحاكم في المستدرك 4 : 496-498 ، من طريق الحسين بن حفص الإصبهاني ، عن سفيان ، بهذا الإسناد . وقال : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه" . ووافقه الذهبي . وهو كما قالا .وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10 : 328-330 ، بطوله ، وقال : رواه الطبراني وهو موقوف ، مخالف للحديث الصحيح وقول النبي صلى الله عليه وسلم : "أنا أول شافع"! هكذا قال الهيثمي ولم يذكر شيئًا عن إسناده . وليس هذا موضع التعقب على تعليله .وروى أبو داود الطيالسي : 389- قطعة أخرى منه ، عن يحيى بن سلمة بن كهيل ، عن أبيه . و"يحيى بن سلمة" . ضعيف جدًا . قال البخاري في الصغير ، ص : 143"منكر الحديث" ولا يضر ضعف الإسناد عند الطيالسي ، إذ جاء الحديث -كما ترى- بإسناد صحيح ، من رواية سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل .(55) ما بين القوسين زيادة يستقيم بها الكلام .(56) في المطبوعة : "كما يقال للرجل" ، وزيادة الواو لازمة .(57) الزيادة بين القوسين مما يستقيم به معنى الكلام ، ليطابق القول الذي قاله هؤلاء . ويوافق الشطر الثاني من هذا الخبر في ذكر أعمال أهل الجنة .(58) في المطبوعة : "إذا رأوا جزاءها" ، والصواب ما أثبت .(59) انظر تفسير معنى : "الظاهر ، والباطن" فيما سلف 2 : 15 ، واطلبه في فهرس المصطلحات .(60) في المطبوعة : "تقوم له حجة" ، وهو خطأ ، صوابه ما أثبت .(61) في المطبوعة : "فإذا كان الأمر . . . " ، والصواب ما أثبت . وقوله : "لم يحل" من أحال الشيء يحيله : إذا حوله من مكان إلى مكان ، أو من وجه إلى وجه .
الطبري
2:167
قوله تعالى : وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النارقوله تعالى : وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة أن في موضع رفع ، أي لو ثبت أن لنا رجعة فنتبرأ منهم جواب التمني . والكرة : الرجعة والعودة إلى حال قد كانت ، أي قال الأتباع : لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم كما تبرءوا منا أي تبرؤا كما ، فالكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف . ويجوز أن يكون نصبا على الحال ، تقديرها متبرئين ، والتبرؤ الانفصال .قوله تعالى : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم الكاف في موضع رفع ، أي الأمر كذلك . أي كما أراهم الله العذاب كذلك يريهم الله أعمالهم . ويريهم الله قيل : هي ، من رؤية البصر ، فيكون متعديا لمفعولين : الأول الهاء والميم في يريهم ، والثاني أعمالهم ، وتكون حسرات حالا . ويحتمل أن يكون من رؤية القلب ، فتكون حسرات المفعول الثالث . أعمالهم قال الربيع : أي الأعمال الفاسدة التي ارتكبوها فوجبت لهم بها النار . وقال ابن مسعود والسدي : الأعمال الصالحة التي تركوها ففاتتهم الجنة ، ورويت في هذا القول أحاديث . قال السدي : ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله تعالى ، ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون . وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها ، وأما إضافة الأعمال الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها . والحسرة واحدة الحسرات ، كتمرة وتمرات ، وجفنة وجفنات ، وشهوة وشهوات . هذا إذا كان اسما ، فإن نعته سكنت ، كقولك : ضخمة وضخمات ، وعبلة وعبلات . والحسرة أعلى درجات الندامة على شيء فائت . والتحسر : التلهف ، يقال : حسرت عليه ( بالكسر ) أحسر حسرا وحسرة . وهي مشتقة من الشيء الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته ، كالبعير إذا عيي .[ ص: 195 ] وقيل : هي مشتقة من حسر إذا كشف ، ومنه الحاسر في الحرب : الذي لا درع معه . والانحسار : الانكشاف .قوله تعالى : وما هم بخارجين من النار دليل على خلود الكفار فيها وأنهم لا يخرجون منها . وهذا قول جماعة أهل السنة ، لهذه الآية ولقوله تعالى : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط . وسيأتي .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:167
وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرأوا من متبوعيهم, بأن يتركوا الشرك بالله, ويقبلوا على إخلاص العمل لله، وهيهات, فات الأمر, وليس الوقت وقت إمهال وإنظار، ومع هذا, فهم كذبة, فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنما هو قول يقولونه, وأماني يتمنونها, حنقا وغيظا على المتبوعين لما تبرأوا منهم والذنب ذنبهم، فرأس المتبوعين على الشر, إبليس, ومع هذا يقول لأتباعه لما قضي الأمر { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ }
Arabic Saddi Tafseer
2:167
{وقال الذين اتبعوا} يعني الأتباع.{لو أن لنا كرة} أي رجعة إلى الدنيا.{فنتبرأ منهم} أي من المتبوعين.{كما تبرؤوا منا} اليوم.{كذلك} أي كما أراهم العذاب كذلك.{يريهم الله} وقيل كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله.{أعمالهم حسرات} ندامات.{عليهم} جمع حسرة، قيل: يريهم الله ما ارتكبوا من السيئات فيتحسرون لم عملوا، وقيل: يريهم ما تركوا من الحسنات فيندمون على تضييعها.وقال ابن كيسان: "إنهم أشركوا بالله الأوثان رجاء أن تقربهم إلى الله عز وجل، فلما عذبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسروا وندموا"، قال السدي: "ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم الله، ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون ويتحسرون".{وما هم بخارجين من النار}.
Arabic Baghawy Tafseer
2:167
لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو وأنه المستقل بالخلق شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه فذكر في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا أي مستطابا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان وهي طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما كان زينة لهم في جاهليتهم كما في حديث عياض بن حماد الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "يقول الله تعالى إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال - وفيه - وإنى خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم" وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة المصري حدثنا المصري بن عبدالرحمن الاحتياطي حدثنا أبو عبدالله الجوزجاني رفيق إبراهيم بن أدهم حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا" فقام سعد بن أبي وقاص فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال "يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به". وقوله "إنه لكم عدو مبين" تنفير عنه وتحذير منه كما قال "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" وقال تعالى "أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا" وقال قتادة والسدي في قوله "ولا تتبعوا خطوات الشيطان كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان" وقال عكرمة: هي نزغات الشيطان وقال مجاهد خطؤه أو قال خطاياه: وقال أبو مجلز هي النذور في المعاصي وقال الشعبي نذر رجل أن ينحر ابنه فأفتاه مسروق بذبح كبش وقال هذا من خطوات الشيطان وقال أبو الضحى عن مسروق أتى عبدالله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود ناولوا صاحبكم فقال لا أريده فقال: أصائم أنت؟ قال لا قال: فما شأنك؟ قال حرمت أن آكل ضرعا أبدا فقال ابن مسعود هذا من خطوات الشيطان فاطعم وكفر عن يمينك رواه ابن أبي حاتم وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا حسان بن عبدالله المصري عن سليمان التيمي عن أبي رافع قال: غضبت يوما على امرأتي فقالت هي يوما يهودية ويوما نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك. فأتيت عبدالله بن عمر فقال إنما هذه من خطوات الشيطان وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة وأتيت عاصما وابن عمر فقالا مثل ذلك وقال عبد بن حميد حدثنا أبو نعيم عن شريك عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان وكفارته كفارة يمين.
ابن كثير
2:168
يا أيها الناس كلوا من رزق الله الذي أباحه لكم في الأرض، وهو الطاهر غير النجس، النافع غير الضار، ولا تتبعوا طرق الشيطان في التحليل والتحريم، والبدع والمعاصي. إنه عدو لكم ظاهر العداوة.
