text
stringlengths 3
39.1k
| resource_name
stringclasses 8
values | verses_keys
stringlengths 3
77
|
---|---|---|
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي أخبرنا عبدالرحمن بن صالح أخبرنا عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله الفزاري عن شيبان النحوي أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنزلت علي" إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا" قال بشيرا بالجنة ونذيرا من النار قوله" ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" قراءة أكثرهم ولا تسأل بضم التاء على الخبر وفي قراءة أبي بن كعب وما تسأل وفي قراءة ابن مسعود ولن تسأل عن أصحاب الجحيم نقلهما ابن جرير أي نسألك عن كفر من كفر بك كقوله "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب" وكقوله تعالى "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر" الآية وكقوله تعالى "نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد" وأشباه ذلك من الآيات وقرأ آخرون " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم "بفتح التاء على النهي أي لا تسأل عن حالهم كما قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي؟" فنزلت "ولا تسأل عن أصحاب الجحيم فما ذكرهما حتى توفاه الله عز وجل ورواه ابن جرير عن ابن كريب عن وكيع عن موسى بن عبيدة وقد تكلموا فيه عن محمد بن كعب بمثله قد حكاه القرطبي عن ابن عباس ومحمد بن كعب قال القرطبي: وهذا كما يقال لا تسأل عن فلان أي قد بلغ فوق ما تحسب وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمَنا به وأجبنا عن قوله "إن أبي وأباك في النار" "قلت" والحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها وإسناده ضعيف والله أعلم. ثم قال ابن جرير وحدثني القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج عن ابن جريج أخبرني داود بن أبي عاصم به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم "أين أبواي" ؟ فنزلت "إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" وهذا مرسل كالذي قبله وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب وغيره في ذلك لاستحالة الشك في الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه واختار القراءة الأولى وهذا الذي سلكه ههنا فيه نظر لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه قبل أن يعلم أمرهما لما علم ذلك تبرأ منهما وأخبر عنهما أنهما من أهل النار كما ثبت هذا في الصحيح ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ولا يلزم ما ذكره ابن جرير والله أعلم وقال الإمام أحمد أخبرنا موسى بن داود حدثنا فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق لا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. انفرد بإخراجه البخاري فرواه في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح به وقال تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبدالله بن سلام رواه في التفسير عن عبدالله عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء عن عبدالله بن عمرو بن العاص به فذكر نحوه فعبدالله هذا هو ابن صالح كما صرح به في كتاب الأدب وزعم ابن مسعود الدمشقي أنه عبدالله بن رجاء وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من البقرة عن أحمد بن الحسن بن أيوب عن محمد بن أحمد بن البراء عن المعافي بن سليمان عن فليح به وزاد: قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما اختلفا في حرف إلا أن كعبا قال: بلغته أعينا عمومي وآذانا صمومي وقلوبا غلوفا. | ابن كثير | 2:119 |
إنا أرسلناك -أيها الرسول- بالدين الحق المؤيد بالحجج والمعجزات، فبلِّغه للناس مع تبشير المؤمنين بخيري الدنيا والآخرة، وتخويف المعاندين بما ينتظرهم من عذاب الله، ولست -بعد البلاغ- مسئولا عن كفر مَن كفر بك؛ فإنهم يدخلون النار يوم القيامة، ولا يخرجون منها. | المیسر | 2:119 |
جملة معترضة بين حكايات أحوال المشركين وأهل الكتاب ، القصد منها تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام من أسفه على ما لقيه من أهل الكتاب مما يماثل ما لقيه من المشركين وقد كان يود أن يؤمن به أهل الكتاب فيتأيد بهم الإسلام على المشركين فإذا هو يلقى منهم ما لقي من المشركين أو أشد وقد قال «لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم» فكان لتذكير الله إياه بأنه أرسله تهدئة لخاطره الشريف وعذر له إذ أبلغ الرسالة وتطمين لنفسه بأنه غير مسؤول عن قوم رضوا لأنفسهم بالجحيم . وفيه تمهيد للتأييس من إيمان اليهود والنصارى .وجيء بالتأكيد وإن كان النبي لا يتردد في ذلك لمزيد الاهتمام بهذا الخبر وبيان أنه ينوه به لما تضمنه من تنويه شأن الرسول .وجيء بالمسند إليه ضمير الجلالة تشريفاً للنبيء صلى الله عليه وسلم بعز الحضور لمقام التكلم مع الخالق تعالى وتقدس كأن الله يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة فلذا لم يقل له إن الله أرسلك .وقوله : { بالحق } متعلق بأرسلناك . والحق هو الهدى والإسلام والقرآن وغير ذلك من وجوه الحق المعجزات وهي كلها ملابسة للنبيء صلى الله عليه وسلم في رسالته بعضها بملابسة التبليغ وبعضها بملابسة التأييد . فالمعنى إنك رسول الله وإن القرآن حق منزل من الله .وقوله : { بشيراً ونذيراً } حالان وهما بزنة فعيل بمعنى فاعل مأخوذان من بشر المضاعف وأنذر المزيد فمجيئهما من الرباعي على خلاف القياس كالقول في { بديع السماوات والأرض } [ البقرة : 117 ] المتقدم آنفاً ، وقيل : البشير مشتق من بشر المخفف الشين من باب نصر ولا داعي إليه .وقوله : { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } الواو للعطف وهو إما على جملة { إنا أرسلناك } أو على الحال في قوله : { بشيراً ونذيراً } ويجوز كون الواو للحال .قرأ نافع ويعقوب بفتح الفوقية وسكون اللام على أنَّ ( لا ) حرف نهي جازم للمضارع وهو عطف إنشاء على خبر والسؤال هنا مستعمل في الاهتمام والتطلع إلى معرفة الحال مجازاً مرسلاً بعلاقة اللزوم لأن المعني بالشيء المتطلع لمعرفة أحواله يكثر من السؤال عنه ، أو هو كناية عن فظاعة أحوال المشركين والكافرين حتى إن المتفكر في مصير حالهم ينهى عن الاشتغال بذلك لأنها أحوال لا يحيط بها الوصف ولا يبلغ إلى كنهها العقل في فظاعتها وشناعتها ، وذلك أن النهي عن السؤال يرد لمعنى تعظيم أمر المسؤول عنه نحو قول عائشة : «يصلي أربعاً فلا تَسْأَلْ عن حسنهن وطولهن» ولهذا شاع عند أهل العلم إلقاء المسائل الصعبة بطريقة السؤال نحو ( فإن قلت ) للاهتمام .وقرأه جمهور العشرة بضم الفوقية ورفع اللام على أن ( لا ) نافية أي لا يسألك الله عن أصحاب الجحيم وهو تقرير لمضمون { إنا أرسلناك بالحق } والسؤال كناية عن المؤاخذة واللوم مثل قوله صلى الله عليه وسلم " وكلكم مسؤول عن رعيته " أي لست مؤاخذاً ببقاء الكافرين على كفرهم بعد أن بلغت لهم الدعوة .وما قيل إن الآية نزلت في نهيه صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه في الآخرة فهو استناد لرواية واهية ولوصحت لكان حمل الآية على ذلك مجافياً للبلاغة إذ قد علمت أن قوله : { إنا أرسلناك } تأنيس وتسكين فالإتيان معه بما يذكِّر المكدرات خروج عن الغرض وهو مما يعبر عنه بفساد الوضع . | Arabic Tanweer Tafseer | 2:119 |
ثم ساق القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم ما يسلبه ويثبته فقال :( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً . . . )قوله : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً ) معناه : إنا أرسلناك يا محمد بالدين الصحيح المشتمل على الأحكام الصادقة ، لتبشر بالثواب من آمن وعمل صالحاً ، وتنذر بالعقاب من كفر وعصى .وصدرت الآية الكريمة بحرف التأكيد ، لمزيد الاهتمام بهذا الخبر ، وللتنويه بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم .وجيء بالمسند إليه ضمير الجلالة ، تشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم فكأن الله - تعالى - يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة ، ولذا لم يقل له إن الله أرسلك .وقوله : ( بالحق ) متعلق بأرسلناك . والحق : مأخوذ من حق الشيء ، أي : واجب وثبت ، ويطلق الحق على الحكم الصادق المطابق للواقع ، ويسمى الدين الصحيح حقاً لاشتماله على الأحكام الصادقة .وقوله : ( بَشِيراً وَنَذِيراً ) حالان ، والبشير : المبشر ، وهو المخبر بالأمر السار للمخبر به الذي لم يسبق له علم به . والنذير : المنذر ، وهو المخبر بالأمر المخوف ليحذر منه .وجملة ( وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم ) معطوف على جملة ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ) .والجحيم : المتأجج من النار . وأصحابها : الملازمون لها . والسؤال : كناية عن المؤاخذة واللوم .والمعنى : لا تذهب نفسك عليهم حسرات يا محمد ، فإن وظيفتك أن تبشر وتنذر ولست بعد ذلك مؤاخذاً ببقاء الكافرين على كفرهم ، ولست مسؤولا عن عدم اهتدائهم ( فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب ) وفي وصفهم بأنهم أصحاب الجحيم ، إشعار بأنهم قد طبع على قلوبهم ، فصاروا لا يرجى منها الرجوع عن الكفر .وفي هذه الجملة مع قوله : ( بَشِيراً وَنَذِيراً ) تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم حيث لم يؤمن به أولئك الجاحدون المتعنتون . | Arabic Waseet Tafseer | 2:119 |
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًاقال أبو جعفر: ومعنى قوله جل ثناؤه: ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ، إنا أرسلناك يا محمد بالإسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الأديان ، وهو الحق ؛ مبشرا من اتبعك فأطاعك ، وقبل منك ما دعوته إليه من الحق - بالنصر في الدنيا ، والظفر بالثواب في الآخرة ، والنعيم المقيم فيها، ومنذرا من عصاك فخالفك، ورد عليك ما دعوته إليه من الحق - بالخزي في الدنيا ، والذل فيها ، والعذاب المهين في الآخرة.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)قال أبو جعفر: قرأت عامة الْقَرَأَة: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) ، بضم " التاء " من " تسأل "، ورفع " اللام " منها على الخبر ، بمعنى: يا محمد إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، فبلغت ما أرسلت به ، وإنما عليك البلاغ والإنذار ، ولست مسئولا عمن كفر بما أتيته به من الحق ، وكان من أهل الجحيم.وقرأ ذلك بعض أهل المدينة: (ولا تَسألْ) جزما. بمعنى النهي ، مفتوح " التاء " من " تسأل "، وجزم " اللام " منها. ومعنى ذلك على قراءة هؤلاء: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به ، لا لتسأل عن أصحاب الجحيم ، فلا تسأل عن حالهم. وتأول الذين قرءوا هذه القراءة ما:-1875- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنـزلت : (ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم).1876- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري ، عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟" ثلاثا ، فنـزلت: (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم) ، فما ذكرهما حتى توفاه الله. (75)1877- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال، أخبرني داود بن أبي عاصم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: " ليت شعري أين أبواي؟" فنـزلت: ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم). (76)* * *قال أبو جعفر : والصواب عندي من القراءة في ذلك قراءة من قرأ بالرفع ، على الخبر. لأن الله جل ثناؤه قص قصص أقوام من اليهود والنصارى ، وذكر ضلالتهم ، وكفرهم بالله ، وجراءتهم على أنبيائه ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ يا محمد بِالْحَقِّ بَشِيرًا ، من آمن بك واتبعك ممن قصصت عليك أنباءه ومن لم أقصص عليك أنباءه ، وَنَذِيرًا من كفر بك وخالفك ، فبلغ رسالتي ، فليس عليك من أعمال من كفر بك - بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة ، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك. ولم يجر - لمسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عن أصحاب الجحيم ذكر ، فيكون لقوله: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) ، وجه يوجه إليه. وإنما الكلام موجه معناه إلى ما دل عليه ظاهره المفهوم ، حتى تأتي دلالة بينة تقوم بها الحجة ، على أن المراد به غير ما دل عليه ظاهره، فيكون حينئذ مسلما للحجة الثابتة بذلك. ولا خبر تقوم به الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن أن يسأل -في هذه الآية عن أصحاب الجحيم ، ولا دلالة تدل على أن ذلك كذلك في ظاهر التنـزيل. والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل هذه الآية ، وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر ، دون النهي عن المسألة عنهم. (77)* * *فإن ظن ظان أن الخبر الذي روي عن محمد بن كعب صحيح ، فإن في استحالة الشك من الرسول عليه السلام - في أن أهل الشرك من أهل الجحيم ، وأن أبويه كانا منهم ، ما يدفع صحة ما قاله محمد بن كعب ، إن كان الخبر عنه صحيحا. مع أن ابتداء الله الخبر بعد قوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، بـ " الواو " - بقوله: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم)، وتركه وصل ذلك بأوله بـ " الفاء " ، وأن يكون: " إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا فلا تسأل عن أصحاب الجحيم " - (78) أوضح الدلالة على أن الخبر بقوله: (79) " ولا تسأل " ، أولى من النهي ، والرفع به أولى من الجزم. وقد ذكر أنها في قراءة أبي: (وما تسأل) ، وفي قراءة ابن مسعود: (ولن تسأل) ، وكلتا هاتين القراءتين تشهد بالرفع والخبر فيه ، دون النهي. (80)* * *وقد كان بعض نحويي البصرة يوجه قوله: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) إلى الحال ، كأنه كان يرى أن معناه: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الجحيم. وذلك إذا ضم " التاء " ، وقرأه على معنى الخبر ، وكان يجيز على ذلك قراءته: " ولا تسأل " ، بفتح " التاء " وضم " اللام " على وجه الخبر بمعنى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، غير سائل عن أصحاب الجحيم. وقد بينا الصواب عندنا في ذلك.وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري في ذلك، يدفعهما ما روي عن ابن مسعود وأبي من القراءة، (81) لأن إدخالهما ما أدخلا من ذلك من " ما " و " لن " يدل على انقطاع الكلام عن أوله وابتداء قوله: (ولا تسأل). وإذا كان ابتداء لم يكن حالا.* * *وأما(أصحاب الجحيم) ، ف " الجحيم "، هي النار بعينها إذا شبت وقودها ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:إذا شـــبت جـــهنم ثــم دارتوأَعْــرَض عـن قوابسـها الجحـيم (82)-----------------------------الهوامش :(75) الحديثان : 1875 ، 1876 - هما حديثان مرسلان . فإن محمد بن كعب بن سليم القرظي : تابعي . والمرسل لا تقوم به حجة ، ثم هما إسنادان ضعيفان أيضًا ، بضعف راويهما : موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي : ضعيف جدا ، مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 4 /1/ 291 ، والصغير : 172 - 173 ، وابن أبي حاتم 4 /1 /151 ، فقال البخاري : "منكر الحديث قاله أحمد بن حنبل . وقال علي بن المديني ، عن القطان : كنا نتقيه تلك الأيام" . وروى ابن أبي حاتم عن الجوجزاني قال : "سمعت أحمد بن حنبل يقول : لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة ، قلنا : يا أبا عبد الله ، لا يحل؟ قال : عندي ، قلت : فإن سفيان وشعبة قد رويا عنه؟ قال : لو بان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه" . وقال ابن معين : "لا يحتج بحديثه" . وقال أبو حاتم : "منكر الحديث" . وأبوه"عبيدة" ، بالتصغير ، ووقع في المطبوعة في الإسنادين"عبدة" . وهو خطأ .(76) الحديث : 1877 - وهذا مرسل أيضًا ، لا تقوم به حجة .داود بن أبي عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي : تابعي ثقة ، ويروى عن بعض التابعين أيضًا . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/210 . والجرح 1/2/421 . ووقع في المطبوعة"داو عن أبي عاصم" . وهو تحريف ، صححناه من ابن كثير 1 : 297 .ونقل ابن كثير 1 : 296 عن القرطبي أنه قال : "وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا أبويه حتى آمنا به ، وأجبنا عن قوله : إن أبي وأباك في النار" . ثم علق ابن كثير ، فقال : "الحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام - ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها ، وإسناده ضعيف" .وأنا أرى أن الإفاضة في مثل هذا غير مجدية ، وما أمرنا أن نتكلف القول فيه .(77) حجة قوية لا ترد ، وبصر بسياق معاني القرآن وتتابعها . ولكن كثيرا من الناس يغفلون عن مواطن الحق في موضع بعينه ، لاختلاط الأمر عليهم لمشابهته لموطن آخر في موضع غيره ، كما سترى في التعليق التالي رقم : 40 .(78) كان في المطبوعة : "بالواو يقول : فلا تسئل عن أصحاب الجحيم . . . بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحاب الجحيم" وهو خطأ كما استدركه مصحح المطبوعة في تعليقه .(79) في المطبوعة : "أوضح الدلائل" بالجمع ، والإفراد هو الصواب ، وكأنه سبق قلم من ناسخ .(80) قال ابن كثير في تفسيره 1: 297" وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب وغيره في ذلك؛ لاستحالة الشك من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه، واختار القراءة الأولى. وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظر، لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه، قبل أن يعلم أمرهما، فلما علم ذلك تبرأ منهما، وأخبر عنهما أنهما من أهل النار، كما ثبت هذا في الصحيح. ولهذا أشباه كثيرة ونظائر، ولا يلزم ما ذكره ابن جرير والله أعلم".ينسى ابن كثير غفر الله له، ما أعاد الطبري وأبدأ من ذكر سياق الآيات المتتابعة، والسياق كما قال هو في ذكر اليهود والنصارى وقصصهم، وتشابه قلوبهم في الكفر بالله، أشــم أغــر أزهــر هــبرزييعـــد القــاصدين لــه عيــالاوقلة معرفتهم بعظمة ربهم، وجرأتهم على رسل الله وأنبيائه، وكل ذلك موجب عذاب الجحيم، فما الذي أدخل كفار العرب في هذا السياق؟ نعم إنهم يدخلون في معنى أنهم من أصحاب الجحيم، كما يدخل فيه كل مشرك من العرب وغيرهم. وقد بينا آنفًا ص: 521 تعليق: 1 أن هذه الآيات السالفة والتي تليها، دالة أوضح الدلالة على أن قصتها كلها في اليهود والنصارى، ولا شأن لمشركي العرب بها. وإن دخل هؤلاء المشركون في معنى أنهم من أصحاب الجحيم، وإذن فسياق الآيات يوجب أن تكون في اليهود والنصارى، فتخصيص شطر من آية بأنه نـزل في أمر بعض مشركي الجاهلية. تحكم بلا خبر ولا بينة. (وانظر ص: 565).إن ابن كثير غفل عن معنى الطبري، فإن الطبري أراد أن يدل على شيئين: أن خبر محمد بن كعب لا يصح، وأنه إن صح عنه من وجه، فإن نـزول الآية لم يكن لهذا الذي روي عنه. وبيان ذلك: أن الخبر لا يصح، لأنه جاء على صيغة التشكك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أمر بعض أهل الجاهلية: ما فعل به، في جنة أو نار! وهذا مما يتنـزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفرق كبير بين أن يستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبويه اللذين كانا من أهل الجاهلية، وعلى مثل أمرها من الشرك، وبين أن يتشكك في أمرهما فيقول:"ليت شعري ما فعل أبواي؟". وإنما يصح كلام ابن كثير، إذا كان بين هذا التشكك، وبين الاستغفار رابط يوجب أن يكون أحدهما ملازما للآخر، أو بسبب منه. ثم يرد الخبر أيضًا، لأن سياق الآيات يدل ظاهرها البين على أنها في اليهود والنصارى نـزلت، فلا يمكن تخصيص شطر من آية من هذه الآيات المتتابعة، على خبر لا يصح، لعلة موهنة له. فلست أدري لم أقحم ابن كثير الاستغفار والتبرؤ في هذا الموضع، مع وضوح حجة الطبري في الفقرة السالفة. من جهة السياق، وفي هذه الفقرة من جهة العربية؟إن بعض المشكلات التي يدور عليها جدال الناس، ربما أغفلت مثل ابن كثير عن مواطن الدقة والصواب والتحري، وهم يفسرون كتاب الله الذي لا يخالف بعضه بعضا، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. اللهم إنا نسألك العصمة من الزلل، ونستهديك في البيان عن معاني كتابك.(81) في المطبوعة : يرفعهما ما روي . . . " والصواب ما أثبت .(82) ديوانه : 53 ، وروايته : "ثم فارت" ، وكأنها هي الصواب ، وأخشى أن يكون البيت محرفا . لم أعرف معنى"قوابسها" هناك ، وأظنه"قدامسها" جمع قدموس ، وهي الحجارة الضخمة الصلبة ، كقوله تعالى : "وقودها الناس والحجارة" ، وأعرض الشيء اتسع وعرض ، وقوله"عن" أي بسبب قذف هذه الحجارة فيها . هذا أقرب ما اهتديت إليه من معناه ، ويرجح ذلك البيت الذي يليه ، وفيه جواب"إذا" :تحــش بصنــدل صــم صـلابكــأن الضاحيــات لهــا قضيـموكأنه يعني بالضاحيات : النخيل . وشعر أمية مشكل على كل حال . | الطبري | 2:119 |
قوله تعالى : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيمقوله تعالى : إنا أرسلناك بالحق بشيرا نصب على الحال ، ونذيرا عطف عليه ، قد تقدم معناهما . ولا تسأل عن أصحاب الجحيم قال مقاتل : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا ، فأنزل الله تعالى : ولا تسأل عن أصحاب الجحيم برفع تسأل ، وهي قراءة الجمهور ، ويكون في موضع الحال بعطفه على بشيرا ونذيرا . والمعنى إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسئول . وقال سعيد الأخفش : ولا تسأل ( بفتح التاء وضم اللام ) ، ويكون في موضع الحال عطفا على بشيرا ونذيرا . والمعنى : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير سائل عنهم ، لأن علم الله بكفرهم بعد إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم . هذا معنى غير سائل . ومعنى غير مسئول لا يكون مؤاخذا بكفر من كفر بعد التبشير والإنذار . وقال ابن عباس ومحمد بن كعب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : ليت شعري ما فعل أبواي . فنزلت هذه الآية ، وهذا على قراءة من قرأ " ولا تسأل " جزما على النهي ، وهي قراءة نافع وحده ، وفيه وجهان :أحدهما : أنه نهي عن السؤال عمن عصى وكفر من الأحياء ; لأنه قد يتغير حاله فينتقل عن الكفر إلى الإيمان ، وعن المعصية إلى الطاعة .والثاني : وهو الأظهر ، أنه نهي عن السؤال عمن مات على كفره ومعصيته ، تعظيما لحاله وتغليظا لشأنه ، وهذا كما يقال : لا تسأل عن فلان ! أي قد بلغ فوق ما تحسب . وقرأ ابن مسعود " ولن تسأل " . وقرأ أبي " وما تسأل " ، ومعناهما موافق لقراءة الجمهور ، نفى أن يكون مسئولا عنهم . وقيل : إنما سأل أي أبويه أحدث موتا ، فنزلت . وقد ذكرنا في كتاب " التذكرة " أن الله تعالى أحيا له أباه وأمه وآمنا به ، وذكرنا قوله عليه السلام للرجل : ( إن أبي وأباك في النار ) وبينا ذلك ، والحمد لله . | Arabic Qurtubi Tafseer | 2:119 |
ثم ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة للآيات الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } فهذا مشتمل على الآيات التي جاء بها, وهي ترجع إلى ثلاثة أمور: الأول: في نفس إرساله, والثاني: في سيرته وهديه ودله، والثالث: في معرفة ما جاء به من القرآن والسنة. فالأول والثاني, قد دخلا في قوله: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ } والثالث دخل في قوله: { بِالْحَقِّ } وبيان الأمر الأول وهو - نفس إرساله - أنه قد علم حالة أهل الأرض قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من عبادة الأوثان والنيران, والصلبان, وتبديلهم للأديان, حتى كانوا في ظلمة من الكفر, قد عمتهم وشملتهم, إلا بقايا من أهل الكتاب, قد انقرضوا قبيل البعثة. وقد علم أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى, ولم يتركهم هملا, لأنه حكيم عليم, قدير رحيم، فمن حكمته ورحمته بعباده, أن أرسل إليهم هذا الرسول العظيم, يأمرهم بعبادة الرحمن وحده لا شريك له, فبمجرد رسالته يعرف العاقل صدقه, وهو آية كبيرة على أنه رسول الله، وأما الثاني: فمن عرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة تامة, وعرف سيرته وهديه قبل البعثة, ونشوءه على أكمل الخصال, ثم من بعد ذلك, قد ازدادت مكارمه وأخلاقه العظيمة الباهرة للناظرين, فمن عرفها, وسبر أحواله, عرف أنها لا تكون إلا أخلاق الأنبياء الكاملين, لأن الله تعالى جعل الأوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها وصدقهم وكذبهم. وأما الثالث: فهو معرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الشرع العظيم, والقرآن الكريم, المشتمل على الإخبارات الصادقة, والأوامر الحسنة, والنهي عن كل قبيح, والمعجزات الباهرة, فجميع الآيات تدخل في هذه الثلاثة. قوله: { بَشِيرًا } أي لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والأخروية، { نَذِيرًا } لمن عصاك بالشقاوة والهلاك الدنيوي والأخروي. { وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } أي: لست مسئولا عنهم, إنما عليك البلاغ, وعلينا الحساب. | Arabic Saddi Tafseer | 2:119 |
{إنا أرسلناك بالحق} أي بالصدق كقوله {ويستنبئونك أحق هو} [53-يونس] أي صدق، قال ابن عباس رضي الله عنهما:" بالقرآن، دليله {بل كذبوا بالحق لما جاءهم} [5-ق]".وقال ابن كيسان: "بالإسلام وشرائعه، دليله قوله عز وجل: {وقل جاء الحق} [81-الإسراء]".وقال مقاتل: "معناه لم نرسلك عبثاً، وإنما أرسلناك بالحق كما قال: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [85-الحجر]".قوله عز وجل: {بشيراً} أي مبشراً لأوليائي وأهل طاعتي بالثواب الكريم.{ونذيراً} أي منذراً مخوفاً لأعدائي وأهل معصيتي بالعذاب الأليم.قرأ نافع ويعقوب (ولا تسأل) على النهي. قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: "وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "ليت شعري ما فعل أبواي" فنزلت هذه الآية"، وقيل: هو على معنى ولا تسأل عن شر فلان فإنه فوق ما تحسب وليس على النهي.وقرأ الآخرون (ولا تسأل) بالرفع على النفي بمعنى ولست بمسؤول عنهم كما قال الله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [20-آل عمران].{عن أصحاب الجحيم} والجحيم معظم النار. | Arabic Baghawy Tafseer | 2:119 |
قال ابن جرير يعني بقوله جل ثناؤه" ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق وقوله تعالى "قل إن هدى الله هو الهدى" أي قل يا محمد إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل قال قتادة في قوله "قل إن هدى الله هو الهدى" قال: خصومة علمها الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة قال قتادة: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" " قلت "هذا الحديث مخرج في الصحيح عن عبدالله بن عمرو "ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير" فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى بعد ما علموا من القرآن والسنة عياذا بالله من ذلك فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله "حتى تتبع ملتهم" حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى "لكم دينكم ولي دين" فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا لأنهم كلهم ملة واحدة وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه وقال: في الرواية الأخرى كقول مالك إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى كما جاء في الحديث واللّه أعلم. | ابن كثير | 2:120 |
ولن ترضى عنك -أيها الرسول- اليهود ولا النصارى إلا إذا تركت دينك واتبعتَ دينهم. قل لهم: إن دين الإسلام هو الدين الصحيح. ولئن اتبعت أهواء هؤلاء بعد الذي جاءك من الوحي ما لك عند الله مِن وليٍّ ينفعك، ولا نصير ينصرك. هذا موجه إلى الأمّة عامة وإن كان خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم. | المیسر | 2:120 |
عطف على قوله : { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } [ البقرة : 119 ] أو على { إنا أرسلناك } [ البقرة : 119 ] وقد جاء هذا الكلام المؤيس من إيمانهم بعد أن قدم قبله التأنيس والتسلية على نحو مجيء العتاب بعد تقديم العفو في قوله تعالى : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] وهذا من كرامة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلموالنفي بلن مبالغة في التأييس لأنها لنفي المستقبل وتأبيده .والملة بكسر الميم الدين والشريعة وهي مجموع عقائد وأعمال يلتزمها طائفة من الناس يتفقون عليها وتكون جامعة لهم كطريقة يتبعونها ، ويحتمل أنها مشتقة من أملَّ الكتاب فسميت الشريعة ملة لأن الرسول أو واضع الدين يعلمها للناس ويمللها عليهم كما سميت ديناً باعتبار قبول الأمة لها وطاعتهم وانقيادهم .ومعنى الغاية في { حتى تتبع ملتهم } الكناية عن اليأس من اتباع اليهود والنصارى لشريعة الإسلام يومئذ لأنهم إذا كانوا لا يرضون إلا باتباعه ملتهم فهم لا يتبعون ملته ، ولما كان اتباع النبيء ملتهم مستحيلاً كان رضاهم عنه كذلك على حد { حتى يلج الجمل في سم الخياط } [ الأعراف : 40 ] وقوله : { لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } [ الكافرون : 2 ، 3 ] والتصريح بلا النافية بعد حرف العطف في قوله : { ولا النصارى } للتنصيص على استقلالهم بالنفي وعدم الاقتناع باتباع حرف العطف لأنهم كانوا يظن بهم خلاف ذلك لإظهارهم شيئاً من المودة للمسلمين كما في قوله تعالى : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } [ المائدة : 82 ] وقد تضمنتْ هذه الآية أنهم لا يؤمنون بالنبيء لأنه غير متبع ملتهم وأنهم لا يصدقون القرآن لأنه جاء بنسخ كتابيْهم .وقوله : { قل إن هدي الله هو الهدى } أمر بالجواب عما تضمنه قوله : { ولن ترضى } من خلاصة أقوال لهم يقتضي مضمونها أنهم لا يُرضيهم شيء مما يدعوهم النبيء إليه إلا أن يتبع ملتهم وأنهم يقولون إن ملتهم هدى فلا ضير عليه إن اتبعها مثل قولهم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هُوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] وغير ذلك من التلون في الإعراض عن الدعوة ولذلك جيء في جوابهم بما هو الأسلوب في المجاوبة من فِعل القول بدون حرف العطف .ويجوز أن يكونوا قد قالوا ما تضمنته الآية من قوله : { حتى تتبع ملتهم } . و { هدي الله } ما يقدره للشخص من التوفيق أي قل لهم لا أملك لكم هدى إلا أن يهديكم الله ، فالقصر حقيقي .ويجوز أن يكون المراد بهُدى الله الذي أنزله إليَّ هو الهدى يعني أن القرآن هو الهدى إبطالاً لغرورهم بأنَّ ما هم عليه من الملة هو الهدى وأن ما خالفه ضلال . والمعنى أن القرآن هو الهدى وما أنتم عليه ليس من الهدى لأن أكثره من الباطل .فإضافة الهدى إلى الله تشريف ، والقصر إضافي . وفيه تعريض بأن ما هم عليه يومئذ شيء حرفوه ووضعوه ، فيكون القصر إما حقيقياً ادعائياً بأن يراد هو الهدى الكامل في الهداية فهدى غيره من الكتب السماوية بالنسبة إلى هدى القرآن كلاَ هدى لأن هدى القرآن أعم وأكمل فلا ينافي إثبات الهداية لكتابهم كما في قوله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } [ المائدة : 44 ] وقوله : { وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة } [ المائدة : 46 ] وإما قصراً إضافياً أي هو الهدى دون ما أنتم عليه من ملة مبدلة مشوبة بضلالات وبذلك أيضاً لا ينتفي الهدى عن كثير من التعاليم والنصايح الصالحة الصادرة عن الحكماء وأهل العقول الراجحة والتجربة لكنه هدى ناقص .وقوله : { هو الهدى } الضمير ضمير فصل . والتعريف في الهدى تعريف الجنس الدال على الاستغراق ففيه طريقان من طرق الحصر هما ضمير الفصل وتعريف الجزأين وفي الجمع بينهما إفادة تحقيق معنى القصر وتأكيده للعناية به فأيهما اعتبرته طريق قصر كان الآخر تأكيداً للقصر وللخبر أيضاً .والتوكيد بإن لتحقيق الخبر وتحقيق نسبته وإبطال تردد المتردد لأن القصر الإضافي لما كان المقصود منه رد اعتقاد المخاطب قد لا يتفطن المخاطب إلى ما يقتضيه من التأكيد فزيد هنا مؤكد آخر وهو حرف ( إن ) اهتماماً بتأكيد هذا الحكم . فقد اجتمع في هذه الجملة عدة مؤكدات هي : حرف إن والقصر ، إذ القصر تأكيد على تأكيد ما في «المفتاح» فهو في قوة مؤكدين ، مع تأكيد القصر بضمير الفصل وهي تنحل إلى أربعة مؤكدات لأن القصر بمنزلة تأكيدين وقد انضم إليهما تأكيد القصر بضمير الفصل وتأكيد الجملة بحرف ( إن ) .ولعل الآية تشير إلى أن استقبال النبيء صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلى القبلة التي يستقبلها اليهود لقطع معذرة اليهود كما سيأتي في قوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } [ البقرة : 143 ] ، فأعلم رسوله بقوله : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } بأن ذلك لا يلين من تصلب اليهود في عنادهم فتكون إيماء إلى تمهيد نسخ استقبال بيت المقدس .وقوله : { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم } . اللام موطئة للقسم وذلك توكيد للخبر وتحقيق له . وعبر عن طريقتهم هنالك بالملة نظراً لاعتقادهم وشهرة ذلك عند العرب ، وعبر عنها هنا بالأهواء بعد أن مهد له بقوله : { إن هدى الله هو الهدى } فإن الهوى رأي ناشىء عن شهوة لا عن دليل ، ولهذا لم يؤت بالضمير الراجع للملة وعبر عنها بالاسم الظاهر فشملت أهواؤهم التكذيبَ بالنبيء وبالقرآن واعتقادَهم أن ملتهم لا ينقضها شرع آخر .وقوله : { مالك من الله من ولي ولا نصير } تحذير لكل من تلقى الإسلام أن لا يتبع بعد الإسلام أهواء الأمم الأخرى ، جاء على طريقة تحذير النبيء صلى الله عليه وسلم مثل :{ لَئن أشركتَ ليحبَطنَّ عملك } [ الزمر : 65 ] وهو جواب القسم ودليل جواب الشرط لأن اللام موطئة للقسم فالجواب لها . وجيء بإن اشرطية التي تأتي في مواقع عدم القطع بوقوع شرطها لأن هذا فرض ضعيف في شأن النبيء والمسلمين .والولي القريب والحليف . والنصير كل من يعين أحداً على من يريد به ضراً وكلاهما فعيل بمعنى فاعل .و ( من ) في قوله { من الله } متعلقة بولي لتضمينه معنى مانع من عقابه ويقدر مِثله بعد { ولا نصير } أي نصير من الله .و ( مِن ) في قوله : { من ولي } مؤكدة للنفي . وعطف النصير على الولي احتراس لأن نفي الولي لا يقتضي نفي كل نصير إذ لا يكون لأحد ولي لكونه دخيلاً في قبيلة ويكون أنصاره من جيرته . وكان القصد من نفي الولاية التعريض بهم في اعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه فنفى ذلك عنهم حيث لم يتبعوا دعوة الإسلام ثم نفى الأعم منه وهذه نكتة عدم الاقتصار على نفي الأعم .وقد اشتملت جملة { ولئن اتبعت أهواءهم } إلى آخرها على تحذير من الطمع في استدناء اليهود أو النصارى بشيء من استرضائهم طمعاً في إسلامهم بتألف قلوبهم فأكد ذلك التحذير بعشرة مؤكدات وهي القسم المدلول عليه باللام الموطئة للقسم . وتأكيد جملة الجزاء بإنَّ وبلام الابتداء في خبرها . واسميةُ جملة الجزاء وهي { مَالَك من الله من ولي ولا نصير } . وتأكيدُ النفي بِمنْ في قوله { من ولي } . والاجمالُ ثم التفصيل بذكر اسم الموصول وتبيينه بقوله { من العِلم } . وجعل الذي جاء ( أي أنزل إليه ) هو العلم كله لعدم الاعتداد بغيره لنقصانه . وتأكيدُ { من ولي } بعطف { ولا نصير } الذي هو آيل إلى معناه وإن اختلف مفهومه ، فهو كالتأكيد بالمرادف . | Arabic Tanweer Tafseer | 2:120 |
ثم بين القرآن موقف أهل الكتاب من الدعوة الإِسلامية فقال : ( وَلَنْ ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) .الملة : الطريقة المسلوكة ، ثم جعلت اسما لما شرعه الله لعباده على لسان نبيه ليتوصلوا إلى السعادة الدائمة ، وقد تطلق على ما ليس حقاً من الأديان المنحرفة أو الباطلة ، كما حكى القرآن عن يوسف عليه السلام - أنه قال :( إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ ) وأفرد القرآن الملة فقال - تعالى - ملتهم - " مع أن لكل من اليهود والنصارى ملة خاصة ، لأن الملتين بالنظر لأى مخالفتهما لدين الإِسلام وما طرأ عليهما من التحريف بمنزلة واحدة ، فاتباع إحداهما كاتباع الأخرى في قلة الانتفاع به .ومعنى الغاية في قوله : " حتى تتبع ملتهم الكناية عن اليأس من اتباع أهل الكتاب لشريعة الإِسلام ، لأنهم لما كانوا لا يرضون إلا باتباعه صلى الله عليه وسلم ملتهم وكان اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لملتهم مستحيلا ، فقد صار رضاهم عنه كذلك مستحيلا ، فالجملة الكريمة مبالغة في الإِقناط من إسلامهم ، وتنبيه على أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز وقوعه منه .ثم لقن الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم الجواب فقال : ( قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى ) .وهدى الله : دينه والهدى ، بمعنى الهادي إلى طريق الفلاح في الدنيا والآخرة . أي : ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الحق الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي لا ما يدعيه هؤلاء من الأهواء .وإيراد الهدى معرفاً بأل مع اقترانه بضمير الفصل " هو " يفيد قصر الهداية على دين الله ، وينفي أن يكون في دين غير دين الله هدى . وإذا كانت الهداية مقصورة على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يطمع أهل الكتاب في أن يتبع ملتهم؟ | Arabic Waseet Tafseer | 2:120 |
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىقال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) ، وليست اليهود ، يا محمد ، ولا النصارى براضية عنك أبدا ، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم ، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم. ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم، لأن اليهودية ضد النصرانية ، والنصرانية ضد اليهودية ، ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد في حال واحدة ، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك ، إلا أن تكون يهوديا نصرانيا ، وذلك مما لا يكون منك أبدا ، لأنك شخص واحد ، ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة. وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل ، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل. وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل ، فالزم هدى الله الذي لجمع الخلق إلى الألفة عليه سبيل .* * *وأما " الملة " فإنها الدين ، وجمعها الملل.* * *ثم قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد - لهؤلاء النصارى واليهود الذين قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى -(إن هدى الله هو الهدى) ، يعني إن بيان الله هو البيان المقنع، والقضاء الفاصل بيننا ، فهلموا إلى كتاب الله وبيانه- الذي بين فيه لعباده ما اختلفوا فيه ، وهو التوراة التي تقرون جميعا بأنها من عند الله ، يتضح لكم فيها المحق منا من المبطل ، وأينا أهل الجنة ، وأينا أهل النار ، وأينا على الصواب ، وأينا على الخطأ.وإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى هدى الله وبيانه ، لأن فيه تكذيب اليهود والنصارى فيما قالوا من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى ، وبيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن المكذب به من أهل النار دون المصدق به.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولئن اتبعت)، يا محمد ، هوى هؤلاء اليهود والنصارى - فيما يرضيهم عنك - من تهود وتنصر ، فصرت من ذلك إلى إرضائهم ، ووافقت فيه محبتهم - من بعد الذي جاءك من العلم بضلالتهم وكفرهم بربهم ، ومن بعد الذي اقتصصت عليك من نبئهم في هذه السورة - ما لك من الله من ولي = يعني بذلك: ليس لك يا محمد من ولي يلي أمرك ، وقيم يقوم به = ولا نصير ، ينصرك من الله ، فيدفع عنك ما ينـزل بك من عقوبته ، ويمنعك من ذلك، إن أحل بك ذلك ربك.وقد بينا معنى " الولي" و " النصير " فيما مضى قبل. (1)وقد قيل: إن الله تعالى ذكره أنـزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لأن اليهود والنصارى دعته إلى أديانها ، وقال كل حزب منهم: إن الهدى هو ما نحن عليه دون ما عليه ، غيرنا من سائر الملل. فوعظه الله أن يفعل ذلك ، وعلمه الحجة الفاصلة بينهم فيما ادعى كل فريق منهم.----------------الهوامش :(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2 : 488 ، 489 . | الطبري | 2:120 |
قوله تعالى : ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير[ ص: 90 ] قوله تعالى : ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم فيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : قوله تعالى : ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم المعنى : ليس غرضهم يا محمد بما يقترحون من الآيات أن يؤمنوا ، بل لو أتيتهم بكل ما يسألون لم يرضوا عنك ، وإنما يرضيهم ترك ما أنت عليه من الإسلام واتباعهم . يقال : رضي يرضى رضا ورضا ورضوانا ورضوانا ومرضاة ، وهو من ذوات الواو ، ويقال في التثنية : رضوان ، وحكى الكسائي : رضيان . وحكي رضاء ممدود ، وكأنه مصدر راضى يراضي مراضاة ورضاء . تتبع منصوب بأن ولكنها لا تظهر مع حتى ، قاله الخليل . وذلك أن حتى خافضة للاسم ، كقوله : حتى مطلع الفجر وما يعمل في الاسم لا يعمل في الفعل ألبتة ، وما يخفض اسما لا ينصب شيئا . وقال النحاس : تتبع منصوب بحتى ، وحتى بدل من أن . والملة : اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله . فكانت الملة والشريعة سواء ، فأما الدين فقد فرق بينه وبين الملة والشريعة ، فإن الملة والشريعة ما دعا الله عباده إلى فعله ، والدين ما فعله العباد عن أمره .الثانية : تمسك بهذه الآية جماعة من العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وداود وأحمد بن حنبل على أن الكفر كله ملة واحدة ، لقوله تعالى : ملتهم فوحد الملة ، وبقوله تعالى : لكم دينكم ولي دين ، وبقوله عليه السلام : لا يتوارث أهل ملتين على أن المراد به الإسلام والكفر ، بدليل قوله عليه السلام : لا يرث المسلم الكافر . وذهب مالك وأحمد في الرواية الأخرى إلى أن الكفر ملل ، فلا يرث اليهودي النصراني ، ولا يرثان المجوسي ، [ ص: 91 ] أخذا بظاهر قوله عليه السلام : لا يتوارث أهل ملتين ، وأما قوله تعالى : ملتهم فالمراد به الكثرة وإن كانت موحدة في اللفظ بدليل إضافتها إلى ضمير الكثرة ، كما تقول : أخذت عن علماء أهل المدينة - مثلا - علمهم ، وسمعت عليهم حديثهم ، يعني علومهم وأحاديثهم .قوله تعالى : قل إن هدى الله هو الهدى المعنى ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الحق الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي ، لا ما يدعيه هؤلاء .قوله تعالى : ولئن اتبعت أهواءهم الأهواء جمع هوى ، كما تقول : جمل وأجمال ، ولما كانت مختلفة جمعت ، ولو حمل على أفراد الملة لقال هواهم . وفي هذا الخطاب وجهان : أحدهما : أنه للرسول ، لتوجه الخطاب إليه . والثاني : أنه للرسول والمراد به أمته ، وعلى الأول يكون فيه تأديب لأمته ، إذ منزلتهم دون منزلته . وسبب الآية أنهم كانوا يسألون المسالمة والهدنة ، ويعدون النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام ، فأعلمه الله أنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ، وأمره بجهادهم .فائدة جليلة : قوله تعالى : من العلم سئل أحمد بن حنبل عمن يقول : القرآن مخلوق ، فقال : كافر ، فقيل : بم كفرته ؟ فقال : بآيات من كتاب الله تعالى : ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم والقرآن من علم الله . فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر . | Arabic Qurtubi Tafseer | 2:120 |
يخبر تعالى رسوله, أنه لا يرضى منه اليهود ولا النصارى, إلا باتباعه دينهم, لأنهم دعاة إلى الدين الذي هم عليه, ويزعمون أنه الهدى، فقل لهم: { إِنَّ هُدَى اللَّهِ } الذي أرسلت به { هُوَ الْهُدَى } وأما ما أنتم عليه, فهو الهوى بدليل قوله { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } فهذا فيه النهي العظيم, عن اتباع أهواء اليهود والنصارى, والتشبه بهم فيما يختص به دينهم، والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمته داخلة في ذلك، لأن الاعتبار بعموم المعنى لا بخصوص المخاطب، كما أن العبرة بعموم اللفظ, لا بخصوص السبب. | Arabic Saddi Tafseer | 2:120 |
قوله عز وجل ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ) وذلك أنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة ويطمعونه في أنه إن أمهلهم اتبعوه فأنزل الله تعالى هذه الآية ، معناه وإنك إن هادنتهم فلا يرضون بها وإنما يطلبون ذلك تعللا ولا يرضون منك إلا باتباع ملتهم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا في القبلة وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي إلى قبلتهم فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة أيسوا في أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله تعالى ( ولن ترضى عنك اليهود ) إلا باليهودية ( ولا النصارى ) إلا بالنصرانية ، والملة الطريقة ( ولئن اتبعت أهواءهم ) قيل الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة كقوله " لئن أشركت ليحبطن عملك " ( 65 - الزمر ) ( بعد الذي جاءك من العلم ) البيان بأن دين الله هو الإسلام والقبلة قبلة إبراهيم عليه السلام وهي الكعبة ( ما لك من الله من ولي ولا نصير ) . | Arabic Baghawy Tafseer | 2:120 |
وقوله "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته" عبدالرزاق عن معمر عن قتادة: هم اليهود والنصارى وهو قول عبدالرحمن بن زيد بن أسلم واختاره ابن جرير. وقال: سعيد عن قتادة: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا إبراهيم بن موسى وعبدالله بن عمران الأصبهاني قال أخبرنا يحيى بن يمان حدثنا أسامة بن زيد عن أبيه عن عمر بن الخطاب "يتلونه حق تلاوته" قال: إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار وقال أبو العالية قال ابن مسعود والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله اللّه ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله وكذا رواه عبدالرزاق عن معمر عن قتادة ومنصور بن المعتمر عن ابن مسعود قال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في هذه الآية. قال: "يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه". وقال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن مسعود نحو ذلك وقال الحسن البصري: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبو زرعة أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا ابن أبي زائدة أخبرنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله "يتلونه حق تلاوة" قال: يتبعونه حق اتباعه ثم قرأ "والقمر إذا تلاها" يقول اتبعها قال: وروي عن عكرمه وعطاء ومجاهد وأبي رزين وإبراهيم النخعي نحو ذلك. وقال سفيان الثوري أخبرنا زبيد عن مرة عن عبدالله بن مسعود في قوله يتلونه حق تلاوة قال يتبعونه حق اتباعه. قال القرطبي وروى نصر بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "يتلونه حق تلاوته" قال يتبعونه حق اتباعه ثم قال في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكره الخطيب إلا أن معناه صحيح وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة وقال عمر بن الخطاب: هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها قال: وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مر بآية رحمة سأل وإذا مر بآية عذاب تعوذ وقوله "أولئك يؤمنون به" خبر عن الذين آتيناهم الكتاب "يتلونه حق تلاوته" أي من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته آمن بما أرسلتك به يا محمد كما قال تعالى "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" الآية. وقال "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم" أي إذا أقمتموها حق الإقامة وآمنتم بها حق الإيمان وصدقتم ما فيها من الإخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته قادكم ذلك الحق واتباع الخير في الدنيا والآخرة كما قال تعالى "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل" الآية. وقال تعالى قل آمنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا" أى إن كان ما وعدنا به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعا وقال تعالى "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون" وقال تعالى "وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد" ولهذا قال تعالى" ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون" كما قال تعالى "ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده".وفي الصحيح "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار". | ابن كثير | 2:121 |
الذين أعطيناهم الكتاب من اليهود والنصارى، يقرؤونه القراءة الصحيحة، ويتبعونه حق الاتباع، ويؤمنون بما جاء فيه من الإيمان برسل الله، ومنهم خاتمهم نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يحرفون ولا يبدِّلون ما جاء فيه. هؤلاء هم الذين يؤمنون بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه، وأما الذين بدَّلوا بعض الكتاب وكتموا بعضه، فهؤلاء كفار بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه، ومن يكفر به فأولئك هم أشد الناس خسرانًا عند الله. | المیسر | 2:121 |
استئناف ناشىء عن قوله : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } [ البقرة : 120 ] مع قوله : { إن هدى الله هو الهدى } [ البقرة : 120 ] لتضمنه أن اليهود والنصارى ليسوا يومئذ على شيء من الهدى؟ كأنَّ سائلاً سأل : كيف وهم متمسكون بشريعة؟ ومَن الذي هو على هدى ممن اتَّبع هاتين الشريعتين؟ فأجيب بأن الذين أوتوا الكتاب وَتَلْوه حقَّ تلاوته هم الذين يؤمنون به .ويجوز أن يكون اعتراضاً في آخر الكلام لبيان حال المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب لقصد إبطال اعتقادهم أنهم على التمسك بالإيمان بالكتاب ، وهو ينظر إلى قوله تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه } [ البقرة : 91 ] إلخ . وهو صدر هاته المحاورات وما تخللها من الأمثال والعِبر والبيان . فقوله : { الذين آتيناهم الكتاب } فذلكة لما تقدم وجواب قاطع لمعذرتهم المتقدمة ، وهو من باب رَد العجز على الصدر . ولأحد هذين الوجهين فُصلت الجملة ولم تعطف لأنها في معنى الجواب ، ولأن المحكي بها مباين لما يقابله المتضمن له قوله : { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } ولِما انتُقِلَ منه إليه وهو قوله : { وقالوا اتخذ الله ولداً } [ البقرة : 116 ] وقوله : { وقال الذين لا يعلمون } [ البقرة : 118 ] . وقوله : { يتلونه حق تلاوته } حال من الذين أوتوا الكتاب إذ هم الآن يتلونه حق تلاوته . وانتصب { حقَّ تلاوته على المفعول المطلق وإضافته إلى المصدر من إضافة الصفة إلى الموصوف أي تلاوةً حَقاً .و ( الحق ) هنا ضد الباطل أي تلاوة مستوفية قِوام نوْعها لا ينقصها شيء مما يعتبر في التلاوة وتلك هي التلاوة بفهم مقاصد الكلام المتلو فإن الكلام يراد منه إفهام السامع فإذا تلاه القارىء ولم يفهم جميع ما أراده قائلُه كانت تلاوته غامضة ، فحق التلاوة هو العلم بما في المتلو .وقولُه : أولئك يؤمنون به } جملة هي خبر المبتدأ وهو اسم الموصول ، وجيء باسم الإشارة في تعريفهم دون الضمير وغيره للتنبيه على أن الأوصاف المتقدمة التي استحضروا بواسطتها حتى أشير إليهم باتصافهم بها هي الموجبة لجدارتهم بالحكم المسند لاسم الإشارة على حد { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] فلا شك أن تلاوتهم الكتاب حق تلاوته تثبت لهم أوْحَدِيَّتهم بالإيمان بذلك الكتاب لأن إيمان غيرهم به كالعدم . فالقصر ادعائي . فضمير { به } راجع إلى ( الكتاب ) من قوله : { الذين آتيناهم الكتاب } . وإذا كانوا هم المؤمنين به كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم لانطباق الصفات التي في كتبهم عليه ولأنهم مأخوذ عليهم العهد أن يؤمنوا بالرسول المقفى وأن يجتهدوا في التمييز بين الصادق من الأنبياء والكذبة حتى يستيقنوا انطباق الصفات على النبيء الموعود به فمن هنا قال بعض المفسرين إن ضمير { به } عائد إلى النبيء صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يتقدم له معاد .ويجوز أن يعود الضمير من قوله : { يؤمنون به } إلى الهدي في قوله : { قل إن الهدى هدى الله } [ البقرة : 120 ] أي يؤمنون بالقرآن أنه منزل من الله فالضمير المجرور بالباء راجع للكتاب في قوله : { آتيناهم الكتاب } والمراد به التوراة والإنجيل واللام للجنس ، أو التوراة فقط لأنها معظم الدينين والإنجيل تكملة فاللام للعهد . ومن هؤلاء عبد الله بن سلام من اليهود وعدي بن حاتم وتميم الداري من النصارى .والقول في قوله : { ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون } كالقول في { أولئك يؤمنون به } وهو تصريح بحكم مفهوم { أولئك يؤمنون به } وفيه اكتفاء عن التصريح بحكم المنطوق وهو أن المؤمنين به هم الرابحون ففي الآية إيجاز بديع لدلالتها على أن الذين أوتوا الكتاب يتلونه حق تلاوته هم المؤمنون دون غيرهم فهم كافرون فالمؤمنون به هم الفائزون والكافرون هم الخاسرون . | Arabic Tanweer Tafseer | 2:121 |
ثم حذر القرآن من اتباع أهل الكتاب فقال . ( وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ) .اللام في قوله : ( وَلَئِنِ ) تشعر بأن في الجملة قسماً مقدراً روعى في صدرها ليفيد تأكيد ما تضمنته من أن متبع أهواء أهل الكتاب لا يجد من الله ولياً ولا نصيراً .والأهواء : جمع هوى ، والمراد بها آراؤهم المنحرفة عن الحق الصادرة من شهوات في أنفسهم . والعلم : الدين : وسمى علماً لأنه يعلم بالأدلة القاطعة .والولي : القريب والحليف . والنضير : كل من يعين غيره على من يناوئه ويبسط إليه يده بسوء .والمعنى : ولئن اتبعت - يا محمد - آراءهم الزائفة ، بعد الذي جاءك من العلم بأن دين الله هو الإِسلام ، أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة ، مالك من الله من ولى يلي أمرك ولا نصير يدفع عنك عقابه .وإنما أوثر خطابه صلى الله عليه وسلم بذلك ليدخل دخولاً أولياً من اتبع أهواءهم بعد الإِسلام من المنافقين تمسكاً بولايتهم ، وطمعاً في نصرتهم . | Arabic Waseet Tafseer | 2:121 |
القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَقال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عناهم الله جل ثناؤه بقوله: (الذين آتيناهم الكتاب) فقال بعضهم: هم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من أصحابه.*ذكر من قال ذلك:1878- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله: (الذين آتيناهم الكتاب) ، هؤلاء أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ، آمنوا بكتاب الله وصدقوا به.* * *وقال آخرون: بل عنى الله بذلك علماء بني إسرائيل ، الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، فأقروا بحكم التوراة. فعملوا بما أمر الله فيها من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به ، والتصديق بما جاء به من عند الله.*ذكر من قال ذلك:1879- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )، قال: من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود فأولئك هم الخاسرون.* * *وهذا القول أولى بالصواب من القول الذي قاله قتادة. لأن الآيات قبلها مضت بأخبار أهل الكتابين ، وتبديل من بدل منهم كتاب الله ، وتأولهم إياه على غير تأويله ، وادعائهم على الله الأباطيل. ولم يجر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الآية التي قبلها ذكر ، فيكون قوله: (الذين آتيناهم الكتاب) ، موجها إلى الخبر عنهم ، ولا لهم بعدها ذكر في الآية التي تتلوها ، فيكون موجها ذلك إلى أنه خبر مبتدأ عن قصص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد انقضاء قصص غيرهم ، ولا جاء بأن ذلك خبر عنهم أثر يجب التسليم له. (2)فإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بمعنى الآية أن يكون موجها إلى أنه خبر عمن قص الله جل ثناؤه [قصصهم] في الآية قبلها والآية بعدها ، (3) وهم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل. وإذْ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية: الذين آتيناهم الكتاب الذي قد عرفته يا محمد -وهو التوراة- فقرءوه واتبعوا ما فيه ، فصدقوك وآمنوا بك ، وبما جئت به من عندي ، أولئك يتلونه حق تلاوته.* * *وإنما أدخلت الألف واللام في" الكتاب " لأنه معرفة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عرفوا أي الكتب عنى به.* * *القول في تأويل قوله تعالى : يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِقال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل: (يتلونه حق تلاوته) ، فقال بعضهم: معنى ذلك يتبعونه حق اتباعه.*ذكر من قال ذلك:1880- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثني ابن أبي عدي ، وعبد الأعلى ، وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا ابن أبي عدي جميعا ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس: (يتلونه حق تلاوته) ، يتبعونه حق اتباعه.1881- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود ، عن عكرمة بمثله.1880- وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة بمثله.1883- حدثني الحسن بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في قوله الله عز وجل: ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) ، قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ولا يحرفونه. (4)1884- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي قال، قال أبو مالك: إن ابن عباس قال في: (يتلونه حق تلاوته) ، فذكر مثله، إلا أنه قال: ولا يحرفونه عن مواضعه.1885- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا المؤمل قال، حدثنا سفيان قال: حدثنا يزيد ، عن مرة ، عن عبد الله في قول الله عز وجل: (يتلونه حق تلاوته) : قال: يتبعونه حق اتباعه.1886- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال، قال عبد الله بن مسعود: والذي نفسي بيده ، إن حق تلاوته : أن يحل حلاله ويحرم حرامه ، ويقرأه كما أنـزله الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله.1887- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة ومنصور بن المعتمر ، عن ابن مسعود في قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، أن يحل حلاله ويحرم حرامه ، ولا يحرفه عن مواضعه.1888- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا [أبو أحمد] الزبيري قال، حدثنا عباد بن العوام عمن ذكره ، عن عكرمة ، عن ابن عباس: (يتلونه حق تلاوته) يتبعونه حق اتباعه.1889- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام ، عن الحجاج ، عن عطاء ، بمثله.1890- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين في قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: يتبعونه حق اتباعه.1891- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان -وحدثني المثنى قال، حدثني أبو نعيم قال، حدثنا سفيان- وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان - قالوا جميعا: عن منصور، عن أبي رزين، مثله.1892- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: عملا به. (5)1893- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك ، عن قيس بن سعد: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: يتبعونه حق اتباعه، ألم تر إلى قوله: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [سورة الشمس: 2] ، يعني الشمس إذا تَبعها القمر.1894- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء وقيس بن سعد ، عن مجاهد في قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: يعملون به حق عمله.1895- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد قال، يتبعونه حق اتباعه.1896- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.1897- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: (يتلونه حق تلاوته) ، يعملون به حق عمله.1898- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن مجاهد في قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: يتبعونه حق اتباعه.1899- حدثني عمرو قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر ، عن أبي أيوب ، عن أبي الخليل ، عن مجاهد: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: يتبعونه حق اتباعه. (6)1900- حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى القطان ، عن عبد الملك ، عن عطاء قوله: (يتلونه حق تلاوته) قال: يتبعونه حق اتباعه ، يعملون به حق عمله.1901- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي ، عن المبارك ، عن الحسن: (يتلونه حق تلاوته) قال: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. (7)1902- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وعملوا بما فيه، ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: إن حق تلاوته : أن يحل حلاله ، ويحرم حرامه ، وأن يقرأه كما أنـزله الله عز وجل ، ولا يحرفه عن مواضعه.1903- حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا الحكم بن عطية ، سمعت قتادة يقول: (يتلونه حق تلاوته) قال: يتبعونه حق اتباعه. قال: اتباعه : يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ويقرءونه كما أنـزل.1904- حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم عن داود ، عن عكرمة في قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: يتبعونه حق اتباعه، أما سمعت قول الله عز وجل: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [سورة الشمس: 2] ، قال: إذا تبعها.* * *وقال آخرون : (يتلونه حق تلاوته) ، يقرءونه حق قراءته. (8)* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك أنه بمعنى: يتبعونه حق اتباعه ، من قول القائل: ما زلت أتلو أثره ، إذا اتبع أثره، (9) لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله.وإذ كان ذلك تأويله ، فمعنى الكلام: الذين آتيناهم الكتاب ، يا محمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبما جئتهم به من الحق من عندي ، يتبعون كتابي الذي أنـزلته على رسولي موسى صلوات الله عليه ، فيؤمنون به ويقرون بما فيه من نعتك وصفتك ، وأنك رسولي، فرضٌ عليهم طاعتي في الإيمان بك والتصديق بما جئتهم به من عندي ، ويعملون بما أحللت لهم ، ويجتنبون ما حرمت عليهم فيه ، ولا يحرفونه عن مواضعه ولا يبدلونه ولا يغيرونه - كما أنـزلته عليهم - بتأويل ولا غيره.* * *أما قوله: (حق تلاوته) ، فمبالغة في صفة اتباعهم الكتاب ولزومهم العمل به ، كما يقال: " إن فلانا لعالم حق عالم " ، وكما يقال: " إن فلانا لفاضل كل فاضل " (10)* * *وقد اختلف أهل العربية في إضافة " حق " إلى المعرفة ، فقال بعض نحويي الكوفة: غير جائزة إضافته إلى معرفة لأنه بمعنى " أي" ، وبمعنى قولك: " أفضل رجل فلان " ، و " أفعل " لا يضاف إلى واحد معرفة ، لأنه مبعض ، ولا يكون الواحد المبعض معرفة. فأحالوا أن يقال: " مررت بالرجل حق الرجل " ، و " مررت بالرجل جِدِّ الرجل " ، كما أحالوا " مررت بالرجل أي الرجل " ، وأجازوا ذلك في" كل الرجل " و " عين الرجل " و " نفس الرجل ". (11) وقالوا: إنما أجزنا ذلك لأن هذه الحروف كانت في الأصل توكيدا ، فلما صرن مدوحا ، تركن مدوحا على أصولهن في المعرفة.وزعموا أن قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، إنما جازت إضافته إلى التلاوة ، وهي مضافة إلى معرفة، لأن العرب تعتد ب " الهاء " -إذا عادت إلى نكرة - بالنكرة ، فيقولون: " مررت برجل واحد أمه ، ونسيج وحده ، وسيد قومه "، قالوا: فكذلك قوله: (حق تلاوته) ، إنما جازت إضافة " حق " إلى " التلاوة " وهي مضافة إلى " الهاء " ، لاعتداد العرب ب " الهاء " التي في نظائرها في عداد النكرات. قالوا: ولو كان ذلك " حق التلاوة "، لوجب أن يكون جائزا: " مررت بالرجل حق الرجل ".فعلى هذا القول تأويل الكلام: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوة.* * *وقال بعض نحويي البصرة: جائزة إضافة " حق " إلى النكرات مع النكرات ، ومع المعارف إلى المعارف، وإنما ذلك نظير قول القائل: " مررت بالرجل غلام الرجل " ، و " برجل غلام رجل ".فتأويل الآية على قول هؤلاء: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته (12)* * *وأولى ذلك بالصواب عندنا القول الأول، لأن معنى قوله: (حق تلاوته) ، أي تلاوة ، بمعنى مدح التلاوة التي تلوها وتفضيلها." وأي" غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة عند جميعهم. وكذلك " حق " غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة .وإنما أضيف في (حق تلاوته ) إلى ما فيه " الهاء " لما وصفت من العلة التي تقدم بيانها.* * *القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِقال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (أولئك)، هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يتلون ما آتاهم من الكتاب حق تلاوته ، وأما قوله: (يؤمنون) ، فإنه يعني: يصدقون به. و " الهاء " التي في قوله : " به " عائدة على " الهاء " التي في تِلاوَتِهِ ، وهما جميعا من ذكر الكتاب الذي قاله الله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ .فأخبر الله جل ثناؤه أن المؤمن بالتوراة ، هو المتبع ما فيها من حلالها وحرامها ، والعامل بما فيها من فرائض الله التي فرضها فيها على أهلها ، وأن أهلها الذين هم أهلها من كان ذلك صفته، دون من كان محرفا لها مبدلا تأويلها ، مغيرا سننها تاركا ما فرض الله فيها عليه.* * *وإنما وصف جل ثناؤه من وُصف بما وصف به من متبعي التوراة ، وأثنى عليهم بما أثنى به عليهم، لأن في اتباعها اتباع محمد نبي الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، لأن التوراة تأمر أهلها بذلك ، وتخبرهم عن الله تعالى ذكره بنبوته ، وفرض طاعته على جميع خلق الله من بني آدم ، وأن في التكذيب بمحمد التكذيب لها. فأخبر جل ثناؤه أن متبعي التوراة هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم العاملون بما فيها، كما:-1905- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أولئك يؤمنون به) ، قال: من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل ، وبالتوراة ، وإن الكافر بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الكافر بها الخاسر ، كما قال جل ثناؤه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ . (13)* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ومن يكفر به) ، ومن يكفر بالكتاب الذي أخبر أنه يتلوه - من آتاه من المؤمنين - حق تلاوته. ويعني بقوله جل ثناؤه: (يكفر) ، يجحد ما فيه من فرائض الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتصديقه ، ويبدله فيحرف تأويله ، أولئك هم الذين خسروا علمهم وعملهم ، فبخسوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله ، واستبدلوا بها سخط الله وغضبه. وقال ابن زيد في قوله، بما:-1906- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) ، قال: من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود ، (فأولئك هم الخاسرون).-------------------الهوامش :(2) رحم الله أبا جعفر ، فهو لا يدع الاحتجاج الصحيح عند كل آية ، ولكن بعض أهل التفسير يتجاوزون ويتساهلون ، فليتهم نهجوا نهجه في الضبط والحفظ والاستدلال .(3) ما بين القوسين زيادة لا بد منها .(4) الأثر : 1883 - في المطبوعة : "الحسن بن عمرو العبقري" ، وانظر التعليق على الأثر رقم : 1625 وكذلك مضى في الأثر : 1655"الحسن" ، وهو خطأ ، نصححه .(5) الأثر : 1892 - في المطبوعة : "أبو حميد" ، والصواب ما اثبت ، وهو محمد بن حميد ، وهو كثير ذكره فيما سلف .(6) الخبر: 1899 - أبو قتيبة: هو سلم بن قتيبة الشعيري - بفتح الشين المعجمة - الخراساني، وهو ثقة مأمون، أخرج له البخاري وأصحاب السنن. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/160، وابن أبي حاتم 2/1/1226.الحسن بن أبي جعفر الجفري : حسن الحديث ، تكلموا فيه ، ورجحنا تحسين أحاديثه مفصلا في شرح المسند : 5818 . مترجم في التهذيب ، والكبير 1/2/286 وابن أبي حاتم 1/2/29 . و"الجفري" : بضم الجيم وسكون الفاء ، نسبة إلى"جفرة خالد" بالبصرة . كما في الأنساب واللباب والمشتبه . أيوب : هو السختياني ، وفي المطبوعة"عن أبي أيوب" . وهو خطأ . استقينا تصويبه من التراجم . أبو الخليل : هو صالح بن أبي مريم الضبعي ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/290 وابن أبي حاتم 2/1/415 - 416 .(7) الخبر : 1901 - مبارك : هو ابن فضالة . وهو من أخص الناس بالحسن البصري . كما قلنا في : 611 .(8) انظر ما سلف في هذا الجزء 2 : 411 .(9) انظر ما سلف في هذا الجزء 2 : 411 .(10) انظر سيبويه 1 : 223 - 224 .(11) في المطبوعة"غير الرجل" .(12) الصواب أن يقول : "حق تلاوة الكتاب" ، ولعل الناسخ أخطأ .(13) انظر ما سلف في معنى"الخاسر" 1 : 417 ثم هذا الجزء 2 : 166 . | الطبري | 2:121 |
قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرونقوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب قال قتادة : هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، والكتاب على هذا التأويل القرآن . وقال ابن زيد : هم من أسلم من بني إسرائيل . والكتاب على هذا التأويل : التوراة ، والآية تعم . والذين رفع بالابتداء ، آتيناهم صلته ، يتلونه خبر الابتداء ، وإن شئت كان الخبر أولئك يؤمنون به .[ ص: 92 ] واختلف في معنى يتلونه حق تلاوته فقيل : يتبعونه حق اتباعه ، باتباع الأمر والنهي ، فيحللون حلاله ، ويحرمون حرامه ، ويعملون بما تضمنه ، قاله عكرمة . قال عكرمة : أما سمعت قول الله تعالى : والقمر إذا تلاها أي أتبعها ، وهو معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما . وقال الشاعر :قد جعلت دلوي تستتلينيوروى نصر بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : يتلونه حق تلاوته قال : ( يتبعونه حق اتباعه ) . في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكر الخطيب أبو بكر أحمد إلا أن معناه صحيح . وقال أبو موسى الأشعري : من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله ، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها . وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم : كان إذا مر بآية رحمة سأل ، وإذا مر بآية عذاب تعوذ . وقال الحسن : هم الذين يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه . وقيل : يقرءونه حق قراءته .قلت : وهذا فيه بعد ، إلا أن يكون المعنى يرتلون ألفاظه ، ويفهمون معانيه ، فإن بفهم المعاني يكون الاتباع لمن وفق . | Arabic Qurtubi Tafseer | 2:121 |
ثم قال: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * } يخبر تعالى أن الذين آتاهم الكتاب, ومنَّ عليهم به منة مطلقة, أنهم { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } أي: يتبعونه حق اتباعه, والتلاوة: الاتباع، فيحلون حلاله, ويحرمون حرامه, ويعملون بمحكمه, ويؤمنون بمتشابهه، وهؤلاء هم السعداء من أهل الكتاب, الذين عرفوا نعمة الله وشكروها, وآمنوا بكل الرسل, ولم يفرقوا بين أحد منهم. فهؤلاء, هم المؤمنون حقا, لا من قال منهم: { نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه } ولهذا توعدهم بقوله { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } | Arabic Saddi Tafseer | 2:121 |
{الذين آتيناهم الكتاب} قال ابن عباس رضي الله عنهما: "نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وكانوا أربعين رجلاً اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا"، وقال الضحاك: "هم من آمن من اليهود عبد الله بن سلام وسعية بن عمرو وتمام بن يهودا وأسد وأسيد ابنا كعب وابن يامين وعبد الله بن صوريا"،وقال قتادة وعكرمة: "هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"، وقيل: هم المؤمنون عامة.{يتلونه حق تلاوته} قال الكلبي: "يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم من الناس".والهاء راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الآخرون: هي عائدة إلى الكتاب.واختلفوا في معناه؛ فقال ابن مسعود رضي الله عنه: "يقرؤونه كما أنزل ولا يحرفونه، ويحلون حلاله ويحرمون حرامه"، وقال الحسن: "يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون علم ما أشكل عليهم إلى عالمه"، وقال مجاهد: "يتبعونه حق اتباعه".قوله: {أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون}. | Arabic Baghawy Tafseer | 2:121 |
وقد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة وكررت ههنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه وأمره وأمته فحذرهم من كتمان هذا وكتمان ما أنعم به عليهم وأمرهم أن يذكروا نعمة اللّه عليهم من النعم الدنيوية والدينية ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم اللّه من إرسال الرسول الخاتم منهم ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عن موافقته صلوات اللّه وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين. | ابن كثير | 2:122 |
يا ذرية يعقوب اذكروا نعمي الكثيرة عليكم، وأني فَضَّلتكم على عالَمي زمانكم بكثرة أنبيائكم، وما أُنزل عليهم من الكتب. | المیسر | 2:122 |
أعيد نداء بني إسرائيل نداء التنبيه والإنذار والتذكير على طريقة التكرير في الغرض الذي سيق الكلام الماضي لأجله ، فإنه ابتدأ نداءهم أولاً بمثل هاته الموعظة في ابتداء التذكير بأحوالهم الكثيرة خيرها وشرها عقب قوله : { وأنهم إليه راجعون } [ البقرة : 46 ] فذكر مثل هاته الجملة هناك كذكر المطلوب في صناعة المنطق قبل إقامة البرهان وذكرها هنا كذكر النتيجة في المنطق عقب البرهان تأييداً لما تقدم وفذلكة له وهو من ضروب رد العجز على الصدر . | Arabic Tanweer Tafseer | 2:122 |
وبعد أن ذكر القرآن في الآيات السابقة أحوال الكافرين من أهل الكتاب أخذ في بيان حال المؤمنين ، فقال :( الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ) .أي : يقرءونه قراءة حقه ، مصحوبة بضبط لفظه ، وتدبر معانيه ، ولا شك أن ضبط لفظه يقتضي عدم تحريف ما لا يوافق أهواء أهل الكتاب ، كالجمل الواردة في نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تدبره يستدعي اتباعه والعمل به .وجملة ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ) حال من الضمير ( هم ) أو من الكتاب وهذه احلال من قبيل الأحول التي تلابس صاحبها بعد وقوع عاملها ، فإنهم إنما يتلون الكتاب بعد أن يؤتوه . وهي التي تسمى بالحال المقدرة أي : مقدراً وقوعها بعد وقوع عاملها .والمراد بالذين أوتوا الكتاب ، مؤمنوا أهل الكتاب . والمراد بالكتاب التوارة والإِنجيل . أو هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب : القرآن .وأجاز بعضهم أن تكون الآية سيقت مدحاً لمن آمن من أهل الكتاب بالقرآن ، فيكون الضمير في يتلونه القرآن .وقوله : ( أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ ) خبر عن قوله : ( الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب ) .وفي ذكر الإشارة ووضعه في صدر الجملة المخبر بها ، زيادة تأكيد لإثبات إيمانهم .وفي هذه الجملة تعريض بأولئك المعاندين الذين كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونهن من بعد ما عقلوه ، فكاأن الآية التي معنا تقول : ( الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب ) وكان من حالهم أن قرءوه حق قراءته ، يؤمنون به إيماناً لا ريبه فيه ، بخلاف المعاندين المحرفين للكلم عن مواضعه .ثم بين - سبحانه - عاقبة الكافرين يكتبه فقال : ( وَمن يَكْفُرْ بِهِ فأولئك هُمُ الخاسرون ) .والكفر بالكتاب يتحقق بتحريفه وإنكار بع ما جاء فيه ، أي ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون في الدنيا حيث لا يعيشون فيها عيش المؤمنين وهم الخاسرون في الآخرة ، إذ سيفونهم ما أعده الله لعباده من نعيم دائم ، ومقام كريم . | Arabic Waseet Tafseer | 2:122 |
القول في تأويل قوله تعالى : يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)قال أبو جعفر: وهذه الآية عظة من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتذكير منه لهم ما سلف من أياديه إليهم في صنعه بأوائلهم ، استعطافا منه لهم على دينه وتصديق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بني إسرائيل اذكروا أيادي لديكم ، وصنائعي عندكم ، واستنقاذي إياكم من أيدي عدوكم فرعون وقومه ، وإنـزالي عليكم المن والسلوى في تيهكم ، وتمكيني لكم في البلاد ، بعد أن كنتم مذللين مقهورين ، واختصاصي الرسل منكم ، وتفضيلي إياكم على عالم من كنتم بين ظهرانيه ، أيام أنتم في طاعتي- (14) باتباع رسولي إليكم ، وتصديقه وتصديق ما جاءكم به من عندي ، ودعوا التمادي في الضلال والغي.وقد ذكرنا فيما مضى النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل ، والمعاني التي ذكرهم جل ثناؤه من آلائه عندهم ، والعالم الذي فضلوا عليه - فيما مضى قبل ، بالروايات والشواهد ، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته ، إذْ كان المعنى في ذلك في هذا الموضع وهنالك واحدا. (15)-------------------الهوامش :(14) إن لم يكن قد سقط هنا قوله : "وأعظكم باتباع رسولي . . " ، فإن قوله" باتباع رسولي" متعلق بقوله في صدر الخطاب : "اذكروا أيادي لديكم . . " .(15) انظر ما سلف في هذا الجزء 2 : 23 - 26 . | الطبري | 2:122 |
تقدم تفسير هذه الأية | Arabic Qurtubi Tafseer | 2:122 |
قد تقدم تفسير الآية | Arabic Saddi Tafseer | 2:122 |
{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} | Arabic Baghawy Tafseer | 2:122 |
وقد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة وكررت ههنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه وأمره وأمته فحذرهم من كتمان هذا وكتمان ما أنعم به عليهم وأمرهم أن يذكروا نعمة اللّه عليهم من النعم الدنيوية والدينية ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم اللّه من إرسال الرسول الخاتم منهم ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عن موافقته صلوات اللّه وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين. | ابن كثير | 2:123 |
وخافوا أهوال يوم الحساب إذ لا تغني نفس عن نفس شيئًا، ولا يقبل الله منها فدية تنجيها من العذاب، ولا تنفعها وساطة، ولا أحد ينصرها. | المیسر | 2:123 |
وقد أعيدت هذه الآية بالألفاظ التي ذكرت بها هنالك للتنبيه على نكتة التكرير للتذكير ولم يخالف بين الآيتين إلا من الترتيب بين العدل والشفاعة فهنالك قدمولا يقبل منها شفاعة [ البقرة : 48 ] وأخر { ولا يؤخذ منها عدل } [ البقرة : 48 ] وهنا قدم { ولا يقبل منها عدل } وأخر لفظ الشفاعة مسنداً إليه { تنفعها } وهو تفنن والتفنن في الكلام تنتفي به سآمة الإعادة مع حصول المقصود من التكرير . وقد حصل مع التفنن نكتة لطيفة إذ جاءت الشفاعة في الآية السابقة مسنداً إليها المقبولية فقدمت على العدل بسبب نفي قبولها ونفي قبول الشفاعة لا يقتضي نفي أخذ الفداء فعطف نفي أخذ الفداء للاحتراس ، وأما في هذه الآية فقدم الفداء لأنه أسند إليه المقبولية ونفي قبول الفداء لا يقتضي نفي نفع الشفاعة فعطف نفي نفع الشفاعة على نفي قبول الفداء للاحتراس أيضاً .والحاصل أن الذي نفي عنه أن يكون مقبولاً قد جعل في الآيتين أولاً وذكر الآخر بعده . وأما نفي القبول مرة عن الشفاعة ومرة عن العدل فلأن أحوال الأقوام في طلب الفكاك عن الجناة تختلف ، فمرة يقدمون الفداء فإذا لم يقبل قدموا الشفعاء ، ومرة يقدمون الشفعاء فإذا لم تقبل شفاعتهم عرضوا الفداء .وقوله : { ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة } مراد منه أنه لا عدل فيقبل ولا شفاعة شفيع يجدونه فتقبل شفاعته لأن دفع الفداء متعذر وتوسط الشفيع لمثلهم ممنوع إذ لا يشفع الشفيع إلا لمن أذن الله له . قال ابن عرفة فيكون نفي نفع الشفاعة هنا من باب قوله :على لا حب لا يهتدى بمناره ... يريد أنها كناية عن نفي الموصوف بنفي صفته الملازمة له كقولهم :ولا ترى الضب بها ينجَحِر ... وهو ما يعبر عنه المناطقة بأن السالبة تصدق مع نفي الموضوع وإنما يكون ذلك بطريق الكناية وأما أن يكون استعمالاً في أصل العربية فلا والمناطقة تبعوا فيه أساليب اليونان .والقول في بقية الآيات مستغنى عنه بما تقدم في نظيرتها .وهنا ختم الحجاج مع أهل الكتاب في هذه السورة وذلك من براعة المقطع . | Arabic Tanweer Tafseer | 2:123 |
وكما بدأ القرآن حديثه مع اليهود بندائهم بأحب أسمائهم إليهم ، فقد اختتمه - أيضاً - بهذا النداء فقال :( يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ . . . )في هاتين الآيتين تكرير لتذكير بني إسرائيل بما سبق أن ذكروا به في صدر الحديث معهم في هذه السورة ، وذلك لأهمية ما ناداهم من أجله وأهمية الشيء تقتضي تكرار الأمر به إبلاغاً في الحجة وتأكيداً للتذكرة .قال القاضي : ولما صدر القرآن قصة بني إسرائيل بذكر النعم والقيام بحقوقها والحذر من إضاعتها ، والخوف من الساعة وأهوالها ، كرر ذلك وختم به الكلام معهم ، مبالغاً في النصح وإيذاناً بأنه فذلكه القضية ، والمقصود من القصة .هذا وبعد أن ذكر الله - تعالى - في الآيات السابقة نعمه على بني إسرائيل ، وبين كيف كانوا يقابلون النعم بكفر وعناد ، ويأتون منكرات في الأقوال والأعمال ، وختم الحديث معهم بإنذار بالغ ، وتذكير بيوم لا يغني فيه أحد عن أحد شيئاً ، بعد كل ذلك واصل القرآن حديث عن قصة إبراهيم - عليه السلام - لأنهم هم والمشركون ينتمون إليه ويقرون بفضله ، فقال - تعالى - :( وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ . . . ) | Arabic Waseet Tafseer | 2:123 |
القول في تأويل قوله : وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)قال أبو جعفر : وهذه الآية ترهيب من الله جل ثناؤه للذين سلفت عظته إياهم بما وعظهم به في الآية قبلها. يقول الله لهم: واتقوا - يا معشر بني إسرائيل المبدلين كتابي وتنـزيلي ، المحرفين تأويله عن وجهه ، المكذبين برسولي محمد صلى الله عليه وسلم - عذاب يوم لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا ، ولا تغني عنها غناء ، أن تهلكوا على ما أنتم عليه من كفركم بي ، وتكذيبكم رسولي ، فتموتوا عليه، فإنه يوم لا يقبل من نفس فيما لزمها فدية ، ولا يشفع فيما وجب عليها من حق لها شافع ، ولا هي ينصرها ناصر من الله إذا انتقم منها بمعصيتها إياه. (16)* * *وقد مضى البيان عن كل معاني هذه الآية في نظيرتها قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (17)------------الهوامش :(16) في المطبوعة : "ولا هم ينصرهم" ، وهو خطأ ، صوابه ما أثبت .(17) انظر ما سلف في هذا الجزء 2 : 26 - 36 . | الطبري | 2:123 |
تقدم تفسير هذه الأية | Arabic Qurtubi Tafseer | 2:123 |
يخبر تعالى أن الذين آتاهم الكتاب, ومنَّ عليهم به منة مطلقة, أنهم { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } أي: يتبعونه حق اتباعه, والتلاوة: الاتباع، فيحلون حلاله, ويحرمون حرامه, ويعملون بمحكمه, ويؤمنون بمتشابهه، وهؤلاء هم السعداء من أهل الكتاب, الذين عرفوا نعمة الله وشكروها, وآمنوا بكل الرسل, ولم يفرقوا بين أحد منهم. فهؤلاء, هم المؤمنون حقا, لا من قال منهم: { نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه } ولهذا توعدهم بقوله { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } وقد تقدم تفسير الآية التي بعدها. | Arabic Saddi Tafseer | 2:123 |
{واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون}. | Arabic Baghawy Tafseer | 2:123 |
يقول تعالى منبها على شرف إبراهيم خليله عليه السلام وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد حين قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي ولهذا قال "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" أي واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليهم وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين اذكر لهؤلاء ابتلاء اللّه إبراهيم أي اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي "فأتمهن" أي قام بهن كلهن كما قال تعالى "وإبراهيم الذي وفى" أي وفى جميع ما شرع له فعمل به صلوات الله عليه وقال تعالى: "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين" وقال تعالى "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين" وقال تعالى "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا واللّه ولي المؤمنين" وقوله تعالى "بكلمات" أي بشرائع وأوامر ونواهٍ فإن الكلمات تطلق ويراد بها الكلمات القدرية كقوله تعالى عن مريم عليها السلام "وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين" وتطلق يراد بها الشرعية كقوله تعالى "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا" أي كلماته الشرعية وهي إما خبر صدق وإما طلب عدل إن كان أمرا أو نهي ومن ذلك هذه الآية الكريمة "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" أي قام بهن قال "إني جاعلك للناس إماما" أي جزاء على ما فعل كما قام بالأوامر وترك الزواجر جعله اللّه للناس قدوة وإماما يقتدى به ويحتذى حذوه. وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام فروي عن ابن عباس في ذلك روايات فقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال ابن عباس: ابتلاه اللّه بالمناسك وكذا رواه أبو إسحق السبيعي عن التميمي عن ابن عباس وقال عبدالرزاق أيضا أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي والنخعي وأبي صالح وأبي الجلد نحو ذلك "قلت" وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء" قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط" ولفظه لمسلم. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن ابن حنش بن عبد اللّه الصنعاني عن ابن عباس أنه كان يقول في تفسير هذه الآية"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"قال عشر ست في الإنسان وأربع في المشاعر. فأما التي في الإنسان حلق العانة ونتف الإبط والختان وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة. وتقليم الأظفار وقص الشارب والسواك وغسل يوم الجمعة والأربعة التي في المشاعر الطواف والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار والإفاضة. وقال داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم قال الله تعالى "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قلت له وما الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن؟ قال: الإسلام ثلاثون سهما منها عشر آيات في براءة "التائبون العابدون" إلى آخر الآية وعشر آيات في أول سورة "قد أفلح المؤمنون" و "سأل سائل بعذاب واقع" وعشر آيات في الأحزاب "إن المسلمين والمسلمات" إلى آخر الآية فأتمهن كلهن فكتبت له براءة قال الله "وإبراهيم الذي وفى" هكذا. رواه الحاكم وأبو جعفر بن جرير وأبو محمد بن أبي حاتم بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند به وهذا لفظ ابن أبي حاتم وقال محمد ابن إسحق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه فلما مضى على ذلك كله وأخلصه للبلاء قال الله له "أسلم قال أسلمت لرب العالمين" على ما كان من خلاف الناس وفراقهم. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبو سعيد الأشج أخبرنا إسماعيل بن علية عن أبي رجاء عن الحسن يعني البصري "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال ابتلاه بالكوكب فرضي عنه وابتلاه بالقمر فرضي عنه وابتلاه بالشمس فرضي عنه وابتلاه بالهجرة فرضي عنه وابتلاه بالختان فرضي عنه وابتلاه بابنه فرضي عنه. وقال ابن جرير أخبرنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع أخبرنا سعيد عن قتادة قال كان الحسن يقول: أي والله لقد ابتلاه بأمر فصبر عليه - ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر فأحسن في ذلك وعرف أن ربه دائم لا يزول فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما كان من المشركين ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك وابتلاه الله بذبح ابنه والختان فصبر على ذلك وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول في قوله "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال ابتلاه الله بذبح ولده وبالنار والكوكب والقمر والشمس وقال: أبو جعفر بن جرير أخبرنا ابن بشار أخبرنا سلم بن قتيبة أخبرنا أبو هلال عن الحسن "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر فوجده صابرا: وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" فمنهن "قال إني جاعلك للناس إماما" ومنهن "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" ومنهن الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم والرزق الذي رزق ساكنو البيت ومحمد بعث في دينهما: وقال: ابن أبي حاتم أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح أخبرنا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال الله لإبراهيم إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إماما؟ قال: نعم قال: ومن ذريتي؟ "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال: نعم قال: وأَمْنا؟ قال نعم: قال وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك قال: نعم قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله؟ قال نعم: قال ابن أبي نجيح سمعته من عكرمة فعرضته على مجاهد فلم ينكره وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال ابتلي بالآيات التي بعدها "إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال الكلمات "إني جاعلك للناس إماما وقوله "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل" الآية. قوله "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" الآية. قال فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قال السدي الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك... ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" وقال القرطبي: وفي الموطأ وغيره عن يحيى ابن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إبراهيم عليه السلام أول من اختتن وأول من ضاف الضيف وأول من قلم أظفاره وأول من قص الشارب وأول من شاب فلما رأى الشيب قال: يا رب ما هذا؟ قال وقار قال: يا رب زدني وقارا وذكر ابن أبي شيبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه قال أول من خطب على المنابر إبراهيم عليه السلام قال غيره وأول من برد البريد وأول من ضرب بالسيف وأول من استاك وأول من استنجى بالماء وأول من لبس السراويل وروي عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم وأن اتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم" "قلت": هذا الحديث لا يثبت والله أعلم ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام الشرعية. قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر وجائز أن يكون بعض ذلك ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع قال ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له. قال غير أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران أحدهما ما حدثنا به أبو كريب أخبرنا راشد بن سعد حدثني زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله: الذي وفى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: "سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون" إلى آخر الآية قال والآخر منهما ما حدثنا به أبو كريب أخبرنا الحسن عن عطية أخبرنا إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإبراهيم الذي وفى" قال أتدرون ما وفى قالوا الله ورسوله أعلم؟ قال "وفي عمل يومه أربع ركعات في النهار" ورواه آدم في تفسيره عن حماد بن سلمة وعبد بن حميد عن يونس بن محمد عن حماد بن سلمة عن جعفر بن الزبير به ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين وهو كما قال فإنه لا يجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما وضعفهما من وجوه عديدة فإن كلا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه والله أعلم. ثم قال ابن جرير ولو قال قائل إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبا لأن قوله "إني جاعلك للناس إماما" وقوله "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين" الآية وسائر الآيات التي هى نظير ذلك كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم "قلت" والذي قاله أولا من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله لأن السياق يعطي غير ما قالوه والله أعلم. وقوله قال "ومن ذريتي" قال "لا ينال عهدي الظالمين" لما جعل الله إبراهيم إماما سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون وأنه لا ينالهم عهد الله ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم والدليل على أنه أجيب إلى طلبته قوله تعالى في سورة العنكبوت "وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه وأما قوله تعالى قال "لا ينال عهدي الظالمين" فقد اختلفوا في ذلك فقال خصيف عن مجاهد في قوله "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال إنه سيكون في ذريتك ظالمون وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال "لا ينال عهدي الظالمين" قال لا يكون لي إمام ظالم وفي رواية لا أجعل إماما ظالما يقتدى به. وقال سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال لا يكون إمام ظالم يقتدى به. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا مالك بن إسماعيل أخبرنا شريك عن منصور عن مجاهد في قوله "ومن ذريتي" قال أما من كان منهم صالحا فأجعله إماما يقتدى به وأما من كان ظالما فلا ولا نعمة عين وقال سعيد بن جبير "لا ينال عهدي الظالمين" المراد به المشرك لا يكون إمام ظالم يقول لا يكون إمام مشرك. وقال ابن جريج عن عطاء قال "إني جاعلك للناس إماما" قال ومن ذريتي فأبى أن يجعل من ذريته إماما ظالما قلت لعطاء ما عهده قال أمره. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا عمرو بن ثور القيساري فيما كتب إلي أخبرنا الفريابي حدثنا سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال الله لإبراهيم "إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي" فأبى أن يفعل ثم قال "لا ينال عهدي الظالمين" وقال محمد بن إسحق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس "قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده ولا ينبغي أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله ومحسن ستنفذ فيه دعوته وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته وقال العوفي عن ابن عباس "لا ينال عهدي الظالمين" قال يعني لا عهد لظالم عليك في ظلمه أن تطيعه فيه وقال ابن جرير حدثنا إسحق أخبرنا عبدالرحمن بن عبداللّه عن إسرائيل عن مسلم الأعور عن مجاهد عن ابن عباس قال لا ينال عهدي الظالمين عهد وإن عاهدته وروي عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حيان نحو ذلك: وقال الثوري عن هارون بن عنترة عن أبيه قال ليس لظالم عهد وقال: عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله "لا ينال عهدي الظالمين" قال لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به وأكل وعاش وكذا قال: إبراهيم النخعي وعطاء والحسن وعكرمة وقال الربيع بن أنس عهد الله الذي عهد إلى عباده دينه يقول لا ينال دينه الظالمين ألا ترى أنه قال "وباركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين" يقول ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق وكذا روي عن أبي العالية وعطاء ومقاتل بن حيان وقال: جويبر عن الضحاك لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني ولا أنحلها إلا وليا لي يطيعني: وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه أخبرنا عبدالرحمن بن محمد بن حامد أخبرنا أحمد بن عبدالله بن سعيد الدامغاني أخبرنا وكيع عن الأعمش عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا ينال عهدي الظالمين" قال " لا طاعة إلا في المعروف وقال السدي "لا ينال عهدي الظالمين" يقول عهدي نبوتي - فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل عليه السلام أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه كما تقدم عن مجاهد وغيره والله أعلم وقال ابن خويز منداد المالكي: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكما ولا مفتيا ولا شاهدا ولا راويا. | ابن كثير | 2:124 |
واذكر-أيها النبي- حين اختبر الله إبراهيم بما شرع له من تكاليف، فأدَّاها وقام بها خير قيام. قال الله له: إني جاعلك قدوة للناس. قال إبراهيم: ربِّ اجعل بعض نسلي أئمة فضلا منك، فأجابه الله سبحانه أنه لا تحصل للظالمين الإمامةُ في الدين. | المیسر | 2:124 |
لما كملت الحجج نهوضاً على أهل الكتابين ومشركي العرب في عميق ضلالهم بإعراضهم عن الإسلام ، وتبين سوء نواياهم التي حالت دون الاهتداء بهديه والانتفاع بفضله ، وسجل ذلك على زعماء المعاندين أعني اليهود ابتداء بقوله : { يا بني إسرائيل } [ البقرة : 40 ] مرتين ، وأدمج معهم النصارى استطراداً مقصوداً ، ثم أنصف المنصفون منهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته ، انتقل إلى توجيه التوبيخ والتذكير إلى العرب الذين يزعمون أنهم أفضل ذرية إبراهيم وأنهم يتعلقون بملته ، وأنهم زرع إسماعيل وسدنة البيت الذي بناه ، وكانوا قد وُخزوا بجانب من التعريض في خلال المحاورات التي جرت مع أهل الكتاب للصفة التي جمعتهم وإياهم من حسد النبيء والمسلمين على ما أنزل عليهم من خير ، ومن قولهم ليس المسلمون على شيء ، ومن قولهم { اتخذ الله ولداً } [ البقرة : 116 ] ، ومن قولهم { لولا يكلمنا الله } [ البقرة : 118 ] . فلما أخذ اليهود والنصارى حظهم من الإنذار والموعظة كاملاً فيما اختصوا به ، وأخذوا مع المشركين حظهم من ذلك فيما اشتركوا فيه تهيأ المقام للتوجه إلى مشركي العرب لإعطائهم حظهم من الموعظة كاملاً فيما اختصوا به ، فمناسبة ذكر فضائل إبراهيم ومنزلته عند ربه ودعوته لعقبه عقب ذكر أحوال بني إسرائيل ، هي الاتحاد في المقصد ، فإن المقصود من تذكير بني إسرائيل بالنعم والتخويف ، تحريضهم على الإنصاف في تلقي الدعوة الإسلامية والتجرد من المكابرة والحسد وترك الحظوظ الدنيوية لنيل السعادة الأخروية . والمقصود من ذكر قصة إبراهيم موعظة المشركين ابتداء وبني إسرائيل تبعاً له ، لأن العرب أشد اختصاصاً بإبراهيم من حيث إنهم يزيدون على نسبهم إليه بكونهم حفظة حرمه ، ومنتمين قديماً للحنيفية ولم يطرأ عليهم دين يخالف الحنيفية بخلاف أهل الكتابين .فحقيق أن نجعل قوله { وإذ ابتلى } عطفاً على قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] كما دل عليه افتتاحه بإذ على نحو افتتاح ذكر خلق آدم بقوله : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } فإن الأول تذكير بنعمة الخلق الأول وقد وقع عقب التعجب من كفر المشركين بالخالق في قوله : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] ، عقبت تلك التذكرة بإنذار من كيفر بآيات اللهمن ذرية آدم بقوله : { فإما يأتينكم مني هدى } [ البقرة : 38 ] الآية ، ثم خص من بين ذرية آدم بنو إسرائيل الذين عُهد إليهم على لسان موسى عهد الإيمان وتصديق الرسول الذي يجيء مصدقاً لما معهم ، لأنهم صاروا بمنزلة الشهداء على ذرية آدم . فتهيأ المقام لتذكير الفريقين بأبيهم الأقرب وهو إبراهيم أي وجه يكون المقصود بالخطاب فيه ابتداء العرب ، ويضم الفريق الآخر معهم في قرن ، ولذلك كان معظم الثناء على إبراهيم بذكر بناء البيت الحرام وما تبعه إلى أن ذكرت القبلة وسط ذلك ، ثم طوي بالانتقال إلى ذكر سلف بني إسرائيل بقوله :{ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } [ البقرة : 133 ] ليفضي إلى قوله : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } [ البقرة : 135 ] فيرجع إلى تفضيل الحنيفية والإعلام بأنها أصل الإسلام وأن المشركين ليسوا في شيء منها وكذلك اليهود والنصارى . وقد افتتح ذكر هذين الطورين بفضل ذكر فضل الأبوين آدم وإبراهيم ، فجاء الخبران على أسلوب واحد على أبدع وجه وأحكم نظم . فتعين أن تقدير الكلام واذكر إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات .ومن الناس من زعم أن قوله : { وإذ ابتلى } عطف على قوله { نعمتي } [ البقرة : 122 ] أي اذكروا نعمتي وابتلائي إبراهيم ، ويلزمه تخصيص هاته الموعظة ببني إسرائيل ، وتخلل { واتقوا يوماً } [ البقرة : 123 ] بين المعطوفين وذلك يضيق شمول الآية ، وقد أدمج في ذلك قوله : { ومن ذريتي } وقوله : { لا ينال عهدي الظالمين } .وفي هذه الآية مقصد آخر وهو تمهيد الانتقال إلى فضائل البلد الحرام والبيت الحرام ، لإقامة الحجة على الذين عجبوا من نسخ استقبال بيت المقدس وتذرعوا بذلك إلى الطعن في الإسلام بوقوع النسخ فيه ، وإلى تنفير عامة أهل الكتاب من اتباعه لأنه غير قبلتهم ليظهر لهم أن الكعبة هي أجدر بالاستقبال وأن الله استبقاها لهذه الأمة تنبيهاً على مزية هذا الدين .والابتلاء افتعال من البلاء ، وصيغة الافتعال هنا للمبالغة والبلاء الاختبار وتقدم في قوله : { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } [ البقرة : 49 ] ، وهو مجاز مشهور فيه لأن الذي يكلف غيره بشيء يكون تكليفه متضمناً انتظار فعله أو تركه فيلزمه الاختبار فهو مجاز على مجاز ، والمراد هنا التكليف لأن الله كلفه بأوامر ونواه إما من الفضائل والآداب وإما من الأحكام التكليفية الخاصة به ، وليس في إسناد الابتلاء إلى الله تعالى إِشكال بعد أن عرفت أنه مجاز في التكليف ، ولك أن تجعله استعارة تمثيلية ، وكيفما كان فطريق التكليف وحي لا محالة ، وهذا يدل على أن إبراهيم أوحى إليه بنبوءة لتتهيأ نفسه لتلقي الشريعة فلما امتثل ما أمر به أوحى إليه بالرسالة وهي في قوله تعالى : { إني جاعلك للناس إماماً } فتكون جملة { إني جاعلك للناس إماماً } بدل بعض من جملة { وإذ ابتلى } ، ويجوز أن يكون الابتلاء هو الوحي بالرسالة ويكون قوله : { إني جاعلك للناس إماماً } تفسيراً لابتلى .والإمام الرسول والقدوة .و ( إبراهيم ) اسم الرسول العظيم الملقب بالخليل وهو إبراهيم بن تارح ( وتسمي العرب تارح آزر ) بن ناحور بن سروج ، ابن رعو ، ابن فالح ، ابن عابر ابن شالح ابن أرفكشاد ، ابن سام ابن نوح هكذا تقول التوراة . ومعنى إبراهيم في لغة الكلدانيين أب رحيم أو أب راحم قاله السهيلي وابن عطية ، وفي التوراة أن اسم إبراهيم إبرام وأن الله لما أوحى إليه وكلمه أمره أن يسمى إبراهيم لأنه يجعله أباً لجمهور من الأمم ، فمعنى إبراهيم على هذا أبو أمم كثيرة .ولد في أور الكلدانيين سنة 1996 ست وتسعين وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح ، ثم انتقل به والده إلى أرض كنعان ( وهي أرض الفنيقيين ) فأقاموا بحاران ( هي حوران ) ثم خرج منها لقحط أصاب حاران فدخل مصر وزوَّجه سارة وهنالك رام ملك مصر افتكاك سارة فرأى آية صرفته عن مرامه فأكرمها وأهداها جاريةً مصريةً اسمها هاجر وهي أم ولده إسماعيل ، وسماه الله بعد ذلك إبراهيم ، وأسكن ابنه إسماعيل وأمه هاجر بوادي مكة ثم لما شب إسماعيل بنى إبراهيم البيت الحرام هنالك .وتوفي إبراهيم سنة 1773 ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح .وفي اسمه لغات للعرب : إحداها إبراهيم وهي المشهورة وقرأ بها الجمهور ، والثانية إبراهام وقعت في قراءة هشام عن ابن عامر حيثما وقع اسم إبراهيم ، الثالثة إبراهِم وقعت في رجز لزيد بن عمرو بن نفيل :عذت بما عاذ به إبراهِمْ ... مستقبل الكعبة وهو قائمْوذكر أبو شامة في { شرح حرز الأماني } عن الفراء في إبراهيم ست لغات :إبراهيم ، إبراهام ، إبراهوم ، إبراهِم ، ( بكسر الهاء ) ، إبراهُم ( بفتح الهاء ) إبراهم ( بضم الهاء ) .ولم يقرأ جمهور القراء العشرة إلا بالأولى وقرأ بعضهم بالثانية في ثلاثة وثلاثين موضعاً سيقع التنبيه عليها في مواضعها ، ومع اختلاف هذه القراءات فهو لم يكتب في معظم المصاحف الأصلية إلا إبراهيم بإثبات الياء ، قال أبوعمرو الداني لم أجد في مصاحف العراق والشام مكتوباً إبراهم بميم بعد الهاء ولم يكتب في شيء من المصاحف إبراهام بالألف بعد الهاء على وفق قراءة هشام ، قال أبو زرعة سمعت عبد الله بن ذكوان قال : سمعت أبا خليد القارىء يقول في القرآن ستة وثلاثون موضعاً إبراهام قال أبو خليد : فذكرت ذلك لمالك بن أنس فقال عندنا مصحف قديم فنظر فيه ثم أعلمني أنه وجدها فيه كذلك ، وقال أبو بكر ابن مهران روى عن مالك بن أنس أنه قيل له : إن أهل دمشق يقرأون إبراهام ويدعون أنها قراءة عثمان رضي الله عنه فقال مالك ها مصحف عثمان عندي ثم دعا به فإذا فيه كما قرأ أهل دمشق .وتقديمُ المفعول وهو لفظ ( إبراهيم ) لأن المقصود تشريف إبراهيم بإضافة اسم رب إلى اسمه مع مراعاة الإيجاز فلذلك لم يقل وإذ ابتلى اللَّهُ إبراهيم .والكلمات الكلام الذي أوحَى الله به إلى إبراهيم إذ الكلمة لفظ يدل على معنى والمراد بها هنا الجمل كما في قوله تعالى : { كَلاَّ إنها كلمةٌ هو قائِلُها } [ المؤمنون : 100 ] ، وأَجْمَلَها هنا إذ ليس الغرض تفصيل شريعة إبراهيم ولا بسط القصة والحكاية وإنما الغرض بيان فضل إبراهيم ببيان ظهور عزمه وامتثاله لِتكاليف فأتَى بها كاملة فجوزي بعظيم الجزاء ، وهذه عادة القرآن في إجمال ما ليس بمحل الحاجة ، ولعل جمع الكلمات جمعَ السلامة يؤذن بأن المراد بها أصول الحنيفية وهي قليلة العدد كثيرة الكلفة ، فلعل منها الأمر بذبح ولده ، وأمره بالاختتان ، وبالمهاجرة بِهاجَر إلى شقة بعيدة وأعظم ذلك أَمْرُه بذبح ولده إسماعيل بوحي من الله إليه في الرؤيا ، وقد سمي ذلك بلاء في قوله تعالى :{ إن هذا لهو البلاء المبين } [ الصافات : 106 ] .وقوله : { فأتمهن } جيء فيه بالفاء للدلالة على الفور في الامتثال وذلك من شدة العزم . والإتمام في الأصل الإتيان بنهاية الفعل أو إكمال آخر أجزاء المصنوع .وتعدية فعل أَتم إلى ضمير ( كلمات ) مجاز عقلي ، وهو من تعليق الفعل بحاوي المفعول لأنه كالمكان له وفي معنى الإتمام قوله تعالى : { وإبراهيم الذي وفَّى } [ النجم : 37 ] ، وقوله : { قد صدقت الرؤيا } [ الصافات : 105 ] ، فالإفعال هنا بمعنى إيقاع الفعل على الوجه الأتم وليس المراد بالهمز التصيير أي صيرها تامة بعد أن كانت ناقصة إذ ليس المراد أنه فعل بعضها ثم أتى بالبعض الآخر ، فدل قوله : { فأتمهن } مع إيجازه على الامتثال وإتقانِه والفورِ فيه . وهذه الجملة هي المقصود من جزء القصة فيكون عطفها للدلالة على أنه ابتُلى فامتثَل كقولك دعوت فلاناً فأجاب .وجملة { قال إني جاعلك للناس إماماً } مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عما اقتضاه قوله : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } من تعظيم الخبر والتنويه به ، لما يقتضيه ظرف ( إذْ ) من الإشارة إلى قصة من الأخبار التاريخية العظيمة فيترقب السامع ما يترتب على اقتصاصها ، ويجوز أن يكون الفصل على طريقة المقاولة لأن هذا القول مجاوبة لما دل عليه قوله : { ابتلى } .والإمام مشتق من الأَم بفتح الهمزة وهو القصد وهو وزن فِعَال من صيغ الآلة سماعاً كالعِمَاد والنقاب والإزار والرداء ، فأصله ما يحصل به الأَم أي القصد ولما كان الدال على الطريق يقتدي به الساير دل الإمام على القدوة والهادي .والمراد بالإمام هنا الرسول فإن الرسالة أكمل أنواع الإمامة والرسول أكمل أفراد هذا النوع . وإنما عدل عن التعبير { برسولاً } إلى { إماماً } ليكون ذلك دالاً على أن رسالته تنفع الأمة المرسَل إليها بطريق التبليغ ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الاقتداء ، فإن إبراهيم عليه السلام رحل إلى آفاق كثيرة فتنقل من بلاد الكلدان إلى العراق وإلى الشام والحجاز ومصر ، وكان في جميع منازله محل التبجيل ولا شك أن التبجيل يبعث على الاقتداء ، وقد قيل إن دين بَرْهَمَا المتَّبَع في الهند أصلُه منسوب إلى اسم إبراهم عليه السلام مع تحريف أدخل على ذلك الدين كما أدخل التحريف على الحنيفية ، وليتأتَّى الإيجاز في حكاية قول إبراهيم الآتي { ومن ذريتي } ، فيكون قد سأل أن يكون في ذريته الإمامةُ بأنواعها من رسالةٍ ومُلك وقدوة على حسب التهيُّؤ فيهم ، وأقل أنواع الإمامة كونُ الرجل الكامللِ قدوةً لبنيه وأهل بيته وتلاميذه .وقوله : { قال ومن ذريتي } جواب صدر من إبراهيم فلذا حُكي بقال دون عاطف على طريق حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى :{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] والمقول معطوف على خطاب الله تعالى إياه يسمونه عطف التلقين وهو عطف المخاطَب كلاماً على ما وقع في كلام المتكلم تنزيلاً لنفسه في منزلة المتكلم يكمِّل له شيئاً ترَكَه المتكلم إما عن غفلة وإما عن اقتصار فيُلقنه السامعُ تدارُكَه بحيث يلتئم من الكلامين كلام تام في اعتقاد المخاطب .وفي الحديث الصحيح قال جرير بن عبد الله «بايعت النبيء على شهادة أن لا إله إلا الله إلخ فشرط عليَّ والنصححِ لكل مسلم» ، ومنه قول ابن الزبير للذي سأله فلم يعطه فقال لعن الله ناقةً حملتنِي إليك فقال ابن الزبير «إِنَّ ورَاكِبهَا» ، وقد لقبوه عطف التلقين كما في «شرح التفتزاني على الكشاف» وذلك لأن أكثر وقوع مثله في موقع العطف ، والأَوْلى أن تحذف كلمة عطف ونُسميَ هذا الصنفَ من الكلام باسم التلقين وهو تلقين السامع المتكلمَ ما يراه حقيقاً بأن يُلحقه بكلامه ، فقد يكون بطريقة العطف وهو الغالب كما هنا ، وقد يكون بطريقة الاستفهام الإنكاري والحال كقول تعالى : { قالوا بل نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنَا عليه آباءنا أَوْ لَوْ كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً } [ البقرة : 170 ] فإن الواو مع ( لو ) الوصلية واو الحال وليس واو العطف فهو إنكار على إلحاقهم المستفهم عنه بقولهم ودعواهم ، وقد يكون بطريقة الاستثناء كقول العباس لمَّا قال النبيء صلى الله عليه وسلم في حَرَم مكة «لاَ يُعْضَدُ شَجَرهُ» فقال العباس إِلاَّ الإذْخِرِ لِبيُوتنا وقَيْنِنَا ، وللكلام المعطوف عطفَ التلقين من الحُكم حُكْمُ الكلام المعطوف هو عليه خبراً وطلباً ، فإذا كان كما هنا على طريق العرض علم إمضاء المتكلم له إياه ، بإقراره كما في الآية أو التصريح به كما وقع في الحديث «إلا الإذخر» ، ثم هو في الإنشاء إذا عطف معمولُ الإنشاء يتضمن أن المعطوف له حكم المعطوف عليه ، ولما كان المتكلم بالعطف في الإنشاء هو المخاطب بالإنشاء لزم تأويل عطف التلقين فيه بأنه على إرادة العطف على معمول لازم الإنشاء ففي الأمر إذا عَطَف المأمورُ مفعولاً على مفعول الآمر كان المعنى زدني من الأمر فأَنا بصدد الامتثال وكذا في المنهي . والمعطوف محذوف دل عليه المقام أي وبعض من ذريتي أو وجاعلُ بعضضٍ من ذريتي .والذُّريَّة نسل الرجل وما تَوَالَد منه ومن أبنائه وبناتِه ، وهي مشتقة إما من الذَّرِّ اسماً وهو صغار النمل ، وإما من الذَّرِّ مصدراً بمعنى التفريق ، وإما من الذَّرْى والذَّرْو ( بالياء والواو ) وهو مصدر ذَرَتتِ الريحُ إذا سَفَت ، وإما من الذرء بالهمز وهو الخَلْق ، فوزنها إما فُعْلِيَّة بوزن النسب إلى ذر وضم الذال في النسب على غير قياس كما قالوا في النسب إلى دَهْر دُهْرِيّ بضم الدال ، وإما فُعِّيلَة أو فُعُّولَة من الذرى أو الذرو أو الذرء بإدغام اليائين أو الياء مع الواو أو الياء مع الهمزة بعد قلبها ياء وكل هذا تصريف لاشتقاق الواضع فليس قياس التصريف .وإنما قال إبراهيمُ : { ومن ذريتي } ولم يقل وَذُريتي لأنه يعلَم أن حكمة الله من هذا العالم لم تجر بأن يكون جميع نسل أحد ممن يصلحون لأن يُقتدَى بهم فلم يسأل ما هو مستحيل عادة لأن سؤال ذلك ليس من آداب الدعاء .وإنما سأل لذريته ولم يقصر السؤال على عقبه كما هو المتعارف في عصبية القائل لأبناء دينه على الفطرة التي لا تقتضي تفاوتاً فيرى أبناء الابن وأبناء البنت في القرب من الجد بل هما سواء في حكم القرابة ، وأما مبنى القبلية فعلى اعتبارات عرفية ترجع إلى النصرة والاعتزاز فأما قول :بنونا بنو أبنائنا وبناتُنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعدفَوهم جاهلي ، وإلا فإن بني الأبناء أيضاً بنوهم أبناء النساء الأباعد ، وهل يتكون نسل إلا من أب وأم . وكذا قول :وإنما أمهات الناس أوْعِيَة ... فيها خلقن وللأبناء أبناءفذلك سفسطة . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن الأحق بالبر من أبويه " أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك " وقال الله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن } [ لقمان : 14 ] .وقوله تعالى : { لا ينال عهدي الظالمين } استجابة مطوية بإيجاز وبيان للفريق الذي تتحقق فيه دعوة إبراهيم والذي لا تتحقق فيه بالاقتصار على أحدهما لأن حكم أحد الضدين يثبت نقيضه للآخر على طريقة الإيجاز ، وإنما لم يُذكر الصنف الذي تحقق فيه الدعوة لأن المقصد ذكر الصنف الآخر تعريضاً بأن الذين يزعمون يومئذ أنهم أولى الناس بإبراهيم وهم أهل الكتاب ومشركو العرب هم الذين يُحرمون من دعوته ، قال تعالى : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه } [ آل عمران : 67 ، 68 ] ولأن المربي يقصد التحذير من المفاسد قبل الحث على المصالح ، فبيان الذين لا تتحقق فيهم الدعوة أولى من بيان الآخرين .و { ينال } مضارع نال نيلاً بالياء إذا أصاب شيئاً والتحق به أي لا يصيب عهدي الظالمين أي لا يشملهم ، فالعهد هنا بمعنى الوعد المؤكد . وسمي وعد الله عهداً لأن الله لا يخلف وعده كما أخبر بذلك فصار وعده عهداً ولذلك سماه النبيء عهداً في قوله «أَنشُدك عهدك ووعدك» ، أي لاينال وعدي بإجابة دعوتك الظالمين منهم ، ولا يحسن أن يفسر العهد هنا بغير هذا وإن كان في مواقع من القرآن أريد به غيره ، وسيأتي ذكر العهد في سورة الأعراف .ومن دقة القرآن اختيار هذا اللفظ هنا لأن اليهود زعموا أن الله عهد لإبراهيم عهداً بأنه مع ذريته ففي ذكر لفظ العهد تعريض بهم وإن كان صريح الكلام لتوبيخ المشركين . والمراد بالظالمين ابتداء المشركون أي الذين ظلموا أنفسهم إذ أشركوا بالله قال تعالى :{ إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] والظلم يشمل أيضاً عمل المعاصي الكبائر كما وقع في قوله تعالى : { ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين } [ الصافات : 113 ] وقد وصف القرآن اليهود بوصف الظالمين في قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } [ المائدة : 45 ] فالمراد بالظلم المعاصي الكبيرة وأعلاها الشرك بالله تعالى .وفي الآية تنبيه على أن أهل الكتاب والمشركين يومئذ ليسوا جديرين بالإمامة لاتصافهم بأنواع من الظلم كالشرك وتحريف الكتاب وتأويله على حسب شهواتهم والانهماك في المعاصي حتى إذا عرضوا أنفسهم على هذا الوصف علموا انطباقه عليهم . وإناطة الحكم بوصف الظالمين إيماء إلى علة نفي أن ينالهم عهد الله فيفهم من العلة أنه إذا زال وصف الظلم نالهم العهد .وفي الآية أن المتصف بالكبيرة ليس مستحقاً لإسناد الإمامة إليه أعني سائر ولايات المسلمين : الخلافة والإمارة والقضاء والفتوى ورواية العلم وإمامة الصلاة ونحو ذلك . قال فخر الدين : قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له . وفي «تفسير ابن عرفة» تسليم ذلك . ونقل ابن عرفة عن المازري والقرطبي عن الجمهور إذا عقد للإمام على وجه صحيح ثم فسق وجار فإن كان فسقه بكفر وجب خلعه وأما بغيره من المعاصي فقال الخوارج والمعتزلة وبعض أهل السنة يخلع وقال جمهور أهل السنة لا يخلع بالفسق والظلم وتعطيل الحدود ويجب وعظه وترك طاعته فيما لا تجب فيه طاعة وهذا مع القدرة على خلعه فإن لم يقدر عليه إلا بفتنة وحرب فاتفقوا على منع القيام عليه وأن الصبر على جوره أولى من استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء انطلاق أيدي السفهاء والفساق في الأرض وهذا حكم كل ولاية في قول علماء السنة ، وما نقل عن أبي حينفة من جواز كون الفاسق خليفة وعدم جواز كونه قاضياً قال أبو بكر الرازي الجصاص هو خطأ في النقل .وقرأ الجمهور من العشرة ( عهديَ ) بفتح ياء المتكلم وهو وجه من الوجوه في ياء المتكلم وقرأه حمزة وحفص بإسكان الياء . | Arabic Tanweer Tafseer | 2:124 |
الابتلاء : الاختبار . أي . اختبره ربه - تعالى - بما كلفه به من الأوامر والنواهي ، ومعنى اختبار الله - تعالى - لعبده ، أن يعامله معاملة المختبر مجازاً ، إذ حقيقة الاختيار محالة عليه - تعالى - لعلمه المحيط بالأشياء والله - تعالى - تارة يختبر عباده بالضراء ليصبروا . وتارة بالسراء ليشكروا وفي كلتا الحالتين تبدو النفس البشرية على حقيقتها .وفي إسناد الابتلاء إلى الرب إشعار للتالي أو للسامع بأنه ابتلاه بما ابتلاه به تربية له ، وتقوية لعزمه ، حتى يستطيع النهوض بعظائم الأمور .وقد اختلف المفسرون في تعيين المراد بالكلمات التي اختبر الله بها نبيه إبراهيم - عليه السلام - على أقوال كثيرة .قال ابن جرير : " ولا يجوز الجزم بشيء مما ذ كروه منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع . قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا نبقل الجماعة الذي يجب التسليم له ، ولعل أرجح الآراء في المراد بهذه الكلمات ، أنها الأوامر التي كلفه الله بها ، فأتى بها على أتم وجه " .وقوله : ( فَأَتَمَّهُنَّ ) أي أتى بهن على الوجه الأكمل ، وأداهن أداء تاماً يليق به - عليه السلام - ولذا مدحه الله بقوله : ( وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى ) وجيء بالفاء في ( فَأَتَمَّهُنَّ ) للدلالة على الفور والامتثال . وذلك من شدة العزم ، وقوة اليقين .وفي إجمال القرآن لتلك الكلمات التي امتحن الله بها إبراهيم ، وفي وصفه له بأنه أتمهن ، إشعار بأنها من الأعمال التي لا ينهض بها إلا ذو عزم قوي يتلقى أوامر ربه بحسن الطاعة وسرعة الامتثال .وقدم المفعول وهو لفظ إبراهيم؛ لأن المقصود تشريف إبراهيم بإضافة اسم الرب إلى اسمه مع مراعاة الإِيجاز ، فلذلك لم يقل وإذ ابتلى الله إبراهيم .وجملة ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) مستأنفة لبيان ما من الله به على إبراهيم من الكرامة ورفعة المقام ، بعد أن ذكر - سبحانه - أنه عامله معاملة المختبر له ، إذ كلفه بأمور شاقه فأحسن القيام بها .جاعلك : من جعل يعني صير . والإِمام : القدوة الذي يؤتم به في أقواله وأفعاله . والمراد بالإِمامة هنا : الرسالة والنبوة ، فإنهما أكمل أنواع الإِمامة ، والرسول أكمل أفراد هذا النوع ، وقد كان إبراهيم - عليه السلام - رسولا يقتدي به الناس في أصول الدين ومكارم الأخلاق .وقال : ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماًْ ) ولم يقل : " إني جاعلك للناس رسولا ، ليكون ذلك دالا على أن رسالته تنفع الأمة المرسل إليها بطريق التبليغ ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الاقتداء ، فإن إبراهيم - عليه السلام - قد رحل إلى آفاق كثيرة ، فانتقل من بلاد الكلدان إلى العراق ، وإلى الشام ، وإلى الحجاز ، وإلى مصر وكان في جميع منازلة أسوة حسنة لغيره .وقد مدح القرآن إبراهيم في كثير من آياته ، ومن ذلك قوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) وجملة ( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) واقعة موقع الجواب عما من شأنه أن يخطر في نفس السامع ، فكأنه قال : وماذا كان من إبراهيم عندما تلقى من ربه تلك البشارة العظمى؟ فكان الجواب أن إبراهيم قد التمس الإِمامة لبعض ذريته أيضاً .أي : قال إبراهيم : واجعل يا رب من ذريتي أئمة يقتدي بهم .وقد رد الله - تعالى - على قول إبراهيم بقولك ( قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين ) .وإنما قال إبراهيم ومن ذريتي ولم يقل وذريتي ، لأنه يعلم أن حكمة الله من هذا العالم لم تجر بأن يكون جميع نسل أحد ممن يصلحون لأن يقتدى بهم فلم يسأل ما هو غير مألوف عادة ، لأن سؤال ذلك ليس من آداب الدعاء .أي : قال الله لإبراهيم : قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك لكن لا يصيب عهدي الذي عهدته إليك بالإِمامة الذين ظلموا منهم ، فالعهد هنا بمعنى الإِمامة المشار إليها في قوله : ( جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) .وفي هذه الجملة الكريمة إيجاز بديع ، إذ المراد منها إجابة طلب إبراهيم من الإِنعام على بعض ذريته بالإِمامة كما قال - تعالى - :( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب ) ولكنها تدل صراحة على أن الظالمين من ذريته ليسوا أهلا لأن يكونوا أئمة يقتدي بهم ، وتشير إلى أن غير الظالمين منه قد تنالهم النبوة ، وقد نالت من ذريته إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وغيرهم من الأنبياء .قال - تعالى - : ( وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ) ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن مكانة البيت الحرام ، وعن قصة بنائه ، وعن الدعوات الخاشعات التي كان إبراهيم يتضرع بها إلى الله عند رفعه البيت فقال :( وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ . . . ) | Arabic Waseet Tafseer | 2:124 |