المیسر
2:168
استئناف ابتدائي هو كالخاتمة لتشويه أحوال أهل الشرك من أصول دينهم وفروعه التي ابتدأ الكلام فيها من قوله تعالى : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة } [ البقرة : 161 ] الآية ، إذْ ذَكر كفرهم إجمالاً ثم أبطله بقوله : { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 163 ] واستدل على إبطاله بقوله : { إن في خلق السموات والأرض } [ البقرة : 164 ] الآيات ثم وصف كفرهم بقوله : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } [ البقرة : 165 ] ، ووصف حالهم وحسرتهم يوم القيامة ، فوصف هنا بعض مساوىء دين أهل الشرك فيما حرموا على أنفسهم مما أخرج الله لهم من الأرض ، وناسب ذكره هنا أنه وقع بعد ما تضمنه الاستدلال على وحدانية الله والامتنان عليهم بنعمته بقوله : { إن في خلق السموات والأرض إلى قوله : وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابةٍ } [ البقرة : 164 ] الآية ، وهو تمهيد وتلخيص لما يعقبه من ذكر شرائع الإسلام في الأطعمة وغيرها التي ستأتي من قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } [ البقرة : 172 ] .فالخطاب بيأيها الناس موجه إلى المشركين كما هو شأن خطاب القرآن بيأيها الناس . والأمر في قوله : { كلوا مما في الأرض } مستعمل في التوبيخ على ترك ذلك وليس للوجوب ولا للإِباحة ، إذ ليس الكفار بأهل للخطاب بفروع الشريعة فقوله : { كلوا } تمهيد لقوله بعده { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } .وقوله : { حلالاً طيباً } تعريض بتحميقهم فيما أعنتوا به أنفسهم فحرَموها من نعم طيبة افتراء على الله ، وفيه إيماء إلى علة إباحته في الإِسلام وتعليم للمسلمين بأوصاف الأفعال التي هي مناط الحِل والتحريم .والمقصود إبطال ما اختلقوه من منع أكل البَحِيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحامي ، وما حكي الله عنهم في سورة الأنعام من قوله : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم } [ الأنعام : 138 ] الآيات . قيل نزلت في ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج حرَّموا على أنفسهم من الأنعام أي مما ذكر في سورة الأنعام .ومِن في قوله : { مما في الأرض } للتبعيض ، فالتبعيض راجع إلى كون المأكول بعضاً من كل نوع وليس راجعاً إلى كون المأكول أنواعاً دون أنواع ، لأنه يفوت غرض الآية ، فما في الأرض عام خصصه الوصف بقوله : { حلالاً طيباً } فخرجت المحرمات الثابت تحريمها بالكتاب أو السنة .وقوله : { حلالاً طيباً } حالان من ( ما ) الموصولة ، أولهما لبيان الحكم الشرعي والثاني لبيان علته لأن الطيب من شأنه أن تقصده النفوس للانتفاع به فإذا ثبت الطيب ثبتت الحلِّية لأن الله رفيق بعباده لم يمنعهم مما فيه نفعهم الخالص أو الراجح .والمراد بالطيب هنا ما تستطيبه النفوس بالإدراك المستقيم السليم من الشذوذ وهي النفوس التي تشتهي الملائم الكامل أو الراجح بحيث لا يعود تناوله بضر جثماني أو روحاني وسيأتي معنى الطيب لغة عند قوله تعالى :{ قل أحل لكم الطيبات } [ المائدة : 4 ] في سورة المائدة .وفي هذا الوصف معنى عظيم من الإيماء إلى قاعدة الحلال والحرام فلذلك قال علماؤنا : إن حكم الأشياء التي لم ينص الشرع فيها بشيء أن أصل المضار منها التحريم وأصل المنافع الحل ، وهذا بالنظر إلى ذات الشيء بقطع النظر عن عوارضه كتعلق حق الغير به الموجب تحريمه ، إذ التحريم حينئذٍ حكم للعارض لا للمعروض .وقد فسر الطيب هنا بما يبيحه الطشرع وهو بعيد لأنه يفضي إلى التكرار ، ولأنه يقتضي استعمال لفظ في معنى غير متعارف عندهم .وقوله : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } الضمير للناس لا محالة وهم المشركون المتلبسون بالمنهي عنه دوماً ، وأما المؤمنون فحظهم منه التحذير والموعظة . واتباع الخطوات تمثيلية ، أصلها أن السائر إذا رأى آثار خطوات السائرين تبع ذلك المسلك علماً منه بأنه ما سار فيه السائر قبله إلاّ لأنه موصل للمطلوب ، فشبه المقتدي الذي لا دليل له سوى المقتدي به وهو يظن مسلكه موصلاً ، بالذي يتبع خطوات السائرين وشاعت هاته التمثيلية حتى صاروا يقولون هو يتبع خُطا فلان بمعنى يقتدي به ويمتثل له .والخطوات بضم فسكون جمع خطوة مثل الغرفة والقبضة بضم أولهما بمعنى المخطو والمغروف والمقبوض ، فهي بمعنى مخطوة اسم لمسافة ما بين القدمين عند مشي الماشي فهو يخطوها ، وأما الخَطوة بفتح الخاء فهي المرة من مصدر الخطو وتطلق على المخطو من إطلاق المصدر على المفعول .وقرأ الجمهور ( خطوات ) بضم فسكون على أصل جمع السلامة ، وقرأه ابن عامر وقنبل عن ابن كثير وحفصٌ عن عاصم بضم الخاء والطاء على الإتباع ، والإتباع يساوي السكون في الخفة على اللسان .والاقتداء بالشيطان إرسال النفس على العمل بما يوسوسه لها من الخواطر الشرية ، فإن الشياطين موجودات مدركة لها اتصال بالنفوس البشرية لعله كاتصال الجاذبية بالأفلاك والمغناطيس بالحديد ، فإذا حصل التوجه من أحدهما إلى الآخر بأسباب غير معلومة حدثت في النفس خواطر سيئة ، فإن أرسل المكلف نفسه لاتباعها ولم يردعها بما له من الإرادة والعزيمة حققها في فاعله ، وإن كبحها وصدها عن ذلك غلبها . ولذلك أودع الله فينا العقل والإرادة والقدرة وكمَّل لنا ذلك بالهدى الديني عوناً وعصمة عن تلبيتها لئلا تضلنا الخواطر الشيطانية حتى نرى حسناً ما ليس بالحسن ، ولهذا جاء في الحديث « من هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة » لأنه لما هم بها فذلك حين تسلطت عليه القوة الشيطانية ولما عدل عنها فذلك حين غلب الإرادة الخيرية عليها ، ومثل هذا يقال في الخواطر الخيرية وهي الناشئة عن التوجهات الملكية ، فإذا تنازع الداعيان في نفوسنا احتجنا في التغلب إلى الاستعانة بعقولنا وآرائنا وقدرتنا ، وهُدى الله تعالى إيانا وذلك هو المعبر عنه عند الأشعري بالكسب ، وعنه يترتب الثواب والعقاب .واللام في { الشيطان } للجنس ، ويجوز أن تكون للعهد ، ويكون المراد إبليسَ وهو أصل الشياطين وآمرهم فكل ما ينشأ من وسوسة الشياطين فهو راجع إليه لأنه الذي خطا الخطوات الأولى .وقوله : { إنه لكم عدوٌ مبين } ، ( إنَّ ) لمجرد الاهتمام بالخبر لأن العداوة بين الشيطان والناس معلومة متقررة عند المؤمنين والمشركين وقد كانوا في الحج يرمون الجمار ويعتقدون أنهم يرجمون الشيطان ، أو تجعل ( إن ) للتأكيد بتنزيل غير المتردد في الحكم منزلة المتردد أو المنكِر لأنهم لاتباعهم الإشارات الشيطانية بمنزلة من ينكر عداوته كما قال عبدة: ... إن الذين تُرونهم إخوانَكميشفى غليل صدورهم أن تُصرعوا ... وأياً ما كان فإن تفيد معنى التعليل والربط في مثل هذا وتغني غناء الفاء وهو شأنها بعد الأمر والنهي على ما في «دلائل الإعجاز» ومثله قول بشار: ... بكِّرا صَاحِبَيَّ قبلَ الهجيرإنَّ ذاك النجاحَ في التبكير ... وقد تقدم ذلك .وإنما كان عدواً لأن عنصر خلقته مخالف لعنصر خلقة الإنسان فاتصاله بالإنسان يؤثر خلاف ما يلائمه ، وقد كثر في القرآن تمثيل الشيطان في صورة العدو المتربص بنا الدوائر لإثارة داعية مخالفته في نفوسنا كي لا نغتر حين نجد الخواطر الشريرة في أنفسنا فنظنها ما نشأت فينا إلاّ وهي نافعة لنا لأنها تولدت من نفوسنا ، ولأجل هذا أيضاً صورت لنا النفس في صورة العدو في مثل هاته الأحوال .ومعنى المبين الظاهر العداوة من أبان الذي هو بمعنى بان وليس من أبان الذي همزته للتعدية بمعنى أظهر لأن الشيطان لا يُظهر لنا العداوة بل يلبس لنا وسوسته في لباس النصيحة أو جلب الملائم ، ولذلك سماه الله وليّاً فقال : { ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً } [ النساء : 119 ] ، إلاّ أن الله فضحه فلم يبق مسلم تروج عليه تلبيساته حتى في حال اتِّباعه لخطواته فهو يعلم أنها وساوسه المضرة إلاّ أنه تغلبه شهوته وضعف عزيمته ورقة ديانته .