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍقال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وإذ ابتلى)، وإذا اختبر.* * *يقال منه: " ابتليت فلانا أبتليه ابتلاء "، ومنه قول الله عز وجل: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [سورة النساء: 6]، يعني به: اختبروهم. (18) .* * *وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم، اختبارا بفرائض فرضها عليه, وأمر أمره به. وذلك هو " الكلمات " التي أوحاهن إليه، وكلفه العمل بهن، امتحانا منه له واختبارا.* * *ثم اختلف أهل التأويل في صفة " الكلمات " التي ابتلى الله بها إبراهيم نبيه وخليله صلوات الله عليه.* * *فقال بعضهم: هي شرائع الإسلام, وهي ثلاثون سهما. (19)* ذكر من قال ذلك:1907- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال، قال ابن عباس: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم, ابتلاه الله بكلمات، فأتمهن. قال: فكتب الله له البراءة فقال: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [سورة النجم: 37]. قال: عشر منها في" الأحزاب ", وعشر منها في" براءة ", وعشر منها في" المؤمنون " و " سأل سائل "، وقال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهما. (20)1908- حدثنا إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد الطحان, عن داود, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيم، ابتلي بالإسلام فأتمه, فكتب الله له البراءة فقال: " وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى "، فذكر عشرا في" براءة " [112] فقال: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ إلى آخر الآية، (21) وعشرا في" الأحزاب " [35]، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ , وعشرا في" سورة المؤمنون " [1-9] إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ , وعشرا في" سأل سائل " [22-34] وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ .1909- حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا علي بن الحسن قال، حدثنا خارجة بن مصعب, عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: الإسلام ثلاثون سهما, وما ابتلي بهذا الدين أحد فأقامه إلا إبراهيم, قال الله: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ، فكتب الله له براءة من النار. (22)* * *وقال آخرون: هي خصال عشر من سنن الإسلام.* ذكر من قال ذلك:1910- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس, عن أبيه, عن ابن عباس: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال، ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس, وخمس في الجسد. في الرأس: قص الشارب, والمضمضة, والاستنشاق, والسواك, وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار, وحلق العانة, والختان, ونتف الإبط, وغسل أثر الغائط والبول بالماء. (23)1911- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن الحكم بن أبان, عن القاسم بن أبي بزة, عن ابن عباس، بمثله- ولم يذكر أثر البول.1912- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال، ابتلاه بالختان, وحلق العانة, وغسل القبل والدبر, والسواك, وقص الشارب, وتقليم الأظافر, ونتف الإبط. قال أبو هلال: ونسيت خصلة.1913- حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن مطر, عن أبي الخلد قال: ابتلي إبراهيم بعشرة أشياء، هن في الإنسان: سنة: الاستنشاق, وقص الشارب, والسواك, ونتف الإبط, وقلم الأظفار, وغسل البراجم, والختان, وحلق العانة, وغسل الدبر والفرج (24) .* * *وقال بعضهم: بل " الكلمات " التي ابتلي بهن عشر خلال; بعضهن في تطهير الجسد, وبعضهن في مناسك الحج.*ذكر من قال ذلك :1914- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال: حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة, عن ابن هبيرة, عن حنش, عن ابن عباس في قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " قال، ستة في الإنسان, وأربعة في المشاعر. فالتي في الإنسان: حلق العانة, والختان, ونتف الإبط, وتقليم الأظفار, وقص الشارب, والغسل يوم الجمعة. وأربعة في المشاعر: الطواف, والسعي بين الصفا والمروة, ورمي الجمار, والإفاضة. (25)* * *وقال آخرون: بل ذلك: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، في مناسك الحج.* ذكر من قال ذلك:1915- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح في قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن "، فمنهن: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وآيات النسك. (26)1916- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح مولى أم هانئ في قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال، منهن إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ومنهن آيات النسك: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [سورة البقرة: 127].1917- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إماما! قال: نعم. قال: ومن ذريتي. قال: لا ينال عهدي الظالمين. قال: تجعل البيت مثابة للناس. قال: نعم. [قال]: وأمنا. قال: نعم. [قال]: وتجعلنا مسلمين لك, ومن ذريتنا أمة مسلمة لك. قال: نعم. [قال]: وترينا مناسكنا وتتوب علينا. قال: نعم. قال: وتجعل هذا البلد آمنا. قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم. قال: نعم.1918- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، مثله.1919- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح، أخبره به عن عكرمة، فعرضته على مجاهد فلم ينكره.1920- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد بنحوه. قال ابن جريج: فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة جميعا.1921- حدثنا سفيان قال، حدثني أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " قال، ابتلي بالآيات التي بعدها: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ .1922- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن "، فالكلمات: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ، وقوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وقوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ الآية, وقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ الآية. قال: فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم. (27)1923- حدثني محمد بن سعد (28) قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن "، فمنهن: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، ومنهن: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ، ومنهن الآيات في شأن النسك, والمقام الذي جعل لإبراهيم, والرزق الذي رزق ساكنو البيت، ومحمد صلى الله عليه وسلم في ذريتهما عليهما السلام.* * *وقال آخرون: بل ذلك مناسك الحج خاصة.* ذكر من قال ذلك:1924- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا عمر بن نبهان, عن قتادة, عن ابن عباس في قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال، مناسك الحج. (29)1925- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال، كان ابن عباس يقول في قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال، المناسك.1926- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال، قال ابن عباس: ابتلاه بالمناسك.1927- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, قال: بلغنا عن ابن عباس أنه قال: إن الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم، المناسك.1928- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال، مناسك الحج.1929- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس في قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال، منهن مناسك الحج. (30)* * *وقال آخرون: هي أمور، منهن الختان.* ذكر من قال ذلك:1930- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة، عن يونس بن أبي إسحاق, عن الشعبي: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال، منهن الختان.1931- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق, قال: سمعت الشعبي يقول، فذكر مثله.1932- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال، سمعت الشعبي - وسأله أبو إسحاق عن قول الله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " - قال، منهن الختان، يا أبا إسحاق.* * *وقال آخرون: بل ذلك الخلال الست: الكوكب, والقمر, والشمس, والنار, والهجرة, والختان, التي ابتلي بهن فصبر عليهن.* ذكر من قال ذلك:1933- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء, قال: قلت للحسن: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ". قال: ابتلاه بالكوكب، فرضي عنه؛ وابتلاه بالقمر، فرضي عنه؛ وابتلاه بالشمس، فرضي عنه؛ وابتلاه بالنار، فرضي عنه؛ وابتلاه بالهجرة, وابتلاه بالختان.1934- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان الحسن يقول: إي والله، ابتلاه بأمر فصبر عليه: ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر, فأحسن في ذلك, وعرف أن ربه دائم لا يزول, فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما كان من المشركين؛ ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله؛ ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة، فصبر على ذلك؛ فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان، فصبر على ذلك.1935- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عمن سمع الحسن يقول في قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال، ابتلاه الله بذبح ولده, وبالنار, وبالكوكب, والشمس, والقمر.1936- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا أبو هلال, عن الحسن: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال، ابتلاه بالكوكب, وبالشمس والقمر, فوجده صابرا.* * *وقال آخرون بما:1937- حدثنا به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ [سورة البقرة: 127-129]* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أنه اختبر إبراهيم خليله بكلمات أوحاهن إليه, وأمره أن يعمل بهن فأتمهن, كما أخبر الله جل ثناؤه عنه أنه فعل. (31) وجائز أن تكون تلك الكلمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله في تأويل " الكلمات ", وجائز أن تكون بعضه. لأن إبراهيم صلوات الله عليه قد كان امتحن فيما بلغنا بكل ذلك, فعمل به، وقام فيه بطاعة الله وأمره الواجب عليه فيه. وإذ كان ذلك كذلك, فغير جائز لأحد أن يقول: عنى الله بالكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم شيئا من ذلك بعينه دون شيء, ولا عنى به كل ذلك، إلا بحجة يجب التسليم لها: من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم, أو إجماع من الحجة. ولم يصح في شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد, ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته. غير أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران، لو ثبتا, أو أحدهما, كان القول به في تأويل ذلك هو الصواب. أحدهما، ما:-1938- حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا رشدين بن سعد قال، حدثني زبّان بن فائد, عن سهل بن معاذ بن أنس, عن أبيه, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله: الَّذِي وَفَّى ؟ [سورة النجم:37] لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [سورة الروم: 17] حتى يختم الآية. (32)والآخر منهما ما:-1939- حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا إسرائيل, عن جعفر بن الزبير, عن القاسم, عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى قال، أتدرون ما وَفَّى ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: وفي عمل يومه، أربع ركعات في النهار. (33)* * *قال أبو جعفر: فلو كان خبر سهل بن معاذ عن أبيه صحيحا سنده، كان بينا أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فقام بهن، هو قوله كلما أصبح وأمسى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ - أو كان خبر أبي أمامة عدولا نقلته, كان معلوما أن الكلمات التي أوحين إلى إبراهيم فابتلي بالعمل بهن: أن يصلي كل يوم أربع ركعات. غير أنهما خبران في أسانيدهما نظر.* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول في معنى " الكلمات " التي أخبر الله أنه ابتلي بهن إبراهيم، ما بينا آنفا.ولو قال قائل في ذلك: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس، أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم، كان مذهبا. لأن قوله: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وقوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وسائر الآيات التي هي نظير ذلك، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلي بهن إبراهيم. (34)* * *القول في تأويل قوله تعالى : فَأَتَمَّهُنَّقال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " فأتمهن "، فأتم إبراهيم الكلمات. و " إتمامه إياهن "، إكماله إياهن، بالقيام لله بما أوجب عليه فيهن، وهو الوفاء الذي قال الله جل ثناؤه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [سورة النجم: 37]، يعني وفى بما عهد إليه،" بالكلمات ", بما أمره به من فرائضه ومحنته فيها، (35) كما:-1940- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن عكرمة, عن ابن عباس: " فأتمهن "، أي فأداهن.1941- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " فأتمهن "، أي عمل بهن فأتمهن.1942- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " فأتمهن "، أي عمل بهن فأتمهن.* * *القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًاقال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " إني جاعلك للناس إماما "، فقال الله: يا إبراهيم، إني مصيرك للناس إماما، يؤتم به ويقتدى به، كما:-1943- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " إني جاعلك للناس إماما "، ليؤتم به ويقتدى به.* * *يقال منه: " أممت القوم فأنا أؤمهم أما وإمامة "، إذا كنت إمامهم.* * *وإنما أراد جل ثناؤه بقوله لإبراهيم: " إني جاعلك للناس إماما "، إني مصيرك تؤم من بعدك من أهل الإيمان بي وبرسلي, تتقدمهم أنت، (36) ويتبعون هديك, ويستنون بسنتك التي تعمل بها، بأمري إياك ووحيي إليك.* * *القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِيقال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: قال إبراهيم- لمّا رفع الله منـزلته وكرمه, فأعلمه ما هو صانع به، من تصييره إماما في الخيرات لمن في عصره، ولمن جاء بعده من ذريته وسائر الناس غيرهم، يهتدى بهديه ويقتدى بأفعاله وأخلاقه - : يا رب، ومن ذريتي فاجعل أئمة يقتدي بهم، كالذي جعلتني إماما يؤتم بي ويقتدى بي. مسألة من إبراهيم ربه سأله إياها، كما:-1944- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قال: قال إبراهيم: " ومن ذريتي"، يقول: فاجعل من ذريتي من يؤتم به ويقتدى به.* * *وقد زعم بعض الناس أن قول إبراهيم: " ومن ذريتي"، مسألة منه ربه لعقبه أن يكونوا على عهده ودينه, كما قال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [سورة إبراهيم:35]، فأخبر الله جل ثناؤه أن في عقبه الظالم المخالف له في دينه، بقوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ .* * *والظاهر من التنـزيل يدل على غير الذي قاله صاحب هذه المقالة. لأن قول إبراهيم صلوات الله عليه: " ومن ذريتي"، في إثر قول الله جل ثناؤه: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا . فمعلوم أن الذي سأله إبراهيم لذريته، لو كان غير الذي أخبر ربه أنه أعطاه إياه، لكان مبينا. (37) ولكن المسألة لما كانت مما جرى ذكره, اكتفى بالذكر الذي قد مضى، من تكريره وإعادته, فقال: " ومن ذريتي"، بمعنى: ومن ذريتي فاجعل مثل الذي جعلتني به، من الإمامة للناس.* * *القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إماما يقتدي به أهل الخير. وهو من الله جل ثناؤه جواب لما يتوهم في مسألته إياه (38) أن يجعل من ذريته أئمة مثله. فأخبر أنه فاعل ذلك، إلا بمن كان من أهل الظلم منهم, فإنه غير مُصَيِّره كذلك, ولا جاعله في محل أوليائه عنده، بالتكرمة بالإمامة. لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته، دون أعدائه والكافرين به.* * *واختلف أهل التأويل في العهد الذي حرم الله جل ثناؤه الظالمين أن ينالوه.فقال بعضهم: ذلك " العهد "، هو النبوة.* ذكر من قال ذلك:1945- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " قال لا ينال عهدي الظالمين "، يقول: عهدي, نبوتي.فمعنى قائل هذا القول في تأويل الآية: لا ينال النبوة أهل الظلم والشرك.* * *وقال آخرون: معنى " العهد ": عهد الإمامة.فتأويل الآية على قولهم: لا أجعل من كان من ذريتك بأسرهم ظالما، إماما لعبادي يقتدى به.* ذكر من قال ذلك:1946- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " قال لا ينال عهدي الظالمين " قال، لا يكون إمام ظالما.1947- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: قال الله: " لا ينال عهدي الظالمين " قال، لا يكون إمام ظالما.1948- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن عكرمة بمثله.1949- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد في قوله: " قال لا ينال عهدي الظالمين " قال، لا يكون إمام ظالم يقتدى به.1950- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد, مثله.1951- حدثنا مشرَّف بن أبان الحطاب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن خصيف, عن مجاهد في قوله: " لا ينال عهدي الظالمين " قال، لا أجعل إماما ظالما يقتدى به. (39) .1952- حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " لا ينال عهدي الظالمين " قال، لا أجعل إماما ظالما يقتدى به.1953- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: " لا ينال عهدي الظالمين ": قال: لا يكون إماما ظالم.قال ابن جريج: وأما عطاء فإنه قال: " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي "، فأبى أن يجعل من ذريته ظالما إماما. قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.* * *وقال آخرون: معنى ذلك: أنه لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه.* ذكر من قال ذلك:1954- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " لا ينال عهدي الظالمين "، يعني: لا عهد لظالم عليك في ظلمه، أن تطيعه فيه.1955- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله, عن إسرائيل, عن مسلم الأعور, عن مجاهد, عن ابن عباس: " قال لا ينال عهدي الظالمين " قال، ليس للظالمين عهد, وإن عاهدته فانقضه.1956- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن سفيان, عن هارون بن عنترة, عن أبيه, عن ابن عباس قال، ليس لظالم عهد.* * *وقال آخرون: معنى " العهد " في هذا الموضع: الأمان.فتأويل الكلام على معنى قولهم: قال الله لا ينال أماني أعدائي, وأهل الظلم لعبادي. أي: لا أؤمنهم من عذابي في الآخرة.* ذكر من قال ذلك:1957- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " قال لا ينال عهدي الظالمين "، ذلكم عند الله يوم القيامة، لا ينال عهده ظالم, فأما في الدنيا، فقد نالوا عهد الله, فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم به. (40) فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه.1958- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " لا ينال عهدي الظالمين " قال، لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون, فأما في الدنيا فقد ناله الظالم، وأكل به وعاش.1959- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن, عن إسرائيل, عن منصور, عن إبراهيم: " قال لا ينال عهدي الظالمين " قال، لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون. فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به، وأكل وأبصر وعاش.* * *وقال آخرون: بل " العهد " الذي ذكره الله في هذا الموضع: دين الله.* ذكر من قال ذلك:1960- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: قال الله لإبراهيم: " لا ينال عهدي الظالمين " فقال: فعهد الله الذي عهد إلى عباده، دينه. يقول: لا ينال دينه الظالمين. ألا ترى أنه قال: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [سورة الصافات:113]، يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق.1961- حدثني يحيى بن جعفر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: " لا ينال عهدي الظالمين " قال، لا ينال عهدي عدو لي يعصيني, ولا أنحلها إلا وليا لي يطيعني. (41)* * *قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهر خبر = عن أنه لا ينال من ولد إبراهيم صلوات الله عليه عهد الله - الذي هو النبوة والإمامة لأهل الخير, بمعنى الاقتداء به في الدنيا, والعهد الذي بالوفاء به ينجو في الآخرة, من وفى لله به في الدنيا (42) - من كان منهم ظالما متعديا جائرا عن قصد سبيل الحق (43) . فهو إعلام من الله تعالى ذكره لإبراهيم: أن من ولده من يشرك به, ويجور عن قصد السبيل, ويظلم نفسه وعباده، كالذي:-1962- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير, عن خصيف, عن مجاهد في قوله: " لا ينال عهدي الظالمين " قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون (44)* * *وأما نصب " الظالمين ", فلأن العهد هو الذي لا ينال الظالمين.وذكر أنه في قراءة ابن مسعود: " لا ينال عهدي الظالمون "، بمعنى: أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهد الله.* * *وإنما جاز الرفع في" الظالمين " والنصب, وكذلك في" العهد "، لأن كل ما نال المرء فقد ناله المرء, كما يقال: " نالني خير فلان، ونلت خيره ", فيوجه الفعل مرة إلى الخير ومرة إلى نفسه.* * *وقد بينا معنى " الظلم " فيما مضى، فكرهنا إعادته. (45)------------الهوامش :(18) انظر ما سلف في الجزء 2 : 48 ، 49 .(19) السهم في الأصل واحد السهام التي يضرب بها في الميسر ، وهي القداح . ثم سمى ما يفوز به الفالج سهما ، ثم كثر حتى سمى كل نصيب سهما . وقوله هنا يدل على أنهم استعملوه في كل جزء من شيء يتجزأ وهو جملة واحدة . فقوله : "سهما" هنا ، أي خصلة وشعبة . وسيأتي شاهدها في الأخبار الآتية .(20) سيأتي بيانها في الأثر التالي .(21) في المطبوعة : "الآيات" ، والصواب ما أثبت .(22) الخبر 1909- عبد الله بن أحمد بن شبويه : هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن ثابت بن مسعود بن يزيد ، أبو عبد الرحمن ، عرف بابن شبويه ، وهو من أئمة الحديث ، كما قال الخطيب . مترجم في تاريخ بغداد 9 : 371 ، وله ترجمة موجزة في ابن أبي حاتم . ووقع في المطبوعة هنا"عبيد الله بن أحمد بن شبرمة" . وهو تحريف وخطأ . صححناه من التاريخ ، ومما سيأتي في التفسير .علي بن الحسن بن شقيق بن دينار : ثقة ، من شيوح أحمد ، والبخاري ، وغيرهما . مترجم في التهذيب ، وفي شرح المسند : 7437 .وهذا الخبر سيأتي بهذا الإسناد ، في التفسير : 27 : 43 (بولاق) . وكذلك رواه أبو جعفر بهذا الإسناد ، في التاريخ 1 : 144 .وذكره ابن كثير 1 : 302 ، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم ، والحاكم . وذكره السيوطي 1 : 111-112 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وابن مردويه ، وابن عساكر . وهذا الإسناد صحيح .(23) الخبر : 1910- وهذا الإسناد صحيح أيضًا .وهو في تفسير عبد الرزاق (مخطوطة دار الكتب المصورة) ، بهذا الإسناد .وكذلك رواه أبو جعفر في التاريخ 1 : 144 ، من تفسير عبد الرزاق . بهذا الإسناد .وكذلك رواه الحاكم 2 : 266 ، من طريق ابن طاوس عن أبيه ، به . وقال : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه" ، ووافقه الذهبي .وذكره ابن كثير 1 : 301 . وكذلك ذكره السيوطي 1 : 111 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه .(24) الخبر : 1913- مطر : هو ابن طهمان الوراق . وأبو الجلد : بفتح الجيم وسكون اللام ، سبق بيانه : 434 . وفي المطبوعة"أبو الخلد" بالخاء المعجمة بدل الجيم ، وهو تصحيف تكرر فيها كثيرا .البراجم جمع برجمة (بضم الباء وسكون الراء وضم الجيم) : وهي ظهور القصب من مفاصل الأصابع .(25) الخبر : 1914- ابن هبيرة : هو عبد الله بن هبيرة السبائي المصري ، وهو ثقة ، وثقه أحمد وغيره ، وخرج له مسلم في الصحيح . حنش ، بفتحتين وبالشين المعجمة : هو ابن عبد الله السبائي الصنعاني ، من صنعاء دمشق -وهي قرية بالغوطة من دمشق- وهو تابعي ثقة .وهذا الخبر رواه أيضًا ابن أبي حاتم ، عن يونس بن عبد الأعلى . عن ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، بهذا الإسناد - كما في ابن كثير 1 : 302 . وهو إسناد صحيح .(26) يأتي بيان آيات النسك في الخبرين التاليين .(27) في المطبوعة : "فذلك كلمة من الكلمات" ، والصواب من ابن كثير 1 : 303 .(28) في المطبوعة : "محمد بن سعيد" ، وهو خطأ ، وهو إسناد دائر في الطبري ، وانظر رقم : 305 .(29) الخبر : 1924- هذا الإسناد ضعيف من ناحيتين . أما سلم -بفتح السين وسكون اللام- ابن قتيبة أبو قتيبة : فإنه ثقة ، خرج له البخاري في صحيحه . وأما الضعف ، فلأن"عمر بن نبهان الغبري" بضم الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة : ضعيف جدا ، ذمه الإمام أحمد ، وقال ابن معين : ليس بشيء . وهو مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/1/138 . والوجه الآخر من الضعف : أنه منقطع ، لأن قتادة لم يدرك ابن عباس .(30) الخبران : 1928 ، 1929- أبو إسحق : هو السبيعي ، عمرو بن عبد الله الهمداني ، الإمام التابعي الثقة ، التميمي : هو"أربدة" بسكون الراء وكسر الباء الموحدة . ويقال"أربد" بدون هاء . وهو تابعي ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 1/2/64 ، وابن أبي حاتم 1/1/345 ، وقد عرف بأني راوي التفسير عن ابن عباس . وفي المسند : 2405- في حديث آخر"عن أبي إسحاق ، عن التميمي الذي يحدث التفسير" . لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي .(31) في المطبوعة : "وأتمهن" بالواو ، والأجود ما أثبت .(32) الحديث : 1938- إسناده منهار لا تقوم له قائمة . وقد ضعفه الطبري نفسه ، هو والحديث الذي بعده . وقال ابن كثير 1 : 304- بعد إشارته إلى ذلك : "وهو كما قال ، فإنه لا يجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما ، وضعفهما من وجود عديدة ، فإن كلا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء ، مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه" .رشدين بن سعد : ضعيف جدا ، وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند : 5748 ، و"رشدين" : بكسر الراء وسكون الشين المعجمة وكسر الدال وبعد الياء نون ، ووقع في المطبوعة وفي ابن كثير"راشد" . وهو تصحيف .زبان بن فائد المصري الحمراوي : ضعيف أيضًا . قال أحمد : "أحاديثه مناكير" ، وضعفه ابن معين . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/405 ، وابن أبي حاتم 1/2/616 . وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص : 210 مخطوطة مصور عندي) : "منكر الحديث جدا ، يتفرد عن سهل بن معاذ بنسخة كأنها موضوعة" . و"زبان" : بالزاي المعجمة وتشديد الباء الموحدة . ووقع في المطبوعة"ريان" بالراء والتحتية ، وهو تصحيف .سهل بن معاذ بن أنس الجهني : ضعيف أيضًا ، ضعفه ابن معين . وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص : 232) : "روى عنه زبان بن فائد ، منكر الحديث جدا . فلست أدري أوقع التخليط في حديثه منه أو من زبان بن فائد؟ فإن كان من أحدهما فالأخبار التي رواها أحدهما ساقطة" .وهذا الحديث -على ما فيه من ضعف شديد- رواه أحمد في المسند : 15688 (ج 3 ص 439 حلبي) . بل إنه روى هذه النسخة ، التي كاد ابن حبان أن يجزم بأنها موضوعة .(33) الحديث : 1939- ضعفه أيضًا الطبري ووافقه ابن كثير ، كما قلنا في الذي قبله . الحسن بن عطية بن نجيح الكوفي : ثقة ، روى عنه البخاري في الكبير 2/1/299 ، ولم يذكر فيه جرحا ، وروى عنه أبو حاتم وأبو زرعة ، وقال أبو حاتم : "صدوق" . وهو مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1/2/27 . وهو غير"الحسن بن عطية بن سعد العوفي ، السابق ترجمته في : 305 .إسرائيل : هو ابن يونس بن إسحاق السبيعي ، وهو ثقة ، مضى في : 1291 .جعفر بن الزبير الحنفي ، أو الباهلي ، الدمشقي ثم البصري : ضعيف جدا . مترجم في التهذيب ، وفي الكبير للبخاري 1/2/191 ، وفي الضعفاء له ، ص : 7 ، وقال : "متروك الحديث ، تركوه" ، وفي ابن أبي حاتم 1/1/479 . وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص : 142) : "روى عن القاسم مولى معاوية وغيره ، أشياء كأنها موضوعة" . وقال أبو حاتم : "روى جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، نسخة موضوعة ، أكثر من مئة حديث" .وأما القاسم : فهو ابن عبد الرحمن الشامي ، وكنيته أبو عبد الرحمن ، وقد اختلف فيه ، والراجح أنه ثقة ، وأن ما أنكر عليه إنما جاء من الرواة عنه الضعفاء . وقد بينا ذلك في شرح المسند : 598 ، وما علقنا به على تهذيب السنن للمنذري : 2376 .والحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور 6 : 129 ، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وغيرهم ، وقال : "بسند ضعيف" .(34) وقد نقل ابن كثير في تفسيره 1 : 304 هذه الفقرة من أول قوله"ولو قال قائل" ثم عقب عليه بقوله : "قلت : والذي قاله أولا : من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر ، أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله . لأن السياق يعطى غير ما قالوه ، والله أعلم" . لم يأت ابن كثير بشيء ، فإن قول الطبري بين ، وهو قاض بأن الصواب هو القول الأول ، وأن هذا الثاني لو قيل كان مذهبا . وهذه كلمة تضعيف لا كلمة تقوية .(35) في المطبوعة : "يعني : وفى بما عهد إليه بالكتاب فأمره به من فرائضه ومحنه فيها" ، وهي عبارة مضطربة لا تستقيم ، وكأن الصواب ما أثبته .(36) في المطبوعة : "فتقدمهم أنت" ، ليست بشيء .(37) قوله : "لكان مبينا" ، أي لجاء ما سأل إبراهيم ربه مبينا في الآية .(38) في المطبوعة : "لما توهم" ، وهي خطأ ، والصواب ما أثبته ، بالبناء للمجهول .(39) الخبر : 1951- مشرف بن أبان أبو ثابت الحطاب ، شيخ الطبري : ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد 13 : 224 ، وذكر أنه يروي عن ابن عيينة ، وغيره . مات ببغداد سنة 243 . ولم أجد له ترجمة ولا ذكرا غير ذلك ، و"مشرف" : بوزن"محمد" ، كما نص على أنه الجادة في المشتبه للذهبي ، ص : 484 ، والتبصير للحافظ ابن حجر (مخطوط مصور) .ووقع في المطبوعة"مسروق" ، وهو خطأ بين ، وقد مضى في : 1383 باسم"بشر بن أبان الحطاب" . وهو خطأ أيضًا . ثم هو سيأتي على الصواب : "مشرف" - في : 2382 .وأما"الحطاب" ، فهكذا هو الثابت هنا بالحاء المهملة ، وفي تاريخ بغداد"الخطاب" بالمعجمة . ولم أستطع الترجيح بينهما .(40) في المطبوعة : "وعادوهم" ، والصواب من الدر المنثور 1 : 118 ، وقوله : "غازوهم" أي كانوا معهم في الغزو وشاركوهم في الغنائم .(41) الأثر : 1961- يحيى بن جعفر ، هو يحيى بن أبي طالب ، وانظر الأثر رقم : 284 .(42) سياق هذه الجملة المعترضة : " . . لا ينال من ولد إبراهيم عهد الله . . . من كان منهم ظالما . . . " .(43) وسياق هذه الجملة التي اعترضتها الجملة الطويلة السالفة : "وإن كان ظاهره ظاهر خبر . . فهو إعلام من الله . . . " ، وهكذا دأب أبي جعفر رضي الله عنه .(44) الأثر : 1962- في المطبوعة"عتاب بن بشر" ، وهو خطأ . هو عتاب بن بشير الجزري أبو الحسن ويقال أبو سهل الحراني (تهذيب التهذيب) والتاريخ الكبير للبخاري 4/1/56 .(45) انظر ما سلف 1 : 523-524 . | الطبري | 2:124 |
قوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمينفيه ثلاثة وعشرون مسألة الأولى : لما جرى ذكر الكعبة والقبلة اتصل ذلك بذكر إبراهيم عليه السلام ، وأنه الذي بنى البيت ، فكان من حق اليهود - وهم من نسل إبراهيم - ألا يرغبوا عن دينه . والابتلاء : الامتحان والاختبار ، ومعناه أمر وتعبد . وإبراهيم تفسيره بالسريانية فيما ذكر الماوردي ، وبالعربية فيما ذكر ابن عطية : أب رحيم . قال السهيلي : وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب راحم ، لرحمته بالأطفال ، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين يموتون صغارا إلى يوم القيامة .قلت : ومما يدل على هذا ما خرجه البخاري من حديث الرؤيا الطويل عن سمرة ، وفيه : [ ص: 93 ] أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس . وقد أتينا عليه في كتاب التذكرة ، والحمد لله .وإبراهيم هو ابن تارخ بن ناخور في قول بعض المؤرخين . وفي التنزيل : وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر وكذلك في صحيح البخاري ، ولا تناقض في ذلك ، على ما يأتي في " الأنعام " بيانه إن شاء الله تعالى . وكان له أربع بنين : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن على ما ذكره السهيلي . وقدم على الفاعل للاهتمام ، إذ كون الرب تبارك وتعالى مبتليا معلوم ، وكون الضمير المفعول في العربية متصلا بالفاعل موجب تقديم المفعول ، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام ، فاعلمه . وقراءة العامة إبراهيم بالنصب ، ربه بالرفع على ما ذكرنا . وروي عن جابر بن زيد أنه قرأ على العكس ، وزعم أن ابن عباس أقرأه كذلك . والمعنى دعا إبراهيم ربه وسأل ، وفيه بعد ، لأجل الباء في قوله : بكلمات .الثانية : بكلمات الكلمات جمع كلمة ، ويرجع تحقيقها إلى كلام الباري تعالى ، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام ، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به ، كما سمي عيسى كلمة ; لأنه صدر عن كلمة وهي كن . وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز ، قاله ابن العربي .الثالثة : واختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال : أحدها : شرائع الإسلام ، وهي ثلاثون سهما ، عشرة منها في سورة براءة : التائبون العابدون إلى آخرها ، وعشرة في الأحزاب : إن المسلمين والمسلمات إلى آخرها ، وعشرة في المؤمنون : قد أفلح المؤمنون إلى قوله : على صلواتهم يحافظون وقوله في سأل سائل : إلا المصلين إلى قوله : والذين هم على صلاتهم يحافظون . قال ابن عباس رضي الله [ ص: 94 ] عنهما : ما ابتلى الله أحدا بهن فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه السلام ، ابتلي بالإسلام فأتمه فكتب الله له البراءة فقال : وإبراهيم الذي وفى . وقال بعضهم : بالأمر والنهي ، وقال بعضهم : بذبح ابنه ، وقال بعضهم : بأداء الرسالة ، والمعنى متقارب . وقال مجاهد : هي قوله تعالى : إني مبتليك بأمر ، قال : تجعلني للناس إماما ؟ قال نعم . قال : ومن ذريتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين ، قال : تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال نعم . قال : وأمنا ؟ قال نعم . قال : وترينا مناسكنا وتتوب علينا ؟ قال نعم . قال : وترزق أهله من الثمرات ؟ قال نعم . وعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم . وأصح من هذا ما ذكرهعبد الرزاق عن معمر عن طاوس عن ابن عباس في قوله : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال : ابتلاه الله بالطهارة ، خمس في الرأس وخمس في الجسد : قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الشعر . وفي الجسد : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والاختتان ، ونتف الإبط ، وغسل مكان الغائط والبول بالماء ، وعلى هذا القول فالذي أتم هو إبراهيم ، وهو ظاهر القرآن . وروى مطرف عن أبي الجلد أنها عشر أيضا ، إلا أنه جعل موضع الفرق غسل البراجم ، وموضع الاستنجاء الاستحداد . وقال قتادة : هي مناسك الحج خاصة . الحسن : هي الخلال الست : الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان . قال أبو إسحاق الزجاج : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ; لأن هذا كله مما ابتلي به إبراهيم عليه السلام .قلت : وفي الموطأ وغيره عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إبراهيم عليه السلام أول من اختتن ، وأول من أضاف الضيف ، وأول من استحد ، وأول من قلم الأظفار ، وأول من قص الشارب ، وأول من شاب ، فلما رأى الشيب قال : ما هذا ؟ قال : وقار ، قال : يا رب زدني وقارا . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه [ ص: 95 ] قال : أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله . قال غيره : وأول من ثرد الثريد ، وأول من ضرب بالسيف ، وأول من استاك ، وأول من استنجى بالماء ، وأول من لبس السراويل . وروى معاذ بن جبل قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم .قلت : وهذه أحكام يجب بيانها والوقف عليها والكلام فيها ، فأول ذلك " الختان " وما جاء فيه ، وهي المسألة :الرابعة : أجمع العلماء على أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن . واختلف في السن لي اختتن فيها ، ففي الموطأ عن أبي هريرة موقوفا : وهو ابن مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة . ومثل هذا لا يكون رأيا ، وقد رواه الأوزاعي مرفوعا عن يحيى بن سعيد عن سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن مائة وعشرين سنة ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة . ذكره أبو عمر . وروي مسندا مرفوعا من غير رواية يحيى من وجوه : أنه اختتن حين بلغ ثمانين سنة واختتن بالقدوم . كذا في صحيح مسلم وغيره " ابن ثمانين سنة " ، وهو المحفوظ في حديث ابن عجلان وحديث الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال عكرمة : اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة . قال : ولم يطف بالبيت بعد على ملة إبراهيم إلا مختون ، هكذا قال عكرمة وقال المسيب بن رافع ، ذكره المروزي . و " القدوم " يروى مشددا ومخففا . قال أبو الزناد : القدوم ( مشددا ) : موضع .الخامسة : واختلف العلماء في الختان ، فجمهورهم على أن ذلك من مؤكدات السنن ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال . وقالت طائفة : ذلك فرض ، لقوله تعالى : أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا . قال قتادة : هو الاختتان ، وإليه مال بعض المالكيين ، وهو قول الشافعي . واستدل ابن سريج على وجوبه بالإجماع على تحريم النظر إلى العورة ، [ ص: 96 ] وقال : لولا أن الختان فرض لما أبيح النظر إليها من المختون . وأجيب عن هذا بأن مثل هذا يباح لمصلحة الجسم كنظر الطبيب ، والطب ليس بواجب إجماعا ، على ما يأتي في " النحل " بيانه إن شاء الله تعالى . وقد احتج بعض أصحابنا بما رواه الحجاج بن أرطأة عن أبي المليح عن أبيه عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الختان سنة للرجال مكرمة للنساء . والحجاج ليس ممن يحتج به .قلت : أعلى ما يحتج به في هذا الباب حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الفطرة خمس الاختتان . . . ) الحديث ، وسيأتي . وروى أبو داود عن أم عطية أن امرأة كانت تختن النساء بالمدينة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل . قال أبو داود : وهذا الحديث ضعيف راويه مجهول . وفي رواية ذكرها رزين : ولا تنهكي فإنه أنور للوجه وأحظى عند الرجل .السادسة : فإن ولد الصبي مختونا فقد كفي مؤنة الختان . قال الميموني قال لي أحمد : إن ها هنا رجلا ولد له ولد مختون ، فاغتم لذلك غما شديدا ، فقلت له : إذا كان الله قد كفاك المؤنة فما غمك بهذا .[ ص: 97 ] السابعة : قال أبو الفرج الجوزي حدثت عن كعب الأحبار قال : خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مختونين : آدم وشيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى والنبي صلى الله عليه وسلم . وقال محمد بن حبيب الهاشمي : هم أربعة عشر : آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان ( نبي أصحاب الرس ) ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين .قلت : اختلفت الروايات في النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر أبو نعيم الحافظ في " كتاب الحلية " بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا . وأسند أبو عمر في التمهيد حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد حدثنا محمد بن عيسى حدثنا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني حدثنا الوليد بن مسلم عن شعيب عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس : أن عبد المطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه ، وجعل له مأدبة وسماه " محمدا " . قال أبو عمر : هذا حديث مسند غريب . قال يحيى بن أيوب : طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممن لقيته إلا عند ابن أبي السري . قال أبو عمر : وقد قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا .الثامنة : واختلفوا متى يختن الصبي ، فثبت في الأخبار عن جماعة من العلماء أنهم قالوا : ختن إبراهيم إسماعيل لثلاث عشرة سنة . وختن ابنه إسحاق لسبعة أيام . وروي عن فاطمة أنها كانت تختن ولدها يوم السابع ، وأنكر ذلك مالك وقال ذلك من عمل اليهود . ذكره عنه ابن وهب . وقال الليث بن سعد : يختن الصبي ما بين سبع سنين إلى عشر . ونحوه روى ابن وهب عن مالك . وقال أحمد : لم أسمع في ذلك شيئا . وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال : سئل ابن عباس : مثل من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أنا يومئذ مختون . قال : وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك أو يقارب الاحتلام .[ ص: 98 ] واستحب العلماء في الرجل الكبير يسلم أن يختن ، وكان عطاء يقول : لا يتم إسلامه حتى يختتن وإن بلغ ثمانين سنة . وروي عن الحسن أنه كان يرخص للشيخ الذي يسلم ألا يختتن ، ولا يرى به بأسا ولا بشهادته وذبيحته وحجه وصلاته ، قال ابن عبد البر : وعامة أهل العلم على هذا . وحديث بريدة في حج الأغلف لا يثبت . وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد وعكرمة : أن الأغلف لا تؤكل ذبيحته ولا تجوز شهادته .التاسعة : [ وأول من استحد ] فالاستحداد استعمال الحديد في حلق العانة . وروت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اطلى ولي عانته بيده . وروى ابن عباس أن رجلا طلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ إلى عانته قال له : اخرج عني ، ثم طلى عانته بيده . وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتنور ، وكان إذا كثر الشعر على عانته حلقه . قال ابن خويز منداد : وهذا يدل على أن الأكثر من فعله كان الحلق وإنما تنور نادرا ، ليصح الجمع بين الحديثين .العاشرة : في تقليم الأظفار . وتقليم الأظفار : قصها ، والقلامة ما يزال منها . وقال مالك : أحب للنساء من قص الأظفار وحلق العانة مثل ما هو على الرجال . ذكره الحارث بن مسكين وسحنون عن ابن القاسم . وذكر الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " له ( الأصل التاسع والعشرون ) : حدثنا عمر بن أبي عمر قال : حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي عن عمر بن بلال الفزاري قال : سمعت عبد الله بن بشر المازني يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قصوا أظافيركم وادفنوا قلاماتكم ونقوا براجمكم ونظفوا لثاتكم من الطعام وتسننوا ولا تدخلوا علي قخرا بخرا ثم تكلم عليه فأحسن . قال الترمذي : فأما قص الأظفار فمن أجل أنه يخدش ويخمش ويضر ، وهو مجتمع الوسخ ، فربما أجنب ولا يصل الماء إلى البشرة من أجل الوسخ فلا يزال جنبا . ومن أجنب فبقي موضع إبرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جنب على حاله حتى يعم الغسل جسده كله ، فلذلك ندبهم إلى قص الأظفار . والأظافير جمع الأظفور ، والأظفار جمع الظفر . وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سها في صلاته فقال : وما لي لا أوهم ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته ويسألني أحدكم عن خبر السماء وفي أظافيره الجنابة والتفث . وذكر هذا الخبر أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بإلكيا في " أحكام القرآن " له ، عن سليمان بن فرج أبي واصل قال : أتيت أبا أيوب رضي الله عنه فصافحته ، فرأى [ ص: 99 ] في أظفاري طولا فقال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن خبر السماء فقال : يجيء أحدكم يسأل عن خبر السماء وأظفاره كأظفار الطير حتى يجتمع فيها الوسخ والتفث .وأما قوله : ادفنوا قلاماتكم فإن جسد المؤمن ذو حرمة ، فما سقط منه وزال عنه فحفظه من الحرمة قائم ، فيحق عليه أن يدفنه ، كما أنه لو مات دفن ، فإذا مات بعضه فكذلك أيضا تقام حرمته بدفنه ، كي لا يتفرق ولا يقع في النار أو في مزابل قذرة . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن دمه حيث احتجم كي لا تبحث عنه الكلاب . حدثنا بذلك أبي رحمه الله تعالى قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا الهنيد بن القاسم بن عبد الرحمن بن ماعز قال : سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير يقول إن أباه حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم ، فلما فرغ قال : يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد . فلما برز عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمد إلى الدم فشربه ، فلما رجع قال : يا عبد الله ما صنعت به ؟ . قال : جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خافيا عن الناس . قال : لعلك شربته ؟ قال نعم . قال : لم شربت الدم ، وويل للناس منك وويل لك من الناس . حدثني أبي قال : حدثنا مالك بن سليمان الهروي قال : حدثنا داود بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان : الشعر ، والظفر ، والدم ، والحيضة ، والسن ، والقلفة ، والبشيمة .وأما قوله : نقوا براجمكم فالبراجم تلك الغضون من المفاصل ، وهي مجتمع الدرن ( واحدها برجمة ) وهو ظهر عقدة كل مفصل ، فظهر العقدة يسمى برجمة ، وما بين العقدتين تسمى راجبة ، وجمعها رواجب ، وذلك مما يلي ظهرها ، وهي قصبة الأصبع ، فلكل أصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الإبهام فإن لها برجمة وراجبتين ، فأمر بتنقيته لئلا يدرن فتبقى فيه الجنابة ، ويحول الدرن بين الماء والبشرة .وأما قوله : نظفوا لثاتكم فاللثة واحدة ، واللثات جماعة ، وهي اللحمة فوق الأسنان ودون الأسنان ، وهي منابتها . والعمور : اللحمة القليلة بين السنين ، واحدها عمر . فأمر بتنظيفها لئلا يبقى فيها ويضر الطعام فتتغير عليه النكهة وتتنكر الرائحة ، ويتأذى الملكان ; لأنه طريق القرآن ، ومقعد الملكين عند نابيه . وروي في الخبر في قوله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ ص: 100 ] قال : عند نابيه . حدثنا بذلك محمد بن علي الشقيقي قال : سمعت أبي يذكر ذلك عن سفيان بن عيينة وجاد ما قال ، وذلك أن اللفظ هو عمل الشفتين يلفظ الكلام عن لسانه إلى البراز . وقوله : لديه أي عنده ، والدى والعند في لغتهم السائرة بمعنى واحد ، وكذلك قولهم " لدن " فالنون زائدة . فكأن الآية تنبئ أن الرقيب عتيد عند مغلظ الكلام وهو الناب .وأما قوله : تسننوا وهو السواك مأخوذ من السن ، أي نظفوا السن .وقوله : لا تدخلوا علي قخرا بخرا فالمحفوظ عندي ( قحلا وقلحا ) . وسمعت الجارود يذكر عن النضر قال : الأقلح الذي قد اصفرت أسنانه حتى بخرت من باطنها ، ولا أعرف القخر . والبخر : الذي تجد له رائحة منكرة لبشرته ، يقال : رجل أبخر ، ورجال بخر . حدثنا الجارود قال : حدثنا جرير عن منصور عن أبي علي عن أبي جعفر بن تمام بن العباس عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استاكوا ، ما لكم تدخلون علي قلحا .الحادية عشرة : في قص الشارب . وهو الأخذ منه حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار ، ولا يجزه فيمثل نفسه ، قاله مالك . وذكر ابن عبد الحكم عنه قال : وأرى أن يؤدب من حلق شاربه . وذكر أشهب عنه أنه قال في حلق الشارب : هذه بدع ، وأرى أن يوجع ضربا من فعله . وقال ابن خويز منداد قال مالك : أرى أن يوجع من حلقه ضربا . كأنه يراه ممثلا بنفسه ، وكذلك بنتفه الشعر ، وتقصيره عنده أولى من حلقه . وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ذا لمة ، وكان أصحابه من بين وافر الشعر أو مقصر ، وإنما حلق وحلقوا في النسك . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقص أظافره وشاربه قبل أن يخرج إلى الجمعة . وقال الطحاوي : لم نجد عن الشافعي في هذا شيئا منصوصا ، وأصحابه الذين رأيناهم : المزني والربيع كانا [ ص: 101 ] يحفيان شواربهما ، ويدل ذلك أنهما أخذا ذلك عن الشافعي رحمه الله تعالى . قال : وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير . وذكر ابن خويز منداد عن الشافعي أن مذهبه في حلق الشارب كمذهب أبي حنيفة سواء . وقال أبو بكر الأثرم : رأيت أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديدا ، وسمعته سئل عن السنة في إحفاء الشارب فقال : يحفى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : أحفوا الشوارب . قال أبو عمر : إنما في هذا الباب أصلان : أحدهما : أحفوا ، وهو لفظ محتمل التأويل . والثاني : قص الشارب ، وهو مفسر ، والمفسر يقضي على المجمل ، وهو عمل أهل المدينة ، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب . روى الترمذي عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من شاربه ويقول : إن إبراهيم خليل الرحمن كان يفعله . قال : هذا حديث حسن غريب . وخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الفطرة خمس الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط . وفيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى . والأعاجم يقصون لحاهم ، ويوفرون شواربهم أو يوفرونهما معا ، وذلك عكس الجمال والنظافة . ذكر رزين عن نافع أن ابن عمر كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى الجلد ، ويأخذ هذين ، يعني ما بين الشارب واللحية . وفي البخاري : وكان ابن عمر يأخذ من طول لحيته ما زاد على القبضة إذا حج أو اعتمر . وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها . قال : هذا حديث غريب .الثانية عشرة : وأما الإبط فسنته النتف ، كما أن سنة العانة الحلق ، فلو عكس جاز لحصول النظافة ، والأول أولى ; لأنه المتيسر المعتاد .[ ص: 102 ] الثالثة عشرة : وفرق الشعر : تفريقه في المفرق ، وفي صفته صلى الله عليه وسلم : إن انفرقت عقيصته فرق ، يقال : فرقت الشعر أفرقه فرقا ، يقال : إن انفرق شعر رأسه فرقه في مفرقه ، فإن لم ينفرق تركه وفرة واحدة . خرج النسائي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره ، وكان المشركون يفرقون شعورهم ، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، أخرجه البخاري ومسلم عن أنس . قال القاضي عياض : سدل الشعر إرساله ، والمراد به ها هنا عند العلماء إرساله على الجبين ، واتخاذه كالقصة ، والفرق في الشعر سنة ; لأنه الذي رجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم .وقد روي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسا يجزون ناصية كل من لم يفرق شعره . وقد قيل : إن الفرق كان من سنة إبراهيم عليه السلام ، فالله أعلم .الرابعة عشرة : وأما الشيب فنور ويكره نتفه ، ففي النسائي وأبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تنتفوا الشيب ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورا يوم القيامة وكتب الله له حسنة وحط عنه خطيئة .قلت : وكما يكره نتفه كذلك يكره تغييره بالسواد ، فأما تغييره بغير السواد فجائز ، لقوله صلى الله عليه وسلم في حق أبي قحافة - وقد جيء به ولحيته كالثغامة بياضا - : غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد . ولقد أحسن من قال :يسود أعلاها ويبيض أصلها ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصلوقال الآخر :يا خاضب الشيب بالحناء تستره سل المليك له سترا من النار[ ص: 103 ] الخامسة عشرة : وأما الثريد فهو أزكى الطعام وأكثره بركة ، وهو طعام العرب ، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل على سائر الطعام فقال : فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام . وفي صحيح البستي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت إذا ثردت غطته شيئا حتى يذهب فوره وتقول : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنه أعظم للبركة .السادسة عشرة : قلت : وهذا كله في معنى ما ذكره عبد الرزاق عن ابن عباس ، وما قاله سعيد بن المسيب وغيره . ويأتي ذكر المضمضة والاستنشاق والسواك في سورة " النساء " وحكم الاستنجاء في " براءة " وحكم الضيافة في " هود " إن شاء الله تعالى . وخرج مسلم عن أنس قال : وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة ، قال علماؤنا : هذا تحديد في أكثر المدة ، والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة ، وهذا الحديث يرويه جعفر بن سليمان . قال العقيلي : في حديثه نظر . وقال أبو عمر فيه : ليس بحجة ، لسوء حفظه وكثرة غلطه . وهذا الحديث ليس بالقوي من جهة النقل ; ولكنه قد قال به قوم ، وأكثرهم على ألا توقيت في ذلك ، وبالله التوفيق .السابعة عشرة : قوله تعالى : قال إني جاعلك للناس إماماالإمام : القدوة ، ومنه قيل لخيط البناء : إمام ، وللطريق : إمام ; لأنه يؤم فيه للمسالك ، أي يقصد . فالمعنى : جعلناك للناس إماما يأتمون بك في هذه الخصال ، ويقتدي بك الصالحون . فجعله الله تعالى إماما لأهل طاعته ، فلذلك اجتمعت الأمم على الدعوى فيه - والله أعلم - أنه كان حنيفا .الثامنة عشرة : قال ومن ذريتي دعاء على جهة الرغباء إلى الله تعالى ، أي من ذريتي يا رب فاجعل . وقيل : هذا منه على جهة الاستفهام عنهم ، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون ؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصيا وظالما لا يستحق الإمامة . قال ابن عباس : سأل [ ص: 104 ] إبراهيم عليه السلام أن يجعل من ذريته إمام ، فأعلمه الله أن في ذريته من يعصي فقال : لا ينال عهدي الظالمين .التاسعة عشرة : قوله تعالى : ومن ذريتي أصل ذرية ، فعلية من الذر ; لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم عليه السلام كالذر حين أشهدهم على أنفسهم . وقيل : هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم ، ومنه الذرية وهي نسل الثقلين ، إلا أن العرب تركت همزها ، والجمع الذراري . وقرأ زيد بن ثابت " ذرية " بكسر الذال و " ذرية " بفتحها . قال ابن جني أبو الفتح عثمان : يحتمل أصل هذا الحرف أربعة ألفاظ : أحدها : ذرأ ، والثاني : ذرر ، والثالث : ذرو ، والرابع : ذري ، فأما الهمزة فمن ذرأ الله الخلق ، وأما ذرر فمن لفظ الذر ومعناه ، وذلك لما ورد في الخبر ( أن الخلق كان كالذر ) وأما الواو والياء ، فمن ذروت الحب وذريته يقالان جميعا ، وذلك قوله تعالى : فأصبح هشيما تذروه الرياح وهذا للطفه وخفته ، وتلك حال الذر أيضا . قال الجوهري : ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا أي نسفته ، ومنه قولهم : ذرى الناس الحنطة ، وأذريت الشيء إذا ألقيته ، كإلقائك الحب للزرع . وطعنه فأذراه عن ظهر دابته ، أي ألقاه . وقال الخليل : إنما سموا ذرية ; لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر . وقيل : أصل ذرية ، ذرورة ، لكن لما كثر التضعيف أبدل من إحدى الراءات ياء ، فصارت ذروية ، ثم أدغمت الواو في الياء فصارت ذرية . والمراد بالذرية هنا الأبناء خاصة ، وقد تطلق على الآباء والأبناء ، ومنه قوله تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم يعني آباءهم .الموفية عشرين : قوله تعالى : قال لا ينال عهدي الظالمين اختلف في المراد بالعهد ، فروى أبو صالح عن ابن عباس أنه النبوة ، وقاله السدي . مجاهد : الإمامة . قتادة : الإيمان . عطاء : الرحمة . الضحاك : دين الله تعالى . وقيل : عهده أمره . ويطلق العهد على الأمر ، قال الله تعالى : إن الله عهد إلينا أي أمرنا . وقال : ألم أعهد إليكم يابني آدم يعني ألم أقدم إليكم الأمر به ، وإذا كان عهد الله هو أوامره فقوله : لا ينال عهدي الظالمين أي لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله ولا يقيمون عليها ، على ما يأتي بيانه بعد هذا آنفا إن شاء الله تعالى . وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى : لا ينال عهدي الظالمين قال : لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين ، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به ، وأكل وعاش [ ص: 105 ] وأبصر . قال الزجاج : وهذا قول حسن ، أي لا ينال أماني الظالمين ، أي لا أؤمنهم من عذابي . وقال سعيد بن جبير : الظالم هنا المشرك . وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف لا ينال عهدي الظالمون برفع الظالمون . الباقون بالنصب . وأسكن حمزة وحفص وابن محيصن الياء في عهدي ، وفتحها الباقون .الحادية والعشرون : استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك ، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله ، على ما تقدم من القول فيه . فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل ، لقوله تعالى : لا ينال عهدي الظالمين ولهذا خرج ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم . وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج ، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم ، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة .والذي عليه الأكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه ; لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف ، وإراقة الدماء ، وانطلاق أيدي السفهاء ، وشن الغارات على المسلمين ، والفساد في الأرض . والأول مذهب طائفة من المعتزلة ، وهو مذهب الخوارج ، فاعلمه .الثانية والعشرون : قال ابن خويز منداد : وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا ، ولا إمام صلاة ، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة ، ولا تقبل شهادته في الأحكام ، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد . وما تقدم من أحكامه موافقا للصواب ماض غير منقوض . وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجها من الاجتهاد ، ولم يخرقوا الإجماع ، أو يخالفوا النصوص . وإنما قلنا ذلك لإجماع الصحابة ، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم ولم ينقل أن الأئمة تتبعوا أحكامهم ، ولا نقضوا شيئا منها ، ولا أعادوا أخذ الزكاة ولا إقامة الحدود التي أخذوا وأقاموا ، فدل على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لأحكامهم .الثالثة والعشرون : قال ابن خويز منداد : وأما أخذ الأرزاق من الأئمة الظلمة فلذلك ثلاثة أحوال : إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه ، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره . وإن كان مختلطا حلالا وظلما كما في أيدي الأمراء اليوم فالورع تركه ، ويجوز للمحتاج أخذه ، وهو كلص في يده مال مسروق ، ومال جيد حلال وقد وكله فيه رجل فجاء اللص يتصدق به على إنسان فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة ، وإن كان قد [ ص: 106 ] يجوز أن يكون اللص يتصدق ببعض ما سرق ، إذا لم يكن شيء معروف بنهب ، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحا لازما - وإن كان الورع التنزه عنه - وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها وإنما تحرم لجهاتها . وإن كان ما في أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم . ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبا غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب ، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق ، ويجعل في بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد ، فإذا لم يعرف صرفه الإمام في مصالح المسلمين . | Arabic Qurtubi Tafseer | 2:124 |
يخبر تعالى, عن عبده وخليله, إبراهيم عليه السلام, المتفق على إمامته وجلالته, الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه, بل وكذلك المشركون: أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات, أي: بأوامر ونواهي, كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده, ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء, والامتحان من الصادق, الذي ترتفع درجته, ويزيد قدره, ويزكو عمله, ويخلص ذهبه، وكان من أجلِّهم في هذا المقام, الخليل عليه السلام. فأتم ما ابتلاه الله به, وأكمله ووفاه, فشكر الله له ذلك, ولم يزل الله شكورا فقال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } أي: يقتدون بك في الهدى, ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية, ويحصل لك الثناء الدائم, والأجر الجزيل, والتعظيم من كل أحد. وهذه - لعمر الله - أفضل درجة, تنافس فيها المتنافسون, وأعلى مقام, شمر إليه العاملون, وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم, من كل صديق متبع لهم, داع إلى الله وإلى سبيله. فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام, وأدرك هذا, طلب ذلك لذريته, لتعلو درجته ودرجة ذريته، وهذا أيضا من إمامته, ونصحه لعباد الله, ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون، فلله عظمة هذه الهمم العالية, والمقامات السامية. فأجابه الرحيم اللطيف, وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال: { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } أي: لا ينال الإمامة في الدين, من ظلم نفسه وضرها, وحط قدرها, لمنافاة الظلم لهذا المقام, فإنه مقام آلته الصبر واليقين، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة, والأخلاق الجميلة, والشمائل السديدة, والمحبة التامة, والخشية والإنابة، فأين الظلم وهذا المقام؟ ودل مفهوم الآية, أن غير الظالم, سينال الإمامة, ولكن مع إتيانه بأسبابها. | Arabic Saddi Tafseer | 2:124 |
قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قرأ ابن عامر (إبراهام) بالألف في أكثر المواضع وهو اسم أعجمي ولذلك لا يجر وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور وكان مولده بالسوس من أرض الأهواز وقيل بابل وقيل: كوفي، وقيل:لشكر، وقيل حران، وكان أبوه نقله إلى أرض بابل أرض نمرود بن كنعان.ومعنى الابتلاء: الاختبار والامتحان والأمر، وابتلاء الله العباد ليس ليعلم أحوالهم بالابتلاء، لأنه عالم بهم، ولكن ليعلم العباد أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضاً.واختلفوا في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه السلام؛ فقال عكرمة وابن عباس رضي الله عنهما: "هي ثلاثون سماهن شرائع الإسلام، ولم يبتل بها أحد فأقامها كلها إلا إبراهيم فكتب له البراءة، فقال تعال: {وإبراهيم الذي وفى} [37-النجم]، عشر في براءة {التائبون العابدون} إلى آخرها، وعشر في الأحزاب {إن المسلمين والمسلمات}، وعشر في سورة المؤمنين في قوله: {قد أفلح المؤمنو}" الآيات، وقوله {إلا المصلين} في سأل سائل".وقال طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما: "ابتلاه الله بعشرة أشياء وهي: الفطرة خمس في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وخمس في الجسد: تقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء بالماء".وفي الخبر: ((أن إبراهيم عليه السلام أول من قص الشارب، وأول من اختتن، وأول من قلم الأظافر، وأول من رأى الشيب فلما رآه قال: يا رب ما هذا؟ قال [سمة]: الوقار، قال: يارب زدني وقاراً)).قال مجاهد: "هي الآيات التي بعدها في قوله عز وجل {إني جاعلك للناس إماماً} [124-البقرة] إلى آخر القصة.وقال الربيع وقتادة: "مناسك الحج"، وقال الحسن: "ابتلاه الله بسبعة أشياء: بالكواكب والقمر والشمس، فأحسن فيها النظر وعلم أن ربه دائم لا يزول، وبالنار فصبر عليها، وبالهجرة وبذبح ابنه وبالختان فصبر عليها".قال سعيد بن جبير: "هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يرفعان البيت {ربنا تقبل منا}[(127-البقرة] الآية فرفعاها بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر"، قال يمان بن رباب: "هن محاجة قومه قال الله تعالى: {وحاجه قومه} إلى قوله تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم} [83-الأنعام].وقيل هي قوله: {الذي خلقني فهو يهدين} [78-الشعراء] إلى آخر الآيات.{فأتمهن} قال قتادة : "أداهن"، قال الضحاك: "قام بهن"، وقال نعمان: "عمل بهن".قال الله تعالى: {قال إني جاعلك للناس إماماً} يقتدى بك في الخير.{قال} إبراهيم.{ومن ذريتي} أي ومن أولادي أيضاً فاجعل منهم أئمة يقتدى بهم في الخير.{قال} الله تعالى.{لا ينال} لا يصيب.{عهدي الظالمين} قرأ حمزة وحفص بإسكان الياء والباقون بفتحها أي من كان منهم ظالماً لا يصيبه.قال عطاء بن أبي رباح: "عهدي رحمتي"، وقال السدي : "نبوتي"، وقيل: الإمامة، قال مجاهد: "ليس لظالم أن يطاع في ظلمه".ومعنى الآية: لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالماً من ولدك، وقيل: أراد بالعهد الأمان من النار، وبالظالم المشرك كقوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن} [82-الأنعام]. | Arabic Baghawy Tafseer | 2:124 |
قال العوفي عن ابن عباس قوله تعالى "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" يقول لا يقضون منه وطرا يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثابة للناس يقول يثوبون. رواهما ابن جرير: وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا عبداللّه بن رجاء أخبرنا إسرائيل عن مسلم عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال يثوبون إليه ثم يرجعون قال: وروي عن أبي العالية وسعيد بن جبير في رواية عطاء ومجاهد والحسن وعطية والربيع بن أنس والضحاك نحو ذلك. وقال ابن جرير حدثني عبدالكريم بن أبي عمير حدثني الوليد بن مسلم قال: قال أبو عمرو يعني الأوزاعي: حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله تعالى "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا. وحدثني يونس عن ابن وهب قال: قال ابن زيد "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه. وما أحسن ما قال: الشاعر في هذا المعنى أورده القرطبي: عل البيت مثابا لهـــــم ليس منه الدهر يقضون الوطر وقال سعيد بن جبير في الرواية الأخرى وعكرمة وقتادة وعطاء الخراساني مثابة للناس أي مجمعا وأمنا قال الضحاك عن ابن عباس: أي أمنا للناس. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا" يقول وأمنا من العدو وأن يحمل فيه السلاح وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون. وروي عن مجاهد وعطاء والسدي وقتادة والربيع بن أنس قالوا من دخله كان آمنا. ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه مثابه للناس أي جعله محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ولا تقضي منه وطرا ولو ترددت إليه كل عام استجابة من اللّه تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام في قوله فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم إلى أن قال "ربنا وتقبل دعائي" ويصفه تعالى بأنه جعله آمنا من دخله أمن ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يعرض له كما وصف في سورة المائدة بقوله تعالى "جعل اللّه الكعبة البيت الحرام قياما للناس" أي يدفع عنهم بسبب تعظيمها السوء كما قال ابن عباس: لو لم يحج الناس هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض وما هذا الشرف إلا شرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن كما قال تعالى "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا" وقال تعالى "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا" وفي هذه الآية الكريمة نبه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده. فقال "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو فقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عمرو بن شبة النميري حدثنا أبو خلف يعني عبدالله بن عيسى أخبرنا داود بن أبي هند عن مجاهد عن ابن عباس "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال مقام إبراهيم الحرم كله. وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك. وقال أيضا أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" فقال سمعت ابن عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكر ههنا فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد ثم قال ومقام إبراهيم يعد كثير مقام إبراهيم الحج كله. ثم فسره لي عطاء فقال: التعريف وصلاتان بعرفة والمشعر ومنى ورمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة فقلت أفسره ابن عباس؟ قال: لا ولكن قال مقام إبراهيم الحج كله. قلت أسمعت ذلك لهذا أجمع؟ قال نعم سمعته منه وقال سفيان الثوري عن عبداللّه بن مسلم عن سعيد بن جبير "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال الحجر مقام إبراهيم نبي الله قد جعله اللّه رحمة فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه. وقال السدي: المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه. حكاه القرطبي وضعفه ورجحه غيره حكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح أخبرنا عبدالوهاب بن عطاء عن ابن جريج عن جعفر بن محمد عن أبيه سمع جابرا يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر هذا مقام أبينا؟ قال "نعم" قال أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله عز وجل"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"وقال عثمان بن أبي شيبة أخبرنا أبو أسامة عن زكريا عن أبي إسحق عن أبي ميسرة قال: قال عمر قلت يا رسول الله هذا مقام خليل ربنا؟ قال "نعم" قال أفلا نتخذه مصلى؟ فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقال ابن مردويه أخبرنا دعلج بن أحمد أخبرنا غيلان بن عبدالصمد أخبرنا مسروق بن المرزبان أخبرنا زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحق عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مر بمقام إبراهيم فقال: يا رسول اللّه أليس نقوم بمقام خليل ربنا؟ قال "بلى" قال أفلا نتخذه مصلى؟ فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقال ابن مردويه أخبرنا علي بن أحمد بن محمد القزويني أخبرنا علي بن الحسين حدثنا الجنيد أخبرنا هشام بن خالد أخبرنا الوليد عن مالك بن أنس عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: لما وقف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم قال له عمر يا رسول الله هذا مقام إبراهيم الذي قال الله "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال "نعم" قال الوليد: قلت لمالك هكذا حدثك واتخذوا قال نعم هكذا وقع في هذه الرواية وهو غريب وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه وقال البخاري: باب قوله "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" مثابة يثوبون يرجعون. حدثنا مسدد أخبرنا يحيى عن حميد عن أنس بن مالك. قال: قال عمر بن الخطاب وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث: قلت يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت يا رسول اللّه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل اللّه آية الحجاب. قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتت إحدى نسائه قالت: يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات" الآية وقال ابن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثني حميد قال: سمعت أنسا عن عمر رضي الله عنهما هكذا ساقه البخاري ههنا وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري وقد تفرد بالرواية عنه البخاري من بين أصحاب الكتب الستة وروى عنه الباقون بواسطة وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين فيه اتصال إسناد الحديث وإنما لم يسنده لأن يحيى بن أبي أيوب الغافقي فيه شيء كما قال الإمام أحمد فيه هو سيء الحفظ والله أعلم وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم أخبرنا حميد عن أنس قال: قال عمر رضي الله عنه وافقت ربي عز وجل في ثلاث قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه في الغيرة فقلت لهن "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن" فنزلت كذلك ثم رواه أحمد عن يحيى وابن أبي عدي كلاهما عن حميد عن أنس عن عمر أنه قال وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث فذكره. وقد رواه البخاري عن عمر وابن عون والترمذي عن أحمد بن منيع والنسائي عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي وابن ماجه عن محمد بن الصباح كلهم عن هشيم بن بشير به. ورواه الترمذي أيضا عن عبد بن حميد عن حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة والنسائي عن هناد عن يحيى بن أبي زائدة كلاهما عن حميد وهو ابن تيرويه الطويل به. وقال الترمذي حسن صحيح. ورواه الإمام علي بن المديني عن يزيد بن زريع عن حميد به. وقال هذا من صحيح الحديث وهو بصري. ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر فقال أخبرنا عقبة بن مكرم أخبرنا سعيد بن عامر عن جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث في الحجاب وفي أسارى بدر وفي مقام إبراهيم. وقال أبو حاتم الرازي: أخبرنا محمد بن عبدالله الأنصاري أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب وافقني ربي في ثلاث أو وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت يا رسول الله لو حجبت النساء فنزلت آية الحجاب والثالثة لما مات عبدالله بن أبي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم تصلي على هذا الكافر المنافق. فقال: أيها عنك يا ابن الخطاب فنزلت "ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره" وهذا إسناد صحيح أيضا ولا تعارض بين هذا ولا هذا بل الكل صحيح ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قدم عليه والله أعلم وقال ابن جريج أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ثم قرأ "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقال ابن جرير حدثنا يوسف بن سليمان أخبرنا حاتم بن إسماعيل أخبرنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: استلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين. وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي سماه في صحيحه من حديث حاتم بن إسماعيل. وروى البخاري بسنده عن عمرو بن دينار: قال سمعت عمر يقول قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها وهكذا حتى تم جدران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ولم يزل هذا معروف تعرفه العرب في جاهليتها ولهذا قال: أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية: موطيء إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيا غير ناعل وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا كما قال عبدالله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثهم قال رأيت المقام فيه أصابعه عليه السلام وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم وقال ابن جرير أخبرنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع أخبرنا سعيد عن قتادة "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه. وقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى "قلت" وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ولهذا والله أعلم أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين قال عبدالرزاق عن ابن جريج حدثني عطاء وغيره من أصحابنا: قال أول من نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال عبدالرزاق أيضا عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين البيهقي أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي حدثنا أبو ثابت حدثنا الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان يعني ابن عيينة وهو إمام المكيين في زمانه كان المقام من سفع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه وقال سفيان لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله قال سفيان لا أدري أكان لاصقا بها أم لا؟ فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه واللّه أعلم وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه أخبرنا ابن عمر وهو أحمد بن محمد بن حكيم أخبرنا محمد بن عبدالوهاب بن أبي تمام أخبرنا آدم هو ابن أبي إياس في تفسيره أخبرنا شريك عن إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب يا رسول الله لو صلينا خلف المقام فأنزل الله "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" فكان المقام عند البيت فحوله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا. قال مجاهد وكان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن هذا مرسل عن مجاهد وهو مخالف لما تقدم من رواية عبدالرزاق عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد أن أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم والله أعلم. قال الحسن البصري قوله "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل" قال أمرهما اللّه أن يطهراه من الأذى والنجس ولا يصيبه من ذلك شيء وقال ابن جريج قلت لعطاء ما عهده؟ قال أمره. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم "وعهدنا إلى إبراهيم" أي أمرناه كذا قال والظاهر أن هذا الحرف إنما عدي بإلى لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله "أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين" قال: من الأوثان وقال مجاهد وسعيد بن جبير طهرا بيتي للطائفين أن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس. قال ابن أبي حاتم. وروي عن عبيد بن عمير وأبي العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وقتادة "أن طهرا بيتي" أي بلا إله إلا اللّه من الشرك وأما قوله تعالى للطائفين فالطواف بالبيت معروف. وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى "للطائفين" يعني من أتاه من غربة "والعاكفين" المقيمين فيه وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنس أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه كما قال سعيد بن جبير. وقال يحيى القطان عن عبدالملك هو ابن أبي سليمان عن عطاء في قوله" والعاكفين" قال من انتابه من الأمصار فأقام عنده. وقال لنا ونحن مجاورون أنتم من العاكفين. وقال وكيع عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس قال إذا كان جالسا فهو من العاكفين. وقال: ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت قال: قلنا لعبد اللّه بن عبيد بن عمير ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون. قال لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال هم العاكفون. ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به "قلت" وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب. وأما قوله تعالى "والركع السجود" فقال وكيع عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس والركع السجود قال: إذا كان مصليا فهو الركع السجود وكذا قال: عطاء وقتادة قال ابن جرير رحمه الله فمعنى الآية وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك ثم أورد سؤالا فقال: فإن قيل فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه وأجاب بوجهين: "أحدهما" أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان ليكون ذلك سنة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إماما يقتدى به كما قال عبدالرحمن بن زيد "أن طهرا بيتي" قال من الأصنام التي يعبدون التي كان المشركون يعظمونها "قلت" وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم "والجواب الثاني" أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له فيبنياه مطهرا من الشرك والريب كما قال جل ثناؤه "أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار" قال فكذلك قوله "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي" أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب كما قال السدي "أن طهرا بيتي" ابنيا بيتي للطائفين وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به والعاكفين عنده والمصلين إليه من الركع السجود كما قال تعالى "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود" الآيات. وقد اختلف الفقهاء أيما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك رحمه الله: الطواف به لأهل الأمصار أفضل. وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقا وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام والمراد ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى "إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد اللّه وحده لا شريك له إما بطواف أو صلاة فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة قيامها وركوعها وسجودها ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم "سواء العاكف فيه والباد" وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام وفي ذلك أيضا رد على من لا يحجه من أهل الكتابين اليهود والنصارى لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئا من ذلك فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع اللّه له؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى "إن هو إلا وحي يوحى". وتقدير الكلام إذا "وعهدنا إلى إبراهيم" أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل "أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود" أي طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصا لله معقلا للطائفين والعاكفين والركع السجود وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى "في بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال" ومن السنة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتهـا من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك ولهذا قال عليه السلام "إنما بنيت المساجد لما بنيت له" وقد جمعت في ذلك جزءا على حدة ولله الحمد والمنة. وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة فقيل الملائكة قبل آدم روي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين ذكره القرطبي وحكى لفظه وفيه غرابة وقيل آدم عليه السلام رواه عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم أن آدم بناه من خمسة أجبل من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي وهذا غريب أيضا. وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه أن أول من بناه شيث عليه السلام وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها وأما إذ صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين. | ابن كثير | 2:125 |
واذكر -أيها النبي- حين جعلنا الكعبة مرجعًا للناس، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه، ومجمعًا لهم في الحج والعمرة والطواف والصلاة، وأمنًا لهم، لا يُغِير عليهم عدو فيه. وقلنا: اتخِذوا من مقام إبراهيم مكانًا للصلاة فيه، وهو الحجر الذي وقف عليه إبراهيم عند بنائه الكعبة. وأوحينا إلى إبراهيم وابنه إسماعيل: أن طهِّرا بيتي من كل رجس ودنس؛ للمتعبدين فيه بالطواف حول الكعبة، أو الاعتكاف في المسجد، والصلاة فيه. | المیسر | 2:125 |
تدرجُ في ذكر منقبة إبراهيم إذ جعل الله بيته بهذه الفضيلة . و ( إذ ) أضافها إلى جلالته فقال : ( بيتي ) ، واستهلالٌ لفضيلة القبلة الإسلامية ، فالواو عاطفة على { ابتلى } [ البقرة : 124 ] وأعيدت ( إذ ) للتنبيه على استقلال القصة وأنها جديرة بأن تعد بنية أخرى ، ولا التفات إلى حصول مضمون هذه بعد حصول الأخرى أو قبله إذ لا غرض في ذلك في مقام ذكر الفضائل ، ولأن الواو لا تفيد ترتيباً .والبيت اسم جنس للمكان المتخذ مسكناً لواحد أو عدد من الناس في غرض من الأغراض ، وهو مكان من الأرض يحيط به ما يميزه عن بقية بقعته من الأرض ليكون الساكن مستقلاً به لنفسه ولمن يتبعه فيكون مستقَراً له وكناً يكنه من البرد والحر وساتراً يستتر فيه عن الناس ومحطاً لأثاثه وشؤونه ، وقد يكون خاصاً وهو الغالب وقد يكون لجماعة مثل دار الندوة في العرب وخيمة الاجتماع في بني إسرائيل ، وقد يكون محيط البيت من حجر وطين كالكعبة ودار الندوة ، وقد يكون من أديم مثل القباب ، وقد يكون من نسيج صوف أو شعر قال تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها } [ النحل : 80 ] ، ولا يكون بيتاً إلا إذا كان مستوراً أعلاه عن الحر والقُر وذلك بالسقف لبيوت الحجر وبيوت الأديم والخيام .والبيت علم بالغلبة على الكعبة كما غلب النجم على الثريا . وأصل أل التي في الأعلام بالغلبة هي أل العهدية وذلك إذا كثر عهد فرد من أفراد جنس بين طائفة أو قوم صار اسم جنسه مع أل العهدية كالعلم له ثم قد يتعهدون مع ذلك المعنى الأصلي كما في النجم للثريا والكتاب للقرآن والبيت للكعبة ، وقد ينسى المعنى الأصلي إما بقلة الحاجة إليه كالصعِق علم على خويلد بن نفيل وإما بانحصار الجنس فيه كالشمس .والكعبة بيت بناه إبراهيم عليه السلام لعبادة الله وحده دون شريك فيأوي إليه من يدين بالتوحيد ويطوف به من يقصد تعظيم الله تعالى ولذلك أضافه إلى الله تعالى باعتبار هذا المعنى كما قال : { أن طهرا بيتي للطائفين } وفي قوله : { عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 37 ] وقد عرفت الكعبة باسم البيت من عهد الجاهلية قال زهير :فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجالٌ بنوه من قريش وجُرهموالمثابة مفعلة من ثاب يثوب إذا رجع ويقال مثابة ومثاب مثل مقامة ومقام ، والمراد بالمثابة أنه يقصده الناس بالتعظيم ويلوذون به .والمراد من الناس سكان مكة من ذرية إسماعيل وكل من يجاورهم ويدخل في حلفهم ، فتعريف الناس للجنس المعهود ، وتعليق للناس بمثابة على التوزيع أي يزوره ناس ويذهبون فيخلفهم ناس .ولما كان المقصود من هذا ذكر منقبة البيت والمنة على ساكنيه كان الغرض التذكير بنعمة الله أن جعله لا ينصرف عنه قوم إلا ويخلفهم قوم آخرون ، فكان الذين يخلفون الزائرين قائمين مقامهم بالنسبة للبيت وسكانه ، ويجوز حمل تعريف الناس على العهد أي يثوب إليه الناس الذين ألفوه وهم كُمَّل الزائرين فهم يعودون إليه مراراً ، وكذلك كان الشأن عند العرب .والأمن مصدر أخبر به عن البيت باعتبار أنه سبب أمن فجعل كأنه نفس الأمن مبالغة . والأمن حفظ الناس من الأضرار فتشريد الدعَّار وحراسة البلاد وتمهيد السبل وإنارة الطرق أمن ، والانتصاف من الجناة والضرب على أيدي الظلمة وإرجاع الحقوق إلى أهلها أمن ، فالأمن يفسر في كل حال بما يناسبه ، ولما كان الغالب على أحوال الجاهلية أخذ القوي مال الضعيف ولم يكن بينهم تحاكم ولا شريعة كان الأمن يومئذ هو الحيلولة بين القوي والضعيف ، فجعل الله لهم البيت أمناً للناس يومئذ أي يصد القوي عن أن يتناول فيه الضعيف قال تعالى : { أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم } [ العنكبوت : 67 ] فهذه منة على أهل الجاهلية ، وأما في الإسلام فقد أغنى الله تعالى بما شرعه من أحكامه وما أقامه من حكامه فكان ذلك أمناً كافياً . قال السهيلي فقوله تعالى : { مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] إنما هو إخبار عن تعظيم حرمته في الجاهلية نعمة منه تعالى على أهل مكة فكان في ذلك مصلحة لذرية إسماعيل عليه السلام .وقد اختلف الفقهاء في الاستدلال بهذه الآية وأضرابها على حكم إقامة الحدود والعقوبات في الحرم وسيأتي تفصيلها عند قوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } [ البقرة : 191 ] الآية وليس من غرض هذه الآية .والمراد من الجعل في الآية إما الجعل التكويني لأن ذلك قدره الله وأوجد أسبابه فاستقر ذلك بين أهل الجاهلية ويسرهم إلى تعظيمه ، وإما الجعل أن أمر الله إبراهيم بذلك فأبلغه إبراهيم ابنه إسماعيل وبثه في ذريته فتلقاه أعقابهم تلقي الأمور المسلمة ، فدام ذلك الأمن في العصور والأجيال من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن أغنى الله عنه بما شرع من أحكام الأمن في الإسلام في كل مكان وتم مراد الله تعالى ، فلا يريبكم ما حدث في المسجد الحرام من الخوف في حصار الحجاج في فتنة ابن الزبير ولا ما حدث فيه من الرعب والقتل والنهب في زمن القرامطة حين غزاه الحسن ابن بهرام الجنابي ( نسبة إلى بلدة يقال لها جنابة بتشديد النون ) كبير القرامطة إذ قتل بمكة آلافاً من الناس وكان يقول لهم يا كلاب أليس قال لكم محمد المكي { ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] أيّ أمن هنا؟ وهو جاهل غبي لأن الله أراد الأمر بأن يجعل المسجد الحرام مأمناً في مدة الجاهلية إذ لم يكن للناس وازع عن الظلم ، أو هو خبر مراد به الأمر مثل { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء }[ البقرة : 228 ] .وقوله : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } قرأه نافع وابن عامر بصيغة الماضي عطفاً على { جعلنا } فيكون هذا الاتخاذ من آثار ذلك الجعل فالمعنى ألهمنا الناس أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، أو أمرناهم بذلك على لسان إبراهيم فامتثلوا واتخذوه ، فهو للدلالة على حصول الجعل بطريق دلالة الاقتضاء فكأنه قيل جعلنا ذلك فاتخذوا ، وقرأه باقي العشرة بكسر الخاء بصيغة الأمر على تقدير القول أي قلنا اتخِذوا بقرينة الخطاب فيكون العامل المعطوف محذوفاً بالقرينة وبقي معموله كقول لبيد :فَعَلاَ فروعُ الأَيهقان وأطفلتْ ... بالجَلْهَتَيْن ظِبَاؤُها ونَعَامُهاأراد وباضت نعامها فإنه لا يقال لأفراخ الطير أطفال ، فمآل القراءتين إلى مفاد واحد .ومقام إبراهيم يطلق على الكعبة لأن إبراهيم كان يقوم عندها يعبد الله تعالى ويدعو إلى توحيده ، قال زيد بن عمرو بن نفيل :عذت بما عاذ به إبراهِمْ ... مُستقبِلَ الكعبةِ وهو قائمْوبهذا الإطلاق جاء في قوله تعالى : { مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] إذ الدخول من علائق البيت ، ويطلق مقام إبراهيم على الحَجَر الذي كان يقف عليه إبراهيم عليه السلام حين بنائه الكعبة ليرتفع لوضع الحجارة في أعلى الجدار كما أخرجه البخاري ، وقد ثبتت آثار قدميه في الحَجَر . قال أنس بن مالك رأيتُ في المقام أَثَر أصابعه وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم ، وهذا الحجر يعرف إلى اليوم بالمقام ، وقد ركع النبيء صلى الله عليه وسلم في موضعه ركعتين بعد طواف القدوم فكان الركوع عنده من سنة الفراغ من الطواف .والمصلَّى موضع الصلاة وصلاتهم يومئذ الدعاء والخضوع إلى الله تعالى ، وكان إبراهيم قد وضع المسجد الحرام حول الكعبة ووضع الحَجَر الذي كان يرتفع عليه للبناء حولها فكان المصلَّى على الحجر المسمى بالمقام فذلك يكون المصلى متخَذاً من مقام إبراهيم على كلا الإطلاقين .والقراءتان تقتضيان أن اتخاذ مقام إبراهيم مصلَّى كان من عهد إبراهيم عليه السلام ولم يكن الحَجَر الذي اعتلى عليه إبراهيم في البناء مخصوصاً بصلاة عنده ولكنه مشمول للصلاة في المسجد الحرام ولما جاء الإسلام بقي الأمر على ذلك إلى أن كان عام حجة الوداع أو عام الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجدَ الحرام ومعه عمر بن الخطاب ثم سنت الصلاة عند المقام في طواف القدوم . روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : «وافقت ربي في ثلاث : قلتُ يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ، وهذه الرواية تثير معنى آخر للآية وهي أن يكون الخطاب موجهاً للمسلمين فتكون جملة { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } معترضة بين جملة { جعلنا البيت مثابة للناس } وجملة { وعهدنا إلى إبراهيم } اعتراضاً استطرادياً ، وللجمع بين الاحتمالات الثلاثة في الآية يكون تأويل قول عمر «فنزلت» أنه نزل على النبيء صلى الله عليه وسلم شَرْع الصلاة عند حَجَر المقام بعد أن لم يكن مشروعاً لهم ليستقيم الجمع بين معنى القراءتين واتخَذوا بصيغة الماضي وبصيغة الأمر فإن صيغة الماضي لا تحتمل غير حكاية ما كان في زمن إبراهيم وصيغة الأمر تحتمل ذلك وتحتمل أن يراد بها معنى التشريع للمسلمين ، إعمالاً للقرآن بكل ما تحتمله ألفاظه حسبما بيناه في المقدمة التاسعة .وقوله : { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } ، العهد أصله الوعد المؤكد وقوعُه وقد تقدم آنفاً عند قوله تعالى : { قال لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] ، فإذا عدي بإلى كان بمعنى الوصية المؤكد على المُوصَى العمل بها فعهد هنا بمعنى أرسل عهداً إليه أي أرسل إليه يأخذ منهم عهداً ، فالمعنى وأوصينا إلى إبراهيم وإسماعيل .وقوله : { أن طَهرا } أن تفسيرية لأن الوصية فيها معنى القول دون حروفه فالتفسير للقول الضمني والمفسِّر هو ما بعد ( أن ) فلا تقدير في الكلام ولولا قصد حكاية القول لما جاء بعد ( أن ) بلفظ الأمر ، ولقال بتطهير بيتي إلخ .والمراد من تطهير البيت ما يدل عليه لفظ التطهير من محسوس بأن يحفظ من القاذورات والأوساخ ليكون المتعبِّد فيه مقبلاً على العبادة دون تكدير ، ومِن تطهير معنوي وهو أن يُبْعَد عنه ما لا يليق بالقصد من بنائه من الأصنام والأفعال المنافية للحق كالعدوان والفسوق ، والمنافية للمروءة كالطواف عرياً دون ثياب الرجال والنساء .وفي هذا تعريض بأن المشركين ليسوا أهلاً لعمارة المسجد الحرام لأنهم لم يطهروه مما يجب تطهيره منه قال تعالى : { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } [ الأنفال : 34 ] وقال : { أيا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } [ لبتبة : 28 ] .والطائفون والعاكفون والراكعون والساجدون أصناف المتعبدين في البيت من طواففٍ واعتكاف وصلاة ، وهم أصناف المتلبسين بتلك الصفات سواء انفردت بعض الطوائف ببعض هذه الصفات أو اجتمعت الصفات في طائفة أو طوائف ، وذلك كله في الكعبة قبل وضع المسجد الحرام ، وهؤلاء هم إسماعيل وأبناؤه وأصهاره من جرهم وكلّ من آمن بدين الحنيفية من جيرانهم .وقد جمع الطائف والعاكف جمع سلامة ، وجمع الراكع والساجد جمع تكسير ، تفنناً في الكلام وبعداً عن تكرير الصيغة أكثر من مرة بخلاف نحو قوله : { مسلمات مؤمنات قانتات تائبات } [ التحريم : 5 ] الآية ، وقوله : { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } [ الأحزاب : 35 ] الآية ، وقال ابن عرفة «جمع الطائفين والعاكفين جمع سلامة لأنه أقرب إلى لفظ الفعل بمنزلة يطوفون أي يجددون الطواف للإشعار بعلة تطهير البيت وهو قرب هذين من البيت بخلاف الركوع والسجود فإنه لا يلزم أن يكونا في البيت ولا عنده فلذلك لم يجمع جمع سلامة» ، وهذا الكلام يؤذن بالفرق بين جمع السلامة وجمع التكسير من حيث الإشعار بالحدوث والتجدد ، ويشهد له كلام أبي الفتح ابن جني في «شرح الحماسة» عند قول الأحوص الأنصارى :فإذا تزول تزول عن متخمِّط ... تُخشى بوادرُه على الأقرانقال أبو الفتح : «جاز أن يتعلق على ببوادر ، وإنكان جمعاً مكسراً والمصدر إذا كسر بَعُد بتكسيره عن شبه الفعل ، وإذا جاز تعلق المفعول به بالمصدر مكسراً نحو «مواعيد عرقوب أخاه» كان تعلق حرف الجر به أجوز» . فصريح كلامه أن التكسير يبعد ما هو بمعنى الفعل عن شبه الفعل .وخولف بين الركوع والسجود زيادة في التفنن وإلا فإن الساجد يجمع على سجّد إلا أن الأكثر فيهما إذا اقترنا أن يخالف بين صيغتيهما قال كثير :لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعاً وسجوداوقد علمتم من النحو والصرف أن جمع فاعل على فعول سماعي فمنه شهود وهجوع وهجود وسجود .ولم يعطف السجود على ( الركع ) لأن الوصفين متلازمان ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان . | Arabic Tanweer Tafseer | 2:125 |
قوله - تعالى - : ( وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنا ) معطوف على قوله - تعالى - ( وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ) وجعلنا : بمعنى صرنا . والبيت : المقصود به الكعبة ، إذ غلب استعمال البيت فيها حتى صار اسما لها .ومثابة للناس : مرجعاً للناس يرجعون إليه من كل جانب ، وهو مصدر ميمي من ثاب القوم إلى المكان رجعوا إليه . فهم يثوبون إليه ثواباً وثوبانا . أو معاذا لهم يلجأون إليه أو موضع ثواب يثابون بحجة واعتماره .والأمن : السلامة من الخوف ، وأمن المكان : اطئمنان أهله به ، وعدم خوفهم من أن ينالهم فيه مكروه فالبيت مأمن ، أي موضع أمن . وأخبر - سبحانه - بأنه جعله أمنا ليدل على كثرة ما يقع به من الأمن حتى صار كأنه نفس الأمن .وكذلك صار البيت الحرام محفوظاً بالأمن من كل ناحية ، فقد كان الناس في الجاهلية يقتتلون ويعتدي بعضهم على بعض من حوله ، أما أهله فكانوا في أمان واطمئنان . قال تعالى ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ ) وقال - تعالى - : ( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ) وقد أقرت تعاليم الإِسلام هذه لحرمة للبيت الحرام على وجه لا يضيع حقاً ولا يعطل حداً ، وزادت في تكريمه وتشريفه بأن جعلت الحج إليه فريضة على كل قادر عليها .قال الإِمام ابن كثير : " ومضمون ما فسر به العلماء هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابة للناس . أي : جعهل محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه في كل عام استجابة من الله - تعالى - لدعاء خليله إبراهيم في قوله تعالى : ( فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ ) ويصفه - تعالى - بأنه جعله أمنا من دخله أمن ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له :( واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) الاتخاذ : الجعل ، تقوم اتخذت فلاناً صديقاً أي : جعلته صديقاً . والمقام في اللغة : موضع القدمين من قام يقوم ، ومقام إبراهيم : هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه عند بناء الكعبة لما ارتفع الجدار ، وهو - على المشهور - تحت المصلى المعروف الآن بهذا الاسم .ومعنى اتخاذ مصلى منه : القصد إلى الصلاة عنده . فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الإِمام مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين " .ومن العلماء من فسر مقام إبراهيم بالمسجد الحرام ، ومنهم من أطلقه على الكعبة لأن إبراهيم كان يقوم عندها لعبادة الله تعالى .قال الإِمام ابن كثير : " وقد كان هذا المقام - أي الحجر الذي يسمى مقام إبراهيم - ملصقاً بجدار الكعبة قديماً ، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر على يمين الداخل من الباب في البقة المستقلة هناك ، وكان الخليل - عليه السلام - لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة . . ثم قال : وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر - رضي الله عنه - ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة :ثم قال - تعالى - : ( وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود ) .عهدنا : أمرنا وأوحينا ، و ( أَن ) مفسرة المأمور به أو الموصى به المشار إليه بقوله : ( عَهِدْنَآ ) أي : أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي .وأضاف - سبحانه - البيت إليه والتكريم ومعنى تطهيره : صيانته من كل ما لا يليق ببيوت الله من الأقذار والأرجاس والأوثان وكل ما كان مظنة للشرك ، فالمقصود تطهيره من كل رجس حسى ومعنوى .والطائفين : جمع طائف من طاف يطوف طوفاً وطوافاً إذا دار حول الشيء والمراد بهم : المتقربون إلى الله بالطواف حول الكعبة .والعاكفين : جمع عاكف ، من عكف على الشيء عكوفاً إذا أقام عليه ملازماً له ، والمراد بهم : المقيمون في الحرم بقصد العبادة ، ويدخل في العبادة ، ويدخل في العبادة مدارسة العلوم الدينية وما يساعد على فهمها .والركع السجود : الركع جمع راكع ، والسجود : جمع ساجد .والركوع والسجود من هيئات الصلاة وأركانها ، فمعنى " والركع السجود " الصملون .فالآية الكريمة جمعت أصناف العابدين في البيت الحرام : وهم الطائفون وإن لم يكونوا مقيمين ، كمنن يأتون لحج أو عمرة ثم ينصرفون .والعاكفون الذين يقيمون في الحرم بقصد الإِكثار من العبادة في المسجد الحرام . والمصلون يتقربون إلى الله بالصلوات سواء أكانت فرائص أم نوافل .ولم يعطف السجود على الركع ، لأن الوصفين متلازمان ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان . | Arabic Waseet Tafseer | 2:125 |
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِقال أبو جعفر: أما قوله: " وإذ جعلنا البيت مثابة "، فإنه عطف ب " إذ " على قوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ . وقوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ معطوف على قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ، واذكروا " إذ ابتلى إبراهيم ربه "," وإذ جعلنا البيت مثابة ".* * *و " البيت " الذي جعله الله مثابة للناس، هو البيت الحرام.* * *وأما " المثابة "، فإن أهل العربية مختلفون في معناها, والسبب الذي من أجله أنثت.فقال بعض نحويي البصرة: ألحقت الهاء في" المثابة "، لما كثر من يثوب إليه, كما يقال: " سيارة " لمن يكثر ذلك،" ونسابة ".وقال بعض نحويي الكوفة: بل " المثاب " و " المثابة " بمعنى واحد, نظيرة " المقام " و " المقامة " (46) . و " المقام "، ذكر -على قوله- لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه, وأنثت " المقامة "، لأنه أريد بها البقعة. وأنكر هؤلاء أن تكون " المثابة " ك " السيارة، والنسابة "., وقالوا: إنما أدخلت الهاء في" السيارة والنسابة " تشبيها لها ب " الداعية ".* * *و " المثابة "" مفعلة " من " ثاب القوم إلى الموضع "، إذا رجعوا إليه، فهم يثوبون إليه مثابا ومثابة وثوابا. (47)فمعنى قوله: " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ": وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذا، يأتونه كل عام ويرجعون إليه, فلا يقضون منه وطرا. ومن " المثاب "، قول ورقة بن نوفل في صفة الحرم:مثــاب لأفنــاء القبــائل كلهــاتخــب إليــه اليعمـلات الطلائـح (48)ومنه قيل: " ثاب إليه عقله ", إذا رجع إليه بعد عزوبه عنه.* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:1963- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا [أبو عاصم قال، حدثنا] عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال: لا يقضون منه وطرا. (49)1964- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.1965- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال، يثوبون إليه, لا يقضون منه وطرا.1966- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال، أما المثابة، فهو الذي يثوبون إليه كل سنة، لا يدعه الإنسان إذا أتاه مرة أن يعود إليه.1967- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي, قال حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال، لا يقضون منه وطرا, يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه.1968- حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد بن مسلم قال، قال أبو عمرو: حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله: " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال، لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا.1969- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال، يثوبون إليه من كل مكان, ولا يقضون منه وطرا.1970- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عبد الملك, عن عطاء مثله.1971- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك بن مغول, عن عطية في قوله: " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال، لا يقضون منه وطرا (50) .1972- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن: قال، حدثنا سفيان, عن أبي الهذيل قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال، يحجون ويثوبون.1973- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق, قال أخبرنا الثوري, عن أبي الهذيل, عن سعيد بن جبير في قوله: " مثابة للناس " قال، يحجون, ثم يحجون, ولا يقضون منه وطرا. (51)1974- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن بكير قال، حدثنا مسعر, عن غالب, عن سعيد بن جبير: " مثابة للناس " قال، يثوبون إليه. (52)1975-- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا " قال، مجمعا.1976- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: " مثابة للناس " قال، يثوبون إليه.1977- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " مثابة للناس " قال، يثوبون إليه.1978- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال، يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَأَمْنًاقال أبو جعفر: و " الأمن " مصدر من قول القائل: " أمن يأمن أمنا ".* * *وإنما سماه الله " أمنا "، لأنه كان في الجاهلية معاذا لمن استعاذ به, وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه، لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرج منه, وكان كما قال الله جل ثناؤه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ . [سورة العنكبوت: 67]1979- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وأمنا " قال، من أم إليه فهو آمن، كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له.1980- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما " أمنا "، فمن دخله كان آمنا.1981- حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله الله: " وأمنا " قال، تحريمه، لا يخاف فيه من دخله.1982- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: " وأمنا "، يقول: أمنا من العدو أن يحمل فيه السلاح, وقد كان في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسبَوْن.1983- حدثت عن المنجاب قال، أخبرنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: " وأمنا " قال، أمنا للناس.1984- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد في قوله: " وأمنا " قال، تحريمه، لا يخاف فيه من دخله.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّىقال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك:فقرأه بعضهم: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " بكسر " الخاء "، على وجه الأمر باتخاذه مصلى. وهي قراءة عامة المصرين الكوفة والبصرة, وقراءة عامة قرأة أهل مكة وبعض قرأة أهل المدينة. (53) وذهب إليه الذين قرأوه كذلك، من الخبر الذي:-1985- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد, عن أنس بن مالك قال، قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله, لو اتخذت المقام مصلى! فأنـزل الله: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ".1986- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي -وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية- جميعا, عن حميد, عن أنس, عن عمر, عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.1987- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا حميد, عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله, فذكر مثله. (54)* * *قالوا: فإنما أنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية أمرا منه نبيه صلى الله عليه وسلم باتخاذ مقام إبراهيم مصلى. فغير جائز قراءتها -وهي أمر- على وجه الخبر.* * *وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " معطوف على قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ و " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ". فكان الأمر بهذه الآية، وباتخاذ المصلى من مقام إبراهيم -على قول هذا القائل- لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،..... كما حدثنا [عن] الربيع بن أنس. (55) بما:-1988- حدثت [به] عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه قال: من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قوله: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى "، فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى, فهم يصلون خلف المقام. (56)* * *فتأويل قائل هذا القول: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قال، إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وقال: اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.* * *قال أبو جعفر: والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل, يدل على خلاف الذي قاله هؤلاء, وأنه أمر من الله تعالى ذكره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين.* * *وقرأه بعض قرأة أهل المدينة والشام: (واتخذوا) بفتح " الخاء " على وجه الخبر.* * *ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله: " واتخذوا " إذ قرئ كذلك، على وجه الخبر,فقال بعض نحويي البصرة: تأويله، إذا قرئ كذلك: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ، [وإذ] اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. (57)وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك معطوف على قوله: جَعَلْنَا ، فكان معنى الكلام على قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس، واتخذوه مصلى (58) .* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا: " واتخذوا " بكسر " الخاء ", على تأويل الأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، للخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا, وأن:1989- عمرو بن علي حدثنا قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا جعفر بن محمد قال، حدثني أبي, عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ". (59)* * *ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى "، وفي" مقام إبراهيم ". فقال بعضهم: " مقام إبراهيم "، هو الحج كله.* ذكر من قال ذلك:1990- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج, عن عطاء, عن ابن عباس في قوله: " مقام إبراهيم "، قال الحج كله مقام إبراهيم.1991- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال، الحج كله.1992- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان، عن ابن جريج, عن عطاء, قال: الحج كله " مقام إبراهيم ".* * *وقال آخرون: " مقام إبراهيم " عرفة والمزدلفة والجمار.* ذكر من قال ذلك:1993- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء بن أبي رياح: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال: لأني قد جعلته إماما، فمقامه عرفة والمزدلفة والجمار.1994- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال، مقامه: جمع وعرفة ومنى - لا أعلمه إلا وقد ذكر مكة.1995- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, عن ابن عباس في قوله: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال، مقامه، عرفة.1996- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود, عن الشعبي قال: نـزلت عليه وهو واقف بعرفة، مقام إبراهيم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [سورة المائدة: 3]، الآية.1997- حدثنا عمرو قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود, عن الشعبي مثله* * *وقال آخرون: " مقام إبراهيم "، الحرم.* ذكر من قال ذلك:1998- حدثت عن حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال، الحرم كله " مقام إبراهيم ".* * *وقال آخرون: " مقام إبراهيم " الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه, وضعف عن رفع الحجارة.* ذكر من قال ذلك:1999- حدثنا سنان القزاز قال، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت كثير بن كثير يحدّث، عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: جعل إبراهيم يبنيه, وإسماعيل يناوله الحجارة, ويقولان: " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ". فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر, فهو " مقام إبراهيم " (60)* * *وقال آخرون: بل " مقام إبراهيم ", هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام.* ذكر من قال ذلك:2000- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى "، إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها. (61) ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه, فما زالت هذه الأمم يمسحونه حتى اخلولق وانمحى. (62)2001- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى "، فهم يصلون خلف المقام. (63)2002- حدثني موسى (64) قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى "، وهو الصلاة عند مقامه في الحج.و " المقام " هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه, فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب, فغسلت شقه، ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر, فوضعته تحت الشق الآخر، فغسلته, فغابت رجله أيضا فيه, فجعلها الله من شعائره, فقال: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ".* * *قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، ما قاله القائلون: إن " مقام إبراهيم "، هو المقام المعروف بهذا الاسم, الذي هو في المسجد الحرام، لما روينا آنفا عن عمر بن الخطاب، (65) ولما:-2003- حدثنا يوسف بن سلمان قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر قال: استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن, فرمل ثلاثا، ومشى أربعا, ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ". فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين. (66)* * *فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى ب " مقام إبراهيم " الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى - هو الذي وصفنا.ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لكان الواجب فيه من القول ما قلنا. وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف، دون باطنه المجهول، (67) حتى يأتي ما يدل على خلاف ذلك، مما يجب التسليم له. ولا شك أن المعروف في الناس ب " مقام إبراهيم " هو المصلى الذي قال الله تعالى ذكره: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى "* * *[قال أبو جعفر: وأما قوله تعالى: " مصلى "]، فإن أهل التأويل مختلفون في معناه. (68) فقال بعضهم: هو المدعى.* ذكر من قال ذلك:2004- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال، مصلى إبراهيم مُدَّعًى.* * *وقال آخرون: معنى ذلك: اتخذوا مصلى تصلون عنده.* ذكر من قال ذلك:2005- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال، أمروا أن يصلوا عنده.2006- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: هو الصلاة عنده.* * *قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا: تأويل: " المصلى " ههنا، المُدَّعَى, وَجَّهوا " المصَلَّى " إلى أنه " مُفَعَّل "، من قول القائل: " صليت " بمعنى دعوت. (69) .وقائلو هذه المقالة، هم الذين قالوا: إن مقام إبراهيم هو الحج كله.* * *فكان معناه في تأويل هذه الآية: واتخذوا عرفة والمزدلفة والمشعر والجمار، وسائر أماكن الحج التي كان إبراهيم يقوم بها مَدَاعِيَ تدعوني عندها, وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام فيها, فإني قد جعلته لمن بعده -من أوليائي وأهل طاعتي- إماما يقتدون به وبآثاره, فاقتدوا به.* * *وأما تأويل القائلين القول الآخر, فإنه: اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده, عبادةً منكم, وتكرمةً مني لإبراهيم.* * *وهذا القول هو أولى بالصواب، لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وَعهدنا "؛ وأمرنا، كما:-2007- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.2008- حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وعهدنا إلى إبراهيم " قال، أمرناه.* * *فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين." والتطهير " الذي أمرهما الله به في البيت, هو تطهيره من الأصنام، وعبادة الأوثان فيه، ومن الشرك بالله.* * *فإن قال قائل: وما معنى قوله: " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين "؟ وهل كان أيام إبراهيم -قبل بنائه البيت- بيت يطهر من الشرك وعبادة الأوثان في الحرم, فيجوز أن يكونا أمرا بتطهيره؟قيل: لذلك وجهان من التأويل, قد قال بكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويل. (70)أحدهما: أن يكون معناه: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مطهرا من الشرك والرَّيْب (71) كما قال تعالى ذكره: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ , [سورة التوبة: 109]، فكذلك قوله: " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي"، أي ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب، كما:-2009- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي"، يقول: ابنيا بيتي [للطائفين]. (72)فهذا أحد وجهيه.والوجه الآخر منهما: أن يكونا أمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل بنيانه، والبيت بعد بنيانه، مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه -على عهد نوح ومن قبله- من الأوثان, ليكون ذلك سنة لمن بعدهما, إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماما يقتدي به من بعده، كما:-2010- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " أن طهرا " قال، من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها. (73)2011- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, عن عبيد بن عمير: " أن طهرا بيتي للطائفين " قال، من الأوثان والرَّيْب.2012- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء, عن عبيد بن عمير, مثله.2013- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد, قال: من الشرك.2014- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو إسرائيل, عن أبي حصين, عن مجاهد: " طهرا بيتي للطائفين " قال، من الأوثان.2015- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " طهرا بيتي للطائفين " قال: من الشرك وعبادة الأوثان.2016- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة، بمثله - وزاد فيه: وقول الزور.* * *القول في تأويل قوله تعالى : لِلطَّائِفِينَقال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى " الطائفين " في هذا الموضع. فقال بعضهم: هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غَرْبةٍ. (74)* ذكر من قال ذلك:2017- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين, عن سعيد بن جبير في قوله: " للطائفين " قال، من أتاه من غربة.* * *وقال آخرون: بل " الطائفون " هم الذين يطوفون به، غرباء كانوا أو من أهله.* ذكر من قال ذلك:2018- حدثنا محمد بن العلاء قال، حدثنا وكيع, عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء: " للطائفين " قال، إذا كان طائفا بالبيت فهو من " الطائفين ".* * *وأولى التأويلين بالآية ما قاله عطاء. لأن " الطائف " هو الذي يطوف بالشيء دون غيره. والطارئ من غَرْبةٍ لا يستحق اسم " طائف بالبيت "، إن لم يطف به.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَالْعَاكِفِينَقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " والعاكفين "، والمقيمين به." والعاكف على الشيء "، هو المقيم عليه, كما قال نابغة بني ذبيان:عكوفــا لــدى أبيـاتهم يثمـدونهمرمـى اللـه فـي تلـك الأكف الكوانع (75)وإنما قيل للمعتكف " معتكف "، من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى.* * *ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: " والعاكفين ".فقال بعضهم: عنى به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا صلاة.* ذكر من قال ذلك:2019- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء قال: إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين, وإذا كان جالسا فهو من العاكفين.* * *وقال بعضهم: " العاكفون "، هم المعتكفون المجاورون.* ذكر من قال ذلك:2020- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة: " طهرا بيتي للطائفين والعاكفين " قال، المجاورون.* * *وقال بعضهم: " العاكفون "، هم أهل البلد الحرام.* ذكر من قال ذلك:2021- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين, عن سعيد بن جبير في قوله: " والعاكفين " قال: أهل البلد.2022- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " والعاكفين " قال: العاكفون: أهله.* * *وقال آخرون: " العاكفون "، هم المصلون.* ذكر من قال ذلك:2023- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس في قوله: " طهرا بيتي للطائفين والعاكفين " قال، العاكفون، المصلون.* * *قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بالصواب ما قاله عطاء, وهو أن " العاكف " في هذا الموضع، المقيم في البيت مجاورا فيه بغير طواف ولا صلاة. لأن صفة " العكوف " ما وصفنا: من الإقامة بالمكان. والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصل وطائف وقائم, وعلى غير ذلك من الأحوال. فلما كان تعالى ذكره قد ذكر - في قوله: " أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود " - المصلين والطائفين, علم بذلك أن الحال التي عنى الله تعالى ذكره من " العاكف "، غير حال المصلي والطائف, وأن التي عنى من أحواله، هو العكوف بالبيت، على سبيل الجوار فيه, وإن لم يكن مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " والركع "، جماعة القوم الراكعين فيه له, واحدهم " راكع ". وكذلك " السجود " هم جماعة القوم الساجدين فيه له، واحدهم " ساجد " - كما يقال: " رجل قاعد ورجال قعود " و " رجل جالس ورجال جلوس "، فكذلك " رجل ساجد ورجال سجود ". (76)* * *وقيل: بل عنى " بالركع السجود "، المصلين.* ذكر من قال ذلك:2024- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء: " والركع السجود " قال، إذا كان يصلي فهو من " الركع السجود ".2025- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " والركع السجود "، أهل الصلاة.* * *وقد بينا فيما مضى بيان معنى " الركوع " و " السجود ", فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا. (77)------------الهوامش :(46) في المطبوعة : "نظيره" والأرجح ما أثبت .(47) لم تذكر هذه المصادر في كتب اللغة ، "المثاب ، والمثابة" مصدران ميميان قياسيان ، فإغفالهما في كتب اللغة غير غريب ، وأما قوله"وثوابا" ، فهذا إن صح عن الطبري ، فهو جائز في العربية أيضًا ، ولكنهم نصوا على أن مصدر"ثاب" هو"ثوبانا ، وثوبا ، وثؤوبا" فأخشى أن تكون محرفة عن إحداها . وأما"الثواب" في المعروف من كتب العربية الاسم من"أثابه يثيبه إثابة ، وهو الثواب" ، وهو المجازاة على الصنيع .(48) من أبيات طويلة لورقة بن نوفل في البداية والنهاية لابن كثير 2 : 297 ، والبيت في تفسير أبي حيان 1 : 380 ، بهذه الرواية ، وقبل البيت في ذكر أبينا إبراهيم عليه السلام :فمتبــع ديــن الـذي أسـس البنـاوكـان لـه فضـل على الناس راجحوأســـس بنيانــا بمكــة ثابتــاتــلألأ فيــه بــالظلام المصـابحمثابـــا لأفنــاء . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . .بنصب"مثابا" بيد أن الشافعي روى هذا البيت في الأم 2 : 120 لورقة بن نوفل ، وعجزه .تخــب إليــه اليعمـلات الـذواملوكذلك جاء في القرطبي 2 : 100 ، وعدها أبو حيان رواية في البيت ، وبهذه الرواية ذكره صاحب اللسان في (ثوب) منسوبا لأبي طالب ، وفي (ذمل) غير منسوب . والظاهر أن الشافعي رحمه الله أخطأ في رواية البيت . وأخطأ صاحب اللسان في نسبته ، اشتبه عليه بشعر أبي طالب في قصيدته المشهورة .وأفناء القبائل : أخلاطهم ونزاعهم من هاهنا وهاهنا . وخبت الدابة تخب خببا : وهو ضرب سريع من العدو . واليعملات جمع يعملة وهي الناقة السريعة المطبوعة على العمل ، اشتق اسمها من العمل ، والعمل الإسراع والعجلة . والطلائع جمع طليح . ناقة طليح أسفار : جهدها السير وهزلها ، فهي ضامرة هزلا . يعني الإبل أنضاها أصحابها في إسراعهم إلى حج البيت . وأما"الذوامل" في الرواية الأخرى ، فهو جمع ذاملة . ناقة ذمول وذاملة : وهي التي تسير سيرا لينا سريعا .(49) الأثر : 1963- ما بين القوسين ساقط من الأصول . وهذا إسناد دائر ، أقربه إلينا رقم : 1946 ، فأتممته على الصواب .(50) الخبر : 1971- شيخ الطبري"محمد بن عمارة الأسدي" ، كما مضى في : 645 ، 1511 ، وكما ذكرنا أنه يروى عنه في التاريخ كثيرا . وفي المطبوعة"محمد بن عمار" .سهل بن عامر : هو البجلي ، وهو ضعيف جدا ، ترجمه للبخاري في الصغير ، ص : 234 ، وقال : "منكر الحديث ، لا يكتب حديثه" . وترجمه ابن أبي حاتم 2/1/202 وروى عن أبيه قال : "هو ضعيف الحديث ، روى أحاديث بواطيل! أدركته بالكوفة ، وكان يفتعل الحديث" . وترجم في لسان الميزان 3 : 119-120 ، ووقع اسم أبيه في التاريخ الصغير"عمار" ، وهو خطأ ناسخ أو طابع .(51) الخبران : 1972-1973- أبو الهذيل : هو غالب بن الهذيل الأودي ، يروي عن أنس ، وسعيد بن جبير ، وغيرهما ، وهو ثقة ، وثقه ابن معين . مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 4/1/99 ، وابن أبي حاتم 3/2/47 . وسيأتي باسمه في الخبر بعدهما .(52) الخبر : 1974- غالب : هو أبو الهذيل في الخبرين قبله . مسعر ، بكسر الميم وسكون السين وفتح العين : هو ابن كدام -بكسر الكاف وتخفيف الدال- وهو أحد الأعلام . الثقات .(53) كان في المطبوعة : "قراء" في هذه المواضع ، فرددتها إلى ما جرى عليه الطبري في الأجزاء السالفة .(54) الأحاديث : 1985-1987 ، هي حديث واحد بأربعة أسانيد صحاح . وهو مختصر من حديث مطول ، رواه أحمد في المسند : 157 ، 160 ، 250 ، عن هشيم ، وعن ابن أبي عدي ، وعن يحيى - ثلاثتهم ، عن حميد ، عن أنس . ورواه البخاري أيضًا ، عن مسدد ، عن يحيى . كما ذكره ابن كثير 1 : 309-310 ، من رواية البخاري وأحمد ، ثم ذكر أنه رواه أيضًا الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وقال الترمذي : "حسن صحيح" .(55) كان في المطبوعة : "كما حدثنا الربيع بن أنس" ، وهو خطأ ، فزدت"عن" بين القوسين ، فبين أبي جعفر الطبري والربيع بن أنس دهر طويل . وانظر التعليق التالي .(56) الأثر : 1988- هو جزء من الأثر السالف رقم : 1922 وهو"عن ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع بن أنس" ، فزدت ما بين الأقواس ، ليستقيم الكلام . وسيأتي أيضًا برقم : 2001 ولكني وضعت هذه النقط في الموضع السالف ، لأني أخشى أن يكون في الكلام سقط . وذلك أنه بدأ فقال : إن الأمر بهذه الآية على قول هذا البصري - لليهود من بني إسرائيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم عقب عليه بقوله : "فأمرهم أن يتخذوا مقام إبراهيم مصلى ، فهم يصلون خلف المقام" . ولست أعلم أن اليهود الذي كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا يصلون في البيت الحرام خلف المقام ، فلذلك وضعت هذه النقط ، لأني أرجح أنه قد سقط من كلام الطبري في هذا الموضع ما يستقيم به هذا الكلام . ولم أجد في الكتب التي تنقل عن تفسير الطبري ما يهدي إلى صواب هذه العبارة .والذي استظهره أن يكون سقط من هذا الموضع ، توجيه الأمر في هذه الآية إلى إبراهيم وذريته من ولد إسماعيل ، فيكون الضمير في قوله : "فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، فهم يصلون خلف المقام" إلى ذرية إبراهيم من ولد إسماعيل ، وهم العرب من أهل دين إسماعيل ، وبقاياهم من أهل الجاهلية ، الذين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليقيمهم على الحنيفية ملة إبراهيم ، وهي الإسلام .(57) الزيادة التي بين القوسين ، لا بد منها ، وإلا لم يكن بين هذا القول والذي يليه فرق . ويعني البصري في هذا التأويل أن العطف على جملة"وإذ جعلنا" ، فتكون"إذ" مضمرة في قوله تعالى : "واتخذوا" .(58) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 77 وهو تأويله .(59) الحديث : 1989- عمرو بن علي : هو الفلاس ، من كبار الحفاظ الثقات ، روى عنه أصحاب الكتب الستة وغيرهم . وشيخه يحيى بن سعيد : هو القطان الإمام .والحديث جزء من حديث جابر -الطويل- في الحج كما سنذكر في : 2003 ، إن شاء الله .(60) الحديث : 1999- هو قطعة من الحديث الآتي : 2056 . وسنخرجه هناك ، إن شاء الله . وشيخ الطبري هنا"ابن سنان القزاز" : هو"محمد بن سنان" ، مضت ترجمته في : 157 . وفي المطبوعة"سنان" بحذف"ابن" ، وهو خطأ .(61) في المطبوعة : "مما تكلفته" ، والصواب من تفسير ابن كثير 1 : 311 .(62) في المطبوعة : "أصابعه فيها" ، والصواب من تفسير ابن كثير . خلق الشيء وأخلق واخلولق : بلى .(63) الأثر : 2001- هو الأثر السالف : 1988 ، وانظر التعليق عليه .(64) كان في المطبوعة"حدثني يونس" ، وهو خطأ محض بل هو إسناده الدائر في التفسير - إلى السدي ، وأقربه رقم : 1980 .(65) انظر ما سلف رقم : 1985- 1987 .(66) الحديث : 2003- يوسف بن سلمان ، شيخ الطبري : هو أبو عمر الباهلي البصري ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4/2/223-224 . وفي المطبوعة"سليمان" بدل"سلمان" ، وهو خطأ .حاتم بن إسماعيل المدني : ثقة مأمون كثير الحديث ، أخرج له الجماعة . مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2/1/72 ، وابن أبي حاتم 1/2/258-259 ، وابن سعد 5 : 314 .جعفر بن محمد : هو جعفر الصادق ، بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . وهو ثقة صادق مأمون ، من سادات أهل البيت فقها وعلما وفضلا . وإنما يكذب عليه الشيعة الروافض . أما رواية الثقات عنه فصحيحة .وهذا الحديث قطعة من حديث جابر -الطويل- في صفة حجة الوداع . وقد مضت قطعة منه : 1989 ، من رواية يحيى بن سعيد القطان ، عن جعفر الصادق .وستأتي قطعة منه ، بهذا الإسناد : 2365 .والحديث بطوله -رواه الإمام أحمد في المسند : 14492 (ج 3 ص 320-321 حلبي) عن يحيى القطان ، عن جعفر .ورواه مسلم في صحيحه 1 : 346-347 ، عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه -كلاهما عن حاتم بن إسماعيل ، عن جعفر الصادق ، به .(67) انظر تفسير"الظاهر والباطن" فيما سلف 2 : 15 ، واطلبه في الفهارس .(68) الزيادة بين القوسين لا بد منها .(69) انظر ما سلف 1 : 242-243 .(70) في المطبوعة : "قد كان لكل واحد من الوجهين" ، وهو كلام هالك .(71) الريب هنا : الشر والخوف من قولهم : رابني أمره ، أي أدخل علي شرا وخوفا ، وكأن ذلك مردود إلى قوله تعالى : "مثابة للناس وأمنا" .(72) هذه الزيادة ، من تفسير ابن كثير 1 : 315 .(73) قال ابن كثير في تفسيره 1 : 314-315 ، بعد أن ساق هذا الوجه ، وهذا الأثر : "قلت : وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام ، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم" .(74) الغربة والغرب (بفتح فسكون) : النوى والبعد . يعني من أتاه من مكان بعيد .(75) ديوانه : 63 من أبيات قالها لزرعة بن عامر العامري . حين بعثت بنو عامر إلى حصن بن حذيفة وابنه عيينة بن حصن : أن اقطعوا حلف ما بينكم وبين بني أسد ، وألحقوهم ببني كنانة ، ونحالفكم ونحن بنو أبيكم . وكان عيينة هم بذلك ، فقالت بنو ذبيان : أخرجوا من فيكم من الحلفاء ، ونخرج من فينا! فأبوا ، فقال النابغة :ليهــن بنــي ذبيــان أن بلادهـمخـلت لهـم مـن كـل مـولى وتابعسـوى أسـد, يحمونهـا كـل شـارقبــألفي كــمي, ذي سـلاح, ودارعثم مدح بني أسد ، وذم بني عبس ، وتنقص بني سهم ومالك من غطفان وعبد بن سعد بن ذبيان ، وهجاهم بهذا البيت الذي استشهد به الطبري ، ورواية الديوان"قعودا" ، و"يثمدونها" ، والضمير للأبيات .وقوله : "يثمدونهم" أصله من قولهم : "ثمد الماء يثمده ثمدا" ، نبث عنه التراب ليخرج . وماء مثمود : كثر عليه الناس حتى فني ونفد إلا أقله . وأخذوا منه : "رجل مثمود" ، إذا ألح الناس عليه في السؤال ، فأعطى حتى نفد ما عنده . يقول : يظل بنو سعد ومالك لدى أبيات عبد بن سعد يستنزفون أموالهم . يصفهم بالخسة وسقوط الهمة . ومن روى : "يثمدونها" وأعاد الضمير إلى"أبياتهم" ، فهو مثله ، في أنهم يلازمون بيوتهم ويسترزقونها ، يهزأ بهم .والكوانع جمع كانع : وهو الخاضع الذي تدانى وتصاغر وتقارب بعضه من بعض ، كأنه يتقبض من ذلته . يصفهم بالخسة والطمع والسؤال الذليل . وقوله : "رمى الله" يعني أصابها بما يستأصلها ، ورواية الديوان : "في تلك الأنوف" ، فمعناه : رمى فيها بالجدع ، وهو دعاء عليهم ، واشمئزاز من حقارتهم .(76) مما استظهرته من أمر هذا الجمع ، جمع فاعل على فعول : أن كل فعل ثلاثي جاء مصدره على"فعول" بضم الفاء ، فجمع"فاعل" منه على"فعول" ، كهذه الأمثلة التي ذكرت هنا ، وكل ما سواها مما قيدته كتب اللغة ، ومما هو منثور في الشعر .(77) انظر ما سلف 1 : 574-575 ، ثم 2 : 103-105 ، 519 . | الطبري | 2:125 |