Arabic Tanweer Tafseer
2:168
ثم وجه القرآن نداء عاما إلى البشر أمرهم فيه بأن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات ، ونهاهم عن اتباع وساوس الشيطان فقال - تعالى - :( ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً . . . )( كُلُواْ ) صيغة أمر واردة في معنى الإِباحة .و ( حَلاَلاً ) ما أذن الله في تناوله من مطعومات أو مشروبات .قال الرازي : وأصله الذي هو نقيض العقد ، ومنه حل بالمكان إذا نزل ، لأنه حل شد الارتحال للنزول ، وحل الدين إذا وجب لانحلال العقدة بانقضاء المدة ، وحل من إحرامه ، لأنه حل عقدة الإِحرام . . ثم قال : واعلم أن الحرام قد يكون حراما لخبثه - في ذاته - كالميتة والدم ولحم الخنزير ، وقد يكون حراماً لوصف عارض كملك الغير إذل لم يأذن في أكله - فحرمته لتعلق حق الغير به - فالحلال هو الخالي عن هذين القيدين .( طَيِّباً ) : هو المستلذ المستطاب الذي تقبل عليه النفوس الطاهرة وتنبسط لتناوله ، وإنما تنبسط النفوس الطاهرة لتناول طعام غير قذر ولا موقع في تهلكة ، إذ القذر ينفر منه الطبع السليم ، والموقع في تهلكة يمجه العقل القويم .و ( من ) في قوله : ( مِمَّا فِي الأرض ) للتبعيض ، لأن بعض ما في الأرض كالحجارة - مثلا - لا يؤكل ، ولأنه ليس كل ما يؤكل يجوز أكله فلذلك قال : ( حَلاَلاً طَيِّباً . . ) .وقوله : ( حَلاَلاً ) مفعول به لقوله : " كلوا " أو حال مما في الأرض ، أي : كلوه حال كونه حلالا . أو صفة لمصدر محذوف ، أي : كلوه أكلا حلالا .وقوله : ( طَيِّباً ) صفة مقررة ومؤكداً لمعنى يستفاد من قوله : ( حَلاَلاً ) وهو طهارة المأكول وخلوه من القذارة ، وعدم إيقاعه في ضرر .قال الآلوسي : " وفائدة وصف الحلال بالطيب تعميم الحكم كما في قوله - تعالى - : ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض ) ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالاةت فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة تعم ، بخلاف غير الموصوفة " .والمعنى : يأيها الناس لقد أباح الله لكم أن تأكلوا من كل ما تحويه الأرض من المطعومات التي أحلت لكم ، والتي تستلذها النفوس الكريمة ، والقلوب الطاهرة ، فتمتعوا بهذه الطيبات في غير سرف أو غرور ، واشكروا الله - تعالى - على ما رزقكمو من نعم .ولقد أمر الله عباده في كثير من الآيات أن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات ومن ذلك قوله - تعالى - : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) وفي صحيح مسلم عن عياض المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته : " ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني ، يومي هذا . يقول الله - تعالى - : كل ما نحلته - أي منحته - عبادي فهو لهم حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً . . "وعن ابن عباس قال : " تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم ( ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً ) فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال : يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده ، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً ، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به " .