قوله تعالى : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجودقوله تعالى : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا فيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : جعلنا بمعنى صيرنا لتعديه إلى مفعولين ، وقد تقدم . البيت يعني الكعبة . مثابة أي مرجعا ، يقال : ثاب يثوب مثابا ومثابة وثؤوبا وثوبانا . فالمثابة مصدر وصف به ويراد به الموضع الذي يثاب إليه ، أي يرجع إليه . قال ورقة بن نوفل في الكعبة :مثابا لأفناء القبائل كلها تخب إليها اليعملات الذواملوقرأ الأعمش : " مثابات " على الجمع . ويحتمل أن يكون من الثواب ، أي يثابون هناك . وقال مجاهد : لا يقضي أحد منه وطرا ، قال الشاعر :جعل البيت مثابا لهم ليس منه الدهر يقضون الوطروالأصل مثوبة ، قلبت حركة الواو على الثاء فقلبت الواو ألفا اتباعا لثاب يثوب ، وانتصب على المفعول الثاني ، ودخلت الهاء للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع ; لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطرا ، فهي كنسابة وعلامة ، قاله الأخفش . وقال غيره : هي هاء تأنيث المصدر وليست للمبالغة .فإن قيل : ليس كل من جاءه يعود إليه ، قيل : ليس يختص بمن ورد عليه ، وإنما المعنى أنه لا يخلو من الجملة ، ولا يعدم قاصدا من الناس ، والله تعالى أعلم .الثانية : قوله تعالى : وأمنا استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك [ ص: 107 ] إقامة الحد في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه ، وعضدوا ذلك بقوله تعالى : ومن دخله كان آمنا كأنه قال : آمنوا من دخل البيت . والصحيح إقامة الحدود في الحرم ، وأن ذلك من المنسوخ ; لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت ، ويقتل خارج البيت . وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا ؟ والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة . وقد أجمعوا أنه لو قتل في الحرم قتل به ، ولو أتى حدا أقيد منه فيه ، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه . وقال أبو حنيفة : من لجأ إلى الحرم لا يقتل فيه ولا يتابع ، ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج . فنحن نقتله بالسيف ، وهو يقتله بالجوع والصد ، فأي قتل أشد من هذا . وفي قوله : وأمنا تأكيد للأمر باستقبال الكعبة ، أي ليس في بيت المقدس هذه الفضيلة ، ولا يحج إليه الناس ، ومن استعاذ بالحرم أمن من أن يغار عليه . وسيأتي بيان هذا في " المائدة " إن شاء الله تعالى .قوله تعالى : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فيه ثلاث مسائل :الأولى : قوله تعالى : واتخذوا قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم ، وهو معطوف على جعلنا أي جعلنا البيت مثابة واتخذوه مصلى . وقيل هو معطوف على تقدير إذ ، كأنه قال : وإذ جعلنا البيت مثابة وإذ اتخذوا ، فعلى الأول الكلام جملة واحدة ، وعلى الثاني جملتان . وقرأ جمهور القراء واتخذوا بكسر الخاء على جهة الأمر ، قطعوه من الأول وجعلوه معطوفا جملة على جملة . قال المهدوي : يجوز أن يكون معطوفا على اذكروا نعمتي كأنه قال ذلك لليهود ، أو على معنى إذ جعلنا البيت ; لأن معناه اذكروا إذ جعلنا . أو على معنى قوله : مثابة لأن معناه ثوبوا .الثانية : روى ابن عمر قال : قال عمر : وافقت ربي في ثلاث : في مقام إبراهيم ، وفي الحجاب ، وفي أسارى بدر . خرجه مسلم وغيره . وخرجه البخاري عن أنس قال : قال عمر : وافقت الله في ثلاث ، أو وافقني ربي في ثلاث . . . الحديث ، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده فقال : حدثنا حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد عن أنس بن مالك قال : قال عمر : وافقت ربي في أربع ، قلت يا رسول الله : لو صليت خلف المقام ؟ فنزلت هذه الآية : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وقلت : يا رسول الله ، لو ضربت على نسائك الحجاب فإنه يدخل عليهن البر والفاجر ؟ فأنزل الله : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ، [ ص: 108 ] ونزلت هذه الآية : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ، فلما نزلت قلت أنا : تبارك الله أحسن الخالقين ، فنزلت : فتبارك الله أحسن الخالقين ، ودخلت على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : لتنتهن أو ليبدلنه الله بأزواج خير منكن ، فنزلت الآية : عسى ربه إن طلقكن .قلت : ليس في هذه الرواية ذكر للأسارى ، فتكون موافقة عمر في خمس .الثالثة : قوله تعالى : من مقام المقام في اللغة : موضع القدمين . قال النحاس : مقام من قام يقوم ، ويكون مصدرا واسما للموضع . ومقام من أقام ، فأما قول زهير :وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعلفمعناه : فيهم أهل مقامات . واختلف في تعيين المقام على أقوال ، أصحها - أنه الحجر الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم . وهذا قول جابر بن عبد الله وابن عباس وقتادة وغيرهم . وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى البيت استلم الركن فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فصلى ركعتين قرأ فيهما ب قل هو الله أحد و قل يا أيها الكافرون . وهذا يدل على أن ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات لأهل مكة أفضل ويدل من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل ، على ما يأتي . وفي البخاري : أنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناولها إياه في بناء البيت ، وغرقت قدماه فيه . قال أنس : رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه ، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم ، حكاه القشيري . وقال السدي : المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عليه السلام حين غسلت رأسه . وعن ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة وعطاء : الحج كله . وعن عطاء : عرفة ومزدلفة والجمار ، وقاله الشعبي . النخعي : الحرم كله مقام إبراهيم ، وقاله مجاهد .قلت : والصحيح في المقام القول الأول ، حسب ما ثبت في الصحيح . وخرج أبو نعيم من حديث محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل بين الركن والمقام ، أو الباب والمقام وهو يدعو ويقول : اللهم اغفر لفلان ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما هذا ؟ فقال : رجل استودعني أن أدعو له في هذا المقام ، فقال : ارجع فقد [ ص: 109 ] غفر لصاحبك . قال أبو نعيم : حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم القاضي قال حدثنا محمد بن عاصم بن يحيى الكاتب قال حدثنا عبد الرحمن بن القاسم القطان الكوفي قال حدثنا الحارث بن عمران الجعفري عن محمد بن سوقة فذكره . قال أبو نعيم : كذا رواه عبد الرحمن عن الحارث عن محمد عن جابر ، وإنما يعرف من حديث الحارث عن محمد عن عكرمة عن ابن عباس . ومعنى " مصلى " . مدعى يدعى فيه ، قاله مجاهد . وقيل : موضع صلاة يصلى عنده ، قاله قتادة . وقيل : قبلة يقف الإمام عندها ، قاله الحسن .قوله تعالى : وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجودفيه ست مسائل :الأولى : قوله تعالى : وعهدنا قيل : معناه أمرنا . وقيل : أوحينا . أن طهرا أن في موضع نصب على تقدير حذف الخافض . وقال سيبويه : إنها بمعنى أي مفسرة ، فلا موضع لها من الإعراب . وقال الكوفيون : تكون بمعنى القول . وطهرا قيل معناه : من الأوثان ، عن مجاهد والزهري . وقال عبيد بن عمير وسعيد بن جبير : من الآفات والريب . وقيل : من الكفار . وقال السدي : ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة ، فيجيء مثل قوله : أسس على التقوى . وقال يمان : بخراه وخلقاه . بيتي أضاف البيت إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم ، وهي إضافة مخلوق إلى خالق ، ومملوك إلى مالك . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام وحفص : بيتي بفتح الياء ، والآخرون بإسكانها .الثانية : للطائفين ظاهره الذين يطوفون به ، وهو قول عطاء . وقال سعيد بن جبير : معناه للغرباء الطارئين على مكة ، وفيه بعد .( والعاكفين ) المقيمين من بلدي وغريب ، عن عطاء . وكذلك قوله : للطائفين . والعكوف في اللغة : اللزوم والإقبال على الشيء ، كما قال الشاعر [ هو العجاج ] :[ وهن يعكفن به إذا حجا ] عكف النبيط يلعبون الفنزجاوقال مجاهد : العاكفون المجاورون . ابن عباس : المصلون . وقيل : الجالسون بغير طواف والمعنى متقارب . والركع السجود أي المصلون عند الكعبة . وخص الركوع [ ص: 110 ] والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى . وقد تقدم معنى الركوع والسجود لغة والحمد لله .الثالثة : لما قال الله تعالى أن طهرا بيتي دخل فيه بالمعنى جميع بيوته تعالى ، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة . وإنما خص الكعبة بالذكر لأنه لم يكن هناك غيرها ، أو لكونها أعظم حرمة ، والأول أظهر ، والله أعلم . وفي التنزيل في بيوت أذن الله أن ترفع وهناك يأتي حكم المساجد إن شاء الله تعالى . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجل في المسجد فقال : ما هذا ! أتدري أين أنت ! ؟ وقال حذيفة قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله أوحى إلي يا أخا المنذرين يا أخا المرسلين أنذر قومك ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب سليمة وألسنة صادقة وأيد نقية وفروج طاهرة وألا يدخلوا بيتا من بيوتي ما دام لأحد عندهم مظلمة فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .الرابعة : استدل الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة من السلف بهذه الآية على جواز الصلاة الفرض والنفل داخل البيت . قال الشافعي رحمه الله : إن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها فصلاته جائزة ، وإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطلة ، وكذلك من صلى على ظهرها ; لأنه لم يستقبل منها شيئا . وقال مالك : لا يصلى فيه الفرض ولا السنن ، ويصلى فيه التطوع ، غير أنه إن صلى فيه الفرض أعاد في الوقت . وقال أصبغ : يعيد أبدا .قلت : وهو الصحيح ، لما رواه مسلم عن ابن عباس قال : أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج منه ، فلما خرج ركع في قبل الكعبة ركعتين وقال : ( هذه القبلة ) وهذا نص .فإن قيل : فقد روى البخاري عن ابن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي البيت فأغلقوا عليهم الباب . فلما فتحوا كنت أول من ولج [ ص: 111 ] فلقيت بلالا فسألته : هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال ، نعم بين العمودين اليمانيين . وأخرجه مسلم وفيه قال : جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه ، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة . قلنا : هذا يحتمل أن يكون صلى بمعنى دعا ، كما قال أسامة ، ويحتمل أن يكون صلى الصلاة العرفية ، وإذا احتمل هذا وهذا سقط الاحتجاج به .فإن قيل : فقد روى ابن المنذر وغيره عن أسامة قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم صورا في الكعبة فكنت آتيه بماء في الدلو يضرب به تلك الصور . وخرجه أبو داود الطيالسي قال : حدثنا ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران قال حدثنا عمير مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صورا قال : فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول : قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون . فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حالة مضي أسامة في طلب الماء فشاهد بلال ما لم يشاهده أسامة ، فكان من أثبت أولى ممن نفى ، وقد قال أسامة نفسه : فأخذ الناس بقول بلال وتركوا قولي . وقد روى مجاهد عن عبد الله بن صفوان قال : قلت لعمر بن الخطاب : كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة ؟ قال : صلى ركعتين .قلنا : هذا محمول على النافلة ، ولا نعلم خلافا بين العلماء في صحة النافلة في الكعبة ، وأما الفرض فلا ; لأن الله تعالى عين الجهة بقوله تعالى : فولوا وجوهكم شطره على ما يأتي بيانه ، وقوله صلى الله عليه وسلم لما خرج : ( هذه القبلة ) فعينها كما عينها الله تعالى . ولو كان الفرض يصح داخلها لما قال : ( هذه القبلة ) . وبهذا يصح الجمع بين الأحاديث ، وهو أولى من إسقاط بعضها ، فلا تعارض ، والحمد لله .الخامسة : واختلفوا أيضا في الصلاة على ظهرها ، فقال الشافعي ما ذكرناه . وقال مالك : من صلى على ظهر الكعبة أعاد في الوقت . وقد روي عن بعض أصحاب مالك : يعيد أبدا . وقال أبو حنيفة : من صلى على ظهر الكعبة فلا شيء عليه .[ ص: 112 ] السادسة : واختلفوا أيضا أيما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به ؟ فقال مالك : الطواف لأهل الأمصار أفضل ، والصلاة لأهل مكة أفضل وذكر عن ابن عباس وعطاء ومجاهد . والجمهور على أن الصلاة أفضل . وفي الخبر : لولا رجال خشع وشيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصببنا عليكم العذاب صبا . وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في كتاب ( السابق واللاحق ) عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المذنبين صبا . لم يذكر فيه " وشيوخ ركع " . وفي حديث أبي ذر الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل . خرجه الآجري . والأخبار في فضل الصلاة والسجود كثيرة تشهد لقول الجمهور ، والله تعالى أعلم . | Arabic Qurtubi Tafseer | 2:125 |
ثم ذكر تعالى, نموذجا باقيا دالا على إمامة إبراهيم, وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده, ركنا من أركان الإسلام, حاطا للذنوب والآثام. وفيه من آثار الخليل وذريته, ما عرف به إمامته, وتذكرت به حالته فقال: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } أي: مرجعا يثوبون إليه, لحصول منافعهم الدينية والدنيوية, يترددون إليه, ولا يقضون منه وطرا، { و } جعله { أَمْنًا } يأمن به كل أحد, حتى الوحش, وحتى الجمادات كالأشجار. ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام, ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم, فلا يهيجه، فلما جاء الإسلام, زاده حرمة وتعظيما, وتشريفا وتكريما. { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } يحتمل أن يكون المراد بذلك, المقام المعروف الذي قد جعل الآن, مقابل باب الكعبة، وأن المراد بهذا, ركعتا الطواف, يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم, وعليه جمهور المفسرين، ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا, فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج، وهي المشاعر كلها: من الطواف, والسعي, والوقوف بعرفة, ومزدلفة ورمي الجمار والنحر, وغير ذلك من أفعال الحج. فيكون معنى قوله: { مُصَلًّى } أي: معبدا, أي: اقتدوا به في شعائر الحج، ولعل هذا المعنى أولى, لدخول المعنى الأول فيه, واحتمال اللفظ له. { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي: أوحينا إليهما, وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك, والكفر والمعاصي, ومن الرجس والنجاسات والأقذار, ليكون { لِلطَّائِفِينَ } فيه { وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي: المصلين، قدم الطواف, لاختصاصه بالمسجد [الحرام]، ثم الاعتكاف, لأن من شرطه المسجد مطلقا، ثم الصلاة, مع أنها أفضل, لهذا المعنى. وأضاف الباري البيت إليه لفوائد، منها: أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره, لكونه بيت الله، فيبذلان جهدهما, ويستفرغان وسعهما في ذلك. ومنها: أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه. ومنها: أن هذه الإضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه. | Arabic Saddi Tafseer | 2:125 |
قال الله تعالى: {وإذ جعلنا البيت} يعني الكعبة.{مثابة للناس} مرجعاً لهم، قال مجاهد وسعيد بن جبير: "يأتون إليه من كل جانب ويحجون"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "معاذاً وملجأ"، وقال قتادة وعكرمة: "مجمعاً".{وأمنا} أي مأمناً يأمنون فيه من إيذاء المشركين، فإنهم ما كانوا يتعرضون لأهل مكة ويقولون: هم أهل الله ويتعرضون لمن حوله كما قال الله تعال: {أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم} [67-العنكبوت].أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا علي بن عبد الله أنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر".قوله تعالى: {واتخذوا} قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على الخبر، وقرأ الباقون بكسر الخاء على الأمر.{من مقام إبراهيم مصلى} قال ابن يمان: "المسجد كله مقام إبراهيم"، وقال إبراهيم النخعي "الحرم كله مقام إبراهيم، وقيل: أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج، مثل عرفة ومزدلفة وسائر المشاهد. والصحيح أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي في المسجد يصلي إليه الأئمة، وذلك الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام عند بناء البيت، وقيل: كان أثر أصابع رجليه بيناً فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، قال قتادة ومقاتل والسدي: "أمروا بالصلاة عند مقام إبراهيم ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله".أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد عن يحيى بن حميد عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وافقت الله في ثلاث - أو وافقني ربي في ثلاث - قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله تعالى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وقلت يا رسول الله: يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله عز وجل آية الحجاب، قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت لهن: إن انتهيتن، أو ليبدلنه الله خيراً منكن، فأنزل الله تعالى: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن} [5-التحريم]".ورواه محمد بن إسماعيل أيضاً عن عمرو بن عوف أنا هشيم عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: "وافقت ربي في ثلاث؛ قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}".وأما بدء قصة المقام: فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما أتى إبراهيم عليه السلام بإسماعيل وهاجر ووضعهما بمكة، وأتت على ذلك مدة، ونزلها الجرهميون وتزوج إسماعيل منهم امرأة وماتت هاجر، واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فقدم إبراهيم مكة، وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت ذهب للصيد وكان إسماعيل عليه السلام يخرج من الحرم فيصيد، فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ قالت ليس عندي ضيافة، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، فذهب إبراهيم فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه فقال: لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا -كالمستخفة بشأنه- قال: فما قال لك؟ قالت: قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، قال ذلك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم عليه السلام حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت ذهب يتصيد وهو يجيء الآن إن شاء الله فانزل يرحمك الله، قال: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم فجاءت باللبن واللحم، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة، فدعا لهما بالبركة ولو جاءت يومئذ بخبز بر أو شعير وتمر لكانت أكثر أرض الله براً أو شعيراً أو تمراً، فقالت له: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولت إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدميه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له قد استقامت عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل، وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم شيخ أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً، وقال لي كذا وكذا وقلت له كذا وكذا، وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه فقال: ذاك إبراهيم النبي أبي، وأنت العتبة أمرني أن أمسكك".وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً تحت دومة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالدثم قال: يا إسماعيل إن الله تعالى أمرني بأمر تعينني عليه؟ قال: أعينك قال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم على حجر المقام وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم)".وفي الخبر: ((الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ولولا ماسته أيدي المشركين لأضاء ما بين المشرق والمغرب )).قوله عز وجل: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} أي أمرناهما وأوحينا إليهما، قيل: سمي إسماعيل لأن إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولداً ويقول: إسمع يا إيل وإيل هو الله فلما رزق سماه الله به.{أن طهرا بيتي} يعنى الكعبة أضافه إليه تخصيصاً وتفضيلاً أي ابنياه على الطهارة والتوحيد،وقال سعيد بن جبير وعطاء: "طهراه من الأوثان والريب وقول الزور"، وقيل: بخراه وخلقاه.قرأ أهل المدينة وحفص (بيتي) بفتح الياء هاهنا وفي سورة الحج، وزاد حفص في سورة نوح.{للطائفين} الدائرين حوله.{والعاكفين} المقيمين المجاورين.{والركع} جمع راكع.{السجود} جمع ساجد وهم المصلون، قال الكلبي ومقاتل: "الطائفين هم الغرباء والعاكفين أهل مكة"، قال عطاء ومجاهد وعكرمة: "الطواف للغرباء أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل". | Arabic Baghawy Tafseer | 2:125 |
وقوله تعالى" وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر قال الإمام أبو جعفر بن جرير أخبرنا ابن بشار أخبرنا عبدالرحمن بن مهدي أخبرنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها" وهكذا رواه النسائي عن محمد بن بشار عن بندار به وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد كلاهما عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري وقال ابن جرير أيضا: أخبرنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس وأخبرنا أبو كريب أخبرنا عبدالرحيم الرازي قالا جميعا سمعنا أشعث عن نافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم كان عبداللّه وخليله وإني عبداللّه ورسوله وإن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها عضاهها وصيدها لا يحمل فيها سلاح لقتال ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير" وهذه الطريق غريبة ليست في شيء من الكتب الستة وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال "اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه" ثم يدعو أصغر وليد فيعطيه ذلك الثمر وفي لفظ "بركة مع بركة" ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان - لفظ مسلم ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا قتيبة بن سعيد أخبرنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن أبي بكر بن محمد عن عبداللّه بن عمرو بن عثمان عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها" انفرد بإخراجه مسلم فرواه عن قتيبة عن بكر بن مضر به ولفظه كلفظه سواء وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة "التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني" فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل وقال في الحديث ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال "هذا جبل يحبنا ونحبه" فلما أشرف على المدينة قال "اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم" وفي لفظ لهما "بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم وبارك لهم في مدهم" زاد البخاري يعني أهل المدينة ولهما أيضا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة" وعن عبدالله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة" رواه البخاري وهذا لفظه ولمسلم ولفظه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها. وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة" وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف اللهم بارك لنا في مدينتنا اللهم بارك لنا في صاعنا اللهم بارك لنا في مدنا اللهم اجعل مع البركة بركتين" الحديث رواه مسلم والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل وقيل إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض وهذا أظهر وأقوى والله أعلم. وقد وردت أحاديث أخر تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها" فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال "إلا الإذخر" وهذا لفظ مسلم ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك ثم قال البخاري بعد ذلك: وقال أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم مثله وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبدالله بن ماجه عن محمد بن عبدالله بن نمير عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحق عن أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم بن يناق عن صفية بنت شيبة: قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح فقال "يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا يأخذ لقطتها إلا منشد" فقال العباس: إلا الإذخر فإنه للبيوت والقبور فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا الإذخر" وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به - إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال "إن مكة حرمها اللّه ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحدا ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب" فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قال أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارّا بدم ولا فارا بخربة رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه. فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلدا حراما عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوبا عند الله خاتم النبيين وان آدم لمنجدل في طينته ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" الآية وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول اللّه أخبرنا عن بدء أمرك. فقال "دعوة أبي إبراهيم عليه السلام وبشرى عيسى ابن مريم ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام" أي أخبرنا عن بدء ظهور أمرك كما سيأتي قريبا إن شاء الله. وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة. وقوله تعالى إخبارا عن الخليل أنه قال "رب اجعل هذا بلدا آمنا" أي من الخوف لا يرعب أهله وقد فعل الله ذلك شرعا وقدرا. كقوله تعالى "ومن دخله كان آمنا" وقوله "أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم" إلى غير ذلك من الآيات وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه: وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول "لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح" وقال في هذه السورة "رب اجعل هذا البلد آمنا" أي اجعل هذه البقعة بلدا آمنا وناسب هذا لأنه قبل بناء الكعبة. وقال تعالى في سورة إبراهيم "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا" وناسب هذا هناك لأنه والله أعلم كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به وبعد مولد إسحق الذي هو أصغر سنا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة ولهذا قال في آخر الدعاء "الحمد للّه الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق إن ربي لسميع الدعاء". وقوله تعالى "وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال "ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" قال هو قول الله تعالى وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه اللّه. قال وقرأ آخرون "قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم كما رواه أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال: كان ابن عباس يقول ذلك قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا وقال أبو جعفر عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد "ومن كفر فأمتعه قليلا" يقول ومن كفر فأرزقه رزقا قليلا أيضا "ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" قال محمد بن إسحق لما عن لإبراهيم الدعوة على من أبى اللّه أن يجعل له الولاية انقطاعا إلى الله ومحبته وفراقا لمن خالف أمره وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر الله له بذلك. قال الله تعالى ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا وقال حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط عن عمار الذهبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى "رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر" قال ابن عباس كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس فأنزل اللّه ومن كفر أيضا أرزقهم كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقا لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير ثم قرأ ابن عباس "كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا" رواه ابن مردويه وروى عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضا وهذا كقوله تعالى قل إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون" وقوله تعالى "ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن اللّه عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ" وقوله "ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين" وقوله "ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير ومعناه أن اللّه تعالى ينظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى "وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير" وفي الصحيحين "لا أحد أصبر على أذى سمعه من اللّه إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم" وفي الصحيح أيضا "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ قوله تعالى "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" وقرأ بعضهم "قال ومن كفر فأمتعه قليلا" الآية جعله من تمام دعاء إبراهيم وهي قراءة شاذة مخالفة للقراء السبعة وتركيب السياق يأبى معناها واللّه أعلم فإن الضمير في قال راجع إلى اللّه تعالى في قراءة الجمهور والسياق يقتضيه وعلى هذه القراءة الشاذة يكون الضمير في قال عائدا على إبراهيم وهذا خلاف نظم الكلام واللّه سبحانه هو العلام. | ابن كثير | 2:126 |
واذكر -أيها النبي- حين قال إبراهيم داعيًا: ربِّ اجعل "مكة" بلدًا آمنًا من الخوف، وارزق أهله من أنواع الثمرات، وخُصَّ بهذا الرزق مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر. قال الله: ومن كفر منهم فأرزقه في الدنيا وأُمتعه متاعًا قليلا ثم أُلجئُه مرغمًا إلى عذاب النار. وبئس المرجع والمقام هذا المصير. | المیسر | 2:126 |
عطف على { وإذ جعلنا البيت مثابة } [ البقرة : 125 ] لإفادة منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام في استجابة دعوته بفضل مكة والنعمة على ساكنيها إذا شكروا ، وتنبيه ثالث لمشركي مكة يومئذ ليتذكروا دعوة أبيهم إبراهيم المشعرة بحرصه على إيمانهم بالله واليوم الآخر حتى خص من ذريته بدعوته المؤمنين فيعرض المشركون أنفسهم على الحال التي سألها أبوهم فيتضح لهم أنهم على غير تلك الحالة ، وفي ذلك بعث لهم على الاتصاف بذلك لأن للناس رغبة في الاقتداء بأسلافهم وحنيناً إلى أحوالهم ، وفي ذلك كله تعريض بهم بأن ما يدلون به من النسب لإبراهيم ومن عمارة المسجد الحرام ومن شعائر الحج لا يغني عنهم من الإشراك بالله ، كما عرض بالآيات قبل ذلك باليهود والنصارى وذلك في قوله هنا : { ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } وبه تظهر مناسبة ذكر هذه المنقبة عقب قوله تعالى : { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } [ البقرة : 125 ] .واسم الإشارة في قوله : { هذا بلداً } مراد به الموضع القائم به إبراهيم حين دعائه وهو المكان الذي عليه امرأته وابنه وعزم على بناء الكعبة فيه إن كان الدعاء قبل البناء ، أوا لذي بني فيه الكعبة إن كان الدعاء بعد البناء ، فإن الاستحضار بالذات مغن عن الإشارة الحسية باليد لأن تمييزه عند المخاطب مغن عن الإشارة إليه فإطلاق اسم الإشارة حينئذ واضح .وأصل أسماء الإشارة أن يستغنى بها عن زيادة تبيين المشار إليه تبييناً لفظياً لأن الإشارة بيان ، وقد يزيدون الإشارة بياناً فيذكرون بعد اسم الإشارة اسماً يعرب عطف بيان أو بدلاً من اسم الإشارة للدلالة على أن المشار إليه قصد استحضاره من بعض أوصافه كقولك هذا الرجل يقول كذا ، ويتأكد ذلك إن تركت الإشارة باليد اعتماداً على حضور المراد من اسم الإشارة . وقد عدل هنا عن بيان المشار إليه اكتفاء عنه بما هو الواقع عند الدعاء ، فإن إبراهيم دعا دعوته وهو في الموضع الذي بنى فيه الكعبة لأن الغرض ليس تفصيل حالة الدعاء إنما هو بيان استجابة دعائه وفضيلة محل الدعوة وجعل مكة بلداً آمناً ورزق أهله من الثمرات ، وتلك عادة القرآن في الإعراض عما لا تعلق به بالمقصود ألا ترى أنه لما جعل البلد مفعولاً ثانياً استغنى عن بيان اسم الإشارة ، وفي سورة إبراهيم ( 35 ) لما جعل { آمناً } مفعولاً ثانياً بين اسم الإشارة بلفظ ( البلد ) ، فحصل من الآيتين أن إبراهيم دعا لبلد بأن يكون آمناً .والبلد المكان المتسع من الأرض المتحيز عامراً أو غامراً ، وهو أيضاً الأرض مطلقاً ، قال صَنَّان اليشكري :لَكِنَّه حَوْضُ مَن أَوْدَى بإخْوَتِهِ ... رَيْبُ المَنوننِ فأضحى بَيْضَة البلديريد بيضة النعام في أدحيّ النعام أي محل بيضه ، ويطلق البلد على القرية المكونة من بيوت عدة لسكنى أهلها بها وهو إطلاق حقيقي هو أشهر من إطلاق البلد على الأرض المتسعة والظاهر أن دعوة إبراهيم المحكية في هذه الآية كانت قبل أن تتقرى مكة حيث لم يكن بها إلا بيت إسماعيل أو بيت أو بيتان آخران لأن إبراهيم ابتدأ عمارته ببناء البيت من حجر ، ولأن إلهام الله إياه لذلك لإرادته تعالى مصيرها مهيع الحضارة لتلك الجهة إرهاصاً لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن ذلك المكان كان مأهولاً بسكان وقت مجيء إبراهيم وامرأته وابنه ، والعرب يذكرون أنه كان في تلك الجهة عشائر من جرهم وقطوراً والعمالقة والكركر في جهات أجياد وعرفات .والآمن اسم فاعل من أمن ضد خاف ، وهو عند الإطلاق عدم الخوف من عدو ومن قتال وذلك ما ميز الله مكة به من بين سائر بلاد العرب ، وقد يطلق الأمن على عدم الخوف مطلقاً فتعين ذكر متعلقه ، وإنما يوصف بالأمن ما يصح اتصافه بالخوف وهو ذو الإدراكية ، فالإخبار بآمنا عن البلد إما بجعل وزن فاعل هنا للنسبة بمعنى ذا أمن كقول النابغة :كليني لهم يا أميمة ناصب ... أي ذي نصب ، وإما على إرادة آمنا أهله على طريقة المجاز العقلي لملابسة المكان . ثم إن كان المشار إليه في وقت دعاء إبراهيم أرضاً فيها بيت أو بيتان . فالتقدير في الكلام اجعل هذا المكان بلداً آمناً أي قرية آمنة فيكون دعاء بأن يصير قرية وأن تكون آمنة .وإن كان المشار إليه في وقت دعائه قرية بنى أناس حولها ونزلوا حذوها وهو الأظهر الذي يشعر به كلام «الكشاف» هنا وفي سورة إبراهيم كان دعاء للبلد بحصول الأمن له وأما حكاية دعوته في سورة إبراهيم ( 35 ) بقوله : { اجعل هذا البلد آمناً } فتلك دعوة له بعد أن صار بلداً .ولقد كانت دعوة إبراهيم هذه من جوامع كلم النبوءة فإن أمن البلاد والسبُللِ يستتبع جميع خصال سعادة الحياة ويقتضي العدل والعزة والرخاء إذ لا أمن بدونها ، وهو يستتبع التعمير والإقبالَ على ما ينفع والثروةَ فلا يختل الأمن إلا إذا اختلت الثلاثة الأول وإذا اختل اختلت الثلاثة الأخيرة ، وإنما أراد بذلك تيسير الإقامة فيه على سكانه لتوطيد وسائل ما أراده لذلك البلد من كونه منبع الإسلام .والثَّمَرات جمع ثَمَرة وهي ما تحمل به الشجرة وتنتجه مما فيه غذاء للإنسان أو فاكهة له ، وكأن اسمه منتسب من اسم التمر بالمثناة فإن أهل الحجاز يريدون بالثمر بالمثلثة التمرَ الرَّطب وبالمثناة التمر اليابس .وللثمرة جموع متعددة وهي ثَمَر بالتحريك وثِمَار ، وثُمر ، بضمتين ، وأَثمار ، وأثامير ، قالوا : ولا نظير له في ذلك إلا أَكمة جُمعت على أَكَم وإِكَاممٍ وأُكُم وآكام وأكاميم .والتعريف في الثمرات تعريف الاستغراق وهو استغراق عُرفي أي من جميع الثمرات المعروفة للناس ودليل كونه تعريف الاستغراق مجيء مِن التي للتبعيض ، وفي هذا دعاء لهم بالرفاهية حتى لا تطمح نفوسهم للارتحال عنه .وقوله : من آمن منهم بالله } بدل بعضضٍ من قوله { أهله } يفيد تخصيصه لأن أهله عام إذ هو اسم جمع مضاف وبَدل البعض مخصص .وخَصَّ إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصاً على شيُوع الإيمان لساكِنيه لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم خصت المؤمنين تجنبوا ما يحيد بهم عن الإيمان ، فجَعل تيسير الرزق لهم على شرط إيمانهم باعثاً لهم على الإيمان ، أو أراد التأدب مع الله تعالى فسأله سؤالاً أقرب إلى الإجابة ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال : { ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ] فقال : { لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] أن غير المؤمنين ليسوا أهلاً لإجراء رزق الله عليهم وقد أعقب الله دعوته بقوله : { ومن كفر فأمتعه قليلاً } .ومقصد إبراهيم من دعوته هذه أن تتوفر لأهل مكة أسباب الإقامة فيها فلا تضطرهم الحاجة إلى سكنى بلد آخر لأنه رجا أن يكونوا دعاة لما بنيت الكعبة لأجله من إقامة التوحيد وخصال الحنيفية وهي خصال الكمال ، وهذا أول مظاهر تكوين المدينة الفاضلة التي دعا أفلاطون لإيجادها بعد بضعة عشر قرناً .وجملة؛ { قال ومن كفر فأمتعه } جاءت على سنن حكاية الأقوال في المحاورات والأجوبة مفصولة ، وضمير { قال } عائد إلى الله ، فمن جوز أن يكون الضمير في { قال } لإبراهيم وأن إعادة القول لطول المقول الأول فقد غفل عن المعنى وعن الاستعمال وعن الضمير في قوله : { فأمتعه } .وقوله : { ومن كفر } الأظهر أنه عطف على جملة : { وارزق أهلَه } باعتبار القَيد وهو قوله : { من آمن } فيكون قوله : { ومن كفر } مبتدأ وضُمن الموصول معنى الشرط فلذلك قرن الخبر بالفاء على طريقة شائعة في مثله ، لما قدمناه في قوله : { ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ] أن عطف التلقين في الإنشاء إذا كان صادراً من الذي خوطب بالإنشاء كان دليلاً على حصول الغرض من الإنشاء والزيادة عليه ، ولذلك آل المعنى هنا إلى أن الله تعالى أظهر فضله على إبراهيم بأنه يرزق ذريته مؤمنهم وكافرَهم ، أو أظهر سعة رحمته برزق سكان مكة كلهم مؤمنهم وكافرهم .ومعنى ( أمتعه ) أَجعلُ الرزقَ له متاعاً ، و { قليلاً } صفة لمصدر محذوف لبعد قوله : { فأمتعه } والمتاع القليل متاع الدنيا كما دلت عليه المقابلة بقوله : { ثم أضطره إلى عذاب النار } .وفي هذه الآية دليل لقول الباقلاني والماتريدية والمعتزلة بأن الكفار منعم عليهم بنِعَم الدنيا ، وقال الأشعري لم ينعم على الكافر لا في الدنيا ولا في الآخرة وإنما أعطاهم الله في الدنيا ملاذ على وجه الاستدراج ، والمسألة معدودة في مسائل الخلاف بين الأشعري والماتريدي ، ويشبه أن يكون الخلاف بينهما لفظياً وإن عده السبكي في عداد الخلاف المعنوي .وقوله : { ثم أضطره إلى عذاب النار } احتراس من أن يَغتر الكافر بأنَّ تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضى الله فلذلك ذُكر العذاب هنا .و ( ثم ) للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجُمل من غير التفات إلى كون مصيره إلى العذاب متأخراً عن تمتيعه بالمتاع القليل .والاضطرار في الأصل الالتجاء وهو بوزن افتعل مطاوع أَضره إذا صيره ذا ضرورة أي حاجة ، فالأصل أن يكون اضطر قاصراً لأن أصل المطاوعة عدم التعدي ولكن الاستعمال جاء على تعديته إلى مفعول وهو استعمال فصيح غيرُ جار على قياسسٍ يقال اضطرَّهُ إلى كذا أي ألجأه إليه ، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة لقمان ( 24 ) : { نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ } .وقوله : { وبئس المصير } تذييل والواو للاعتراض أو للحال والخبر محذوف هو المخصوص بالذم وتقديره هي . | Arabic Tanweer Tafseer | 2:126 |
ثم ساق القرآن بعد ذلك نماذج من الدعوات التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً ) أي : أضرع إليك يا إلهي أن تجعل الموضع الذي فيه بيتك مكانا يأنس إليه الناس ، ويأمنون فيه من الخوف ، ويجدون فيه كل ما يرجون من أمان واطمئنان .والمشار إليه بقوله : ( هذا ) مكة المكرمة . والبلد كل قطعة من الأرض عامرة أو غامرة .والمقصود بالدعاء إنما هو أمن أهله لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد ، وإنما يلحقان أهل البلد .قال الإِمام الرازي : وإنما قال هنا ( بَلَداً آمِناً ) على التنكير ، وقال في سورة إبراهيم ( رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً ) على التعريف لوجهين :الأول : أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلداً ، كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلداً آمناً .والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً ، فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً ذا أمن وسلامة .والثاني : أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلداً ، فقوله : ( اجعل هذا بَلَداً آمِناً ) تقديره : أجعل هذا البلد بلداً آمنا كقولك : كان اليوم يوماً حاراً ، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفة بالحرارة ، لأأن التنكير يدل على المبالغة فقوله : رب اجعل هذا البلد بلداً آمنا معناه : اجعله من البلدان الكاملة في الأمن . وأما قوله : ( رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً ) فليس فيه إلا طلب الامن لا طلب المبالغة .أما الدعوة الثانية التي توجه بها إبراهيم إلى ربه من أجل أهل مكة فقد حكاها القرآن في قوله :( وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر ) .أي : كما أسألك يا إلهي أن تجعل هذا لبلد بلداً آمنا . أسألك كذلك أن ترزق المؤمنين من أهله من الثمرات ما يسد حاجاتهم ، ويغنيهم من الاحتياج إلى غيرك .وقوله : " ارزق " مأخوذ من رزقه يرزقه إذا أعطاه ما ينتفع به من مأكول وغيره .والثمرات : جمع ثمرة ، وهي ما يحمله شجر أو زرع أو غيره من النبات . وإنما طلب إبراهيم - عليه السلام - من الله أن يجعل مكة بلدا آمناً ، وأن يرزق أهلها من الثمرات بما يغنيهم لأن البلد إذا امتدت إليه ظلال الأمن ، وكانت مطالب الحياة فيه ميسرة ، أقبل أهله على طاعة الله بقلوب مطمئنة وتفرغوا لذلك بنفوس مستقرة .وقال في دعائه : ( مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر ) لأن أهل مكة قد يكون من بينهم كافرون ، فأراد تخصيص المؤمنين منهم بدعائه ، لذا أتبع قوله : ( وارزق أَهْلَهُ ) بقوله : ( مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ) على وجه البدل فصار المعنى وارزق المؤمنين من أهله على ما تقتضيه القاعدة العربية من أن البدل وهو هنا ( مَنْ آمَنَ ) هو المقصود بطلب الرزق .وخص إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصاً على شيوع الإِيمان بين سكان مكة ، لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم إنما هي خاصة بالمؤمنين تجنبوا ما يبعدهم عن الإِيمان ، أو أنه خص المؤمنين بذلك تأدباً مع الله - تعالى - إذ سأله سؤالا أقرب إلى الإِجابة ، ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال : ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) فقال : ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين ) أن غير المؤمنين ليسوا أهلا لإِجراء رزق الله عليهم .واقتصر على ذكر الإِيمان بالله واليوم الآخر في التعبير عن المؤمنين لأن الإِيمان بالله واليوم الآخر لا يقع على الوجه الحق إلا إذا صاحبه الإِيمان بكتب الله ورسله وملائكته .ثم بين - سبحانه - مصير الكافرين فقال : ( فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير ) .الضمير في ( قال ) يعود إلى الله - تعالى - ومن في قوله ( من كفر ) منصوب بفعل مقدر دلي عليه " فأمتعه " والمعنى : قال الله وأرزق من كفر وايراد المتكلم قولا من عنده معطوفاً على قول متكلم آخر مألوف في اللغة العربية ، ويحسن موقعه عندما يقتضي المقام إيجازاً في القول ، ولولا هذا العطف لكان المعنى متطلباً لأن يقال : قال الله أرزق من آمن ومن كفر .( فَأُمَتِّعُهُ ) : من التمتع وهو إعطاء ما ينتفع به . و ( قَلِيلاً ) : وصف لمصدر محذوف في النظم ، والمعنى : أمتعه تمتيعاً قليلا . ووصف التمتع في الدنيا بالقلة ، لأنه صائر إلى نفاد وانقطاع .و ( أَضْطَرُّهُ ) أي الجثة وأسوقه بعد متاعه في الدنيا إلى عذاب لا يمكنه الإِنفكاك عنه وجملة " ثم اضطره إلى عذاب النار " احتراس من أن يغتر الكافر بأن تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضا الله فلذلك ذكر العذاب هنا .( وَبِئْسَ ) فعل يستعمل لذم المرفوع بعده ، وهو ما يسميه النحاة بالمخصوص بالذم ، ووردت هنا لذم النار المقدرة في الجملة ، والمعنى : بئس المصير النار . أي أنها مصير سيء كما قال تعالى في آية أخرى .( إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ) وقد أفادت الآية الكريمة أن الله يرزق الكافر في الدنيا كما يرزق المؤمن وإذا كان إمتاع المؤمن بالرزق لأنه أهل لأن ينعم عليه بكل خير ، فإمتاع الكافر بالرزق له حكم منها استدراجه المشار إليه بقوله تعالى :( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ) ولو خص الله المؤمنين بالتوسعة في الرزق وحرم منها الكافرين لكان هذا التخصيص سائقا للكافرين إلى الإِيمان على وجه يشبه الإِلجاء . وقد قضت حكمته - تعالى - أن يكون الإِيمان اختيارياً حتى ينساق الإِنسان من طريق النظر في أدلة عقلية يبصر بها أقوام ولا يبصر بها آخرون . | Arabic Waseet Tafseer | 2:126 |
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًاقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا "، واذكروا إذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا.* * *قال أبو جعفر: يعني بقوله: "آمنا ": آمنا من الجبابرة وغيرهم، أن يسلطوا عليه, ومن عقوبة الله أن تناله, كما تنال سائر البلدان, من خسف, وائتفاك, وغرق، (78) وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره، كما:2026- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن الحرم حُرِّم بحياله إلى العرش. وذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط. قال الله له: أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين, حتى إذا كان زمان الطوفان -حين أغرق الله قوم نوح- رفعه وطهره، ولم تصبه عقوبة أهل الأرض. فتتبع منه إبراهيم أثرا، فبناه على أساس قديم كان قبله.* * *فإن قال لنا قائل: أوما كان الحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه له الأمان؟قيل له: لقد اختلف في ذلك. فقال بعضهم: لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه, منذ خلقت السموات والأرض. واعتلوا في ذلك بما:-2027- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير, عن محمد بن إسحاق قال، حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري, قال سمعت أبا شريح الخزاعي يقول: لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلا من هذيل, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: " يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأض, فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما, أو يعضد بها شجرا. ألا وإنها لا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة، غضبا علي أهلها. ألا فهي قد رجعت على حالها بالأمس. ألا ليبلغ الشاهد الغائب, فمن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها! فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يُحِلَّها لك ". (79)2028- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان - وحدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير - جميعا, عن يزيد بن أبي زياد, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمكة حين افتتحها: هذه حرم حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر، ووضع هذين الأخشبين, لم تحل لأحد قبلي, ولا تحل لأحد بعدي, أُحِلَّت لي ساعة من نهار. (80)* * *قالوا: فمكة منذ خلقت حرم آمن من عقوبة الله وعقوبة الجبابرة. قالوا: وقد أخبرت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها. قالوا: ولم يسأل إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الجبابرة, ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجدوب والقحوط, وأن يرزق ساكنه من الثمرات, كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ". قالوا: وإنما سأل ربه ذلك لأنه أسكن فيه ذريته, وهو غير ذي زرع ولا ضرع, فاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا, فسأله أن يؤمنهم مما حذر عليهم منه.قالوا: وكيف يجوز أن يكون إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم, وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه, وهو القائل - حين حله, ونـزله بأهله وولده: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [سورة إبراهيم: 37]؟ قالوا: فلو كان إبراهيم هو الذي حرم الحرم أو سأل ربه تحريمه لما قال: " عند بيتك المحرم " عند نـزوله به, ولكنه حُرِّم قبله, وحُرِّم بعده.* * *وقال آخرون: كان الحرم حلالا قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد غيره, وإنما صار حراما بتحريم إبراهيم إياه, كما كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالا قبل تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها. قالوا: والدليل على ما قلنا من ذلك، ما:-2029- حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن أبي الزبير, عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه, وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها، ولا تقطع عضاهها. (81)2030- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا [حدثنا ابن إدريس - وأخبرنا أبو كريب قال]، حدثنا عبد الرحيم الرازي, [قالا جميعا]: سمعنا أشعث, عن نافع, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إبراهيم كان عبد الله وخليله, وإني عبد الله ورسوله, وإن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها, ولا يحمل فيها سلاح لقتال, ولا يقطع منها شجر إلا لعلف بعير. (82)2031- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قتيبة بن سعيد قال، حدثنا بكر بن مضر, عن ابن الهاد, عن أبي بكر بن محمد, عن عبد الله بن عمرو بن عثمان, عن رافع بن خديج, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن إبراهيم حرم مكة, وإني أحرم المدينة ما بين لابيتها. (83)وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب.* * *قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن إبراهيم قال: " رب اجعل هذا بلدا آمنا "، ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض, فليس لأحد أن يدعي أن الذي سأله من ذلك، الأمان له من بعض الأشياء دون بعض، إلا بحجة يجب التسليم لها. قالوا: وأما خبر أبي شريح وابن عباس، فخبران لا تثبت بهما حجة، لما في أسانيدهما من الأسباب التي لا يجب التسليم فيها من أجلها.* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرما حين خلقها وأنشأها, كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم،" أنه حرمها يوم خلق السموات والأرض "، بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله, ولكن بمنعه من أرادها بسوء, وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات, وعن ساكنيها، ما أحل بغيرها وغير ساكنيها من النقمات. فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله, وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل. فسأل حينئذ إبراهيم ربه إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه, ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه, يستنون به فيها, إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلا وأخبره أنه جاعله, للناس إماما يقتدى به, فأجابه ربه إلى ما سأله, وألزم عباده حينئذ فرض تحريمه على لسانه,فصارت مكة - بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها، بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده, ومحرمة بدفع الله عنها، بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله - (84) فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام, وواجب على عباده الامتناع من استحلالها, واستحلال صيدها وعضاهها لها بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه بذلك إليهم.فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم مكة ". لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به - دون التحريم الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكلاءة والحفظ لها قبل ذلك - (85) كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه, [وهو الذي] لزم العباد فرضه دون غيره. (86)فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين - أعني خبر أبي شريح وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وإن الله حرم مكة يوم خلق الشمس والقمر " - وخبر جابر وأبى هريرة ورافع بن خديج وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إن إبراهيم حرم مكة "؛ وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الآخر، كما ظنه بعض الجهال.وغير جائز في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضها دافعا بعضا، إذا ثبت صحتها. وقد جاء الخبران اللذان رويا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجيئا ظاهرا مستفيضا يقطع عذر من بلغه.وأما قول إبراهيم عليه السلام (87) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [سورة إبراهيم: 37] فإنه، إن يكن قاله قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه، (88) فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرمه بحياطته إياه وكلاءته، (89) من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد، لهم بذلك - وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على خلقه على وجه التعبد فلا مسألة لأحد علينا في ذلك.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِقال أبو جعفر: وهذه مسألة من إبراهيم ربه: أن يرزق مؤمني أهل مكة من الثمرات، دون كافريهم. وخص, بمسألة ذلك للمؤمنين دون الكافرين، لما أعلمه الله -عند مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة يقتدى بهم- أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده, والظالم الذي لا يدرك ولايته. فلما أن علم أن من ذريته الظالم والكافر, خص بمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة، المؤمن منهم دون الكافر. وقال الله له: إني قد أجبت دعاءك, وسأرزق مع مؤمني أهل هذا البلد كافرهم, فأمتعه به قليلا.* * *وأما " من " من قوله: " من آمن منهم بالله واليوم الآخر "، فإنه نصبٌ على الترجمة والبيان عن " الأهل "، (90) كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [سورة البقرة: 217]، بمعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام, وكما قال تعالى ذكره: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا [سورة آل عمران: 97]: بمعنى: ولله حج البيت على من استطاع إليه سبيلا.* * *وإنما سأل إبراهيم ربه ما سأل من ذلك، لأنه حل بواد غير ذي زرع ولا ماء ولا أهل, فسأل أن يرزق أهله ثمرا, وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم. فذكر أن إبراهيم لما سأل ذلك ربه، نقل الله الطائف من فلسطين.2032- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا هشام قال، قرأت على محمد بن مسلم أن إبراهيم لما دعا للحرم: " وارزق أهله من الثمرات "، نقل الله الطائف من فلسطين.* * *القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاقال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في قائل هذا القول، وفي وجه قراءته. فقال بعضهم: قائل هذا القول ربنا تعالى ذكره, وتأويله على قولهم: قال: ومن كفر فأمتعه قليلا برزقي من الثمرات في الدنيا، إلى أن يأتيه أجله. وقرأ قائل هذه المقالة ذلك: " فأمتعه قليلا "، بتشديد " التاء " ورفع " العين ".* ذكر من قال ذلك:2033- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه عن الربيع, قال، حدثني أبو العالية, عن أبي بن كعب في قوله: " ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار "، قال هو قول الرب تعالى ذكره.2034- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: لما قال إبراهيم: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، وعدل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية, = انقطاعا إلى الله، (91) ومحبة وفراقا لمن خالف أمره, وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا ينال عهده, بخبره عن ذلك حين أخبره (92) = فقال الله: ومن كفر - فإني أرزق البر والفاجر - فأمتعه قليلا. (93)* * *وقال آخرون: بل قال ذلك إبراهيم خليل الرحمن، على وجه المسألة منه ربه أن يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد الحرام, مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ - بتخفيف " التاء " وجزم " العين "، وفتح " الراء " من اضطره, وفصل " ثم أضطره " بغير قطع ألفها (94) - على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة.* ذكر من قال ذلك:2035- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه عن الربيع قال، قال أبو العالية: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا.* * *2036- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن ليث, عن مجاهد: " ومن كفر فأمتعه قليلا "، يقول: ومن كفر فأرزقه أيضا، ثم أضطره إلى عذاب النار. (95)* * *قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل, ما قاله أبي بن كعب وقراءته, لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك, وشذوذ ما خالفه من القراءة. وغير جائز الاعتراض بمن كان جائزا عليه في نقله الخطأ والسهو, على من كان ذلك غير جائز عليه في نقله. وإذ كان ذلك كذلك, فتأويل الآية: قال الله: يا إبراهيم، قد أجبت دعوتك, ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم، متاعا لهم إلى بلوغ آجالهم, ثم أضطر كفارهم بعد ذلك إلى النار.* * *وأما قوله: " فأمتعه قليلا " يعني: فأجعل ما أرزقه من ذلك في حياته متاعا يتمتع به إلى وقت مماته. (96)وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن الله تعالى ذكره إنما قال ذلك لإبراهيم، جوابا لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل مكة. فكان معلوما بذلك أن الجواب إنما هو فيما سأله إبراهيم لا في غيره. وبالذي قلنا في ذلك قال مجاهد, وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه. (97)وقال بعضهم: تأويله: فأمتعه بالبقاء في الدنيا.وقال غيره: فأمتعه قليلا في كفره ما أقام بمكة, حتى أبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيقتله، إن أقام على كفره، أو يجليه عنها. وذلك وإن كان وجها يحتمله الكلام، فإن دليل ظاهر الكلام على خلافه، لما وصفنا. (98)* * *القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِقال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره بقوله: " ثم أضطره إلى عذاب النار "، ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها, كما قال تعالى ذكره: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [سورة الطور: 13]. (99)* * *ومعنى " الاضطرار "، الإكراه. يقال: " اضطررت فلانا إلى هذا الأمر "، إذا ألجأته إليه وحملته عليه.فذلك معنى قوله: " ثم أضطره إلى عذاب النار "، أدفعه إليها وأسوقه، سحبا وجرا على وجهه.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)قال أبو جعفر: قد دللنا على أن " بئس " أصله " بِئس " من " البؤس " سُكِّن ثانيه، ونقلت حركة ثانيه إلى أوله, كما قيل للكَبد كِبْد, وما أشبه ذلك. (100)* * *ومعنى الكلام: وساء المصيرُ عذابُ النار, بعد الذي كانوا فيه من متاع الدنيا الذي متعتهم فيها.* * *وأما " المصير "، فإنه " مَفعِل " من قول القائل: " صرت مصيرا صالحا "،, وهو الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله من عذاب النار. (101)* * *---------------------------الهوامش :(78) في المطبوعة : "وانتقال" مكان"وائتفاك" ، وذاك لفظ بلا معنى هنا وبلا دلالة . والائتفاك الانقلاب ، وهو عذاب الله الشديد الذي أنزله بقوم لوط ، فقال سبحانه في سورة هود : "فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها" ، وهذا هو الائتفاك ، ائتفكت بهم الأرض : أي انقلبت فصار عاليها سافلها ، فسمى الله هذه القرى ، قرى لوط"المؤتفكات" في سورة التوبة : 70 ، وفي سورة الحاقة : 9 ، وقال في سورة النجم : 52-53"والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى"(79) الحديث : 2027- هذا مختصر من حديث صحيح مطول :فرواه أحمد في المسند : 16448 (ج 4 ص 32 حلبي) ، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن محمد بن إسحاق ، بهذا الإسناد .ورواية ابن إسحاق ثابتة أيضًا -مطولة- في سيرة ابن هشام 4 : 57-58 (حلبي) ، و 823- 824 أوربة ، 2 : 277-278 (من الروض الأنف) .ورواه أيضًا ، بنحوه ، أحمد : 16444 (ج 4 ص 31) ، والبخاري 1 : 176-177 ، و 4 : 35-39 (فتح ) ، ومسلم 1 : 383-384 كلهم من طريق الليث بن سعد ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح .وقوله في الحديث : "أو يعضد بها شجرا" ، أي يقطعه ، يقال"عضد الشجر" ، من باب"ضرب" قطعه .وقوله : "غضبا على أهلها" : هذا هو الصحيح الثابت في رواية ابن إسحاق ، في المسند ، وسيرة ابن هشام ، وفي المطبوعة : "عصى على أهلها" . وهو تصحيف .(80) الحديث : 2028- هذا الحديث رواه الطبري بإسنادين ، عن ثلاثة شيوخ : فرواه عن أبي كريب محمد بن العلاء ، عن عبد الرحيم بن سليمان الرازي . ثم رواه عن ابن حميد - وهو محمد بن حميد الرازي ، وعن ابن وكيع - وهو سفيان بن وكيع ، كلاهما : أعني ابن حميد وابن وكيع ، عن جرير بن عبد الحميد الضبي . ثم يجتمع الإسنادان : فيرويه عبد الرحيم بن سليمان وجرير بن عبد الحميد"جميعا عن يزيد بن أبي زياد" .وهذه الأسانيد ظاهرها الصحة ، وإن كان سفيان بن وكيع ضعيفا ، كما بينا في : 1692- فإن الطبري لم يفرده بالرواية عنه ، بل قرن به محمد الرازي ، وهو ثقة - إلا أن في الحديث انقطاعا ، بين مجاهد وابن عباس . وقد سمع مجاهد من ابن عباس حديثا كثيرا ، ولكن هذا الحديث بعينه رواه"عن طاوس عن ابن عباس" .و"يزيد بن أبي زياد الكوفي مولى بني هاشم" : صدوق ، في حفظه شيء بعد ما كبر ، قال ابن سعد 6 : 237"كان ثقة في نفسه ، إلا أنه اختلط في آخر عمره ، فجاء بالعجائب" . وقال يعقوب بن سفيان : "ويزيد -وإن كانوا يتكلمون فيه لتغييره- فهو على العدالة والثقة ، وإن لم يكن مثل الحكم ومنصور" . وهو مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/334 ، وابن أبي حاتم 4/2/265 . فلعله وهم في حذف"طاوس" بين مجاهد وابن عباس .والحديث في ذاته صحيح .فرواه أحمد بنحوه مطولا : 2353 ، 2898 ، من طريق منصور بن المعتمر ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس .وكذلك رواه البخاري 4 : 40-42 ، ومسلم 1 : 383 ، من طريق منصور .ومنصور بن المعتمر : سبق توثيقه 177 . وهو أثبت حفظا من مئة مثل يزيد بن أبي زياد . بل قال يحيى القطان : "ما أحد أثبت عن مجاهد وإبراهيم - من منصور" . وقدمه الأئمة -في الحفظ- على الأعمش والحكم .بل إن هذا الحديث نفسه : ذكر الحافظ في الفتح أنه رواه الأعمش عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم - مرسلا ، يعني بحذف طاوس وابن عباس ، ثم قال : "ومنصور ثقة حافظ ، فالحكم لوصله" . أي أن هذه الزيادة زيادة ثقة ، يجب قبولها والحكم لها بالترجيح .وقوله في هذه الرواية : "ووضع هذين الأخشبين" . هذه الزيادة لم أجدها في شيء من الروايات الأخر . و"الأخشبان" ، بلفظ التثنية : هما جبلا مكة المطيفان بها . انظر النهاية لابن الأثير ، ومعجم البلدان لياقوت .(81) الحديث : 2029- إسناده صحيح . عبد الرحمن بن مهدي : هو الإمام الحافظ العلم . سفيان : هو الثوري .أبو الزبير : هو المكي ، محمد بن مسلم بن تدرس ، تابعي ثقة . أخرج له الجماعة . جابر : هو ابن عبد الله ، الصحابي المشهور .والحديث رواه مسلم 1 : 385 ، بنحوه ، من طريق محمد بن عبد الله الأسدي ، عن سفيان ، بهذا الإسناد . بلفظ"إن إبراهيم حرم مكة" إلخ .ونقله ابن كثير 1 : 316 ، وقال : "وهكذا رواه النسائي ، عن محمد بن بشار بندار ، به" . و"بندار" : لقب محمد بن بشار .اللابتان : هما الحرتان بجانبي المدينة ، وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها .العضاه ، بكسر العين وتخفيف الضاد المعجمة وآخره هاء : كل شجر عظيم له شوك .(82) الحديث : 2030- أبو السائب : هو مسلم بن جنادة ، مضت ترجمته : 48 . ابن إدريس : هو عبد الله بن إدريس الأودي . سبقت ترجمته في : 438 .عبد الرحيم الرازي : هو عبد الرحيم بن سليمان الرازي الأشل الكناني - الذي مضت له رواية في الحديث 2028- وهو ثقة كثير الحديث . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2/2/239 .أشعث : هو ابن سوار الكندي ، ضعفه بعضهم ، ووثقه آخرون . وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند : 661 . مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 1/2/430 ، وابن أبي حاتم 1/1/271-272 .نافع : هو مولى ابن عمر ، الثقة الثبت الحجة .وقد كان هذا الإسناد : مغلوطا في المطبوعة هكذا : "حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا حدثنا عبد الرحيم الرازي : سمعت أشعث . . . " نقص منه"ابن إدريس" . فكان ظاهره أن أبا كريب وأبا السائب روياه عن عبد الرحيم الرازي عن أشعث . والصواب ما أثبتناه ، نقلا عن ابن كثير 1 : 316 ، عن هذا الموضع من الطبري .فصحة الإسناد : أنه يرويه الطبري عن أبي كريب وأبي السائب . كلاهما عن عبد الله بن إدريس ، ثم يرويه الطبري عن أبي كريب وحده ، عن عبد الرحيم الرازي -وأن عبد الله بن إدريس وعبد الرحيم الرازي سمعاه جميعا من أشعث .وهذا الحديث من هذا الوجه ، قال فيه ابن كثير : "وهذه الطريق غريبة ، ليست في شيء من الكتب الستة" . وأزيد عليه : أني لم أجدها في المسند أيضًا ، ولا في غيره مما استطعت الرجوع إليه من المراجع .ثم أشار ابن كثير إلى أن أصل معناه ثابت عن أبي هريرة ، من وجه آخر ، في صحيح مسلم . وهو حديث مالك في الموطأ ، ص : 885 ، عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة : "كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مدنا . اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ، وإني عبدك ونبيك ، وإنه دعاك لمكة ، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ، ومثله معه" . وهو في صحيح مسلم 1 : 387 ، عن قتيبة ، عن مالك .(83) الحديث : 2031- بكر من مضر بن محمد بن حكيم المصري : ثقة ، أخرج له الشيخان وغيرهما . مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 1/2/95 ، وابن أبي حاتم 1/1/392-393 ، وتذكرة الحفاظ ، وقال : "الإمام المحدث الصادق العابد" .ابن الهاد : هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني . وهو ثقة كثير الحديث ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/344 ، وابن أبي حاتم 4/2/275 . أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري : تابعي ثقة حجة ، لا يسأل عن مثله .عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان : تابعي ثقة ، وكان شريفا جوادا ممدحا . جده لأمه : عبد الله بن عمر بن الخطاب .والحديث رواه مسلم في صحيحه 1 : 385 ، عن قتيبة بن سعيد ، بهذا الإسناد . ونقله ابن كثير 1 : 316 ، وقال : "انفرد بإخراجه مسلم" . يعني دون البخاري .(84) سياق هذه الجملة المعترضة : "بعد أن كانت ممنوعة . . . ، ومحرمة . . . " ، وسياق الجملة التي دخلها الاعتراض : "فصارت مكة . . . فرض تحريمها . . . وواجب على عباده . . . "(85) كلأه الله يكلؤه كلاء (بفتح فسكون) وكلأ (بكسر فسكون) وكلاءة (بكسر الكاف) : حرسه وحفظه . وكان في المطبوعة"الكلاء" بهمزة مفردة مع المد ، وليس صوابا . هذا ، وسياق العبارة : "لأن فرض تحريمها . . . كان عن مسألة إبراهيم ربه" .(86) ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام .(87) في الأصول : "وقول إبراهيم" ، والصواب زيادة"أما" كما يدل عليه السياق .(88) وفيها : "إن يكن قال قبل إيجاب الله" . والصواب ما أثبت .(89) وفيها : "وكلائه" ، والصواب ما أثبت ، وانظر التعليق السالف رقم : 1 .(90) الترجمة : هي عطف البيان أو البدل عند الكوفيين ، كما سلف 2 : 340 ، 420 .(91) يعني أن إبراهيم قال ذلك ، وصرف الدعوة : "انقطاعا إلى الله . . . "(92) في المطبوعة : "أنه كان منهم ظالم . . . " والصواب ما أثبت من تفسير ابن كثير . قوله : "بخبره عن ذلك . . " سياقه ، أنه : عدل الدعوة عمن أبي . . بخبر الله عن ذلك حين أخبره . وفي المطبوعة : "فقال الله . . " ، والفاء مفسدة للسياق ، فإنه : "لما قال إبراهيم . . وعدل الدعوة . . قال الله . . " .(93) الأثر : 2034- في تفسير ابن كثير 1 : 319 ، وفيه اختلاف في بعض اللفظ ، ولم أجده في سيرة ابن هشام .(94) هذا رسم القراءة {فأمتعه قليلا ثم اضطره} ، على أنهما فعلا أمر ، يراد بهما الدعاء والسؤال .(95) الأثر : 2036- كان ينبغي أن يقدم هذا الأثر على ذكر هذه القراءة التي سوف يردها الطبري . وبين من نقل ابن كثير عن الطبري أن موقعه قبل الأثر رقم : 2034 ، وسيأتي في كلام الطبري بعد قليل ما يقطع بأن هذا الخبر عن مجاهد ، بمعزل عن هذه القراءة . فأخشى أن يكون الناسخ قد أسقط الخبر عند النسخ ، ثم عاد فوضعه هنا حين انتبه إلى أنه قد أسقطه . وكدت أرده إلى مكانه ، ولكني آثرت تركه على حاله مع التنبيه على الخطأ ، وفصلته عن الذي قبله بالنجوم الفاصلة .(96) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف 1 : 539-541 .(97) انظر الأثر : رقم : 2036 ، والتعليق عليه .(98) ما أحسن ما قال أبو جعفر فإن أكثر الكلام ، يحتمل وجوها ، ولكن سياق المعاني وترابطها يوجب معنى واحدا مما يحتمله الكلام . وهذا ما يعنيه بقوله : "دليل ظاهر الكلام" . وانظر تفسير"الظاهر" فيما سلف 2 : 15 والمراجع قبله وبعده .(99) قال أبو جعفر في تفسير هذه الآية (27 : 13-14 ، بولاق) : "يدفعون بإرهاق وإزعاج . يقال منه . دععت في قفاه : إذا دفعت فيه" .(100) انظر ما سلف 2 : 338-340 .(101) يريد الطبري أنه المنزل الذي ينتهى إليه ، من قولهم : "أين مصيركم؟" ، أي منزلكم . والمصير : العاقبة وما يصير إليه الشيء . | الطبري | 2:126 |
قوله تعالى : وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصيروفيه ثلاث مسائل :الأولى : قوله تعالى : بلدا آمنا يعني مكة ، فدعا لذريته وغيرهم بالأمن ورغد العيش . فروي أنه لما دعا بهذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل فاقتلع الطائف من الشام فطاف بها حول البيت أسبوعا ، فسميت الطائف لذلك ، ثم أنزلها تهامة ، وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء ولا نبات ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها ، وأنبت فيها أنواع الثمرات ، على ما يأتي بيانه في سورة " إبراهيم " إن شاء الله تعالى .الثانية : اختلف العلماء في مكة هل صارت حرما آمنا بسؤال إبراهيم أو كانت قبله كذلك على قولين :أحدهما : أنها لم تزل حرما من الجبابرة المسلطين ، ومن الخسوف والزلازل ، وسائر المثلات التي تحل بالبلاد ، وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى . ولقد جعل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على توحيده ما شوهد من أمر الصيد فيها ، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يهيج الكلب الصيد ولا ينفر منه ، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد إلى النفور والهرب .[ ص: 113 ] وإنما سأل إبراهيم ربه أن يجعلها آمنا من القحط والجدب والغارات ، وأن يرزق أهله من الثمرات ، لا على ما ظنه بعض الناس أنه المنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل ، فإن ذلك يبعد كونه مقصودا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم حتى يقال : طلب من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم ، هذا بعيد جدا .الثاني : أن مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد ، وأن بدعوته صارت حرما آمنا كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا بعد أن كانت حلالا .احتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم ، فقال : إلا الإذخر . ونحوه حديث أبي شريح ، أخرجهما مسلم وغيره .وفي صحيح مسلم أيضا عن عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة . قال ابن عطية : " ولا تعارض بين الحديثين ; لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه ، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان . والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور ، وكان القول [ ص: 114 ] الأول من النبي صلى الله عليه وسلم ثاني يوم الفتح إخبارا بتعظيم حرمة مكة على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى ، وذكر إبراهيم عند تحريم المدينة مثالا لنفسه ، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من قبل الله تعالى ومن نافذ قضائه وسابق علمه " . وقال الطبري : كانت مكة حراما فلم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها .الثالثة : وارزق أهله من الثمرات من آمن تقدم معنى الرزق . والثمرات جمع ثمرة ، قد تقدم . من آمن بدل من أهل ، بدل البعض من الكل . والإيمان : التصديق ، وقد تقدم .قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصيرقال ومن كفر من في قوله ومن كفر في موضع نصب ، والتقدير وارزق من كفر ، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء ، وهي شرط والخبر فأمتعه وهو الجواب .واختلف هل هذا القول من الله تعالى أو من إبراهيم عليه السلام ؟ فقال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما : هو من الله تعالى ، وقرءوا فأمتعه بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التاء . ثم أضطره بقطع الألف وضم الراء ، وكذلك القراء السبعة خلا ابن عامر فإنه سكن الميم وخفف التاء . وحكى أبو إسحاق الزجاج أن في قراءة أبي " فنمتعه قليلا ثم نضطره " بالنون . وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : هذا القول من إبراهيم عليه السلام . وقرءوا " فأمتعه " بفتح الهمزة وسكون الميم ، ثم اضطره بوصل الألف وفتح الراء ، فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين ، وعليه فيكون الضمير في قال لإبراهيم وأعيد قال لطول الكلام ، أو لخروجه من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين . والفاعل في قال على قراءة الجماعة اسم الله تعالى ، واختاره النحاس وجعل القراءة بفتح الهمزة وسكون الميم ووصل الألف شاذة ، قال : ونسق الكلام والتفسير جميعا يدلان على غيرها ، أما نسق الكلام فإن الله تعالى خبر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال : رب اجعل هذا بلدا آمنا ثم جاء بقوله عز وجل : وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ولم يفصل بينه بقال ، ثم قال بعد : قال ومن كفر فكان هذا جوابا من الله ، ولم يقل بعد : قال إبراهيم . وأما التفسير فقد صح عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب . وهذا لفظ ابن عباس : دعا إبراهيم عليه السلام لمن آمن دون الناس خاصة ، فأعلم الله عز وجل أنه يرزق من كفر كما يرزق من آمن ، وأنه يمتعه قليلا ثم يضطره إلى عذاب النار . قال أبو جعفر : وقال الله عز وجل : كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وقال جل ثناؤه : وأمم سنمتعهم . [ ص: 115 ] قال أبو إسحاق : إنما علم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته كفارا فخص المؤمنين ; لأن الله تعالى قال : لا ينال عهدي الظالمين . | Arabic Qurtubi Tafseer | 2:126 |
أي: وإذ دعا إبراهيم لهذا البيت, أن يجعله الله بلدا آمنا, ويرزق أهله من أنواع الثمرات، ثم قيد عليه السلام هذا الدعاء للمؤمنين, تأدبا مع الله, إذ كان دعاؤه الأول, فيه الإطلاق, فجاء الجواب فيه مقيدا بغير الظالم. فلما دعا لهم بالرزق, وقيده بالمؤمن, وكان رزق الله شاملا للمؤمن والكافر, والعاصي والطائع, قال تعالى: { وَمَنْ كَفَرَ } أي: أرزقهم كلهم, مسلمهم وكافرهم، أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله, ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة، وأما الكافر, فيتمتع فيها قليلا { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } أي: ألجئه وأخرجه مكرها { إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } | Arabic Saddi Tafseer | 2:126 |
قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا} يعني مكة، وقيل: الحرم.{بلداً آمناً} أي ذا أمن يأمن فيه أهله.{وارزق أهله من الثمرات} إنما دعا بذلك لأنه كان بواد غير ذي زرع، وفي القصص أن الطائف كانت من مداين الشام بأردن فلما دعا إبراهيم عليه السلام هذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل عليه السلام حتى قلعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعاً ثم وضعها موضعها الذي هي الآن فيه، فمنها أكثر ثمرات مكة.{من آمن منهم بالله واليوم الآخر} دعاء للمؤمنين خاصة.{قال} الله تعالى.{ومن كفر فأمتعه قليلاً} قرأ ابن عامر فأمتعه خفيفاً بضم الهمزة والباقون مشدداً ومعناهما واحد قليلاً أي سأرزق الكافر أيضاً قليلاً إلى منتهى أجله، وذلك أن الله تعالى وعد الرزق للخلق كافة مؤمنهم وكافرهم،وإنما قيده بالقلة لأن متاع الدنيا قليل.{ثم أضطره} أي ألجئه في الآخرة.{إلى عذاب النار وبئس المصير} أي المرجع يصير إليه، قال مجاهد: "وجد عند المقام كتاب فيه: أن الله ذو بكة صنعتها يوم خلقت الشمس والقمر، وحرمتها يوم خلقت السموات والأرض، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، مبارك لها في اللحم والماء". | Arabic Baghawy Tafseer | 2:126 |
وأما قوله تعالى" وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم" فالقواعد جمع قاعدة هي السارية والأساس يقول تعالى: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت ورفعهما القواعد منه وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وحكى القرطبي وغيره عن أبي وابن مسعود أنهما كانا يقرآن" وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" ويقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" "قلت" ويدل على هذا قولهما بعده "ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" الآية فهما في عمل صالح وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي عن وهيب بن الورد أنه قرأ "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا" ثم يبكي ويقول يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك. وهذا كما حكى اللّه عن حال المؤمنين الخلص في قوله "والذين يؤتون ما آتوا" أي يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقرابات "وقلوبهم وجلة" أي خائفة أن لا يتقبل منهم كما جاء في الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه. وقال بعض المفسرين الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم والداعي إسماعيل والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه. وقد روى البخاري ههنا حديثا سنورده ثم نتبعه بآثار متعلقة بذلك. قال البخاري رحمه اللّه: حدثنا عبدالله بن محمد أخبرنا عبدالرزاق أخبرنا معمر عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن المطلب ابن أبي وداعة - يزيد أحدهما على الآخر - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سيارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفا إبراهيم فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس؟ ولا شيء فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت آلله أمرك بهذا؟ قال نعم قالت: إذا لا يضيعنا. ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" حتى بلغ "يشكرون" وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى -أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم "فلذلك سعى الناس بينهما" فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت "صه" - تريد نفسها - ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا" قال فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافي الضيعة فإن ههنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائدا فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا قال وأم إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك قالت نعم. ولكن لا حق لكم في الماء عندنا قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس" فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر نحن في ضيق وشدة فشكت إليه قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا فقال هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غير عتبة بابك قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك وطلقها وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت خرج يبتغي لنا قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله عز وجل قال ما طعامكم؟ قالت: اللحم قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال النبي صلى الله عليه وسلم "ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم لدعا لهم فيه" قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء اللّه ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل إن اللّه أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك قال: وتعينني. قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" ورواه عبد بن حميد عن عبدالرزاق به مطولا ورواه ابن أبي حاتم عن أبي عبداللّه محمد بن حماد الطبراني وابن جرير عن أحمد بن ثابت الرازي كلاهما عن عبدالرزاق به مختصرا. وقال أبو بكر بن مردويه أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل أخبرنا بشر بن موسى أخبرنا أحمد بن محمد الأزرقي أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن عبدالملك بن جريج عن كثير بن كثير قال: كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان وعبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير في أعلى المسجد ليلا فقال سعيد بن جبير: سلوني قبل أن لا تروني فسألوه عن المقام فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس فذكر الحديث بطوله. ثم قال البخاري: حدثنا عبد اللّه بن محمد أخبرنا أبو عامر عبدالملك بن عمرو أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء نادته من وراءه يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى اللّه قالت رضيت بالله. قال: فرجعت فجعلت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا فذهبت فصعدت الصفا فنظرت هل تحس أحدا فلم تحس أحدا فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطا حتى أتمت سبعا ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقرها نفسها فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت فلم تحس أحدا حتى أتمت سبعا ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل فإذا هي بصوت فقالت: أغث إن كان عندك خير فإذا جبريل عليه السلام قال: فقال بعقبه هكذا وغمز عقبه على الأرض قال فانبثق الماء فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفر قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "لو تركته لكان الماء ظاهرا" فال فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها قال فمر ناس من جرهم ببطن الوادي فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك وقالوا ما يكون الطير إلا على ماء فبعثوا رسولهم فنظر فإذا هو بالماء فأتاهم فأخبرهم فأتوا إليها فقالوا: يا أم إسماعيل أتأذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك؟ فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة قال ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: إني مطلع تركتي قال فجاء فسلم فقال أين إسماعيل؟ قالت امرأته ذهب يصيد قال: قولي له إذا جاء غير عتبة بابك فلما أخبرته قال: أنت ذاك فاذهبي إلى أهلك قال ثم إنه بدا لإبراهيم فقال إن مطلع تركتي قال فجاء فقال أين إسماعيل؟ فقالت امرأته ذهب يصيد فقالت ألا تنزل فتطعم وتشرب فقال ما طعامكم وما شرابكم قالت طعامنا اللحم وشرابنا الماء قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "بركة بدعوة إبراهيم" قال ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله إني مطلع تركتي فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلا له فقال يا إسماعيل إن ربك عز وجل أمرني أن أبني له بيتا فقال أطع ربك عز وجل قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه فقال إذن أفعل - أو كما قال - قال فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" قال حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" هكذا رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء. والعجب أن الحافظ أبا عبدالله الحاكم رواه في كتابه المستدرك عن أبي العباس الأصم عن محمد بن سنان القزاز عن أبي علي عبيد الله بن عبدالحنفي عن إبراهيم بن نافع به وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه كذا قال وقد رواه البخاري كما ترى من حديث إبراهيم بن نافع وكأن فيه اختصارا فإنه لم يذكر فيه شأن الذبح وقد جاء في الصحيح أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة وقد جاء أن إبراهيم عليه السلام كان يزور أهله بمكة على البراق سريعا ثم يعود إلى أهله بالبلاد المقدسة والله أعلم والحديث - والله أعلم - إنما فيه مرفوع أماكن صرح بها ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا: أخبرنا مؤمل أخبرنا سفيان عن أبي إسحق عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس فكلمه قال: يا إبراهيم ابنِ علَى ظلي أو قال على قدْري ولا تزد ولا تنقص فلما بنى خرج وخلف إسماعيل وهاجر فقال هاجر يا إبراهيم إلى من تكلنا؟ قال إلى الله قالت: انطلق فإنه لا يضيعنا قال: فعطش إسماعيل عطشا شديدا قال: فصعدت هاجر إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا حتى أتت المروة فلم تر شيئا ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا ففعلت ذلك سبع مرات فقالت: يا إسماعيل مت حيث لا أراك فأتته وهو يفحص برجله من العطش فناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم قال: فإلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى اللّه قال: وكلكما إلى كاف قال: ففحص الأرض بأصبعه فنبعت زمزم فجعلت تحبس الماء فقال: دعيه فإنه روي ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما وقد يحتمل أنه كان محفوظا أن يكون أولا وضع له حوطا وتحجيرا لا أنه بناه إلى أعلاه حتى كبر إسماعيل فبنياه معا كما قال اللّه تعالى. ثم قال ابن جرير أخبرنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة أن رجلا قام إلى علي رضي الله عنه فقال ألا تخبرني عن البيت أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال لا؟ ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام إبراهيم من دخله كان آمنا وإن شئت أنبأتك كيف بني إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض فضاق إبراهيم بذلك ذرعا فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج ولها رأسان فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة فتطوت على موضع البيت كطي الجحفة وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فبنى إبراهيم وبقي الحجر فذهب الغلام يبغي شيئا فقال إبراهيم لا أبغني حجرا كما آمرك قال فانطلق الغلام يلتمس له حجرا فأتاه به فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه فقال: يا أبت من أتاك بهذا الحجر؟ فقال: أتاني به من لم يتكل على بنائك جاء به جبريل عليه السلام من السماء فأتماه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيد المقري أخبرنا سفيان عن بشر بن عاصم عن سعيد بن المسيب عن كعب الأحبار قال: كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق اللّه الأرض بأربعين عاما ومنه دحيت الأرض. قال سعيد: وحدثنا علي بن أبي طالب أن إبراهيم أقبل من أرض أرمينية ومعه السكينة تدله على تبوء البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتا وقال: فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إلا ثلاثون رجلا فقلت يا أبا محمد فإن اللّه يقول "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" قال كان ذلك بعد وقال السدي: إن اللّه عز وجل أمر إبراهيم أن يبني البيت هو وإسماعيل ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود. فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت فبعث الله ريحا يقال لها الريح الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية فكشفت لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس فذلك حين يقول تعالى "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن. قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه ههنا. قال يا أبت إني كسلان لغب. قال علي ذلك فانطلق يطلب له حجرا وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن فقال يا أبت من جاءك بهذا؟ قال جاء به من هو أنشط منك فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى إبراهيم ربه فقال "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" وفي هذا السـياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنيه قبل إبراهيم. وإنما هدي إبراهيم إليها وبوئ لها وقد ذهب إلى هذا ذاهبون كما قال الإمام عبدالرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك وقال عبدالرزاق أيضا أخبرنا هشام بن حسان عن سوار ختن عطاء عن عطاء ابن أبي رباح قال: لما أهبط آدم من الجنة كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء يسمع كلام أهل السماء ودعاؤهم يأنس إليهم فهابت الملائكة حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها فخفضه الله تعالى إلى الأرض فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته فوجه إلى مكة فكان موضع قدميه قرية وخطوه مفازة حتى انتهى إلى مكة وأنزل الله ياقوته من ياقوت الجنة فكانت على موضع البيت الآن فلم يزل يطوف به حتى أنزل اللّه الطوفان فرفعت تلك الياقوتة حتى بعث اللّه إبراهيم عليه السلام فبناه. وذلك قول الله تعالى "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" وقال عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج عن عطاء قال: قال آدم إني لا أسمع أصوات الملائكة قال بخطيئتك ولكن اهبط إلى الأرض فابن لي بيتا ثم أحفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل من حراء وطور زيتا وطور سيناء والجودي وكان ربضه من حراء فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم عليه السلام بعد وهذا صحيح إلى عطاء ولكن في بعضه نكارة واللّه أعلم. وقال عبدالرزاق أيضا أخبرنا معمر عن قتادة قال: وضع الله البيت مع آدم أهبط اللّه آدم إلى الأرض وكان مهبطه بأرض الهند وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض فكانت الملائكة تهابه فنقص إلى ستين ذراعا فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم فشكا ذلك إلى الله عز وجل فقال اللّه يا آدم إني قد أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي وتصلي عنده كما يصلي عند عرشي فانطلق إليه آدم فخرج ومد له في خطوه فكان بين كل خطوتين مفازة فلم تزل تلك المفازة بعد ذلك فأتى آدم البيت فطاف به ومن بعده من الأنبياء. وقال ابن جرير: أخبرنا ابن حميد أخبرنا يعقوب العمي عن حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس قال: وضع اللّه البيت على أركان الماء على أربعة أركان فبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت الأرض من تحت البيت وقال محمد بن إسحاق حدثني عبدالله بن أبي نجيح عن مجاهد وغيره من أهل العلم إن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام أو خرج معه بإسماعيل وبأمه هاجر وإسماعيل طفل صغير يرضع وحملوا فيما حدثني على البراق ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم وخرج معه جبريل فكان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذا أمرت يا جبريل ؟ فيقول جبريل أمضه حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه وسلم وسمر وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما ؟ قال نعم فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا فقال "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" إلى قوله "لعلهم يشكرون" وقال عبد الرزاق أخبرنا هشام بن حسان أخبرني حميد عن مجاهد قال: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا بألفي سنة وأركانه في الأرض السابعة وكذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد القواعد في الأرض السابعة وقال: ابن أبي حاتم حدثنا أبي أخبرنا عمر بن رافع أخبرنا عبد الوهاب بن معاوية عن عبد المؤمن بن خالد عن علياء بن أحمر أن ذا القرنين قدم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعد البيت من خمسة أجبل فقال مالكما ولأرضنا؟ فقال نحن عبدان مأموران أمرنا ببناء هذه الكعبة قالا فهاتا بالبينة على ما تدعينان فقامت خمسة أكبش فقلن نحن فشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران أمرا ببناء هذه الكعبة فقال قد رضيت وسلمت ثم مضى وذكر الأزرقي في تاريخ مكة إن ذا القرنين طاف مع إبراهيم عليه السلام بالبيت وهذا يدل على تقدم زمانه والله أعلم. وقال البخاري رحمه الله قوله تعالى "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" الآية القواعد أساسه واحدها قاعدة والقواعد من النساء واحدتها قاعدة حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبدالله أن عبدالله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبدالله بن عمر عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ألم تري أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم" فقلت يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال "لولا حدثان قومك بالكفر" فقال عبدالله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم عليه السلام وقد رواه في الحج عن القعنبي وفي أحاديث الأنبياء عن عبدالله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى ومن حديث ابن وهب والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم كلهم عن مالك به ورواه مسلم أيضا من حديث نافع قال سمعت عبدالله بن أبي بكر بن أبي قحافة يحدث عبدالله بن عمر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية - أو قال بكفر- لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها الحجر" وقال البخاري أخبرنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحق عن الأسود قال: قال لي ابن الزبير كانت عائشة تسر إليك حديثا كثيرا فما حدثتك فى الكعبة قال: قلت قالت لي قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم - فقال ابن الزبير بكفر - لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين بابا يدخل منه الناس وبابا يخرجون منه" ففعله ابن الزبير انفرد بإخراجه البخاري فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه وقال مسلم في صحيحه حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ولجعلت لها خلفا" قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا أخبرنا ابن نمير عن هشام بهذا الإسناد انفرد به مسلم: قال وحدثني محمد بن حاتم حدثني محمد بن مهدي أخبرنا سليم بن حبان عن سعيد يعني بن ميناء قال: سمعت عبدالله بن الزبير يقول حدثتني خالتي يعني عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا قومك حديث عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة" انفرد به أيضا. "ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل عليه السلام بمدد طويلة وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين" وقد نفل معهم في الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين قال: قال محمد بن إسحق بن يسار في السيرة: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها وإنما كانت رضما فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى بني مليح بن عمرو من خزاعة فقطعت قريش يده ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها وكانت حية تخرج من بئر الكعبة إلي كانت تطرح فيها ما يهدى لها كل يوم فتشرف على جدار الكعبة وكانت مما يهابون وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها فبينا هي يوما تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله إليها طائرا فاختطفها فذهب بها فقالت قريش إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام بن وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس قال ابن إسحق والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم قال ثم إن فريشا تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم وكان شق الحجر لبني عبدالدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه فقال الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول اللهم لم ترع اللهم إنا لا نريد إلا الخير ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة وقالوا ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله فهدم وهدم الناس معه حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم عليه السلام أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضا: قال فحدثني بعض من يروي الحديث بأن رجلا من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضا أحدهما فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس. قال بن إسحق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن يعني الحجر الأسود فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا "لقعة الدم" فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم وكان عامئذ أسن قريش كلهم قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوبا فأتي به فأخذ الركن يعني الحجر الأسود فوضعه فيه بيده ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ثم بنى عليه وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي "الأمين" فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها: عجبت لما تصوبت العقاب إلى الثعبان وهي لهـا اضـطراب وقد كانت يكون لها كشيش وأحيانا يكون لها وثاب إذا قمنا إلى التأسيس شدت تهيبنا البناء وقد تهاب فلما أن خشينا الرجز جاءت عقاب تتلئب لها أنصباب فضمتها إليها ثـم خلت لنا البنيان ليس له حجاب فقمنا حاشدين إلى بناء لنا منه القواعد والتراب غداة نرفع التأسيس منه وليس على مساوينا ثياب أعز به المليك بني لؤي فليس لأصله منهم ذهاب وقد حشدت هناك بنو عدي ومرة قد تقدمهـا كلاب فبوأنا المليك بذاك عزا وعند الله يلتمس الثواب قال ابن إسحاق وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشر ذراعا وكانت تكسى القباطي ثم كسيت بعد البرود وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف. "قلت" ولم تزل على بناء قريش حتى أحترقت في أول إمارة عبدالله بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية لما حاصروا ابن الزبير فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابا شرقيا وبابا غربيا ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبدالملك بن مروان له بذلك كما قال مسلم بن الحجاج فى صحيحه أخبرنا هناد بن السري أخبرنا ابن أبي زائدة أخبرنا ابن أبي سليمان عن عطاء قال لما أحترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان تركه بن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم أو يجيروهم على أهل الشام فلما صدر الناس: قال يا أيها الناس أشيروا علي في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهى منها؟ قال بن عباس إنه قد خرق لي رأى فيها أرى أن تصلح ما وهى منها وتدع بيتا أسلم الناس عليه وأحجار أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال ابن الزبير لو كان أحدهم أحترق بيته ما رضي حتى يجدده فكيف بيت ربكم عز وجل إنى مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمري فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى أرتفع بناؤه وقال بن الزبير إنى سمعت عائشة رضي الله عنها تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم: قال "لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ولجعلت له بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه" قال فأنا أجد ما أنفق ولست أخاف الناس قال: فزاد فيه خمسه أذرع من الحجر حتى أبدى له أسا نظر الناس إليه فبنى عليه البناء وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعا فلما زاد فيه أستقصره فزاد في طوله عشرة أذرع وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه فلما قتل بن الزبير كتب الحجاج إلى عبدالملك يستجيزه بذلك ويخبره أن بن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة فكتب إليه عبدالملك إنا لسنا من تلطيخ بن الزبير فى شيء أما ما زاده في طوله فأقره وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه فنقضه وأعاده إلى بنائه وقد رواه النسائي في سننه عن هناد عن يحيى بن أبي زائدة عن عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء عن بن الزبير عن عائشة بالمرفوع منه ولم يذكر القصة وقد كانت السنة أقرارا ما فعله عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما لأنه هو الذي وده رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر ولكن خفيت هذه السنة على عبدالملك بن مروان ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وددنا أنا تركناه وما تولى كما قال مسلم: حدثني محمد بن حاتم حدثنا محمد بن بكر أخبرنا بن جريج سمعت عبدالله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء يحدثان عن الحارث بن عبدالله بن أبي ربيعة قال: عبدالله بن عبيد: وفد الحارث بن عبيد الله على عبدالملك بن مروان في خلافته فقل عبدالملك: ما أظن أبا حبيب يعني بن الزبير سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها قال الحارث بلى أنا سمعته منها قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه" فأراها قريبا من سبعة أذرع هذا حديث عبدالله بن عبيد بن عمير وزاد عليه الوليد بن عطاء قال النبي صلى الله عليه وسلم "ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيا وغربيا وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها". قالت: قلت لا قال "تعززا أن لا يدخلها إلا من أرادوا فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه حتى يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط" قال عبدالملك فقلت للحارث أنت سمعتها تقول هذا؟ قال نعم قال فنكت ساعة بعصاه ثم قال وددت أنى تركت وما تحمل قال مسلم وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة حدثنا أبو عاصم ح وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق كلاهما عن بن جريج بهذا الإسناد مثل حديث أبي بكر قال: وحدثنا محمد بن حاتم حدثنا عبدالله بن بكر السهمي حدثنا حاتم بن أبي صغيرة عن أبي قزعة أن عبدالملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين يقول سمعتها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة حتى أزيد فيها من الحجر فإن قومك قصروا في البناء" فقال الحارث بن عبدالله بن أبي ربيعة لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فإنى سمعت أم المؤمنين تحدث هذا. قال لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة لأنه قد روي عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد والحارث بن عبدالله بن أبي ربيعة وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير فدل هذا على صواب ما فعله بن الزبير فلو ترك لكان جيدا ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال فقد كره بعض العلماء أن يغير عن حاله كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي أنه سأل الإمام مالكا عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله بن الزبير فقال له مالك يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها فترك ذلك الرشيد نقله عياض والنووي ولا تزال - والله أعلم - هكذا إلى آخر الزمان إلى أن يخربها ذو السويقتين من الحبشة كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" أخرجاه وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "كأني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا" رواه البخاري وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده أخبرنا أحمد بن عبدالملك الحراني أخبرنا محمد بن سلمة عن بن إسحق عن بن أبي نجيح عن مجاهد عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله" - الفدع زيغ بين القدم وعظم الساق - وهذا والله أعلم إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج لما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج". | ابن كثير | 2:127 |
واذكر -أيها النبي- حين رفع إبراهيم وإسماعيل أسس الكعبة، وهما يدعوان الله في خشوع: ربنا تقبل منَّا صالح أعمالنا ودعاءنا، إنك أنت السميع لأقوال عبادك، العليم بأحوالهم. | المیسر | 2:127 |
هذه منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام ، وتذكيرٌ بشرف الكعبة ، ووسيلة ثالثة إلى التعريض بالمشركين بعد قوله : { ربنا واجعلنا مُسْلِمَيْننِ لك ومن ذريتنا أُمَّةً مُسلمة } [ البقرة : 128 ] إلخ ، وتمهيد للرد على اليهود إنكارهم استقبال الكعبة الذي يجيء عند قوله تعالى : { سيقول السفهاء } [ البقرة : 142 ] ولأجل استقلالها بهاته المقاصد الثلاثة التي تضمنتها الآيات قبلها عطفت على سوابقها مع الاقتران بإذْ تنبيهاً على الاستقلال .وخولف الأسلوب الذي يقتضيه الظاهر في حكاية الماضي أن يكون بالفعل الماضي بأن يقول وإذ رفع إلى كونه بالمضارع لاستحضارِ الحالة وحكايتها كأنها مشاهدة لأن المضارع دال على زمن الحال فاستعماله هنا استعارة تبعية ، شبه الماضي بالحال لشهرته ولتكرر الحديث عنه بينهم فإنهم لحبهم إبراهيم وإجلالهم إياه لا يزالون يذكرون مناقبه وأعظمها بناء الكعبة فشبه الماضي لذلك بالحال ولأن ما مضى من الآيات في ذكر إبراهيم من قوله : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه } [ البقرة : 124 ] إلى هنا مما يوجب امتلاء أذهان السامعين بإبراهيم وشؤونه حتى كأنه حاضر بينهم وكأن أحواله حاضرة مشاهدة ، وكلمة ( إذ ) قرينة على هذا التنزيل لأن غالب الاستعمال أن يكون للزمن الماضي وهذا معنى قول النحاة أن إذ تخلص المضارع إلى الماضي .والقواعد جمع قاعدة وهي أساس البناء الموالي للأرض الذي به ثبات البناء أطلق عليها هذا اللفظ لأنها أشبهت القاعد في اللصوق بالأرض فأصل تسمية القاعدة مجاز عن اللصوق بالأرض ثم عن إرادة الثبات في الأرض وهاء التأنيث فيها للمبالغة مثل هاء علاَّمة .ورفع القواعد إبرازها من الأرض والاعتلاء بها لتصير جداراً لأن البناء يتصل بعضه ببعض ويصير كالشيء الواحد فالجدار إذا اتصل بالأساس صار الأساس مرتفعاً ، ويجوز جعل القواعد بمعنى جدران البيت كما سموها بالأركان ورفعها إطالتها ، وقد جعل ارتفاع جدران البيت تسعة أذرع . ويجوز أن يفاد من اختيار مادة الرفع دون مادة الإطالة ونحوها معنى التشريف ، وفي إثبات ذلك للقواعد كناية عن ثبوته للبيت ، وفي إسناد الرفع بهذا المعنى إلى إبراهيم مجاز عقلي لأن إبراهيم سبب الرفع المذكور أي بدعائه المقارن له . وعطف إسماعيل على إبراهيم تنويه به إذ كان معاونه ومناوله .وللإشارة إلى التفاوت بين عمل إبراهيم وعمل إسماعيل أوقع العطف على الفاعل بعد ذكر المفعول والمتعلقات ، وهذا من خصوصيات العربية في أسلوب العطف فيما ظهر لي ولا يحضرني الآن مثله في كلام العرب ، وذلك أنك إذا أردت أن تدل على التفاوت بين الفاعلين في صدور الفعل تجعل عطف أحدهما بعد انتهاء ما يتعلق بالفاعل الأول ، وإذا أردت أن تجعل المعطوف والمعطوف عليه سواء في صدور الفعل تجعل المعطوف موالياً للمعطوف عليه .وإسماعيل اسم الابن البكر لإبراهيم عليه السلام وهو ولده من جاريته هاجر القبطية ، ولد في أرض الكنعانيين بين قادش وبارد سنة 1910 عشر وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح .ومعنى إسماعيل بالعبرية سمع الله أي إجابة الله لأن الله استجاب دعاء أمه هاجر إذ خرجت حاملاً بإسماعيل مفارقة الموضع الذي فيه سارة مولاتها حين حدث لسارة من الغيرة من هاجر لما حملت هاجر ولم يكن لسارة أبناء يومئذ ، وقيل هو معرب عن يشمعيل بالعبرانية ومعناه الذي يسمع له الله ، ولما كبر إسماعيل رأى إبراهيم رؤيا وحي أن يذبحه فعزم على ذبحه ففداه الله ، وإسماعيل يومئذ الابن الوحيد لإبراهيم قبل ولادة إسحاق ، وكان إسماعيل مقيماً بمكة حول الكعبة ، وتوفي بمكة سنة 1773 ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح تقريباً ، ودفن بالحجر الذي حول الكعبة .وجملة { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } مقول قول محذوف يقدر حالاً من { يرفع إبراهيم } وهذا القول من كلام إبراهيم لأنه الذي يناسبه الدعاء لذريته لأن إسماعيل كان حينئذ صغيراً .والعدول عن ذكر القول إلى نطق المتكلم بما قاله المحكي عنه هو ضرب من استحضار الحالة قد مهد له الإخبار بالفعل المضارع في قوله : { وإذ يرفع } حتى كأن المتكلم هو صاحب القول وهذا ضرب من الإيغال .وجملة { إنك أنت السميع العليم } تعليل لطلب التقبل منهما ، وتعريف جزءي هذه الجملة والإتيان بضمير الفصل يفيد قصرين للمبالغة في كمال الوصفين له تعالى بتنزيل سمع غيره وعلم غيره منزلة العدم . ويجوز أن يكون قصراً حقيقياً باعتبار متعلق خاص أي السميع العليم لدعائنا لا يعلمه غيرك وهذا قصر حقيقي مقيد وهو نوع مغاير للقصر الإضافي لم ينبه عليه علماء المعاني . | Arabic Tanweer Tafseer | 2:127 |
ثم حكى القرآن دعوة ثالثة تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ) .القواعد : جمع قاعدة ، وهي أساس البناء الموالي للأرض ، وبها يكون ثبات البناء . ورفعها : إبرازها عن الأرض بالبناء عليها . والمراد بالبيت الكعبة .والتقبل : القبول ، وقبول الله للعمل أن يرضاه أو يثيب عليه .والمعنى : واذكر يا محمد ما صدر من الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل فقد كانا وهما يقومان يرفع قواعد الكعبة إلى ويقولان : يا ربنا تقبل منا أقوالنا وأعمالنا ، إنك أنت السميع العليم .وتصدير الدعاء بندائه - سبحانه - باسم الرب المضاف إلى ضميها مظهر من مظاهر خضوعهما ، وإجلالهما لمقامه ، والخضوع له - سبحانه - وإجلال مقامه من أسنى الآداب التي تجعل الدعاء بمقربة من الاستجابة .وعبر بالمضارع فقال : ( وَإِذْ يَرْفَعُ ) مع أن رفع القواعد كان قبل نزول الآية ، وذلك ليخرجه في صورة الحاضر في الواقع لأهميته .وختما دعاءهما بذكر اسمين من أسمائه الحسنى ، ليؤكدا أن رجاءهما في استجابة دعائهما وثيق ، وأن ما عملاه ابتغاء مرضاته جدير بالقبول . لأن من كان سمعياً عليماً بنيات الداعين وصدق ضمائرهم ، كان تفضله باستجابة دعاء المخلصين في طاعته غير بعيد . | Arabic Waseet Tafseer | 2:127 |