وليس من الورع ولا الزهد المرضي عنه شرعا ترك بعض المباحاث ، فإن الله سوى في المباح بين الفعل والترك ، ومن يجعل ترك المباح من الورع ، والورع مندوب ، فكأنه يقول : إن الترك راجح على الفعل ، وهو غير ما حكم الله به .وكان الحسن البصري - وهو من أجل التابعين - يقوم عوج من يعدون من الزهد المحمود الامتناع عن تناول بعض المباحات كالأطعمة اللذيذة .يحكى عنه أنه شهد يوما وليمة ، فرأى رجلا يرفع يده عندما قدمت الحلوى فقال له الحسن : كل يا لكع فلنعمة الله عليك في الماء البارد أعظم من نعمته في هذه الحلوى .ودخل عيه مرة أحد الزهاد فقال له الحسن : أتحب الخبيص - وهو طعام لذيذ - فقال الزاهد : لا أحبه ولا أحب من يحبه!! فأقبل الحبسن على جلسائه وقال لهم : أترونه مجنونا .والخلاصة : أنه لا ورع في ترك المباح الذي أحله الله من حيث فيه متعة للنفس ، فذلك هو التنطع في الدين ، وإنما الورع في ترك الإِكثار من تناول تلك المباحات ، لأن الإِكثار منها قد يؤدي إلى الوقوع فيما نهى الله عنه .هذا ، وقد أورد بعض المفسرين آثاراً تدل على أن هذه الآية نزلت في قوم معينين .قال الآلوسي : نزلت في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وقيل نزلت في قوم من ثقيف وبني عامر ابن صعصعة وخزاعة وبين مدلج حيث حرموا التمر والاقط على أنفسهم .والذي نراه أن الخطاب في الآية لجميع المكلفين من البشر ، وأنها واردة لتفنيد آراء الذين يحرمون على أنفسهم مطعومات لم يقم دليل من الشارع على تحريمها ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .ثم قال - تعالى - ( وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان ) .الخطوات : جمع خطوة كغرفة وقيل جمع خطوة كقبضة ، وهي في الأصل سما بين القدمين عند المشي ، وتستعمل على وجه المجاز في الآثار .أي : كلوا أيها الناس من الطيبات التي أحلها الله لكم . ولا تتبعوا آثار الشيطان وزلاته ووساوسه وطرقه التي يحرم بها الحلال ويحلل الحرام والتي يقذفها في صدور بعض الناس فتجعلهم يتنقلون من الطاعات إلى المعاصي .وفي الجملة الكريمة استعارة تمثيلية ، إذ أن السائر في طريق إذا رأى آثار خطوات السائرين تتبع ذلك المسلك ظناً منه بأن ما سار فيه السائر قبله إلا لأنه موصل للمطلوب ، فشبه المقتدي الذي لا دليل معه سوى المقتدي به وهو يظن مسلكه موصلا ، بالذي يتبع خطوات السائرين ، وشاعت هذه الاستعارة حتى صاروا يقولون هو يتبع خطا فلان بمعنى يقتدي به .وقوله : ( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) تعليل للنهي عن اتباع الشيطان و " مبين " من أبان بمعنى بان وظهر ، وقيل : من أبان بمعنى أظهر ، أي : مظهر للعداوة .والمعنى : " ولا تتبعوا خطواته لأن عداوته ظاهرة لكم بحيث لا تخفى على أي عاقل .
Arabic Waseet Tafseer
2:168
القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيّها الناسُ كلوا مما أحللت لكم من الأطعمة على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم فطيَّبْته لكم - مما تُحرِّمونه عَلى أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل وما أشبه ذلك مما لم أحرِّمه عليكم = دون مَا حرَّمته عليكم من المطاعم والمآكل فنجَّسته من مَيتة ودم ولحم خنـزير وما أهِلّ به لغيري. ودَعوا خُطوات الشيطان - الذي يوبقكم فيهلككم، ويوردكم مَوارد العطب، ويحرّم عليكم أموالكم - فلا تتبعوها ولا تعملوا بها, إنه = يعني بقوله: " إنه " إنّ الشيطان, و " الهاء " في قوله: " إنه " عائدة على الشيطان = لكم أيها الناس " عدو مُبين "، يعني: أنه قد أبان لكم عَداوته، بإبائه عن السجود لأبيكم، وغُروره إياه حَتى أخرجه من الجنة، واستزله بالخطيئة, وأكل من الشجرة.