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل } يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت } وَاذْكُرُوا إذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت . وَالْقَوَاعِد جَمْع قَاعِدَة , يُقَال لِلْوَاحِدَةِ مِنْ قَوَاعِد الْبَيْت قَاعِدَة , وَلِلْوَاحِدَةِ مِنْ قَوَاعِد النِّسَاء وَعَجَائِزهنَّ قَاعِد , فَتُلْغَى هَاء التَّأْنِيث ; لِأَنَّهَا فَاعِل مِنْ قَوْل الْقَائِل : قَعَدْت عَنْ الْحَيْض , وَلَا حَظّ فِيهِ لِلذُّكُورَةِ , كَمَا يُقَال : امْرَأَة طَاهِر وَطَامِث ; لِأَنَّهُ لَا حَظّ فِي ذَلِكَ لِلذُّكُورِ . وَلَوْ عَنَى بِهِ الْقُعُود الَّذِي هُوَ خِلَاف الْقِيَام لَقِيلَ قَاعِدَة , وَلَمْ يَجُزْ حِينَئِذٍ إسْقَاط هَاء التَّأْنِيث . وَقَوَاعِد الْبَيْت : أَسَاسه . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْقَوَاعِد الَّتِي رَفَعَهَا إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل مِنْ الْبَيْت , أَهُمَا أَحْدَثَا ذَلِكَ , أَمْ هِيَ قَوَاعِد كَانَتْ لَهُ قَبْلهمَا ؟ فَقَالَ قَوْم : هِيَ قَوَاعِد بَيْت كَانَ بَنَاهُ آدَم أَبُو الْبَشَر بِأَمْرِ اللَّه إيَّاهُ بِذَلِكَ , ثُمَّ دُرِسَ مَكَانه وَتَعَفَّى أَثَره بَعْده حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّه إبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام , فَبَنَاهُ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1677 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاء , قَالَ : قَالَ آدَم : يَا رَبّ إنِّي لَا أَسْمَع أَصْوَات الْمَلَائِكَة ! قَالَ : بِخَطِيئَتِك , وَلَكِنْ اهْبِطْ إلَى الْأَرْض وَابْن لِي بَيْتًا , ثُمَّ اُحْفُفْ بِهِ كَمَا رَأَيْت الْمَلَائِكَة تَحُفّ بِبَيْتِي الَّذِي فِي السَّمَاء . فَيَزْعُم النَّاس أَنَّهُ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَة أَجْبُل : مِنْ حِرَاء , وَطُور زَيْتَا , وَطُور سِينَا , وَجَبَل لُبْنَان , وَالْجُودِيّ , وَكَانَ رُبَضه مِنْ حِرَاء ; فَكَانَ هَذَا بِنَاء آدَم حَتَّى بَنَاهُ إبْرَاهِيم بَعْد . 1678 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ أَيُّوب , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت } قَالَ : الْقَوَاعِد الَّتِي كَانَتْ قَوَاعِد الْبَيْت قَبْل ذَلِكَ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ هِيَ قَوَاعِد بَيْت كَانَ اللَّه أَهْبَطَهُ لِآدَم مِنْ السَّمَاء إلَى الْأَرْض , يَطُوف بِهِ كَمَا كَانَ يَطُوف بِعَرْشِهِ فِي السَّمَاء , ثُمَّ رَفَعَهُ إلَى السَّمَاء أَيَّام الطُّوفَان , فَرَفَعَ إبْرَاهِيم قَوَاعِد ذَلِكَ الْبَيْت . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1679 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : ثنا عَبْد الْوَهَّاب , قَالَ : ثنا أَيُّوب , عَنْ أَبِي قِلَابَةَ , عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ : لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ الْجَنَّة قَالَ : إنِّي مُهْبِط مَعَك - أَوْ مُنْزِل - مَعَك بَيْتًا يُطَاف حَوْله , كَمَا يُطَاف حَوْل عَرْشِي , وَيُصَلَّى عِنْده , كَمَا يُصَلَّى عِنْد عَرْشِي . فَلَمَّا كَانَ زَمَن الطُّوفَان رُفِعَ , فَكَانَتْ الْأَنْبِيَاء يَحُجُّونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ مَكَانه , حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ وَأَعْلَمهُ مَكَانه , فَبَنَاهُ مِنْ خَمْسَة أَجْبُل : مِنْ حِرَاء , وَثَبِير , وَلُبْنَان , وَجَبَل الطُّور , وَجَبَل الْخَمْر . * حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا إسْمَاعِيل بْن عُلَيَّة , قَالَ : ثنا أَيُّوب , عَنْ أَبِي قِلَابَةَ , قَالَ : لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ , ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوه . 1680 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا هِشَام بْن حَسَّان , عَنْ سَوَّار , عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح , قَالَ : لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ الْجَنَّة كَانَ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْض وَرَأْسه فِي السَّمَاء , يَسْمَع كَلَام أَهْل السَّمَاء وَدُعَاءَهُمْ , يَأْنَس إلَيْهِمْ , فَهَابَتْهُ الْمَلَائِكَة حَتَّى شَكَتْ إلَى اللَّه فِي دُعَائِهَا وَفِي صَلَاتهَا , فَخَفَضَهُ إلَى الْأَرْض ; فَلَمَّا فَقَدَ مَا كَانَ يَسْمَع مِنْهُمْ , اسْتَوْحَشَ حَتَّى شَكَا ذَلِكَ إلَى اللَّه فِي دُعَائِهِ وَفِي صَلَاته , فَوُجِّهَ إلَى مَكَّة , فَكَانَ مَوْضِع قَدَمه قَرْيَة وَخَطْوه مَفَازَة , حَتَّى انْتَهَى إلَى مَكَّة . وَأَنْزَلَ اللَّه يَاقُوتَة مِنْ يَاقُوت الْجَنَّة , فَكَانَتْ عَلَى مَوْضِع الْبَيْت الْآن , فَلَمْ يَزَلْ يَطُوف بِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه الطُّوفَان , فَرُفِعَتْ تِلْكَ الْيَاقُوتَة , حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ فَبَنَاهُ , فَذَلِكَ قَوْل اللَّه : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت } . 22 26 1681 - حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة , قَالَ : وَضَعَ اللَّه الْبَيْت مَعَ آدَم حِين أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ إلَى الْأَرْض , وَكَانَ مَهْبِطه بِأَرْضِ الْهِنْد , وَكَانَ رَأْسه فِي السَّمَاء وَرِجْلَاهُ فِي الْأَرْض , فَكَانَتْ الْمَلَائِكَة تَهَابهُ , فَنَقَصَ إلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا . فَحَزِنَ آدَم إذْ فَقَدَ أَصْوَات الْمَلَائِكَة وَتَسْبِيحهمْ فَشَكَا ذَلِكَ إلَى اللَّه تَعَالَى فَقَالَ اللَّه : يَا آدَم إنِّي قَدْ أَهَبْت إلَيْك بَيْتًا تَطُوف بِهِ كَمَا يُطَاف حَوْل عَرْشِي , وَتُصَلِّي عِنْده كَمَا يُصَلَّى عِنْد عَرْشِي . فَانْطَلَقَ إلَيْهِ آدَم فَخَرَجَ , وَمُدّ لَهُ فِي خَطْوه , فَكَانَ بَيْن كُلّ خُطْوَتَيْنِ مَفَازَة , فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ الْمَفَاوِز بَعْد ذَلِكَ , فَأَتَى آدَم الْبَيْت وَطَافَ بِهِ وَمَنْ بَعْده مِنْ الْأَنْبِيَاء . 1682 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ أَبَانَ : أَنَّ الْبَيْت أُهْبِطَ يَاقُوتَة وَاحِدَة أَوْ دِرَّة وَاحِدَة , حَتَّى إذَا أَغْرَقَ اللَّه قَوْم نُوح رَفَعَهُ وَبَقِيَ أَسَاسه , فَبَوَّأَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيم , فَبَنَاهُ بَعْد ذَلِكَ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ كَانَ مَوْضِع الْبَيْت رَبْوَة حَمْرَاء كَهَيْئَةِ الْقُبَّة . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه لَمَّا أَرَادَ خَلْق الْأَرْض عَلَا الْمَاء زُبْدَة حَمْرَاء أَوْ بَيْضَاء , وَذَلِكَ فِي مَوْضِع الْبَيْت الْحَرَام . ثُمَّ دَحَا الْأَرْض مِنْ تَحْتهَا , فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّه إبْرَاهِيم , فَبَنَاهُ عَلَى أَسَاسه . وَقَالُوا : عَلَى أَرْكَان أَرْبَعَة فِي الْأَرْض السَّابِعَة . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1683 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ جَرِير بْن حَازِم , حَدَّثَنِي حُمَيْد بْن قَيْس , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : كَانَ مَوْضِع الْبَيْت عَلَى الْمَاء قَبْل أَنْ يَخْلُق اللَّه السَّمَوَات وَالْأَرْض , مِثْل الزُّبْدَة الْبَيْضَاء , وَمِنْ تَحْته دُحِيَتْ الْأَرْض . 1684 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ , أَخْبَرَنَا ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ عَطَاء وَعَمْرو بْن دِينَار : بَعَثَ اللَّه رِيَاحًا فَصَفَّقَتْ الْمَاء , فَأُبْرِزَتْ فِي مَوْضِع الْبَيْت عَنْ حَشَفَة كَأَنَّهَا الْقُبَّة , فَهَذَا الْبَيْت مِنْهَا فَلِذَلِك هِيَ أُمّ الْقُرَى . قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : قَالَ عَطَاء : ثُمَّ وَتَدهَا بِالْجِبَالِ كَيْ لَا تُكْفَأ بِمَيْدِ , فَكَانَ أَوَّل جَبَل " أَبُو قُبَيْس " . 1685 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا يَعْقُوب الْقَمِّيّ , عَنْ حَفْص بْن حُمَيْد , عَنْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس قَالَ : وُضِعَ الْبَيْت عَلَى أَرْكَان الْمَاء عَلَى أَرْبَعَة أَرْكَان قَبْل أَنْ تُخْلَق الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ عَام , ثُمَّ دُحِيَتْ الْأَرْض مِنْ تَحْت الْبَيْت . 1686 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا يَعْقُوب , عَنْ هَارُونَ بْن عَنْتَرَة , عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح , قَالَ : وَجَدُوا بِمَكَّة حَجَرًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ : " إنِّي أَنَا اللَّه ذُو بَكَّة بَنَيْته يَوْم صَنَعْت الشَّمْس وَالْقَمَر , وَحَفَفْته بِسَبْعَةِ أَمْلَاك حَفًّا " . 1687 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي يَحْيَى , عَنْ مُجَاهِد وَغَيْره مِنْ أَهْل الْعِلْم : أَنَّ اللَّه لَمَّا بَوَّأَ إبْرَاهِيمَ مَكَان الْبَيْت , خَرَجَ إلَيْهِ مِنْ الشَّام , وَخَرَجَ مَعَهُ بِإِسْمَاعِيل وَأُمّه هَاجَر , وَإِسْمَاعِيل طِفْل صَغِير يَرْضِع , وَحَمَلُوا - فِيمَا حَدَّثَنِي - عَلَى الْبُرَاق وَمَعَهُ جِبْرِيل يَدُلّهُ عَلَى مَوْضِع الْبَيْت وَمَعَالِم الْحَرَم . فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ جِبْرِيل , فَقَالَ : كَانَ لَا يَمُرّ بِقَرْيَةِ إلَّا قَالَ : أَبِهَذِهِ أَمَرْت يَا جِبْرِيل ؟ فَيَقُول جِبْرِيل : امْضِهِ ! حَتَّى قَدِمَ بِهِ مَكَّة , وَهِيَ إذْ ذَاكَ عِضَاه سِلْم وَسَمَر يَرُبّهَا أُنَاس يُقَال لَهُمْ الْعَمَالِيق خَارِج مَكَّة وَمَا حَوْلهَا , وَالْبَيْت يَوْمئِذٍ رَبْوَة حَمْرَاء مَدَرَة , فَقَالَ إبْرَاهِيم لِجِبْرِيل : أَهَهُنَا أُمِرْت أَنْ أَضَعهُمَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ! فَعَمَدَ بِهِمَا إلَى مَوْضِع الْحَجَر فَأَنْزَلَهُمَا فِيهِ , وَأَمَرَ هَاجَرَ أُمّ إسْمَاعِيل أَنْ تَتَّخِذ فِيهِ عَرِيشًا , فَقَالَ : { رَبّنَا إنِّي أَسْكَنْت مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْر ذِي زَرْع عِنْد بَيْتك الْمُحَرَّم } 14 37 إلَى قَوْله : { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } . 14 37 قَالَ ابْن حُمَيْد : قَالَ سَلَمَة : قَالَ ابْن إسْحَاق : وَيَزْعُمُونَ - وَاَللَّه أَعْلَم - أَنَّ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَة أَتَى هَاجَرَ أُمّ إسْمَاعِيل , حِين أَنْزَلَهُمَا إبْرَاهِيم مَكَّة قَبْل أَنْ يَرْفَع إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت , فَأَشَارَ لَهُمَا إلَى الْبَيْت , وَهُوَ رَبْوَة حَمْرَاء مَدَرَة , فَقَالَ لَهُمَا : هَذَا أَوَّل بَيْت وُضِعَ فِي الْأَرْض , وَهُوَ بَيْت اللَّه الْعَتِيق , وَاعْلَمِي أَنَّ إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل هُمَا يَرْفَعَانِهِ . فَاَللَّه أَعْلَم . 1688 - حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا هِشَام بْن حَسَّان , قَالَ : أَخْبَرَنِي حُمَيْد , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : خَلَقَ اللَّه مَوْضِع هَذَا الْبَيْت قَبْل أَنْ يَخْلُق شَيْئًا مِنْ الْأَرْض بِأَلْفَيْ سَنَة , وَأَرْكَانه فِي الْأَرْض السَّابِعَة . 1689 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن عُيَيْنَةَ , قَالَ : أَخْبَرَنِي بِشْر بْن عَاصِم , عَنْ ابْن الْمُسَيِّب , قَالَ : حَدَّثَنَا كَعْب أَنَّ الْبَيْت كَانَ غُثَاءَة عَلَى الْمَاء قَبْل أَنْ يَخْلُق اللَّه الْأَرْض بِأَرْبَعِينَ سَنَة , وَمِنْهُ دُحِيَتْ الْأَرْض . قَالَ : وَحَدَّثَنَا عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب أَنَّ إبْرَاهِيم أَقْبَلَ مِنْ أَرْمِينِيَّة مَعَهُ السَّكِينَة , تَدُلّهُ عَلَى تَبَوُّء الْبَيْت كَمَا تَتَبَوَّأ الْعَنْكَبُوت بَيْتهَا . قَالَ : فَرَفَعَتْ عَنْ أَحْجَار تُطِيقهُ - أَوْ لَا تُطِيقهُ - ثَلَاثُونَ رَجُلًا . قَالَ : قُلْت يَا أَبَا مُحَمَّد , فَإِنَّ اللَّه يَقُول : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت } قَالَ : كَانَ ذَاكَ بَعْد . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ عِنْدنَا أَنْ يُقَال : إنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره أَخْبَرَ عَنْ إبْرَاهِيم خَلِيله أَنَّهُ وَابْنه إسْمَاعِيل رَفَعَا الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت الْحَرَام . وَجَائِز أَنْ يَكُون ذَلِكَ قَوَاعِد بَيْت كَانَ أَهْبَطَهُ مَعَ آدَم , فَجَعَلَهُ مَكَان الْبَيْت الْحَرَام الَّذِي بِمَكَّة . وَجَائِز أَنْ يَكُون ذَلِكَ كَانَ الْقُبَّة الَّتِي ذَكَرهَا عَطَاء مِمَّا أَنْشَأَهُ اللَّه مِنْ زَبَد الْمَاء . وَجَائِز أَنْ يَكُون كَانَ يَاقُوتَة أَوْ دُرَّة أُهْبِطَا مِنْ السَّمَاء . وَجَائِز أَنْ يَكُون كَانَ آدَم بَنَاهُ ثُمَّ انْهَدَمَ حَتَّى رَفَعَ قَوَاعِده إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل . وَلَا عِلْم عِنْدنَا بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَيّ ; لِأَنَّ حَقِيقَة ذَلِكَ لَا تُدْرَك إلَّا بِخَبَرِ عَنْ اللَّه وَعَنْ رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيض , وَلَا خَبَر بِذَلِكَ تَقُوم بِهِ الْحُجَّة فَيَجِب التَّسْلِيم لَهَا , وَلَا هُوَ إذْ لَمْ يَكُنْ بِهِ خَبَر عَلَى مَا وَصَفْنَا مِمَّا يَدُلّ عَلَيْهِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْمَقَايِيس فَيُمَثَّل بِغَيْرِهِ , وَيُسْتَنْبَط عِلْمه مِنْ جِهَة الِاجْتِهَاد , فَلَا قَوْل فِي ذَلِكَ هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مَا قُلْنَا . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّاالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِذَلِكَ : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل } يَقُولَانِ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود , وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1690 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ , قَالَ : يَبْنِيَانِ وَهُمَا يَدْعُوَانِ الْكَلِمَات الَّتِي ابْتَلَى بِهَا إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ , قَالَ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَك وَمِنْ ذُرِّيَّتنَا أُمَّة مُسْلِمَة لَك } { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } . 1691 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : أَخْبَرَنِي ابْن كَثِير , قَالَ : ثنا سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيلُ } قَالَ : هُمَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت , وَيَقُولَانِ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } قَالَ : وَإِسْمَاعِيل يَحْمِل الْحِجَارَة عَلَى رَقَبَته وَالشَّيْخ يَبْنِي . فَتَأْوِيل الْآيَة عَلَى هَذَا الْقَوْل : وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل قَائِلَيْنِ : رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ قَائِل ذَلِكَ كَانَ إسْمَاعِيل . فَتَأْوِيل الْآيَة عَلَى هَذَا الْقَوْل : وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت , وَإِذْ يَقُول إسْمَاعِيل : رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا . فَيَصِير حِينَئِذٍ إسْمَاعِيل مَرْفُوعًا بِالْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْده , و " يَقُول " حِينَئِذٍ خَبَر لَهُ دُون إبْرَاهِيم . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الَّذِي رَفَعَ الْقَوَاعِد بَعْد إجْمَاعهمْ عَلَى أَنَّ إبْرَاهِيم كَانَ مِمَّنْ رَفَعَهَا , فَقَالَ بَعْضهمْ : رَفَعَهَا إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل جَمِيعًا . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1692 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { وَعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ } قَالَ : فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيم حَتَّى أَتَى مَكَّة , فَقَامَ هُوَ وَإِسْمَاعِيل وَأَخَذَا الْمَعَاوِل لَا يَدْرِيَانِ أَيْنَ الْبَيْت , فَبَعَثَ اللَّه رِيحًا يُقَال لَهَا رِيح الْخُجُوج , لَهَا جَنَاحَانِ وَرَأْس فِي صُورَة حَيَّة . فَكَنَسَتْ لَهُمَا مَا حَوْل الْكَعْبَة , وَعَنْ أَسَاس الْبَيْت الْأَوَّل , وَاتَّبَعَاهَا بِالْمَعَاوِلِ يَحْفِرَانِ حَتَّى وَضَعَا الْأَسَاس ; فَذَلِكَ حِين يَقُول : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت } . 22 36 فَلَمَّا بَنَيَا الْقَوَاعِد فَبَلَغَا مَكَان الرُّكْن قَالَ إبْرَاهِيم لِإِسْمَاعِيل : يَا بُنَيّ اُطْلُبْ لِي حَجَرًا حَسَنًا أَضَعهُ هَهُنَا ! قَالَ : يَا أَبَت إنِّي كَسْلَان تَعِب ! قَالَ : عَلَيَّ بِذَلِكَ ! فَانْطَلَقَ فَطَلَب لَهُ حَجَرًا فَجَاءَهُ بِحَجَرِ , فَلَمْ يَرْضَهُ , فَقَالَ : ائْتِنِي بِحَجَرِ أَحْسَن مِنْ هَذَا ! فَانْطَلَقَ فَطَلَب لَهُ حَجَرًا ; وَجَاءَهُ جِبْرِيل بِالْحَجَرِ الْأَسْوَد مِنْ الْهِنْد , وَكَانَ أَبْيَض يَاقُوتَة بَيْضَاء مِثْل الثِّغَامَة , وَكَانَ آدَم هَبَطَ بِهِ مِنْ الْجَنَّة فَاسْوَدَّ مِنْ خَطَايَا النَّاس , فَجَاءَهُ إسْمَاعِيل بِحَجَرِ فَوَجَدَهُ عِنْد الرُّكْن , فَقَالَ : يَا أَبَت مَنْ جَاءَ بِهَذَا ؟ فَقَالَ : مَنْ هُوَ أَنْشَط مِنْك . فَبَنَيَاهُ . 1693 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق , عَنْ عَمْرو بْن عَبْد اللَّه بْن عُتْبَةَ , عَنْ عُبَيْد بْن عُمَيْر اللَّيْثِيّ , قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل هُمَا رَفَعَا قَوَاعِد الْبَيْت . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ رَفَعَ قَوَاعِد الْبَيْت إبْرَاهِيمُ , وَكَانَ إسْمَاعِيلُ يُنَاوِلهُ الْحِجَارَة . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1694 - حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن ثَابِت الرَّازِيّ , قَالَ : ثنا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ أَيُّوب , وَكَثِير بْن كَثِير بْن الْمُطَّلِب بْن أَبِي وَدَاعَة , يَزِيد أَحَدهمَا عَلَى الْآخَر , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : جَاءَ إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل يَبْرِي نَبْلًا قَرِيبًا مِنْ زَمْزَم . فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إلَيْهِ , فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَع الْوَالِد بِالْوَلَدِ , وَالْوَلَد بِالْوَالِدِ , ثُمَّ قَالَ : يَا إسْمَاعِيل إنَّ اللَّه أَمَرَنِي بِأَمْرِ , قَالَ : فَاصْنَعْ مَا أَمَرَك رَبّك ! قَالَ : وَتُعِيننِي ؟ قَالَ : وَأُعِينك . قَالَ : فَإِنَّ اللَّه أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِي هَهُنَا بَيْتًا ! وَأَشَارَ إلَى الْكَعْبَة , وَالْكَعْبَة مُرْتَفِعَة عَلَى مَا حَوْلهَا . قَالَ : فَعِنْد ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت . قَالَ : فَجَعَلَ إسْمَاعِيل يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ , وَإِبْرَاهِيم يَبْنِي , حَتَّى إذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاء جَاءَ بِهَذَا الْحَجَر فَوَضَعَهُ لَهُ , فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي , وَإِسْمَاعِيل يُنَاوِلهُ الْحِجَارَة وَهُمَا يَقُولَانِ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } حَتَّى دَوَّرَ حَوْل الْبَيْت . 1695 - حَدَّثَنَا ابْن بَشَّار الْقَزَّاز , قَالَ : ثنا عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد الْمَجِيد أَبُو عَلِيّ الْحَنَفِيّ , قَالَ : ثنا إبْرَاهِيم بْن نَافِع قَالَ : سَمِعْت كَثِير بْن كَثِير يُحَدِّث عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس قَالَ : جَاءَ - يَعْنِي إبْرَاهِيم - فَوَجَدَ إسْمَاعِيل يُصْلِح نَبْلًا مِنْ وَرَاء زَمْزَم , قَالَ إبْرَاهِيم : يَا إسْمَاعِيل إنَّ اللَّه رَبّك قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِي لَهُ بَيْتًا ! فَقَالَ لَهُ إسْمَاعِيل : فَأَطِعْ رَبّك فِيمَا أَمَرَك ! فَقَالَ لَهُ إبْرَاهِيم : قَدْ أَمَرَك أَنْ تُعِيننِي عَلَيْهِ . قَالَ : إذًا أَفْعَل . قَالَ : فَقَامَ مَعَهُ , فَجَعَلَ إبْرَاهِيم يَبْنِيه وَإِسْمَاعِيل يُنَاوِلهُ الْحِجَارَة , وَيَقُولَانِ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْبُنْيَان وَضَعَفَ الشَّيْخ عَنْ رَفْع الْحِجَارَة , قَامَ عَلَى حَجَر فَهُوَ مَقَام إبْرَاهِيم ; فَجَعَلَ يُنَاوِلهُ وَيَقُولَانِ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ الَّذِي رَفَعَ قَوَاعِد الْبَيْت إبْرَاهِيم وَحْده وَإِسْمَاعِيل يَوْمَئِذٍ طِفْل صَغِير . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1696 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار وَمُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى , قَالَا : ثنا مُؤَمَّل , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ أَبِي إسْحَاق , عَنْ حَارِثَة بْن مُصَرِّف , عَنْ عَلِيّ , قَالَ : لَمَّا أُمِرَ إبْرَاهِيم بِبِنَاءِ الْبَيْت , خَرَجَ مَعَهُ إسْمَاعِيل وَهَاجَر . قَالَ : فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّة رَأَى عَلَى رَأْسه فِي مَوْضِع الْبَيْت مِثْل الْغَمَامَة فِيهِ مِثْل الرَّأْس , فَكَلَّمَهُ فَقَالَ : يَا إبْرَاهِيم ابْن عَلَى ظِلِّيّ - أَوْ عَلَى قَدْرِي - وَلَا تُزِدْ وَلَا تُنْقِص ! فَلَمَّا بَنَى [ خَرَجَ ] وَخَلَفَ إسْمَاعِيل وَهَاجَر , فَقَالَتْ هَاجَر : يَا إبْرَاهِيم إلَى مَنْ تَكِلنَا ؟ قَالَ : إلَى اللَّه . قَالَتْ : انْطَلِقْ فَإِنَّهُ لَا يُضَيِّعنَا . قَالَ : فَعَطِشَ إسْمَاعِيل عَطَشًا شَدِيدًا . قَالَ : فَصَعِدَتْ هَاجَر الصَّفَا فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا , ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَة فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا , ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى الصَّفَا فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا , حَتَّى فَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْع مَرَّات فَقَالَتْ : يَا إسْمَاعِيل مُتْ حَيْثُ لَا أَرَاك ! فَأَتَتْهُ وَهُوَ يَفْحَص بِرِجْلِهِ مِنْ الْعَطَش . فَنَادَاهَا جِبْرِيل , فَقَالَ لَهَا : مَنْ أَنْت ؟ فَقَالَتْ : أَنَا هَاجَر أُمّ وَلَد إبْرَاهِيم . قَالَ : إلَى مَنْ وَكَلَكُمَا ؟ قَالَتْ : وَكَلَنَا إلَى اللَّه . قَالَ : وَكَلَكُمَا إلَى كَافٍ . قَالَ : فَفَحَصَ الْأَرْض بِأُصْبُعِهِ فَنَبَعَتْ زَمْزَم , فَجَعَلَتْ تَحْبِس الْمَاء . فَقَالَ : دَعِيهِ فَإِنَّهَا رُوَاء . 1697 - حَدَّثَنَا عُبَادَة , قَالَ : ثنا أَبُو الْأَحْوَص , عَنْ سِمَاك , عَنْ خَالِد بْن عُرْعُرَة : أَنَّ رَجُلًا قَامَ إلَى عَلِيّ فَقَالَ : أَلَا تُخْبِرنِي عَنْ الْبَيْت ؟ أَهُوَ أَوَّل بَيْت وُضِعَ فِي الْأَرْض ؟ فَقَالَ : لَا , وَلَكِنْ هُوَ أَوَّل بَيْت وُضِعَ فِي الْبَرَكَة مَقَام إبْرَاهِيم , وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا , وَإِنْ شِئْت أَنْبَأْتُك كَيْف بُنِيَ ; إنَّ اللَّه أَوْحَى إلَى إبْرَاهِيم أَنْ ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الْأَرْض , قَالَ : فَضَاقَ إبْرَاهِيم بِذَلِكَ ذَرْعًا , فَأَرْسَلَ اللَّه السَّكِينَة وَهَى رِيح خُجُوج , وَلَهَا رَأْسَانِ , فَأَتْبَع أَحَدهمَا صَاحِبه حَتَّى انْتَهَتْ إلَى مَكَّة , فَتَطَوَّتْ عَلَى مَوْضِع الْبَيْت كَتَطَوِّي الْحَجَفَة , وَأَمَرَ إبْرَاهِيم أَنْ يَبْنِي حَيْثُ تَسْتَقِرّ السَّكِينَة . فَبَنَى إبْرَاهِيم وَبَقِيَ حَجَر , فَذَهَبَ الْغُلَام يَبْغِي شَيْئًا , فَقَالَ إبْرَاهِيم : لَا , ابْغِ حَجَرًا كَمَا آمُرك ! قَالَ : فَانْطَلَقَ الْغُلَام يَلْتَمِس لَهُ حَجَرًا , فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ قَدْ رَكَّبَ الْحَجَر الْأَسْوَد فِي مَكَانه فَقَالَ : يَا أَبَت مَنْ أَتَاك بِهَذَا الْحَجَر ؟ قَالَ : أَتَانِي بِهِ مَنْ لَمْ يَتَّكِل عَلَى بَنَاتك جَاءَ بِهِ جِبْرِيل مِنْ السَّمَاء . فَأَتَمَّاهُ . * حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا مُحَمَّد بْن جَعْفَر , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ سِمَاك , سَمِعْت خَالِد بْن عُرْعُرَة يُحَدِّث عَنْ عَلِيّ بِنَحْوِهِ . * حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو دَاوُد , قَالَ : ثنا شُعْبَة وَحَمَّاد بْن سَلَمَة وَأَبُو الْأَحْوَص كُلّهمْ عَنْ سِمَاك , عَنْ خَالِد بْن عُرْعُرَة , عَنْ عَلِيّ بِنَحْوِهِ . فَمَنْ قَالَ : رَفَعَ الْقَوَاعِد إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل , أَوْ قَالَ رَفَعَهَا إبْرَاهِيم وَكَانَ إسْمَاعِيل يُنَاوِلهُ الْحِجَارَة . فَالصَّوَاب فِي قَوْله أَنْ يَكُون الْمُضْمَر مِنْ الْقَوْل لِإِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل , وَيَكُون الْكَلَام حِينَئِذٍ : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل } يَقُولَانِ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } . وَقَدْ كَانَ يُحْتَمَل عَلَى هَذَا التَّأْوِيل أَنْ يَكُون الْمُضْمَر مِنْ الْقَوْل لِإِسْمَاعِيل خَاصَّة دُون إبْرَاهِيم , وَلِإِبْرَاهِيم خَاصَّة دُون إسْمَاعِيل ; لَوْلَا مَا عَلَيْهِ عَامَّة أَهْل التَّأْوِيل مِنْ أَنَّ الْمُضْمَر مِنْ الْقَوْل لِإِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل جَمِيعًا . وَأَمَّا عَلَى التَّأْوِيل الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيّ أَنَّ إبْرَاهِيم هُوَ الَّذِي رَفَعَ الْقَوَاعِد دُون إسْمَاعِيل , فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْمُضْمَر مِنْ الْقَوْل عِنْد ذَلِكَ إلَّا لِإِسْمَاعِيل خَاصَّة . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل عِنْدنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُضْمَر مِنْ الْقَوْل لِإِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل , وَأَنَّ قَوَاعِد الْبَيْت رَفَعَهَا إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل جَمِيعًا ; وَذَلِكَ أَنَّ إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل إنْ كَانَا هُمَا بَنَيَاهُمَا وَرَفَعَاهَا فَهُوَ مَا قُلْنَا , وَإِنْ كَانَ إبْرَاهِيم تَفَرَّدَ بِبِنَائِهَا , وَكَانَ إسْمَاعِيل يُنَاوِلهُ , فَهُمَا أَيْضًا رَفَعَاهَا ; لِأَنَّ رَفْعهَا كَانَ بِهِمَا مِنْ أَحَدهمَا الْبِنَاء مِنْ الْآخَر نَقْل الْحِجَارَة إلَيْهَا وَمَعُونَة وَضْع الْأَحْجَار مَوَاضِعهَا . وَلَا تَمْتَنِع الْعَرَب مِنْ نِسْبَة الْبِنَاء إلَى مَنْ كَانَ بِسَبَبِهِ الْبِنَاء وَمَعُونَته . وَإِنَّمَا قُلْنَا مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ لِإِجْمَاعِ جَمِيع أَهْل التَّأْوِيل عَلَى أَنَّ إسْمَاعِيل مَعْنِيّ بِالْخَبَرِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِهِ , وَذَلِكَ قَوْلهمَا : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } فَمَعْلُوم أَنَّ إسْمَاعِيل لَمْ يَكُنْ لِيَقُولَ ذَلِكَ إلَّا وَهُوَ إمَّا رَجُل كَامِل , وَإِمَّا غُلَام قَدْ فَهِمَ مَوَاضِع الضُّرّ مِنْ النَّفْع , وَلَزِمَتْهُ فَرَائِض اللَّه وَأَحْكَامه . وَإِذَا كَانَ - فِي حَال بِنَاء أَبِيهِ , مَا أَمَرَهُ اللَّه بِبِنَائِهِ وَرَفْعه قَوَاعِد بَيْت اللَّه - كَذَلِكَ , فَمَعْلُوم أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَارِكًا مَعُونَة أَبِيهِ , إمَّا عَلَى الْبِنَاء , وَإِمَّا عَلَى نَقْل الْحِجَارَة . وَأَيّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ فَقَدْ دَخَلَ فِي مَعْنَى مَنْ رَفَعَ قَوَاعِد الْبَيْت , وَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْل الْمُضْمَر خَبَر عَنْهُ وَعَنْ وَالِده إبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام . فَتَأْوِيل الْكَلَام : { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل } يَقُولَانِ : رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا عَمَلنَا وَطَاعَتنَا إيَّاكَ وَعِبَادَتنَا لَك فِي انْتِهَائِنَا إلَى أَمْرك الَّذِي أَمَرْتنَا بِهِ فِي بِنَاء بَيْتك الَّذِي أَمَرْتنَا بِبِنَائِهِ إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم . وَفِي إخْبَار اللَّه تَعَالَى ذِكْره أَنَّهُمَا رَفَعَا الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَهُمَا يَقُولَانِ : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } دَلِيل وَاضِح عَلَى أَنَّ بِنَاءَهُمَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَسْكَنًا يَسْكُنَانِهِ وَلَا مَنْزِلًا يَنْزِلَانِهِ , بَلْ هُوَ دَلِيل عَلَى أَنَّهُمَا بَنَيَاهُ وَرَفَعَا قَوَاعِده لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْبُد اللَّه تَقَرُّبًا مِنْهُمَا إلَى اللَّه بِذَلِكَ ; وَلِذَلِكَ قَالَا : { رَبّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } . وَلَوْ كَانَا بَنَيَاهُ مَسْكَنًا لِأَنْفُسِهِمَا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِمَا : { تَقَبَّلْ مِنَّا } وَجْه مَفْهُوم , لِأَنَّهُ كَانَا يَكُونَانِ لَوْ كَانَ الْأَمْر كَذَلِكَ سَائِلِينَ أَنْ يَتَقَبَّل مِنْهُمَا مَا لَا قُرْبَة فِيهِ إلَيْهِ , وَلَيْسَ مَوْضِعهمَا مَسْأَلَة اللَّه قَبُول مَا لَا قُرْبَة إلَيْهِ فِيهِ .إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } . وَتَأْوِيل قَوْله : { إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } إنَّك أَنْت السَّمِيع دُعَاءَنَا وَمَسْأَلَتنَا إيَّاكَ قَبُول مَا سَأَلْنَاك قَبُوله مِنَّا مِنْ طَاعَتك فِي بِنَاء بَيْتك الَّذِي أَمَرْتنَا بِبِنَائِهِ ; الْعَلِيم بِمَا فِي ضَمَائِر نَفُوسنَا مِنْ الْإِذْعَان لَك فِي الطَّاعَة وَالْمَصِير إلَى مَا فِيهِ لَك الرِّضَا وَالْمَحَبَّة , وَمَا نُبْدِي وَنَخْفِي مِنْ أَعْمَالنَا . كَمَا : 1698 - حَدَّثَنِي الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , قَالَ : قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : أَخْبَرَنِي أَبُو كَثِير , قَالَ : ثنا سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم } يَقُول : تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك سَمِيع الدُّعَاء . | الطبري | 2:127 |
قوله تعالى : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليمقوله تعالى : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل القواعد : أساسه ، في قول أبي عبيدة والفراء . وقال الكسائي : هي الجدر . والمعروف أنها الأساس . وفي الحديث : إن البيت لما هدم أخرجت منه حجارة عظام فقال ابن الزبير : هذه القواعد التي رفعها إبراهيم عليه السلام . وقيل : إن القواعد كانت قد اندرست فأطلع الله إبراهيم عليها . ابن عباس : وضع البيت على أركان رآها قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت الأرض من تحته . والقواعد واحدتها قاعدة . والقواعد من النساء واحدها قاعد .واختلف الناس فيمن بنى البيت أولا وأسسه ، فقيل : الملائكة . روي عن جعفر بن محمد قال : سئل أبي وأنا حاضر عن بدء خلق البيت فقال : إن الله عز وجل لما قال : إني جاعل في الأرض خليفة قالت الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك فغضب عليهم ، فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة أشواط يسترضون ربهم حتى رضي الله عنهم ، وقال لهم : ابنوا لي بيتا في الأرض يتعوذ به من سخطت عليه من بني آدم ، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي ، فأرضى عنه كما رضيت عنكم ، فبنوا هذا البيت .وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وابن المسيب وغيرهما أن الله عز وجل أوحى إلى آدم : إذا هبطت ابن لي بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في [ ص: 116 ] السماء . قال عطاء : فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل : من حراء ، ومن طور سينا ، ومن لبنان ، ومن الجودي ، ومن طور زيتا ، وكان ربضه من حراء . قال الخليل : والربض ها هنا الأساس المستدير بالبيت من الصخر ، ومنه يقال لما حول المدينة : ربض . وذكر الماوردي عن عطاء عن ابن عباس قال : لما أهبط آدم من الجنة إلى الأرض قال له : يا آدم ، اذهب فابن لي بيتا وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي ، فأقبل آدم يتخطى وطويت له الأرض ، وقبضت له المفازة ، فلا يقع قدمه على شيء من الأرض إلا صار عمرانا حتى انتهى إلى موضع البيت الحرام ، وأن جبريل عليه السلام ضرب بجناحيه الأرض فأبرز عن أس ثابت على الأرض السابعة السفلى ، وقذفت إليه الملائكة بالصخر ، فما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلا ، وأنه بناه من خمسة أجبل كما ذكرنا . وقد روي في بعض الأخبار : أنه أهبط لآدم عليه السلام خيمة من خيام الجنة ، فضربت في موضع الكعبة ليسكن إليها ويطوف حولها ، فلم تزل باقية حتى قبض الله عز وجل آدم ثم رفعت . وهذا من طريق وهب بن منبه . وفي رواية : أنه أهبط معه بيت فكان يطوف به والمؤمنون من ولده كذلك إلى زمان الغرق ، ثم رفعه الله فصار في السماء ، وهو الذي يدعى البيت المعمور .روي هذا عن قتادة ذكره الحليمي في كتاب " منهاج الدين " له ، وقال : يجوز أن يكون معنى ما قال قتادة من أنه أهبط مع آدم بيت ، أي أهبط معه مقدار البيت المعمور طولا وعرضا وسمكا ، ثم قيل له : ابن بقدره ، وتحرى أن يكون بحياله ، فكان حياله موضع الكعبة ، فبناها فيه . وأما الخيمة فقد يجوز أن تكون أنزلت وضربت في موضع الكعبة ، فلما أمر ببنائها فبناها كانت حول الكعبة طمأنينة لقلب آدم صلى الله عليه وسلم ما عاش ثم رفعت ، فتتفق هذه الأخبار . فهذا بناء آدم عليه السلام ، ثم بناه إبراهيم عليه السلام . قال ابن جريج وقال ناس : أرسل الله سحابة فيها رأس ، فقال الرأس : يا إبراهيم ، إن ربك يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة ، فجعل ينظر إليها ويخط قدرها ، ثم قال الرأس : إنه قد فعلت ، فحفر فأبرز عن أساس ثابت في الأرض .وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أن الله تعالى لما أمر إبراهيم بعمارة البيت خرج من الشام ومعه ابنه إسماعيل وأمه هاجر ، وبعث معه السكينة لها لسان تتكلم به يغدو معها إبراهيم إذا غدت ، ويروح معها إذا راحت ، حتى انتهت به إلى مكة ، فقالت لإبراهيم : ابن على موضعي الأساس ، فرفع البيت هو وإسماعيل حتى انتهى إلى موضع الركن ، فقال لابنه : يا بني ، ابغني حجرا أجعله علما للناس ، فجاءه بحجر فلم يرضه ، وقال : ابغني غيره فذهب يلتمس ، فجاءه وقد أتى بالركن [ ص: 117 ] فوضعه موضعه ، فقال : يا أبة ، من جاءك بهذا الحجر ؟ فقال : من لم يكلني إليك . ابن عباس : صاح أبو قبيس : يا إبراهيم ، يا خليل الرحمن ، إن لك عندي وديعة فخذها ، فإذا هو بحجر أبيض من ياقوت الجنة كان آدم قد نزل به من الجنة ، فلما رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت جاءت سحابة مربعة فيها رأس فنادت : أن ارفعا على تربيعي . فهذا بناء إبراهيم عليه السلام .وروي أن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت أعطاهما الله الخيل جزاء عن رفع قواعد البيت . روى الترمذي الحكيم حدثنا عمر بن أبي عمر حدثني نعيم بن حماد حدثنا عبد الوهاب بن همام أخو عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : كانت الخيل وحشا كسائر الوحش ، فلما أذن الله لإبراهيم وإسماعيل برفع القواعد قال الله تبارك اسمه : إني معطيكما كنزا ادخرته لكما ثم أوحى إلى إسماعيل أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك الكنز . فخرج إلى أجياد - وكانت وطنا - ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز ، فألهمه ، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته فأمكنته من نواصيها وذللها له ، فاركبوها واعلفوها فإنها ميامين ، وهي ميراث أبيكم إسماعيل ، فإنما سمي الفرس عربيا لأن إسماعيل أمر بالدعاء وإياه أتى . وروى عبد المنعم بن إدريس عن وهب بن منبه ، قال : أول من بنى البيت بالطين والحجارة شيث عليه السلام .وأما بنيان قريش له فمشهور ، وخبر الحية في ذلك مذكور ، وكانت تمنعهم من هدمه إلى أن اجتمعت قريش عند المقام فعجوا إلى الله تعالى وقالوا : ربنا ، لم ترع ، أردنا تشريف بيتك وتزيينه ، فإن كنت ترضى بذلك وإلا فما بدا لك فافعل ، فسمعوا خواتا من السماء - والخوات : حفيف جناح الطير الضخم - فإذا هو بطائر أعظم من النسر ، أسود الظهر أبيض البطن والرجلين ، فغرز مخاليبه في قفا الحية ، ثم انطلق بها تجر ذنبها أعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها نحو أجياد ، فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها ، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا ، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يرفع النمرة على عاتقه ، فترى عورته من صغر النمرة ، فنودي : يا محمد ، خمر عورتك ، فلم ير عريانا بعد . وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين ، وبين مخرجه وبنائها خمس عشرة سنة . ذكره عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن عثمان عن أبي الطفيل . وذكر عن معمر عن [ ص: 118 ] الزهري : حتى إذا بنوها وبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن ، أي القبائل تلي رفعه ؟ حتى شجر بينهم ، فقالوا : تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة ، فاصطلحوا على ذلك ، فاطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة ، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب ، ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب ، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن ، فكان هو يضعه صلى الله عليه وسلم .قال ابن إسحاق : وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يدر ما هو ، حتى قرأه لهم رجل من يهود ، فإذا فيه : " أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السماوات والأرض وصورت الشمس والقمر ، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها ، مبارك لأهلها في الماء واللبن " . وعن أبي جعفر محمد بن علي قال : كان باب الكعبة على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم عليه السلام بالأرض حتى بنته قريش . خرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو ؟ قال : نعم قلت : فلم لم يدخلوه [ في البيت ] ؟ قال : إن قومك قصرت بهم النفقة . قلت : فما شأن بابه مرتفعا ؟ قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض . وخرج عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال : حدثتني خالتي ( يعني عائشة ) رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة . وعن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشا حين بنت الكعبة استقصرت ، ولجعلت لها خلفا . وفي البخاري قال هشام بن عروة : يعني بابا . وفي البخاري أيضا : لجعلت لها خلفين يعني بابين ، فهذا بناء قريش . ثم لما غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير ووهت الكعبة من حريقهم ، هدمها ابن الزبير [ ص: 119 ] وبناها على ما أخبرته عائشة ، وزاد فيه خمسة أذرع من الحجر ، حتى أبدى أسا نظر الناس إليه ، فبنى عليه البناء ، وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا ، فلما زاد فيه استقصره ، فزاد في طوله عشرة أذرع ، وجعل لها بابين ؛ أحدهما يدخل منه ، والآخر يخرج منه ، كذا في صحيح مسلم ، وألفاظ الحديث تختلف . وذكر سفيان عن داود بن شابور عن مجاهد قال : لما أراد ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويبنيه قال للناس : اهدموا ، قال : فأبوا أن يهدموا وخافوا أن ينزل عليهم العذاب . قال مجاهد : فخرجنا إلى منى فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب . قال : وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه ، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترءوا على ذلك ، قال : فهدموا . فلما بناها جعل لها بابين : بابا يدخلون منه ، وبابا يخرجون منه ، وزاد فيه مما يلي الحجر ستة أذرع ، وزاد في طولها تسعة أذرع . قال مسلم في حديثه : فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة ، فكتب إليه عبد الملك : إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ، أما ما زاد في طوله فأقره ، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه ، وسد الباب الذي فتحه ، فنقضه وأعاده إلى بنائه . في رواية : قال عبد الملك : ما كنت أظن أبا خبيب ( يعني ابن الزبير ) سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها ، قال الحارث بن عبد الله : بلى ، أنا سمعته منها ، قال : سمعتها تقول ماذا ؟ قال : قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع . في أخرى : قال عبد الملك : لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير . فهذا ما جاء في بناء الكعبة من الآثار .وروي أن الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة ، وأن يرده على بناء ابن الزبير لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وامتثله ابن الزبير ، فقال له مالك : ناشدتك الله يا أمير المؤمنين ، ألا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك ، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه ، فتذهب هيبته من صدور الناس . وذكر الواقدي : حدثنا معمر عن همام بن منبه سمع أبا هريرة يقول ، : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب أسعد الحميري ، وهو تبع ، وهو أول من كسا البيت ، وهو [ ص: 120 ] تبع الآخر . قال ابن إسحاق : كانت تكسى القباطي ثم كسيت البرد وأول من كساها الديباج الحجاج .قال العلماء : ولا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شيء ، فإنه مهدى إليها ، ولا ينقص منها شيء . روي عن سعيد بن جبير أنه كان يكره أن يؤخذ من طيب الكعبة يستشفى به ، وكان إذا رأى الخادم يأخذ منه قفدها قفدة لا يألو أن يوجعها . وقال عطاء : كان أحدنا إذا أراد أن يستشفي به جاء بطيب من عنده فمسح به الحجر ثم أخذه .قوله تعالى : ربنا تقبل منا المعنى : ويقولان ربنا ، فحذف . وكذلك هي في قراءة أبي وعبد الله بن مسعود : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل مناوتفسير إسماعيل : اسمع يا ألله ; لأن " إيل " بالسريانية هو الله ، وقد تقدم . فقيل : إن إبراهيم لما دعا ربه قال : اسمع يا إيل ، فلما أجابه ربه ورزقه الولد سماه بما دعاه . ذكره الماوردي .قوله تعالى : إنك أنت السميع العليم اسمان من أسماء الله تعالى قد أتينا عليهما في الكتاب " الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى " . | Arabic Qurtubi Tafseer | 2:127 |
أي: واذكر إبراهيم وإسماعيل, في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس, واستمرارهما على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء, حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما, حتى يحصل فيه النفع العميم. | Arabic Saddi Tafseer | 2:127 |
قوله عز وجل : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) قال الرواة : إن الله تعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها فلما أهبط الله آدم عليه السلام إلى الأرض استوحش ، فشكا إلى الله تعالى فأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر ، باب شرقي وباب غربي فوضعه على موضع البيت وقال : يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي ، تصلي عنده كما يصلى عند عرشي . وأنزل الحجر وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشيا وقيض الله له ملكا يدله على البيت فحج البيت وأقام المناسك ، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا : بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أيام الطوفان ، فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ، وبعث جبريل عليه السلام حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق ، فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم ، ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يذكر فيه ، فسأل الله عز وجل أن يبين له موضعه ، فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت وهي ريح خجوج لها رأسان شبه الحية فأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة فتطوت السكينة على موضع البيت كتطوي الحجفة هذا قول علي والحسن .وقال ابن عباس : بعث الله تعالى سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافق مكة ووقفت على موضع البيت فنودي منها إبراهيم أن ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص ، وقيل : أرسل الله جبريل ليدله على موضع البيت كقوله تعالى ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ) فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجر ، فذلك قوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) يعني أسسه واحدتها قاعدة . وقال الكسائي : جدر البيت ، قال ابن عباس : إنما بني البيت من خمسة أجبل ، طور سيناء وطور زيتا ولبنان وهو جبل بالشام ، والجودي وهو جبل بالجزيرة وبنيا قواعده من حراء وهو جبل بمكة فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل ائتني بحجر حسن يكون للناس علما فأتاه بحجر فقال : ائتني بأحسن من هذا فمضى إسماعيل يطلبه فصاح أبو قبيس يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه وقيل : إن الله تعالى بنى في السماء بيتا وهو البيت المعمور ويسمى الضراح وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره ومثاله ، وقيل أول من بنى الكعبة آدم واندرس زمن الطوفان ثم أظهره الله لإبراهيم حتى بناه .قوله : ( ربنا تقبل منا ) فيه إضمار أي ويقولان : ربنا تقبل منا بناءنا ( إنك أنت السميع ) لدعائنا ( العليم ) بنياتنا . | Arabic Baghawy Tafseer | 2:127 |
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم قال ابن جرير يعنيان بذلك وأجعلنا مستسلمين لأمرك خاضعين لطاعتك لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك ولا في العبادة غيرك وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا إسماعيل عن رجاء بن حبان الحصيني القرشي أخبرنا معقل بن عبيد الله عن عبد الكريم "واجعلنا مسلمين لك" قال مخلصين لك "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" قال مخلصة وقال أيضا أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا المقدمي أخبرنا سعيد بن عامر عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية "واجعلنا مسلمين" قال كانا مسلمين ولكنهما سألاه الثبات. وقال عكرمة "ربنا واجعلنا مسلمين لك" قال الله: قد فعلت "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" قال الله قد فعلت. وقال السدي "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" يعنيان العرب قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل وقد قال الله تعالى "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون". "قلت" وهذا الذي قاله بن جرير لا ينفيه السدي فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم والسياق إنما هو في العرب ولهذا قال بعده "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم" الآية. والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم وقد بعث فيهم كما قال تعالى "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم" ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى "قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا" وغير ذلك من الأدلة القاطعة وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما" وهذا القدر مرغوب فيه شرعا فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبدالله وحده لا شريك له ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام "إنى جاعلك للناس إماما" قال "ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" وهو قوله "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا مات ابن آدم أنقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"" وأرنا مناسكنا" قال ابن جريج عن عطاء "وأرنا مناسكنا" أخرجها لنا وعلمناها وقال مجاهد "أرنا مناسكنا" مذابحنا وروى عن عطاء أيضا وقتادة نحو ذلك وقال سعيد بن منصور: أخبرنا عتاب بن بشير عن خصيف عن مجاهد قال: قال إبراهيم "أرنا مناسكنا" فأتاه جبرائيل فأتى به البيت فقال أرفع القواعد فرفع القواعد وأتم البنيان ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا قال هذا من شعائر الله ثم انطلق به إلى المروة فقال: وهذا من شعائر الله ثم انطلق به نحو منى فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة فقال: كبر وارمه فكبر ورماه ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه فكبر ورماه فذهب الخبيث إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئا فلم يستطع فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام فقال هذا المشعر الحرام فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاث مرات قال نعم وروى عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك وقال أبو داود الطيالسي أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي العاصم الغنوي عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال: إن إبراهيم لما أري أوامر المناسك عرض له الشيطان عند المسعى فسابقه إبراهيم ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى فقال: هذا مناخ الناس فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم أتى به إلى الجمرة الوسطى تعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم أتى به إلى الجمرة القصوى فعرض الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب فأتى به جمعا فقال: هذا المشعر ثم أتى به عرفة فقال هذه عرفة فقال له جبريل أعرفت؟. | ابن كثير | 2:128 |
ربنا واجعلنا ثابتَيْن على الإسلام، منقادَيْن لأحكامك، واجعل من ذريتنا أمة منقادة لك، بالإيمان، وبصِّرْنا بمعالم عبادتنا لك، وتجاوز عن ذنوبنا. إنك أنت كثير التوبة والرحمة لعبادك. | المیسر | 2:128 |
فائدة تكرير النداء بقوله : { ربنا } إظهار الضراعة إلى الله تعالى وإظهار أن كل دعوى من هاته الدعوات مقصودة بالذات ، ولذلك لم يكرر النداء إلا عند الانتقال من دعوة إلى أخرى فإن الدعوة الأولى لطلب تقبل العمل والثانية لطلب الاهتداء فجملة النداء معترضة بين المعطوف هنا والمعطوف عليه في قوله الآتي : { ربنا وابعث فيهم رسولاً } [ البقرة : 129 ] .والمراد بمسلميْن لك المنقادان إلى الله تعالى إذ الإسلام الانقياد ، ولما كان الانقياد للخالق بحق يشمل الإيمان بوجوده وأن لا يشرك في عبادته غيره ومعرفة صفاته التي دل عليها فعله كانت حقيقة الإسلام ملازمة لحقيقة الإيمان والتوحيد ، ووجه تسمية ذلك إسلاماً سيأتي عند قوله : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] ، وأما قوله تعالى : { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } [ الحجرات : 14 ] فإنه فكك بينهما لأن إسلامهم كان عن خوف لا عن اعتقاد ، فالإيمان والإسلام متغايران مفهوماً وبينهما عموم وخصوص وجهي في الماصدق ، فالتوحيد في زمن الفترة إيمان لا يترقب منه انقياد إذ الانقياد إنما يحصل بالأعمال ، وانقياد المغلوب المكره إسلام لم ينشأ عن اعتقاد إيمان ، إلا أن صورتي الانفراد في الإيمان والإسلام نادرتان .ألهم الله إبراهيم اسم الإسلام ثم ادخره بعده للدين المحمدي فنُسي هذا الاسم بعد إبراهيم ولم يلقب به دين آخر لأن الله أراد أن يكون الدين المحمدي إتماماً للحنيفية دين إبراهيم وسيجيء بيان لهذا عند قوله تعالى : { ما كان إبراهيم يهودياً } في سورة آل عمران ( 67 ) .ومعنى طلب أن يجعلهما مسلمين هو طلب الزيادة في ما هما عليه من الإسلام وطلب الدوام عليه ، لأن الله قد جعلهما مسلمين من قبل كما دل عليه قوله : { إذ قال له ربه أسلم } [ البقرة : 131 ] الآية .وقوله : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } يتعين أن يكون { من ذريتنا } و { مسلمة } معمولين لفعل { واجعلنا } بطريق العطف ، وهذا دعاء ببقاء دينهما في ذريتهما ، و ( من ) في قوله : { ومن ذريتنا } للتبعيض ، وإنما سألا ذلك لبعض الذرية جمعاً بين الحرص على حصول الفضيلة للذرية وبين الأدب في الدعاء لأن نبوءة إبراهيم تقتضي علمه بأنه ستكون ذريته أمماً كثيرة وأن حكمة الله في هذا العالم جرت على أنه لا يخلو من اشتماله على الأخيار والأشرار فدعا الله بالممكن عادة ، وهذا من أدب الدعاء وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { قال ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ] .ومن هنا ابتدىء التعريض بالمشركين الذين أعرضوا عن التوحيد واتبعوا الشرك ، والتمهيد لشرف الدين المحمدي .والأمة اسم مشترك يطلق على معان كثيرة والمراد منها هنا الجماعة العظيمة التي يجمعها جامع له بال من نسب أو دين أو زمان ، ويقال أمة محمد مثلاً للمسلمين لأنهم اجتمعوا على الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهي بزنة فُعله وهذه الزنة تدل على المفعول مثل لقطة وضحكة وقدوة ، فالأمة بمعنى مأمومة اشتقت من الأم بفتح الهمزة وهو القصد ، لأن الأمة تقصدها الفرق العديدة التي تجمعها جامعة الأمة كلها ، مثل الأمة العربية لأنها ترجع إليا قبائل العرب ، والأمة الإسلامية لأنها ترجع إليها المذاهب الإسلامية ، وأما قوله تعالى :{ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } [ الأنعام : 38 ] فهو في معنى التشبيه البليغ أي كأمم إذا تدبرتم في حكمة إتقان خلقهم ونظام أحوالهم وجدتموه كأمم أمثالكم لأن هذا الاعتبار كان الناس في غفلة عنه .وقد استجيبت دعوة إبراهيم في المسلمين من العرب الذين تلاحقوا بالإسلام قبل الهجرة وبعدها حتى أسلم كل العرب إلا قبائل قليلة لا تنخرم بهم جامعة الأمة ، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } [ البقرة : 129 ] ، وأما من أسلموا من بني إسرائيل مثل عبد الله بن سلام فلم يلتئم منهم عدد أمة .وقوله : { وأرنا مناسكنا } سؤال لإرشادهم لكيفية الحج الذي أمرا به من قبل أمراً مجملاً ، ففعل { أرنا } هو من رأى العرفانية وهو استعمال ثابت لفعل الرؤية كما جزم به الراغب في «المفردات» والزمخشري في «المفصل» وتعدت بالهمز إلى مفعولين . وحق رأى أن يتعدى إلى مفعول واحد لأن أصله هو الرؤية البصرية ثم استعمل مجازاً في العلم بجعل العلم اليقيني شبيهاً برؤية البصر ، فإذا دخل عليه همز التعدية تعدى إلى مفعولين وأما تعدية أرى إلى ثلاثة مفاعيل فهو خلاف الأصل وهو استعمال خاص وذلك إذا أراد المتكلم الإخبار عن معرفة صفة من صفات ذات فيذكر اسم الذات أولاً ويعلم أن ذلك لا يفيد مراده فيكمله بذكر حال لازمة إتماماً للفائدة فيقول رأيت الهلال طالعاً مثلاً ثم يقول : أراني فلان الهلال طالعاً ، وكذلك فعل علم وأخواته من باب ظن كله ومثله باب كان وأخواتها ، ألا ترى أنك لو عدلت عن المفعول الثاني في باب ظن أو عن الخبر في باب كان إلى الإتيان بمصدر في موضع الاسم في أفعال هذين البابين لاستغنيت عن الخبر والمفعول الثاني فتقول كان حضور فلان أي حصل وعلمت مجيء صاحبك وظننت طلوع الشمس وقد رُوي قولُ الفِنْد الزِّمّاني :عَسَى أن يُرجِعَ الأيّا ... مُ قَوْماً كالذي كانواوقال حَطائط بن يَعْفُر :أَرِيني جَواداً مات هُزْلاً لعلَّني ... أَرى ما ترين أو بخيلاً مُخَلَّدافإن جملة مات هزلاً ليست خبراً عن جواداً إذ المبتدأ لايكون نكرة ، وبهذا يتبين أن الصواب أن يعد الخبر في باب كان والمفعول الثاني في باب ظن أحوالاً لازمة لتمام الفائدة وأن إطلاق اسم الخبر أو المفعول على ذلك المنصوب تسامح وعبارة قديمة .وقرأ ابن كثير ويعقوب { وأرْنا } بسكون الراء للتخفيف وقرأه أبو عمرو باختلاس كسرة الراء تخفيفاً أيضاً ، وجملة { إنك أنت التواب الرحيم } تعليل لجمل الدعاء .والمناسك جمع منسك وهو اسم مكان من نسك نَسكاً من باب نصر أي تعبد أو من نسك بضم السين نساكة بمعنى ذبح تقرباً ، والأظهر هو الأول لأنه الذي يحق طلب التوفيق له وسيأتي في قوله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } [ البقرة : 200 ] . | Arabic Tanweer Tafseer | 2:128 |
ثم حكى القرآن جملة من الدعوات الخاشعات ، التي توجه بها إبراهيم وإسماعيل إلى الله - تعالى - فقال : ( رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) :مسلمين من الإِسلام ، وهو الخضوع والإِذعان ، وقد كانا خاضعين لله مذعنين في كل حال ، وإنما طلبا الثبات والدوام على ذلك ، والإِسلام الذي هو الخضوع لله بحق إنما يتحقق بعقيدة التوحيد ، وتحرى ما رسمه الشارع في العبادات والمعاملات ، والإِخلاص في أداء ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه .وقوله : ( وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) معناه : واجعل يا ربنا من ذريتنا أمة مخلصة وجهها إليك ، مذعنة لأوامرك ونواهيك .ومن ( من ) للتبعيض ، أو للتعيين كقوله : ( وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ ) وإنما خص الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع؛ ولأن صلاح الذرية مرغوب فيه طبعاً ، والدعاء لهم بالصلاح مرغب فيه شرعاً ، وقد حكى القرآن من دعاء الصالحين قوله - تعالى - :( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ) ( وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ) أي : علمنا شرائع ديننا وأعمال حجنا ، كالطواف والسعي والوقوف . أو متعبداتنا التي تقام فيها شرائعنا ، كمنى ، وعرفات ، وتحوهما .والمناسك : جمع منسك - بفتح السين وكسرها - بمعنى الفعل وبمعنى الموضع من النسك - مثلثة النون وبضمها وضم السين - وهو غاية العبادة والطاعة ، وشاعت تسمية أعمال الحج بالمناسك كالطواف والسعي وغيرهما .( وَتُبْ عَلَيْنَآ ) تسند التوبة إلى العبد فيقال : تاب فلان إلى الله ومعناها الندم على ما لابس من الذنب ، والإِقلاع عنه ، والعزم على عدم العود إليه ، ورد المظالم إن استطاع ، أو نية ردها إن لم يستطع وتسند إلى الله فيقال : تاب الله على فلان ، ومعناها حينئذ توفيقه إلى التوبة ، أو قبولها منه . فمعنى ( وَتُبْ عَلَيْنَآ ) وفقنا للتوبة أو تقبلها منا .والتوبة تكون من الكبائر والصغائر ، وتكون من ترك ما هو أولى أو من تقصير يؤدي إلى خطأ في الاجتهاد ، وعلى أحد هذين الوجهين ، تحمل التوبة التي يسأل الأنبياء والمرسلون ربهم قبولها أو التوفيق لها .( إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم ) التواب : كثير القبول لتوبة المنيبين إليه ، وقبول توبتهم يقتضي عدم مؤاخذتهم بما يأتونه من سيئات ، ثم بعد تخلصهم من عقوبة الخطيئة أو المعاتبة عليها ينتظرون من رحمة الله أن تحفهم بإحسان .وإبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - قد طلبا قبول توبتهما صراحة في قولهما ( وَتُبْ عَلَيْنَآ ) ولوحا إلى طلب الرحمة بذكر اسمه الرحيم ، إذ الرحمة صفة من أثرها الإِحسان ، فكأنهما قالا : تب علينا وارحمنا ، وهذا من أكمل آداب الدعاء وأرجاها للقبول عند الله تعالى . | Arabic Waseet Tafseer | 2:128 |
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَك } وَهَذَا أَيْضًا خَبَر مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَنْ إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل أَنَّهُمَا كَانَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَهُمَا يَقُولَانِ : { رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَك } يَعْنِيَانِ بِذَلِكَ : وَاجْعَلْنَا مُسْتَسْلِمَيْنِ لِأَمْرِك خَاضِعَيْنِ لِطَاعَتِك , لَا نُشْرِك مَعَك فِي الطَّاعَة أَحَدًا سِوَاك , وَلَا فِي الْعِبَادَة غَيْرك . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِسْلَام الْخُضُوع لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ .وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَوَأَمَّا قَوْله : { وَمِنْ ذُرِّيَّتنَا أُمَّة مُسْلِمَة لَك } فَإِنَّهُمَا خَصَّا بِذَلِكَ بَعْض الذُّرِّيَّة ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره قَدْ كَانَ أَعْلَم إبْرَاهِيم خَلِيله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل مَسْأَلَته هَذِهِ أَنَّ مِنْ ذُرِّيَّته مَنْ لَا يَنَال عَهْده لِظُلْمِهِ وَفُجُوره , فَخَصَّا بِالدَّعْوَةِ بَعْض ذُرِّيَّتهمَا . وَقَدْ قِيلَ إنَّهُمَا عَنَيَا بِذَلِكَ الْعَرَب . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1699 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { وَمِنْ ذُرِّيَّتنَا أُمَّة مُسْلِمَة لَك } يَعْنِيَانِ الْعَرَب . وَهَذَا قَوْل يَدُلّ ظَاهِر الْكِتَاب عَلَى خِلَافه ; لِأَنَّ ظَاهِره يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمَا دَعَوْا اللَّه أَنْ يَجْعَل مِنْ ذُرِّيَّتهمَا أَهْل طَاعَته وَوِلَايَته والمستجيبين لِأَمْرِهِ , وَقَدْ كَانَ فِي وَلَد إبْرَاهِيم الْعَرَب وَغَيْر الْعَرَب , وَالْمُسْتَجِيب لِأَمْرِ اللَّه وَالْخَاضِع لَهُ بِالطَّاعَةِ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ; فَلَا وَجْه لِقَوْلِ مَنْ قَالَ : عَنَى إبْرَاهِيم بِدُعَائِهِ ذَلِكَ فَرِيقًا مِنْ وَلَده بِأَعْيَانِهِمْ دُون غَيْرهمْ إلَّا التَّحَكُّم الَّذِي لَا يَعْجِز عَنْهُ أَحَد . وَأَمَّا الْأُمَّة فِي هَذَا الْمَوْضِع , فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهَا الْجَمَاعَة مِنْ النَّاس , مِنْ قَوْل اللَّه : { وَمِنْ قَوْم مُوسَى أُمَّة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } . 7 159وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَاالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } . اخْتَلَفَتْ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة ذَلِكَ , فَقَرَأَهُ بَعْضهمْ : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } بِمَعْنَى رُؤْيَة الْعَيْن , أَيْ أَظْهَرَهَا لِأَعْيُنِنَا حَتَّى نَرَاهَا . وَذَلِكَ قِرَاءَة عَامَّة أَهْل الْحِجَاز وَالْكُوفَة , وَكَانَ بَعْض مَنْ يُوَجِّه تَأْوِيل ذَلِكَ إلَى هَذَا التَّأْوِيل يُسَكِّن الرَّاء مِنْ " أَرِنَا " , غَيْر أَنَّهُ يُشِمّهَا كَسْرَة . وَاخْتَلَفَ قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة وَقُرَّاء هَذِهِ الْقِرَاءَة فِي تَأْوِيل قَوْله : { مَنَاسِكنَا } فَقَالَ بَعْضهمْ : هِيَ مَنَاسِك الْحَجّ وَمَعَالِمه . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1700 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } فَأَرَاهُمَا اللَّه مَنَاسِكهمَا الطَّوَاف بِالْبَيْتِ , وَالسَّعْي بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة , وَالْإِفَاضَة مِنْ عَرَفَات , وَالْإِفَاضَة مِنْ جَمْع , وَرَمْي الْجِمَار , حَتَّى أَكْمَلَ اللَّه الدِّين أَوْ دِينه . 1701 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } قَالَ : أَرِنَا نُسُكنَا وَحَجّنَا . 1702 - حَدَّثَنَا مُوسَى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ , قَالَ : لَمَّا فَرَغَ إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل مِنْ بُنْيَان الْبَيْت أَمَرَهُ اللَّه أَنْ يُنَادِي فَقَالَ : { وَأَذِّنْ فِي النَّاس بِالْحَجِّ } فَنَادَى بَيْن أَخْشَبَيْ مَكَّة : يَا أَيّهَا النَّاس إنَّ اللَّه يَأْمُركُمْ أَنْ تَحُجُّوا بَيْته . قَالَ : فَوَقِرَتْ فِي قَلْب كُلّ مُؤْمِن , فَأَجَابَهُ كُلّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ جَبَل أَوْ شَجَر أَوْ دَابَّة : لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ! فَأَجَابُوهُ بِالتَّلْبِيَةِ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ! وَأَتَاهُ مَنْ أَتَاهُ . فَأَمَرَهُ اللَّه أَنْ يَخْرُج إلَى عَرَفَات وَنَعَتَهَا فَخَرَجَ ; فَلَمَّا بَلَغَ الشَّجَرَة عِنْد الْعَقَبَة اسْتَقْبَلَهُ الشَّيْطَان , فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَات يُكَبِّر مَعَ كُلّ حَصَاة , فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى الْجَمْرَة الثَّانِيَة أَيْضًا , فَصَدَّهُ فَرَمَاهُ وَكَبَّرَ , فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى الْجَمْرَة الثَّالِثَة , فَرَمَاهُ وَكَبَّرَ . فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يُطِيقهُ , وَلَمْ يَدْرِ إبْرَاهِيم أَيْنَ يَذْهَب , انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى ذَا الْمَجَاز , فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفهُ جَازَ فَلِذَلِك سُمِّيَ ذَا الْمَجَاز . ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى وَقَعَ بِعَرَفَاتِ , فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهَا عَرَفَ النَّعْت , قَالَ : قَدْ عَرَفْت ! فَسُمِّيَتْ عَرَفَات . فَوَقَفَ إبْرَاهِيم بِعَرَفَاتِ . حَتَّى إذَا أَمْسَى ازْدَلَفَ إلَى جَمْع , فَسُمِّيَتْ الْمُزْدَلِفَة . فَوَقَفَ بِجَمْعِ . ثُمَّ أَقَبْل حَتَّى أَتَى الشَّيْطَان حَيْثُ لَقِيَهُ أَوَّل مَرَّة فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَات سَبْع مَرَّات , ثُمَّ أَقَامَ بِمِنَى حَتَّى فَرَغَ مِنْ الْحَجّ وَأَمْره . وَذَلِكَ قَوْله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } . وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ قَرَأَ هَذِهِ الْقِرَاءَة : الْمَنَاسِك الْمَذَابِح . فَكَانَ تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة عَلَى قَوْل مَنْ قَالَ ذَلِكَ : وَأَرِنَا كَيْف نَنْسَك لَك يَا رَبّنَا نَسَائِكنَا فَنَذْبَحهَا لَك . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1703 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : ثنا عَبْد الرَّحْمَن , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاء : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } قَالَ : ذَبْحنَا . * حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : ثنا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيّ , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاء , قَالَ : مَذَابِحنَا . 1704 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَحِيح , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . * حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . 1705 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ عَطَاء : سَمِعْت عُبَيْد بْن عُمَيْر يَقُول : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } قَالَ : أَرِنَا مَذَابِحنَا . وَقَالَ آخَرُونَ : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } بِتَسْكِينِ الرَّاء . وَزَعَمُوا أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ : وَعَلِّمْنَا وَدُلَّنَا عَلَيْهَا , لَا أَنَّ مَعْنَاهَا أَرِنَاهَا بِالْأَبْصَارِ . وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ نَظِير قَوْل حَطَائِط بْن يَعْفُر أَخِي الْأَسْوَد بْن يَعْفُر : أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لِأَنَّنِي أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدًا يَعْنِي بِقَوْلِهِ أَرِينِي : دُلِّينِي عَلَيْهِ وَعَرِّفِينِي مَكَانه , وَلَمْ يَعْنِ بِهِ رُؤْيَة الْعَيْن . وَهَذِهِ قِرَاءَة رُوِيَتْ عَنْ بَعْض الْمُتَقَدِّمِينَ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1706 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ عَطَاء : { أَرِنَا مَنَاسِكنَا } أَخْرَجَهَا لَنَا , عَلِّمْنَاهَا . 1707 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ ابْن الْمُسَيِّب : قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : لَمَّا فَرَغَ إبْرَاهِيم مِنْ بِنَاء الْبَيْت , قَالَ : فَعَلْت أَيْ رَبّ فَأَرِنَا مَنَاسِكنَا , أَبْرِزْهَا لَنَا , عَلِّمْنَاهَا ! فَبَعَثَ اللَّه جِبْرِيل فَحَجّ بِهِ . وَالْقَوْل وَاحِد , فَمَنْ كَسَرَ الرَّاء جَعَلَ عَلَامَة الْجَزْم سُقُوط الْيَاء الَّتِي فِي قَوْل الْقَائِل أَرِنِيهِ , وَأَقَرَّ الرَّاء مَكْسُورَة كَمَا كَانَتْ قَبْل الْجَزْم . وَمَنْ سَكَّنَ الرَّاء مِنْ " أَرِنَا " تَوَهَّمَ أَنَّ إعْرَاب الْحَرْف فِي الرَّاء فَسَكَّنَهَا فِي الْجَزْم كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يَكُ . وَسَوَاء كَانَ ذَلِكَ مِنْ رُؤْيَة الْعَيْن , أَوْ مِنْ رُؤْيَة الْقَلْب . وَلَا مَعْنَى لِفَرْقِ مَنْ فَرَّقَ بَيْن رُؤْيَة الْعَيْن فِي ذَلِكَ وَرُؤْيَة الْقَلْب . وَأَمَّا الْمَنَاسِك فَإِنَّهَا جَمْع " مَنْسَك " , وَهُوَ الْمَوْضِع الَّذِي يَنْسَك لِلَّهِ فِيهِ , وَيَتَقَرَّب إلَيْهِ فِيهِ بِمَا يُرْضِيه مِنْ عَمَل صَالِح إمَّا بِذَبْحِ ذَبِيحَة لَهُ , وَإِمَّا بِصَلَاةِ أَوْ طَوَاف أَوْ سَعْي , وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَال الصَّالِحَة ; وَلِذَلِكَ قِيلَ لِمَشَاعِر الْحَجّ مَنَاسِكه , لِأَنَّهَا أَمَارَات وَعَلَامَات يَعْتَادهَا النَّاس , وَيَتَرَدَّدُونَ إلَيْهَا . وَأَصْل الْمَنْسَك فِي كَلَام الْعَرَب : الْمَوْضِع الْمُعْتَاد الَّذِي يَعْتَادهُ الرَّجُل وَيَأْلَفهُ , يُقَال : لِفُلَانِ مَنْسَك , وَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ مَوْضِع يَعْتَادهُ لِخَيْرِ أَوْ شَرّ ; وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْمَنَاسِك مَنَاسِك , لِأَنَّهَا تُعْتَاد وَيَتَرَدَّد إلَيْهَا بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَة , وَبِالْأَعْمَالِ الَّتِي يُتَقَرَّب بِهَا إلَى اللَّه . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ مَعْنَى النُّسُك : عِبَادَة اللَّه , وَأَنَّ النَّاسِك إنَّمَا سُمِّيَ نَاسِكًا بِعِبَادَةِ رَبّه , فَتَأَوَّلَ قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة قَوْله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } وَعَلِّمْنَا عِبَادَتك كَيْف نَعْبُدك , وَأَيْنَ نَعْبُدك , وَمَا يُرْضِيك عَنَّا فَنَفْعَلهُ . وَهَذَا الْقَوْل وَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا يَحْتَمِلهُ الْكَلَام , فَإِنَّ الْغَالِب عَلَى مَعْنَى الْمَنَاسِك مَا وَصَفْنَا قَبْل مِنْ أَنَّهَا مَنَاسِك الْحَجّ الَّتِي ذَكَرْنَا مَعْنَاهَا . وَخَرَجَ هَذَا الْكَلَام مِنْ قَوْل إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عَلَى وَجْه الْمَسْأَلَة مِنْهُمَا رَبّهمَا لِأَنْفُسِهِمَا , وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُمَا مَسْأَلَة رَبّهمَا لِأَنْفُسِهِمَا وَذُرِّيَّتهمَا الْمُسْلِمِينَ , فَلَمَّا ضَمَّا ذُرِّيَّتهمَا الْمُسْلِمَيْنِ إلَى أَنْفُسهمَا صَارَا كَالْمُخْبِرَيْنِ عَنْ أَنْفُسهمْ بِذَلِكَ . وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِتَقَدُّمِ الدُّعَاء مِنْهُمَا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّتهمَا قَبْل فِي أَوَّل الْآيَة , وَتَأَخُّره بَعْد فِي الْآيَة الْأُخْرَى . فَأَمَّا الَّذِي فِي أَوَّل الْآيَة فَقَوْلهمَا : { رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَك وَمِنْ ذُرِّيَّتنَا أُمَّة مُسْلِمَة لَك } . ثُمَّ جَمَعَا أَنْفُسهمَا وَالْأُمَّة الْمُسْلِمَة مِنْ ذُرِّيَّتهمَا فِي مَسْأَلَتهمَا رَبّهمَا أَنْ يُرِيهِمْ مَنَاسِكهمْ فَقَالَا : { وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا } . وَأَمَّا الَّتِي فِي الْآيَة الَّتِي بَعْدهَا : { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } فَجَعَلَا الْمَسْأَلَة لِذُرِّيَّتِهِمَا خَاصَّة . وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود : " وَأَرِهِمْ مَنَاسِكهمْ " , يَعْنِي بِذَلِكَ : وَأَرِ ذُرِّيَّتنَا الْمُسْلِمَة مَنَاسِكهمْ .وَتُبْ عَلَيْنَاالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَتُبْ عَلَيْنَا } . أَمَّا التَّوْبَة فَأَصْلهَا الْأَوْبَة مِنْ مَكْرُوه إلَى مَحْبُوب , فَتَوْبَة الْعَبْد إلَى رَبّه : أَوْبَته مِمَّا يَكْرَههُ اللَّه مِنْهُ بِالنَّدَمِ عَلَيْهِ وَالْإِقْلَاع عَنْهُ , وَالْعَزْم عَلَى تَرْك الْعَوْد فِيهِ . وَتَوْبَة الرَّبّ عَلَى عَبْده : عَوْده عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ لَهُ عَنْ جُرْمه وَالصَّفْع لَهُ عَنْ عُقُوبَة ذَنْبه , مَغْفِرَة لَهُ مِنْهُ , وَتَفَضُّلًا عَلَيْهِ . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : وَهَلْ كَانَ لَهُمَا ذُنُوب فَاحْتَاجَا إلَى مَسْأَلَة رَبّهمَا التَّوْبَة ؟ قِيلَ : إنَّهُ لَيْسَ أَحَد مِنْ خَلْق اللَّه إلَّا وَلَهُ مِنْ الْعَمَل فِيمَا بَيْنه وَبَيْن رَبّه مَا يَجِب عَلَيْهِ الْإِنَابَة مِنْهُ وَالتَّوْبَة . فَجَائِز أَنْ يَكُون مَا كَانَ مِنْ قَبْلهمَا مَا قَالَا مِنْ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا خَصَّا بِهِ الْحَال الَّتِي كَانَا عَلَيْهَا مِنْ رَفْع قَوَاعِد الْبَيْت , لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَحْرَى الْأَمَاكِن أَنْ يَسْتَجِيب اللَّه فِيهَا دُعَاءَهُمَا , وَلِيَجْعَلَا مَا فَعَلَا مِنْ ذَلِكَ سُنَّة يُقْتَدَى بِهَا بَعْدهمَا , وَتَتَّخِذ النَّاس تِلْكَ الْبُقْعَة بَعْدهمَا مَوْضِع تَنَصُّل مِنْ الذُّنُوب إلَى اللَّه . وَجَائِز أَنْ يَكُونَا عَنَيَا بِقَوْلِهِمَا : { وَتُبْ عَلَيْنَا } وَتُبْ عَلَى الظَّلَمَة مِنْ أَوْلَادنَا وَذُرِّيَّتنَا , الَّذِينَ أَعْلَمْتنَا أَمْرهمْ مِنْ ظُلْمهمْ وَشِرْكهمْ , حَتَّى يُنِيبُوا إلَى طَاعَتك . فَيَكُون ظَاهِر الْكَلَام عَلَى الدُّعَاء لِأَنْفُسِهِمَا , وَالْمَعْنِيّ بِهِ ذُرِّيَّتهمَا , كَمَا يُقَال : أَكَرَمَنِي فُلَان فِي وَلَدِي وَأَهْلِي , وَبَرَّنِي فُلَان : إذَا بَرَّ وَلَده .إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُوَأَمَّا قَوْله : { إنَّك أَنْت التَّوَّاب الرَّحِيم } فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ : إنَّك أَنْت الْعَائِد عَلَى عِبَادك بِالْفَضْلِ وَالْمُتَفَضِّل عَلَيْهِمْ بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَان , الرَّحِيم بِهِمْ , الْمُسْتَنْقِذ مَنْ تُشَاء مِنْهُمْ بِرَحْمَتِك مِنْ هَلَكَته , الْمُنْجِي مَنْ تُرِيد نَجَاته مِنْهُمْ بِرَأْفَتِك مِنْ سَخَطك . | الطبري | 2:128 |
قوله تعالى : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيمقوله تعالى : ربنا واجعلنا مسلمين لك أي صيرنا ، ومسلمين مفعول ثان ، سألا التثبيت والدوام . والإسلام في هذا الموضع : الإيمان والأعمال جميعا ، ومنه قوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام ففي هذا دليل لمن قال : إن الإيمان والإسلام شيء واحد ، وعضدوا هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين . وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي " مسلمين " على الجمع .قوله تعالى : ومن ذريتنا أمة مسلمة لك أي ومن ذريتنا فاجعل ، فيقال : إنه لم يدع [ ص: 121 ] نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الأمة . ومن في قوله : ومن ذريتنا للتبعيض ; لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين . وحكى الطبري : أنه أراد بقوله ومن ذريتنا العرب خاصة . قال السهيلي : وذريتهما العرب ; لأنهم بنو نبت بن إسماعيل ، أو بنو تيمن بن إسماعيل ، ويقال : قيدر بن نبت بن إسماعيل . أما العدنانية فمن نبت ، وأما القحطانية فمن قيدر بن نبت بن إسماعيل ، أو تيمن على أحد القولين . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ; لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم . والأمة : الجماعة هنا ، وتكون واحدا إذا كان يقتدى به في الخير ، ومنه قوله تعالى : إن إبراهيم كان أمة قانتا لله ، وقال صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل : ( يبعث أمة وحده ) لأنه لم يشرك في دينه غيره ، والله أعلم . وقد يطلق لفظ الأمة على غير هذا المعنى ، ومنه قوله تعالى :إنا وجدنا آباءنا على أمة أي على دين وملة ، ومنه قوله تعالى : إن هذه أمتكم أمة واحدة . وقد تكون بمعنى الحين والزمان ، ومنه قوله تعالى وادكر بعد أمة أي بعد حين وزمان . ويقال : هذه أمة زيد ، أي أم زيد . والأمة أيضا : القامة ، يقال : فلان حسن الأمة ، أي حسن القامة ، قال [ هو الأعشى ] :وإن معاوية الأكرمين حسان الوجوه طوال الأمموقيل : الأمة الشجة التي تبلغ أم الدماغ ، يقال : رجل مأموم وأميم .قوله تعالى : وأرنا مناسكنا أرنا من رؤية البصر ، فتتعدى إلى مفعولين ، وقيل : من رؤية القلب ، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفاعيل . قال ابن عطية : وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب إلى مفعولين [ كغير المعدى ] قال حطائط بن يعفر أخو الأسود بن يعفر :أريني جوادا مات هزلا لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلداوقرأ عمر بن عبد العزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن والسدي وروح عن يعقوب ورويس والسوسي " أرنا " بسكون الراء في القرآن ، واختاره أبو حاتم . وقرأ أبو عمرو باختلاس كسرة الراء ، والباقون بكسرها ، واختاره أبو عبيد . وأصله أرئنا بالهمز ، فمن قرأ بالسكون قال : ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الراء ساكنة على حالها ، واستدل بقول الشاعر : [ ص: 122 ]أرنا إداوة عبد الله نملؤها من ماء زمزم إن القوم قد ظمئواومن كسر فإنه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الراء وأبو عمرو طلب الخفة . وعن شجاع بن أبي نصر وكان أمينا صادقا أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فذاكره أشياء من حروف أبي عمرو فلم يرد عليه إلا حرفين : هذا ، والآخر " ما ننسخ من آية أو ننسأها " مهموزا .قوله تعالى : مناسكنا يقال : إن أصل النسك في اللغة الغسل ، يقال منه : نسك ثوبه إذا غسله . وهو في الشرع اسم للعبادة ، يقال : رجل ناسك إذا كان عابدا .واختلف العلماء في المراد بالمناسك هنا ، فقيل : مناسك الحج ومعالمه ، قاله قتادة والسدي . وقال مجاهد وعطاء وابن جريج : المناسك المذابح ، أي مواضع الذبح . وقيل : جميع المتعبدات . وكل ما يتعبد به إلى الله تعالى يقال له منسك ومنسك . والناسك : العابد . قال النحاس : يقال نسك ينسك ، فكان يجب أن يقال على هذا : منسك ، إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل . وعن زهير بن محمد قال : لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت الحرام قال : أي رب ، قد فرغت فأرنا مناسكنا ، فبعث الله تعالى إليه جبريل فحج به ، حتى إذا رجع من عرفة وجاء يوم النحر عرض له إبليس ، فقال له : أحصبه ، فحصبه بسبع حصيات ، ثم الغد ثم اليوم الثالث ، ثم علا ثبيرا فقال : يا عباد الله ، أجيبوا ، فسمع دعوته من بين الأبحر ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، فقال : لبيك ، اللهم لبيك ، قال : ولم يزل على وجه الأرض سبعة مسلمون فصاعدا ، لولا ذلك لأهلكت الأرض ومن عليها . وأول من أجابه أهل اليمن .وعن أبي مجلز قال : لما فرغ إبراهيم من البيت جاءه جبريل عليه السلام فأراه الطواف بالبيت - قال : وأحسبه قال : " والصفا والمروة - ثم انطلقا إلى العقبة فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات ، فرمى وكبر ، وقال لإبراهيم : ارم وكبر ، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان . ثم انطلقا إلى الجمرة الوسطى ، فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات ، وقال : ارم وكبر ، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان . ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات وقال : ارم وكبر ، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان . ثم أتى به جمعا فقال : ها هنا يجمع الناس الصلوات . ثم أتى به عرفات فقال : عرفت ؟ فقال نعم ، فمن ثم سمي عرفات . وروي أنه قال له : عرفت ، عرفت ، عرفت ؟ أي منى والجمع وهذا ، فقال نعم ، فسمي ذلك المكان عرفات . وعن خصيف بن عبد الرحمن أن مجاهدا [ ص: 123 ] حدثه قال : لما قال إبراهيم عليه السلام : وأرنا مناسكنا أي الصفا والمروة ، وهما من شعائر الله بنص القرآن ، ثم خرج به جبريل ، فلما مر بجمرة العقبة إذا إبليس عليها ، فقال له جبريل : كبر وارمه ، فارتفع إبليس إلى الوسطى ، فقال جبريل : كبر وارمه ، ثم في الجمرة القصوى كذلك . ثم انطلق به إلى المشعر الحرام ، ثم أتى به عرفة فقال له : هل عرفت ما أريتك ؟ قال نعم ، فسميت عرفات لذلك فيما قيل ، قال : فأذن في الناس بالحج ، قال : كيف أقول ؟ قال قل : يا أيها الناس ، أجيبوا ربكم ، ثلاث مرات ، ففعل ، فقالوا : لبيك ، اللهم لبيك . قال : فمن أجاب يومئذ فهو حاج . وفي رواية أخرى : أنه حين نادى استدار فدعا في كل وجه ، فلبى الناس من كل مشرق ومغرب ، وتطأطأت الجبال حتى بعد صوته . وقال محمد بن إسحاق : لما فرغ إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه من بناء البيت الحرام جاءه جبريل عليه السلام فقال له : طف به سبعا ، فطاف به سبعا هو وإسماعيل عليهما السلام ، يستلمان الأركان كلها في كل طواف ، فلما أكملا سبعا صليا خلف المقام ركعتين . قال : فقام جبريل فأراه المناسك كلها : الصفا والمروة ومنى والمزدلفة . قال : فلما دخل منى وهبط من العقبة تمثل له إبليس . . . . ، فذكر نحو ما تقدم . قال ابن إسحاق : وبلغني أن آدم عليه السلام كان يستلم الأركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام . وقال : حج إسحاق وسارة من الشام ، وكان إبراهيم عليه السلام يحجه كل سنة على البراق ، وحجته بعد ذلك الأنبياء والأمم . وروى محمد بن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق مكة فتعبد بها هو ومن آمن معه حتى يموتوا فمات بها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر .وذكر ابن وهب أن شعيبا مات بمكة هو ومن معه من المؤمنين ، فقبورهم في غربي مكة بين دار الندوة وبين بني سهم . وقال ابن عباس : في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما ، قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام ، فقبر إسماعيل في الحجر ، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود . وقال عبد الله بن ضمرة السلولي : ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيا جاءوا حجاجا فقبروا هنالك ، صلوات الله عليهم أجمعين .قوله تعالى : وتب علينااختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام : وتب علينا وهم أنبياء معصومون ، فقالت طائفة : طلبا التثبيت والدوام ، لا أنهما كان لهما ذنب .قلت : وهذا حسن ، وأحسن منه أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أرادا أن يبينا للناس ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة . وقيل : [ ص: 124 ] المعنى وتب على الظلمة منا . وقد مضى الكلام في عصمة الأنبياء عليهم السلام في قصة آدم عليه السلام . وتقدم القول في معنى قوله : إنك أنت التواب الرحيم فأغنى عن إعادته . | Arabic Qurtubi Tafseer | 2:128 |
ودعوا لأنفسهما, وذريتهما بالإسلام, الذي حقيقته, خضوع القلب, وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح. { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي: علمناها على وجه الإراءة والمشاهدة, ليكون أبلغ. يحتمل أن يكون المراد بالمناسك: أعمال الحج كلها, كما يدل عليه السياق والمقام، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك وهو الدين كله, والعبادات كلها, كما يدل عليه عموم اللفظ, لأن النسك: التعبد, ولكن غلب على متعبدات الحج, تغليبا عرفيا، فيكون حاصل دعائهما, يرجع إلى التوفيق للعلم النافع, والعمل الصالح، ولما كان العبد - مهما كان - لا بد أن يعتريه التقصير, ويحتاج إلى التوبة قالا: { وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } | Arabic Saddi Tafseer | 2:128 |
{ربنا واجعلنا مسلمين لك} موحدين مطيعين مخلصين خاضعين لك.{ومن ذريتنا} أي أولادنا.{أمة} جماعة والأمة أتباع الأنبياء.{مسلمة لك} خاضعة لك.{وأرنا} علمنا وعرفنا، قرأ ابن كثير ساكنة الراء و أبو عمرو بالاختلاس والباقون بكسرها ووافق ابن عامر و أبو بكر في الاسكان في حم السجدة، وأصله أرئنا فحذفت الهمزة طلباً للخفة ونقلت حركتها إلى الراء، ومن سكنها قال: ذهبت الهمزة فذهبت حركتها.{مناسكنا} شرائع ديننا وألام حجنا، وقيل: مواضع حجنا، وقال مجاهد: "مذابحنا، والنسك الذبيحة"، وقيل: متعبداتنا.وأصل النسك العبادة، والناسك العابد فأجاب الله تعالى دعاءهما فبعث جبريل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال: عرفت يا إبراهيم؟ قال: نعم فسمى الوقت عرفة والموضع عرفات.{وتب علينا} تجاوز عنا.{إنك أنت التواب الرحيم }. | Arabic Baghawy Tafseer | 2:128 |
يقول تعالى إخبارا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولا منهم أي من ذرية إبراهيم وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق فى تعيين محمد صلوات الله وسلامه عليه رسولا في الأميين إليهم وإلى سائر الأعجميين من الإنس والجن كما قال الإمام أحمد أخبرنا عبدالرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنى عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك; دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين" وكذلك رواه ابن وهب والليث وكاتبه عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح وتابعه أبو بكر بن أبي مريم عن سعيد بن سويد وقال الإمام أحمد أيضا أخبرنا أبو النضر أخبرنا الفرج أخبرنا لقمان بن عامر قال: سمعت أبا أمامة قال: قلت يا رسول الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال "دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بي ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام ولم يزل ذكره في الناس مذكورا مشهورا سائرا حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل نسبا وهو عيسى ابن مريم عليه السلام حيث قام في بني إسرائيل خطيبا وقال "إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" ولهذا قال في هذا الحديث "دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ابن مريم". وقوله "ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" قيل كان مناما رأته حين حملت به وقصته على قومها فشاع فيهم وأشتهر بينهم وكان ذلك توطئة وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها ولهذا جاء في الصحيحين "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" وفي صحيح البخاري "وهم بالشام" قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقيل له قد أستجيب لك وهو كائن في آخر الزمان وكذا قال السدي وقتادة وقوله تعالى "ويعلمهم" الكتاب" يعني القرآن" والحكمة" يعني السنة قاله الحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وأبو مالك وغيرهم وقيل الفهم في الدين ولا منافاة "ويزكيهم" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني طاعة الله والإخلاص وقال: محمد بن إسحق "ويعلمهم الكتاب والحكمة" قال يعلمهم الخير فيفعلوه والشر فيتقوه ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته وقوله "إنك أنت العزيز الحكيم" أي العزيز الذي لا يعجزه شيء وهو قادر على كل شيء الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها وحكمته وعدله. | ابن كثير | 2:129 |
ربنا وابعث في هذه الأمة رسولا من ذرية إسماعيل يتلو عليهم آياتك ويعلمهم القرآن والسنة، ويطهرهم من الشرك وسوء الأخلاق. إنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليه شيء، الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها. | المیسر | 2:129 |
كرر النداء لأنه عطف غرض آخر في هذا الدعاء وهو غرض الدعاء بمجيء الرسالة في ذريته لتشريفهم وحرصاً على تمام هديهم .وإنما قال : { فيهم } ولم يقل لهم لتكون الدعوة بمجيء رسول برسالة عامة فلا يكون ذلك الرسول رسولاً إليهم فقط ، ولذلك حذف متعلق { رسولاً ليعم ، فالنداء في قوله : ربنا وابعث } اعتراض بين جمل الدعوات المتعاطفة ، ومظهر هذه الدعوة هو محمد صلى الله عليه وسلم فإنه الرسول الذي هو من ذرية إبراهيم وإسماعيل كليهما ، وأما غيره من رسل غير العرب فليسوا من ذرية إسماعيل ، وشعيب من ذرية إبراهيم وليس من ذرية إسماعيل ، وهود وصالح هما من العرب العاربة فليسا من ذرية إبراهيم ولا من ذرية إسماعيل .وجاء في التوراة ( في الإصحاح 17 من التكوين ) «ظهر الرب لإبرام أي إبراهيم» وقال له : أنا الله القدير سرْ أمامي وكن كاملاً فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيراً جداً وفي فقرة 20 وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً» . وذكر عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهودياً فأسلم هو وأولاده وأهله في سبتة وكان موجوداً بها سنة 736 ست وثلاثين وسبعمائة في كتاب له سماه «الحسام المحدود في الرد على اليهود» : أن كلمة كثيراً جداً أصلها في النص العبراني «مادا مادا» وأنها رمز في التوراة لاسم محمد بحساب الجمَّل لأن عدد حروف «مادا مادا» بحساب الجُمَّل عند اليهود تجمع عدد اثنين وتسعين وهو عدد حروف محمد اه وتبعه على هذا البقاعي في «نظم الدرر» .ومعنى { يتلو عليهم آياتك } يقرؤها عليهم قراءة تذكير ، وفي هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع . فالآيات جمع آية وهي الجملة من جمل القرآن ، سميت آية لدلالتها على صدق الرسول بمجموع ما فيها من دلالة صدور مثلها من أمي لا يقرأ ولا يكتب ، وما نُسجت عليه من نظم أعجز الناس عن الإتيان بمثله ، ولما اشتملت عليه من الدلالة القاطعة على توحيد الله وكمال صفاته دلالة لم تترك مسلكاً للضلال في عقائد الأمة بحيث أمنت هذه الأمة من الإشراك ، قال النبيء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع " إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في بلدكم هذا "وجيء بالمضارع في قوله : { يتلو } للإشارة إلى أن هذا الكتاب تتكرر تلاوته .والحكمة العِلم بالله ودقائق شرائعه وهي معاني الكتاب وتفصيل مقاصده ، وعن مالك : الحكمة معرفة الفقه والدين والاتباع لذلك ، وعن الشافعي الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلاهما ناظر إلى أن عطف الحكمة على الكتاب يقتضي شيئاً من المغايرة بزيادة معنى وسيجيء تفصيل معنى الحكمة عند قوله تعالى :{ يؤتي الحكمة من يشاء } في هذه السورة ( 269 ) .والتزكية التطهير من النقائص وأكبر النقائص الشرك بالله ، وفي هذا تعريض بالذين أعرضوا عن متابعة القرآن وأبوا إلا البقاء على الشرك .وقد جاء ترتيب هذه الجمل في الذكر على حسب ترتيب وجودها لأن أول تبليغ الرسالة تلاوة القرآن ثم يكون تعليم معانيه قال تعالى : { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه } [ القيامة : 18 ، 19 ] العلم تحصل به التزكية وهي في العمل بإرشاد القرآن .وقوله : { إنك أنت العزيز الحكيم } تذييل لتقريب الإجابة أي لأنك لا يغلبك أمر عظيم ولا يعزب عن علمك وحكمتك شيء . والحكيم بمعنى المحكم هو فعيل بمعنى مفعل وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } [ البقرة : 10 ] وقوله : { قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إِنك أنت العليم الحكيم } [ البقرة : 32 ] . | Arabic Tanweer Tafseer | 2:129 |
ثم ختم إبراهيم وإسماعيل دعواتهما بتلك الدعوة التي فيها خيرهم في الدنيا والآخرة ، فقالا - كما حكي القرآن عنهما :( رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم ) .الضمير في قوله : ( مِّنْهُمْ ) يعود إلى الذرية أو الأمة المسلمة في قوله : ( وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) .والرسول : من أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه : وتلاوة الشيء : قراءته والمراد بقوله تعالى : ( يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ) يقرؤها عليهم قراءة تذكير وفي هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع .والآيات : جمع آية ، والمراد بها ما يشهد بوحدانية الله ، وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه ، أو المراد بها آيات القرآن الكريم فهو يتلوها عليهم ليحفظوها بألفاظها كما نزلت ، ويتعبدوا بتلاوتها ، وليعرفوا من فضل بلاغتها وروعة أساليبها وجهاً مشرقاً من وجوه إعجازها .والكتاب : القرآن ، وتعلمه يكون ببيان معانيه وحقائقه ، ليعرفوا ما أقامه لهم من دلائل التوحيد وما اشتمل عليه من أحكام وحكم ومواعظ وآداب .والحكمة : العلم النافع المصحوب بالعمل الواقع موقعه اللائق به . ووضعها بجانب الكتاب يرجح أن المراد بها السنة النبيوة المطهرة التي تنتظم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ، إذ بالكتاب وبالسنة يعرف الناس أصلح الأعمال ، وأعدل الأحكام وأسنى الآداب ، وتنفتح لهم طرق التفقه في أسرار الدين ومقاصده .ويزكيهم : أي يطهرهم من أرجاس الشرك ومن كل ما لا يليق التلبس به ظاهراً أو باطناً .يقال : زكاة الله ، أي طهره وأصلحه ، ومنه زكاة المال لتطهره بها ، وأصل الزكاة - بالمد - النماء والزيادة ، يقال . زكا الزرع زكاء وزكوا ، أي نما .والمعنى : ونسألك يا ربنا أن تبعث فثي الأمة المسلمة ، أو في ذريتنا رسولا منهم يقرأ عليهم آياتك الدالة على وحدانيتك ، ويعلمهم كتابك بأن يبين لهم معانيه ، ويرشدهم إلى ما فيه من حكم ومواعظ وآداب ، كما يهديهم إلى الحكمة التي تتمثل في اتباع سنة نبيك - والتي بها يتم التفقه في الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده ، والتي يكمل بها العلم بالكتاب إنك يا مولانا أنت العزيز الحكيم .أي القادر الذي لا يغلب على أمره ، العالم الذي يدبر الأمور على وفق المصلحة ، ومن كان قادراً على كل ما يريد ، عليما بوجوه المصالح ، كانت استجابته قريبة من دعاء الخير الصادر عن إخلاص وابتهال .وقد جاءت ترتيب هذه الجمل في أسمى درجات البلاغة والحكمة؛ لأن أول تبليغ الرسالة يكون بتلاوة القرآن ثم بتعليم معانيه ، ثم بتعليم العلم النافع الذي تحصل به التزكية والتطير من كل ما لا يليق التلبس به في الظاهر ، أو الباطن .وقد سأل إبراهيم وإسماعيل ربهما أن تكون بعثة الرسول في ذريتهما فيكون أمر الإِيمان قريبا منهم ، فإن نشأته بينهم ، ومعرفة سيرته قبل الرسالة وشهادتهم له بالصدق والأمانة ، وكل ذلك يحمل العقلاء على المبادرة إلى تصديقه فيما يبلغه عن ربه .ولقد حقق الله تعالى دعوة هذين النبيين الكريمين ، فأرسل في ذريتهما رسولا منهم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم أرسله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً .وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه دعوة إبراهيم ، فقال : " أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات المؤمنين يرين "ثم عرض القرآن بعد ذلك بالجاحدين والمعاندين الذين تركوا الحق الواضع الذي هو ملة إبراهيم فقال :( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصطفيناه . . . ) | Arabic Waseet Tafseer | 2:129 |
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } / وَهَذِهِ دَعْوَة إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل لِنَبِيِّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة , وَهِيَ الدَّعْوَة الَّتِي كَانَ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : " أَنَا دَعْوَة أَبِي إبْرَاهِيم وَبُشْرَى عِيسَى " . 1708 - حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ ثَوْر بْن يَزِيد , عَنْ خَالِد بْن مَعْدَان الْكُلَاعِيّ : أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسك ! قَالَ ; " نَعَمْ , أَنَا دَعْوَة أَبِي إبْرَاهِيم , وَبُشْرَى عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . 1709 - حَدَّثَنِي عِمْرَان بْن بَكَّار الْكُلَاعِيّ , قَالَ : ثنا أَبُو الْيَمَان , قَالَ : ثنا أَبُو كُرَيْب , عَنْ أَبِي مَرْيَم , عَنْ سَعِيد بْن سُوَيْد , عَنْ الْعِرْبَاضِ بْن سَارِيَة السُّلَمِيّ , قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : " إنِّي عِنْد اللَّه فِي أُمّ الْكِتَاب خَاتَم النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَم لَمُنْجَدِل فِي طِينَته , وَسَوْفَ أُنَبِّئكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ : أَنَا دَعْوَة أَبِي إبْرَاهِيم وَبِشَارَة عِيسَى قَوْمه وَرُؤْيَا أُمِّي " . * حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : ثنا ابْن وَهْب , قَالَ : أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَة , وَحَدَّثَنِي عُبَيْد بْن آدَم بْن أَبِي إيَاس الْعَسْقَلَانِيّ , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ : ثنا اللَّيْث بْن سَعْد , عَنْ مُعَاوِيَة بْن صَالِح , قَالَا جَمِيعًا , عَنْ سَعِيد بْن سُوَيْد , عَنْ عَبْد اللَّه بْن هِلَال السُّلَمِيّ , عَنْ عِرْبَاض بْن سَارِيَة السُّلَمِيّ , عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو صَالِح , قَالَ : ثنا مُعَاوِيَة , عَنْ سَعِيد بْن سُوَيْد , عَنْ عَبْد الْأَعْلَى بْن هِلَال السُّلَمِيّ , عَنْ عِرْبَاض بْن سَارِيَة أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول ; فَذَكَرَ نَحْوه . وَبِاَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1710 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } فَفَعَلَ اللَّه ذَلِكَ , فَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسهمْ يَعْرِفُونَ وَجْهه وَنَسَبه , يُخْرِجهُمْ مِنْ الظُّلُمَات إلَى النُّور , وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاط الْعَزِيز الْحَمِيد . 1711 - حَدَّثَنَا مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } هُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . 1712 - حَدَّثَنَا عَنْ عَمَّار , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرَّبِيع : { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } هُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقِيلَ لَهُ : قَدْ اُسْتُجِيبَ ذَلِكَ , وَهُوَ فِي آخِر الزَّمَان . وَيَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتك } يَقْرَأ عَلَيْهِمْ كِتَابك الَّذِي تُوحِيه إلَيْهِ .وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَيُعَلِّمهُمْ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة } . وَيَعْنِي بِالْكِتَابِ الْقُرْآن . وَقَدْ بَيَّنْت فِيمَا مَضَى لِمَ سُمِّيَ الْقُرْآن كِتَابًا وَمَا تَأْوِيله . وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1713 - حَدَّثَنِي يُونُس قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد : { وَيُعَلِّمهُمْ الْكِتَاب } الْقُرْآن . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى الْحِكْمَة الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه فِي هَذَا الْمَوْضِع , فَقَالَ بَعْضهمْ : هِيَ السُّنَّة . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1714 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , وَالْحِكْمَة : أَيْ السُّنَّة . وَقَالَ بَعْضهمْ : الْحِكْمَة هِيَ الْمَعْرِفَة بِالدِّينِ وَالْفِقْه فِيهِ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1715 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قُلْت لِمَالِكِ : مَا الْحِكْمَة ؟ قَالَ : الْمَعْرِفَة بِالدِّينِ , وَالْفِقْه فِي الدِّين , وَالِاتِّبَاع لَهُ . 1716 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { وَالْحِكْمَة } قَالَ : الْحِكْمَة : الدِّين الَّذِي لَا يَعْرِفُونَهُ إلَّا بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمهُمْ إيَّاهَا . قَالَ : وَالْحِكْمَة : الْعَقْل فِي الدِّين ; وَقَرَأَ : { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } . 2 269 وَقَالَ لِعِيسَى : { وَيُعَلِّمهُ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة وَالتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل } . 3 48 قَالَ : وَقَرَأَ ابْن زَيْد : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } . 7 175 قَالَ : لَمْ يَنْتَفِع بِالْآيَاتِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ مَعَهَا حِكْمَة . قَالَ : وَالْحِكْمَة شَيْء يَجْعَلهُ اللَّه فِي الْقَلْب يُنَوِّر لَهُ بِهِ . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل عِنْدنَا فِي الْحِكْمَة , أَنَّهَا الْعِلْم بِأَحْكَامِ اللَّه الَّتِي لَا يُدْرَك عِلْمهَا إلَّا بِبَيَانِ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْرِفَة بِهَا , وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ نَظَائِره . وَهُوَ عِنْدِي مَأْخُوذ مِنْ " الْحُكْم " الَّذِي بِمَعْنَى الْفَصْل بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل بِمَنْزِلَةِ " الْجِلْسَة وَالْقَعْدَة " مِنْ " الْجُلُوس وَالْقُعُود " , يُقَال مِنْهُ : إنَّ فُلَانًا لَحَكِيم بَيِّن الْحِكْمَة , يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَبَيِّن الْإِصَابَة فِي الْقَوْل وَالْفِعْل . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَتَأْوِيل , الْآيَة : رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتك , وَيُعَلِّمهُمْ كِتَابك الَّذِي تُنَزِّلهُ عَلَيْهِمْ , وَفَصْل قَضَائِك , وَأَحْكَامك الَّتِي تُعَلِّمهُ إيَّاهَا .وَيُزَكِّيهِمْالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَيُزَكِّيهِمْ } . قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْل عَلَى أَنَّ مَعْنَى التَّزْكِيَة : التَّطْهِير , وَأَنَّ مَعْنَى الزَّكَاة : النَّمَاء وَالزِّيَادَة . فَمَعْنَى قَوْله : { وَيُزَكِّيهِمْ } فِي هَذَا الْمَوْضِع : وَيُطَهِّرهُمْ مِنْ الشِّرْك بِاَللَّهِ وَعِبَادَة الْأَوْثَان وَيُنَمِّيهِمْ وَيُكَثِّرهُمْ بِطَاعَةِ اللَّه . كَمَا : 1717 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة بْن صَالِح , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس : { يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتك وَيُزَكِّيهِمْ } قَالَ : يَعْنِي بِالزَّكَاةِ , طَاعَة اللَّه وَالْإِخْلَاص . 1718 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثنا حَجَّاج , قَالَ : قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : قَوْله : { وَيُزَكِّيهِمْ } قَالَ : يُطَهِّرهُمْ مِنْ الشِّرْك وَيُخَلِّصهُمْ مِنْهُ .إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم } . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِذَلِكَ : إنَّك يَا رَبّ أَنْت الْعَزِيز الْقَوِيّ الَّذِي لَا يُعْجِزهُ شَيْء أَرَادَهُ , فَافْعَلْ بِنَا وَبِذُرِّيَّتِنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَطَلَبْنَاهُ مِنْك . وَالْحَكِيم : الَّذِي لَا يَدْخُل تَدْبِيره خَلَل وَلَا زَلَل , فَأَعْطِنَا مَا يَنْفَعنَا وَيَنْفَع ذُرِّيَّتنَا , وَلَا يُنْقِصك وَلَا يُنْقِص خَزَائِنك . | الطبري | 2:129 |
قوله تعالى : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم قوله تعالى : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يعني محمدا صلى الله عليه وسلم . وفي قراءة أبي " وابعث في آخرهم رسولا منهم " . وقد روى خالد بن معدان : أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له : يا رسول الله ، أخبرنا عن نفسك ، قال : نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى . ورسولا أي مرسلا ، وهو فعول من الرسالة . قال ابن الأنباري : يشبه أن يكون أصله من قولهم : ناقة مرسال ورسلة ، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق . ويقال للجماعة المهملة المرسلة : رسل ، وجمعه أرسال . يقال : جاء القوم أرسالا ، أي بعضهم في أثر بعض ، ومنه يقال للبن رسل ; لأنه يرسل من الضرع .قوله تعالى : ويعلمهم الكتاب والحكمة الكتاب القرآن والحكمة المعرفة بالدين ، والفقه في التأويل ، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى ، قاله مالك ، ورواه عنه ابن وهب ، وقاله ابن زيد . وقال قتادة : الحكمة السنة وبيان الشرائع . وقيل : الحكم والقضاء خاصة ، والمعنى متقارب . ونسب التعليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها ، ويعلم طريق النظر بما يلقيه الله إليه من وحيه . ويزكيهم أي يطهرهم من وضر الشرك ، عن ابن جريج وغيره . والزكاة : التطهير ، وقد تقدم . وقيل : إن الآيات تلاوة ظاهر الألفاظ . والكتاب معاني الألفاظ . والحكمة الحكم ، وهو مراد الله بالخطاب من مطلق ومقيد ، ومفسر ومجمل ، وعموم وخصوص ، وهو معنى ما تقدم ، والله تعالى أعلم .إنك أنت العزيز الحكيم والعزيز معناه المنيع الذي لا ينال ولا يغالب . وقال ابن كيسان : معناه الذي لا يعجزه شيء ، دليله : وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض . الكسائي : العزيز الغالب ، ومنه قوله تعالى : وعزني في الخطاب وفي المثل : " من عز بز " أي من [ ص: 125 ] غلب سلب . وقيل : العزيز الذي لا مثل له ، بيانه ليس كمثله شيء . وقد زدنا هذا المعنى بيانا في اسمه العزيز في كتاب " الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى " وقد تقدم معنى الحكيم والحمد لله . | Arabic Qurtubi Tafseer | 2:129 |
{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ } أي: في ذريتنا { رَسُولًا مِنْهُمْ } ليكون أرفع لدرجتهما, ولينقادوا له, وليعرفوه حقيقة المعرفة. { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } لفظا, وحفظا, وتحفيظا { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } معنى. { وَيُزَكِّيهِمْ } بالتربية على الأعمال الصالحة والتبري من الأعمال الردية, التي لا تزكي النفوس معها. { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ } أي: القاهر لكل شيء, الذي لا يمتنع على قوته شيء. { الْحَكِيمُ } الذي يضع الأشياء مواضعها، فبعزتك وحكمتك, ابعث فيهم هذا الرسول. فاستجاب الله لهما, فبعث الله هذا الرسول الكريم, الذي رحم الله به ذريتهما خاصة, وسائر الخلق عامة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: \" أنا دعوة أبي إبراهيم \" ولما عظم الله إبراهيم هذا التعظيم, وأخبر عن صفاته الكاملة قال تعالى: | Arabic Saddi Tafseer | 2:129 |
{ربنا وابعث فيهم} أي في الأمة المسلمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل، وقيل: من أهل مكة.{رسولاً منهم} أي مرسلاً أراد به محمداً صلى الله عليه وسلم.حدثنا السيد أبو القاسم علي بن موسى الموسوي حدثنى أبو بكر أحمد بن محمد بن عباس البلخي أنا الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي أنا محمد بن المكي أنا إسحاق بن إبراهيم أنا ابن أخي ابن وهب أنا عمي أنا معاوية عن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بأول أمري، أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام". وأراد بدعوة إبراهيم هذا فإنه دعا أن يبعث في بني إسماعيل رسولاً منهم،قال ابن عباس: "كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين".{يتلو} يقرأ.{عليهم آياتك} كتابك يعني القرآن والآية من القرآن كلام متصل إلى انقطاعه، وقيل: هي جماعة حروف يقال خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم.{ويعلمهم الكتاب} يعني القرآن.{والحكمة} قال مجاهد: "فهم القرآن"، وقال مقاتل: "مواعظ القرآن وما فيه من الأحكام"، قال ابن قتيبية: "هي العلم والعمل، ولا يكون الرجل حكيماً حتى يجمعهما"، وقيل: هي السنة، وقيل: هي الأحكام والقضاء، وقيل: الحكمة الفقه.قال أبو بكر بن دريد: "كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة".{ويزكيهم} أي يطهرهم من الشرك والذنوب، وقيل: يأخذ الزكاة من أموالهم، وقال ابن كيسان: "يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ من التزكية، وهي التعديل".{إنك أنت العزيز الحكيم} قال ابن عباس: "العزيز الذي لا يوجد مثله"، وقال الكلبي: "المنتقم؛ بيانه قوله تعالى: {والله عزيز ذو انتقام}[4-آل عمران]".وقيل: المنيع الذي لا تناله الأيدي ولا يصل إليه شيء، وقيل: القوي؛ والعزة القوة قال الله تعالى {فعززنا بثالث} [14-يس]، أي قوينا، وقيل: الغالب قال الله تعالى إخباراً {وعزني في الخطاب} [23-ص] أي غلبني، ويقال في المثل: "(من عز بز) أي من غلب سلب". | Arabic Baghawy Tafseer | 2:129 |
يقول تبارك وتعالى ردا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله المخالف لملة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء فإنه جرد توحيد ربه تبارك وتعالى فلم يدع معه غيره ولا أشرك به طرفة عين وتبرأ من كل معبود سواه وخالف في ذلك سائر قومه حتى تبرأ من أبيه فقال يا قوم "إنى بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين" وقال تعالى "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه أنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين" وقال تعالى "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم" وقال تعالى "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين" ولهذا وأمثاله قال تعالى: "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه" أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلا وهو في الآخرة من الصالحين السعداء فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته واتبع طرق الضلالة والغي فأي سفه أعظم من هذا؟ أم أي ظلم أكبر من هذا كله قال تعالى: "إن الشرك لظلم عظيم" قال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الآية في اليهود أحدثوا طريقا ليست من عند الله وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين". | ابن كثير | 2:130 |
ولا أحد يُعرض عن دين إبراهيم -وهو الإسلام- إلا سفيه جاهل، ولقد اخترنا إبراهيم في الدنيا نبيًّا ورسولا وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين لهم أعلى الدرجات. | المیسر | 2:130 |
موقع هاته الآيات من سوابقها موقع النتيجة بعد الدليل ، فإنه لما بين فضائل إبراهيم من قوله : { وإذ ابتلى } [ البقرة : 124 ] إلى هنا علم أن صاحب هاته الفضائل لا يعدل عن دينه والاقتداء به إلا سفيه العقل أفن الرأي ، فمقتضى الظاهر أن تعطف على سوابقها بالفاء وإنما عدل من الفاء إلى الواو ليكون مدلول هذه الجملة مستقلاً بنفسه في تكميل التنويه بشأن إبراهيم وفي أن هذا الحكم حقيق بملة إبراهيم من كل جهة لا من خصوص ما حكي عنه في الآيات السالفة وفي التعريض بالذين حادوا عن الدين الذي جاء متضمناً لملة إبراهيم ، والدلالة عن التفريع لا تفوت لأن وقوع الجملة بعد سوابقها متضمنة هذا المعنى دليل على أنها نتيجة لما تقدم كما تقول أحسن فلان تدبير المهم وهو رجل حكيم ولا تحتاج إلى أن تقول فهو رجل حكيم .والاستفهام للإنكار والاستبعاد ، واستعماله في الإنكار قد يكون مع جواز إرادة قصد الاستفهام فيكون كناية ، وقد يكون مع عدم جواز إرادة معنى الاستفهام فيكون مجازاً في الإنكار ويكون معناه معنى النفي ، والأظهر أنه هنا من قبيل الكناية فإن الإعراض عن ملة إبراهيم مع العلم بفضلها ووضوحها أمر منكر مستبعد . ولما كان شأن المنكر المستبعد أن يسأل عن فاعله استعمل الاستفهام في ملزومه وهو الإنكار والاستبعاد على وجه الكناية مع أنه لو سئل عن هذا المعرض لكان السؤال وجيهاً ، والاستثناء قرينة عن إرادة النفي واستعمال اللفظ في معنيين كنائيين ، أو ترشيح للمعنى الكنائي وهما الإنكار . والاستفهام لا يجيء فيه ما قالوا في استعمال اللفظ المشترك في معنييه واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه أو في مجازيه لأن الدلالة على المعنى الكنائي بطريق العقل بخلاف الدلالة على المعنيين الموضوع لهما الحقيقي وعلى المعنى الحقيقي والمجازي إذ الذين رأوا ذلك منعوا بعلة أن قصد الدلالة باللفظ على أحد المعنيين يقتضي عدم الدلالة به على الآخر لأنه لفظ واحد فإذا دل على معنى تمت دلالته وأن الدلالة على المعنيين المجازيين دلالة باللفظ على أحد المعنيين فتقضى أنه نقل من مدلوله الحقيقي إلى مدلول مجازي وذلك يقتضي عدم الدلالة به على غيره لأنه لفظ واحد ، وقد أبطلنا ذلك في المقدمة التاسعة ، أما المعنى الكنائي فالدلالة عليه عقلية سواء بقي اللفظ دالاً على معناه الحقيقي أم تعطلت دلالته عليه . ولك أن تجعل استعمال الاستفهام في معنى الإنكار مجازاً بعلاقة اللزوم كما تكرر في كل كناية لم يرد فيها المعنى الأصلي وهو أظهر لأنه مجاز مشهور حتى صار حقيقة عرفية فقال النحاة : الاستفهام الإنكاري نفي ولذا يجيء بعده الاستثناء ، والتحقيق أنه لايطرد أن يكون بمعنى النفي ولكنه يكثر فيه ذلك لأن شأن الشيء المنكر بأن يكون معدوماً ولهذا فالاستثناء هنا يصح أن يكون استثناء من كلام دل عليه الاستفهام كأنَّ مجيباً أجاب السائل بقوله : «لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه .والرغبة طلب أمر محبوب ، فحق فعلها أن يتعدى بفي وقد يعدى بعن إذا ضمن معنى العدول عن أمر وكثر هذا التضمين في الكلام حتى صار منسياً .والملة الدين وتقدم بيانها عند قوله تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتي تتبع ملتهم } [ البقرة : 120 ] .وسفه بمعنى استخف لأن السفاهة خفة العقل واضطرابه يقال تسفهه استخفه قال ذو الرمة :مَشَيْن كما اهتزت رماحٌ تسفَّهَتْ ... أَعاليَها مَرُّ الرياح النَّوَاسمومنه السفاهة في الفعل وهو ارتكاب أفعال لا يرضى بها أهل المروءة . والسفه في المال وهو إضاعته وقلة المبالاة به وسوء تنميته . وسفهه بمعنى استخفه وأهانه لأن الاستخفاف ينشأ عنه الإهانة وسفه صار سفيهاً وقد تضم الفاء في هذا .وانتصاب { نفسه } إما على المفعول به أي أهملها واستخفها ولم يبال بإضاعتها دنيا وأخرى ويجوز انتصابه على التمييز المحول عن الفاعل وأصله سَفِهَتْ نفسُه أي خفت وطاشت فحُوِّل الإسنادُ إلى صاحب النفس على طريقة المجاز العقلي للملابسة قصداً للمبالغة وهي أن السفاهة سرت من النفس إلى صاحبها من شدة تمكنها بنفسه حتى صارت صفة لجثمانه ، ثم انتصب الفاعل على التمييز تفسيراً لذلك الإبهام في الإسناد المجازي ، ولا يعكر عليه مجيء التمييز معرفةً بالإضافة لأن تنكير التمييز أغلبي .والمقصود من قوله : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } تسفيه المشركين في إعراضهم عن دعوة الإسلام بعد أن بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإسلام مُقام على أساس الحنيفية وهي معروفة عندهم بأنها ملة إبراهيم قال تعالى : { ثم أوحينا إليك أَننِ اتَّبع ملةَ إبراهيم حنيفاً } [ النحل : 123 ] وقال في الآية السابقة { ربنا واجعلنا مُسْلِمَيْننِ لك ومن ذريتنا أُمَّةً مُسْلِمةً لك } [ البقرة : 128 ] وقال : { وأوْصَى بها إبراهيم بنيه ويعقوبُ } [ البقرة : 132 ] إلى قوله : { فلا تَمُوتُنَّ إلا وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] .وجملة { ولقد اصطفيناه } معطوفة على الجمل التي قبلها الدالة على رفعة درجة إبراهيم عند الله تعالى إذ جعله للناس إماماً وضمن له النبوءة في ذريته وأَمَرَهُ ببناء مسجد لتوحيده واستجاب له دعواته .وقد دلت تلك الجمل على اختيار الله إياه فلا جرم أعقبت بعطف هذه الجملة عليها لأنها جامعة لفذلكتها وزائدة بذكر أنه سيكون في الآخرة من الصالحين . واللام جواب قسم محذوف وفي ذلك اهتمام بتقرير اصطفائه وصلاحه في الآخرة .ولأجل الاهتمام بهذا الخبر الأخير أكد بقوله : { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } فقوله : { وإنه في الآخرة إلى آخره اعتراض بين جملة اصطفيناه } وبين الظرف وهو قوله : { إذْ قال له ربه أَسلم } ، إذ هو ظرف لاصطفيناه وما عطف عليه ، قصد من هذه الظرفية التخلُّص إلى منقبة أخرى ، لأن ذلك الوقت هو دليل اصطفائه حيث خاطبه الله بوحي وأمره بما تضمنه قوله { أسْلِم } من معانٍ جماعها التوحيدُ والبراءةُ من الحول والقوة وإخلاصُ الطاعة ، وهو أيضاً وقتُ ظهور أن الله أراد إصلاح حاله في الآخرة إذ كلٌّ مُيسَّر لما خلق له . | Arabic Tanweer Tafseer | 2:130 |
قوله تعالى : ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ) معناه : لا أحد من الناس يكره ملة إبراهيم وينصرف عنها إلى الشرك بالله ، إلا من امتهن نفسه ، واستخف بها وظلمها بسوء رأيه حيث ترك طريق الحق إلى طريق الضلالة .يقال رغب في كذا إذا أراده ، ورغب عن كذا إذا كرهه وانصرفت عنه نفسه والملة في الأصل الطريقة ، وغلب إطلاقها على أصول الدين من حيث إن صاحبها يصل عن طريقها إلى دار السلام وسفه نفسه امتهنا واستخف بها .ثم بين الله - تعالى - منزلة نبيه إبراهيم - عليه السلام - وخطأ من يرغب عن طريقته المثلى فقال تعالى : ( وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين ) أي : ولقد اخترناه للرسالة وهداية الناس وإرشادهم في الدنيا ، وإنه في الآخرة لمن الصالحين المستقيمين على الطريقة المثلى . فمن يرغب عن ملة من هذا شأنه إلى غيرها من طرق الضلال لا يماثله أحد في سفهه وسوء رأيه . | Arabic Waseet Tafseer | 2:130 |
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم } يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم } وَأَيّ النَّاس يَزْهَد فِي مِلَّة إبْرَاهِيم وَيَتْرُكهَا رَغْبَة عَنْهَا إلَى غَيْرهَا . وَإِنَّمَا عَنَى اللَّه بِذَلِكَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى لِاخْتِيَارِهِمْ مَا اخْتَارُوا مِنْ الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة عَلَى الْإِسْلَام ; لِأَنَّ مِلَّة إبْرَاهِيم هِيَ الْحَنِيفِيَّة الْمُسْلِمَة , كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْره : { مَا كَانَ إبْرَاهِيم يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا } 3 67 فَقَالَ تَعَالَى ذِكْره لَهُمْ : وَمَنْ يَزْهَد عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم الْحَنِيفِيَّة الْمُسْلِمَة إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه . كَمَا : 1719 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه } رَغِبَ عَنْ مِلَّته الْيَهُود وَالنَّصَارَى , وَاِتَّخَذُوا الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة بِدْعَة لَيْسَتْ مِنْ اللَّه , وَتَرَكُوا مِلَّة إبْرَاهِيم - يَعْنِي الْإِسْلَام - حَنِيفًا , كَذَلِكَ بَعَثَ اللَّه نَبِيّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِلَّةِ إبْرَاهِيم . 1720 - حُدِّثْت عَنْ عَمَّار , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع فِي قَوْله : { وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه } قَالَ : رَغِبَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم وَابْتَدَعُوا الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة وَلَيْسَتْ مِنْ اللَّه , وَتَرَكُوا مِلَّة إبْرَاهِيم الْإِسْلَام .إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه } . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه } إلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسه , وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ مَعْنَى السَّفَه : الْجَهْل . فَمَعْنَى الْكَلَام : وَمَا يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم الْحَنِيفِيَّة إلَّا سَفِيه جَاهِل بِمَوْضِعِ حَظّ نَفْسه فِيمَا يَنْفَعهَا وَيَضُرّهَا فِي مُعَادهَا . كَمَا : 1721 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه } قَالَ : إلَّا مَنْ أَخْطَأَ حَظّه . وَإِنَّمَا نُصِبَ " النَّفْس " عَلَى مَعْنَى الْمُفَسَّر ; ذَلِكَ أَنَّ السَّفَه فِي الْأَصْل لِلنَّفْسِ , فَلَمَّا نُقِلَ إلَى " مَنْ " نُصِبَتْ " النَّفْس " بِمَعْنَى التَّفْسِير , كَمَا يُقَال : هُوَ أَوْسَعكُمْ دَارًا , فَتَدْخُل " الدَّار " فِي الْكَلَام عَلَى أَنَّ السِّعَة فِيهِ لَا فِي الرَّجُل . فَكَذَلِكَ النَّفْس أُدْخِلَتْ , لِأَنَّ السَّفَه لِلنَّفْسِ لَا ل " مَنْ " ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَال سَفِهَ أَخُوك , وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُفَسَّر بِالنَّفْسِ وَهِيَ مُضَافَة إلَى مَعْرِفَة لِأَنَّهَا فِي تَأْوِيل نَكِرَة . وَقَالَ بَعْض نَحْوِيِّي الْبَصْرَة : إنَّ قَوْله : { سَفِهَ نَفْسه } جَرَتْ مَجْرَى " سَفِهَ " إذَا كَانَ الْفِعْل غَيْر مُتَّعَد . وَإِنَّمَا عَدَّاهُ إلَى " نَفْسه " و " رَأْيه " وَأَشْبَاه ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي الْمَعْنَى نَحْو سَفِهَ , إذَا هُوَ لَمْ يَتَعَدَّ . فَأَمَّا " غَبَنَ " و " خَسِرَ " فَقَدْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْره , يُقَال : غَبَنَ خَمْسِينَ , وَخَسِرَ خَمْسِينَ .وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَاالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَا إبْرَاهِيم , وَالْهَاء الَّتِي فِي قَوْله : { اصْطَفَيْنَاهُ } مِنْ ذِكْر إبْرَاهِيم . وَالِاصْطِفَاء : الِافْتِعَال مِنْ الصَّفْوَة , وَكَذَلِكَ اصْطَفَيْنَا افْتَعَلْنَا مِنْهُ , صُيِّرَتْ تَاؤُهَا طَاء لِقُرْبِ مَخْرَجهَا مِنْ مَخْرَج الصَّاد . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { اصْطَفَيْنَاهُ } اخْتَرْنَاهُ وَاجْتَبَيْنَاهُ لِلْخِلَّةِ , وَنَصِيرهُ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ بَعْده إمَامًا . وَهَذَا خَبَر مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَنْ أَنَّ مَنْ خَالَفَ إبْرَاهِيم فِيمَا سَنَّ لِمَنْ بَعْده فَهُوَ لِلَّهِ مُخَالِف , وَإِعْلَام مِنْهُ خَلْقه أَنَّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لِإِبْرَاهِيم مُخَالِف ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره أَخْبَرَ أَنَّهُ اصْطَفَاهُ لِخِلَّتِهِ , وَجَعَلَهُ لِلنَّاسِ إمَامًا , وَأَخْبَرَ أَنَّ دِينه كَانَ الْحَنِيفِيَّة الْمُسْلِمَة . فَفِي ذَلِكَ أَوْضَح الْبَيَان مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَنْ أَنَّ مَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ لِلَّهِ عَدُوّ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِمَام الَّذِي نَصَبَهُ اللَّه لِعِبَادِهِ .وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَة لَمِنْ الصَّالِحِينَ } . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَة لَمِنْ الصَّالِحِينَ } وَإِنَّ إبْرَاهِيم فِي الدَّار الْآخِرَة لَمِنْ الصَّالِحِينَ . وَالصَّالِح مِنْ بَنِي آدَم هُوَ الْمُؤَدِّي حُقُوق اللَّه عَلَيْهِ . فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْره عَنْ إبْرَاهِيم خَلِيله أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا لَهُ صَفِيّ , وَفِي الْآخِرَة وَلِيّ , وَإِنَّهُ وَارِد مَوَارِد أَوْلِيَائِهِ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِ . | الطبري | 2:130 |
قوله تعالى : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين قوله تعالى : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه من استفهام في موضع رفع بالابتداء ، ويرغب صلة من . إلا من سفه نفسه في موضع الخبر . وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي ، أي وما يرغب ، قاله النحاس . والمعنى : يزهد فيها وينأى بنفسه عنها ، أي عن الملة وهي الدين والشرع . إلا من سفه نفسه قال قتادة : هم اليهود والنصارى ، رغبوا عن ملة إبراهيم واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى . قال الزجاج : سفه بمعنى جهل ، أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها . وقال أبو عبيدة : المعنى أهلك نفسه . وحكى ثعلب والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها . وحكي عن أبي الخطاب ويونس أنها لغة . وقال الأخفش : سفه نفسه أي فعل بها من السفه ما صار به سفيها . وعنه أيضا هي لغة بمعنى سفه ، حكاه المهدوي ، والأول ذكره الماوردي . فأما سفه بضم الفاء فلا يتعدى ، قاله المبرد وثعلب . وحكى الكسائي عن الأخفش أن المعنى جهل في نفسه ، فحذفت " في " فانتصب . قال الأخفش : ومثله عقدة النكاح ، أي على عقدة النكاح . وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم : ضرب فلان الظهر والبطن ، أي في الظهر والبطن . الفراء : هو تمييز . قال ابن بحر : معناه جهل نفسه وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء ، فيعلم به توحيد الله وقدرته .قلت : وهذا هو معنى قول الزجاج فيفكر في نفسه من يدين يبطش بهما ، ورجلين يمشي عليهما ، وعين يبصر بها ، وأذن يسمع بها ، ولسان ينطق به ، وأضراس تنبت له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام ، ومعدة أعدت لطبخ الغذاء ، وكبد يصعد إليها صفوه ، وعروق ومعابر ينفذ فيها إلى الأطراف ، وأمعاء يرسب إليها ثفل الغذاء ويبرز من أسفل البدن ، فيستدل بهذا على أن له خالقا قادرا عليما حكيما ، وهذا معنى قوله تعالى : [ ص: 126 ] وفي أنفسكم أفلا تبصرون . أشار إلى هذا الخطابي رحمه الله تعالى . وسيأتي له مزيد بيان في سورة " والذاريات " إن شاء الله تعالى .وقد استدل بهذه الآية من قال : إن شريعة إبراهيم شريعة لنا إلا ما نسخ منها وهذا كقوله : ملة أبيكم إبراهيم أن اتبع ملة إبراهيم . وسيأتي بيانه .قوله تعالى : ولقد اصطفيناه في الدنيا أي اخترناه للرسالة فجعلناه صافيا من الأدناس والأصل في اصطفيناه اصتفيناه ، أبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق . واللفظ مشتق من الصفوة ، ومعناه تخير الأصفى .قوله تعالى : وإنه في الآخرة لمن الصالحين ، الصالح في الآخرة هو الفائز . ثم قيل : كيف جاز تقديم في الآخرة وهو داخل في الصلة ، قال النحاس : فالجواب أنه ليس التقدير إنه لمن الصالحين في الآخرة ، فتكون الصلة قد تقدمت ، ولأهل العربية فيه ثلاثة أقوال : منها أن يكون المعنى وإنه صالح في الآخرة ، ثم حذف . وقيل : في الآخرة متعلق بمصدر محذوف ، أي صلاحه في الآخرة . والقول الثالث : أن الصالحين ليس بمعنى الذين صلحوا ; ولكنه اسم قائم بنفسه ، كما يقال الرجل والغلام .قلت : وقول رابع أن المعنى وإنه في عمل الآخرة لمن الصالحين ، فالكلام على حذف مضاف . وقال الحسين بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير ، مجازه : ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين . وروى حجاج بن حجاج - وهو حجاج الأسود ، وهو أيضا حجاج الأحول المعروف بزق العسل - قال : سمعت معاوية بن قرة يقول : اللهم إن الصالحين أنت أصلحتهم ورزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم ، اللهم كما أصلحتهم فأصلحنا ، وكما رزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم فارزقنا أن نعمل بطاعتك ، وارض عنا . | Arabic Qurtubi Tafseer | 2:130 |
أي: ما يرغب { عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } بعد ما عرف من فضله { إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } أي: جهلها وامتهنها, ورضي لها بالدون, وباعها بصفقة المغبون، كما أنه لا أرشد وأكمل, ممن رغب في ملة إبراهيم، ثم أخبر عن حالته في الدنيا والآخرة فقال: { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } أي: اخترناه ووفقناه للأعمال, التي صار بها من المصطفين الأخيار. { وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } الذين لهم أعلى الدرجات. | Arabic Saddi Tafseer | 2:130 |
قوله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم} وذلك أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله عز وجل قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فأنزل الله عز وجل {من يرغب عن ملة إبراهيم} أي يترك دينه وشريعته يقال رغب في الشيء إذا أراده، ورغب عنه إذا تركه.وقوله (من) لفظه استفهام معناه التقريع والتوبيخ يعني: ما يرغب عن ملة إبراهيم.{إلا من سفه نفسه} قال ابن عباس: "من خسر نفسه"، وقال الكلبي: "ضل من قبل نفسه"، وقال أبو عبيدة: "أهلك نفسه"، وقال ابن كيسان والزجاج: "معناه جهل نفسه والسفاهة: الجهل وضعف الرأي: وكل سفيه جاهل"، وذلك أن من عبد غيرالله فقد جهل نفسه لأنه لم يعرف أن الله خلقها، وقد جاء: ((من عرف نفسه عرف ربه)).وفي الأخبار: (( إن الله تعالى أوحى إلى داود اعرف نفسك واعرفني، فقال: يارب كيف أعرف نفسي؟ وكيف أعرفك؟ فأوحى الله تعالى اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء، واعرفني بالقوة والقدرة والبقاء)).وقال الأخفش:"معناه سفه في نفسه"، ونفسه على هذا القول نصب بنزع حرف الصفة وقال الفراء: نصب على التفسير، وكان الأصل سفهت نفسه فلما أضاف الفعل إلى صاحبها خرجت النفس المفسرة ليعلم موضع السفه، كما يقال: ضقت به ذرعاً، أي ضاق ذرعي به.{ولقد اصطفيناه في الدنيا} اخترناه في الدنيا.{وإنه في الآخرة لمن الصالحين} يعني مع الأنبياء في الجنة، وقال الحسين بن الفضل: "فيه تقديم وتأخير، تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين". | Arabic Baghawy Tafseer | 2:130 |
أي أمره الله تعالى بالإخلاص والاستسلام والانقياد فأجاب إلى ذلك شرعا وقدا. | ابن كثير | 2:131 |
وسبب هذا الاختيار مسارعته للإسلام دون تردد، حين قال له ربه: أخلص نفسك لله منقادًا له. فاستجاب إبراهيم وقال: أسلمت لرب العالمين إخلاصًا وتوحيدًا ومحبة وإنابة. | المیسر | 2:131 |
و قوله : { إذْ قال له ربه أَسلم } ، إذ هو ظرف لاصطفيناه وما عطف عليه ، قصد من هذه الظرفية التخلُّص إلى منقبة أخرى ، لأن ذلك الوقت هو دليل اصطفائه حيث خاطبه الله بوحي وأمره بما تضمنه قوله { أسْلِم } من معانٍ جماعها التوحيدُ والبراءةُ من الحول والقوة وإخلاصُ الطاعة ، وهو أيضاً وقتُ ظهور أن الله أراد إصلاح حاله في الآخرة إذ كلٌّ مُيسَّر لما خلق له .وقد فهم أن مفعول { أسلم } ومتعلقه محذوفان يعلمان من المقام أي أسلم نفسك لي كما دل عليه الجواب بقوله : { أسلمت لرب العالمين وشاع الاستغناء عن مفعول أَسْلَمَ فنُزل الفعل منزلة اللازم يقال أَسلم أي دَان بالإسلام كما أنبأ به قوله تعالى : { ولكن كان حنيفاً مُسلماً } [ آل عمران : 67 ] .وقوله : { قال أسلمت } فصلت الجملة على طريقة حكاية المحاورات كما قدمناه في { وإذْ قال ربك للملائكة إِني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] .وقوله : { قال أسلمت } مشعر بأنه بادر بالفور دون تريث كما اقتضاه وقوعه جواباً ، قال ابن عرفة : إنما قال لرب العالمين دون أن يقول أسلمت لك ليكون قد أتى بالإسلام وبدليله اه . يعني أن إبراهيم كان قد علم أن لهذا العالم خالقاً عالماً حصل له بإلهام من الله فلما أوحى الله إليه بالإيمان صادف ذلك عقلاً رشداً . | Arabic Tanweer Tafseer | 2:131 |
ثم بين الله تعالى كمال استقامة إبراهيم التي رفعته إلى المنازل العليا فقال تعالى ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين ) أي : أخلصت ديني لله الذي فطر الخلق جميعاً . كما حكى عنه القرآن الكريم نحو هذا القول في قوله تعالى : ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين ) وبعد أن بين الله - تعالى - إن إبراهيم - عليه السلام - كان كاملا في نفسه ، أتبع ذلك ببيان أنه كان - أيضاً - يعمل على تكميل غيره ، ودعوته إلى توحيد الله تعالى . | Arabic Waseet Tafseer | 2:131 |