يقول تعالى ذكره: فلا تنتصحوه، أيها الناس، مع إبانته لكم العداوة, ودعوا ما يأمركم به, والتزموا طاعتي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه مما أحللته لكم وحرَّمته عليكم, دون ما حرمتموه أنتم على أنفسكم وحللتموه، طاعة منكم للشيطان واتباعًا لأمره.* * *ومعنى قوله: " حَلالا "، طِلْقًا. (62) وهو مصدر من قول القائل: " قد حَلَّ لك هذا الشيء ", أي صار لك مُطلقًا، (63) " فهو يَحِلُّ لك حَلالا وحِلا "، ومن كلام العرب: " هو لك حِلٌّ", أي: طِلْق. (64) .* * *وأما قوله: " طيبًا " فإنه يعني به طاهرًا غير نَجس ولا محرَّم.* * *وأما " الخطوات " فإنه جمع " خُطوة ", و " الخطوة " بعد ما بين قدمي الماشي. و " الخطوة " بفتح " الخاء "" الفعلة " الواحدة من قول القائل: " خَطوت خَطوة واحدةً". وقد تجمع " الخُطوة "" خُطًا " و " الخَطْوة " تجمع " خَطوات "،" وخِطاء ".* * *والمعنى في النهي عن اتباع خُطواته, النهي عن طريقه وأثره فيما دعا إليه، مما هو خلاف طاعة الله تعالى ذكره.* * *واختلف أهل التأويل في معنى " الخطوات ". فقال بعضهم: خُطُوات الشيطان: عمله.* ذكر من قال ذلك:2438- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " خطوات الشيطان "، يقول: عمله.* * *وقال بعضهم: " خطوات الشيطان "، خَطاياه.* ذكر من قال ذلك:2439- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " خُطُوات الشيطان " قال، خطيئته.2440- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: خَطاياه.2441- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " ولا تتَّبعوا خُطُوات الشيطان " قال، خطاياه.2442- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك قوله: " خطوات الشيطان " قال، خطايا الشيطان التي يأمرُ بها.* * *وقال آخرون: " خطوات الشيطان "، طاعته.* ذكر من قال ذلك:2443- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي: " ولا تتبعوا خطوات الشيطان "، يقول: طاعته.* * *وقال آخرون: " خطوات الشيطان "، النذورُ في المعاصي.* ذكر من قال ذلك:2444- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن سليمان, عن أبي مجلز في قوله: " ولا تتّبعوا خُطوات الشيطان " قال، هي النذور في المعاصي.* * *قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في تأويل قوله: " خطوات الشيطان "، قريبٌ معنى بعضها من بعض. لأن كل قائلٍ منهم قولا في ذلك، فإنه أشار إلى نَهي اتباع الشيطان في آثاره وأعماله. غيرَ أن حقيقة تأويل الكلمة هو ما بينت، من أنها " بعد ما بين قَدميه "، ثم تستعمل في جميع آثاره وطُرقه، على ما قد بينت.-------------الهوامش :(62) الطلق (بكسر فسكون) . الحلال . يقال : هو لك طلق ، أي حلال . وفي الحديث : "الخيل طلق" ، أي أن الرهان عليها حلال .(63) هكذا في المطبوعة ، وأخشى أن يكون الصواب فيما كتب الطبري"طلقًا" كما سلف ، وكما سيأتي في عبارته .(64) في المطبوعة : "من كلام العرب . . . " ، وأثبت الواو ، وحذفها جيد أيضًا .
الطبري
2:168
قوله تعالى : يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبينفيه أربع مسائل :الأولى : قوله تعالى : يا أيها الناس الآية . قيل : إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الأنعام ، واللفظ عام . والطيب هنا الحلال ، فهو تأكيد لاختلاف اللفظ ، وهذا قول مالك في الطيب . وقال الشافعي : الطيب المستلذ ، فهو تنويع ، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر . وسيأتي بيان هذا في " الأنعام " و " الأعراف " إن شاء الله تعالى .الثانية : قوله تعالى : حلالا طيبا حلالا حال ، وقيل مفعول . وسمي الحلال حلالا لانحلال عقدة الخطر عنه . قال سهل بن عبد الله : النجاة في ثلاثة : أكل الحلال ، وأداء الفرائض ، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو عبد الله الساجي واسمه سعيد بن يزيد : خمس خصال بها تمام العلم ، وهي : معرفة الله عز وجل ، ومعرفة الحق وإخلاص العمل لله ، والعمل على السنة ، وأكل الحلال ، فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل . قال سهل : ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم ، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال : الربا والحرام والسحت - وهو اسم مجمل - والغلول والمكروه والشبهة .الثالثة : ولا تتبعوا نهي خطوات الشيطان " خطوات " جمع خطوة وخطوة بمعنى واحد . قال الفراء : الخطوات جمع خطوة ، بالفتح . وخطوة ( بالضم ) : ما بين القدمين . وقال الجوهري : وجمع القلة خطوات وخطوات وخطوات ، والكثير خطا . والخطوة [ ص: 196 ] ( بالفتح ) : المرة الواحدة ، والجمع خطوات ( بالتحريك ) وخطاء ، مثل ركوة وركاء ، قال امرؤ القيس :لها وثبات كوثب الظباء فواد خطاء وواد مطروقرأ أبو السمال العدوي وعبيد بن عمير " خطوات " بفتح الخاء والطاء . وروي عن علي بن أبي طالب وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون والأعمش " خطؤات " بضم الخاء والطاء والهمزة على الواو . قال الأخفش : وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطيئة ، من الخطأ لا من الخطو . والمعنى على قراءة الجمهور : ولا تقفوا أثر الشيطان وعمله ، وما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان . قال ابن عباس : خطوات الشيطان أعماله مجاهد : خطاياه . السدي : طاعته . أبو مجلز : هي النذور في المعاصي .قلت : والصحيح أن اللفظ عام في كل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي . وتقدم القول في " الشيطان " مستوفى .الرابعة : قوله تعالى : إنه لكم عدو مبين أخبر تعالى بأن الشيطان عدو ، وخبره حق وصدق . فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم وقد أمر الله تعالى بالحذر منه فقال جل من قائل : ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقال : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء وقال : ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وقال : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون وقال : إنه عدو مضل مبين وقال : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير . وهذا غاية في التحذير ، ومثله في القرآن كثير . وقال عبد الله بن عمر : إن إبليس موثق في الأرض السفلى ، فإذا تحرك فإن كل شر في الأرض بين اثنين فصاعدا من تحركه . وخرج الترمذي من حديث أبي مالك الأشعري وفيه : وآمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز [ ص: 197 ] نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله الحديث . وقال فيه : حديث حسن صحيح غريب .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:168
هذا خطاب للناس كلهم, مؤمنهم وكافرهم، فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض، من حبوب, وثمار, وفواكه, وحيوانات, حالة كونها { حَلَالًا } أي: محللا لكم تناوله، ليس بغصب ولا سرقة, ولا محصلا بمعاملة محرمة أو على وجه محرم، أو معينا على محرم. { طَيِّبًا } أي: ليس بخبيث, كالميتة والدم, ولحم الخنزير, والخبائث كلها، ففي هذه الآية, دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة، أكلا وانتفاعا, وأن المحرم نوعان: إما محرم لذاته, وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب، وإما محرم لما عرض له, وهو المحرم لتعلق حق الله, أو حق عباده به, وهو ضد الحلال. وفيه دليل على أن الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب, يأثم تاركه لظاهر الأمر، ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به - إذ هو عين صلاحهم - نهاهم عن اتباع { خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي: طرقه التي يأمر بها, وهي جميع المعاصي من كفر, وفسوق, وظلم، ويدخل في ذلك تحريم السوائب, والحام, ونحو ذلك، ويدخل فيه أيضا تناول المأكولات المحرمة، { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } أي: ظاهر العداوة, فلا يريد بأمركم إلا غشكم, وأن تكونوا من أصحاب السعير،
Arabic Saddi Tafseer
2:168
قوله تعالى: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة وبني مدلج فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام.فالحلال ما أحله الشرع طيباً، قيل: ما يستطاب ويستلذ، والمسلم يستطيب الحلال ويعاف الحرام، وقيل: الطيب الطاهر.{ولا تتبعوا خطوات الشيطان} قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي وحفص ويعقوب بضم الطاء والباقون بسكونها.وخطوات الشيطان: آثاره وزلاته، وقيل: هي النذر في المعاصي. وقال أبو عبيدة: "هي المحقرات من الذنوب"، وقال الزجاج: "طرقه".{إنه لكم عدو مبين} بين العداوة، وقيل: مظهر العداوة، وقد أظهر عداوته بإبائه السجود لآدم وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة.(وأبان) يكون لازما ومتعديا.
Arabic Baghawy Tafseer
2:168